BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/12/
النهضة العلمية الأخيرة
لم يمر على اللغة العربية عصر أثَّر في ألفاظها وتراكيبها تأثير النهضة الأخيرة في أواسط القرن الماضي، لأنها جاءتها على غرة دَفعة واحدة، فانهالت فيها العلوم انهيال السيل، وفيها الطب، والطبيعيات، والرياضيات، والعقليات وفروعها. ولم تترك للناس فرصة للبحث عما تحتاج إليه تلك العلوم من الألفاظ الاصطلاحية مما وضعه العرب أو اقتبسوه في نهضتهم الماضية، ولا لوضع الأوضاع الجديدة. والسبب في ذلك أن الذين اشتغلوا في ميادين العلوم الحديثة عند أول دخولها مصر والشام في أواسط القرن الماضي لم يكونوا على سعة من علم اللغة، فلما ترجموا تلك العلوم إلى اللغة العربية لم يهتدوا إلى مصطلحاتها القديمة، أو اهتدوا إلى بعضها ووضعوا للبعض الآخر ألفاظًا لا تنطبق على المراد بها تمام الانطباق، لكنها صُقِلت بتوالي الأعوام وصارت تدل على المراد، كما أصاب أمثالها في أثناء النهضة العباسية وغيرها. فلما انقضت تلك البغتة وتكاثرت المدارس ونشأ الكتاب وعلماء اللغة، عادوا إلى النظر فيما دخل اللغة من المصطلحات العلمية أو الإدارية الجديدة، وقلَّما استطاعوا تبديل شيء منه لتأصله وشيوعه في الكتب والجرائد والأندية وغيرها. على أنهم لم يعدموا وسيلة في إصلاح الإنشاء والرجوع بعباراتهم إلى نحو ما كانت عليه في صدر الدولة العربية، لأنهم تحدَّوا فطاحل الكتَّاب في تلك العصور مع مراعاة الذوق والسهولة، فنبغ بيننا كتَّاب لا يفضلهم ابن المقفع ولا ابن خلدون ولا غيرهما من صفوة الكتَّاب وعمدة المنشئين في شيء، وقد أغفلوا السجع البارد وقلَّلوا من الإطناب وأبطلوا المترادف، وهم عاملون على تنقية اللغة مما خالطها من الأجماش والأدران وما أصابها من الضعف في عصر الانحطاط. وإذا تدبرت لغة الكتَّاب والمنشئين في أول هذه النهضة وقابلتها بلغة كتابنا اليوم رأيت الفرق كبيرًا، وتوقعت أن تعود إلى أسمى ما بلغته من درجات الكمال في عصر زهوها وشبابها. على أننا لا نظنهم مع ذلك قادرين على تنقيتها مما داخلها من الألفاظ والتراكيب الأعجمية، أو مما تولد فيها من الألفاظ العربية الجديدة على ما اقتضاه التمدن الحديث من العادات الجديدة والآداب الجديدة والعلوم الجديدة. وقد دثر من اللغة كثير من الاصطلاحات القديمة وقام مقامها مصطلحات جديدة، شأن الكائنات الحية الخاضعة لناموس الارتقاء. فالتغيير الذي أصاب اللغة العربية في النهضة الأخيرة قد أصاب ألفاظها وتراكيبها، وبعضه دخلها من اللغات الأجنبية والبعض الآخر تولَّد فيها بالتنوع والتفرع. وللإحاطة بالموضوع نقسم الكلام فيه إلى قسمين، نبحث في القسم الأول عن الدخيل وفي القسم الثاني عن المولَّد. يُقسَّم الدخيل في اللغة العربية في أثناء هذه النهضة إلى أربعة أقسام: (أ) الألفاظ الإدارية. (ب) الألفاظ التجارية. (ﺟ) الألفاظ العلمية. (د) التراكيب الأجنبية. أكثر هذه الألفاظ من مصطلحات الدولة العلية، وأكثرها تركي وفارسي. وقد ذكرنا أمثلة منها في كلامنا عما دخل اللغة في عصر التدهور. وبعض تلك الألفاظ أخذ من اللغات الإفرنجية، وخاصة اللغتين الإيطالية والفرنسية، وهي: ويلحق بالألفاظ التركية كل ما تركب تركيبًا، ولو كان عربيًّا أو فارسيًّا. والغالب أن يكون ذلك التركيب مع «جي» للنسبة أو «باش» رأس، كقولهم: مكتوبجي، ومخزنجي، وأجزاجي، وتمرجي وهذه مركبة من تيمار بالفارسية (سياسة المرضى) وجي، وباشكاتب، وباشمهندس (مهندس اسم فاعل من لفظ فارسي الأصل «اندازه» معناه التقدير)، وحكيمباشي. وقد يُركَّب من الاثنين معًا مثل مخزنجي باشي، ومكتوبجي باشي، وقس عليه. ويلحق بالألفاظ الإدارية الفارسية ما يُركَّب من الألفاظ مع «دار» صاحب أو «خانة» بيت في آخر الكلمة، أو «سر» رأس في أولها، كقول: حكمدار، وبيرقدار، ودفتردار، وكتبخانة، وخستة خانة، وأجزخانة، وسردار، وسرعسكر، وسرتشريفاتي، وقس على ذلك. وقد تقدم ذكر بعضها في كلامنا عن عصر التدهور. أكثر هذه الاصطلاحات معربة عن الإيطالية والفرنسية، لأن الإيطاليين أو أهل البندقية من أقدم تجار أوروبا اختلاطًا بالمشارقة في القرون الأخيرة. وإليك أمثلة من الاصطلاحات الإيطالية: وهناك ألفاظ متفرقة من لغات أخرى، كالكمرك مثلًا فإنه تعريب «كومركي» باليونانية، وكذلك ناولون. وشك مأخوذة من صك الفارسية أو أصلها صك بالعربية، وطاقم بالتركية، ودروباك في الإنجليزية، وقس على ذلك. ومثل هذا كثير في اصطلاحات نِظَارات الحكومة ومصالحها وخاصة في السكة الحديدية، والتلغراف، والحربية، واصطلاحات التجار، وأصحاب الحوانيت، والصناع، وغيرهم. وهي تُعَد بالمئات، وقد أغفلناها لشهرتها ولأن الكُتَّاب يعدونها من قبيل الألفاظ العامية، فلا دخل لها في بحثنا. الألفاظ العلمية التي دخلت اللغة العربية في هذه النهضة كثيرة جدًّا، ومعظمها مقتبس من الفرنسية والإيطالية والإنجليزية لأن أكثر العلوم المترجمة إلى لساننا منقولة عنها. على أن المصطلحات العلمية متشابهة في لغات الإفرنج، لأن مصدرها عندهم إما اللاتينية أو اليونانية، فلا غرو إذا أخذناها بلفظها كما أخذها الإنجليز أو الفرنسيون أو غيرهم، وعددناها من قبيل الألفاظ الوضعية بلفظها ومعناها. ويدخل في ذلك أسماء العلوم الجديدة كالجيولوجيا، والمترولوجيا، والفيسيولوجيا، والثرابيوتيا، والفرينولوجيا، والهيستولوجيا، والهدروستاتيك، والميكانيكيات، وغيرها. ويدخل في ذلك أيضًا أسماء الآلات الطبيعية أو الفلكية أو الكهربائية أو نحوها مما لم يكن له مثيل عند العرب، وسيأتي ذكرها. فالألفاظ الطبية الدخيلة كثيرة، وفي جملتها أسماء كثير من الأمراض أو العقاقير والأدوات، وأكثره لم يكن له مثيل في الطب العربي كالدسببسيا، والبانكرياس، والنفرالجيا، والبلورا، والسمباتوي، والبلهارسيا، والدفتيريا، والهستيريا، والأنيميا، والبروتوبلاسم، ونحوها. ومن المصطلحات الكيميائية غير أسماء العقاقير الكثيرة ما يحدث من تراكيبها كالأكسيد، والكلوريد، واليودور، والكربونات، والفوسفا، والاكسسموس، والاندسموس، والكربونيك، والهدروكلوريك، والهدروسيانيك، والفوتوغراف، والزنكوغراف، وغيرها من الأسماء الصناعية المبنية على الكيمياء. ومن المصطلحات الطبيعية البارومتر، والكهربائية (الكهرباء لفظ فارسي مركب من «كاه» التبن و«ربا» جاذب)، والبطارية، والكلفانومتر، والثرمومتر، والهيدرومتر، والإلكتروتيب، والميكروسكوب، والتلسكوب، والسبكتروسكوب، والستيريوسكوب، والتلغراف، والفونوغراف، والتليفون، والفوتوفون، والميكروفون، وغيرها. ولو أردنا الإتيان بكل المصطلحات العلمية لما وسعها غير المجلدات، فنكتفي بما تقدم على سبيل المثال. معلوم أن أكثر المصادر التي يرجع إليها كتاب اللغة العربية في العلم الطبيعي وفروعه مكتوبة باللغات الإفرنجية، وأكثر الكتَّاب عندنا يحسنون لسانًا أو غير لسان من اللغات الأعجمية، وأكثر ما يقرءونه من الكتب أو الجرائد في اللغات الإفرنجية، فضلًا عن شيوع تلك اللغات بين العامة، فحيث سار الكاتب في المدن الكبرى فإنه يسمع العبارات الإفرنجية، فلا غرو إذا داخل عبارته تركيب إفرنجي أو تعبير أجنبي. ولا يخفى أن لكل لغة أسلوبًا في التعبير لا ينطبق بكل تفاصيله على أساليب اللغات الأخرى، واللغات تتقارب وتتباعد في تلك الأساليب بتقارب أصول الشعوب وتباعدها، والعرب بعيدون في أصولهم عن الإفرنج فأساليب التعبير في لغاتهم متباعدة ومتباينة، والغالب أن تمتاز كل لغة ببعض أساليبها على اللغات الأخرى وتقصر في البعض الآخر. يعلم ذلك الذين يعانون الترجمة من لسان إلى لسان، فاقتباس العرب بعض أساليب الإفرنج في كتابتهم قد يكون من جملة مكملاتها، وإذا عده بعض اللغويين فسادًا في اللغة فلأن بعض كتابنا يبالغون في ذلك الاقتباس، فيتناولون عبارات إفرنجية في اللغة العربية ما هو أجمل منها وأمتن. فلان كلاهوتي يقدر أن يؤثر كثيرًا. رأيت صديقي فلان الذي أعطاني الكتاب (أي فأعطاني). رغمًا عن مساعيه الحميدة لم ينجح في عمله. مستمِدًّا العناية من الله أقف بينكم خطيبًا. لعب فلان دورًا مهمًّا في هذه المسألة. المعاهدة المصادق عليها من الدولة الفلانية. إن الأمر الفلاني مضرٌّ بقدر وشرف ومالية فلان. يوجد في بلاد الحجاز عدة جبال. ونحو ذلك من التراكيب التي ترى الصيغة الإفرنجية ظاهرة فيها. على أن أهل العناية في الإنشاء العربي قلما يستخدمونها، وإن كنا لا نرى بأسًا من استخدام بعضها في الأحوال التي تضيق التراكيب العربية فيها. ونريد بالمولَّد ألفاظًا عربية تنوعت دلالتها للتعبير عما حدث من المعاني التي اقتضاها التمدن الحديث في الإدارة أو السياسة أو العلم أو غير ذلك، وهي كثيرة نذكر أمثلة منها: وهي ما استخدمته الحكومة من الألفاظ العربية لمعانٍ حدثت في الدولة أو تنوعت على مقتضى السياسة أو الإدارة، وهاك أمثلة منها: هذه أمثلة من الألفاظ المولَّدة في النهضة الأخيرة في الإدارة، والسياسة، والتجارة، والعلم، والصناعة. وهي كما تراها عربية الأصل والاشتقاق، وأكثرها كان معروفًا في اللغة ومدونًا في المعجمات من قبل لمعانٍ قريبة مما استعملها له المولَّدون أو شبيهة بها، على نحو ما حصل في العصر العباسي. ولكلٍّ من هذه الألفاظ تاريخ يدل على ما تقلبت فيه من الدلالات المتقاربة من زمن الجاهلية، فالعصر الإسلامي، فعصر التدهور، إلى هذا العصر. ولا ننكر أن بعض هذه المولَّدات كان في الإمكان الاستغناء عن توليدها باستعمال ألفاظ كانت في اللغة قبل هذه النهضة ولها نفس الدلالة المطلوبة، ولكن قضت الأحوال بالتجديد المستمر وهو من نواميس الحياة. وأكثر التوليد المذكور حدث تدريجًا واعتباطًا لأسباب متفرقة ومختلفة لا يمكن تعيينها أو حصرها، على أن بعضها وُضِع عن روية وقصد وهو قليل، وأما الأغلب في هذا التوليد أن يدخل اللغة تدريجًا مثل تدرج العادات والآداب في تولدها ودخولها في جسم الأمة. ومن أوضح الأمثلة على ما تتقلب فيه الألفاظ من المعاني أو تتدرج في إبداله، ما أصاب نعوت التفخيم من التغيير العجيب بانتقالها من عصر إلى عصر، فالأديب، والألمعي، والفاضل، والعلَّامة، والفهَّامة، وحضرة، وجناب؛ يستخدمها الكتَّاب اليوم لغير ما كان يستخدمها الأقدمون. وقد يكون الفرق بعيدًا بين المعنيَين، فالأديب مثلًا مشتقة من الأدب وهو يشمل معظم ضروب العلم، وقد استعملها المولدون في العصور الإسلامية الوسطى لما نستعمل له اليوم لفظ العالم الفاضل، وما زالت دلالتها تتصاغر حتى صاروا يستخدمونها لأصغر خَدَمة الأدب. والحضرة والجناب كانتا من نعوت الملوك والأمراء، فأصبحتا تُستخدَمان لأحقر العامة. وقس على ذلك سائر الألقاب. وشأن هذه النعوت في حياتها شأن الرتب وأدوارها، فلفظ «بيك» مثلًا معناه الأمير أو الملك، وكانوا يسمون به كبار الأمراء والقواد، ثم جعلوه لقبًا ملكيًّا يُمنَح لبعض الوجهاء ونحوهم ممن يأتون عملًا عظيمًا، ثم صار إلى ما تعلم. ويقال نحو ذلك في سائر الرتب والنعوت، فهي في صعود وهبوط وتولُّد ودثور في دلالتها شأن الطبيعة في كل أحوالها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/13/
لغة الحكومة المصرية في دواوينها
لا غرو إذا أفردنا للغة الحكومة المصرية بابًا خاصًّا لاختصاصها بألفاظ وتعبيرات لا مثيل لها في اللغة الفصحى، وفيها ما لا يمكن تطبيقه على قاعدة ولا الرجوع به إلى قياس. ففي مخاطبات الدواوين وصور الأوامر العالية من الألفاظ الغريبة والتراكيب الركيكة ما هو غريب في بابه، وقد بلغ ذروة الغرابة في أواسط القرن الماضي قبل نضج هذه النهضة. وأصل الركاكة والغرابة في لغة الدواوين يرجع إلى عصر التدهور في زمن الأمراء والمماليك، وطبيعي أن اللغة تحيا بحياة أهلها وتموت بموتهم، وتزهو بزهوهم وتنحط بانحطاطهم، ففي عصر أولئك الأمراء بلغت مصر من التدهور في السياسة والإدارة والآداب والعلوم ما لم يبقَ بعده غاية، فلم ينقضِ القرن الثامن عشر حتى صارت لغة الكتابة أشبه شيء بلغة العامة، لركاكة عبارتها مع ما فيها من الألفاظ الأعجمية والعامية. نعرِّف أهل مصر من طرف الجعيدية وأشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية والعسكر الفرنساوية، بعد ما كانوا أصحابًا وأحبابًا بالسوية، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين، ونُهِبت بعض البيوت. ولكن حصلت ألطاف الله الخفية، سكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته، وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين، ومحبة إلى الفقراء والمساكين. ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة، ونهبت جميع الأموال، وقتلوا كامل أهل مصر. فعليكم ألا تحركوا الفتن، ولا تطيعوا أمر المفسدين، ولا تسمعوا كلام المنافقين، ولا تتبعوا الأشرار، ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرءون العواقب … وقد ذكرنا مثالًا من كلام الجبرتي مؤرخ تلك الحوادث في كلامنا عن اللغة العربية في عصر التدهور. ولما جاء الفرنسيون إلى مصر كان في جملة حملتهم جماعة من التراجمة ليتوسطوا بينهم وبين الأهالي والعلماء، ويترجموا لهم المنشورات والمراسلات ونحوها. والظاهر أنهم كانوا من غير أبناء اللغة العربية، فكانوا إذا ترجموا عبارة صاغوها في قالب إفرنجي، وما لم يجدوا له لفظًا عربيًّا تركوه بلفظه الإفرنجي أو وضعوا له لفظًا عاميًّا. فلما أفضت الولاية إلى محمد علي مؤسس العائلة الخديوية وأخذ في إنشاء الدواوين، لم يكن له غنًى عمن يترجم بين حكومته وحكومات دول أوروبا، فاستخدم التراجمة وفيهم جماعة من أهل المغرب وغيرهم واللغة لا تزال في انحطاطها وركاكتها، والذين يعرفون أساليبها ويحفظون ألفاظها قليلون جدًّا، وخاصة بين الذين استخدموهم في الدواوين للكتابة أو الترجمة. وقد رأيت مثالًا من لغة المشايخ والعلماء وقد قضوا أعوامًا طوالًا في الأزهر، وقرءوا كتب العلم والفقه، فكيف بكتَّاب الدواوين والتراجمة؟! ومما زاد أسباب الفساد في اللغة أن الحكومة بدأت في إنشاء الدواوين وترتيب مصالح الحكومة والقضاء وغيرها، قبل اهتمامها بتعليم الناس وتهذيبهم وترقية أفكارهم وإصلاح شأنهم، فدخل في العصر الأول لحكومة محمد علي كثير من الألفاظ والتراكيب العامية، ثم تنوعت وتكيَّفت على أسلوب خاص وأوضاع خاصة وألفاظ خاصة، وعُرِفت بلغة الدواوين. فلما استنار الناس على أثر نشر الصحافة، ونبغ الكتَّاب والمنشئون في أواخر القرن الماضي؛ انتظم جماعة منهم في مناصب الحكومة الكتابية فنقحوا كثيرًا من تلك الغرائب، ولا يزالون عاملين على تنقيحها. ومع ذلك فلا يزال فيها من الألفاظ المولَّدة والدخيلة وضروب التركيب ما هو بعيد عن لغة سائر الكتَّاب، حتى في معاني الألفاظ العربية المستعملة عند كليهما. وهاك أمثلة كثيرة الشيوع: وغير ذلك كثيرًا من الألفاظ العربية وغير العربية. وقس عليه التراكيب والتعبيرات الخاصة، مثل إدخال «لم» على فعل المضارع كقولهم: «لم أتى» بدلًا من «لم يأت»، وصوغ الفعل المجهول من المصدر وفعل الصيرورة على نحو ما في اللغات الإفرنجية كقولهم: «صارت كتابته» بدلًا من «كُتِب». وقد ولَّدوا صيغة خاصة للفعل الماضي تُركَّب من المصدر ولفظ «معرفة»، فيقولون: «كتب الكتاب بمعرفة فلان» بدلًا من قولنا: «فلان كتب الكتاب»، وربما ركبوا هذه العبارة مع التي قبلها فقالوا: «صارت كتابة الكتاب بمعرفة فلان.» وقس على ذلك. ناهيك بركاكة التعبير وإن لم تخالف قواعد النحو أو الصرف مما يضيق عنه المقام، وقد أغضينا عنه لشهرته. على أن كتَّاب اللغة وعلماءها يعدون تلك الألفاظ وأمثالها من قبيل الاصطلاحات العامية واستعمالها خطأ، وقد أخذت الحكومة في تنقيحها بالتدريج كما تقدم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/14/
الخلاصة
يتبين للقارئ مما ذكرناه عن أحوال اللغة العربية فيما توالى عليها من العصور والأدوار في أثناء نموها وارتقائها من زمن الجاهلية إلى هذا اليوم، أنها سارت في كل ذلك سير الكائنات الحية بالدثور والتجدد المعبَّر عنه بالنمو الحيوي، فقد تولدت في العصر الإسلامي ألفاظ وتراكيب لم تكن في العصر الجاهلي، وتولدت في العصور التالية ما لم يكن فيما قبلها، وأخيرًا تولدت في نهضتنا الأخيرة من الألفاظ والتراكيب ما لم يكن معهودًا من قبل. فالوقوف في سبيل هذا النمو مخالف للنواميس الطبيعية، فضلًا عن أنه لا يجدي نفعًا. فاللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، ولا بد من توالي الدثور والتولد فيها أراد أصحابها ذلك أو لم يريدوا، تتولد ألفاظ جديدة وتندثر ألفاظ قديمة على مقتضيات الأحوال لحكمة شملت سائر الموجودات. ••• وقد آن لنا أن نخلِّص أقلامنا من قيود الجاهلية ونخرجها من سجن البداوة، وإلا فلا نستطيع البقاء في هذا الوسط الجديد. فلا ينبغي لنا احتقار كل لفظ لم ينطق به أهل البادية منذ بضعة عشر قرنًا، لأن لغة البراري والخيام لا تصلح للمدن والقصور إلا إذا ألبسناها لباس المدن. فلا بأس من استعمال الألفاظ المولَّدة التي لا يقوم مقامها لفظ جاهلي لأن معناها لم يكن معروفًا في الجاهلية، أو التي كان لها لفظ وتُرِك فأصبح غريبًا مهجورًا، فاستعمال اللفظ المولَّد خير من إحياء اللفظ الميت، واستبقاء المولود الجديد أولى من إحياء الميت القديم، وإذا عرض لنا تعبير أجنبي لم تستعمل العرب ما يقوم مقامه لا بأس من اقتباسه. وفي اعتقادنا أن إطلاق سراح الأقلام على هذه الصورة يكشف لنا عن جماعة كبيرة من أرباب القرائح، يقعدهم عن الاشتغال بالأدب خوفهم من الوقوع في خطأ لغوي أو بياني يُؤاخَذون عليه، وليست فيهم شجاعة أدبية تحملهم على عدم المبالاة بالنقد إذا كان فيما يكتبونه فائدة، والخطأ اللغوي لا يقلِّل شيئًا من قدر الكتاب لأن الإحاطة بكل أوضاع اللغة وقواعدها وشواردها لا يتأتَّى إلا لقليلين. ••• على أننا لا نقول في هذا الانطلاق نحو ما يقوله الإفرنج في لغاتهم، لأن شأننا في لغتنا غير شئونهم في لغاتهم، فلا بد لنا مع هذا الإطلاق من الرجوع إلى القواعد العامة والروابط الأساسية فلا نفسد اللغة بألفاظ العامة وتراكيبهم، ولا نكثر من الدخيل حتى تصير لغتنا مثل اللغة التركية العثمانية، التي أصبحت لكثرة ما أدخلوه فيها من الألفاظ العربية والفارسية والإفرنجية لا مثيل لها في العالم إلا اللغة الهندستانية (الأوردية)، التي يكتب بها الهنود جرائدهم وكتبهم. أما اللغة العثمانية فإذا عُدَّت ألفاظها باعتبار اللغات المؤلفة هي منها، كان نحو ٧٠ في المائة من الألفاظ العربية، و١٥ في المائة من الفارسية، و٥ في المائة من اللغات الإفرنجية، وعشرة في المائة فقط من الألفاظ التركية الأصلية. ويقال نحو ذلك في اللغة الأوردية وفي اللغة المالطية. ••• أما اللغة العربية فلا بد من المحافظة على سلامتها والاهتمام باستبقائها على بلاغتها وفصاحتها، وخاصة بعد أن أخذت تنهض إلى أرقى ما بلغت إليه في إبَّان شبابها، فلا يُستحسَن الاستكثار فيها من الدخيل والمولَّد وإنما يُؤخَذ منهما بقدر الحاجة، على أن نعدَّ ذلك الاقتباس نموًّا وارتقاءً لا فسادًا وانحطاطًا. على أننا نعدُّ ما كتبناه في هذا الموضوع خواطر أبديناها وفتحنا بها باب البحث، وأما استيفاء الكلام في تاريخ اللغة وألفاظها وتراكيبها فلا يسعه إلا المجلدات الضخمة، فنتقدم إلى أئمة اللغة وكتَّابها وعلمائها أن يزيدونا من هذا الموضوع خدمةً لهذه النهضة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/0.2/
مراجع رواية صلاح الدين الأيوبي
تاريخ ابن الأثير. تاريخ الدولة السلجوقية. تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان. الهلال، مجلد ١٩. تاريخ المقريزي. طبقات الأطباء. حسن المحاضرة. تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان. كتاب الروضتين. ابن خلكان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/1/
فذلكة تاريخية
كان دخول مصر في حوزة الفاطميين أو العبيديين سنة ٣٥٨ﻫ. على يد القائد جوهر، فبادت بذلك دولة الإخشيد وخرجت مصر من حوزة الدولة العباسية؛ لأنها كانت في زمن الطولونيين والإخشيديين — مع استقلال هاتين الدولتين بالحكومة — تحت رعاية الخليفة العباسي في بغداد، فكان هو يثبتهم على الإمارة ويبعث إليهم بالخِلَع أو بكتاب التولية (الفرمان) على نحو ما كان يفعل السلطان العثماني بأمراء مصر، أما إدارة الحكومة الداخلية وسائر أعمالها فكان يجريها الأمير الطولوني أو الإخشيدي مستقلًّا دون مراجعة بغداد، وهو يشبه ما يعبر عنه كتاب هذا العصر بالاستقلال الإداري، على تفاوت في درجات ذلك الاستقلال. فلما دخلت مصر في حوزة الفاطميين تغيرت حالها السياسية وأصبحت دولة مستقلة استقلالًا تامًّا، لا تُراجِع أحدًا ولا تعترف بسيادة أحد غير الخليفة الفاطمي المقيم بالقاهرة. وهي أول مرة استقلت فيها مصر بالسيادة بعد الإسلام. وبقيت الخلافة العباسية في بغداد كما كانت، وظهرت الخلافة الأموية بالأندلس في بني مروان. فأصبحت المملكة الإسلامية يتنازعها ثلاثة خلفاء، كل منهم يجعل لنفسه الحق في الخلافة الحقيقية وينكرها على الآخرين. وكان النزاع على أشده بين خليفة بغداد وخليفة القاهرة. كما كان بينهما اختلاف في المذهب، فالخلافة العباسية سُنية، بينما الفاطمية شيعية. وهو في أصله تنازع سياسي أدخلوا فيه الدين وسيلة لتأييد دعواهم. والدولة الفاطمية أول دولة شيعية تُسمي ملوكها بالخلفاء. وعاصرتها دولة أخرى شيعية في العراقين وفارس، وهي الدولة البويهية، لكن ملوكها لم يسموا أنفسهم خلفاء ولا ادعوا نسبًا قرشيًّا يؤهلهم لذلك، بل حافظوا على الخلافة العباسية مع اعتقادهم أن أصحابها اغتصبوها من مستحقيها. وإنما استبقوها ليحكموا بها العامة، وأشار بعضهم على معز الدولة البويهي بعد قيام الدولة الفاطمية أن ينقل الخلافة إلى الفاطميين أو غيره من العلويين فاعترض عليه بعض خاصته قائلًا: «ليس هذا برأي فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم لقتلوه مستحِلين دمه. ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لقتلوك.» فرجع معز الدولة عن عزمه. استقرت الخلافة الفاطمية بمصر، والخلفاء العباسيون في بغداد، وأتباعهم السنيون في أنحاء العالم يُنكِرون على الفاطميين صحة انتسابهم إلى فاطمة الزهراء وهم لا يبالون. وإنما كان يهمهم تأييد سلطانهم بالسيف والدهاء ولا سيما في أوائل دولتهم. فإن المعز لدين الله لما بنى له جوهر مدينة القاهرة ودعاه إليها خرج الناس للقائه، فاجتمع به أناس من الأشراف وفيهم عبد الله بن طباطبا المشهور، فتقدم إلى الخليفة المعز وقال له: «إلى مَن ينتسب مولانا؟» فقال له: «سنعقد مجلسًا نجمعكم فيه ونسرد عليكم نسبنا.» ولما استقر المعز في القصر جمع الناس في مجلس عام، وجلس لهم وقال: «هل بقي من رؤسائكم أحد؟» قالوا: «لم يبقَ معتبر.» فسلَّ سيفه وقال لهم: «هذا نسبي.» ونثر عليهم ذهبًا كثيرًا وقال: «هذا حبسي.» فقالوا جميعًا: «سمعنا وأطعنا.» وقد توالى على مصر الفاطميين أحد عشر خليفة، حكموا مائتي عام ونيفًا (من سنة ٣٥٨ حتى ٥٦٧ﻫ). أولهم المعز لدين الله، وآخرهم العاضد لدين الله. ومرت الدولة في أثنائها بثلاثة أدوار: كانت في أول أمرها قائمة بالعرب والبربر وهم الذين فتحوا مصر مع جوهر، فكان النفوذ مشتركًا بين هذين العنصرين. ثم صار إلى البربر، ثم إلى الأتراك. كما انتقل النفوذ في الدولة العباسية من العرب والفرس إلى الأتراك. وكان السبب في تكاثر الأتراك بمصر أنه لما مات الخليفة الحاكم بأمر الله وخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله سنة ٤١١ﻫ أكثر من اللهو والقصف، ومال إلى الأتراك والمشارقة فانحط جانب البربر، وما زال قدرهم يتناقص حتى كاد يتلاشى. فلما ملك المستنصر سنة ٤٢٧ﻫ بعد الظاهر، كانت أمه سوداء فاستكثرت في جنوده من العبيد أبناء جلدتها حتى بلغوا ألف عبد أسود. وكان ابنها يستكثر من الأتراك، فأصبح الجند طائفتين كبيرتين تتنافسان وتتسابقان إلى الاستئثار بالنفوذ، وإلى التنافس إلى حرب أتعبت مصر واضطر الخليفة إلى استنصار صاحب الشام فأتاه أمير الجيوش بدر الجمالي من سوريا، وهو أرمني الأصل، فقتل أهل الدولة وأقام بمصر جندًا من الأرمن والأتراك، وصار معظم الجيوش منهم، وذهب نفوذ البربر وصاروا من جملة الرعية ولم يبقَ لهم شأن في الدولة بعد أن كانوا وجوهها وأكابر أهلها. وكان السلاجقة في أثناء ذلك قد غلبوا على العراق وفارس، وذهبت دولة آل بويه وضعف أمر الشيعة هناك، وولي السلاجقة مماليكهم وقوادهم (الأتابكة) على الولايات، واستقل كل منهم بولايته، ومنهم نور الدين زنكي في الشام. وكان في جملة قواد نور الدين جماعة من شجعان الأكراد، منهم: نجم الدين أيوب، وأخوه أسد الدين شركويه، وقد بلغنا عنده منزلة رفيعة. وكانت خلافة مصر قد أفضت سنة ٥٥٦ﻫ إلى العاضد لدين الله بن يوسف، وكان ضعيف الرأي، وقد غلب وزراؤه على دولته وتنافسوا في الاستئثار بالنفوذ وطال تنافسهم حتى خربوا البلاد، والخليفة لا يستطيع عملًا. وكان في جملة المتنافسين وزير اسمه «شاور» غُلب على أمره، فذهب إلى نور الدين زنكي واستنجده على رجل آخر كان ينافسه في الوزارة، فاغتنم نور الدين تلك الفرصة للاستيلاء على مصر، وأنجده بأسد الدين شركويه في جند من المماليك، فرد الوزارة إلى شاور، وصار هذا يدفع ثلث خراج مصر إلى نور الدين. وكانت الحروب الصليبية في تلك الفترة قد احتدمت فزاد تدخل نور الدين في شئون مصر، ونائبه فيها شركويه ومعه ابن أخيه «يوسف ابن نجم الدين» وهو صلاح الدين الأيوبي. ومات شركويه بمصر سنة ٥٦٤ﻫ فخلفه صلاح الدين في منصب النيابة وسُمي وزيرًا، فاتخذ صلاح الدين ذلك وسيلة إلى الاستقلال بسلطنة مصر لنفسه. وهو ما تبسطه هذه الرواية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/2/
الخليفة العاضد وصلاح الدين
قال العم حسن لعمر المكاري: «انهض يا أخي، أما كفاك نومًا والقاهرة تضج والناس يتراكضون؟ قم وانجُ بحمارك.» فأجاب عمر قائلًا: «إلى أين؟ ولماذا؟ هل أحرقوا القاهرة كما أحرقوا الفسطاط؟ أم هناك ضريبة جديدة علينا؟ تركت مواقف القاهرة وأتيت بحماري إلى هذا الموقف خارج باب الفتوح لأتخلص من عدوانهم وعدوان الأتراك والأكراد و…» فقاطعه العم حسن بقوله: «اسكت يا عمر، إن هؤلاء الأكراد كل الخير منهم. هل نسيت ما كنَّا نقاسيه من العذاب قبلهم حتى إن أحدنا لم يكن يتحرك ما لم يضربوا عليه ضريبة؟ ومَن كان يجسر أن يذكر أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما؟» قال: «صدقت. إن والديَّ ندِمَا على تسميتي بهذا الاسم! لكن ماذا جرى الآن يا عم حسن؟ هل نقدر أن نتحرك وها أنت ذا تقول لي: «قم انجُ بحمارك».» قال: «أقول ذلك؛ لأن الخليفة العاضد لدين الله خارج من قصره في موكبه، وستتبعه طائفة من الأتراك وغيرهم، فربما سطا أحدهم على حمارك فيركبه. وربما أخذه لنفسه!» قال: «الخليفة خارج من قصره؟ وأين نحن وقصره؟ إننا خارج القاهرة!» قال: «إنه آتٍ إلى هنا وسيخرج من باب الفتوح هذا.» قال: «من هذا الباب؟ إلى أين؟» قال: «إنه خارج لاستقبال نجم الدين أيوب.» قال: «الخليفة خارج من القاهرة لاستقبال نجم الدين؟ مَن هو نجم الدين هذا؟» قال: «هو والد صلاح الدين بن يوسف، جاء من الشام لزيارة ابنه.» قال: «الله الله يا دنيا! الخليفة أمير المؤمنين ابن بنت الرسول، وظِلُ الله في الأرض، يخرج من قصره إلى خارج بلده لملاقاة والد وزيره! متى كان الخلفاء الفاطميون يفعلون ذلك يا عم حسن؟» قال: «تغيرت الأحوال يا صاحبي. إن الخليفة لم يبقَ له من الخلافة إلا الاسم، وصار النفوذ إلى هذا الكردي. مسكين العاضد!» قال: «مسكين؟ بل نحن المساكين، ولعل هذا الكردي أحسن منه.» قال: «الكردي؟ أحسن من الخليفة؟ لا …» قال: «وما الذي يصيبنا من هؤلاء الحكام؟ إنهم يختصمون على الاستبداد فينا، وماذا يهمني إن كان حاكمي كرديًّا أو عربيًا أو هنديًا. إنما المهم ألا يظلمني … أليس كذلك؟» قال: «اسكت، إنهم قادمون، ألا تسمع الأبواق والصنوج؟ انجُ بحمارك، أو خبِّئه في مكان وتعالَ.» قال: «ها أنا ذا ذاهب وسأرجع إليك على عجل لأرى موكب الخليفة. لقد طالما سمعت بهذا الموكب وما يحف به من الفرسان وما يلبسه الخليفة من الجواهر والحرير و…» قال: «أنا في انتظارك.» قال: «لا. لا. الأحسن أن تتبعني أنت لتضع الحمار في هذا البيت، ثم نصعد إلى سطحه فنكون أقدر على المشاهدة وأبعد من الخطر.» قال: «إذن هيا بنا.» ولما صعدا إلى السطح وأشرفا على الموكب قال عم حسن: «إنهم قادمون من القصر. وبعد قليل يصلون إلى باب الفتوح هذا فنراهم وهم خارجون. ألا تسمع الضوضاء وقرقعة اللجم؟» قال: «نعم أسمع، وأخاف أن يكون علينا خطر.» قال: «لا خطر، أراك تخاف من خيالك.» قال: «لا تؤاخذني يا عم حسن، إن الملدوغ يخاف من جرة الحبل، وهؤلاء الجنود لم يخرجوا بمثل هذه الحركة إلا تعدوا علينا وأخذوا دوابنا.» قال: «أتى الموكب، انظر نظرة عامة إليه في هذا الشارع الداخلي قبل خروجه.» قال: «إني أرى الأعلام تخفق، والخيول تصهل، والرماح تتلألأ، والسيوف تلمع، والشارع يموج بمن فيه كالنيل في فيضانه. يا حفيظ! أشكرك يا عم حسن على هذه الفرجة … قل لي الآن وقد أخذوا يخرجون من باب الفتوح، مَن منهم هو الخليفة؟ هل هو هذا الراكب على هذا الفرس الأشهب وعليه الثياب القصبية؟» قال: «يظهر أنك لم تشاهد أحدًا من رجال الدولة في حياتك. إن الذين يتقدمون موكب الخليفة كثيرون. وهل تظن الخليفة يلبس القصب؟ إنه لباس بعض أتباعه. أما الذين تراهم في مقدمة الموكب فهم الأمراء وأولادهم وأخلاط من العسكر، ووراءهم أرباب القصب ثم أرباب الأطواق والأساتذة وهم أكبر رجال الدولة. انظر إلى ألبستهم الفاخرة التي تأخذ بالأبصار وإلى سروج خيولهم المفضَّضة ومَن في ركابهم من الخدم الأتراك وغيرهم. إن ذلك كله ليس شيئًا بالنظر إلى موكب الخليفة. انظر. انظر، هذا هو موكب الخليفة عند تلك المظلة.» قال: «إن المظلة تغطيه فلا أراه جيدًا. وإنما أرى فرسه وما يحدق بها من الأعلام والفرسان بجانبه، مَن هم؟» قال: «لا تستعجل في الاستفهام. إن الموكب يسير ببطء وأنا شارح لك كل شيء. هل ترى فرس الخليفة؟ تأملها جيدًا إن سرجها من الديباج الأحمر مصوغ بالذهب ومُنزَّل فيه الميناء، ولو تأملت مقدم السرج لرأيت عليه أحجارًا كريمة. وفي عنق الفرس قلائد الذهب، ولو استطعت النظر إلى قوائم الفرس لرأيت حولها الخلاخل الذهب. ويقدرون كل فرس بما عليها من العدة بألف دينار، وأفراس الوزراء والأمراء أيضًا في مثل هذا الترتيب وهي كلها في الأصل هدية من الخليفة يهبها لأمرائه في الأعياد.» قال: «هنيئًا لك يا عم حسن، لا بد أنك ذقت الركوب على هذه الأفراس وأنت من غلمان القصر الكبير.» قال: «ذقت يا بني أشياء كثيرة كدت أنساها الآن. ورأيت جواهر ومصوغات تبهر العقل. فكيف بما يلبسه الخليفة؟ انظر إلى هذه المظلة فإنها تشبه الهرم بشكلها وهي من الديباج الأزرق السماوي وثوب الخليفة تحتها في هذا اللون أيضًا. ولو كانت حمراء لكان ثوبه أحمر. انظر إلى الأهلة الذهبية التي تتدلى من حواشي المظلة وكيف أن أضلاع المظلة أو قوائمها ملبسة بالذهب. وفي قمتها رمانة ذهب كبيرة فوقها رمانة ذهب صغيرة مرصعة بالجواهر. انظر إلى لمعانها فإنه يخطف البصر.» قال: «صحيح. ولكني لا أرى حامل المظلة. وكيف يستطيع حملها وهي ثقيلة؟» قال: «إن حاملها راكب فرسه بجانب فرس الخليفة. وللمظلة قناة يركزها ذلك الفارس في قربوس فرسه. وهمه في أثناء الركوب أن يراقب موقف الخليفة من جهة الشمس بحيث لا تقع أشعتها عليه.» قال: «وماذا يحدث إذا وقعت الأشعة عليه؟ ها أنا ذا أرى رأس الخليفة، فإن صاحب المظلة انحرف عنه. ما هذا الذي على رأسه؟» قال: «تمهل لأتم حديثي. انظر إلى هذه العمامة على رأس الخليفة فإنها بيضاء وشكلها إهليجي. وفي أعلاها فوق الجبهة حلية بشكل الهلال من ياقوت أحمر ليس له مثال في الدنيا، وفي وسط الهلال جوهرة عظيمة مشهورة يُقال لها اليتيمة لا يُعرف لها قيمة. ويُقال إن وزنها ٧ دراهم ووزن الهلال كله ١١ مثقالًا وبدائرة اليتيمة قصبة زمرد ذبابي له قدر عظيم.» قال: «يا حفيظ! يا حفيظ! أتكون مثل هذه الجواهر عند هذا الرجل بلا فائدة والناس في مملكته يتضورون جوعًا وهو يأخذ أموالهم ظلمًا! آه يا عم حسن لقد أوجع قلبي هذا المنظر!» قال: «اسكت يا شيخ إن النعم من عند الله يؤتيها مَن يشاء. ولعلك لو عرفت ما في قلب هذا الخليفة لم تحسده على هذه الجواهر. لكن ما لنا ولهذا الآن. اسمع، ألا ترى الفارس الذي إلى يسار الخليفة وفي يده منديل أبيض؟» قال: «نعم أراه، ماذا يوجد في هذا المنديل؟» قال: «في هذا المنديل الدواة الثمينة التي هي من أعاجيب الزمان، فإنها من الذهب وحليتها من المرجان. انظر إلى يمين الخليفة ترَ فارسًا آخر يحمل سيفًا حليته من الذهب مرصعة بالجوهر، وهو معمد لا يظهر إلا رأسه وحامله يُقال له «حامل السيف» وهو من أصحاب الرتب العالية. وانظر إلى حوالي فرس الخليفة فإنك تجد عشرات من الصبيان وعليهم المناديل وأوساطهم مشدودة بمناديل وفيها السيوف، وفي أيديهم الحِراب مشهورة، وهم بجانبي الخليفة كالجناحين. وبينهما فسحة أمام وجه الفرس ليس فيها أحد. وبالقرب من عنق الفرس صقلبيان يحملان المذبتين وهما مرفوعتان كالنخلتين لذب ما يسقط من طائر أو غيره.» قال: «إني أرى فارسًا فخمًا يذهب ويجيء إلى يسار الموكب ويأمر وينهي، مَن هو؟» قال: «هذا والي القاهرة يحافظ على ترتيب الموكب ليسهل مروره ويمنع الازدحام. انظر إلى الذين وراء دابة الخليفة. هناك جماعة من الصبيان يُقال لهم صبيان الرِّكاب يحملون الصماصم المصقولة المذهبة بدل السيوف المحدبة، وبأيديهم الدبابيس من الكيمخت الأحمر والأسود ورءوسها مدورة مضرسة، وبعضهم يحملون عُمُد الحديد وبين أيديهم لواء الحمد المختص بالخليفة وحوله ٢١ راية على كل منها كتابة بالحرير تختلف ألوانها، أما الكتابة فهي «نصر من الله وفتح قريب» ألم تقرأها؟» فضحك عمر وقال: «من أين لي ذلك؟ إن أهلي لم يضعوني في الأزهر؛ لأن التعليم على مذهب الشيعة وأهلي سُنيون.» فقطع العم حسن كلامه وقال: «فالآن صرت تقدر أن تتعلم؛ لأن صلاح الدين جعل التعليم فيه عامًّا لكل المذاهب.» قال عمر: «لقد تأخَّر عليَّ بهذه النعمة، وهل بعد الأربعين من العمر تعليم؟ لنترك ذلك لأولادنا. قل لي مَن هذا الذي أراه؟ إن موكبه لا يقل عن موكب الخليفة في شيء وأرى عليه لباسًا أفخر من لباسه!» قال: «هذا هو يا صاحبي صلاح الدين الوزير. وهذا الثوب الذي عليه هو خِلعة السلطة خلعها عليه هذا الخليفة نفسه ثلاث سنوات. وهي كما ترى عمامة بيضاء من نسج تنيس. لها طرف مذهب وتحتها ثوب ديبقي بطراز ذهب. وكذلك الجُبة التي عليه فإن طرازها من الذهب، وفوق ذلك طيلسان مطرز بالذهب. وانظر في عنقه هل ترى العقد؟ إنه من الجوهر يساوي عشرة آلاف دينار، وإلى جانبه سيف مُحلَّى بخمسة آلاف دينار، وتحته فرس قيمتها ثمانية آلاف دينار. وعليها سرج مذهب وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وانظر إلى قوائمها فإن حولها أربعة عقود جوهر وعلى رأسها قصبة بذهب وفيها شدة بياض بأعلام بيض. هذا هو صلاح الدين. إن منظره يدعو إلى الهيبة أكثر من منظر الخليفة. انظر إلى هيبته وكيف أن الشجاعة ظاهرة في وجهه ولا يراه إنسان إلا احترمه وخافه. والحق يُقال إن الأمور الآن في يديه، وهو الآمر الناهي كما قلت لك. وانظر إلى الرجال المحيطين بموكبه، وفيهم قوم يُقال لهم صبيان الزرد من أقوياء الأجناد يختارهم لنفسه. وهم مئات يمشون إلى الجانبين وبينهم فسحة أمامه مثل فسحة الخليفة. وراءه الطبول والصنوج والصفافير ألا تسمع صوتها يدوي به البر؟ ووراء موكب الوزير يأتي حامل الرمح. تأمَّله فإنه رمح لطيف في غلاف منظوم من اللؤلؤ وله سنان قصير بحلية من الذهب. ومعه درقة بكوامخ يقولون إنها درقة حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه.» كان عمر الحمَّار يسمع كلام صديقه العم حسن وقد أخذته الدهشة، فلما سمع قوله درقة حمزة بُغت وقال: «درقة حمزة؟! حمزة بن عبد المطلب عم النبي ﷺ؟!» قال: «نعم هكذا يقولون. وقد آن لي أن أختصر لك الوصف؛ لأن الموكب لا يزال طويلًا. فانظر إلى ما وراء موكب الوزير إنك تجد فِرَقًا من الأجناد المختلفة زمرة زمرة في عُدة وافرة على أربعة آلاف. ثم أصحاب الرايات ووراءهم طوائف من العسكر على اختلاف أجناسهم الأتراك والأكراد والديلم وغيرهم.» فقال عمر: «قف بالله قليلًا وأخبرني عن فارس أراه راكبًا بجانب صلاح الدين وعليه ثياب فاخرة.» قال: «إنه من بعض خاصته، ولكنه يحبه كثيرًا ولا صبر له على فراقه واسمه عماد الدين.» فبُغت الحمَّار عند ذلك وقال: «ما بال هؤلاء لا يسمون اسمًا إلا منسوبًا إلى الدين. هؤلاء ثلاثة ذكرت لي أسماءهم: نور الدين وصلاح الدين ونجم الدين، وهذا عماد الدين.» فقال العم حسن: «تلك عادتهم في التسمية. ها قد انتهى الموكب وقصصت عليك خبره، فأذن بانصرافي.» فقال: «مع السلامة أكثر الله خيرك.» وانصرفا، وسار الموكب على هذه الصورة بعد خروجه من باب الفتوح والناس في أثره راكبين أو مشاة، وآخرون وقفوا على أسطح المنازل يشرفون على الموكب وقد تصاعد الغبار حتى حجب وجه السماء وغشي الرءوس والمناكب، ولم تبقَ فتاة ولا غلام إلا خرجا إلى الشارع أو صعدا إلى السطح، والبسطاء يستغربون خروج الخليفة لاستقبال ذلك الكردي، والعارفون لا يرون فيه غرابة لضعف أمر الخلافة. ••• ما زال الموكب سائرًا على هذه الصورة حتى وصل إلى مسجد التبر (في آخر الحسينية)، وأتت البشائر باقتراب نجم الدين فالتقوا به هناك. وحالما تقابلا ترجَّل نجم الدين احترامًا للخليفة وكذلك فعل رجاله الذين معه وفيهم أخوه شمس الدين. وترجَّل صلاح الدين وقبَّل يدي والده. فقبَّله والده، ولما رأى الموكب وما على ابنه من الخِلَع لم يتمالك عن البكاء من الفرح وشكر الله على نعمه. وكان نجم الدين عاقلًا مدبِّرًا فترامى على يد الخليفة يقبِّلها ويُظهِر امتنانه من ذلك الإكرام والخليفة يجيبه بلطف، لكنه لم يتحول عن فرسه. ثم عاد الموكب بجلاله نحو القصرين، وقد ركب نجم الدين إلى جانب ابنه وبجانبهما عماد الدين الشاب الشجاع وتحادثا مليًّا. وكان حديثهما بلغة لا يفهمها رجال العاضد وهي اللغة الكردية. وكان أكثر الحديث عن نور الدين صاحب الشام وعن العاضد صاحب مصر. أما الخليفة العاضد فلو دنوت منه تحت المظلة وتفرست في عينيه لرأيت الدمع يترقرق فيهما. ولو جسست قلبه لسمعت خفقانه الشديد من الأسف والغم ولاضطراره إلى الخروج في هذا الموكب لتكريم رجل يخافه على حياته كما يخافه على منصبه. ولكنه لم يرَ بدًّا من مسايرته، فكظم غيظه لاستقبال والده. وذلك أثقل على قلبه من الجوع والعري. ولعله يتمنى أن يكون من بعض العامة ولا يتحمل ذلك الضيم. ووصل الموكب قبيل الغروب إلى القصر الكبير الشرقي من قصور القاهرة. وهو مجموع قصور ربما زاد عددها على بضعة عشر قصرًا، منها قصر الزمرد، وقصر المظفر، وقصر الإقبال، وقصر البحر، وقصر الحريم، وقصر الشوك، ودار الوزارة، ودار الضيافة، ودار الضرب، وخزانة البنود، وخزانة الكتب، وحجر الصبيان الحجرية وغيرها. وتُسمَّى كلها معًا القصر الكبير الشرقي. كما كانت تُسمى قصور عبد الحميد في الآستانة قصر يلدز. وموضع القصر الكبير الشرقي الآن في شرقي القاهرة القديمة وشماليها فيما بين الأزهر وباب الفتوح، ويدخل في ذلك خان الخليلي وبيت القاضي والجمالية والنحاسين. وقد سُمي هذا القصر بالشرقي؛ تمييزًا له عن قصر آخر أصغر منه كان غربي القصر الشرقي، وبينهما ساحة يُقال لها الميدان بين القصرين. ووراء القصر الغربي نحو الغرب متنزه كبير يُقال له البستان الكافوري يحده من الغرب خليج القاهرة، وعلى هذا الخليج كانت متنزهات الخلفاء الفاطميين. وكان في جملة أبنية القصر الكبير الشرقي بناء يسمونه قصر الذهب، كان الخليفة يجلس فيه للناس في يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فوقف الموكب عنده. فترجل الخليفة ودخل القاعة المعدة للاستقبال وتُسمى قاعة الذهب، يُدخل إليها من باب يُسمى باب الذهب (حيث المارستان المنصوري في النحاسين). فجلس على سرير من الذهب في صدر القاعة، يزن ألوف المثاقيل، وحوله ستر مُحلَّى بطراز من الذهب المرصع بالجواهر فيه خمسمائة وستون قطعة جوهر مختلفة الألوان. وفوق السرير مظلة من ذهب وزنها ثلاثون ألف مثقال. وأكثر جدران الغرفة مغطاة بستور الديباج المزركش. حتى إن الناظر إليها يحسب نفسه في حلم، ولا سيما متى نظر إلى ما فوق عمامة العاضد من الجواهر المتلألئة. وبعد جلوس الخليفة على سريره دخل الوزير صلاح الدين. فجلس في مرتبة خاصة به. ولم يُؤذن في الدخول يومئذٍ لأحد من رجال الدولة، وإنما جُعلت الجلسة خاصة بإكرام نجم الدين. فأمر صاحب الباب باستقباله وإدخاله عليه. فدخل نجم الدين وكان بهي الطلعة عظيم الهيبة فوقع من نفس العاضد موقعًا عظيمًا فأشار إليه بالجلوس ورحَّب به، فقعد نجم الدين باحترام. وكانت العادة إذا دخل الوزير على الخليفة الفاطمي أن يقبِّل يدَ الخليفة ورجله، ولم يفعل صلاح الدين ذلك ولا جعل والده يفعله، ولم يستغربه الخليفة. وكان في جملة الحضور في تلك القاعة كهل رَبْعة دقيق العضل ممتقع اللون، قاعد في مجلس أقارب الخليفة قعود مَن يريد الاستتار ويود ألا ينتبه إليه أحد، لكن صلاح الدين لمحه فعلم من مجلسه أنه من بعض الأمراء ولم يكن رآه من قبل. ولما استقر بالجالسين المقام بدأ العاضد بالكلام وهو يومئذٍ شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره مع أنه تولَّى الخلافة منذ عشر سنين (سنة ٥٥٦ﻫ)؛ لأنه كان عند مبايعته في الحادية عشرة من عمره، والذي يراه الآن يحسبه في حدود الأربعين لكثرة ما كابده من الهموم وتحمله من الإحن. وكان لا يقع نظره على صلاح الدين إلا ندم على استنجاده بنور الدين زنكي صاحب الشام! ••• لما جلس القوم، وجَّه الخليفة كلامه إلى نجم الدين قائلًا: «عسى ألا يكون القائد نجم الدين قد تعب في أثناء الطريق.» قال: «كلا يا سيدي، إن سفري كان غاية في الراحة، وخاصة لأني أتوقع التشرف بلقيا الإمام، أعزه الله.» فابتسم الخليفة ابتسامة مصطنعة وقال: «أهلًا وسهلًا بكم قد نزلتم على الرحب والسعة. وقد أمرت أن تُعد لمقامكم منظرة اللؤلؤة وهي أجمل قصورنا، بل أحد متنزهات الدنيا، فعسى أن تجدوا فيها راحة.» فتأدب نجم الدين في مجلسه وأبدى الاحترام وأثنى على الخليفة ثناءً كثيرًا. ثم قال صلاح الدين: «إن تنازل مولانا بالخروج للقاء والدي نعمة لا أنساها له، نحن حينما كنا فإننا ندعو له بطول البقاء.» فحكَّ الخليفة عثنونه بسبابته وتناول قضيب الخلافة من فوق الوسادة التي إلى جانبه (وهو قصير مغشى بالذهب) وتشاغل بالنظر إليه. ثم سعل والتفت إلى نجم الدين وقال: «كيف فارقت صديقنا الأتابك نور الدين؟» فأجاب وهو يتلطف قائلًا: «فارقته في خير، وقد حمَّلني سلامًا كثيرًا ومودة لمولانا العاضد — حفظه الله — وهو يدعو بطول بقائه ودوام سلامته.» قال: «إني مسرور من صداقته وأرجو دوامها.» قال: «إن ذلك شرف عظيم له، وقد كلفني أن أبلغ مولانا — أعزه الله — أنه هو ورجاله في خدمته لنصرة الحق.» فوقع هذا الكلام موقعًا مؤلمًا من نفس العاضد؛ لأنه ذكَّره بالسبب الذي جرَّه إلى هذه المتاعب، فإنها تبدأ من استنصاره نور الدين. لكنه تجلَّد، والتفت إلى نجم الدين، ثم قال: «لقد نَصَرنا غير مرة، جزاه الله خيرًا. وقد كُفينا الآن مئونة الاستنصار بوجود ولدكم الملك الناصر.» وأشار إلى صلاح الدين. فقال نجم الدين: «إن ولدنا من مواليكم يا سيدي ولا يدخر وسعًا في خدمتكم والأخذ بناصركم.» فمد العاضد يده إلى عنقه واستخرج عِقدًا من الجوهر يشبه العقد الذي في عنق صلاح الدين وقدَّمه إلى نجم الدين وهو يبتسم وقال: «هذه هدية منا تتذكرون بها هذه الزيارة أيها القائد الباسل. وقد استحققت عندنا أن ندعوك (الملك الأفضل) وستُحمل إليك الألطاف والهدايا إلى قصر اللؤلؤة ونوليك الإقطاعات السَّنية، فإنك أهل لأكثر من ذلك.» فوقف نجم الدين وتناول العِقد وهو يقبِّل يد الخليفة. ثم قبَّل العِقد ووضعه في عنقه وهو يقول: «لقد غمرتني يا مولاي بنعم لا أستحقها. إن اللقب الذي خلعته عليَّ فوق قدري و…» فقطع الخليفة كلامه قائلًا: «بل أنت الملك الأفضل، كما أن نجلك الملك الناصر.» فكرر نجم الدين شكره وجلس متأدبًا. ولاحت من صلاح الدين التفاتة إلى الكهل المتقدم ذكره فرأى في وجهه اهتمامًا وقد أبرقت عيناه وكادتا تتقدان من التفكير فشغله أمره لحظة، وأدرك الخليفة اشتغاله بذلك وأراد تحويل الأذهان عن هديته فوجَّه خطابه إلى صلاح الدين وقال وهو يشير بيده إلى ذلك الجليس: «أظنك لا تعرف الشريف أبا الحسن، إنه من أعمامنا. كان في سفر وقد جاءنا من عهد قريب.» والتفت إلى أبي الحسن وقال: «لا أظنك تحتاج إلى التعريف بوزيرنا الباسل أبي المظفر صلاح الدين.» فأشار أبو الحسن بعينه ورأسه ويديه أنه شاكر لهذا التعريف، وانحنى كأنه يهم بالقيام، فقال صلاح الدين: «سُررت كثيرًا بمعرفة هذا الشريف ويكفي أنه متصل النسب بمقام الخلافة.» وكان نجم الدين في أثناء ذلك ينظر إلى أبي الحسن نظر المتفرِّس ولم يعجبه ما في سحنته من الدهاء وما في عينيه من المكر. لكنه تجاهل وتوجَّه إلى الخليفة يبدي شكره على هذا التعريف. ثم وضع العاضد قضيب الخلافة من يده على الوسادة ففهم القوم أنه قد آن الذهاب، فاستأذن نجم الدين بالانصراف وهمَّ بوداع الخليفة. ثم تقدَّم صلاح الدين وودَّع الخليفة وأظهر أنه يهم بتقبيل يده. فاجتذب الخليفة يده تلطفًا. خرج نجم الدين وابنه من مجلس الخليفة ورجالهما ينتظرونهما خارج القصر بالأفراس والسلاح، وفيهم الشاب عماد الدين الذي كان راكبًا بجانب صلاح الدين في الموكب، يختصه بالالتفاف لما يراه فيه من البسالة. وهو شاب في مقتبل العمر قلما يفارق ركاب صلاح الدين إلا لأمر مهم. ولم يكن يراه أحد إلا أحبه لجماله وبسالته مع ذكاء وفصاحة. فلما خرج صلاح الدين صاح: «أين عماد الدين؟» فتقدَّم الشاب وعيناه تتكلمان قبل لسانه، وقد لبس ثوبًا من أثواب الحرس الخاص بصلاح الدين وهو مؤلف من سروال قصير، وحول الخصر منطقة من جلد فيها عروة مذهبة، وفوقها دراعة مطرزة بالقصب. وعلى رأسه عمامة صغيرة كالطاقية مزركشة بالقصب، وقد علَّق بمنطقته سيفًا قصيرًا وغرس فيه خنجرًا. فلما وقف بين يدي صلاح الدين قال له: «هلم بنا إلى منظرة اللؤلؤة، فقد أمر الخليفة أن ينزل والدي هناك وأنا أنزل معه الآن.» فقام عماد الدين بإرشاد الركاب إلى المنظرة على خليج القاهرة. فقطعوا الميدان بين القصرين ومروا بجانب القصر الغربي إلى البستان الكافوري وانتهوا منه إلى المنظرة على ضفة الخليج اليمنى؛ أي من جهة قصور الخلفاء المتقدم ذكرها. وهي تشرف على الخليج من الغرب، ووراء الخليج غربًا بركة كان يُقال لها بطن البقرة ووراءها أرض الطبالة وبستان المقسي (الفجالة وباب الشعرية وما يليهما الآن) ووراءها بركة الأزبكية إلى مجرى النيل. وكانت المنظرة المذكورة من أجمل متنزهات القاهرة، لها حديقة تتصل بالخليج فيها الأشجار والرياحين والأزهار. وفيها القاعات والمقصورات في أجمل ما يكون من الفرش الثمين الذي يشبه ما كان للخلفاء في قصورهم، من ستائر الديباج المطرز بالذهب، والبُسُط المحوكة بالذهب؛ وسائر الآنية من العاج وخشب الصندل، وفيها الأرائك والوسائد. وقد سرح في البستان مئات من الطيور الداجنة على اختلاف أنواعها وألحانها بعضها في الأقفاص والبعض الآخر مطلق. وعلى ضفة الخليج مجالس من الخشب كالشرفات قد فُرشت بالسجاد، عليها المساند المزركشة وفوقها مظلات من الخشب تعرش على النبات، وكل ما في المنظرة ثمين يستوقف النظر، وناهيك بأنها كانت متنزهًا للخلفاء الفاطميين في إبان دولتهم. وصل نجم الدين وابنه ومَن في ركابهما من الحاشية، فتلقاهم غلمان المنظرة بالأطياب والبخور، فدخلوا إلى قاعة كبيرة للاستراحة ومعهم بعض الخاصة من رجالهم. جلسوا ساعة لم يدُر فيها من الحديث غير العام المتعلق بالأسفار وما قد يراه المسافر في طريقه من التعب أو الراحة. وتخلل الحديث طبعًا ذكر الإفرنج (الصليبيين) الذين كانوا يومئذٍ أصحاب السيادة في نواحي سوريا وفلسطين وكثير من مدنها. ثم مالت الشمس إلى المغيب وقد أُعدت مائدة العشاء، فتناوله معهما طائفة من الخاصة وفيهم شمس الدين. فلما فرغوا من الطعام انصرف الخاصة كل منهم إلى فراشه في المنظرة وتركوا نجم الدين وابنه على حدة؛ لعلمهم أن نجم الدين لم يأتِ مصر إلا لأمر مهم يريد أن يسره إلى صلاح الدين. اختلى نجم الدين بابنه في غرفة أُنيرت بالشموع الضخمة وفيها ما تزن عدة أرطال. وقد رأى نجم الدين في قصور القاهرة ما لم يرَ مثله في دمشق الشام. وما كاد يخلو بصلاح الدين حتى اتكأ على وسادة وأشار إليه أن يقعد بين يديه وقد تخففا بلباس الرقاد. وفي يد نجم الدين أنبوبة حرص عليها منذ بدَّل ثيابه. فلما قعدا قال نجم الدين: «سرني يا يوسف ما رأيته من منزلتك عند هذا الرجل. ولكنني رأيتك لا تحترمه كثيرًا وهو يرى نفسه خليفة وملكًا.» فضحك صلاح الدين وقال: «هل يخيفك يا أبي أن يرى نفسه كذلك ونحن نعلم أنه أسيرنا وصنيعنا؟» فقطع نجم الدين كلامه قائلًا: «ولكن الأمر لم يتم لنا بعدُ، فلا ضرر من المجاملة ومراعاة العادات الجارية. على أنني أراك من الجهة الأخرى تحاذر غضب رجاله وأنصاره رغم ما يأتيك من لدن نور الدين في أمر البيعة والدعوة للخليفة العباسي.» قال: «وكيف ذلك يا أبت؟» قال: «ألم نكتب إليكم منذ عام أن تدعو للخليفة العباسي على منابر القاهرة. ولماذا هذا التأخير؟» فأطرق صلاح الدين لحظة وقد ظهر الاهتمام في محياه، ثم رفع بصره إلى أبيه وقال: «تدعوني إلى المجاملة ثم تعاتبني على تأخير الدعوة. وليست تلك الدعوة إلا إعلان سيادة العباسيين على مصر وسقوط دولة الفاطميين. ولا يخفى عليك ما يكون من تأثير ذلك في نفس هذا الخليفة المسكين. وما الذي يهمنا من مصر غير أن يكون لنا فيها الكلمة النافذة والصوت المسموع والريع المطلوب؟ لنترك هذا الخليفة الشاب يفرح بألقاب الخلفاء ومجاملاتهم حتى نرى ما يأتي به القدر. إن إعلان سيادتنا على مصر أمر ميسور متى شئنا. وعهدي بك أنك تحب التؤدة.» قال: «نعم يا بني، ولكن نور الدين يلح في ذلك، وقد وعد الخليفة العباسي المستنجد بالله أن يدعو له على منابر مصر. فلما تأخرت الدعوة بعث الخليفة إليه يستبطئه فكتب نور الدين إليك خطابًا يستحثك فيه على ذلك. وقد أوفدني لتبليغك هذه الرسالة، وهذا هو كتابه.» ودفعه إليه. فتناول صلاح الدين الرسالة، وقرأها، وأكثر من الإمعان في فحواها ولا سيما قوله بعد التحريض على إعلان الدعوة: «وهذا أمر تجب المبادرة إليه لتحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت. ولا سيما أن أمام الوقت متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من هم أمنيته.» وأطال صلاح الدين النظر في ذلك الكتاب، وأبوه يراقب ما يبدو في وجهه من التغيير وقد أدرك ما في خاطره فقال: «ما بالك يا يوسف، وما الذي تحدثك نفسك به؟» قال: «تحدثني نفسي بأمر لا تجهله يا سيدي.» قال: «لا بد من إعلان الدعوة العباسية، هل ذلك صعب عليك؟» قال: «كلا. ولكنني أراك تتجاهل أمرًا آخر أضمره.» قال: «فهمت مرادك، إنك تفكر في أمر نور الدين، وهل إذا أعلنت الدعوة في المساجد للعباسيين تكون مصر ملحقة بالشام تابعة لنور الدين أَمْ …» فأبرقت أَسرَّة صلاح الدين ولمعت عيناه وأتم كلام أبيه قائلًا: «أَمْ لصلاح الدين وحده؟» فابتسم أبوه وقال: «إنك تتعجل أمرًا لا بد من التؤدة فيه، إنما يهمنا الآن الدعوة.» قال: «أما الدعوة فسننظر في أمرها ولكنك لم توضح لي رأيك من الوجه الآخر.» قال: «وما هو؟» قال: «أنت تعلمه ولكنك تريد أن تسمعه من فمي فاسمع. إني قد دبَّرت أمر مصر وضبطت شئونها بسيفي وتدبيري وبسيف عمي من قبلي. ونور الدين قاعد في قصره بدمشق ومملكته واسعة ومماليكه كثيرون. فهل من العدل أن تكون مصر له أيضًا ونبقى نحن من خدمه أو قواده؟ ما الذي يمتاز به نور الدين عنا؟ هل ابتاعنا بماله؟ نحن لسنا من مماليكه. إننا قواد. وهذه مصر يستحيل عليه إخضاعها بدوني. فأنا لا أبايع للخليفة العباسي إلا على أن أكون صاحب مصر وليس نور الدين.» وما أتم كلامه حتى بان الغضب في جبينه مع الاهتمام، وتفرَّس في وجه أبيه ليرى رأيه في ذلك. فابتسم نجم الدين وقال: «بورك فيك يا يوسف إنك تطلب السيادة، وأنت أهل لها، ولكن لكل أجل كتاب.» قال: «أحب أن أعلم رأيك، ألا ترى لي حقًّا فيما أقول؟» فضحك نجم الدين ضحك استخفاف، وعبث بلحيته يمشطها بأصابعه ثم قال: «إن الحق يا بني للقوة، تلك هي قاعدة أصحاب السياسة، وإلا لوجب علينا أن نخرج من هذا البلد ونتركه لأهله؛ لأن صاحبه إنما استنجد الأتابك نور الدين على رجل من خاصته تمرَّد عليه، فأنجده بعمك أسد الدين وأنت معه، وكان ينبغي لكما أن تخرجا من مصر بعد الفراغ من تلك المهمة وقبض ما تستحقانه من الأجر على نصركما. فبقاؤك هنا سواء أكان باسم نور الدين أم باسمك إنما هو جشع. وإنما تعده حقًّا إذا كنت قادرًا على تنفيذه، فالحق هو القوة يا بني. تلك هي شريعة الفاتحين.» وكانت حجة نجم الدين قوية إلى درجة لم يقوَ معها صلاح الدين على المدافعة وكاد يُفحم. لكنه طامع في البلد ويريد أن يتذرع بأية وسيلة كانت لبلوغ غايته. فنهض وهو يتشاغل بإصلاح عمامته الصغيرة، ثم أخذ في فتل شاربيه وهو ينظر إلى أحد جدران الغرفة التي كانا فيها ويتأمل صورًا ملونة مرسومة هناك لم يشاهدها من قبل. وكان بجانب كل صورة رفٌّ لطيف مذهب. فتقدم نحو الجدار وتفرَّس في الصور فرأى تحت كل صورة اسم صاحبها. وإذا هم من شعراء الدولة الفاطمية الذين كانوا يفِدون على الخلفاء في أيام مجدهم. وهنا تذكَّر حديثًا سمعه عن الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطمي. ذلك أنه لما بنى منظرة بركة الحبش صوَّر الشعراء على جدرانها كل شاعر وبلده، ونظم كل واحد منهم يومئذٍ قطعة من الشعر في المدح نقشوها عند رأسه في الصورة. وبجانب صورة كل منهم رفٌّ مذهب. فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يُوضع على كل رف صرة مختومة فيهما خمسون دينارًا وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده. وقف صلاح الدين هنيهة عند تلك الصرة وهو غارق في الهواجس، فأدرك أبوه ما يجول في خاطره فسكت ليرى ما يكون منه، وتشاغل بالنهوض أيضًا ثم أظهر أنه يهم بالذهاب إلى الفراش وصلاح الدين لا يستطيع رقادًا قبل أن يوافقه أبوه على الطلب. فالتفت إليه وقال: «تمهَّل يا أبتاه. إن هذا الخليفة دعانا إلى نصرته على الإفرنج، وأهل القاهرة أنفسهم راسلوا نور الدين وبذلوا له ثلث بلاد مصر إقطاعًا، وأن يقيم عمي أسد الدين عندهم وله الإقطاع هو ورجاله أيضًا. لا أن يقضي مهمته وينصرف كما تقول. ثم نكث وزيره شاور ولم يفِ بما وعد فقتلته أنا بيدي فصفا لنا الجو. ولو لم أقتله لم يكن لنور الدين إقطاع ولا …» فقطع نجم الدين كلامه وهو يمشي نحوه وقال بلهجة الشيخ الوقور: «إنك تخاصم نور الدين على غنيمة لا تزال في حوزة أصحابها، ولا يحق التنازع بينكما عليها إلا بعد إخراجها من قبضتهم. وهذا لا يكون إلا بنقل الدعوة من الفاطميين إلى العباسيين ثم نرى بعد ذلك، وهذا يكفي الآن.» وكان لنجم الدين نفوذ على ابنه مثل نفوذ السحر، فاكتفى صلاح الدين بما سمعه وتحوَّل وهو يقول: «أظنك في حاجة إلى الرقاد يا أبي.» وأمر الخدم أن يهيئوا الفراش وذهب كل إلى منامه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/3/
أبو الحسن والحشاشون
تركنا الخليفة العاضد في قاعة الذهب، بعد خروج نجم الدين وابنه، ولم يبقَ معه إلا أبو الحسن. فلما خرج الكرديان أمر الحاجب أن يأتي بصاحب اللباس لينزع عنه ثيابه وحلاه؛ لأنه في حاجة إلى الراحة وألا يأذن لأحد في الدخول. فأتى صاحب اللباس وأخذ في نزع العمامة وما عليها من الجواهر ووضع كل قطعة في علبة خاصة بها وجاءت الوصائف يحملن الثوب الآخر ليلبسه الخليفة، وقد تغيَّرت سحنته وانقبضت أساريره واحمرَّت عيناه وشعر ببرد طقطقت له أسنانه واصطكت ركبتاه حتى لم يعد يستطيع الوقوف. فبادر أبو الحسن إليه فأسنده وبالغ في التخفيف عنه. ولكنه حالما لمس يده أحسَّ بحرارتها، فعلم أن الخليفة مصاب بالحمى لكنه لم يشأ أن يخوفه. ولما فرغ الخليفة من تبديل الثياب، ألقى نفسه على السرير وقد أحس بانحطاط عزيمته. فقال أبو الحسن: «بماذا تشعر مولاي أمير المؤمنين.» قال: «أشعر بارتعاد مفاصلي وببرد يتمشَّى في ظهري، لا أظنه إلا من عواقب الكظم وتحمل الضيم، آه يا أبا الحسن.» قال ذلك بصوت مختنق وترقرق الدمع في عينيه. فبادر أبو الحسن إلى التهوين عليه فقال: «لكل أجل كتاب يا مولاي. ولا بد من زوال هذه الأزمة.» فقال وهو يلهث من شدة الحمى: «شعرت بهذه القشعريرة منذ ركبت في هذا الموكب لملاقاة هذا الكردي. آه كيف أقوى على احتمالهم وقد سلبوني ما في يدي من سيادة وثروة؟ وأنا مع ذلك لا أقدر إلا أن أجاملهم وألاطفهم وأرحِّب بهم.» فمشَّط أبو الحسن لحيته بأنامله ثم قبض عليها وهو يتمتم كأنه يدعو أو يصلي ويُظهِر التقوى وسعة الصدر وقال: «لا بد من الصبر يا مولاي، ولا شك أن الله سامعٌ دعاءنا. فإني أصلي ليل نهار وأطلب إليه تعالى أن ينصفك من هؤلاء الظالمين.» فقال: «إلى متى الصبر يا أبا الحسن. كأنك لم تعلم بما فعلوه معي. ولم تسمع إلا مجاملتهم لي بالكلام ومخاطبتي بالإمارة. إنهم لم يتركوا لي من هذه الإمارة إلا لفظها. إن يوسف صلاح الدين هذا قد منع المؤذنين من الأذان بجملة «حي على خير العمل» كما كانوا يفعلون في دولتنا. وعزل قضاة مصر لأنهم من شيعتنا، وولَّى قضاة شافعية على مذهبه، وقبض على مرافق البلاد بيد من حديد، وتقول لي اصبر! أين الصبر؟» قال ذلك وغص بِرِيقه. وكان أبو الحسن صفراوي المزاج لمفاويه، لا يبدو في سحنته شيء من التأثرات مهما يبلغ من تأثيرها في قلبه. أو لعل قلبه لا يتأثر إلا مما يريده، أو هو قادر على التظاهر بما يشاء من غضب أو فرح أو حزن بغير أن يكون ذلك ناتجًا عن تأثر قلبي. فلما سمع قول الخليفة تنحنح وأظهر الاهتمام وقال: «لا أزال أقول اصبر. اتكل عليَّ فإني باذل نفسي في سبيل هذا الأمر وهو يهمني كما يهمك. أليست الدولة دولتنا والشيعة شيعتنا، وفي حياتها حياتنا وفي موتها موتنا. ثق أني فاعل ما تريد، ولولا خوفي من أن أثقل عليك لذكرت لك التفاصيل. لكنك الآن في حاجة إلى الراحة فامضِ إلى فراشك إذا شئت. وسأقص الخبر على الشريف الجليس وهو يقصه على مولاي.» قال الخليفة وهو يتململ من القشعريرة: «افعل. إني ذاهب إلى دار النساء.» قال ذلك ونهض فأعانه أبو الحسن على القيام، وأتى بعض الخصيان تعاونوا على حمله على محفة في دهليز يؤدي إلى دار النساء، فودَّعه أبو الحسن وقال: «أنا ذاهب بأمرك إلى الشريف الجليس أقص عليه ما يسرك ثم يلحق هو بك إلى دار النساء.» فأشار الخليفة أن افعل. وكانت دار النساء قصرًا قائمًا بنفسه لكنه يستطرق إلى قاعة الذهب بممر مسقوف لانتقال الخليفة إليه متى شاء. وللقصر باب خاص عليه الحرس من الخصيان، وكان رئيسهم من عهد غير بعيد خصيًّا يُسمى مؤتمن الخلافة، فأتى عملًا أغضب صلاح الدين فقتله وجعل مكانه الطواشي بهاء الدين قراقوش أحد رجاله المخلصين. وحالما صار العاضد في تلك الدار أنزلوه من المحفة، فمشى وهو يتوكأ على بعض الغلمان وهم يظنونه يطلب الذهاب إلى حجرة إحدى نسائه. فإذا هو يشير إليهم أن يأخذوه إلى حجرة أخته سيدة الملك، وكانت عاقلة حازمة يرتاح العاضد لحديثها ويستأنس بآرائها. كأنه وهو في تلك الحال أحس بحاجته إلى رأيها. ساروا به في رواق يؤدي إلى غرفتها وهي منفردة عن سائر غرف القصر، ولما بلغها نبأ قدومه خرجت لاستقباله، وأعانته على الدخول إلى غرفتها، فجلس على مقعد وهي تقول له: «ما بال أمير المؤمنين؟ ومم يشكو؟ روحي فداه.» قال: «أشكو من برودة وقشعريرة. اصرفي الخدم، فإني أحب السكينة وألا يبقى في هذه الغرفة غيرنا.» ففعلت. وكانت سيدة الملك جميلة الخلقة طويلة القامة صبوحة الوجه، ذهبية الشعر جذابة المنظر، إذا نظرتَ في وجهها شعرت بهيبة تنجلي في عينيها. وهي أكبر من أخيها الخليفة ببضع سنين؛ إذ إنها في الخامسة والعشرين من العمر. فلما خلت به جلست بجانبه على السرير وطوَّقت عنقه بيدها وهي تقول: «مم يشكو أخي — حماه الله من كل أذى. إذا اعتل أمير المؤمنين اعتل الناس جميعًا!» فأسند رأسه إلى كتفها وتنفس الصعداء وهو يقول: «أشكو حسب الظاهر من حمى تنتابني، لكن العلة الحقيقية في هذا القلب.» وأشار إلى صدره. ثم أرخى يده من شدة الحمى فجسَّتها فرأتها شديدة الحرارة فقالت: «هل أدعو لك الطبيب؟» قال: «كلا. إن هذه الحمى ستنصرف الليلة، ولكن إذا كنت تعرفين طبيبًا ينقذني من أولئك الأكراد فعليَّ به.» فأظهرت أنها تمازحه وقالت: «لو عرفت طبيبًا في الهند وعلمت أنه يشفيك لذهبت إليه بنفسي ولكن …» فرفع رأسه عن كتفها ليعاتبها بنظره. فوقعت عمامته فمد يده ليتناولها فتناولتها هي ووضعتها على رأسه فقال: «إنك تتجاهلين يا سيدة الملك. إنك أفطنُ من ألا تنتبهي إلى مرادي.» فضحكت وقالت: «هبْ أني فهمت مرادك، فأنا لا أرى الأمر يستوجب الاهتمام إلى هذا الحد. اصبر لا بد من الفرج.» فتنهد وهو ملقٍ رأسَه على كتفها، وحوَّل عينيه نحو وجهها وقال: «لم أجد بين رجالي مَن يسعفني في هذا الأمر إلا ابن عمنا أبو الحسن فإنه تقي غيور. وقد أكد لي أنه باذل جهده في هذا السبيل.» فلما سمعت اسم أبي الحسن أجفلت وكادت البغتة تظهر في وجهها لو لم تبادر إلى التجلد. ولو انتبه العاضد وهو مستلقٍ على صدرها لشعر بتسارع ضربات قلبها حالما سمعت ذلك الاسم. لكنه تطرق شاغل من أمر نفسه. أما هي فتجلَّدت وقالت: «كيف أكد لك ذلك؟» قال: «أكده لي اليوم وسيذكر تفصيله للشريف الجليس وهو يقصه علينا متى جاء بعد قليل.» قالت: «هل تصدِّق هذا الرجل؟» وبان الكدر في عينيها. قال: «كيف لا أصدقه! إنه رجل محب مخلص ومن ذوي قرابتنا، وأنت تعلمين غيرته على دولتنا.» فهزت رأسها وسكتت، ولسان حالها يقول: «إنه منافق.» فاعتدل العاضد في مجلسه؛ لأن الحمى أخذت في الهبوط واشتدت عزيمته، وقبض على يد أخته وهو يقول: «أرى الحمى تخف وطأتها عني أليس كذلك؟ أنت يا سيدة الملك سيئة الظن في هذا الرجل منذ عرفناه لغير سبب أو دليل، فإنه من أبناء عمنا. نعم إنه ليس من أحفاد الحافظ لدين الله جدنا. ولكنه من أحفاد الآمر بأحكام الله فهو من أعمامنا.» قالت: «فليكن ما شئت.» وتشاغلت بطرف ضفيرتها الذهبية تفتله بين أناملها وبان الغضب في وجهها. فقال: «وما الذي يغضبك من ذكره؟ إنك تكرهينه بلا سبب وهو بعكس ذلك. لم أسمع منه إلا التعلق بك. إنه يتفانى في سبيل إرضائك.» فنظرت إليه شزرًا نظر العاتب وقالت: «أكثر الله خيره. إني لا ألتمس هذا الرضا.» قال: «لا حاجة بنا إلى التمسك بالرفض وهو ابن عمنا.» فقالت بصوت المرتاب: «ومَن يؤكد لنا صدق انتسابه إلى الآمر؟ ليس عنده دليل غير شهادته لنفسه … دعنا منه إنه لا يستحق الاهتمام.» قال: «إنك تظلمينه بهذا الحكم.» وأراد أن يتم كلامه فإذا بأحد الغلمان دخل ووقف فعلمت سيدة الملك أنه آتٍ بخبر فقالت: «ما وراءك؟» قال: «إن الشريف الجليس بباب القصر يطلب المثول بين يدي مولانا أمير المؤمنين، والطواشي بهاء الدين قراقوش يمنعه.» فالتفتت إلى الخليفة وسألته إذا كان يشعر براحة تؤهله لمجالسة الشريف الجليس فقال: «إني أشعر براحة فليأتِ.» فالتفتت إلى الغلام وقالت: «امضِ إلى الطواشي أَنْبِئه أن أمير المؤمنين هنا يريد أن يرى الشريف الجليس فلا يمنعه من الدخول.» فمضى الغلام. وأحست سيدة الملك باستياء أخيها من معاملة بهاء الدين ولكنها تجاهلت. وبعد قليل جاء الجليس، وهو شيخ طاعن في السن، يجالس الخليفة ويؤانسه ويحدِّثه وهو مستودع أسراره. فلما رآه الخليفة هشَّ له وأمره بالجلوس بين يديه. ولم تحتجب سيدة الملك عنه؛ لأنه من المقربين، وقد عرفته من صغرها، فاكتفت بتغطية شعرها والالتفاف بمطرف من الخز فوق أثوابها وجلست على كرسي بجانب سرير أخيها. أما الخليفة فنظر إلى الجليس نظر استفهام عما جاء به، فأدرك هذا غرضه فقال: «جئت للسؤال عن صحة مولاي. فقد بلغني من الشريف أبي الحسن أنك أصبت بحمى. لا أصابك الله بسوء وأرواحنا فداك.» فابتسم وقد استلطف عبارة الجليس وقال: «إني بدعائك وحسن نيتك قد زال عني كل بأس، جس يدي، قد ذهبت الحمى. ما الذي جئتنا به غير ذلك؟» فجسَّ يده وأشار بعينيه إشارة الاقتناع وإن لم يقتنع وقال: «نحمد الله على ذلك.» فقال الخليفة: «قل ما الذي جئتنا به؟» قال: «خيرًا إن شاء الله.» وظهر في ملامح وجهه أنه يكتم شيئًا لا يستحسن ذكره بين يدي سيدة الملك. فأدركت ذلك ونهضت وقالت: «إذا كان وجودي يمنع الجليس من الكلام فإني خارجة.» فأمسك أخوها بثوبها وقال: «اجلسي. لستِ ممن يُكتم عنهم، تكلم يا عماه ما الذي جئت به؟» قال: «إني جئت بأمر ذي بال. هل تأذن أن أقول كل شيء؟» قال: «قل ولا تخف. ما الذي أطلعك عليه أبو الحسن من مساعيه في سبيل مصلحتنا؟ إنه محب غيور.» قال: «أصبت يا سيدي، إن أبا الحسن شديد الغَيرة على منصب أمير المؤمنين، وهو ساعٍ في إنقاذنا من هذا العدو المقيم.» قال الخليفة: «سمعته يقول ذلك لكنه وعد بتفصيله. فهل فصَّله لك؟» قال: «فصَّله تفصيلًا أعجبني.» فتوجَّه الخليفة نحو الجليس بلهفة وقال: «وما هو؟» ••• قال الجليس وهو يخفض صوته ويتطاول بعنقه كأنه يحاذر أن يسمعه أحد: «يرى أبو الحسن يا مولاي أن العقدة التي يطلب حلها إنما هي يوسف صلاح الدين هذا. فإذا ذهب تخلصنا من كل هذه الشرور … وأبو الحسن يسعى في إنقاذنا منه.» فقال العاضد: «وكيف ينقذنا؟» فأشار الجليس بكفِّه على عنقه إشارة الذبح؛ يعني أنه يقتله. فبان الاستغراب في وجه الخليفة وقال: «مَن يقتله؟ ليس في مصر كلها مَن يجسر أن يمد يده إليه.» قال: «ليست هذه خطته. إنه سيُقتل هذا الرجل بدون أن يُعرف القاتل.» قال: «وكيف يمكن ذلك؟» قال: «ألا يعرف مولاي جماعة الباطنية أو الإسماعيلية؟!» فأجفل العاضد عند سماع ذلك الاسم وقال: «نعم أسمع بهم، وأسمع أنهم من أنصارنا.» قال: «أصلهم من شيعتنا ولكنهم الآن قوم شغلهم القتل.» فقطع الخليفة كلامه وقال: «ليس هذا شأنهم اليوم فقط. أظنك حدثتني عن أفعالهم غير مرة. ألم تقل لي إنهم قتلوا الملك الأفضل أمير الجيوش وزير الآمر بأحكام الله. وكان رئيسهم يومئذٍ يُدعى بهرام. وهم قتلوا نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي وقتلوا غيره؟» قال: «نعم يا سيدي، لقد قتلوا كثيرين. هذا هو شغلهم.» فقال العاضد: «مَن هو زعيمهم الآن وأين هم؟» قال: «إن أصلهم يا سيدي من أتباع الحسن بن الصباح في زمن جدك الحاكم بأمر الله — رحمه الله — أي منذ أكثر من مائة وخمسين سنة. فأقام حسن هذا في قلعة ألاموت قرب قزوين. وألَّف جمعية من الفدائيين الذين لا يخافون الموت، ويُعرفون بالحششة أو الحشاشين نسبة إلى عقار مخدر يتناولونه يسمونه الحشيشة. وتوالى عليهم زعماء كثيرون في بلاد فارس والعراق والشام. وزعيمهم الآن يُقال له راشد الدين سنان يقيم في جبل السماق من أعمال حلب، يعتصم هناك بالقلاع وعنده رجال مجربون يطيعونه حتى الموت. إذا أمر أحدهم بقتل ملك أو سلطان بادر إلى الطاعة حالًا. وقد قتلوا كثيرين كما ذكرت. وللشريف أبي الحسن صداقة شخصية مع سنان هذا بالنظر إلى نسبه الشريف وله عليه دالة، فإذا أمره أن يبعث رجلًا يقتل هذا الرجل فعل.» فبان البِشر في عيني العاضد يخالطه الاستغراب وقال: «وكيف يستطيع القاتل أن ينجو من هذا المعسكر؟ وكيف يصل إلى يوسف ودون الوصول إليه سدود وعراقيل كما تعلم؟» قال: «إن هؤلاء الفدائيين يتنكرون عادة بألبسة السُّيَّاس أو الخدم ويختلطون بالخدم زمنًا يترقبون الفرص، فإذا سنحت فرصة فعلوا فعلهم ثم لا يهمهم ماذا يصيبهم بعد ذلك ولا يبالون بالموت؛ لأنهم يرون القتل في هذا السبيل حياة سعيدة.» فالتفت الخليفة إلى أخته يلتمس مشاركتها إيه في الإعجاب. فرآها مطرقة تفكر فقال لها: «أرأيتِ اهتمام هذا الشريف بمصلحتنا؟» فظلت ساكتة ولم تُجِب. فالتفت إلى الجليس وقال: «هل أخبرك متى يباشر هذا العمل؟» فتشاغل الشيخ بحك عثنونه وسعل وتنحنح وبان الارتباك في عينيه، فلم ينتبه الخليفة له. أما سيدة الملك فلم يفتها ما ينطوي تحت تلك الحركات، فأخذت تختلس النظر وتصيخ سمعها فإذا هو يقول: «إنه مولاي يشترط عليَّ هذا العمل شرطًا واحدًا. وإن مولاي يعلم أن أبا الحسن عريق في النسب الشريف. وهو أكبر أبناء عمكم المرشحين لولاية العهد سنًّا و… و…» فلحظت سيدة الملك غرضه فبادرت قائلة: «أظنه يشترط أن يكون وليًّا للعهد بعد أمير المؤمنين.» فأجاب الشريف بسرعة كأنه يعتذر عن تطاول أبي الحسن قائلًا: «إن طلبه هذا من قبيل الجنون. ولا معنى له؛ لأن مولانا أمير المؤمنين — أطال الله بقاءه وعجَّل موتنا قبل أن يُصاب بسوء — ما زال شابًّا في مقتبل العمر، وأبو الحسن في حدود الكهولة. ولكنه يشترط ذلك ترضية لنفسه على تحمل تلك المشقة، مع ما يحدق بها من الخطر. ومَن يدري هل يبقى حيًّا يومًا واحدًا بعد تنفيذ مهمته؟» فقال الخليفة: «يشترط أن يكون ولي عهد الخلافة بعدي؟» قال: «أطال الله عمر أمير المؤمنين. إن الرجل لا يرجو أن يتولى الملك ولكنه يحب أن يتمتع بولاية العهد فقط على ما يظهر.» فأطرق الخليفة وهو يُعمِل فكره، والتردد ظاهر في عينيه، ثم رفع بصره إلى الجليس وقال: «وما رأيك؟» قال: «إذا أذن لي مولاي فإني أرى أن يوليه الولاية ويشترط في عقدها أن تكون بعده إلى نجلكم سيدي الحامد لله الأمير داود ولي العهد الحقيقي، فإذا استطاع إنقاذنا من هذا الكردي وإعادة النفوذ إلى مولاي أمير المؤمنين فإنه يكون قد استطاع عملًا لم يستطعه سواه، وتكون ولاية العهد ترضية معنوية له.» ••• ولحظت سيدة الملك أن أخاها أوشك أن يُقبِل، وظهر لها من خلال حديثه أنه راضٍ أن يزوجها به وهي لا تقدر أن تتصوره، بل هي تكرهه كرهًا شديدًا لغير سبب سوى الشعور الذاتي. فإنها تتصور فيه الخبث والخيانة، ثم هي منصفة لا ترى صلاح الدين يستحق القتل لأنه لم يعمل عملًا يستوجب ذلك، وإنما هي نعرة السيادة تَحمل طُلابها على انتحال الأسباب الباطلة. فنظرت إلى أخيها وقالت: «تريد أن تقتل صلاح الدين وتستبدل به أبا الحسن هذا؟» قال: «لا. لكنه إذا استطاع قتله سميته ولي العهد.» قالت: «وماذا تفعل بداود ابنك؟» قال: «يكون وليًّا للعهد بعده.» قالت: «ولماذا هذا العمل. ولماذا تريد التخلص من صلاح الدين. وترتكب كل هذه الآثام والأخطار في سبيل قتله. ماذا فعل؟» قال: «تسألينني عما فعله كأنك لا تعلمينه؟» قالت: «ربما كنت أعلمه، لكنني أحب أن أسمع ذلك من أمير المؤمنين.» قال: «إنه جعل كل النفوذ له ولم يبقَ لي من السيادة غير الاسم.» قالت: «وهل كان النفوذ إليك قبله؟ ألم يكن الوزراء هم أصحاب النفوذ، وكلهم من الأجانب الأرمن أو الأتراك. وهذا كردي، وما الفرق بينهم؟» فقال: «لكنه استبدل وغيَّر وبدَّل و…» فأحست أنها فازت عليه بالبرهان، فلم تصبر حتى يتم كلامه فقالت: «إذا كان قد استبد فإنما استبد في رفع الظلم عن الناس. كانت المكوس لا تُحتمل فرفعها أو خففها. ألأجل ذلك تدس الدسائس عليه وتكيد المكايد لقتله؟ إن الساعين في ذلك هم طلاب السلطة. وهم يحسدون الرجل على مكانته، ولذلك يثيرون غضب أمير المؤمنين عليه. وإذا شاء أخي أن يعرف حقيقة منزلة هذا الكردي فليتذكر الطريقة التي استنجدنا بها سلطانه نور الدين. ألم ترسل شعورنا مع كتاب نور الدين تقول فيه: «هذه شعور نسائي في قصري يستعنَّ بك لتنقذهن من الصليبيين؟» فالرجل لبَّى الطلب وأنجدك بأسد الدين وابن أخيه هذا يوسف صلاح الدين. هل يستنجد قائد بطريقة أذل من هذه؟ إن شعري لا يزال ينقص تلك الخصلة التي قطعتها منه.» قالت ذلك وجست ضفائرها كأنها تتحقق من ذلك. ثم عادت إلى الحديث فقالت: «ومع ذلك فقد اشترطنا لنور الدين أن نعطيه ثلث البلاد إقطاعًا غير إقطاع رجاله. ولما أتوا وأنقذونا من الإفرنج نسينا جميلهم وصار وزيرك شاور يدافعهم ويماطلهم فقتلوه. ويشهد الله أن صلاح الدين أحسن قلبًا وأشد إخلاصًا لك من شاور هذا. لكننا لم نستفد من هذا الحادث فشجعنا الخصي مؤتمن الخلافة قيم هذه الدار على مناهضة صلاح الدين ورجاله حسدًا منه. ألا يعلم مولاي وأخي ماذا فعل مؤتمن الخلافة؟ إنه اتفق مع جماعة من المصريين على مكاتبة الصليبيين ليتحد معهم على قتل صلاح الدين. فهل فعل ذلك غيرة عليك أو على الدولة؟ وبلغ خبره إلى صلاح الدين فقتله، فغضب خصيان القصر لمقتله لأنهم سود من جنسه فاجتمع منهم خمسون ألفًا وناهضوا رجال صلاح الدين، والتقى الجيشان أمام هذا القصر ونحن فيه. لا أنسى هول ذلك اليوم ولا أنسى أمير المؤمنين يومئذٍ وقد جلس في المنظرة يشرف على المعركة، ويشجع العبيد. فاشتدت عزائمهم وخاف صلاح الدين أن تعود العائدة عليه وعلى رجاله، فأمر النَّفَّاطين أن يرموا قوارير النفط المشتعل على المنظرة وعلى القصر و…» فقطع الخليفة كلامها قائلًا: «ولكنني شجعت رجال صلاح الدين فأرسلت زعيم الخلافة يقول: «دونكم والكلاب العبيد أخرجوهم من بلادكم.» فامتنعوا عن إرسال النفط.» قالت: «ولكنك لم تقل ذلك إلا خوفًا على المنظرة من الحريق.» وكانت سيدة الملك تتكلم بحماسة وكل جوارحها تتكلم معها وقد توردت وجنتاها وأبرقت عيناها. فلما وصلت إلى ذكرى الحريق امتقع لونها وتغيرت ملامحها كأنها فوجئت بذكرى محزنة فتوقفت عن الكلام. فاستغرب أخوها تغيرها فجأة والتفت إلى الجليس فرآه ينظر إليها أيضًا. أما هي فتجلدت وعادت إلى الكلام قائلة: «ولم يكن كلامك وحده الذي أوقفهم.» قال: «وكيف ذلك؟» قالت: «دعنا من هذا الموضوع الآن؛ لأن في تذكره ما يؤلمني ويؤلمك، وأنت أحوج إلى الراحة والسكينة.» وتشاغلت بإصلاح نقابها على رأسها، فجس العاضد يده وقال: «إني في خير ولا بأس بي وقد زالت الحمى والحمد لله. قولي ما هو السبب الآخر.» فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت خصلة من الشعر ذهبية من لون شعرها ودفعتها إليه وهي تقول: «هل تعرف هذا الشعر؟» فأجفل وقال: «هو شعرك. هذه هي الخصلة التي قطعتها من شعرك وأرسلتها في جملة شعور نسائي إلى صاحب دمشق. من أين أتتك؟ وكيف وصلت إليك؟» قالت: «وصلت إليَّ في ذلك اليوم الذي نشبت فيه الحرب بين عبيدنا ورجال صلاح الدين!» قال: «وكيف ذلك؟» قالت: «قد ذكرت أنت الآن أن صلاح الدين منع رجاله من إرسال قوارير النفط قبل أن ينطلق منها شيء على القصر. قد يكون هذا الواقع، لكنني أعلم أننا ونحن في هذا القصر وقلوبنا ترتجف هلعًا والسهام تترامى علينا من رجال صلاح الدين رأيت قارورة مشتعلة وقعت في الدار قرب حجرتي هذه لا أدري من أين أتت، فذعرت وصحت بالخدم أن يتلافوا خطرها فلم يسمعني أحد لاشتغال الرجال برمي النشاب بعيدًا عني. وبينما أنا في ذلك وأهل القصر كل منهم في شاغل من نفسه، إذ رأيت رجلًا متنكرًا بثوب الخصيان قد غطى وجهه باللثام وثب من داخل الدار لا أدري كيف دخلها. فذعرت ولكنني ظننته أسرع إلى نجدتي فما عتَّمت أن رأيته أمسك بيدي وجذبني إليه كأنه يريد أن أتبعه، فتخلصت منه، فعاد وأمسكني ثانية وجذبني إليه كأنه يريد أن يحملني ويطير بي. ولم يكن في هذه الغرفة أحد يراني فصحت واستغثت فلم يُسمع صوتي؛ لأن الضوضاء كانت قد ملأت هذا الفضاء، ثم جاء رجل آخر أعان الأول على اجتذابي وهما يشيران إليَّ أن أتبعهما، وهددني أحدهما بخنجر استله من منطقته فأثر فيَّ ذلك المنظر وخارت قواي. وكدت أُغلب على أمري وقد ذهب نقابي وانحل شعري. وإني لفي ذلك إذ رأيت شابًّا وثب نحوي يظهر من لباسه أنه من رجال صلاح الدين فأيقنت أنه سيعين ذينك الرجلين عليَّ، وإذا به صاح بهما صيحة الجبارين وخنجره مسلول في يده وأوشك أن يقتلهما، فلما رأياه خافا وتركاني وعمدا إلى الفرار. وظل هو واقفًا كالأسد ونظر إليَّ بلطف وقال: «مَن هم أولئك الأنذال؟».» قلت: «لا أعلم. ومَن أنت وما تريد مني؟» فقال: «لا تخافي يا سيدتي إني من رجال صلاح الدين المحاصِرين لهذا القصر، ورأيت ذينك الرجلين يعذبانك، وحالما رأيت شعرك الذهبي علمت أنك من نساء الخليفة فبادرت إلى إنقاذك وأحمد الله أني قد فزت.» فسألته: «هل يخشى علينا من الاحتراق.» فأكد لي أنهم لم يُلقوا نفطًا علينا وإنما كان ذلك من بعض اللصوص رموا النفط من جهة أخرى لغرض لهم. ولعلهم أرادوا أن يشغلوا الناس بالنار ويختطفوك.» ولما وصلت سيدة الملك إلى هذه العبارة تغيرت سحنتها وتوردت وجنتاها وبلعت ريقها وهي تلهث من التأثر. وكان الخليفة والجليس يسمعان كلامها ويراعيان الحماسة التي كانت تتجلى في محياها، ولحظا التغير الذي طرأ عليها عند ذكر ذلك الشاب، ولم ينتَبِها لما يخالج قلبها من جهته. فلما سكتت قال العاضد: «مَن هو هذا الشاب؟ وكيف عرف أنك من نساء الخليفة؟ إنه لأمر غريب! كيف يعرفك شاب غريب وأنت لا تخرجين إلا محتجبة؟ هو مع ذلك من رجال صلاح الدين. قولي الحق.» قالت وهي تنظر إليه شزرًا: «إنك تتهمني يا أمير المؤمنين. ولا مكان للريب. قد سألت الشاب كيف عرفني فمد يده إلى جيبه واستخرج هذه الخصلة ودفعها إليَّ وقال: «أليست هذه من شعرك؟» وأدناها من شعر رأسي فإذا هما بلون واحد.» فابتدرها الخليفة قائلًا: «مسَّ شعرك بيده؟» قالت: «لم يمسه، ولكنه أدناها من شعري. إنه شاب غير متهم وأنا مدينة له بحياتي وشرفي ولولاه لذهبت فريسة ذينك الخائنين.» قال: «ألم تعرفي مَن هما؟» قالت: «لم أعرفهما يقينًا، ولكنني كدت أعرف أحدهما.» قال: «مَن هو؟» قالت: «لا أقول؛ لأني أخاف أن يخطئ ظني فأجلب الأذى لرجل بريء. ولولا ذلك لأطلعتك على هذا الحادث من ذلك اليوم وقد مضى عليه الآن أكثر من سنة، ولم أذكره لك لئلا ألقي الشك في خاطرك.» فصاح العاضد وقد امتقع لونه من شدة الغضب: «لماذا لم تخبريني حتى الآن. أيصيبك مثل هذا الأمر وتكتميه طول هذه المدة؟ من تجاسر على هذا العمل؟ من تظنين ذلك الرجل؟ قولي.» قالت: «لا تغضب يا أخي. إني لم أقل ولا أقول الآن خوف الوقيعة بالأبرياء، وقد نجوت والحمد لله. ولكنني قصرت في حق ذلك الشهم الذي أنقذني.» قالت ذلك وأبرقت عيناها، ولو تفحَّص أخوها صدرها لرأى قلبها يخفق خفقانًا سريعًا. لكنه لم يفقه ذلك فقال: «لا تعرفين اسم الذي أنقذك، مَن هو؟» قالت: «لم أسأله عن اسمه، وكنت أتوقع أن يأتيك في اليوم التالي ويقص عليك ما وقع فتكافئه، إنه لم يفعل. وأنا لم أتمكن من رؤيته، أما هو فبعد أن اطمأن عليَّ وتحقق نجاتي من الخطر دفع إليَّ هذه الخصلة وهو يقول: «خذي يا سيدتي هذه الخصلة من شعرك، صيانة لها من أن يمسها غير مستحقيها. ولم يكن يجدر بالخليفة أن يرسلها وسيلة للاستغاثة.» قال ذلك وانصرف مسرعًا سرعة البرق ولم أعد أراه من ذلك الحين.» ••• غلى صدر الخليفة من شدة الحنق ونسي ضعفه في ذلك اليوم، ونهض بسرعة فقبض على الخصلة واجتذبها من يد سيدة الملك وجعل يتفرس فيها ويقابلها بسائر الشعر، فإذا هي منه فالتفت إلى الجليس وقال: «ماذا ترى يا عماه؟ كيف يدخل الغرباء قصري ومعهم شعور نسائي؟ ولكن آه! أنا المذنب لأني تسرعت في الاستغاثة فأرسلت شعور نسائي إلى صاحب دمشق، ولكن كيف وصلت هذه الخصلة إلى هذا الشاب؟ وكيف احتفظ بها حتى عرف صاحبتها؟» وكان الجليس يسمع ويرى وقد أخذته الدهشة، فلما رأى غضب الخليفة وشدة تأثره قال: «خفف عنك يا سيدي. لكل شيء سبب، ولا يهمنا سبب وصول هذه الخصلة إلى ذلك الكردي بقدر ما يهمنا معرفة الرجل المتنكر الذي أراد اختطاف مولاتي سيدة الملك. مَن يجسر على ذلك؟» فالتفت العاضد إلى أخته وقال: «قولي. قولي مَن تتهمين؟ من هو ذلك النذل الذي تجاسر على دخول قصري وخرق حرمتي؟» قال ذلك وهو يلهث وقد احمرت عيناه وأرجع الخصلة إليها ورجع إلى مقعده وقد أحس بانحلال قواه. فتقدمت أخته نحوه وأخذت تخفف عنه وتمسح جبينه وتقول له: «لا تغضب يا أخي. اسمح لي ألا أذكر اسم الرجل الذي أتهمه؛ لأني اتهمته بالظن وبعض الظن إثم. وأنا واثقة أن هذه التهمة مهما تكن ضعيفة فهي تكفي لإيقاع الأذى بصاحبها. فحرام عليَّ أن أعرِّض نفسها للهلاك.» قال: «وحياة رأسي ألا قلتِ مَن هو ذلك الخائن، وأعدك ألا أسارع إلى الانتقام إلا بعد التبصر.» فأطرقت وهي تصلح نقابها على رأسها، ثم جعلت تلاعب خصلة الشعر بين أناملها وأخوها شاخص فيها ينتظر نطقها، فلما استبطأ جوابها قال: «ما بالك لا تقولين؟» قالت: «بالله دعني. سأقول لك ذلك بعد الآن، دعني أفكر قليلًا …» فالتفت الشيخ الجليس إلى العاضد وقال: «دعها يا مولاي الآن ولا تغضبها. وستقول لنا. وليس في الأمر ما يدعو إلى العجلة، ولنرجع الآن إلى ما كنا فيه من أمر النجاة من هؤلاء الأكراد. ماذا رأى مولاي فيما عرضه علينا ابن عمه أبو الحسن؟» فلما سمعت سيدة الملك ذلك الاسم مرة أخرى اقشعر بدنها، ولكنها تمالكت وصبرت لتسمع ما يقوله أخوها فالتفت إلى الجليس وقال: «هو يعدنا بقتل الرجل ويطلب ولاية العهد مكافأة له. فنحن نعده بذلك.» قال: «وعدُ أمير المؤمنين يكفي، وقوله حُجة، لكن أبا الحسن لا يصدقني فهل تكتب له كلمة؟» قال: «لا. لا. يكفي أن تقول له ذلك شفاهًا.» فقال: «حسنًا، سأقول له ذلك، ولكن هناك …» وسكت وهو يتشاغل بحك لحيته كأنه يكتم أمرًا آخر يخاف المجاهرة به. فقال العاضد: «ولكن هناك ماذا؟ قل.» قال: «أخاف أن تغضب سيدتي الأميرة لأنها …» وسكت. فقالت: «ما الذي يغضبني، كيف عرفت أنه يغضبني؟» فتبسَّم وقال: «قد أدركت من حديثك أنك لا تحبين أبا الحسن.» فابتدرته قائلة: «ولماذا أحبه، وهل هو يتطلب مني ذلك؟» قال: «لا. لكنه يلتمس التقرب من أمير المؤمنين والتشرف ﺑ …» قالت: «بماذا؟» فالتفت الجليس إلى العاضد وقال: «هل أقول يا مولاي؟» قال: «قل بماذا يريد أن يتشرف؟ أظنني علمت مراده؛ لأنه طالما لمَّح إلى ذلك في حديثه معي، والحق يُقال إنه كفؤ لما يطلبه …» وتنحنح، ثم حوَّل وجهه نحو سيدة الملك. فأدركت ما يعنيه. وكان قد ذكر لها مرة قبل هذه رغبة أبي الحسن في الزواج بها فرفضت. فلما سمعته يشير إلى ذلك تجاهلت وقالت: «لا أفهم مرادك. ماذا تعني؟» قال: «أظنك فهمت ما أعنيه.» والتفت إلى الجليس وقال: «ما هو رأيك في هذا الأمر يا عماه؟ إني لا أرى أكفأ من أبي الحسن لأختي.» فاعتدل الجليس في مقعده وقال: «لا ريب أنه خير كفء لما يتصل به من النسب الشريف، فضلًا عن تعقله ودهائه. ويكفي ما رأيناه من تفانيه في مصلحة مولاي لإنقاذه من هؤلاء القوم. والذي أراه أن نوافقه على هذا الطلب، فيهون عليه السكوت عن الشرط الآخر؛ أعني إذا كان جواب مولاي من حيث خطبة مولاتي له بالإيجاب لا أظنه يشدد في طلب الشرط بولاية العهد، بل يكتفي بهذا؛ لأنه شديد الاحترام لسيدة الملك، ويُعد حصوله عليها منة كبرى. وعند ذلك يكون هو عونًا لنا فيما نريد بلا شرط.» فلما سمعت سيدة الملك ذلك التصريح قالت وهي تتصنع خفض صوتها: «هو يطلب أن يتزوجني وأنت تستحسن ذلك؟ وأحب أن أعرف رأي أخي أمير المؤمنين أيضًا.» فظنها تعني ما تقوله حقيقة وهو يريد أن تقبل طمعًا في النجاة من صلاح الدين فقال: «وهذا هو رأيي أيضًا كما تعلمين من قبل.» فأجابت ببرود: «لكنه ليس رأيي أنا.» وحوَّلت وجهها عنه. فقال العاضد: «يظهر أنك ما زلت على خطتك. إن أبا الحسن ليس في أهلنا جميعًا مَن هو أكفأ منه لك، هذا إلى تفانيه في خدمتنا.» فقالت: «إني لا أطلب كفؤًا ولا غير كفء، قلت لك من قبل إني لا أطلب الزواج. دعنا من هذا الآن، وليطلب النصيب من طريق آخر.» فقال الجليس: «ولكن يا سيدتي، إذا قبلت فإنك تخدمين مصلحة مولانا الأمير؛ لأن أبا الحسن أقدر إنسان في الدنيا على إنقاذه.» قالت وهي تنظر إليه نظر الاستخفاف: «إن أبا الحسن كاذب، إنه لا يستطيع شيئًا من ذلك.» فضحك الجليس ضحك استعطاف وقال: «قد ظلمته بهذا الحكم يا سيدتي؛ لأني على يقين من تفانيه في خدمة مولانا، وهو صادق الغَيرة على شرف آل البيت؛ لأنه من صميمهم.» فقالت: «وهو كاذب في هذا أيضًا. إن آل البيت عُرفوا بصدق اللهجة والإخلاص، وهذا رجل كاذب منافق وكفى.» فامتعض العاضد من حكمها بهذه الصراحة وقال: «لا دليل على ما تقولين غير قولك، وقد عرفت الرجل من بضعة أعوام ولم أرَ منه إلا كل مودة وإخلاص، ولا أعلم كيف جاز لك الحكم عليه بالكذب والنفاق؟ قالت: «أما أنا فأعلم. وستبدي لك الأيام صدق قولي. أظنك قد تعبت يا أخي وأتأسف لأننا شططنا بالحديث إلى هذا الحد. وأنت منحرف المزاج فاذهب إلى فراشك وسترى في الغد أني أقول الحق.» وكان العاضد قد تعب فعلًا وكان لقولها تأثير شديد فيه … فرأى أن يطيعها ويؤجل الأمر إلى فرصة أخرى. فنهض الجليس وذهب كل إلى فراشه والخليفة أحوج إلى الرقاد. ••• كان الجليس أقلهم رغبة في الرقاد لما أصابه من الفشل في المهمة التي كلفه أبو الحسن بقضائها. وكان الجليس شيخًا حسن الظن قد استهواه أبو الحسن بدهائه ومواعيده، وأقنعه ببرهانه وذلاقة لسانه أن انتقال ولاية العهد إليه خير للدولة وله ولكل مَن فيها. ولم يكن عند الجليس شك في اقتدار أبي الحسن على إنقاذ الدولة من صلاح الدين. فلما كلفه بهذه المهمة سعى فيها من كل قلبه وصمَّم على ترغيب العاضد فيها وهو يعتقد أنه يخدم بها مصلحته. فلما عاد بالفشل أصبح لا يدري كيف يبلغ أبا الحسن نتيجة تلك المهمة، فأعمل فكرته في تلطيف الأسلوب حتى لا يثقل الأمر عليه. وكان أبو الحسن نازلًا في دار الأضياف على مقربة من القصر الغربي، وهي دار كبيرة كانت في الأصل قصرًا للمظفر بن أمير الجيوش أقام بها حتى تُوفي، فجُعلت دارًا لأضياف الأمراء والوافدين من قبل الملوك، ويتولاها نائب يُسمى عدي الملك ينوب عن صاحب الباب في لقاء هؤلاء الضيوف ويُنزِل كلًّا منهم في دار تصلح له ويقيم له مَن يقوم بخدمته. ثم صار صاحب دار الأضياف يُسمى في الدولة التركية «المهمندار». وكان عدي الملك كثير العناية بابن الحسن لما رأى من تقربه إلى الخليفة ومنزلته عنده، فأفرد له دارًا خاصة وأمر الغلمان بخدمته. وكان أبو الحسن قد سحره بمظاهراته وبما يقصه عليه من اقتداره وعلو منزلته. والدولة في أواخر أيامها تروج فيها السفاسف والمظاهرات ويتعلق أصحابها بالأوهام دون الحقائق وبالقشور دون اللب. ويشتغل كل منهم بنفسه ويصبح همه الاحتفاظ برزقه ورزق أهله وهو يتوقع زوال الدولة فلا يرجو ضمان ذلك فيها، فتطيش آماله وتتعلق بأضعف الأسباب وأوهى المواعيد. والإنسان إذا تولاه اليأس في أمر صدَّق كل قول يعيد إليه الأمل ولو كان ذلك القول من المستحيلات. ويتكاثر أهل الدسائس في مثل هذه الحال للاصطياد في الماء فيزينون القول ويزوقون الأعمال فيصبح أكثر معول الناس على الظواهر. وكان أبو الحسن من أولئك الصيادين، وهو من أهل الدهاء والذكاء قوي الحجة لا يبالي بما قد يرتكب في سبيل الوصول إلى غرضه من قتل أو كذب أو تملق أو تزلف. والذكي الداهية إذا أغضى عن مراعاة الذمة وصدق النية لا يعجزه الوصول إلى ما يبغيه من الأغراض. وكان أبو الحسن طامعًا في الخلافة أو ولاية العهد على الأقل كما تبين لك من حديث الجليس الشريف. فاتخذ كل وسيلة تؤديه إلى ذلك الغرض. ومن جملة ذلك طلبه التزوج بسيدة الملك؛ لعلمه بنفوذها على أخيها ولأن انتسابه إلى العلويين يتأيد بزواجها. حتى إنه يفضل التزوج بها أولًا فيسهل عليه كل ما يبغيه. لكنها لم تكن تحبه ولا تخلص له ولا كانت تعتقد صحة نسبه. وفي الصباح التالي بكَّر الجليس إلى أبي الحسن في دار الأضياف قبل أن يطلبه الخليفة لمجالسته. وكان أبو الحسن في انتظاره على مثل الجمر لكنه حالما جاءه الغلام ينبئه بمجيئه نهض لاستقباله ورحَّب به وأظهر أنه لم يكن يتوقع مجيئه واهتمامه إلى هذا الحد، فابتدره بالسؤال عن صحة الخليفة فقال: «فارقته مساء أمس أحسن حالًا.» قال: «أرجو أن يكون العارض قد زال بحول الله بزوال السبب.» فأدرك الجليس غرضه فقال: «أرجو أن يزول السبب تمامًا، وعند ذلك نتحقق زوال المسبب.» قال: «إن السبب لا بد من زواله بإذن الله. وهل تظنني أرجع عن هذا الأمر؟ إني أفعل ذلك لمصلحة أمير المؤمنين. وأنا أحبه وأحترمه لا لغرض يهمني.» فأُعجب الجليس بطيب عنصره وازداد خجلًا من التصريح له بما جرى أمس. ولحظ أبو الحسن سبب ارتباكه؛ لأنه كان يتوقع رفض الخليفة طلبه، ويعلم أن سيدة الملك لا تقبل خطبته من أول طلب، فتجاهل ونظر إلى الجليس وهو يظهر السذاجة وسلامة النية وقال: «إنما أرجو أن يطمئن مولانا أمير المؤمنين منذ الآن أنه ناجٍ من كل شر ليرتاح خاطره ويسترجع صحته. هل أقنعته بذلك؟» قال: «أكدت له عزمك وهو يعتقد اقتدارك على هذا الأمر لكنه.» وتشاغل بحك لحيته وقد ارتج عليه. فابتدره أبو الحسن قائلًا: «أود أنك لم تفاتحه بما كنا تحادثنا به البارحة من حيث ولاية العهد؛ لئلا يظنني أعلِّق أهمية على هذا الشرط. إني لم أعنِ اشتراطه، ولا جعلت نجاة الخليفة متوقفة على إنفاذه لكنني متى وفقت إلى إنقاذه لا أظنه إلا فاعلًا ذلك من نفسه.» فلم يصبر الجليس إلى إتمام كلامه فقاطعه قائلًا: «بارك الله فيك، وهذا ما كنت أتوقعه من أريحيتك ولكنني صرحت بالأمر، و…» فأسرع أبو الحسن قائلًا: «ولا شك أن الأمر شق عليه؛ لأنه غريب على خاطره. ولكن هل ذكرت ذلك في جلسة سرية؟» قال: «لا. لم أوفق إلى ذلك، إذ قضت الأحوال أن أذكره له وهو في دار الحريم و…» فقال أبو الحسن مسرعًا: «وفي حضور أخته على ما أظن.» قال: «نعم هكذا حصل.» فقال: «لا بد أنها كانت أكثر استغرابًا منه. أنا لا ألومها على ذلك كما أني لم ألم أخاها. ولعلك ذكرت لهما شيئًا آخر غير ولاية العهد.» قال ذلك وهو ينظر في عيني الجليس ويُظهِر المداعبة. فابتسم الجليس وقال: «نعم ذكرت لهما وتكلمت بما يمليه عليَّ إخلاصي لك.» قال هذا وبلع ريقه، فعلم أبو الحسن أن جوابها لم يكن بالرضا ولولا ذلك لانتهج الجليس أسلوبًا آخر في التبليغ فرأى أبو الحسن أن يغطي فشله بالدهاء فقال: «أتمنى أن تكون قد ترددت في إجابة هذا الطلب أيضًا.» فاستغرب تمنيه وقال: «نعم ترددت قليلًا، وأظنها أجَّلت الحكم في ذلك إلى ما بعد انقضاء هذه الأزمة أو …» قال: «كن صريحًا يا عماه. إنها رفضت وقد تكون عالقة القلب بأحد، أو … فليكن ما تريد. أنا لا أعتب عليها، ولكني أعتب على أخيها الخليفة فإنه مطالب بسيرة أخته وسمعتها.» قال: «أؤكد لك أن أمير المؤمنين حسن الظن بك.» فقال أبو الحسن وهو يتشاغل بتمشيط لحيته: «يكفي. كنت أحسبها عاقلة كما يقولون، ولكن يظهر أنها لا تعرف مصلحة نفسها ولا لوم عليَّ بعد الآن.» لا أعني أني أكف عن فداء أمير المؤمنين بدمي. ولكنني لا أرى وجهًا للرفض. إلا أن تكون مشغولة ببعض الرجال فهذا شيء آخر.» قال: «كلا، لكنها قالت إنها لا تريد الزواج.» فضحك أبو الحسن وهو ينهض من مجلسه وقال: «لا تريد أن تتزوج؟! هذا كلام غير معقول. ولكنها سترى بنفسها مضطرة للزواج بغيري وتندم.» فنهض الجليس لنهوضه وصبر ليرى ما يريده، فقال أبو الحسن: «أظنني أخَّرتك عن مجالسة أمير المؤمنين، وقد يكون في حاجة إليك، فأرجو أن تؤكد له أني مقيم على ولائه أفديه بروحي، ولا تذكر له شيئًا عن سيدة الملك. إنما أقول سامحها الله؛ لأنها لم تحسن المعاملة.» فودَّعه الجليس وهو معجب بطيب سريرته وعلو همته وسعة صدره وعاد إلى منزله ينتظر أمر الخليفة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/4/
سيدة الملك
ما كاد أبو الحسن يخلو بنفسه حتى رفس الأرض برجله من الغضب، وقد أخذ الحنق منه مأخذًا عظيمًا وتمشَّى في الغرفة. ويداه متعانقتان وراء ظهره وهو يُعمِل فكرته، ويتشاغل حينًا بالنحنحة أو السعال أو بحك ذقنه أو يصلح عمامته. ثم وقف وقال يخاطب نفسه: «رفض العاضد أن أكون ولي العهد بعده. لكنه سيراني خليفة. وأما تلك الملعونة أخته فإنها ما زالت ترفض الزواج بي، وإن رفضها هذا لأشد وطأة على نفسي من رفض الخليفة، لكنها ستندم وتعود صاغرة متى رأت ما يبلغ من كيدي. سوف تأتيني صاغرة باكية. وأظنها تحسبني مغرمًا بها وأني أريد التزوج بها عن شغف بجمالها. لست ممن يتعلقون بهذه الأوهام. ليس في قلبي حب لأحد. لا أحب أحدًا. إن حب النساء من الأوهام الباطلة التي تصرف الرجل عن المطالب العالية. إني أطلب ما يقصر عنه أخوها الخليفة نفسه. سأقتل صلاح الدين ولكن ليس إكرامًا لها ولا لأخيها. سأقتله ليخلو لي الجو. سأقتله وأقتل العاضد وأقتل كل مَن يقف في سبيل وصولي إلى الخلافة. إنها حق لي.» قال ذلك وكاد صوته يرتفع من عظم التأثر فانتبه لنفسه وسكت. ثم مشى إلى غرفة داخلية أقفل بابها وراءه وقال وهو يشير بيده إشارة التهديد: «أما تلك الخائنة فسأذيقها مر العذاب. سأجعلها تندم ولات ساعة مندم.» ثم اشتغل بتبديل ثيابه وهو يُعمِل فكرته في تدبير الحيلة لإغاظة سيدة الملك قبل كل شيء. فلما فرغ من اللبس أمر بالبغلة فأتته وركب إلى حيث يقيم صلاح الدين ووالده ورجال حاشيته. وفي جملتهم رجل يُقال له ضياء الدين عيسى الهكاري من الأمراء الصلاحية كبير القدر كان صلاح الدين يعوِّل عليه في الآراء والمشورات. وكان في مبدأ أمره يشتغل بالفقه بمدينة حلب فاتصل بالأمير أسد الدين عم صلاح الدين وصار إمامه يصلي به. فلما توَّجه أسد الدين إلى مصر مع بهاء الدين قراقوش صحبهما عيسى هذا وكان مخلصًا لصلاح الدين. فلما تُوفي أسد الدين اتحد عيسى وقراقوش على تنصيب صلاح الدين موضعه في الوزارة، ودقَّقا الحيلة حتى بلغا المقصود. فلذلك كان لعيسى دالة على صلاح الدين يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره، وكان من الجهة الأخرى علوي النسب فكان له مع أبي الحسن صداقة. وكان عيسى يحاسن أبا الحسن وفي نيته انه سيحتاج إلى استخدامه في مصلحة صلاح الدين، فكان يكرمه ويرحِّب به وصلاح الدين لا يعلم؛ لأن أبا الحسن كان يجتنب الاجتماع بصلاح الدين. وكان عيسى الهكاري في ذلك الحين في منظرة اللؤلؤة يجالس صلاح الدين ويباحثه، ويرشد أباه نجم الدين إلى ما يسهل عليه المهمة التي جاء من أجلها إلى مصر. ركب أبو الحسن إلى منظرة اللؤلؤة لا يريد دخولها، ولكنه كان يعلم أن ضياء الدين الهكاري يختلف إلى هناك في تلك الأيام، فتوقع أن يراه في الطريق فيُظهِر أنه التقى به مصادفة؛ ليهون جره في الحديث عفوًا إلى الغرض المطلوب. وكان يعلم أيضًا أنه يتردد إلى دار العلم بجوار القصر الصغير. ودار العلم هذه أنشأها الحاكم بأمر الله وجمع فيها الكتب وجعلها مباءة لطلاب العلم للمطالعة أو النسخ. وفيها الأقلام والمحابر. ووقف على ذلك أماكن يُنفق على دار العلم من ريعها. وكان يجتمع فيها العلماء للمناظرة والمجادلة فأصبحت في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش مجتمعًا للمجادلة الدينية الخطرة، فأمر الأفضل بمنع الجمهور من دخولها. لكنها ظلت تحتوي على كثير من كتب الفقه والتاريخ فمن أحب من الخاصة أن يطالع شيئًا منها أذن له، فكان الهكاري من جملة المترددين إلى هناك. فلما دنا أبو الحسن من منظرة اللؤلؤة سأل بعض الخدم عن الهكاري فقيل له إنه ذهب إلى دار العلم. فحوَّل شكيمة البغلة إلى هناك وأظهر أنه ذاهب لغرض آخر غير ملاقاته. فلما وصل الباب منعه البواب من الدخول لأنه لا يعرفه، فلم يعرفه بنفسه بل قال: «أحب الاطلاع على بعض الكتب وأعود.» فقال: «ذلك لا يجوز يا سيدي.» فقال: «كيف لا يجوز وقد علمت أن رجلًا دخل هذه الدار منذ هنيهة؟» فقال: «هو الفقيه ضياء الدين.» فأظهر أبو الحسن الاستغراب لوقوع هذه المصادفة وقال: «الفقيه ضياء الدين هنا؟ إنه صديقي … استأذنه في الدخول إليه.» قال: «مَن أقول له؟» قال: «قل له أبو الحسن يطلب الدخول.» فذهب البواب ثم عاد ومعه ضياء الدين. فلما وقع نظره على أبو الحسن أسرع إليه ورحَّب به فتحوَّل أبو الحسن عن البغلة ودخل مع الهكاري وهو يتظاهر أنه فرح بهذه المصادفة. وكان ضياء الدين يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء فجمع بين اللباسين، فلما التقيا قال أبو الحسن مداعبًا: «إنك قد جمعت بين زي الجند وزي الفقهاء، فهل أنت فقيه الآن أو جندي؟» قال: «إني فقيه في بحثي الآن.» قال: «أما أنا فقد طلقت الفقه، وإنما جئت للمطالعة في بعض الكتب لغرض علمي.» قال ذلك ومشى، فدخل ضياء الدين معه وهو يقول: «تفضل ادخل، لعلك تبحث في مسألة لغوية؟» قال: «كلا، إني لا أرى ذلك نافعًا الآن، ولكنني أطلب مسألة تاريخية، أحب الاطلاع على تاريخ السلاجقة فإن هؤلاء القوم أشداء ولهم تاريخ مجيد.» فالتفت ضياء الدين إليه وقال: «أظنك تحب البحث عن سبب مقتل نظام الملك. مسكين!» قال: «لا. فإن قاتله من الإسماعيلية أصحاب شيخ الجبل … أليس كذلك؟ ليس لهذا جئت. ولكنني أريد الاطلاع على أصل هذه الدولة.» قال: «اتبعني إلى خزانة كتب التاريخ.» ••• مشى أبو الحسن في أثره حتى أدخله غرفة فيها رفوف عديدة رُتبت فيها الكتب حسب منوعات العصور. وساعده ضياء الدين حتى جمع له بضعة كتب تبحث في الدولة السلجوقية ومبدأ أمرها. فتناولها أبو الحسن وأخذ يقلِّب فيها وهو يقول: «فتش معي عن كتاب فيه ترجمة طغرل بك مؤسس هذه الدولة إنه كان رجلًا شديدًا.» وبعد البحث وقف ضياء الدين على كتاب فيه سيرة طغرل بك دفعه إليه فتناوله أبو الحسن وهو يقول: «أظنني شغلتك عما جئت لأجله.» قال: «كلا، بل أنا في غاية السرور من هذه المصادفة؛ لأني أحب أن أعرف تاريخ هذا الرجل مؤسس هذه الدولة التي ملأت الدنيا فتحًا. تفضل اقعد.» وأشار إلى طراحة على مقعد بالقرب منه. فقعد أبو الحسن وقعد الهكاري بين يديه وأخذ كتابًا آخر دفعه إليه أبو الحسن فجعل يقلِّب أوراقه وعيناه في الكتاب الذي يقرأ أبو الحسن فيه. فرآه وقف عند صفحة وجعل يقرأها ويعيد قراءتها ويهز رأسه إعجابًا أو استغرابًا. ثم قلَّبها وقرأ غيرها حتى فرغ من الكتاب فوضعه بجانبه وتناول غيره. فاشتاق ضياء الدين إلى مطالعة الصفحة التي رأى أبا الحسن يحدِّق فيها. فتناول الكتاب وهو يتوهم أنه فعل ذلك خلسة وأبو الحسن لا يعلم. ففتح تلك الصفحة فإذا هي تبحث في خطبة طغرل بك لابنة الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة ٤٥٤ﻫ. وكيف أن السلطان طغرل بك وهو تركي طلب أن يتزوج بابنة هذا الخليفة مما لم يجسر عليه أحد قبله. وأن بعض القضاة أخبر الخليفة يومئذٍ أن غرض السلطان من هذا الزواج أن يأتيه من بنت الخليفة غلام فيه الدم العباسي. فيولِّيه الخلافة بهذه الحجة وتتوالى الخلافة في أعقابه وتخرج من العباسيين. وأن الخليفة انزعج لهذا الطلب واستعطف السلطان أن يعفيه من الإجابة إلى طلبه. فأبى ألا يُجاب بحيث اضطر الخليفة إلى إجابته وزوَّجه ابنته. لكن طغرل بك مات في تلك السنة ولم يُرزق من امرأته هذه أولادًا. وكان ضياء الدين يقرأ ذلك وأبو الحسن يُظهِر أنه يقرأ في كتاب آخر وعيناه تختلسان النظر إلى الهكاري. فلما علم أنه فرغ من قراءة ذلك الفصل رفع نظره إليه وقال: «أرأيت شجاعة طغرل بك، وكيف أنه استطاع بحكمته وتعقله تأسيس هذه الدولة التي لولاها لم يكن صاحب الشام ولا صاحب العراق ولا غيرهما.» قال: «نعم إنه رجل ذو بطش غريب وأنا أستغرب الآن ما قرأته في هذه الصفحة من مطامعه في الخلافة مما لم يطمع فيه أحد سواه من غير القرشيين فيما أظن.» فتوجه أبو الحسن نحوه باهتمام وقال: «طمع فيها قبله عضد الدولة ابن بويه فأراد أن يزوج الخليفة الطائع لله بابنته لتلد من الخليفة ولدًا فيه من دمه فيجعل الخلافة فيه، فلم يوفَّق إلى ذلك، وأما هذا فإنه خطا خطوة أكبر من تلك. أراد أن يتزوج هو ببنت الخليفة ليكون ابنها فيه دم العباسيين، ولكن هل علمت كيف نجا الخليفة من هذا الخطر فحفظ الخلافة في العباسيين؟» فقال: «إنه نجا بالمصادفة.» قال: «أتظن موت طغرل بك كان مصادفة؟ وهل يموت بالمصادفة على أثر ذلك العقد المغتصب؟ لا أشك في أنهم سَقَوه السم. ولو أحسن الأسلوب لاحتاط لنفسه ونجا من ذلك الخطر ولم يذهب سعيه عبثًا.» فقال: «وكيف يحتاط؟» قال يحتاط بألا يعرض نفسه للقتل بخطبة ابنة الخليفة فيُظهر غرضه. أعني لو طلب أن يتزوج أخت الخليفة أو إحدى بنات أعمامه مثلًا لا أظنهم كانوا ينتبهون لغرضه. فإذا ولدت له ولدًا ذكرًا كان فيه من الدم العباسي ما يكفي لادعاء حق الخلافة، ولكن ذلك التركي كان قصير النظر.» ونظرًا إلى اهتمام ضياء الدين الهكاري بصلاح الدين وشغفه بتثبيت دولته كان كلما قرأ تاريخًا أو سمع حادثة مهمة طبَّق مغزاها على حال صلاح الدين لعله يستفيد منها ما يؤيد دولته. فلما سمع كلام أبي الحسن انتبه إلى أن صلاح الدين يقدر أن يفعل ذلك بالتزوج من أخت العاضد، وكان يسمع بجمالها وتعلقها، والعاضد أضعف من أن ينكر على صلاح الدين طلبه. وبذلك تصير الدولة إليه حتى نور الدين قد يدخل في سلطانه. فأشرق وجهه لهذه الفكرة. وصمَّم أن يفاتح صلاح الدين بها في ذلك اليوم. ولكنه تظاهر بأنه لم ينتبه لشيء وجعل يتشاغل بقراءة فصول أخرى وأبو الحسن يُظهر من الجهة الأخرى أنه يتكلم بكل سذاجة. ثم غيَّر الحديث فسأل ضياء الدين عن نجم الدين وهل هو مسرور من الإقامة في منظرة اللؤلؤة، فأجابه بما يقتضيه المقام وأصبح ضياء الدين شديد الرغبة في انصراف أبي الحسن ليمضي في مهمته الجديدة. وبعد قليل استأذن أبو الحسن في الانصراف وودَّع صديقه الهكاري، وعاد على بغلته إلى دار الضيافة وهو يهمهم في أثناء الطريق ويكاد يخاطب البغلة من فرحه بانطلاء حيلته؛ إذ لم يشك أن الهكاري ذاهب حالًا إلى صلاح الدين ليحرضه على خطبة سيدة الملك. وهو يعلم يقينًا أن ذلك سيقع وقوع الصاعقة على رأسها ورأس أخيها، ولا يجدان سبيلًا لرد طلب ذلك الخاطب القاهر إلا إذا ادعيا أن الفتاة مخطوبة لابن عمها أي له (هو) فينال غرضه على أهون سبيل. ••• لما ذهبت سيدة الملك إلى غرفتها لقيتها هناك حاضنتها وأخذت في مساعدتها على نزع ثيابها استعدادًا للرقاد، ولم تفاتحها بشيء من الحديث الذي جرى لها مع أخيها برغم شدة رغبتها في ذلك — والخدم من أكثر الناس ميلًا إلى استطلاع الأسرار لفراغ رءوسهم من المشاغل المهمة مع اطلاعهم على مخبآت تجري في منازل أسيادهم، ووقوفهم أمامها وقوف المتفرج ينتقدون هذا ويحسنون عمل ذاك على ما توحيه أغراضهم أو مداركهم، فيلذ لهم التحدث فيما بينهم كل واحد عما يعلمه من أحوال مخدومه، ويندر فيهم مَن يحافظ على سر مولاه ويغار على سمعته، ويسعى في درء الشبهات عنه — وكانت حاضنة سيدة الملك من هذا النوع واسمها ياقوتة، وقد رُبيت في دار الخلافة وسيدة الملك طفلة، فكانت لها عناية خاصة بها. فشبت سيدة الملك على الوثوق بها حتى جعلتها مستودع أسرارها فلم يكن يفوتها شيء مما يخالج ضميرها. وذلك طبيعي في مثل حال هذه المرأة من الحجاب في ذلك العصر، فإنها لا تختلط بالناس ولا تجد مَن تحادثه إلا الخدم. وكانت ياقوتة قد علمت منذ جاء الخليفة أنه يشكو انحرافًا وتلصصت من وراء الستر لتتسمع ما يدور من الحديث على عادة أمثالها من حب الاطلاع ورغبة في خدمة سيدتها. ولم تتوقع أن يدور بين الخليفة وأخته ما دار. فلما جاءت سيدة الملك لنزع ثيابها كانت ترجو أن تسمع منها شيئًا جديدًا ولحظت فيها تغيرًا يدل على قلقها واضطرابها. فلما فرغت سيدة الملك من تبديل الثياب قعدت على سريرها وقد حلت شعرها الذهبي وأرسلته ضفيرة واحدة إلى ظهرها وتنفست الصعداء وأطرقت، ولحظت ياقوتة في عيني سيدتها ما يشبه الدمع فترامت على قدميها وأخذت تقبِّل ركبتيها وتقول: «ما بالك سيدتي، لماذا تبكين؟ وأظهرت أنها لم تكن مطلعة على شيء. فرفعت سيدة الملك عينيها إليها وبان الدمع فيهما وتنهدت ثانية وقالت: «تسألينني يا ياقوتة عن سبب بكائي، وتستغربين حزني؟ ليس حزني غريبًا، وإنما الغريب ألا أقضي يومي باكية نادبة!» قالت ذلك وغصت بِرِيقها. فشاركتها ياقوتة البكاء لكنها أظهرت التَّجلُّد وقالت: «ماذا يجري يا سيدتي هل جرى شيء جديد؟ قالت: «ألا يكفي ما جرى مما تعلمينه؟ أنت عاقلة لا يخفى عليك شيء وتعلمين حالنا مع هؤلاء الأكراد واستبدادهم في الدولة. وهذا أخي جاءني اليوم وقد أصابته الحمى من شدة الغيظ لما صارت إليه الخلافة، فكيف لا أبكي؟» قالت: «لا بأس من البكاء ولكن لا فائدة، وإنما الفائدة بالصبر والحكمة حتى يقضي الله بما يشاء، فلكل أمر نهاية، وإنما …» فقطعت كلامها قائلة: «لا. لا. ليس لهذه الكارثة نهاية إلا بالموت، مَن ينقذنا من هؤلاء الأكراد وقد وضعوا أيديهم في كل شيء حتى دارنا هذه فإن عليها حارسًا من رجالهم؟» وبلعت ريقها ومسحت دموعها وهي تستعد لاستئناف الحديث ثم قالت: «وهذا كله هين يا ياقوتة، كله هين سهل بالنظر إلى أمر آخر جاءنا به الجليس من عند أبي الحسن في هذا اليوم.» فتطاولت ياقوتة بعنقها وقالت: «وما هو يا سيدتي؟» قالت: «جاءنا بمهمة يزعم أنها تنجينا من هذا الضنك. ولكنها إذا صحت أوقعتنا فيما هو أشد وطأة وأصعب مراسًا.» قالت ياقوتة: «وهل أشد وطأة من هذه الحال يا سيدتي؟» قالت: «نعم أشد وطأة منها أن يكون ذلك الكهل الوقح وليًّا للعهد بعد أخي — حفظه الله.» فأظهرت أنها لم تفهم مرادها فاستفهمتها فأوضحت لها شروطه التي تقدم بيانها ثم قالت: «ولنفرض قدرة ذلك الشريف الكاذب على قتل صلاح الدين فإن صيرورة ولاية العهد إليه بدل ابن أخي أصعب عندي من البقاء في حوزة صلاح الدين.» فقالت ياقوتة وهي تُظهِر الاهتمام: «لا أرى رأيك في ذلك يا سيدتي، بل أَعُد سعي أبي الحسن هذا بابًا للفرج؛ لأنه إذا لم يستطع قتل صلاح الدين لا ينال شيئًا. وإن استطاع فإن ولاية العهد لا تصير إليه؛ لأن مولانا أمير المؤمنين شاب في مقتبل العمر، أطال الله بقاءه. ومَن يعلم المستقبل؟» فلم تعد سيدة الملك تصبر على سماع هذا العذر، فنهضت فجأة ونهضت معها ياقوتة وهي تنتظر ما تقوله فإذا هي تقول: «ولكنه يشترط أيضًا شرطًا آخر، الموت أهون عليَّ من قبوله.» وكانت ياقوتة تعلم برغبة أبي الحسن فيها، فأظهرت أنها فهمت مرادها فقالت: «إنك تكرهين هذا الرجل كرهًا شديدًا بلا سبب، اصبري يا سيدتي حتى أتم كلامي. إذا نظرنا في مطالبه وشروطه لا نجد ما يبعث على هذا القلق. إن الرجل من أبناء عمك ويعرض أن يقتل أعدى عدو لنا وينقذ هذه الدولة من الخطر الذي لم يقدر عليه أحد سواه، فإذا فاز صار وليًّا للعهد وتزوج بأخت الخليفة ولا أظنك تستنكفين أن تكوني زوجة رجل أنقذ الدولة، وهو مع ذلك شريف النسب، تبصري فيما أقول.» قالت ذلك وأكبت عليها وجعلت تقبِّلها وتضمها للتخفيف عنها. فحوَّلت سيدة الملك وجهها عنها نحو ستارة معلقة على الحائط عليها صور عربية وأظهرت أنها تتأملها ولكنها لم تكن ترى شيئًا لفرط اضطرابها وغضبها. وظلت ساكتة فظنتها ياقوتة تستسيغ رأيها فعادت إلى الموضوع وأحاطت عنق سيدتها بذراعها وهي تقول: «لا تتعجلي يا سيدتي برأيك، فكري في الأمر مليًّا، إن عليه يتوقف بقاء هذه الدولة وفضلًا عن ذلك فإنك لا تجدين من أبناء عمك مَن يستطيع هذا العمل، فلا باعث على النفور منه.» فقطعت سيدة الملك كلامها وتحولت نحوها وقد بان الغضب في عينيها وقالت: «تقولين لا باعث على هذا النفور؟» قالت: «نعم أقول ذلك؛ لأني لا أرى باعثًا. وإلا قولي ما يبعثك على رفضه؟» قالت: «يبعثني على ذلك أني لا أطيق أن أرى هذا المنافق. إذا رأيته ارتعدت فرائصي من رؤيته. تبًّا له كأن عينيه من نوافذ جهنم! إذا نظر إليَّ خُيل لي أن الشيطان يطل من حدقتيه ويهم بأن يأخذ بتلابيبي، دعيني لا أقدر أن أتصوره!» فهزت ياقوتة رأسها هزة الإنكار وقالت: «يا للعجب إنك تكرهين هذا الرجل عفوًا. أظنك تظلمينه. لم أرَ منه ما يبعث على شيء من ذلك!» قالت: «ألا ترين الشر في سحنته؟ إني أرى ذلك واضحًا يكاد يُلمس باليد. دعيني منه.» قالت وهي ممسكة يدها تجلسها على السرير: «اقعدي يا سيدتي لأخاطبك كما تخاطب الأم ابنتها وإن كنت لا أستحق هذا الشرف.» فقعدت وهي تنظر في عيني ياقوتة فقالت ياقوتة: «إنك يا سيدتي شابة في مقتبل العمر وقد منحك الله جمالًا وتعقلًا، ولا بد من أن تتزوجي بمن هو كفؤ لك وأنا لا أرى أكفأ من أبي الحسن فإنه عريق في النسب العلوي الشريف.» فوثبت سيدة الملك من السرير وقد تغيرت سحنتها وغلب عليها الغضب وقالت: «ليس الزواج ضروريًّا لي. وإذا كان لا بد منه فلا يهمني أن يكون ذلك الزوج من النسب العلوي.» قالت ذلك وتنهدت تنهدًا عميقًا وامتقع لونها ثم احمرت وجنتاها فجأة وبان الحياء في عينيها، فحولت وجهها عن ياقوتة وغطت عينيها بكفيها. فاستغربت ياقوتة حركاتها وأدركت أن ذلك لا يبدو إلا من فتاة عالقة القلب برجل يمنعها الحياء من ذكره، فغيَّرت لهجتها في الحديث وضمتها إلى صدرها وقبَّلتها بين عينيها وقالت: «فهمت الآن شيئًا لم أكن أعرفه من قبل، أنت عالقة القلب برجل آخر.» فنفرت سيدة الملك من هذا التعبير الصريح وتراجعت وهي ما زالت مطرقة وظلت ساكتة فتبعتها ياقوتة وهي تقول: «لعلي بالغت في التصريح فوقعت عبارتي ثقيلة على سمعك. لكنني أرجو أن تصدقيني الخبر. فأنا معك كل يوم وكل ساعة لا أفارقك ولا يدخل علينا أحد من الرجال غير أخيك وبعض الأطفال من أبنائه وأبناء عمك فيبعد أن تكوني عالقة بأحد، لكني أرى دلائل الحب في عينيك.» فازداد احمرار وجهها وزاد حياؤها وهمت بالكلام ثم توقفت. فقالت ياقوتة: «قولي. لا تخافي. هل تحبين أحدًا؟» قالت: «دعيني يا خالة. دعيني من هذا البحث الآن. لا فائدة منه غير زيادة الأشجان.» قالت ذلك وأظهرت أنها تميل إلى الرقاد فأعانتها ياقوتة حتى استلقت على السرير ووضعت الغطاء عليها وجعلت تصلح ما يحيط بها من الملاءة والوسادة وهي تراقب ما يبدو منها، فإذا آنست ميلها إلى الحديث استأنفته وإلا تركتها تنام. أما سيدة الملك فإن الحديث هاج أشجانها ومالت إلى مفاتحة حاضنتها بما يكنه ضميرها، ولكن الحياء كان غالبًا عليها. وكانت تظن الحاضنة تصر من نفسها على استتمام الحديث، فلما رأتها أطاعتها وأعانتها على الرقاد ندمت وأخذت تتذرع إلى استئناف الكلام، فأظهرت ضجرها من الغطاء وتنهدت والتفتت إلى ياقوتة لفتة أثرت في أعماق قلبها فانحنت فوقها وهي جاثية بجانب السرير وقالت: «ما بالك يا سيدتي يا حبيبتي، لماذا تكتمين همك عني؟» فقالت ولسانها يتلعثم: «أخاف أن تضحكي مني أو تهزئي بي.» قالت: «معاذ الله أن أفعل ذلك! وكيف أفعله ولماذا؟» قالت: «لأني أحب رجلًا لا يخطر ببالك أني أحبه، ولو علم أخي به لاستغرب عملي وحسبني مجنونة!» وسكتت وهي تتشاغل بإصلاح شعرها تحت رأسها ورفع الغطاء وإصلاحه. فوقعت ياقوتة في حيرة ولم تفهم حقيقة مرادها أو لعلها أدركت قصدها وتجاهلت لتسمع زيادة، ثم قالت: «لم أفهم يا سيدتي مرادك. مَن هو الرجل الذي وقع من نفسك هذا الموقع لا بد أن يكون نادرة الزمان.» قالت: «إنك تعرفينه جيدًا. قد رأيتِه في هذه الدار كما رأيته. وشهدت أنت نفسك أنك لا تعرفين أشرف منه خلقًا ولا أكبر همة ولا أعز نفسًا، رأيته وبيده خصلة الشعر التي كان أخي قد بعث بها إلى صاحب دمشق يستغيث به باسم نساء قصره. إن أخي ارتكب بذلك ذلًّا لم يمحه إلا هذا، فرد عليَّ شعري بعد أن أنقذ حياتي من الموت ونجَّى شرفي من الدنس.» فصاحت ياقوتة: «أظنك تعرفين الشاب الفردي.» فابتدرتها بلهفة وقالت: «نعم إياه أعني. أعني ذلك الشهم الباسل!» قالت ذلك وقد عاد إليها نشاطها وتحمست وبان الاهتمام في عينيها. فتقدمت ياقوتة إليها وهي تبتسم وقد شاركتها ذلك الشعور وقالت: «الآن فهمت المراد. قد عرفت الشاب جيدًا ولا أنسى ذلك اليوم.» فقالت سيدة الملك: «هل عرفت اسمه؟» فأطرقت الحاضنة وأعملت فكرتها كأنها تراجع ذاكرتها ثم قالت: «نعم علمت اسمه، ولكن هل تعلمين أنت مَن هو وما هي علاقته بصلاح الدين عدونا الألد الذي يشكو أخوك أمير المؤمنين ظلمه؟» قالت: «لا. لا أعلم.» قالت: «إنه من رجال خاصته، لا يخطو خطوة إلا وهو معه!» قالت وهي تبتسم: «فهو إذن قد نال ثمرة تلك المناقب السامية فتقدم عند مولاه. وما اسمه؟» قالت: «اسمه عماد الدين. وكثيرًا ما رأيته واقفًا بباب قاعة الذهب في انتظار صلاح الدين وهو عند مولانا أمير المؤمنين. ألم تشاهديه من نافذة قصرك؟» قالت: «لم أشاهده هناك، لكنني رأيته غير مرة واقفًا بباب هذا القصر يخاطب الأستاذ بهاء الدين قراقوش وعيناه لا ترتفعان إلى النوافذ، ولا يلتفت يمينًا ولا شمالًا كأنه لا يعرف أهل هذا القصر. وكثيرًا ما وددت لو يرفع بصره لعله يلتقي ببصري، وربما أقرأ في عينيه شيئًا يدلني على رأيه فيَّ، فلم يزدني ذلك إلا شغفًا بمناقبه. اعذريني يا خالة. طالما كتمت هذا الحب حياء وخجلًا وكنت أرى في كتمانه لذة. أما الآن فقد بحت به وقُضي الأمر.» فقالت: «أنت يا سيدتي تحبين عماد الدين، خادم صلاح الدين! بالله ما هذا؟ كيف علقت به من النظر إليه مرة واحدة. هذا أمر عجيب، إن بين أعمامك وفي قصور أخيك عشرات من الشبان أجمل منه، ويقع نظرك عليهم منذ أعوام، وكلهم يتمنون نظرة منك ولكنك لم تكترثي لأحد منهم!» فقالت سيدة الملك: «صدقت يا خالة إني أكثر منك استغرابًا لما أصابني من تلك النظرة! ولكنها في الحقيقة ليست نظرة. إنها ساعة أطول من العمر كله. كنت فيها بين الحياة والموت فنظرت ذلك الشاب وأنا أكاد ألقى وجه ربي أو أتلطخ بالعار. فمد يده وأنقذني. فخُيل لي أنه ملاك هبط عليَّ من السماء!» قالت ذلك وعادت إلى الإطراق وقد توردت وجنتاها. فقالت ياقوتة: «إذن أنت تحبين عماد الدين؟» فأبرقت عيناها رغم ذبولهما من البكاء والانكسار وابتسمت ابتسامة لطفت ما تكاثف في وجهها من الحزن، وأومأت برأسها أن «نعم»، وأسرعت إلى الغطاء فرفعته إلى رأسها استحياء. وقع قولها عند ياقوتة موقع الاستغراب وقالت وهي تزيح الغطاء عن وجهها بلطف: «نعم يا سيدتي إن عماد الدين شهم نادر المثال، ولكنه لا يليق بسيدة سليلة المعز لدين الله.» فنهضت وقعدت وقد انحل شعرها حتى غطى كتفيها وخديها ونظرت إلى ياقوتة نظر العتاب وقالت: «إن المعز — رحمه الله — لم يبلغ إلى هذا السؤدد ولا توارث أبناؤه هذا الملك الواسع إلا بمناقبه وعلو همته وكرم أخلاقه. ومناقب عماد الدين لا تقل عنها شيئًا. إنك تعلمين ما أتاه هذا الشاب من المروءة يوم واقعة العبيد، وكيف تفانى في سبيل نجاتي وحمل إليَّ خصلة الشعر ولا يعرفني. إن كنت فد نسيت ذلك فإني لا أنساه. لا أنسى يوم أتاني ذانك الشقيان وأرادا حملي من الدار فأنقذني هذا الغريب منهما بغير ثواب يرجوه ولا عقاب يخافه، وإنما فعل ذلك مندفعًا بأخلاقه السامية! فأنا من أجل هذه الأخلاق أحببته ولم أنظر إلى أصله وفصله.» وتوقفت لحظة وهي ترفع شعرها عن عينيها ثم قالت: «أتذكرين ذينك الرجلين اللذين همَّا بي في ذلك اليوم؟ إذا علمت الآن أنهما من أبناء الملوك أو الخلفاء وطلبني أحدهما هل ترضين أن أكون زوجة له؟» قالت: «معاذ الله! إنهما ساقطا الهمة.» قالت: «اعلمي أن أحدهما يغلب على ظني أنه أبو الحسن الشريف الذي تُرغِّبونني فيه، والآخر خادم له استعان به لاختطافي في وسط الغوغاء بعد أن علم أني لا أريده.» قالت ذلك وكأنها ندمت على ما فرط منها فسكتت وأطرقت. فقالت ياقوتة وقد تولتها الدهشة: «هل أنت على يقين مما تقولين يا سيدتي؟» قالت: «لا أقول إني على يقين، ولكنني أرجح هذا الظن كثيرًا. ومع ذلك فأنا لا أقول هذا ولا ذاك، وإنما أقول إني منذ رأيت عماد الدين وما أتاه من المروءة شعرت بشيء اجتذب قلبي نحوه، وكنت أتوقع أن أراه مرة أخرى يأتي فيها إلى أخي يطلب مكافأة على صنيعه. فلما لم يأتِ ازددت إعجابًا به وارتفعت منزلته في قلبي وتحوَّل الإعجاب إلى حب شديد.» ثم تنهدت وقالت: «ويلاه! هل هو يشعر مثل شعوري؟» قالت ذلك وخنقتها العَبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء، والحاضنة تستغرب هذا التعلق بنظرة واحدة فأخذت تخفف عنها وتقبِّلها وتقول لها «خففي عنك يا سيدتي … ارجعي إلى رشدك، إن مثلك لا يسترسل في عواطفه إلى هذا الحد مع شخص لم يره إلا بضع مرات ولا يعرف شعوره من جهته، تجلدي وفكري في الأمر. لو فرضنا أنك وأنت في هذا الهيام علمت أن عماد الدين يحب سواك كيف تكون حالك؟ تبصري قليلًا.» فاستجمعت سيدة الملك قواها واسترجعت رشدها وأطرقت وهي تتأمل في عبارة حاضنتها فرأت الحق معها. ولكن الحب سلطان مستبد لا يذعن للحق ولا يعرف الصواب. وإنما يلذ له الاستبداد بلا سبب والفتك بلا حساب. ولا يحلو الحب إلا أن يكون مستبدًّا؛ لأنه ومتى أذعن للأحكام العقلية والأقيسة المنطقية أو الاعتبارات الاقتصادية صار معلمًا أو تاجرًا أو فقيهًا. وإنما هو سلطان مطلق لا يقيده دستور ولا يردعه خوف من عقاب. فهو لا يُسأل عما يفعل ورعيته راضية باستبداده تعد ظلمه عدلًا وتحسب عسفه رفقًا. ذلك كان شعور سيدة الملك في تلك اللحظة كان عقلها يدلها على مكان الخطأ وهي لا تريد أن تراه. فاسترسلت في عواطفها ونظرت إلى ياقوتة والاعتراف على شفتيها والإنكار في عينيها وقالت: «صدقت يا خالة. ولكني لا أظنه يفعل ذلك … لا. لا. ولن مهما يكن فإني لا أرى سبيلًا إلى غير ما ذكرت فدبريني برأيك.» فتحيرت ياقوتة في الجواب ورأت الحديث قد طال وتوالت الغرائب التي كُشفت لها في تلك الليلة، فعزمت على استخدام الوقت للتفكير على انفراد لعلها تهتدي إلى حل يرضي سيدتها ويوافق ضميرها. فترامت على يدي سيدتها تقبِّلهما وهي تقول: «خففي عنك يا مولاتي. إني أَمَتُك أفديك بروحي. كوني مطمئنة وقد تعبت اليوم من هذا الحديث، وآن الرقاد فتوسدي فراشك. وأمهليني لأنظر في الأمر ولا بأس عليك في كل حال. فإن أخاك — حفظه الله — لا يجبرك على من لا تحبينه. وأنا أعلم منزلتك عنده لكن لا بد من تدبير طريقة لمشاهدة عماد الدين. توسَّدي فراشك وها إني ذاهبة. وسأفكر فيك كثيرًا الليلة وأما أنت فلا أظنك تفكرين فيَّ.» وضحكت مداعِبة ثم قالت: «فكري فيمن تحبين.» فاستلطفت سيدة الملك تعبيرها؛ لأنه كان من أقصى أمانيها أن توافقها ياقوتة على اعتقادها وتشعر معها بما في قلبها فيهون عليها كل شيء. فسُري عنها وأطاعت حاضنتها فرقدت وذهبت ياقوتة أيضًا إلى فراشها. ••• قضت سيدة الملك بقية الليل بين اليقظة والمنام لفرط قلقها وأفاقت في الصباح التالي على صوت المؤذن لصلاة الصبح، ولم يكن يُطلب منها القيام حينذاك لكنها لم تعد تستطيع رقادًا. فجعلت تتقلب على الفراش وأفكارها تائهة. وتذكَّرت أخاها وأحبت أن تعلم حاله بعد ذهابه من عندها هل شُفي مما كان فيه. فنهضت من الفراش والتفَّت بمطرف من الخز التماسًا للدفء وخرجت من غرفتها إلى ممر يؤدي إلى شرفة تطل على مصلى الخليفة، فرأت أخاها قد خرج للصلاة فاطمأن بالها عليه. ولما عادت إلى فراشها استقبلتها الحاضنة وسألتها عن حالها وأخذت تحادثها وتؤانسها ومشت معها إلى غرفتها وأعانتها في لبس ثيابها وأمرت بإعداد المائدة وجلست إليها وهي تقول: «أطمئنك عن صحة سيدي أمير المؤمنين فإنه في خير.» قالت: «عرفت ذلك من خروجه للصلاة، وأحمد الله على ذلك. ولكني أحب أن أراه.» قالت: «سترينه الليلة بعد رجوعه من قصر الذهب والفراغ من مهام الدولة. هيا بنا إلى الطعام الآن.» فمشت إلى غرفة المائدة فتناولت الطعام وهي تتوقع أن تفاتحها ياقوتة بالحديث عن عماد الدين فلم تفعل، فاستحيت هي أن تذكره. قضت نصف ذلك النهار وهي تتشاغل بشئون مختلفة. وأحست بعد الغداء بميل إلى الرقاد من فرط تعب أمس فتوسدت فراشها فنامت ملء جفونها. وأفاقت وقد هدأت أعصابها وهان عليها ما هي فيه بالنسبة إلى ما كانت عليه من التعب؛ لأن تعب الأعصاب يزيد صاحبه قلقًا ولا يريه الأمور إلا من وجهها الأسود. فنهضت من الفراش وقد أشرق وجهها وعاد إليه ابتسامه وصفَّقت تطلب الحاضنة فأبطأت عليها. ثم جاءتها وفي وجهها خبر فخفق قلب سيدة الملك عند رؤيتها ولم تصبر عن الاستفهام عما وراءها، فقالت ياقوتة: «ما ورائي إلا الخير يا سيدتي هلم بنا.» فأجفلت وقالت: «إلى أين؟ قالت: «إلى خزانة الجوهر.» فأعرضت عنها إعراض المنكر لما يسمعه وقالت: «أين الجوهر إنهم لم يتركوا فيها شيئًا.» قالت: «إنهم أخذوا كثيرًا وتركوا كثيرًا. لكنني لا أدعوك للجوهر يا سيدتي وإنما أريد ذهابك إلى تلك الخزانة لملاقاة سيدي أمير المؤمنين، فإنه أنفذ في طلبك إليه على أن توافيه إلى تلك الخزانة لسبب لا أعلمه.» قالت بلهفة: «أخي يطلب ذهابي لملاقاته هناك؟» قالت: «نعم يا سيدتي. ولا حاجة إلى تبديل ثيابك؛ لأنك تذهبين إلى ذلك المكان في ممر يؤدي إليه لا تجدين فيه أحدًا. هلم بنا.» قالت ذلك وأشارت إليها أن تمشي فلفَّت رأسها بملاءة لازوردية اللون ومشت وهي تفكر فيما عساه أن يكون الغرض من هذه الدعوة في ذلك النهار. خرجا من قصر النساء إلى ممر أخلاه الخدم والجواري. فمرت سيدة الملك ولم تجد أحدًا في طريقها حتى أتت خزانة الجوهر. وهي غرف عديدة نُصبت فيها الخزائن والرفوف وأُقيمت فيها الأرائك فوق الطنافس، ولم تكن دخلت تلك الدار من عهد طويل. ولكنها كانت تسمع بما تحوي من الذخائر النفيسة والجواهر الثمينة وتعلم أنها أُخذت في أيام المستنصر بالله أبي تميم لما غلب على أمره منذ نحو مائة عام. ولم تكن تتوقع أن تجد فيها شيئًا من الجوهر يستحق الذكر. وصلت إلى الباب فاستبقها الحاجب وأدخلها وأشار إلى ياقوتة بالانصراف فانصرفت. أما سيدة الملك فدخلت وعيناها شائعتان تبحثان عن أخيها. فرأته جالسًا في صدر القاعة الوسطى وحده على مقعد، وقد تخفف بعمامة صغيرة وبيده سبحة يَعُد حباتها وهو مطرق يفكر. فلما أنبأه الحاجب بمجيء أخته رفع بصره إليها وهش لها وأخذ يرحب بها فترامت عليه وسألته عن صحته فقال: «إني والحمد لله في خير وعافية، وكيف أنت؟» قالت: «طالما كان أمير المؤمنين سالمًا فأنا سالمة، أبقاه الله لنا ركنًا وسندًا.» قالت ذلك وهي تقرأ في وجهه خبرًا جديدًا. ولكنها تجاهلت وخاطبته وهي تقعد على وسادة بالقرب منه قائلة: «إني لم أدخل هذه الدار منذ سنين عديدة، وآخر مرة دخلتها كنت طفلة ولا أذكر أني علمت ما فيها و…» فقطع كلامها قائلًا: «وماذا عساك أن تعلمي؟» كفى أن تسمعي بما كان فيها قبل عهد جدنا الإمام المستنصر، رحمه الله. انظري إلى هذا الصندوق.» فنظرت إليه وهو متقن الصنعة وعليه نقوش فظنته يلفت نظرها إلى نقشه فقالت: «إنه جميل.» قال: «لا أعني جمال ظاهره، ولكنني أعني ما كان فيه من الحجارة الكريمة، أخبرني والدي — رحمه الله — أنهم أخرجوا منه في زمن المستنصر سبعة أمداد زمرد قيمتها ٣٠٠٠٠٠ دينار، تخاطفها الناس.» فدهشت من ذلك وقالت: «إن ذلك غريب نادر.» قال: «ولو أسرد ما كان من التحف في هذه الدار لاستغرق سردها فقط عدة ساعات، وإنما أذكر عقدًا من الجواهر قيمته ثمانون ألف دينار بيع يومئذٍ بألفي دينار. وأخذوا من خواتم الذهب والفضة فقط نحو ١٢٠٠ خاتم فصوصها من الجواهر المختلفة، فيها ثلاثة خواتم ذهب مربعة، على كل منها ثلاثة فصوص: أحدها زمرد والآخران ياقوت سماقي ورماني، بيعت باثني عشر ألف دينار. غير ما أخرجوه من الجواهر ونحوها، فإنها كانت تُحصى بالويبة وتُكال بالكيل. منها ويبة جواهر مشتراة في الأصل بسبعمائة ألف دينار باعوها بعشرين ألف دينار. وطاووس ذهب مرصع بالجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من زجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس. غير التحف المتوارثة عن الخلفاء أو المنقولة إلينا من العباسيين وغيرهم، ورقع للشطرنج أحجارها من الجواهر والذهب والفضة والعاج. كل هذه ومئات مثلها أُخذت في نكبة المستنصر ولا فائدة من الكلام الآن.» فانقبضت نفس سيدة الملك مما سمعته وقالت: «إن مصيبتنا قديمة يا أخي. ولا فائدة من التذكار الآن.» قالت ذلك وهي تتعجل ما في خاطر أخيها عن سبب استقدامها إليه. فقال: «صدقت ولكنني أطمئنك أن أولئك اللصوص لم يأخذوا كل ما كان لنا، فإن بعض خواصنا وأهل بطانتنا المخلصين يومئذٍ احتفظوا لنا ببعض ما كان من الذخائر ولا يزال مخبأ إلى الآن.» قال ذلك ونهض إلى خزانة داخلة في الحائط لا تلفت الناظر إليها ففتحها بمفتاح استخرجه من جيبه، ومد يده فأخرج منها علبة بها عقد من الجوهر يبهر النظر دفعه إليها فتناولته وجعلت تقلبه فقال لها: «خذيه جربيه على عنقك.» فتراجعت وأعادته إلى العلبة. فمد يده وأخرجه وألبسها إياه في عنقها وقال: «هذا لك.» فأرادت أن ترجعه فمنعها وقال: «خذيه إنه لا يليق بأحد سواك.» واستخرج من علبة أخرى خاتمًا حجارته من الزمرد والياقوت نحو الذي ذكره وألبسه إياها في إصبعها فلم يعجبها منه هذا الكرم ولحظ استغرابها فقال: «لا تستغربي، ما ترينه فإن في هذه الخزائن تحفًا أخرى لا يعلم بها سواي، وسأدفعها كلها إليك لئلا تذهب كما ذهبت تلك.» فتوسمت من كلامه شيئًا يعنيه لسبب طرأ عليه، فقالت: «ماذا تعني يا أخي، معاذ الله أن يكون ما تشير إليه. لا يتمتع بهذه الذخائر سواك وسوى أولادك.» قالت ذلك واختنق صوتها رغم إرادتها، لكنها تجلدت وهمَّت أن تتم كلامها فلحظت في عيني أخيها شيئًا كالدمع وهو ينظر إليها نظر المستعطف. ثم قال: «أنت لا تريدين أن تبقي هذه التحف!» أدركت ما يشير إليه من تمنعها عن قبول أبي الحسن زوجًا لها بعد أن تكفَّل بقتل صلاح الدين. فأحست بوخز الضمير وأثَّر فيها الأسلوب الذي اختاره أخوها لمعاتبتها. لكنها لا تستطيع أن توافقه، ولا تعتقد أن أبا الحسن يستطيع القيام بوعده ولم تجد الوقت مناسبًا للدفاع في تلك الساعة فقالت: «أنت تعنفني يا أخي على أمر ليس في طاقتي، فأنا قد عاهدت نفسي ألا أتزوج وإذا كان ذلك الرجل يقدر على شيء فليفعله ثم نرى ما يكون.» فرأى في جوابها شبه الرضا فقال: «إنما المطلوب قبل كل شيء أن تظهري الرضا به ليقدم على هذا العمل، أليس كذلك؟» قال ذلك وهو يبتسم ويهش ليسترضيها، فكادت تُغلب على أمرها وأوشك أن يحملها حبها لأخيها على أن توافقه، لكنها ما لبثت أن تصورت أبا الحسن فنفرت منه وتذكرت عماد الدين فاختلج قلبها في صدرها وتوردت وجنتاها. فظنها أخوها تريد إجابته لكنها تستحي فقال: «ما الذي يضرك أن تجيبي طلبي وهذا الرجل أكفأ إنسان لك، فضلًا عما وعدنا به من الخير؟ قولي إنك ترضينه خطيبًا لك، وإذا كنت تحسبين قبولك له مصيبة … فإنها مصيبة صغرى.» وأبرقت عيناه كأنهما تنطقان بسر يكتمه. وتشاغل بعد حبات سبحته. فأطرقت سيدة الملك وأعملت فكرتها في كلام أخيها فخافت أن يصح ظنها فقالت: «ماذا تعني يا أخي بالمصيبة الصغرى؟ وهل هناك مصيبة أكبر منها؟» – «يا أختي أن يطلبك رجل أعجمي من غير أهلك لا قِبَل لنا برد طلبه، فهمتِ؟» قال: «يتجاسر عليه الذي تجاسر على سلب حقوقنا من أيدينا واستبد بالأمر دوننا ونحن أحياء. الرجل الذي نخاف سطوته ونحسب لحركاته ألف حساب. ألا يستطيع هذا الرجل أن يطلب الزواج منك؟» فبُغتت واستبعدت ما يُفهم من كلام أخيها فقالت: «صرِّح يا أخي بما تقول. هل تعني صلاح الدين؟» قال: «نعم، إياه أعني، فما قولك؟» فتراجعت وقد اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها ولم تتمالك فجلست على المقعد وقد امتقع لونها وأوشك الدم أن يجمد في عروقها وسكتت. فقعد أخوها بجانبها وأحاط كتفيها بذراعه ليلطف من بغتتها وقال: «إني أزعجتك بهذا الخبر ولكنك أحرجتني. ولا تظني الأمر قد نفذ. إنه لم يطلبك صريحًا بعد. لكن رجلًا من خاصته جاءني في هذا الصباح وفاجأني بهذه المصيبة بعد أن مهَّد للكلام بمقدمات طويلة عريضة إلى أن قال: «إن السلطان صلاح الدين يريد أن يتشرف بهذا القِران، فأحب أن يسألك عن طريقي قبل الإقدام على الطلب لعل هناك مانعًا».» فقالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «هممت أن أجيبه بأنك مخطوبة إلى أبي الحسن لعلمي أن هذه الحجة تكفي للنجاة من هذه الورطة، لكني استمهلته في الجواب إلى الغد لأسألك، وقد اخترت هذا المكان للمقابلة حتى لا يكون معنا ثالث. ها إني قد أطلعتك على جلية الأمر فما رأيك؟ ألا ترين أن قبول ابن عمنا أولى؟» ولم يكن العاضد ينتظر منها غير القبول فلما أبطأت في الجواب وهي مُطرِقة كرَّر السؤال، أما هي فكانت تفكر في طريقة للنجاة من هذه الورطة؛ لأنها كانت لا تريد صلاح الدين ولا أبا الحسن. لكنها تفضل عماد الدين على كليهما. وحدَّثتها نفسها أن تصرِّح له بما يكنه ضميرها فخافت العاقبة. فلما كرر أخوها السؤال قالت: «صدقت، إن الاحتجاج بكوني مخطوبة قد يُرجِع صلاح الدين عن عزمه. قل له إني مخطوبة إذا شئت ولا تذكر لمن.» قال: «لكنه لا يصدِّق إلا إذا ذكرنا الخطيب لئلا يحسبنا نكذب لنتخلص منه. سأقول له إنك مخطوبة لأبي الحسن.» فابتدرته قائلة: «كلا. لا تقل هذا؛ لأن ذلك لا يكون أبدًا.» ولم تتمالك عن هذا التصريح وقد ارتفع صوتها رغم إرادتها. فبان الغضب في وجهه وقال: «كنت أجاملك وألاطفك قبل هذا المشكل. أما الآن فلا أرى لرفضك معنى بعد أن بينت لك السبب. ليست هذه شعائر الأخت المحبة لأخيها. وأنت تعلمين ما وعدنا أبو الحسن به. ولا شك أنه بعد أن يعلم أن صلاح الدين مناظره فيك سيزداد اهتمامًا في تنفيذ غرضه. قولي إنك قبلته وإلا ضعف اعتقادي في تعقلك وصدق محبتك. واعلمي مع ذلك أن أمير المؤمنين يخاطبك ويطلب ذلك منك وهو ولي أمرك.» قال ذلك بشيء من السلطة. فعظم ذلك التهديد عليها وهبت الحمية في صدرها ورجعت إليها عزة نفسها، فنظرت إلى أخيها نظر العاتب وقالت: «تهددني بما لك من السلطة علي، وبأنك ولي أمري؟ إن هذا لا يغير شيئًا من عزمي. وإذا شئت أن تنفذ هذه السلطة من نفسك فافعل. وأما أنا فيستحيل عليَّ قبول ذلك المنافق المرائي، وربما فضلت صلاح الدين عليه عند الضرورة. ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك.» فدهش العاضد لهذا التصريح وقال: «هل إلى هذا الحد تبلغ جسارتك وتخاطبينني بهذه القحة؟ أظنني أخطأت لأني شاورتك في الأمر. وكان لي ألا أستشيرك لأني ولي أمرك من جملة وجوه. وأنا فاعل ما أراه خيرًا لك. إذ يظهر لي أنك مستمسكة بالخطأ لغير سبب أعلمه. لم يبقَ إلا أن تخرجي للسوق وتختاري لك زوجًا من المارة وأبناء السبيل! ليس ذلك من شأن بنات الخلفاء. إن العناية جعلتك من طبقة الملوك وميَّزتك بالنسب الشريف فلا يجوز لك الاقتران بغير الأكفاء. وهذا أبو الحسن ابن عمنا وهو أكفأ إنسان لك.» قال ذلك وتحفَّز للمسير كأنه قال ما لا يقبل نقضًا ولا إبرامًا. أما هي فظلت واقفة وأوشكت أن تسقط على الأرض من التأثر؛ لأنها لا تقدر أن تبوح بما في خاطرها بعد أن رأت أخاها يُكبِر تفضيلها صلاح الدين، فكيف لو علم أنها تحب خادمه. فرأت السكوت في تلك الحال أولى وصممت أن تفعل ما يحلو لها ولو خالفت الشرع والعرف. فلما رأته يتحرك للمسير مشت بهدوء وسكينة ولم تَفُه بكلمة فظنها شعرت بسلطته عليها فقبلت. فكتم فرحه وظل على إظهار الغضب والعتب. وحالما خرجت من الباب رأت حاضنتها تنتظرها في الممر فرافقتها إلى غرفتها وقد لحظت الحاضنة تغيرًا بينًا في وجهها فأصبح همها استطلاع الخبر. أما سيدة الملك فإنها صممت على عمل لا يخطر لحاضنتها ولا غيرها، وفضلت البقاء على كتمانه لئلا تحول ياقوتة دون إنفاذه. خطر لها أن تستقدم عماد الدين وتفر معه من قصر أخيها وتنجو من ذلك الأسر. ولكنها لا تستغني عن ياقوتة في البحث عنه واستقدامه فعزمت على كتمان ذلك عنها. أما ياقوتة فإنها تهيبت من غضب سيدتها. ورغم ما لها من الدالة عليها لم تجسر على مخاطبتها. فأخذت تتذرع إلى استطلاع حالها بالتجاهل، فحالما دخلت الغرفة قالت لها: «ما لي أرى سيدتي غاضبة؟ إني أرى في جيدك عقدًا من الجوهر وفي إصبعك خاتمًا من الزمرد والياقوت لو كانا لي لزالت عني هموم الدنيا.» فانتبهت سيدة الملك إلى العقد والخاتم وكانت قد نسيتهما لفرط قلقها فنزعت العقد من عنقها والخاتم من إصبعها ورمت بهما إلى الأرض، وجلست على السرير وهي تتنهد. فالتقطت ياقوتة العقد والخاتم وهي تقول: «ما بالك يا سيدتي، ما الذي أغضبك؟ إذا كان هذا العقد قد غيَّرك أعطيني إياه.» قالت: «خذيه، بل هاتيه.» واسترجعته من يدها ووضعته في جيبها مع الخاتم. فابتسمت ياقوتة على سبيل المداعبة وقالت: «إذا كنت قد غضبت من أمير المؤمنين فما هو ذنبي يا سيدتي وأنا أتفانى في خدمتك؟» فأظهرت الارتياح إلى قولها وكظمت غيظها وقالت: «بارك الله فيك دعيني الآن.» قالت: «لا. لا أتركك حتى تقولي ماذا جرى بينك وبين مولانا أمير المؤمنين.» قالت: «إنه مولاك وليس مولاي!» قالت: «إنه مولانا بحكم الله، أطال الله لنا بقاءه.» قالت: «أطال الله بقاءه لكنه …» وسكتت وقد شرقت بدموعها. فقالت ياقوتة: «ما بالك قد غيرتِ عادتك معي، لماذا لا تشكين إليَّ همك لعلي أستطيع خدمتك بشيء. ألم نكن على موعد للنظر في أمر عماد الدين؟» فلما سمعت اسم عماد الدين سُري عنها وهان عليها الصبر والتفتت إلى ياقوتة وابتسمت وعيناها تلمعان من الدمع. فأثَّر منظرها في ياقوتة وأكبت على يديها تقبلهما وتقول: «بالله لا تغضبي يا سيدتي، ولا تعامليني بالجفاء. أفصحي لي عما يكنه ضميرك وأنا أمتك أفديك بروحي. قولي لا تخافي.» فتنهدت وهي تتجلَّد وقالت: «نعم كنا على موعد من أمر عماد الدين ماذا رأيت وماذا دبرت؟» قالت: «لم أرَ شيئًا، إن الأمر لك وأنا طوع إرادتك، ماذا تريدين أن أفعل.» فنظرت إليها نظرة اخترقت أحشاءها وقالت: «أريد أن يأتي عماد الدين إلى هنا في هذه الليلة!» قالت: «في هذه الليلة؟ ولماذا؟» قالت: «لا تسأليني عن السبب. أنت تقولين إنك طوع إرادتي وهذه هي إرادتي. أريد أن أرى عماد الدين هذه الليلة.» قالت: «لك عليَّ ذلك. خففي عنك الآن وارجعي إلى رشدك واحكي لي عما جرى لك اليوم مع سيدي أمير المؤمنين.» فلما اطمأن بالها من جهة استقدام عماد الدين خفَّ قلقها فجلست وأمرت حاضنتها أن تجلس وقصت عليها ما دار بينها وبين أخيها من أوله إلى آخره، فأثَّر ذلك في رأيها ورأت سيدتها أخطأت بمقاومة الخليفة، ولكنها لم تجسر على تخطئتها فأظهرت أنها ترى رأيها على نية أن تعود إلى البحث معها في الأمر بعد قليل، فطمأنتها أنها تفعل ما تريده وغيَّرت الحديث وشغلتها بمهام أخرى.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/5/
عماد الدين
قد علمت من حديث العاضد وأخته أن صلاح الدين بعث يخطب سيدة الملك شفاهًا، وسبب ذلك أن عيسى الهكاري لما خرج من دار العلم سار توًّا إلى صلاح الدين وأسرع في مقابلته على انفراد في خلوة، وتطرق في الحديث إلى خطبة أخت الخليفة وأقنعه بما تقدم من الأدلة السياسية، فاستحسن صلاح الدين رأيه واستمهله ليشاور أباه، فنهاه عن مشورته؛ إذ ربما اقتضى رأيه ملاطفة الخليفة وهم لا يرون ذلك. وذكره الهكاري بسعيه في مصلحته منذ عرفه. فقال صلاح الدين: «إننا قابضون على أَزِمَّة الدولة نفعل بها ما نشاء من عزل وتولية وغير ذلك، فكيف نطمع في الخلافة؟! وهذا لم يُقدِم عليه أحد قبلنا من غير العرب، وأخاف أن نطلب الزيادة فنقع في النقصان.» فقال: «لا أعهدك ضعيف العزم يا مولاي، إذا كنت لا تعرف أحدًا طلب الخلافة من غير العرب ألا يجوز أن تطلبها أنت أو تمهدها لأولادك بسبب الاقتران بأخت الخليفة؟ زد على ذلك أن سيدة الملك من أجمل النساء خلقة وأحسنهن ذكاء ودهاء. أما الخلافة فإذا طلبتها وأحوجنا النسب القرشي فإنه ميسور؛ لأن كثيرين من الصحابة القرشيين تفرَّقوا بالفتح ونزل بعضهم في بلاد الأكراد، فقد يكون جدك متسلسلًا من أحدهم.» قال ذلك وهو يُظهِر الجِد. وأدرك صلاح الدين أنه يهوِّن عليه ادعاء الخلافة بزواجه بأخت الخليفة، وإذا لزم النسب القرشي انتحل له نسبًا فيهم. ولكنه ما زال يتهيَّب من الإقدام على الخطبة، فلما رأى إلحاح عيسى قال له: «إذا لم يكن بد من العمل برأيك، فاجعل ذلك منك على سبيل الاختبار بلا كتابة مني.» قال: «إني فاعل ذلك، فأخاطب الخليفة في رغبتك وأرى ما يكون.» قال: «حسنًا.» وذهب الهكاري في تلك الساعة إلى العاضد وأطلعه على ذلك بأسلوب لطيف فاستمهله في الجواب كما رأيت. أما صلاح الدين فإنه بعد ذهاب الهكاري من عنده خلا بنفسه وراجع ما دار بينهما، فرأى أنه تسرَّع في الأمر، وكان ينبغي أن يكاشف أباه قبل الإقدام عليه. لكنه أجَّل ذلك حتى يعود الهكاري بالجواب وهو لا يزال في حِل من الأمر. وبعد قليل أتاه غلام يدعوه إلى الطعام مع أبيه في الجانب الآخر من قصر اللؤلؤة فمضى. وفيما هما في الغداء قال نجم الدين يخاطب ابنه صلاح الدين: «يا يوسف لم أرَ عندكم اهتمامًا بميادين السباق. لا ينبغي أن تترك رجالك يرتاحون طويلًا. أنشِئ لهم الميادين للمسابقة على الخيول، فإنهم بذلك تتقوى أبدانهم ويُشغلون عن الدسائس.» قال: «صدقت يا أبي، ونحن لا يمضي أسبوع لا نُجري فيه سباقًا، فمن فاز بالسبق قدَّمناه وخلعنا عليه. وأحب أن أجرب ذلك بين يديك في هذه الساعة، وسأختار من رجالي أمهرهم في الركوب.» ونادى عماد الدين فأتى مسرعًا وخفة الروح ظاهرة في وجهه والشجاعة تتجلى في عينيه والنشاط ظاهر في انتصاب قامته وامتلاء عضله، فلما وقع نظر نجم الدين عليه استلطفه فأطال النظر فيه وصلاح الدين يأمره أن يستعد للسباق مع آخرين سمَّاهم. فأشار عماد الدين مطيعًا وانصرف، فتحوَّل صلاح الدين إلى أبيه وهو يبتسم ابتسام الإعجاب وقال: «كيف رأيت هذا الشاب يا أبي؟» قال: «كنت عازمًا على أن أسألك عنه؛ لأنه وقع في نفسي موقعًا جميلًا وأتوسم فيه الشجاعة والبسالة ولا أظنه إلا بالغًا مقامًا رفيعًا بين رجالك.» قال: «وكيف إذا رأيت مهارته في ركوب الخيل وخبرت أخلاقه الحميدة؟ كفى تفانيه في سبيل خدمتي، إنه يحبني حبًّا مفرطًا فلو قلت له ألقِ نفسك في النار لفعل.» قال: «احرص عليه وقدِّمه.» قال: «إني لا أترك فرصة تمر إلا أكرمته، وهو الآن من حرسي ويستحق أن يكون من كبار القواد لكنه ما زال صغير السن وسيكون له شأن، وقد سرني أنك توسمت فيه ما توسمته أنا وتحققته بالاختبار.» فقال نجم الدين: «هل زوجته؟» فقال: «أردت تزويجه بجارية جميلة فلم أجد فيه ميلًا للزواج.» فهز نجم الدين رأسه وقال: «تلك هي مناقب أصحاب المطامع طلاب السيادة، ينصرفون بكليتهم إلى تلك المطامع فاحتفظ بالشاب.» وبينما هما في ذلك إذ سمعا قرع الطبول استعدادًا للسباق، فجلس صلاح الدين مع أبيه على أريكة نصبوها لهما بين يدي القصر تشرف على حلبة السباق وفوقها مظلة من الحرير الملون. وأطلق الفرسان الأعنة، وكان عماد الدين على جواد أزرق يمتاز عن سائر الجياد يعرفه الناظرون عن بعد، ولحظ نجم الدين أنه يفوق سائر الفرسان بالخفة واللباقة. ولعبوا ألعابًا عديدة وتسابقوا وتراموا وكفة عماد الدين راجحة. قضوا في ذلك بضع ساعات وصلاح الدين جالس مع أبيه تحت تلك المظلة. ثم أخذ الفرسان يتوافدون للمرور أمام المظلة لإلقاء التحية وصلاح الدين يثني على مهارتهم ويكلمهم بما يقتضيه المقام، حتى جاء عماد الدين فأمره صلاح الدين أن يترجَّل ويأتي إلى أبيه، فترجَّل ووقف بين يدي نجم الدين وقوف الاحترام. فقال له: «يا عماد الدين، ستكون رجلًا مقدَّمًا، ويسرني أنك حائز إعجاب سلطانك.» فأكب عماد الدين على يدي نجم الدين يقبِّلهما وقال: «إني عبد لمولاي السلطان أفديه بروحي. وإذا قُدِّر لي أن أكون شيئًا مذكورًا فيكون ذلك من فضله لا لاستحقاقي.» فربت كتفه متلطفًا وتناول خنجرًا كان في منطقته ودفعه إليه وقال: «احتفظ بهذا بالخنجر تذكارًا مني.» فأكبر عماد الدين هذا الإكرام من والد صلاح الدين وهو يعلم أن صلاح الدين نفسه يهابه، فترامى على يديه يقبِّلهما. وكان صلاح الدين يخاطب بعض الفرسان فلما فرغ من خطابه تحول إلى أبيه فوجده يخاطب عماد الدين فانبسطت نفسه لإعجابه بذلك الشاب، وقال: «يسرني أنك راضٍ عنه.» فقال نجم الدين: «وهو جدير بذلك وأرى أن تقدِّمه وتجعله من خاصتك.» قال: «هو من حرسي كما قلت لك.» قال: «أحب أن يلازمك ولا يفارقك ليلًا ولا نهارًا، وأن تكون له دالة الصديق فيدخل عليك بلا إذن.» فالتفت صلاح الدين إلى عماد الدين وقال له: «أمر والدي بذلك، فأنت من الآن لا تفارقني في حلِّي ولا ترحالي.» ونهض ومشى مع أبيه نحو القصر وعماد الدين يتبعهما. وأمر صلاح الدين قيِّم القصر أن يختص عماد الدين بغرفة قرب غرفته ففعل، وأصبح عماد الدين لفرط امتنانه لا يعرف كلامًا يؤدي به ما في خاطره، ولكنه أضمر أن يتفانى في خدمة مولاه. ويغلب في صادقي المودة والمخلصين في أعمالهم أن يكون لسانهم قصيرًا فيعبِّرون عن شعورهم بالعمل دون الكلام. ولم يكن لهم في ذلك اليوم شاغل مهم، فبعد العشاء ذهب كلٌّ إلى غرفته وقضى نجم الدين ليلته في غرفة ابنه صلاح الدين يتحادثان في شئون كثيرة ترجع إلى علاقة مصر بنور الدين. ثم انصرف كل منهما إلى فراشه. ••• بات صلاح الدين تلك الليلة كعادته وهو يفكر في أمر مصر ومطامعه فيها حتى غلب عليه النعاس فنام، وفد أُطفئت مصابيح القصر واطمأن الحراس إلا عماد الدين فإنه شعر بعد أن اختصه صلاح الدين بقربه أنه يجب أن يكون أكثر يقظة وسهرًا على حياته. فبات وهو يفكر في ذلك فحلم لفرط قلقه أن صلاح الدين يناديه فنهض مذعورًا وأصاخ بسمعه فلم يسمع شيئًا، فحدثته نفسه أن ينهض ويتسمَّع فخاف أن يوقظ مولاه وهو على يقين أنه سمع ذلك في الحلم. فعاد إلى فراشه وقد طار نومه وكثر تقلبه بين اليقظة والمنام. وإذا هو يسمع وقع خطوات، فهبَّ من رقاده وتسمَّع فلم يسمع شيئًا فغلب على خاطره أنه يسمع هاجسًا. ونظر إلى السماء فعلم أن الفجر قريب ورأى أنه لم يعد قادرًا على الرقاد فلبس ثيابه. وحالما لاح الفجر خرج ليطل على غرفة صلاح الدين فرآها مقفلة وكل شيء هادئ والحراس بالباب كالعادة فعاد إلى غرفته. ولم تمضِ هنيهة حتى سمع صلاح الدين يناديه فلبَّاه ودخل غرفته فرآه جالسًا على سريره بلباس النوم وقد أخذته الدهشة. فأسرع إليه وحيَّاه، فصاح به صلاح الدين: «ما هذا؟» وأشار إلى الوسادة عند رأسه. فتقدم عماد الدين فرأى خنجرًا مسلولًا عليه آثار دم قديم قد أُلقي عند موضع رأس صلاح الدين من الوسادة فأجفل وصاح: «مَن فعل هذا يا سيدي؟» قال: «لا أدري، لكني صحوت في هذه الساعة فرأيت الحال كما تراها.» فأطرق عماد الدين يفكِّر فوقع بصره على شيء عند قدمي السرير فإذا هو غمد ذلك الخنجر، فتناوله وتأمله فلم يذكر أنه يعرف صاحبه. وبينما هو يتفرَّس فيه إذ رأى في جوفه بطاقة استخرجها ودفعها إلى مولاه ففضها وقرأها فبانت البغتة في عينيه، ثم دفعها إلى عماد الدين وصفَّق فدخل عليه أحد الغلمان فأمره أن ينادي الأمير نجم الدين والده حالًا. أما عماد الدين فإنه قرأ البطاقة وأعاد قراءتها وتناول الخنجر وتأمله وأعاد النظر فيه، فقال صلاح الدين: «كيف يدخل الناس عليَّ وأنا نائم داخل هذا القصر والأبواب موصدة ولا يشعر أحد من الحراس؟» اعلم يا يوسف أنك وإن أقفلت عليك الأبواب وأقمت الحراس لا تقدر أن تنجو من القصاص. أراك قد بالغت في القحة وتطاولت وظلمت ونسيت شيخ الجبل زعيم الإسماعيليين. لو أردت قتلك الليلة لما أبقيت عليك، ولكنني عفوت عنك وأنا منذرك أن تصلح من سيرك. ولا تطمع أن تعرف مَن أنا، فإن ذلك بعيد المنال؛ إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك، وقد أكون خيطًا في عمامتك أو شعرة في رأسك، وأنت لا تدري! وإنما أطلب منك أن تلزم حدك والسلام. فاستولى السكوت على الجميع لحظة. ثم أشار نجم الدين إلى عماد الدين أن يقفل الباب وأن يجلسوا في خلوة لا يدخل عليهم أحد، ففعل وقلبه يتقد غيظًا وقد ساءه حدوث هذا الأمر في الليلة الأولى التي تولَّى فيها الحراسة الخاصة، وأصابه الجمود لا يدري ما يقول، وأدرك نجم الدين قلقه فناداه وابتسم له وقال: «لا تضطرب يا بني ولا يداخلك خوف، إنكم لا تعرفون هؤلاء القوم ولا أظن يوسف يعرفهم.» فقال صلاح الدين: «أذكر أني عرفت عنهم شيئًا. ولكن مَن هم الإسماعيلية هؤلاء؟ وما هذه الجسارة؟ وكيف يستطيعون الدخول عليَّ في غرفة نومي والحرس حولي. صدقوا، لم يكن يمنعهم شيء من قتلي.» فصاح عماد الدين: «خسئوا! إن ذلك بعيد عنهم. إنهم لا ينالون من مولاي السلطان شعرة قبل أن يُقتل زعيمهم اللعين.» ••• جلس نجم الدين وأمر عماد الدين أن يجلس وقال: «هل تعرف مَن هو هذا الزعيم؟» قال: «كلا يا سيدي. ومهما يكن من شأنه …» فقطع نجم الدين كلامه وقال: «تمهل يا شاب واسمع ما سأقصه على يوسف من خبر هذا الطاغية الذي يسمي نفسه رئيس الإسماعيلية الذين هم في الحقيقة طائفة الحشيشية.» ووجَّه خطابه إلى صلاح الدين وقال: «اعلم يا بني أن الإسماعيلية أو الباطنية أو الحشيشية طائفة من الشيعة لها بالدولة العبيدية علاقة قلَّ مَن يعرفها، ولذلك أحببت أن أفصِّلها لك. إن مذهب الإسماعيلية كان مذهب هذه الدولة عند الفتح وقد نصروه ولا سيما الحاكم بأمر الله، فإنه أحياه ونشره بمساعدة رجل فارسي اسمه حمزة الدرزي.» «وفي أيامه ظهر رجل فارسي اسمه حسن بن الصباح له حديث طويل مع نظام الملك وعمر الخيام لا محل له هنا، فأنشأ حسن هذا جمعية من الفدائيين وأقام في جبل «ألاموت» قرب قزوين منذ أكثر من مائة سنة. وكان يغري رجاله بالفتك بمن شاء من كبار الرجال، ومن جملة الذين قتلوهم نظام الملك وزير السلاجقة وكثيرون من القواد والملوك. كانوا يُقتلون ولا يُعرف قاتلوهم. أو إذا عُرِفوا لا يبالون أن يُقتلوا في سبيل تنفيذ أمر مولاهم!» وكان صلاح الدين مصغيًا لما يسمعه بكل جوارحه فقال: «كأني سمعت بشيء من هذا القبيل … ولكنني لم أكن أصدقه؛ إذ لا يُعقل أن يعرِّض الرجل نفسه للقتل على هذه الصورة تنفيذًا لأمر مولاه فقط.» فاعترض عماد الدين وعيناه تتقدان وقد هاجت الحمية في رأسه وقال: «نعم يا سيدي. هذا أمر معقول. إن الرجل ليفدي مولاه بروحه إذا كان يحبه ويحترمه.» فأدرك نجم الدين غرضه وقال: «بارك الله فيك يا بني، لكن مثلك قليل وأكثر الناس يفعلون ذلك طمعًا في شيء. أما الفدائيون هؤلاء فإنما يفعلون ما يفعلونه طاعة لرئيسهم وكفى. وقد اختلفوا في سبب هذا التفاني، فيقول بعض العارفين إن ابن الصباح كان يستهويهم بالسحر أو يسقيهم الحشيشة التي تأخذ بالعقل. ولذلك عُرفوا بالحشيشية أو الحشاشين، ومهما يكن السبب فإن وجود هذه الطائفة خطر على كبار الرجال.» «وكان مقرها في زمن «ابن الصباح» في قزوين بعيدًا عن هذه الديار. أما الآن فإن مركزها في جبل السماق من أعمال حلب، ولهم فيه معاقل وحصون ودعاة في الأطراف، ولهذه الطائفة تاريخ طويل قبل انتقالها إلى الشام، خلاصته أن الرياسة انتقلت بعد ابن الصباح إلى غيره وغيره، وكان رابعهم في «ألاموت» منذ نحو خمسين سنة يُسمى حسنًا أيضًا، ويضيفون إلى اسمه قولهم: «على ذكره السلام»، وكانت دعوته قد انتشرت في الشام فلما فتحها الإفرنج قرَّبوا الإسماعيليين واستعانوا بهم على المسلمين في مواقع كثيرة سرًّا وجهرًا. فأذن لهم ملك الإفرنج صاحب حلب أن يقيموا في جبل السماق (جبل النصيرية) ونزلوا «بانياس» وزعيمهم يومئذٍ اسمه بهرام، وفي أيامه تمكنوا من الفتك بطائفة من الملوك والقواد بمصر والشام، منهم الملك الأفضل أمير الجيوش بمصر، ويُقال إنهم فعلوا ذلك به؛ لأنه استبد بالآمر بأحكام الله. وبلغني أن الآمر تغلَّب على بهرام وقتله لسبب لا أعلمه، ولعله ساءه قتل أمير الجيوش وإن كان قتله دفاعًا عنه. وطافوا برأس بهرام في شوارع القاهرة هذه، وقتلوا أيضًا كثيرين من الإفرنج بحجج مختلفة، ومن هؤلاء ريمون صاحب طرابلس. ولهم بجبل السماق عدة قلاع حتى الآن، منها مصياف ومرقب وعليقة والرصافة وغيرها. وهم يعتصمون بها. أما زعيمهم الآن فأظنه أدهى الرؤساء جميعًا، واسمه راشد الدين سنان بن سليمان، وأصله من البصرة. خدم رئيس الإسماعيلية في «ألاموت» وتفقَّه في العلم والفلسفة، ثم انتقل إلى الشام وأقام في حلب، وهو أعرج وقد تظاهر بالتقوى والتدين فاجتذب العامة بذلك. ولا تجد شيئًا يستهوي العامة مثل الدين. وبلغني من بعض رجالنا هناك أن سنانًا هذا كان يجلس للوعظ على صخرة وهو جامد مثلها، فكثر دعاته وكانت دعوته لهم أن يتعاونوا، فتغلَّب على عقولهم بالدهاء أو السحر لا أعلم، حتى جعلوا أموالهم مشتركة بينهم حتى النساء والبنات. ثم منعهم من ذلك.» «وبلغ خبره إلى رئيس الإسماعيلية يومئذٍ في جبل السماق واسمه أبو محمد فاستقدمه إليه. وبعد قليل خلفه وتسلَّم زعامة هذه الطائفة منذ بضع سنوات فقط. وقد سمعت خبره قبل سفري بقليل، وهو الآن صاحب السطوة والكلمة النافذة، وقد التفَّ حوله ألوف من الدعاة الفدائيين الذين يفدونه بأرواحهم. إذا أمر أحدهم بقتل أمير أو ملك، فإنه سرعان ما يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الأمير أو الملك بصفة سائس أو خادم أو حارس. ولا يزال يترقَّب الفرص حتى تسنح له ويغمد خنجره في صدره. فالحمد لله أنهم لم يفعلوا ذلك هذه المرة، ولكن تهديدهم هذا أثقل وقعًا من القتل!» ••• كان صلاح الدين في أثناء سماع الحديث مطرقًا يفكر، وعماد الدين يراعي حركات نجم الدين بعينيه ويتلقف ألفاظه بأذنيه وقد هاجت أريحيته وجاشت الحماسة في صدره. فلما فرغ نجم الدين من الكلام نظر إلى عماد الدين فرأى عينيه يكاد الشرر يتطاير منهما فتجاهل. أما صلاح الدين فقال: «لا بد من وسيلة نتخذها لنتجنب شر هذه الطائفة. إننا غير متفرغين لمراقبتها.» فتصدى عماد الدين قائلًا: «إن مراقبتها لا تفيد شيئًا، ولا بد من قطع دابرها.» قال ذلك وعيناه تدلان على ما يعنيه من العزم الأكيد. فأجابه نجم الدين: «ماذا تعني؟» قال: «إذا أذن لي في إبداء الرأي فعندي أن أحسن دواء لهذا الداء أن يُقتل رئيس هذه العصابة فتتفرق عصابته.» فقال نجم الدين: «هذا أمر شاق لا سبيل إليه؛ لأن القوم معتصمون في الجبال الوعرة وعيونهم مبثوثة في كل مكان. وقد علمنا الآن أن منهم أناسًا في هذا القصر فكيف يتأتَّى الوصول إلى رئيسهم وقتله؟» قال عماد الدين: «إن مَن يحب مولاه يتفانى في خدمته كما قلت يا سيدي. فكما يستطيع الإسماعيلي الملعون أن يدخل غرفة السلطان صلاح الدين ويعمل ما عمله، فيمكن لسواه أن يدخل على زعيم الإسماعيلية ويغرس هذا الخنجر في صدره. وإذا قُتل بعد ذلك فقد أدَّى واجبًا لينقذ أنفسًا شريفة من الفتك؛ لأن هذا اللعين لا يتعمد إلا قتل العظماء. فالموت في سبيل قتله فخر يتطلبه كل أبي النفس.» فأحس نجم الدين أن الشاب يعني أن يذهب هو نفسه في هذه المهمة، فأراد أن يثني عزمه حرصًا على حياته لاعتقاده بالخطر الذي يهدده فقال: «إن هذا الأمر لا يُقدِم عليه إلا المجنون، ولكنا لا نعدم وسيلة أخرى لاسترضائهم بالمال، فإنهم كثيرًا ما يرتكبون القتل طمعًا فيه؛ إذ يغريهم بعض رجال السلطة بقتل أعدائهم.» فقال عماد الدين: «صدقت يا سيدي قد يسترضون بالمال، ولكن هذا لا نهاية له. وأما إذا قُتل زعيمهم فإن دابرهم ينقطع.» فقال: «ليس هذا بالرأي الصواب لأنه صعب، ولا تجد مَن يُقدِم عليه إذا عرف خطره.» فقال عماد الدين وهو يشير بيده إلى صدره وعيناه تلمعان حماسة: «هذا عبدك عماد الدين يقدِّم نفسه للقيام بهذه المهمة من هذه الساعة، وأرجو ألا ترد طلبي.» فقال نجم الدين: «بارك الله فيك، إنها حمية يندر مثالها. ولكننا في حاجة إليك هنا.» فقال: «وما الفائدة من وجودي هنا وهذه أول ليلة من حراستي أوشك مولاي السلطان أن يُقتل فيها. أما ذهابي فأرجو أن يكون قاطعًا فاصلًا، أستحلفك برأس مولانا السلطان صلاح الدين أن تأذن في قيامي بهذه المهمة وهذا شرف كبير لي.» وكان صلاح الدين في أثناء هذا الجدال غارقًا في التفكير في سبب وقوع هذا الأمر في هذه الليلة، فلما سمع اسمه انتبه لما يقوله عماد الدين فأجابه قائلًا: «إن هذه المهمة خطرة جدًّا ونحن في حاجة إليك هنا.» قال: «أقسمت برأسك أن أذهب فأذن لي.» فالتفت صلاح الدين إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال نجم الدين: «أطعني ودعْ عنك هذا الخطر.» قال: «إني عبد مطيع ولكني أقسمت برأس مولاي أني ذاهب في صباح الغد، وأحب أن يكون ذهابي سرًّا عن كل إنسان لا يعلم به سواكما؛ لأننا أصبحنا لا نعرف صديقنا من عدونا، فلا ينبغي أن يعلم أحد بسبب ذهابي.» فقال صلاح الدين: «إذا لم يكن بدٌّ من ذلك فامضِ، وفقك الله لما تريده، ولكنني كنت وأنتما تتباحثان أفكر في السبب الذي أوجب وقوع هذا الأمر الليلة فلم أهتدِ. ولكنني …» وتذكر خطبة سيدة الملك على يد الهكاري فترجح له أن هذا الأمر هو الذي بعث على تحمس أحد الإسماعيلية المستترين. ولكنه لم يجد هذا التعليل معقولًا فسكت. فلحظ أبوه تردده فقال له: «ما بالك يا يوسف؟ قل ما يخطر لك لعلك تتقي التصريح أمام عماد الدين الذي يفديك بروحه.» فقال: «كلا يا أبتِ، ولكنني فكرت في سبب ما حصل الليلة فلم يستقم حكمي ففضلت السكوت.» قال: «قل ما خطر لك.» قال: «أعترف لك يا أبي بأني ارتكبت خطأ في صباح أمس ساقني إليه تسرعي بإغراء صديق لي حميم. وذلك أني أمضيت أمرًا كان ينبغي قبل إمضائه أن أستشيرك فيه، وها إني الآن ألاقي عاقبة تسرعي.» قال: «ما ذلك؟» قال: «أتاني صديقنا عيسى الهكاري — وأنت تعلم صدق مودته لي ونصحه إياي — فاقترح عليَّ اقتراحًا يرى فيه خيرًا كبيرًا لي فأطعته، ولكنني لم أكتب فيه كتابة، بل تركت الأمر مبهمًا ريثما أستشيرك.» فلم يعد نجم الدين يستطيع صبرًا على فهم مراده فقال: «وما هو هذا الاقتراح؟» قال: «عرض عليَّ أن يخاطب الخليفة العاضد في أمر أخته سيدة الملك أن تكون زوجة لي.» فبانت البغتة في وجه نجم الدين وصاح فيه: «وهل وافقته على ذلك؟» قال: «ترددت كثيرًا، وأخيرًا رضيت أن يكتفي بالسؤال من عند نفسه.» قال: «ما زلت تُقدِم على أمور لا تليق بالسلاطين! ما لنا ولهذا الرجل ولأهل بيته؟ لماذا نعرض نفسنا للفشل؟ هل تعرف الفتاة؟» قال: «قيل لي إنها بارعة في الجمال جدًّا.» وكان عماد الدين يسمع الحديث ساكتًا، فعلم أنهم يتكلمان عن سيدة الملك وكان قد رآها يوم واقعة العبيد وأرجع إليها خصلة الشعر كما تقدَّم، وقد استلطفها لكنه لم يحلم بالحصول عليها؛ ولذلك شعر من طلب مولاه لها بلذة ممزوجة بالغيرة لذَّ له أن تكون تلك الفتاة الجميلة لسيده أفضل من أن تكون لسواه، لكنه لما تصور ذلك أحس بالغيرة منه. ولحظ نجم الدين في وجهه فكرًا في الموضوع فقال له: «هل تعرف الفتاة يا عماد الدين؟» قال: «أُتيحت لي فرصة رأيتها وهي في أشد الاضطراب، أعني يوم واقعة العبيد، حين أمر مولاي النَّفَّاطين برمي النفط على القصر، ثم أمرهم أن يكفوا عن رميه، وكنت في جملة مَن دخل القصر فرأيت الفتاة في ضيق أنقذتها منه وما زلت أذكر وجهها الجميل وشعرها الذهبي. إنها تليق بسيدي صلاح الدين. وهل هي تتوقع مَن هو خير منه؟» فقال نجم الدين وهو يُظهِر أنه واثق مما يقول: «ما لنا ولها؟ أشك في أن يوسف لم يطع الهكاري إلا حياء.» ووجَّه كلامه إلى صلاح الدين قائلًا: «هل أتاك الهكاري بجواب من الخليفة؟» قال: «ذكر أنه خاطب الخليفة فاستمهله في الجواب ولا ندري ما يكون.» فهز نجم الدين رأسه هز الإنكار وقال: «لا يسهل عليه الإيجاب في هذا الأمر؛ لأن هؤلاء المساكين شديدو التمسك بهذه البقية الباقية من سيادتهم. أعني تمسكهم بمجد الأسلاف وأنهم من سلالة بيت الرسول، وأننا لسنا أكفاء لبناتهم لأننا من الأعاجم.» قال ذلك وضحك ملء فيه والتفت إلى صلاح الدين فرآه مطرِقًا يفكِّر، وكان قد تذكَّر قول الهكاري أنه إذا احتيج إلى نسب عربي وضعه له، كما تذكر ما توقعه من صيرورة الخلافة إليه أو إلى أولاده بسبب ذلك الزواج، فلما التفت أبوه إليه تنبه قائلًا: «ألا يحق لهم الافتخار بذلك النسب الشريف؟» قال: «كيف لا! ولذلك قلت إنهم ضنينون به لا يفرِّطون فيه، فكيف ترجو قبول طلبك وأنت كردي؟» وضحك، فرأى صلاح الدين أن يقطع الحديث ليرى ما يأتي به الغد، فقال وهو يتحفز للنهوض من الفراش: «متى أتانا جواب الخليفة ننظر فيه.» ولما نهض كان الخنجر ما زال ملقى على الفراش فأسرع عماد الدين إليه وتناوله وهو يقول: «هل يأذن لي مولاي في أخذ هذا الخنجر؟» فقال: «أليس عندك خنجر؟» قال: «عندي لكنني أود أن أغمده في صدر ذلك الطاغية الذي هددنا به.» قال صلاح الدين وهو يلبس ثيابه: «أما زلت مصممًا على قتله؟» قال: «أقسمت برأس مولاي أن أقتله؛ إذ لا سبيل إلى الراحة منه إلا بذلك. فأرجو ألا تراجعني. وألتمس من مولاي الأمير نجم الدين أن يزودني برضاه ودعائه وقد أقسمت ألا تطلع شمس الغد إلا وأنا خارج القاهرة.» فابتسم نجم الدين وهو ينظر إلى عماد الدين نظر العطف والإعجاب وقال: «يسرني ما أراه فيك من الحمية والغيرة على يوسف، بل هي غيرة على المسلمين كافة؛ لأن هذا الإسماعيلي الشيطان قد أقلق العالم بدسائسه وفتكه فإذا تمكنت من قتله فأنت أمير كبير وقائد عظيم لا يتقدمك أحد من رجال هذه الدولة غير ابني يوسف هذا.» فأكبر عماد الدين هذا الوعد الصريح بالمكافأة الكبرى، فازداد تمكنًا من عزمه ولكنه أطرق خجلًا. فعاد نجم الدين إلى إتمام حديثه فقال: «ولكن هل تعرف الطرق وما يعترض عملك هذا من المخاطر؟» قال: «هبْ أني لا أعرف شيئًا الآن فلا يعجزني علمه.» قال: «فتبقى هنا بضعة أيام لأجل الاستعداد.» قال: «قد أقسمت على الخروج الليلة من هذا البلد. وإنما ألتمس ألا يعلم أحد بجهة مسيري ولا الغرض منه.» وكان صلاح الدين قد أتم لبس ثيابه فقال: «بورك فيك.» ونظر إلى أبيه فرآه ينظر إلى عماد الدين وهو يقول له: «وفقك الله في أمرك، كن شجاعًا واثقًا بنفسك، واعلم أنك إذا وفِّقت إلى ما تريد أتيت عملًا لم يستطعه سواك، فتنال ما لم ينله أحد.» فهمَّ عماد الدين بتقبيل يد نجم الدين ثم يد صلاح الدين وقال: «أستأذنكما في تدبير شئوني اليوم، وربما لا تريانني بعد الآن؛ لأني أحب أن أخرج من هذا البلد خلسة.» قال نجم الدين: «افعل ما بدا لك.» ••• خرج عماد الدين لتدبير سفره وإعداد ما يلزمه، وقد أخذت مهمته تتجلى له بما يحدق بها من الخطر العظيم، ولكنه صمَّم عليها ولا سيما بعد ما سمعه من الوعد بالمكافأة. قضى معظم النهار في منظرة اللؤلؤة وهو يتهيأ للسفر حتى أعد كل ما يحتاج إليه، وقد مالت الشمس إلى الأصيل. فانفرد في غرفته يفكِّر في مهمته وإذا بطارق بابه، فأجفل لأنه لا يطرق بابه أحد لا سيما وهو على أهبة السفر. فنهض وفتح الباب فرأى غلامًا صقلبيًّا يظهر من ثوبه وشكله أنه من غلمان قصر الخليفة. فاستغرب ذلك فدخل الغلام وقال: «لعلي في حضرة الفارس عماد الدين؟» إلى البطل الباسل عماد الدين. اعلم يا سيدي أنك نجَّيت نفسًا شريفة من القتل والعار. وهذه النفس تحتاج إلى رؤيتك لتكافئك على صنيعك. وقد كلفتني أن أرسل إليك العلامة التي ينطوي عليها هذا الكتاب لتتأكد صدق قولي. فأسرعْ إلينا على عَجَل فإننا نستصرخك، وقد لبيتنا من قبلُ بلا استصراخ. وحامل هذا الكتاب يرشدك إلى الطريق. فرغ من تلاوة الكتاب وهو يحسب نفسه في حُلم فظل هنيهة كالغائب يفكِّر فيما يعمله، أيجيب دعوة الداعي وهو على أهبة السفر؟ أم يعتذر وهي تستصرخه. وأحسَّ عند رؤية الشَّعر بجاذب يدعوه إلى الإجابة. وتذكَّر ما بعثه على حمل تلك الخصلة من دمشق إلى القاهرة حتى دفعها إلى صاحبتها حرصًا على كرامتها بدون أن يعرفها، فكيف تدعوه بلفظ الاستصراخ ولا يذهب إليها؟ وكان الغلام في أثناء ذلك واقفًا ينتظر الجواب، فلما استبطأه خطا خطوة نحو عماد الدين فانتبه هذا لنفسه فالتفت إلى الغلام وقال: «ما وراءك غير هذا الكتاب؟» قال: «هذا كل ما لدي، ولكنني أُمرت إذا استفهمتني عن الطريق أن أرشدك إليه.» قال: «وكيف ذلك؟ هل يجهل أحد الطريق إلى قصر الخليفة؟!» فابتسم الغلام وخفض صوته وقال: «ليس القصر مجهولًا، ولكن صاحب هذه الرسالة في قصر النساء، ولا سبيل لرجل إلى هناك ولا سيما بعد أن جعلتم الأستاذ بهاء الدين قراقوش قيمًا عليه فأصبح أمنع من عُقَاب الجو.» قال: «إذن كيف الوصول إلى المكان المقصود؟» قال: «إذا كنت قد صممت على الذهاب فإني أدلك على طريق توصلك إلى داخل قصر النساء ولا يشعر بك أحد.» فاستغرب قوله وقال: «أظنك تعني أن أتنكر بثوب جارية.» قال: «كلا. فإن هذا لا يغني شيئًا؛ إذ لا يستطيع أحد المرور من الباب إن لم يعرفه الحاجب باسمه ولقبه.» قال: «كيف إذن؟» قال: «أعرف طريقًا سريًّا في سراديب تحت الأرض بين هذه المنظرة وقصر الخليفة لا يعرفها إلا القليلون.» قال: «سراديب تحت الأرض؟» قال: «نعم يا مولاي. لما بنى الخلفاء الفاطميون قصورهم أرادوا أن يكون لنسائهم طريق يخرجن منه إلى الحدائق والبساتين أو إلى المناظر القائمة على ضفاف هذا الخليج. فاصطنعوا لهن سراديب تحت الأرض ينزلن إليها من وسط القصر ويمشين فيها بلا حجاب حتى يخرجن إلى البساتين. وفي جملتها السراديب المؤدية إلى هذه المنظرة فإنها كانت مطروقة أكثر من سواها لكثرة تردد الخلفاء وإقامتهم هنا. حتى إن ثلاثة منهم ماتوا في هذه المنظرة وحُملوا في هذه السراديب إلى القصر، وهم الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز. ثم أُهمل أمرها بعد نزول غير الخلفاء المنظرة. وتُنوسيت منذ عدة سنوات ولكنني أعرفها فإذا أحببت أن أسير في خدمتك فعلت.» ••• تحيَّر عماد الدين في أمره واستغرب وجود هذه السراديب وفكَّر هل يُجيب الدعوة أم يعتذر لأنه على وشك السفر. والتفت إلى نافذة الغرفة فرأى الشمس دنت من المغيب وهو لا بد له من مغادرة القاهرة في تلك الليلة كما أقسم ووعد، فنادى الغلامَ إليه وقال: «كم يقتضي لنا من الوقت لنصل إلى القصر؟» قال: «لا يستغرق سيرنا إلا دقائق معدودة.» فقال في نفسه: «أجيب الدعوة وأعود سريعًا فأسافر.» والتفت إلى الغلام وقال: «هلم بنا.» قال: «تمهَّل ريثما تغيب الشمس فنذهب في الظلام لئلا يشعر بنا أحد من أهل هذا القصر.» فتصوَّر عماد الدين الخطر المحدق به في هذه المهمة، لكنه أكبر أن يتخوف أو يحسب للمخاطر حسابًا وهو الذاهب لقتل زعيم الإسماعيليين. فقال: «انتظرني إذن خارج هذه المنظرة فألاقيك هناك بعد الغروب.» قال: «حسنًا، سأمكث في انتظارك تحت هذه الجميزة بجانب الخليج، فإذا رأيتك قادمًا تقدمت نحوك ومعي الرداء الذي ينبغي أن تلتف به في أثناء الطريق، وعند الوصول إلى القصر، لئلا ينكرك أحد من أهله.» قال ذلك وخرج وخلف عماد الدين على مثل الجمر من القلق. فلما خلا بنفسه استأنف النظر إلى ذلك الكتاب وأعاد قراءته، وتذكر المرة الأولى التي شاهد فيها صاحبة ذلك الشعر وما سمعه عنها أمس من أمر صلاح الدين، فرأى أنه قد يستطيع خدمة مولاه بإجابة سؤالها فيحرِّضها على قبوله. ولما تصور ذلك هبت الغيرة في قلبه. ولكنه تعمَّد الإغضاء عن هذا الشعور حبًّا في مصلحة مولاه. ولما أسدل الليل نقابه خرج بأخف ملابسه وسلاحه حتى دنا من الجميزة، فرأى شبحًا كأنه امرأة قادمًا نحوه فتقدَّم إليه وتفرَّس فيه فإذا هو الغلام قد التف بملاءة كالإزار أو المطرف ودفع إليه ملاءة ليلتف بها أيضًا، ثم مشى الغلام بين يديه في البستان وهما لا يريان شيئًا غير أشباح الأشجار تتراءى بينهما وبين الأفق. مشيا مدة لا يتكلمان، ثم التف الغلام إلى عماد الدين وأمسك بيده كأنه يقوده فهبط معه إلى حفرة. ومد الغلام يده إلى أعشاب يابسة أزاحها فوصل إلى باب من حديد فيه حلقة قبض عليها وأعانه عماد الدين ففتحا الباب فشعر عماد الدين بريح فيها رطوبة وعفونة، فعلم أنها أتت من ذلك السرداب. فقال له الغلام: «اتبعني يا سيدي. اقتص خطواتي.» فشعر وشعر بأنه يمشي على أرض مرصفة بالحجارة. ولكن الظلام كان شديدًا جدًّا وأخذت، رائحة العفونة تشتد كلما أمعنا في السرداب. فخاف عماد الدين أن يكون قد ورَّط نفسه فقال: «هل أنت على ثقة من أمر هذا الطريق؟» قال: «نعم وقد جئت فيه إليك اليوم.» فاطمأن خاطره وسكت وهو يخطو ويتلمس الجدران. ثم سمع وقع أقدام فوق السرداب فقال له الغلام: «نحن الآن تحت القصر الصغير، وبعد قليل نمر تحت الميدان وليس بعده إلا قصر الخليفة فقصر النساء.» ولما أحس الغلام أنهما تحت قصر النساء أشار إلى عماد الدين أن يقف فوقف. فتقدم هو الهوينى حتى رفع باب السرداب، فبصر عماد الدين بالنور وبعد قليل أتاه الغلام وأمسك بيده وأشار إليه أن يخرج. فصعد بضع درجات فإذا هو في غرفة فيها مصباح فنظر إلى نفسه وإلى رفيقه على النور بعد هذه السفرة في الظلام فرأى عليهما التراب ونسيج العناكب، فنفض الرداء ونظر إلى الغلام وأشار بيده يستفهم عما يعمله، فأومأ إليه أن ينزع الملاءة ففعل ودخلا حجرة مفروشة بأحسن الرياش فتحقق أنه في قصر النساء. ثم أشار إليه الغلام أن يقعد وينتظر وخرج هو، فقعد وقلبه يخفق تطلعًا لما سيراه في تلك الليلة، وتذكر مجيئه إلى هذا القصر من عهد غير بعيد، وكيف رأى سيدة الملك. وطال انتظاره حتى تولاه القلق. وإذا بالغلام قد عاد ومعه ياقوتة الحاضنة فحالما وقع نظره عليها تذكَّر أنه رآها قبل ذلك الوقت. أما هي فأسرعت إليه وحيَّته وأشارت إلى الغلام أن ينصرف فانصرف، وظلت ياقوتة وحدها مع عماد الدين فقالت: «لقد أتعبناك يا سيدي وأتينا بك في هذا الليل.» فقال: «لا بأس يا سيدتي وإنما أرجو ألا يكون لاستقدامي سبب يوجب القلق.» فتنحنحت وقالت: «لا والحمد لله. ألا تذكر أنك رأيتني يا عماد الدين؟» قال: «بلى أذكر ذلك جيدًا.» قالت: «أما أنا فلا أنسى قدومك في ذلك اليوم العصيب، وما أتيته من الأريحية والنخوة في إنقاذ مولاتي سيدة الملك من خطر الموت. إنها لا تنفك تذكر ذلك الفضل لك. وكثيرًا ما تمنت أن تراك لتكافئك على صنيعك ولكنك لم تعد.» فقال مسرعًا: «لأني لم أفعل ما فعلت لأجل المكافأة، وأنا غني عن ذلك بفضل مولاي صلاح الدين.» قالت: «طبعًا، ولكن المكافأة لا تُعطى دائمًا للحاجة إليها، بل هي تدل على امتنان المعطي للمعطَى له. وعلى كل حال فليس ذلك من شأني بل هو يرجع إليك وإليها فإذا التقيتما صرت أنا غريبة. أليس كذلك؟» قالت ذلك وضحكت وفي عينيها وغنَّة صوتها معنى لا يُعبَّر عنه بالكلام، فتوسَّم عماد الدين في كلامها معنًى اختلج له قلبه. ولم يصدِّق نفسه لما يعلمه من البون البعيد بينه وبين سيدة الملك، وهي أخت الخليفة أعظم نساء المسلمين بمصر. فقال وهو يتجاهل مرادها: «كيف مولاتنا سيدة الملك؟ أرجو أن تكون في خير وعافية.» قالت: «ألم تصل إليك رسالتها؟» قال: «كيف لا؟ ما الذي أتى بي في هذا الوقت؟» قالت: «وخصلة الشعر؟» فمد يده واستخرجها من جيبه وقال: «هذه هي.» قالت: «ألا تريد أن تردها إليها كما رددتها في المرة الماضية؟» قال: «بلى. وأنا جئت إجابة لدعوتك؛ لأنك قلت إن سيدة الملك تستصرخني، فهل هناك باعث مهم؟» قالت: «إنما بعثها على ذلك رغبتها في مكافأتك. وقد كلفتني أن أدفع إليك هذا العقد.» واستخرجت عقدًا من اللؤلؤ لم يقع بصر عماد الدين عليه حتى دُهش. وقدمت العقد إليه فتناوله ولم ينظر إليه بل أعاده إليها وهو يقول: «شكرًا لمولاتي. إنني في غنى عن تحميلها هذه الثقلة لأني لم أفعل ما فعلته طمعًا في المكافأة.» فاستعظمت هذه الأنفة منه وقالت: «إني مأمورة بإيصال هذه الهدية إليك، فإذا كنت لم تقبلها فإني أدعو صاحبتها لتقدمها بنفسها، ولكن احذر أن تكون قاسيًا يا عماد الدين.» فزاده هذا التعبير بيانًا لما توسمه في عبارتها الأولى، فسكت وقد ارتبك في أمره. ••• أما هي فنهضت وخرجت وتركت العقد في مكانها على البساط، وظل عماد الدين وحده وهو مرتبك لا يدري ما يقول أو يعمل. ثم عادت ياقوتة وسيدة الملك وراءها وقد التفت بالنقاب حتى لا يظهر إلا عيناها وبعض جبينها فلاحظ في عينيها ذبولًا وقد تغيرت عن ذي قبل. فلما رآها دخلت وقف لها وتأدب وأطرق فتقدمت إليه وهي تتماسك وقالت: «اجلس يا عماد الدين. إنك ذو فضل على حياتي وشرفي ولا حاجة إلى الوقوف لي. اجلس. قد أتعبناك بهذه الدعوة الليلة وأزعجناك فضاعفت فضلك علينا.» قالت ذلك وهي تقعد وتشير إليه أن يقعد فقعد، وظلت ياقوتة واقفة وهي تتناول العقد عن البساط ثم دفعته إلى سيدة الملك وقالت: «هذا العقد دفعته إليه حسب أمرك فلم يقبله.» فتناولته واتجهت نحو عماد الدين وقالت: «أترفض هدية صغيرة قدمتها إليك وأنت قد أهديتني حياتي؟» ومدت يدها نحوه والعقد في كفها وهي تتوقع أن يمد يده فيتناوله منها. فلما أبطأ تصدرت ياقوتة للكلام قائلة: «بماذا أوصيتك يا عماد الدين؟ ألم أقل لك لا تكن قاسيًا؟» فخجل ومد يده وتناول العقد وهو يقول: «إني أقبله هدية لا مكافأة.» ولما مد يده ليتناوله لمست أنامله كفها فأحس ببردها وارتعاشها، وأحست هي برعشة كهربائية سرت في عروقها. وبان البِشر في محياها فقعدت ياقوتة وهي تضحك وتقول: «ها إنه قَبِلَه منها ولم يقبله مني.» فقطع كلامها قائلًا: «لأنك أردت أن آخذه مكافأة على خدمة فلم أقبله طبعًا؛ لأني إن كنت قد فعلت خيرًا فلم أفعله طمعًا في المال … و…» فقطعت ياقوتة كلامه قائلة: «طمعًا في أي شيء إذن؟ يظهر أنكما تعارفتما قبل ذلك اليوم … و…» وضحكت فاستغرب تعريض هذه الحاضنة بحب متبادل بينهما وهو لا يعلم بشيء من ذلك، وإنما يعلم أنه استلطفها ومال إليها ولم يحلُم أنها استلطفته أو مالت إليه. ولذلك لم يفكِّر فيها لاعتقاده استحالة حصوله عليها. فلما سمع ذلك التعريض تحرَّك قلبه وأوشك أن يشعر بالأمل فاعترض أفكاره صلاح الدين وما سمعه في ذلك اليوم من خطبته إياها، فأنكر على نفسه أن يتصدى لأمر يخص مولاه وهو يفديه بروحه. وأصبح يعد حديثه معها خيانة، لكنه لم يجسر على التصريح بذلك فتجاهل وقال: «إنما فعلت ما فعلته يومئذٍ مدفوعًا بما تفرضه عليَّ المروءة، مَن يستطيع أن يرى سيدة الملك بين يدي الأشرار يريدون أن يلحقوا بها الأذى ولا يفديها بروحه؟» فالتفتت سيدة الملك نحوه وقد ضايقها النقاب وخافت أن يمنعها عن الكلام فأزاحته عن فيها وقالت: «لا بأس عليك من كشف هذا الوجه بين يديك، فإنك صاحب الفضل في بقائه، إنك تستغرب وجود رجل يستطيع أن يراني في ذلك الخطر ولا يفديني بروحه. لا تستغرب ذلك يا عماد الدين فقد كان في قصري عشرات من أهلي وعشيرتي لم يُقدِم أحد منهم على ما أقدمت عليه. وكأنك كنت على موعد من تلك الساعة. فدفعت إليَّ بخصلة الشعر صيانة لها ولي. فهل ألام إذا نظرت إليك نظري إلى ملاك هبط من السماء لإنقاذي؟ ولكني لا أعلم كيف كان شعورك في تلك الساعة.» فرأى في إطرائها إشارة إلى حبها، لكنه كذَّب نفسه وعاد إلى الإنكار فقال: «أما شعوري فهو أني وأنا في خدمة مولاي السلطان صلاح الدين، وقد أمرنا أن نكف عن رمي النفط، وقع بصري على زجاجة نفط سقطت في هذه الدار وأنا على يقين أنها ليست من عندنا فاستغربت وقوعها. ثم رأيت نذلًا ملثمًا اغتنم اشتغال أهل القصر بأنفسهم ودخل كالذئب الكاسر ومعه أناس أرادوا القبض عليك، فلم أتمالك عن الوثوب عليهم، ولم أكن أعلم أنهم يريدونك ولا أنك سيدة الملك أخت الخليفة. فلما اتجه نظري إليك ورأيت هذا الشعر الذهبي علمت أنك هي. وكانت تلك الخصلة في جيبي فدفعتها إليك.» فلما سمعت اسم صلاح الدين أجفلت، لكنها مالت إلى معرفة قصة خصلة الشعر فقالت: «من أين وصلت هذه الخصلة إليك؟» فتوقف عن الجواب حتى خاف أن ترتاب فيه ثم قال: «أتيت بها من دار السلطان نور الدين صاحب دمشق. ما لنا ولهذا؟ وقد سألتني عن شعوري في تلك الساعة فهو أني شعرت بحمية لم أستطع دفعها ووثبت لمقاومة أولئك الأشرار وأنا لا أعرفهم ولا أعرف على مَن هم واثبون. فلا فضل لي على سيدة الملك؛ لأني لم أكن أعرف أنها هي المقصودة بالأذى وإنما فعلت ما فعلته مدفوعًا بالمروءة.» وكان يتكلم وهي تنظر إليه وتكاد تتلقفه بعينيها، فلما وصل إلى ذكر المروءة صاحت فيه: «من أجل هذه المروءة شعرت بهذا الشعور ورغبت في استقدامك لأعترف بجميلك.» فخجل من هذا الإطراء وقال: «العفو يا سيدتي، إن مثلي لا يستحق هذا الإطراء من أخت أمير المؤمنين؛ لأننا عبيد ويجب علينا التفاني في الدفاع عن صاحب هذا المقام السامي.» قالت: «اسمع يا عماد الدين، لست عبدًا، ولو أنك اندفعت إلى هذه المنقبة لأجل أخت الخليفة لقلنا إنك فعلت ذلك تقربًا من أمير المؤمنين. ولكنك إنما دفعك إليها نفْسٌ أبية وهِمة عالية وأريحية ومروءة لا نعهد مثلها فيمن نعرفهم بين أظهرنا من الأمراء وأبناء الخلفاء. فهذه الخصال رفعت قدرك وجعلتك في مصاف الملوك … لا تقل إنك عبد، معاذ الله! بل أنت أمير من أعظم الأمراء، وستكون كذلك قريبًا إذا شئت.» وظهر في عينيها معنى لم يترك لعماد الدين سبيلًا للتجاهل، وأعجبه قولها إنه سيكون أميرًا وهو في ذلك اليوم أوشك أن يصير من الأمراء بما آنسه من إعجاب نجم الدين وتقديمه. وتذكَّر المهمة التي هو ذاهب فيها وما وعده به نجم الدين إذا فاز بها. فتفاءل من مطابقة قولها قول نجم الدين إنه أمير وسيصير أميرًا عن قريب. ثم انتبه فجأة إلى أنه قد مضى هزيع من الليل فخاف أن يطول الكلام في تلك الجلسة، ولم تعجبه مقدمات الحديث؛ لعلمه بما طلبه صلاح الدين من أخيها. وخُيل له أنها استقدمته لأمر يتعلق بذلك الطلب؛ إذ لا يزال يستبعد أن يكون هو المقصود به، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «إذا صرت شيئًا مذكورًا فإنما يكون الفضل فيه لمولاتي سيدة الملك؛ لأنها أحسنت الظن بعبدها فقدَّمه مولاه السلطان صلاح الدين في مساء أمس حتى جعله أقرب أعوانه إليه.» فلما سمعت ذكر صلاح الدين للمرة الثانية أجفلت وانقبضت نفسها وتذكرت ما جرى لها بسببه ولم يعجبها اقتران اسمها باسمه في هذا الموضوع، لكنها سُرت لقوله إن صلاح الدين قدَّمه فقالت: «لا غرابة في تقديمك، فأنت أهل لأكثر من ذلك. إنك أمير وسيد وستنال مقامًا لم ينله صلاح الدين ولن يناله هو ولا غيره من السلاطين أو الأمراء. هذا إذا شئت.» وتلعثم لسانها وغُلبت على أمرها وأبرقت عيناها وبان الحياء في محياها، فأطرقت وكأنها ندمت على ما فرط منها، فجعلت تتشاغل بتثنية طرف جديلتها المرسلة على صدرها من تحت النقاب. أما هو فلم يبقَ عنده شك فيما تعنيه، واستعظمه منها وهاجت عواطفه وأحس بانعطاف جديد نحوها بعد أن سمع تصريحها أنها تحبه وأنها تفضله على صلاح الدين. لكنه تذكَّر أن مولاه صلاح الدين يريدها مع أنه لا يرجو أن ترضى به فاستنكف أن يقوم مقامه أو يقف في سبيله أو يعتدي عليه وهو صنيعته وقد صمَّم أن يفتديه بروحه. فلم يتمالك عن النهوض وقال: «إن سيدتي بالغت في إطراء عبدها كثيرًا، فأنا صنيعة مولاي السلطان، ولا أخفي أني ذاهب الليلة في مهمة تخصه وأخاف أن أتأخر عنها إذا أطلت المقام هنا.» فأمسكت بيده وأقعدته وقد بانت أنفة الملوك في وجهها وقالت بصيغة الأمر: «لا. لست عبدًا لأحد ولا صنيعة أحد، وقد قلت لك إنك أمير وسيد. لا، لا ينبغي أن تذهب في خدمة أحد إني في حاجة إليك وقد استصرختك. أين حميتك ومروءتك؟» فلما قبضت على يده سَرت الرعشة في أعضائه وقعد بالرغم منه. لكنه لما سمع كلامها خاف أن يُغلب على أمره فقال وهو يتحفز للنهوض: «إن هذه المروءة نفسها تحملني على الذهاب الآن؛ لأني تعهدت بأمر لا بد من الذهاب فيه وهو يخص مولاي صلاح الدين. وإذا كانت مولاتي ترى فيَّ هذه المناقب وأنا صنيعة صلاح الدين وخادمه، فكيف لو عرفته هو؟» فنفرت من هذا الجواب، وكانت لا تزال قابضة على يده فتركتها وأعرضت بوجهها وهي تظهر الغضب، فتصدت الحاضنة ياقوتة وقالت: «ما هذا يا عماد الدين؟ تخاطبك مولاتي من الشرق فتجيبها من الغرب؟ ألم تفهم مرادها؟» قال: «نعم فهمت، ويسرني رضاها عني وقد غمرتني بفضلها وإنعامها. ولكنني صنيعة السلطان صلاح الدين وأنا ذاهب في خدمته.» وتحوَّل نحو سيدة الملك وقال: «لماذا غضبت مني يا سيدتي؟ إنما ألتمس رضاك؟» فسرَّها عتابه، فالتفتت نحوه وعيناها تعاتبه وقالت: «لأني أخاطبك وأطلب الجواب عن نفسك فتجيبني عن صلاح الدين. ما لنا وله؟ دعه في سلطانه إنه لا دخل له في هذا الحديث. ألم تفهم؟» فتحيَّر عماد الدين في أمره وارتج عليه وعلم أنها لا تريد صلاح الدين، وأوشك أن يُغلب على عقله. ومَن الذي يقف هذا الموقف ولا يغلبه الهيام ويتسلط على قلبه؟ لكن عماد الدين كان قوي الإرادة شديد الاحترام لصلاح الدين، وكان تلك الليلة في شاغل عن كل شيء بأمر زعيم الإسماعيلية وسفره فتجلَّد ونهض بلطف وهو يقول: «قد فهمت يا سيدتي على قدر إمكاني، وإذا لم أفهم فلأني أرى نفسي لا أستحق هذه النعمة. وما زلت أرى مولاي صلاح الدين أحق بها. ولا تغضبي يا سيدتي، إن صلاح الدين لم تعرفيه، ولو عرفته لضربت بعماد الدين عرض الحائط. ومع ذلك فإني طوع أمرك ولكن …» فقطعت كلامه وتوجهت نحوه وهي تبتسم والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «لا تقل ولكن. بل قل إنك تطيعني فيما أطلبه.» قال: «أطيعك في كل شيء، ولكن بعد رجوعي من هذا السفر. إن سفري لا بد منه وقد أقسمت أن أكون في صباح الغد خارج هذا البلد. ومضى بعض الليل وأنا لم أتحرك من مكاني. فبالله اسمحي لي بالانصراف الآن.» فقالت والدهشة ظاهرة في وجهها: «تنصرف الآن، إلى أين؟» قال: «إلى منظرة اللؤلؤة، ومن هناك أركب حالًا وأسافر.» قالت: «تسافر؟ ويلاه إلى أين؟» قال: «في غرض يختص بمولاي السلطان.» فأطرقت وهي لا تدري ما تقول، فخاف أن يجر الحديث إلى ما لا يقوى على دفعه، وقد أحس أن الحب كاد يستولي على إرادته وهو حريص على القيام بوعده ولا سيما بعد أن أقسم وصمَّم فقال: «اسمحي لي يا سيدتي بالانصراف. واعلمي أني رهين أمرك، ولولا ما سبق من تعهدي بأمر السفر لما خالفتك في شيء. ولكنني سأعود سالمًا إن شاء الله، وعند ذلك لا ترين مني إلا ما يرضيك. أستودعك الله الآن.» ••• قال ذلك ومدَّ يده لمصافحتها فلم تمدَّ له يدها رغبة في استبقائه لتتم حديثها أو لعلها تثنيه عن السفر. وإذا هي تسمع وقع أقدام مسرعة خارج باب الغرفة فنظرت إلى ياقوتة فرأتها قد امتقع لونها وتحفزت للنهوض. ولم تكد تقف حتى رأت غلامها الذي جاء بعماد الدين داخلًا والبغتة على وجهه من الخوف فصاحت فيه: «ما وراءك؟» فقال وصوته يرتجف: «إن الأستاذ بهاء الدين قراقوش يطلب أن يراك.» فأجفلت عند ذكر اسمه وقالت: «ولماذا؟ ما له ولنا؟» قال: «كنت ساهرًا لمراقبة كل حركة كما أمرتني الخالة أطل على القصر من شرفة الإيوان فرأيت شبحًا قادمًا من الخارج نحو باب هذا القصر لم أعرفه؛ لأنه ملتف بعباءة كبيرة كأنه جاء متنكرًا، فجعلت أراقبه حتى وصل إلى باب القصر وطلب مقابلة الأستاذ بهاء الدين. فجاء لمقابلته ودار بينهما حديث لم أفهمه، ولكنني لحظت أن القادم ألحَّ عليه أن يفتش داخل القصر وتأكد لي ذلك لما رأيت الأستاذ بهاء الدين دخل القصر بسرعة ورجع ذلك الرجل كما جاء. وسمعت بهاء الدين يأمر أحد الخصيان بالذهاب إلى سيدتي فأسرعت لأخبرك بذلك.» فاستولت الدهشة على الجميع وظلوا سكوتًا إلا سيدة الملك فقالت: «تبًّا لذلك الخائن. لا أعلم كيف اطلع على مجيء عماد الدين إلى هنا حتى وشى بنا إلى الأستاذ.» فقالت ياقوتة: «أتظنين مجيء بهاء الدين يتعلق بعماد الدين؟» قالت: «لا بد من ذلك، ولكنه سيعود خائبًا.» فقال عماد الدين: «لا تخافي يا سيدتي إن روحي فداك ماذا جرى؟» قالت: «لم يجرِ شيء، ولكنني سآذن في ذهابك برغم إرادتي. وهذا يسرك ولكنه يسوءني.» والتفتت إلى الغلام وقالت: «يا غلام، عُدْ بعماد الدين من هذا السرداب كما جئت به منه.» والتفتت إلى عماد الدين وقالت: «أرجو أن تبقى على وعدك وأن تذكرني في أثناء سفرك. واعلم أن صاحبكم بهاء الدين هذا قد قطع كلامي وحال دون إتمامه وأنا ما زلت في أوله، لكنني أترك فَهْم الباقي إلى فطنتك وما يدلك عليه قلبك. وأحسبني عبَّرت عن مرادي بملامحي أكثر من نطقي! كنت قبل استقدامك في يأس شديد، وكنت أرجو أن يزول كل يأس بحضورك. فإذا أنت على سفر، ثم جاء هذا الأستاذ فلم أتمكن من إتمام شكواي، فأقول لك بالاختصار إني أفكر فيك دائمًا وأنا سجينة في هذا القصر. ويا حبذا لو أني أخرج منه معك الساعة.» قالت ذلك وشرقت بدموعها. فكان لذلك وقع شديد على قلب عماد الدين وهو شاب في مقتبل العمر وبين يديه أشرف نساء مصر وأجملهن تشكو له حبها وتدعوه إلى قربها، فهاجت عواطفه وكاد يُغلب على أمره وينسى مهمته، وإنما عصمه أدب نفسه وعلو همته واحترامه لمولاه فتجلد وسكت، لكنه أشار برأسه وعينيه أنه رهين أمرها بعد عودته، وأرادت أن تستزيده إيضاحًا فتصدت الحاضنة بلهفة قائلة: «يكفي يا سيدتي. يكفي. إن بهاء الدين يطلب مقابلتك بإلحاح ولا أستطيع استمهاله.» وتقدَّمت إلى عماد الدين فأمسكت بيده وجرته حتى خرج من تلك الغرفة إلى باب السرداب. وكان الغلام في انتظاره هناك وقد فُتح الباب، فالتف كل منهما بردائه وذهبا، وأُغلق الباب وعاد كل شيء إلى أصله. وتمشت سيدة الملك إلى غرفة الاستقبال فرأت قراقوش في انتظارها هناك. فأظهرت الاستغراب من طلبه مقابلتها في تلك الساعة. فقال: «بلغني أن رجلًا غريبًا دخل هذا القصر الليلة أين هو؟» فقالت: «تسألني سؤالًا أنت أولى بالجواب عليه؛ لأن مفاتيح القصر بيدك وقد سددت علينا الطرق والنوافذ، فإذا دخل غريب علينا فأنت المسئول.» قال: «لم يدخل أحد من باب القصر.» قالت: «هل هبط من السماء؟» قالت ذلك بغضب. فقال: «لا تغضبي يا سيدتي، إنما أتصدى للسؤال حرصًا على كرامة سيدة الملك وعملًا بأمر أمير المؤمنين.» فضحكت ضحكة استهزاء وغضب وقالت: «ما أحرصكم على أوامر أمير المؤمنين وكرامة أخته! مَن أنبأك بدخول الرجال إلينا خلسة؟» فخجل بهاء الدين من هذا التوبيخ وندم على تسرعه وقال: «لم أقل شيئًا من ذلك يا سيدتي، ولكنني أقول ما بلغني ولم أسمع من رجل حقير أو جاهل.» فقطعت كلامه وقالت: «مهما يكن من أمر الذي بلغك فإنه نذل كاذب، هذا هو قصري ابحث فيه عمن شئت.» قالت ذلك وتحوَّلت من القاعة نحو غرفتها والحاضنة تهرع في أثرها وقلبها يرقص فرحًا للنجاة من تلك التهمة الشنيعة. ••• فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك في غرفتها أكبت عليها وجعلت تقبِّلها وتداعبها وهي ساكتة وقد عادت إليها هواجسها ثم نهضت وقالت: «دعيني يا ياقوتة، دعيني وشأني، إني تعيسة شقية، ويلاه ما هذا البلاء! لم أكد أتوسم بابًا للفرج حتى أُقفلت عليَّ الأبواب وسُدت دوني السُّبل.» وأخذت في البكاء. فعملت ياقوتة على التخفيف عنها وقالت: «لا تنكري نعمة الله، ألم تطمئني إلى أنه يحبك؟ وهذا ما كنت تطلبين معرفته و…» فقطعت كلامها بغضب وقالت: «يحبني؟ هل فهمت من قوله أنه يحبني. ألم تريه كيف كان مرتبكًا في أمره وكلما ذكرت له ما في نفسي حوَّل الموضوع إلى مولاه صلاح الدين. إنه يحب مولاه فقط.» قالت ذلك ومسحت عينيها بمنديلها وهمت أن تعود إلى الكلام. فسبقتها ياقوتة قائلة: «ولكن حبه هذا مبني على همة عالية وأريحية و…» قالت: «وما يفيدني إذا كانت هذه المناقب فيه ولا يحبني. ثم هو مسافر في مهمة لخدمة مولاه، ولم يشأ أن يتأخر ساعة لأجلي، وأنا تركت حسبي ونسبي وعرضت نفسي لغضب أخي وسائر أهلي من أجله، فهل يدل هذا على حبه؟» قالت: «لا شك في أنه يحبك، وقد توسمت ذلك في عينيه، لكنه شهم إذا وعد وفى. وقد أقسم أن يسافر الليلة فلا يريد أن يحنث في يمينه. وأؤكد لك أنه لو طال جلوسنا برهة لرأيت منه كل ما يسرك؛ لأنه لم يكن في أول الحديث يصدق أنك تحبينه ولم يكن يحلم بهذه النعمة. فلما دنا من الموضوع جاء الطواشي وكدَّر علينا أمرنا. ولكن كوني مطمئنة أنه سيعود إليك.» فغلب عليها الأمل — والمحب كثير الريب لكنه سريع التصديق قريب الأمل — فلما سمعت قولها إنه يحبها وإنه سيعود إليها أشرق وجهها وبان الابتسام حول شفتيها، وأقبلت بوجهها نحوها وقالت: «صحيح؟ هل أنت على ثقة مما تقولين؟ هل هو يحبني؟» ثم أطرقت كأنها ثابت إلى رشدها وضمت خديها بين كفيها وقالت: «ويلاه! ماذا جرى لي؟ مَن أنا؟ ألست سيدة الملك العاقلة الحازمة ابنة أمير المؤمنين وأخت أمير المؤمنين من سلالة فاطمة الزهراء بنت الرسول؟ ما الذي أصابني حتى صرت كالمجنونة وأصبح قلبي أسيرًا بين يدي شاب غريب لا حسب له ولا نسب، أتسقَّط ما يجود به عليَّ من كلمة عطف أو تودد؟ وهؤلاء أبناء عمي الشرفاء يتمنون رضاي! لله ما أشد وطأة الحب وما أقوى سلطانه!» فلما سمعتها ياقوتة تقول ذلك توسمت منها الرجوع إلى الصواب لعلها تنجو من لواعج الحب فبادرتها قائلة: «ألم أقل لك يا سيدتي؟ قد كنت في نعيم وراحة قبل أن …» فأسرعت سيدة الملك فوضعت كفَّها على فم ياقوتة تعجيلًا في إسكاتها وقالت: «ومع ذلك فإن الحب يعزيني عن كل شيء. يكفي ما رأيته من اقتناعي بكلمة من عماد الدين لو قالها لنسيت كل شيء. ومع ذلك فإن أملي بأن أسمعها منه أنساني القصور والخلافة والنسب الشريف. أنساني كل شيء. ذلك هو الحب يا ياقوتة. ليس في الدنيا ألذ منه إذا كان متبادلًا.» فعادت ياقوتة إلى مسايرتها وقالت: «هذا ما قلته لك يا سيدتي، فاتكلي على الله واصبري فإن الفرج قريب.» فأحبت سيدة الملك أن تختم الحديث بهذا الوعد، فهمَّت بالذهاب إلى الفراش وياقوتة تساعدها. أما عماد الدين فإنه دخل السرداب مرغمًا ولم يكن يريد الرجوع هاربًا من وجه قراقوش أو غيره. ولكنه فعل ذلك صيانة لكرامة سيدة الملك وفرارًا من التأخير عن المهمة التي هو سائر فيها. مرَّ في السرداب متحمسًا والغلام يسير بين يديه حتى وصل إلى الطرف الآخر عند منظرة اللؤلؤة. فخرج وعاد الغلام إلى القصر. مشى عماد الدين بين الأشجار يطلب غرفته وإذا هو يسمع المؤذن يدعو الناس لصلاة الفجر فأجفل. ولم يكن يظن نفسه تأخَّر بهذا المقدار فأسرع إلى غرفته وأمر بإعداد جواده واستعد للسفر وهمَّ بالخروج قبل طلوع النهار حسب وعده. وإذا بصلاح الدين يناديه من غرفته فأسرع ملبيًا فرآه قاعدًا في فراشه فأكب على يده يقبِّلها فقال له: «أنت مسافر يا عماد الدين؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد أبطأت قليلًا ولكن لا تطلع عليَّ الشمس إلا خارج القاهرة كما قلت.» قال: «كنت أحب أن أراك قبل الآن وقد سألت عنك مرارًا فلم يجدوك في حجرتك. أحببت أن أراك لعلي أثنيك عن عزمك وأنت سائر في مهمة يمكن الاستغناء عنها، وربما كنت أحوج إليك هنا مما في الخارج.» قال: «إني طوع أمر مولاي، لكنني قد تأهبت للذهاب، فادعُ لي بالنجاح وإذا فزت فببركة سلطاني ومولاي. وإذا متُّ فإن روحي فداه.» قال ذلك ووقف ينتظر الأمر، فأجابه صلاح الدين: «سِر يحرسك المولى، ولا أوصيك بالشجاعة فإنك شجاع، ولكنني لا أحب أن تلقي بنفسك إلى التهلكة فإنك عزيز علينا.» فعاد وقبَّل يد صلاح الدين، وخرج فركب جواده وسار، ولم تمضِ دقائق حتى صار خارج القاهرة وهو عليم بالطرق ومسالكها. وحالما خلا بنفسه عادت إليه هواجسه بما لاقاه من الغرائب المدهشة في الليل الماضي. ولما أشرقت الشمس توهَّم أن ما مر به من ذلك حلم رآه في منامه؛ إذ استبعد وقوع ما لقيه من الحفاوة والتقرب من سيدة نساء مصر. لكنه ما لبث أن حبس جيبه فوجد العقد فيه، فتحقق أن ذلك حدث في اليقظة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/6/
الهكاري وقراقوش
تركنا قراقوش بعد مفارقة سيدة الملك وقد استغرب ما سمعه. لكنه ما زال يتوقع أن يجد أحدًا في القصر؛ لأن أبا الحسن أكَّد له وجود رجل غريب. فعاد إلى التفتيش في كل مكان فلم يرَ أحدًا. فعاد إلى غرفته قرب باب القصر فرأى أبا الحسن في انتظاره على مثل الجمر. وكان ينتظر أن يراه قادمًا إليه ومعه عماد الدين يرسف في القيود، فلما رآه وحده صاح به: «أين الرجل؟» وكان قراقوش يحترم أبا الحسن؛ لما يعلم من نفوذه عند الخليفة، فأجابه بلطف قائلًا: «لم أجد أحدًا يا سيدي.» قال: «يا للعجب! كيف لم تجده؟ أنا على يقين من دخوله هذا القصر، وأنت تعرفه.» قال: «مَن هو؟» قال: «عماد الدين خادم سلطان صلاح الدين.» قال: «عماد الدين لا يعقل دخوله هنا. إن هذا الشاب من رجالنا ولا يجسر على المجيء. وكيف يمكنه أن يدخل هذا القصر ويخرج منه ولا أراه وأنا ساهر لا تفوتني حركة من حركات أهله والمفتاح بيدي، وأي غرض له من المجيء؟ لا بد من خطأ في البلاغ الذي اتصل بك.» قال: «أنا على يقين يا أستاذ، إن عماد الدين دخل هذا القصر. وأما غرضه فيه فلا أدري ما هو. لكنني سمعت من بعض غلمان القصر أن لهذا الشاب معرفة بأهل هذا القصر قبل أن صار الأستاذ بهاء الدين قيمه والآمر الناهي فيه. بلغني أنه دخل إليه يوم واقعة العبيد و…» فاستغرب قراقوش هذا الحديث فقال: «قل لي مَن أنبأك الآن بدخوله هنا؟» قال: «خادمي وهو من العارفين بدخائل القصر وإذا شئت دعوته إليك.» قال: «ادعه أين هو؟» فوقف أبو الحسن بالباب ونادى: «يا غلام.» فلما دخل الغلام تذكر قراقوش أنه من قدماء الغلمان في قصور الخلفاء فقال له: «كيف تقول بدخول الرجال هذا القصر؟ ومن أنبأك بذلك؟» فالتفت الغلام إلى أبي الحسن وقال: «هل أقول ما أعرفه؟» قال: «قل.» فالتفت الغلام إلى قراقوش وقال: «علمت بدخوله لأني رأيته داخلًا القاعة الكبرى.» فصاح فيه قائلًا: «رأيته بعينيك؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد مكث هناك مع سيدة الملك وحاضنتها مدة.» قال: «ولماذا لم تخبرني؟» قال: «لم أتجاسر خوفًا من سيدتي، فبلغت الأمر إلى مولاي أبي الحسن ليبلغك إياه وهو من أقرباء أمير المؤمنين وله دالة ونفوذ. وقد فعل.» قال: «هذا لا يمكن. لا يمكن أن يدخل أحد هذا القصر ولا أعلم به، وليس للقصر باب آخر غير هذا. إلا أن يدخل من الممر الذي يمر به الخليفة من قصر الذهب، وهذا عليه الحراس يمنعون أيًّا كان من المرور، فكيف يتيسر لهذا الرجل الدخول؟» قال: «إن سيدي الأستاذ قيم القصور حديث العهد في هذا القصر لا يعرف دخائله وسراديبه وممراته. وفي جملتها سرداب بينه وبين منظرة اللؤلؤة، ربما جاء عماد الدين فيه.» فلما سمع ذكر منظرة اللؤلؤة أجَّل البحث إلى وقت آخر وختم الحديث بقوله: «على كل حال إن هذا القصر ليس فيه أحد من الرجال الغرباء الآن، وإذا كان فيه أحد فإنه لا يفلت منه، وسينال جزاءه؛ لأن مولاي السلطان أوصاني خيرًا بالقصر وشدَّد عليَّ بالمحافظة عليه لصيانة أهله. وإني شاكر للشريف أبي الحسن غيرته.» فقطع أبو الحسن كلامه قائلًا: «إني أفعل ذلك غَيرة على النسب الشريف الذي يجمعني بأهل هذا القصر، ولكن لا بأس سيظهر الحق.» ثم خرج وهو يقول: «لقد أزعجناك الليلة بلا طائل.» وانصرف. فلما خلا قراقوش بنفسه عاد إلى التفكير واستعاد ما سمعه من ذلك الغلام عن وجود الممرات والسراديب. وبعد إعمال الفكر ترجح له صدق التهمة، فرأى أن يرفع الأمر إلى صلاح الدين. فلما كان الضحى ركب إلى منظرة اللؤلؤة، ولكنه رأى أن يلقى صديقه ضياء الدين الهكاري ليستشيره في الأمر قبل الدخول على صلاح الدين؛ لأنه أصبح في أثناء ذلك أكثر مخالطة له منه. فلما وصل إلى المنظرة سأل عن الفقيه عيسى الهكاري، فقيل له إنه منفرد في غرفته. وهمَّ الحراس أن يرحِّبوا بقراقوش ويبلغوا خبره إلى صلاح الدين، فأشار إليهم ألا يفعلوا وتحوَّل عن فرسه وطلب غرفة الهكاري في بعض أطراف البستان. فلما علم الفقيه بقدومه وقف له ورحَّب به، وكانا صديقين اصطحبا في خدمة صلاح الدين وتعبا في إسناد الوزارة إليه بعد عمه كما تقدم. وهما يتفانيان في سبيل مصلحته. رحَّب الهكاري ببهاء الدين قراقوش ترحيبًا كثيرًا وقال له: «ماذا جرى؟ إني لم أشاهدك من عهد بعيد، شغلوك بحراسة النساء وما أجدرك بقيادة الرجال.» وأشار إليه أن يجلس على وسادة فوق الطنفسة. فجلس بهاء الدين وهو يقول: «إن حراسة النساء أصعب مراسًا من قيادة الجند؛ لأنها تشتمل على حراسة النساء من الرجال. وأنت ماذا تعمل؟ هل دبرت شيئًا جديدًا في خدمة هذا السلطان العظيم؟ إني لا أذكر اسمه إلا ويتهلل قلبي فرحًا.» فقطع الهكاري كلامه قائلًا بصوت خافت: «خصوصًا لما تتذكر أننا استطعنا أن نضعه في هذا المنصب كما تعلم.» فابتدره بهاء الدين قائلًا بلهفة: «احذر يا صاح أن تقول هذا ويسمعك أحد؛ إذ ليس على الملوك أثقل وقعًا من المن. والآن ماذا تفعل؟» فضحك الهكاري وقال: «أنا ساعٍ الآن في أمر لا أستغني فيه عن يدك. وإذا نجحنا فيه يحق لنا أن نفاخر بما أديناه من الخدم الجليلة للسلطان صلاح الدين.» فتطاول بهاء الدين بعنقه نحوه وقال: «وماذا عسى أن نفعل فوق ما فعلناه، إنه سلطان مطلق وليس بعد هذا المنصب مطمع.» قال: «نعم، ولكن السلطان يقدر أن يطمع في الخلافة.» فحوَّل وجهه عنه بازدراء وقال: «لا فائدة من مطمع لا سبيل إليه.» فقال: «لم أعهدك متسرعًا، متى علمت الطريق الذي اخترته غيَّرت ظنك في الأمر.» قال: «وماذا عسى أن يكون الطريق؟» قال: «طريق الزواج وقد خطبت له سيدة الملك أخت الخليفة فإذا تزوجها فابنه منها يكتسب حقًّا في الخلافة إذا اتحدت معه القوة كفى لنيل هذا المنصب كما أراد طغرل بك السلجوقي أن يفعل و…» فقطع بهاء الدين كلامه قائلًا: «فهمت ما تريده وهو نعم الرأي، ولكن هل رضي الخليفة أن يزوج أخته لهذا المولى الكردي؟» ثم ضحك وقال: «لا أظنه يرضى.» قال: «إذا لم يرضَ طوعًا رضي كرهًا. وقد وعدنا بالجواب بعد قليل.» فقال قراقوش: «لقد أذكرتني أمرًا جئت من أجله وشغلتني عنه بحديثك. إن عماد الدين خادم السلطان ارتكب شططًا لا أدري إذا علم به السلطان ما يكون قصاصه خصوصًا بعد ما علمته من خطبته و…» فقطع الهكاري كلامه قائلًا: «لا تقل خادم السلطان، بل قل صاحبه وحارسه الخاص.» قال: «ومتى بلغ هذا المنصب؟» قال: «بلغه أول من أمس على يد الأمير نجم الدين، لله هو من رجل كبير العقل عالي الهمة!» قال: «صدقت، إن نجم الدين جدير أن يكون والد هذا السلطان. وأين هو عماد الدين؟ أحب أن أراه لأهنئه وأسأله سؤالًا.» قال: «خرج من هذه المنظرة في هذا الصباح في مهمة لا يعلم أحد حقيقتها. وماذا تريد أن تسأله؟» فقصَّ قراقوش خبر أمس كما جرى. فأظهر الهكاري ارتيابه في صحة الرواية وأكد له أن عماد الدين قضى طول ليله في الاستعداد للسفر وبرح المنظرة في الفجر. فوقع قراقوش في حيرة وعاد إلى الارتياب في الأمر، خصوصًا بعد أن سمع حديث الخطبة. لكنه أراد أن يطلع صلاح الدين على ما سمعه، فاستشار الهكاري في ذلك فقال: «دعه الآن لا تخبره، لئلا يغيِّر ذلك من عزمه على الخطبة، وأنا أحب أن يتم اقترانه لأني ضامن المستقبل بإذن الله.» ••• وفيما هما في ذلك وقد همَّ قراقوش أن يتكلم، دخل غلام الهكاري وقال: «بالباب رسول من مولانا السلطان.» فقال الفقيه: «يدخل.» فدخل الغلام، ولما رأى قراقوش هناك بانت البغتة في وجهه وقال: «سيدي الأستاذ بهاء الدين هنا؟ كنت ذاهبًا إليه أيضًا.» فقال الهكاري: «ما وراءك؟» قال: «إن السلطان يطلب حضوركما في القاعة الآن، وقد أمرني أن أدعو سائر الخاصة، وكنت عازمًا على الذهاب إلى القصر الكبير لأدعو سيدي الأستاذ فإذا هو هنا.» فقال قراقوش: «إننا ذاهبان، وماذا عسى أن يكون الباعث على هذه الدعوة؟» قال: «لا أدري يا سيدي، ولكنني رأيت نجابًا وصل في هذا الصباح قادمًا من دمشق ومعه رسالة رفعها إلى مولانا السلطان، فما زال منذ تلقاها وهو يقلب فيها وقد تغيَّر وجهه وبان الغضب فيه. ثم شاور مولانا الأمير نجم الدين، والظاهر أنهما اتفقا على عقد جلسة للبحث في أمر مهم.» فأشار قراقوش إلى الهكاري بيده مستفهمًا عما يعلمه من هذا الأمر. فأشار إلى الغلام أن ينصرف ومشى مع قراقوش وخاطبه في أثناء الطريق سرًّا وقال: «إني علمت بأمر هذا الكتاب في الصباح، وقد استقدمني السلطان وأطلعني عليه وعملت عملًا ترضاه مني.» قال: «وما ذلك؟» قال: «إن الكتاب من السلطان نور الدين صاحب دمشق شديد اللهجة جدًّا.» قال: «وما سبب ذلك؟» قال: «ألا تذكر خروج مولانا السلطان في صفر من هذا العام إلى بلاد الشام لمحاربة الإفرنج، وقد صحبته في هذا السفر، فنازل حصن الشوبك، ثم طلب الكرك وحصره وضيَّق عليه وعلى مَن به من الإفرنج حتى طلبوا التسليم والأمان، لكنهم استمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك. وكان السلطان نور الدين في دمشق فلما بلغه ما فعله صلاح الدين ارتاب في أمره وأنت تعلم ما بينهما من المحاذرة وما في نفس صلاح الدين من الطمع في سلطنة مصر لنفسه.» قال ذلك وضحك فبادره قراقوش قائلًا: «لا أظن أحدًا أطمعه فيها سواك وقد أحسنت. أكمل.» فقال الهكاري: «ألا تراه أهلًا لها؟ ما لنا ولذاك؟ إن نور الدين لما سمع بما فعله صلاح الدين في الكرك خرج من دمشق قاصدًا حرب الإفرنج ليغتنم تضييق صلاح الدين عليهم من جهة ويضيق عليهم هو من جهة أخرى فيذهب ملكهم. وقد رأيت في ذلك خطرًا على سلطاننا؛ لأن نور الدين متى أذل الإفرنج وأخضعهم تفرَّغ للسلطان صلاح الدين وهو وزيره والناس أطوع له منه فتذهب مطامع صلاح الدين في مصر أدراج الرياح، والأفضل أن يبقى نور الدين مشغولًا عن صلاح الدين بمحاربة الإفرنج حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.» فقطع قراقوش حديثه قائلًا: «لله درك من داهية! وأحسبك عرضت هذا الرأي على السلطان.» قال: «عرضه عليه بعض الناس وأشار عليه أن يرجع إلى مصر بحجة ينتحلها ومما ذكروه له أن نور الدين إذا دخل بلاد الإفرنج وهم على هذه الحال وأخذ ملكهم لم يبقَ بديار مصر مقام معه. وإن جاء نور الدين إلى مصر وصلاح الدين فيها فلا بد له من الاجتماع به، وحينئذٍ يكون نور الدين المتحكم فيه بما يشاء. إن شاء تركه أو لا، وقد لا يقدر على الامتناع عليه. وقد رجع مولانا السلطان إلى مصر كما تعلم. وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأطال في الاعتذار. ولكن يظهر أن نور الدين لم يصدِّق هذه الأعذار. فبعث إليه كتابًا يهدِّده فيه إن لم يأتِ إلى دمشق، فلقيته في هذا الصباح وقد أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا، فأسرَّ إليَّ بسبب غضبه وأنه لم يعد يستطيع صبرًا على كتمان غرضه، فخففت عنه واستمهلته، ولا أراه مصغيًا، ولا أخال هذه الدعوة إلا لأمر يتعلق بالكتاب.» وكانا قد وصلا إلى قاعة الاجتماع والحرس ببابها فأزاحوا لهما الستر فدخل الهكاري أولًا وتبعه قراقوش، وكانت جلسة حافلة اجتمع فيها نخبة الخاصة من رجال صلاح الدين وأهله، وفي جملتهم أبوه نجم الدين، وخاله شهاب الدين الحارمي، وابن أخيه تقي الدين. فألقى الهكاري وقراقوش التحية، فردَّ صلاح الدين عليهما وقال: «مرحبًا بالفقيه الحكيم ضياء الدين، وبالبطل الأستاذ قيم القصر بهاء الدين.» وأشار إليهما بيده فجلسا وعينا الهكاري تراعيان صلاح الدين فرآه برغم ما يحاول إظهاره من التؤدة وسعة الصدر وسكون البال قد تجلى الغضب في عينه. فلما استقر المقام بالجلوس قال صلاح الدين: «يا نخبة الأمراء الأبطال وخيرة الأهل والخلان، إن السلطان نور الدين صاحب دمشق أقلق راحتنا بمراسلاته وهو يطلب إلينا الذهاب إليه. ونحن فيما تعلمون من حرج المقام وما يحدق بنا من الدسائس والمكايد في بلد كل أهله أعداؤنا يترقبون منا غفلة أو ضعفًا ليثبوا علينا. فلما اعتذرت له بذلك كتب إليَّ يهددني أنه حامل بخيله ورَجله. وأنتم رجالي وأهلي وما يُقال لي كأنه يُقال لكم، فلم أشأ أن أقطع في الجواب قبل أن أشاوركم، فماذا ترون؟» وكان صلاح الدين يتكلم والحضور سكوت كأن على رءوسهم الطير، ولعلك لو استطلعت خفايا سرائرهم لرأيت كلًّا منهم ينتظر ما يقوله الآخرون ولا يريد أن يكون هو البادئ في الرأي. وعيونهم متجهة بالأكثر إلى الأمير نجم الدين والد صلاح الدين لما يعلمونه من حزمه وعلو همته ودهائه. ولكنه لم يقل شيئًا. وظل مطرقًا يفكِّر وقد قعد على وسادة عالية وفي يده هناة كالقلم يداعبها بين أصابعه ولا يخفى اضطرابه على المتفرِّس فيه. وكان الهكاري جالسًا بجانب قراقوش، وحدثته نفسه أن يتكلم ويقوِّي عزم صلاح الدين على مقاومة نور الدين، فالتفت إلى قراقوش كأنه يستشيره في الأمر، وهمَّ قراقوش بأن يوافقه على ذلك، فإذا بتقي الدين ابن أخي صلاح الدين قد غلبت عليه حمية الشباب فوقف وقال: «إذا كان عمي السلطان قد جمعنا ليشاورنا في أمر نور الدين، فهو يعلم أننا نتفانى في نصرته. فإذا جاء نور الدين إلى مصر منعناه بحد السيف.» فبان البشر في وجه صلاح الدين استحسانًا لتلك الجرأة وابتسم، فكان لابتسامه تأثير شديد في ضمائر الحضور فجعلوا يتسابقون إلى الموافقة على رأي ذلك الشاب بمثل قوله. وعلا الضجيج ونجم الدين ما زال مطرقًا والعيون محدقة به لترى ما يبدو منه، وإذا به أشار بالقلم الذي في يده إشارة استمهال فأصغى الكل وعيونهم إلى شفتيه. فنظر إلى تقي الدين نظرة زجر وتوبيخ، وأمره أن يقعد، وانتهر مَن وافقه من الحضور. ثم التفت إلى صلاح الدين وقال: «يا يوسف، أراك تبغي أمرًا عظيمًا أنت أقصر باعًا من أن تناله. أنا أبوك، وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع مَن ترى. والله لو أنني وخالك هذا وقع نظرنا على السلطان نور الدين لم نلبث إلا أن نقتل بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟ إن كل مَن تراهم عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه فيها. فإن أمر سمعنا وأطعنا. والرأي أن تكتب كتابًا مع نجاب تقول فيه: «بلغني أنك تريد الحركة إلى هذه البلاد، فأي حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي منديلًا ويأخذني إليك وما هنا مَن يمتنع.» هذا هو الرأي يا بني …» فلما قال نجم الدين ذلك أطرق الحضور وندموا على ما كان منهم. وأما هو فحالما فرغ من كلامه نهض وخرج فنهض الأمراء جميعًا وتفرقوا. وفي جملتهم عيسى الهكاري. فإنه قبض على يد قراقوش وخرج به إلى خلوة فقال قراقوش: «ما هذا؟ لا أعهد نجم الدين جبانًا ضعيف العزم إلى هذا الحد. والله أوشكت أن أقف لمعارضته.» فضحك الهكاري وقال: «لقد أخطأت يا أستاذ. ليس بين هؤلاء مَن هو أقوى قلبًا وأجرأ على الأمور منه. ولكنه داهية حكيم، والله إني كنت أقرأ فكره وهو مطرق يسترق النظر إلى الحضور وهم يتكلمون. وقد تبيَّن ما في كلامهم من الحدة فخاف أن يجاريهم بالكلام فيفسد التدبير. وإذا شئت أن تتحقق ذلك فاتبعني فإني أراه داخلًا إلى غرفة صلاح الدين وحده.» فمشى قراقوش في أثره حتى اقتربا من الغرفة فلمحهما نجم الدين فأشار إليهما أن يدخلا فدخلا وأغلقا الباب وراءهما وصلاح الدين يهم أن يعاتب أباه على ما سمعه منه. فالتفت نجم الدين إلى الهكاري وقال: «أنت حكيم وصاحب تدبير. وقد أخبرني يوسف بما كان من تدبيرك مع الأستاذ قراقوش في سبيل مصلحته. لذلك فإني لا أخشى أن أقول رأيي أمامكما.» والتفت إلى صلاح الدين وقال: «بأي عقل فعلت هذا يا يوسف؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا في مقدمة أعدائه، وحينئذٍ لا تقوى عليه. وأما إذا بلغه قولي وأننا في طاعته تركنا واشتغل بغيرنا ريثما تعمل الأقدار عملها.» ثم وجَّه كلامه إلى الهكاري وقراقوش وقال: «والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر بمصر لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أُقتل.» قال ذلك وعيناه تتلألآن. فهمَّ صلاح الدين بتقبيل يد أبيه وقال: «صدقت يا أبي. قد نطقت بالصواب، وأنا فاعل ذلك بإذن الله. ما أحوجني إلى رأيك وتدبيرك.» والتفت الهكاري إلى قراقوش ولسان حاله يقول: «ألم أقل لك هذا؟» فأكبَّ قراقوش على يد نجم الدين فقبَّلها وقال: «لا حرمنا الله من رأيك يا سيدي.» وقبل أن يفترقوا سمعوا الأذان فذهبوا للصلاة ثم إلى الغداء. ••• أما أبو الحسن فلما عاد بصفقة المغبون ولم يظفر بعماد الدين ولا استطاع إغاظة سيدة الملك، رأى أن يبلغ ذلك إلى الخليفة بأسلوب يمكِّنه من مرامه. فصبر حتى طلع النهار وهو صباح الاثنين وكان أحد اليومين اللذين يجلس الخليفة فيهما للناس من كل أسبوع، أما اليوم الآخر فكان يوم الخميس. وأجَّل مقابلة الخليفة إلى اليوم التالي. وقضى ذلك اليوم وهو يدبِّر الحبائل وينصب المكايد، ثم بكَّر في الصباح التالي إلى بيت الجليس الشريف وسأله عن الخليفة فقال: «إنه مريض وقد اشتد المرض عليه أمس حتى شغل بالنا.» فابتدره أبو الحسن قائلًا: «يظهر أنه انتكس لما بلغه خبر قصر النساء.» فلم يفهم الجليس مراده فقال: «وماذا جرى؟» وأشار إليه أن يتفضل بالدخول. فأظهر أنه أخطأ بذلك التصريح وأنه يريد الكتمان محافظة على كرامة أخت الخليفة فقال: «لم يجرِ شيء.» وجعل يبلع ريقه وهو يناول لجام البغلة إلى السائس ويمشي مع الجليس إلى قاعة الاستقبال. فانطلت الحيلة على الجليس فقال: «كيف لم يجرِ شيء وقد قلت إنه جرى؟ قل لا تخفِ عليَّ شيئًا، فإني لا أخاطب الخليفة في شأنه إذا أحببت كتمانه عنه.» قال وهو يقعد ويُظهِر عدم الاكتراث: «ليس هذا وقت الكلام بما يكدر الخليفة وإنما يهمني أن يُشفى من مرضه. ما الذي جد عليه حماه الله من كل سوء؟» قال: «ما زال منذ أُصيب بالحمى يوم ذلك الاجتماع وهو متوعك المزاج. فلما كان صباح أمس — وهو يوم الجلوس للناس — لم يحضر، فسألت عنه فقيل لي إنه قضى يومه في دار النساء، وعلمت بعد الظهر أن الحمى عاودته بشدة.» فأظهر أبو الحسن الاهتمام الشديد بالأمر وقال وهو ينظر في البساط: «قضى نهار أمس في دار النساء وأُصيب بعد الظهر بالحمى؟ فلا بد أن يكون ظني الأول في محله.» قال: «وما هو؟ قل يا أبا الحسن، فما عهدتك تخفي عليَّ شيئًا. قل ماذا جرى في دار النساء؟» قال: «لا أحب أن يشيع هذا الخبر حفظًا لكرامة أهل القصر. علمت أن غريبًا دخل ذلك القصر مساء أول البارحة وقضى معظم الليل فيه. ولما علمت بخبره أسرعت إلى قيِّم القصر قراقوش وطلبت إليه القبض عليه فإذا به قد فرَّ في السراديب. أرأيت؟» فأطرق الجليس دهشة واستبعد ذلك الخبر؛ لعلمه أنه ما من أحد يستطيع الدخول إلى القصر مع ما حوله من الحراسة. ثم إن أخت الخليفة بعيدة عن مثل هذه الظنون. ولحظ أبو الحسن تردده في تصديق الخبر فبادره قائلًا: «أراك مطرقًا تفكر كأنما لم تصدق قولي. ولكن لك أن ترتاب، غير أن هذه المرأة التي تزعم أنها لا تريد الزواج فرارًا من أبي الحسن إنما هي عالقة القلب بشاب غريب من الأكراد أعدائنا.» فصاح متعجبًا: «مِن الأكراد؟» فأجاب بهدوء وتألم: «ومِن خدم الأكراد!» فدقَّ الشيخ كفًّا بكف وقال: «يا للفضيحة! ماذا يكون حال أمير المؤمنين إذا بلغه ذلك الخبر؟ ولكن …» فقال أبو الحسن: «ومَن يتجاسر على تبليغه هذا الخبر؟ لا ينبغي أن يعلم به، أو لعله علم وكظم فأصابته الحمى … أتأسف كثيرًا لأني اطَّلعت على هذه الفعلة، ولكن ما العمل؟ لا بد من تدبير حيلة ننقذ بها عرضنا من العار!» فتألم الجليس مما سمعه واعتقد صحته وهو سليم القلب كما علمت، فأوشك أن تدمع عيناه من الغضب فوق ما هو فيه من الكدر على مرض الخليفة. وكان ما زال واقفًا فقعد وهو خائر القوى. فأخذ أبو الحسن يتظاهر بالتخفيف عنه. وهو يعد ذهنه لمكيدة يفوز بها بمرامه فقال: «يحق لنا البكاء في هذا اليوم، فلنبكِ يا عزيزي فلنبك!» وأخذ في البكاء حتى نسي الجليس حزنه واشتغل بالتخفيف عن أبي الحسن فقال له: «لا بد من الصبر يا مولاي، إن البكاء لا ينفعنا شيئًا. لا بد من تدبير طريقة.» فأسرع أبو الحسن إلى مسح عينيه وتظاهر بالجد والاهتمام والتفت إلى الجليس وقال: «نعم لا بد من تدبير طريقة، ولكن الأمر أعظم مما يظهر لك يا عماه.» قال: «وهل بقي ما هو أعظم من ذلك؟» قال: «إن الأمر نفسه عظيم كما علمت، ولكنني أفكر في المستقبل وأراقب ما قد تأتي به الأقدار مما لم يكن في الحسبان.» فظل الجليس ساكتًا يفكِّر ولم يُجِب، حتى قطع أبو الحسن سلسلة أفكاره بالسؤال قائلًا: «مَن هو طبيب مولانا أمير المؤمنين؟» قال: «طبيبه الشيخ السديد رئيس الأطباء، وهو لا يثق إلا به لسعة علمه وطول اختباره.» فقال أبو الحسن: «الشيخ السديد؟ هل هو ماهر في صناعة الطب؟» قال: «كيف لا وقد نال الحظوة عند الأئمة الفاطميين من أيام الآمر، رحمه الله؟! وكان صغير السن وأبوه طبيب قبله ثم ورث هذا المنصب بعده. وما زال يطبِّب الأئمة — رحمهم الله — إلى الآن وقد أصبح شيخًا طاعنًا في السن.» فقال: «وماذا يقول عن مرض مولانا، هل سألته؟» قال: «سألته ولكنه لم يجبني جوابًا صريحًا.» قال: «إني أخاف جواب الأطباء إن لم يكن صريحًا؛ لأنهم إذا خافوا على مريضهم الموت جعلوا كلامهم عنه مبهمًا!» فأجفل الجليس عند سماع لفظ الموت؛ لأنه كان يحب العاضد وقال: «لا سمح الله يا سيدي، لا سمح الله أن يكون على الإمام العاضد بأس.» فقال أبو الحسن: «أعوذ بالله أن يخرج من فمي أو يمر بذهني سوء يصيب إمامنا، وأطلب إلى الله إذا كان قد كتب شيء على أمير المؤمنين أن يفديه بروحي. ولكن العاقل مَن فكَّر في الأمر قبل وقوعه ولا سيما في الإمامة؛ لأن الإمام قطب تدور عليه أمور الدولة وبه تتعلق القلوب. والإصابة فيه غير الإصابة في آحاد الناس. وهذا معنى قولي لك إن المسألة أعظم مما تتصور. هل فهمت مرادي؟» فأدرك الجليس أنه يعني لو مات العاضد كيف يكون حال الأمة بعده فقال: «فهمت يا بني، إن الأمر جليل ولكن …» فأسرع أبو الحسن وهو يروغ كالثعلب وقال: «كلنا عبيد الموت يا عماه، وعسى أن تكون حياة الإمام العاضد أطول من حياة كل منا. وأضرع إليه تعالى أن لا يميتني إلا في حياته.» ودمعت عيناه فتأثر الجليس وشاركه ذلك الشعور في الظاهر وقال: «ذلك ما نتمناه جميعًا خصوصًا لأن مولانا — حفظه الله — ليس لنا ملجأ سواه، وقد كابد في إمامته من أولئك الأكراد ما لم يكابده سواه لولا حزمه وتعقله لا أدري كيف كانت حالنا.» فاعتدل أبو الحسن في مجلسه كأنه فطن لأمر مهم وقال: «هذا ما يدور في خَلدي ويجول في خاطري ويحوم حول لساني ولا يطاوعني قلبي عليه. إذا كان هذا حالنا الآن فكيف يكون شأننا لو حدث ما نتمنى موتنا قبله. لو أن في بيت العاضد رجلًا حازمًا يخلفه لكان خيرًا، ولكنهم أطفال كما تعلم، وهذا المنصب لا يستطيعه إلا المحنكون نظيرك. كم كنت أود أن يكون لك يد في هذا الأمر.» فاستعظم الجليس هذا الإطراء وأخذ يتنصل من هذا الحق فقال: «إني عبد خادم لا يُقال لي مثل هذا القول، وإنما يطمع في هذا الأمر مَن كان مثلك يا أبا الحسن.» فأخذ أبو الحسن يهز رأسه هز الإنكار وقال: «أنا؟ نعم كنت راغبًا في هذا المنصب كما علمت، وقد قلت لي إن الإمام رضي أن أكون ولي عهده، وهذا شرف لي لكنني أتردد كثيرًا في القبول.» فقال الجليس: «لا ينبغي أن تتردد؛ فإن في قبولك إنقاذُ هذه الدولة.» فوجد الفرصة قد سنحت ليستشهد الجليس بأن العاضد بايعه بولاية العهد فقال: «وهبْ أني أردت أن أتفانى وأرضى فهل يُصدَّق القول إن العاضد بايعني؟» قال: «أنا أشهد بذلك. ألم يكن رضي على الشرط المعدوم؟ وإنما أجَّل الأمر مؤقتًا وقد اعترضته شئون مختلفة.» فرقص قلب أبي الحسن طربًا عند سماع ذلك الوعد فعاد إلى المغالطة وقال: «أنا أعلم أن مثلك إذا شهد فشهادته أوثق من عقد مبرم، ولكن ما لنا ولهذا الآن، أرجو ألا يحدث ما يدعو إلى استشهادك وأن ينهض مولانا الإمام صحيحًا معافًى ونتمتع برؤيته ونقبِّل يديه ونصلي وراءه.» قال: «أرجو ذلك إن شاء الله.» وفيما هما في ذلك سمعا وقع أقدام مسرعة ودخل غلام عرفا أنه من غلمان القصر فأجفلا فقال الجليس: «ما وراءك؟» قال وصوته يرتجف: «إن مولانا الإمام يحب أن يراك عاجلًا.» فقال: «وكيف هو؟» قال: «لا أدري لكنني رأيت الشيخ السديد عنده ومعه أطباء كثيرون!» فنهض الجليس وهو يقول: «يظهر أن المرض اشتد عليه.» فقال أبو الحسن: «لا بد من ذهابك إليه حالًا. ولو كنت أعلم أني أنفعه لسرت معك ولكنني سأسعى بعد قليل للاطمئنان. وأنا ذاهب إلى المسجد لأدعو له بالشفاء.» قال ذلك وخرج وترك الجليس يتأهب للركوب إلى الخليفة. ••• رجع أبو الحسن على بغلته إلى منزله. وخلا في غرفته وأخذ يفكِّر في حيلة يدبِّرها لنيل بغيته. وقد تأكد له دنو أجل الخليفة فكيف يمهد الأمر لنفسه وهو يعلم أن شهادة الجليس لا تكفي، وأن القول الفصل لصلاح الدين. إذا أظهر رضاه عن مرشح للخلافة نالها. فانزوى في الغرفة على كرسي وأقفل الباب وجعل يفكر في الطريقة المؤدية إلى غرضه، وبعد أن قضى ساعة لا يحرك رأسه ولا يده وإنما كان يحرك شفتيه وعينيه، وثب من مكانه وصفَّق فجاء الغلام فقال له: «أسرج البغلة.» فقال: «لا تزال مسرجة يا سيدي.» فركبها وسار قاصدًا عيسى الهكاري صديقه. وكان الهكاري في غرفته المعهودة يطالع في بعض كتب الفقه، فلما أنبأه الغلام بمجيء الشريف أبي الحسن خفَّ له واستقبله أحسن استقبال؛ لأنه كان يتوقع أن يحتاج إليه في تدبير بعض الشئون لمصلحة صلاح الدين. فبدأ أبو الحسن الحديث عن الفقه والتاريخ كأنه يتمم ما دار بينهما عند اجتماعهما في دار العلم فقال: «أراك ما زلت تفتش في الكتب، هل ترى منها نفعًا؟» قال: «كيف لا؟ إن مثلك لا يسأل هذا السؤال!» قال: «صدقت، لكني لا أعني الفائدة الشرعية وصيانة الحقوق، وإنما أعني الفائدة التي يطلبها الناس من أعمالهم، أم أنت مثلي تهتم بالعلم لأجل العلم نفسه؟» قال: «أطلب العلم لأجل العلم، ولكن العاقل قد يستفيد منه فوائد أخرى.» فأدرك أبو الحسن أنه يشير إلى ما يتوهم الهكاري أنه استنبطه من مطالعة تاريخ طغرل بك من تلقاء نفسه حتى حرَّض صلاح الدين على زواج أخت الخليفة. فعمد إلى إطرائه والتغرير به ليتوصل إلى مرامه فقال: «إنك حكيم عاقل، وقد علمت الآن صدق خدمتك للسلطان صلاح الدين. ألم تكن أنت أشرت عليه بخطبة أخت الخليفة؟ لا تنكر ذلك.» فأراد أن يتواضع ويتنصل من ذلك الفضل فقال: «ليس لي هذه الدالة يا أبا الحسن.» فقال: «مهما يكن من تنصلك، فأنا أعتقد نفوذ كلمتك. والآن أتعلم لماذا جئتك؟» قال: «لا.» قال: «جئتك لأمر إذا علمت كيف تفهمه وتقوم به خدمت مولاك خدمة حسنة، وإن كان فيه خدمة لصديقك أبي الحسن ولك أيضًا.» فتطاول بعنقه وقال: «رحم الله مَن نفع واستنفع، قل ما وراءك.» قال: «أتعلم أن الإمام العاضد في حال الاحتضار الآن؟» قال: «أعلم أنه مريض، فهل اشتد عليه المرض؟» قال: «إنه في أشد حالات المرض، وإذا مات صارت الخلافة إلى ولي عهده، وأنت تعلم أنه غلام عنيد لا يعرف فضل الرجال.» قال: «اسمع. إني مطلعك على سر يهمك الاطلاع عليه، إن العاضد مائت الليلة أو غدًا. وأنت أكثر أهله معرفة بفضل السلطان صلاح الدين. لا أقول إني أحب أن يتولى هذا الأمر ويخرجه من أيدينا. ولو قلت لك ذلك لا تصدقني، ولكنني أعلم أن مقاومة القوة الغالبة لا تفيد شيئًا. وإذا صارت الخلافة إلى ولي العهد الذي تعرفه كان ذلك باعثًا على القلاقل. إني أعرف أفكاره وأعلم أنه ينوي أن يثير الشيعة ويحرضهم على مناوأة السلطان ورجاله. وهذا لا يفيد أحدًا من الجانبين، ولا أخفي عليك أن العاضد كان معتزمًا أن يجعل ولاية العهد إليَّ فأوصى بذلك على يد الجليس الشريف وأوشك أن يكتب العهد لكن المرض منعه. فأخاف إذا تُوفي في مرضه هذا أن ينكر رجاله وأهله عليَّ ذلك. فإذا أخذتم بيدي وصيرتم هذا الأمر إليَّ عرفت لكم فضلكم وأغنيتكم عن التعب. أرجو أن تكون قد فهمت مرادي، وأظن ما بيننا من الصداقة القديمة يكفي للوثوق بي والتعويل على قولي.» وكان الهكاري يسمع كلام أبي الحسن ويفكِّر فيه. فلما وقف عند هذه العبارة سأله: «ثم ماذا؟» قال: «أعني إذا خاطبت أنت السلطان صلاح الدين في الأمر، وعرضت عليه هذا الرأي كأنه منك فيعرف لك هذا الفضل وأنت رابح من كل وجه. إن ما أعرضه عليك عظيم الأهمية وفيه نفع للسلطان ولك ولي فما قولك؟» فرأى الهكاري كلام أبي الحسن معقولًا. فأدرك أن عمله هذا خيانة لأهل الخليفة، لكنه نظر فيه من حيث مصلحة السلطان؛ لأنهم إذا أعانوا هذا الخائن على تولي الخلافة كان عونًا لهم فيما يريدون ويهوِّن عليهم أن يخلعوه فيما بعد إذا شاءوا، فضلًا عن أنه يسهل على صلاح الدين التزوج بسيدة الملك على يده فيتم تدبيره. فنظر إلى أبي الحسن نظر متفرس وقال: «أنت مقدم على عمل عظيم فيه نفع كبير لك.» قال: «لا أنكر ذلك ولكنني أخدم مصلحة السلطان صلاح الدين أيضًا من كل وجه، وإذا لم تصغِ لرأيي تعبتم جميعًا؛ لأن المصريين قلوبهم مع خلفائهم كما لا يخفى عليك. أرني مهارتك في إتمام هذا الأمر، واعلم أنك ستكون أقرب المقربين.» قال: «لك عليَّ ذلك. سأبذل ما في وسعي في هذا السبيل ونرى ما يكون.» فتحفز أبو الحسن للنهوض وهو يقول: «أنا ذاهب وسنلتقي غدًا ولا حاجة بي إلى تنبيهك لأن يبقى ما قلناه مكتومًا عن كل إنسان.» قال: «لا حاجة إلى التوصية.» ونهض أبو الحسن وركب بغلته وعاد. وظل الهكاري واقفًا برهة يعيد في ذهنه ما سمعه فرأى فيه خيرًا كثيرًا. فبادر إلى تنفيذه وسار إلى صلاح الدين، فرآه مع أبيه في شرفة تطل على الخليج وقد جلسا هناك للاستراحة فاستأذن عليهما، ولما دخل أمره نجم الدين بالجلوس فجلس وتكاد عيناه تنطقان بما في خاطره، فقال له صلاح الدين: «ما وراءك يا ضياء الدين؟» قال: «جئت مولاي بأمر مهم.» قال: «كل ما تأتي مهم به نافع. إني لا أنسى بلاءك في مصلحتنا. قل.» فأخذ يقص عليه ما دار بينه وبين أبي الحسن من أوله إلى آخره والاهتمام ظاهر في عينيه، فلما فرغ من كلامه أبرقت عينا صلاح الدين ونظر إلى أبيه كأنه يستشيره في الأمر. وكان نجم الدين يسمع كلام الهكاري ويمحِّصه ويزنه ويتدبره. فلما رأى صلاح الدين ينظر إليه قال: «إنه رأي جميل لكنه ما زال فطيرًا ولا سيما أن العاضد ما زال حيًّا، فإذا مات نظرنا في الأمر. بارك الله في همتك يا أبا محمد.» وسكت. فعلم الهكاري أنه ينبغي له أن ينصرف ليخلو الأميران ويتباحثا فاستأذن وخرج. فلما خلا نجم الدين بابنه جعل يتفرس في عينيه كأنه يطلب إليه أن يقول ما في خاطره فقال صلاح الدين: «ما رأي والدي فيما سمعه؟» قال: «إنما أسألك عن رأيك.» قال: «إني أرى فرصة لا ينبغي ضياعها. لا أنكر أنها خيانة من أبي الحسن هذا لكنها تفيدنا. وإذا وليناه الخلافة بأمرنا زاد نفوذنا وكان آلة في يدنا.» فابتسم نجم الدين ابتسامة استخفاف وقال: «إنك يا يوسف رجل حرب ورأي. ولكنك ما زلت في حاجة إلى الدربة والحيلة … استفدنا من وشاية هذا الرجل أن القوم إذا مات خليفتهم تضعضعوا واختلفوا فيما بينهم، وهي فرصة لقطع تلك الخلافة من جذورها. ولا نبايع هذا ولا غيره، وإنما نقبض على القصور ونحبس أهلها الذكور أصحاب الحق في الخلافة حتى يبيدوا. وقد خطبنا للخليفة العباسي منذ مدة ولا بد من الشدة والحزم فينتهي الأمر. أليس ذلك خيرًا من أن نبايع خليفة آخر ونعود إلى التعب من أوله؟» فأُعجب صلاح الدين برأي أبيه ورأى الصواب فيه، وخجل لما فاته إدراكه من الأمر، ولم يسعه إلا الإصغاء والإذعان وقال: «بورك فيك يا أبتاه من حكيم حازم.» فقال: «ولا يكفي ذلك، وإنما يجب أن نتأهب من الآن ونجعل الجند على استعداد للهجوم على القصور حالما يلفظ الخليفة السيئ الحظ نَفَسَه الأخير. وأتقدم إليك أن تكتم ما أقوله لك الآن عن كل واحد حتى يأتي وقته فننفذه. واحذر أن تفعل ما فعلت أمس فتكشف سرك في جلسة علنية. فقد قيل «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».» فحنى صلاح الدين رأسه إعجابًا وطاعة وهمَّ بتقبيل والده اعترافًا باقتداره. فاجتذب نجم الدين وقال: «أرجو أن تستفيد من قولي يا بني. إنك ستكون سلطانًا عظيمًا، فاعمد إلى التؤدة والحزم واذكر وصية أبيك.» أما أبو الحسن فخرج من عند الهكاري وقد امتلأ صدره أملًا وتحقق لديه الفوز بالمكيدة وسار توًّا إلى دار الخليفة وهو يتنسم خبر العاضد في أثناء الطريق. فعلم أنه في أشد حالات المرض فأيقن أنه مائت في ذلك الليل، فأعمل فكرته في الوصول إلى غرضه. وقد توهَّم فوزه بالخلافة، وبقي القبض على سيدة الملك، فأظهر اهتمامه بمرض الخليفة وسأل عن الجليس الشريف فقيل له إنه في غرفة الخليفة لا يأذن بخروجه والأطباء وقوف بين يديه يبدلون الدواء بالدواء بلا فائدة. فاحتال أبو الحسن في الوصول إلى الشيخ السديد طبيب الخليفة فاستفهمه عن حقيقة حال العاضد فأجابه: «إنه يكاد يكون في حالة الاحتضار.» فبكى وبالغ في البكاء حتى أشفق الطبيب عليه وأخذ يخفِّف عنه. فخرج توًّا إلى قصر النساء وقد مالت الشمس إلى الأصيل وطلب أن يرى بهاء الدين قراقوش. فقيل له إنه خرج لمقابلة السلطان صلاح الدين، فجلس أبو الحسن في غرفة الاستقبال بباب القصر ينتظر رجوعه. وبعد قليل عاد قراقوش وعلى وجهه علامات الاهتمام. وكان أبو الحسن يتوقَّع أن يسمع منه ترحابًا بعد رجوعه من عند صلاح الدين لاعتقاده بأن السلطان لا بد من أن يكون قد خاطبه في أمره بعد ما كان من تدبيره مع الهكاري. فلما رأى بهاء الدين مقبلًا على فرسه تصدَّى له بالباب وهو يبتسم فلم يكترث له قراقوش وأظهر أنه لم يره، فخاطبه أبو الحسن قائلًا: «مرحبًا بالأستاذ، كيف فارقت السلطان؟» فالتفت إليه بهاء الدين كأنه رآه لأول مرة وقال: «أنت هنا يا أبا الحسن؟» قال: «أنا هنا في انتظارك من ساعة، كيف حال مولانا الإمام الآن يا تُرى؟» قال بهاء الدين وهو يقعد على مقعد في تلك الغرفة: «إن مرضه شديد، شفاه الله.» ولم يدع أبا الحسن للقعود كالعادة. فقعد أبو الحسن من تلقاء نفسه. وأخذ يُظهِر الأسف على حال العاضد ويفرك يديه ويعصر عينيه ويهز رأسه وهو مطرق ثم قال: «هل أنت متأكد أنه شديد المرض؟» قال: «هكذا قيل لي الساعة، شفاه الله. إنه رضي الخلق.» فبادر إلى الجواب باهتمام وقال: «صدقت يا أستاذ، إن الإمام كان من أحسن أهلنا خلقًا وأطيبهم قلبًا ولذلك.» وتنحنح وهز رأسه كأنه يحاول كتمان أمر خطر له ثم التفت إلى قراقوش وقال: «لا بد أنك لاحظت بدقة نظرك يا أستاذ ماذا كان نتيجة طيبة قلبه وتساهله، وإن لم ترَ رأي العين. أما أنا فقد رأيته. على أن الأمر الآن أعظم مما تعلمه وينبغي لنا ملاقاة الخطر قبل وقوعه. أنا أعلم أنك ساهر متيقظ لا تحتاج إلى تنبيه، لكنني أستمحيك عذرًا إذا رأيت فيَّ قلقًا فإني أضن بسمعة أهلي أن يلحقها ما يشوهها. وقد علمت ما كان بالأمس من أمر ذلك الغريب الذي دخل هذا القصر وخرج منه ولم تتمكن من القبض عليه؛ لأن أهل هذا القصر أرشدوه إلى طريق الفرار. لا أقول ذلك طعنًا في أحد لأني أعتقد أن ذلك من عواقب الطيش عن جهل لا عن سوء نية. فسيدة الملك هذا حالها وأخوها حي، فإذا أصابه سوء لا سمح الله كيف يكون حالها؟» وتنحنح وتوجَّه بنظره نحو قراقوش وهو يُظهِر الثقة فيه والاعتماد عليه وقال: «ولا ينبغي لي أن أخفي عليك أمرًا أخفيته على سائر الناس ولم يطَّلع عليه غير صديقي وصديقك ضياء الدين الهكاري. أعني أن الإمام العاضد بايعني بالخلافة بعده، وخطبت أخته هذه وهي لا تعلم بعدُ. وإنما يعلم الجليس الشريف بذلك، ويعلمه أيضًا ضياء الدين، والسلطان صلاح الدين. وكان لي معه حديث طويل في هذا الشأن صباح اليوم، لا أدري إذا كان قد أطلعك عليه.» وصبر ليرى ما يبدو من قراقوش فإذا هو ما زال مصغيًا لا يبدي حراكًا. فعاد أبو الحسن إلى إتمام حديثه فقال: «وإذا كان لم يطلعك عليه فلا بد أنه مطلعك قريبًا. وإنما جئتك الآن أستعينك في صيانة عرضي وعرض الإمام — شفاه الله — ريثما يستقر الأمر في نصابه ويشرف عليه السلطان صلاح الدين حفظه الله. هذا أمر قد تم الاتفاق عليه بيني وبينه. وإنما أطلب إليك أن تحتفظ بهذا القصر وأنت فاعل ذلك. لكنني أخاف أن يتمكن الأعداء من دخوله سرًّا فأرى أن تأمر بنقل أخت الخليفة منه إلى قصر آخر ليس فيه سراديب. وأظن دار الضيافة أفضل القصور لهذا الغرض.» قال ذلك وهو يتفرس في عيني بهاء الدين وينتظر رأيه في ذلك. أما بهاء الدين فأظهر عدم الاهتمام وقال: «لا أرى باعثًا على هذا القلق يا أبا الحسن والخليفة ما زال حيًّا.» قال: «إنما العاقل مَن فكَّر في الأمر قبل وقوعه، أما إذا وقع فلا فائدة من التفكير، اسمع … اسمع … أليس هذا صياح النساء في القصر؟ يظهر أن العاضد قد فارق الحياة. مسكين!» وأخذ يفرك كفيه ويبكي. أما بهاء الدين فحالما سمع الصياح وقف والاهتمام بادٍ في محياه. وأشار إلى بعض الغلمان أن يمضي في مهمته، وأومأ إلى أبي الحسن أن يمكث ريثما يعود وألا يخرج قبل رجوعه. وتحوَّل قراقوش إلى مكان آخر في القصر وقد علا الضجيج، فتحقق أبو الحسن موت الخليفة فأصبح همه القبض على سيدة الملك. وأسف لذهاب قراقوش ولم يعلم سبب ذلك. فقعد في تلك الغرفة وهو مطرق يفكر كأنه على الجمر. فسمع قرقعة اللجم، وصهيل الخيل فأطل من النافذة فرأى فرسانًا يسرعون نحو القصر كأنهم يحيطون به من كل ناحية فعجب لذلك. ثم شعر بيد تهز كتفه برعشة فالتفت فإذا بالغلام الذي كان قد اصطنعه وجعله جاسوسًا على سيدة الملك في ذلك القصر وقف يرتعد والبغتة ظاهرة في وجهه فصاح به: «جوهر! ما وراءك؟» فقال: «هلم يا سيدي، انجُ بنفسك.» قال: «إلى أين؟ لا. إني باقٍ حتى أرى هذه اللعينة وآخذها. ألم ترها؟» قال: «انجُ بنفسك يا سيدي. إن الأمر على غير ما تظن. اخرج من هذه الغرفة قبل أن يتم النطاق حول القصر.» قال ذلك وجرَّه من كمه واغتنم اشتغال الناس بالصياح والارتباك وخرج به من الغرفة. ولم يصدِّق أنه خارج القصر وهو يلهث من الخوف. فقال أبو الحسن وهو يطاوعه في المسير: «إلى أين أنت ذاهب بي؟» فأجابه وهو يشير إليه أن يتبعه: «تعالَ يا سيدي. سأقص عليك الخبر. انجُ بنفسك.» وما زالا يمشيان حتى بعدا عن قصور الخلفاء ودخلا بيتًا من بيوت العامة لا تقع عليه شبهة. وهو منزل لذلك الغلام كان يختبئ فيه عند الحاجة، فلما دخلا البيت أقفل الغلام الباب وقعد وقد امتقع لونه، وأبو الحسن يستغرب ذلك منه ولا يزال يعتقد أن الغلام مخطئ في توهمه، اعتمادًا على ما دار بينه وبين الهكاري. فلما استقر بهما الجلوس قال أبو الحسن: «قل الآن ما الذي حملك على هذا الفرار؟» قال: «لو لم أفر بك لكنت الآن في السجن.» فضحك أبو الحسن بتهكم وقال: «في السجن؟ هه هه، هذا أمر بعيد. ولا ألومك على هذا الخوف؛ لأنك لا تعلم ما دار بيني وبين القوم في هذا الصباح.» قال: «علمت كل شيء وعلمت أن تدبيرك لم يفلح، وأن قراقوش اللعين لما كنت أنت في انتظاره بالقصر كان هو عند صلاح الدين ذهب إليه بأمر مستعجل، فأمره أن يحيط قصور الخلفاء بالجند. وحالما يموت الخليفة يقبض على كل ما في القصور من النساء والأولاد والرجال والغلمان وكل شيء.» سمع أبو الحسن هذا القول ولم يصدقه فقال: «كيف عرفت ذلك؟ ومن أطلعك على هذا السر يا جاهل؟ لا يبعد أن يكون صلاح الدين قد أمر هذا الطواشي أن يحتفظ بالقصور وما فيها، وهو إنما أمره بذلك لئلا يتعدى عليها أحد من دعاة الإمامة سواي. ولا ألومك على توهمك؛ لأنك لا تعلم ما تم الاتفاق عليه بيني وبينهم مما سأطلعك عليك في وقت آخر.» فقال: «قلت لك يا سيدي إني مطلع على كل شيء، وما أنا بجاهل كما تقول، بل أنا عاقل ساهر على مصلحة مولاي الشريف، وقد تحققت أن صلاح الدين أمر طواشيه هذا أن يقبض على مَن في القصر، وأن يبحث عنك بنوع خاص، وإذا كنت لا تصدق ارجع إلى القصر وانظر ماذا تكون النتيجة.» فأطرق أبو الحسن وهو يرتعد من الغيظ وأخذ يعبث بلحيته وهو يراجع ما سمعه ويستغربه والغلام ساكت لا يبدي حراكًا. ثم التفت أبو الحسن إليه وقال: «يا جوهر، هل أنت واثق مما تقول؟» قال: «إني واثق تمام الثقة، إن شئت أن تتحقق قولي فاخرج متنكرًا وانظر إلى الجند يبحثون عن الشريف أبي الحسن كما يبحثون عن سائر أبناء الخلفاء في قصر النساء. ولا أضمن أنهم لا يكشفون أمرنا ويقبضون علينا ولو تنكرنا.» فلما تحقق أبو الحسن صدق غلامه وأيقن بفشله حمي غضبه حتى أصبح صدره يرتفع وينخفض وهو يغلي كالمرجل. ونسي موقفه مع غلامه فأخذ يزمجر كالأسد ثم صار يرغي كالثعلب ويتظاهر بالتجلد والتفت إلى الغلام وقال: «ما لنا ولهم، دعنا منهم، لا أعلم السبب في نقمتهم عليَّ أيضًا. إني بذلت الجهد في خدمتهم … مَن يا تُرى سيخلف العاضد على كرسي الإمامة؟» فقال الغلام: «يظهر أنهم سوف يولون أحدًا مكانه؛ لأنهم ينوون القبض على كل مَن بقي من أصحاب هذا النسب ولذلك خفت عليك.» فعاد إلى الإطراق وأخذ في تدبير حيلة للانتقام؛ لأن فشله كان مزدوجًا، إذ ذهبت آماله في الخلافة وأبعد ما بينه وبين سيدة الملك. لكنه لم يشك أنها ستندم عليه متى أكرهها صلاح الدين على أن تكون له. ••• أما سيدة الملك فتركناها مساء الأمس بعد ذهاب عماد الدين من عندها وقد ذهبت إلى الفراش. ولكن النوم لم يزرها وتراكمت عليها الهواجس. وبكرت في الصباح للاستفهام عن أخيها فقيل لها إنه مريض، لكن الأطباء عنده ولا تقدر أن تراه. فصبرت وهي تتوقع الإذن في رؤيته فلم تستطع ذلك إلا بعد الظهر. فأذن لها وكان أحسن حالًا مما تظن فاطمأن خاطرها عليه وجعلت تخفف عنه وتطمئنه. وتذكرت مقاومتها له في ذينك اليومين بشأن خطبتها وتعب ضميرها لئلا يكون لمرضه علاقة بتلك المقاومة فندمت على ذلك. وبعد قليل أُنبئ العاضد بمجيء الطبيب والجليس، فأشار إلى سيدة الملك بالذهاب وطمأنها أنه في خير. فعادت إلى غرفتها وهي في قلق على أخيها. ولم يطمئن خاطرها عليه وأتتها ياقوتة وسألتها فبكت وأغرقت في البكاء برغم إرادتها، فظنت ياقوتة أن الخليفة مات فصاحت صياح الندب فسمعتها سائر الجواري فاقتدين بها فعلت الضوضاء وأبو الحسن عند قراقوش فظنوا الخليفة مات كما تقدم وهو لم يمت. وكان قراقوش قد استقدمه صلاح الدين في ضحى ذلك اليوم على أثر ما جاءه به الهكاري من أبي الحسن وأنبأه بما علموه عن داخلية القوم وأوصاه أن يكون على حذر وأن يجعل الجند قريبًا من القصور، فإذا علم بوفاة العاضد أحاط القصور بالجند وبعث إليه بخبر ذلك. ولا يأذن لأحد من أهلها بالخروج لأية علة كانت. ونبَّه بنوع خاص إلى أبي الحسن والقبض عليه، فجاء قراقوش فرأى أبا الحسن عنده فاستبقاه حتى يروا ما يكون. فلما سمع الصياح داخل القصر وظن الخليفة مات، خرج لتوجيه الفرسان، وأمر أبا الحسن بالبقاء ريثما يعود. فلما عاد لم يجده هناك فبعث في طلبه فلم يقف على خبره فأسف لنجاته وبث العيون للقبض عليه، وأخذ يهتم بإرسال الخبر إلى صلاح الدين بوفاة العاضد. ثم علم أن الخليفة ما زال على قيد الحياة فسُر لأنه لم يتعجل في إرسال خبر الوفاة إلى صلاح الدين لئلا يأتي ويجد الخبر كاذبًا فيوبخه. على أنه أبقى الجند حول القصر ليرى ما يكون. فلما دنت الشمس من المغيب جاءه أحد الغلمان يقول: «إن مولانا السلطان قادم بموكبه.» فخف قراقوش للقائه فرآه تحول نحو قصر الذهب حيث يقيم الخليفة، فاستغرب ذلك ومكث في مكانه لا يدري سبب مجيء السلطان في تلك الساعة وإذا بصديقه الهكاري يمشي نحوه فرحب به وسأله عن سبب قدوم السلطان، فقال: «لأن العاضد طلب أن يراه.» فاستغرب قوله وصاح فيه: «الخليفة طلب أن يرى مولانا السلطان.» قال: «وما مكان الغرابة؟» فأجاب: «أنت أدرى مني بمكانها، وسنرى السبب بعد قليل.» فدخل قراقوش وأدخل الهكاري معه وجلسا ودار بينهما الحديث عن مقاصد صلاح الدين ودهاء نجم الدين ونحو ذلك. ••• علمت سيدة الملك بعد قليل أن بكاءها وبكاء حاضنتها أشاعا خبر وفاة الخليفة فتشاءمت وسكتت. ولكنها انزوت في غرفتها لا تريد أن ترى أحد وقلبها يشتعل قلقًا على حياة أخيها فضلًا عن متاعبها الأخرى. ولما غربت الشمس انقبضت نفسها وهي في أنواع من الشدة كل منها يقبض النفس ويبعث على القلق. لكن ساعة الغروب زادتها انقباضًا وأصبحت شديدة الرغبة في رؤية أخيها. وإذا بالحاضنة أتتها مسرعة وقالت: «إن سيدي أمير المؤمنين يطلب أن يراك.» فأجفلت لكنها فرحت وأسرعت في الذهاب. والتفت بمطرفها وخمارها ومشت في الممر والحاضنة تسير بين يديها، فسمعت ضوضاء ولغطًا من جوانب الدهليز ولم يساعدها النور الضعيف على تبين الوجوه، لكنها استأنست بأصوات بعض أهلها فاستفهمت الحاضنة عما سمعته فقالت: «إنك تسمعين أصوات أبناء أخيك وأخوتك.» فأجفلت وتراجعت. فقالت لها ياقوتة: «ما بالك يا سيدتي؟» فقالت: «ما الذي جاء بهم إلى هنا؟ ماذا جرى؟ هل من بأس على أخي؟» قالت: «إنه بعث في استقدامهم كما بعث في استقدامك.» فمشت وركبتاها ترتعدان وقلبها يخفق تطلعًا لما عساه أن يكون من حال أخيها؛ لأنه لا يبعث في طلب أهله إلا وهو في أشد حالات المرض. ولما علم أولاد العاضد بقدومها وسَّعوا لها واقترب أكبرهم داود ولي العهد من عمته وقبَّل يدها فقبلته وهي تتماسك عن البكاء تشجيعًا له. وصلت إلى باب الغرفة وركبتاها ترتعدان وأذناها مصغيتان لعلها تسمع كلامًا تطمئن له فسمعت صوتًا استغربته لا تذكر أنها سمعته قبلًا. فالتفت بالخمار ووسع لها الحرسي وأزاح الستار عن الباب والغرفة قد أُضيئت فيها الشموع فأرسلت نظرة إلى الداخل فرأت أخاها مستلقيًا على السرير وعلى وجهه دلائل الضعف الشديد. لكنه لما وقع بصره عليها ابتسم وسبقته العَبرات فترامت سيدة الملك عليه ولم تلتفت إلى أحد من الحضور وأخذت تقبِّله وتقول: «لا بأس عليك يا أخي ويا سيدي، لا بأس عليك.» فقبَّلها وهو لم يجب، لكنها أحست بدموعه تتساقط على خدها فتجلَّدت ونهضت وهي تقول: «لا بأس عليك يا سيدي إنك في عافية والحمد لله.» والتفتت إلى ما حولها فرأت الجليس الشريف جاثيًا بجانب فراش الإمام ورجلًا قاعدًا على وسادة لم تكد تتفرس فيه حتى ارتعدت فرائصها وتذكرت أنها رأت وجهه في بعض المواقف الرسمية من خلال النوافذ وهو صلاح الدين. فأوشكت أن ترتبك ويظهر الارتباك عليها فتجلَّدت ولم تشك أن صلاح الدين جاء ليخطبها. وكان سائر أبناء الخليفة قد دخلوا في أثرها إلى الغرفة، فأشار العاضد إليهم جميعًا أن يتقدموا فقبَّلهم واحدًا واحدًا وهو يبكي ومنظره يفتت الأكباد. ولم يبقَ أحد من الحضور إلا بكى حتى صلاح الدين. أما العاضد فأشار إلى أبنائه بالجلوس وأومأ إلى سيدة الملك أن تقعد على فراشه بالقرب منه. فجلست وهي تحاذر أن يظهر وجهها لصلاح الدين. جلسوا والسكوت مستولٍ على المكان مدة، ثم تكلم العاضد ووجَّه خطابه إلى سيدة الملك قائلًا بصوت ضعيف مضطرب متقطع: «يا أختاه، أنت تعرفين منزلتك عندي، إنك أختي وصديقتي ومرشدتي، كم استشرتك وكم عوَّلت على رأيك! والآن وقد دنت الساعة وشعرت باقتراب الأجل والذهاب إلى حيث ألقى وجه ربي، قد أحببت أن أستوثق من حالك وحال أبنائي بعدي.» وتوقف عن الكلام ريثما يستريح والجميع مطرقون ثم قال: «وقد علمت بالاختبار أن ليس فيمن حولي من رجالي أو أهلي مَن أثق فيه وأعوِّل عليه في شأنكم، وأنت تعلمين ما كان في خاطري على السلطان يوسف صلاح الدين (وأشار بيده نحوه)، وقد طالما شكوت لك من معاملته، أعترف لك وأنا في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة، أعترف أني شكوت من معاملته، لكنني لا أجد الآن مَن أثق فيه بقوله وأتحقق أنه فاعل ما يقوله سواه؛ لأني محاط بأقوام قوالين غير فعالين، يتنافسون في تملقي ويتسابقون إلى ابتزاز أموالي ونيل المراتب بالحيل والدسائس. فبعثت إلى السلطان وكلفته مشقة الحضور لأوصيه بكم خيرًا.» وأشار بأنامله أن يمهلوه ريثما يستريح وسكت وهو يلهث. فأطرقوا وهم يمسكون أنفاسهم ويكتمون ما يتردد في آماقهم من الدمع لا يلتفت أحدهم إلى الآخر تهيبًا من منظر الخليفة وتطلعًا لما سيقول. ثم عاد العاضد إلى الكلام ووجَّه خطابه إلى صلاح الدين قائلًا: «هذه يا صديقي أختي سيدة الملك التي بعثت تخطبها. وهؤلاء أبنائي وكبيرهم داود هذا. إني تارك أمرهم إليك خوفًا من أن يصيبهم مكروه بعدي، وأشهد عليك الله أن تأخذ بناصرهم … فهل تعدني أنك فاعل ما أقول؟» فلما سمعت سيدة الملك ذكر الخطبة في أثناء كلام أخيها اختلج قلبها خوفًا ويأسًا لئلا تكون إذا مات أخوها رهينة أمر صلاح الدين ولا سيما بعد هذه الوصية. ثم سمعت صلاح الدين يجيب أخاها قائلًا: «أنت يا أمير المؤمنين في خير وعافية بإذن الله، ولا بأس عليك يدعو إلى الاهتمام بالتوصية، فإنك مبَل من هذا المرض قريبًا إن شاء الله، أما وقد ذكرت أمر الوصاية فاعلم يا سيدي أن الخادم (يعني نفسه) قائم بما أوصيت به، وليكن المولى — أعزه الله — على ثقة من هذا الوعد أن أهلك هؤلاء لا يصيبهم سوء ما دمت في قيد الحياة، ولك عليَّ عهد الله بذلك.» فلم تجد سيدة الملك ذكرًا لها في هذا الجواب فأيقنت أنها واقعة فيما تتخوفه فعظم عليها الأمر فضلًا عما هي فيه من القلق على حياة أخيها فأخذت بالبكاء رغم إرادتها. وأرادت الخروج تخفيفًا عن أخيها، فمد يده وقبض على يدها ليجلسها فأحست بارتعاش يده، فاقشعر بدنها وقعدت وهي تنظر إليه، فرأته ينظر إلى صلاح الدين وعيناه تلمعان والدمع يغشاهما. وكأنه أراد الكلام فامتنع عليه، فأشار بإصبعه إلى أخته. ففهم صلاح الدين أنه يوصيه بها فأجابه قائلًا: «كن مطمئنًّا على سيدة الملك، إنها أختك ونعم الأخت هي، لكنها أيضًا أختي بعهد الله وكفى.» فلما سمعت تصريحه بأنها أخته سُرِّي عنها، ورغم ما هي فيه من اليأس والحزن أوشكت أن تبتسم لاعتقادها أن صلاح الدين لم يدعها أخته إلا وقد عدل عن التزوج بها، وهو غاية ما تريده. ولا سيما وقد ضمن حمايتها فأصبحت في مأمن من تعدي أبي الحسن أو غيره. ولم يكد يطمئن خاطرها من هذا الوجه وقد شغلت عن الخطر الملم بأخيها حتى أخذ يسعل وينتفض في فراشه من شدة الرعشة. وهي نوبة عصبية توالت عليه في ذينك اليومين. فنهض الجليس وأسرع يدعو الطبيب الشيخ السديد من غرفة أخرى. فدخل الطبيب وأشار إلى الحضور أن ينصرفوا من المكان ليعالج المريض بما يراه فنهضوا جميعًا. ومشى أولًا صلاح الدين مشية الأسد وسيدة الملك تراقبه وأحست من تلك الساعة أنها تحبه حب الإعجاب، وهي من طبعها تعجب برجال المروءة والنجدة، وهو ما بعثها على حب عماد الدين كما علمت. فأحست بارتياح لصلاح الدين واطمأنت إلى رؤيته. ثم أومأ إلى الجليس أن تنصرف إلى قصرها وكذلك سائر الحضور من أهلها. فانصرفوا وتزودت سيدة الملك بنظرة من أخيها وخرجت وقلبها مطمئن وقد نسيت حزنها على حاله أو شُغلت عنه. وكانت حاضنتها تنتظرها في الممر وتتوقع أن تراها باكية خصوصًا لما علمته بوجود صلاح الدين هناك، فأخذت تتأهب للتخفيف عنها. فإذا هي مشرقة الوجه رغم ما يجول في عينيها من الدمع ورغم ما ظهر في أجفانها من الذبول، فقبضت على يدها ومشت معها فعلمت من خطواتها وحركاتها أنها فرحة. وما حققت أنها وصلت إلى قصرها ودخلت غرفتها حتى ابتدرتها قائلة: «كيف سيدي أمير المؤمنين؟ أرجو أن يكون في صحة.» فقالت وهي تنزع الخمار عن رأسها: «إنه في غاية الضعف وقد داهمته الآن نوبة شديدة أوجبت أمر الطبيب بإخراجنا من عنده ليعالجه، وكان قبلها ضعيفًا يقطع الكلام تقطيعًا.» فقالت: «شفاه الله، مَن كان عنده وأنت هناك؟» قالت ذلك وهي تراقب ما يظهر منها. قالت: «كان هناك السلطان صلاح الدين الشهم.» وسكتت. فقالت ياقوتة: «لماذا سكت وكيف عرفت أنه شهم؟ يظهر أنك رفضته قبلًا لأنك لم تكوني تعرفينه جيدًا، أما الآن عند المشاهدة فقد تبين لك أنه يستحق حبك.» وأظهرت المداعبة ثم قالت: «لكنني لم أعلم سبب حضوره عند أمير المؤمنين في هذا اليوم لعله جاء لإتمام طلبه وعقد الخطبة؟» قالت ذلك وهي تساعدها في نزع المطرف عن كتفيها. قالت سيدة الملك وهي تنظر في المرآة لتتحقق حال وجهها: «إن أخي بعث إليه.» قالت: «أمير المؤمنين بعث إليه؟ ولماذا؟» فتذكرت الخطر على حياة أخيها فانقبضت نفسها وقالت: «بعث إليه ليوصيه بنا خيرًا.» فبغتت ياقوتة من هذه المفاجأة وقالت: «يوصيه بكم خيرًا؟! مَن تعنين؟» قالت: «أعني أنا وأبناء أخي وأخوتي؛ لأن أخي — شفاه الله — أيقن أنه لا ينقه من هذا المرض، واعترف بأنه لا يجد من رجاله مَن يثق به ليوصيه بنا غير صلاح الدين، فبعث إليه وإلينا وأوصاه بنا.» فعادت ياقوتة إلى المداعبة لتشغل سيدتها عن الحزن وقالت: «طبعًا إن صلاح الدين وافق أمير المؤمنين على طلبه؛ لأنه مطالب بهذه الخدمة بواجب المصاهرة.» وابتسمت وعيناها تراعيان عيني سيدة الملك لترى ما تدلان عليه. فابتسمت سيدة الملك والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «بل هو قال إنه يفعل ذلك بحكم الأخوة وليس المصاهرة.» فاستغربت هذا التعبير وقالت: «بحكم الأخوة؟ وأي أخوة يا سيدتي؟» قالت: «لما أوصاه أخي بي فلكي يؤكد له العمل بوصيته قال له: «كن مطمئنًّا على سيدة الملك، إنها أختك وهي أيضًا أختي بعهد الله وكفى».» فلم تتمالك ياقوتة عند ذلك من ضم سيدة الملك إلى صدرها وأخذت تقبِّلها وتقول: «إن مصيبتنا بمرض سيدي أمير المؤمنين كبيرة، وإذا أصابه سوء — لا سمح الله — فإن المصيبة تكون أعظم كثيرًا. ولكنَّ في ظلمات هذه المصائب المدلهمة نورًا قد أنار قلبي وأخرجني من ديجور اليأس؛ لأن أكبر همٍّ لي كان من جهتك إنما كان هو طلب صلاح الدين خطبتك وأنت لا تريدينه؛ لأنك عالقة القلب بعماد الدين. وأنا أعلم سلطة صلاح الدين وأنه إذا أراد أمرًا لا يقدر أحد على رده، وقد قلت الآن إنه تخلى عن الخطبة وتعهد بحمايتك كأنك أخته. فاطمئني يا سيدتي ولا يهمك سعي الساعين أو وشاية الواشين.» فعلمت سيدة الملك أنها تعني أبا الحسن، فأجابتها بعينيها وكل جوارحها موافقة على قولها، لكنها انتبهت فجأة إلى حال أخيها فعادت إلى الانقباض ودقت كفيها وقالت: «ويلاه! إن أخي في حال اليأس من الحياة. ماذا أعمل؟ كيف يصير أمرنا إذا مات؟» وغصت بريقها وعادت إلى البكاء وأخذت ياقوتة تخفف عنها. قضت معظم ذلك الليل في قلق، ولم تُفِق إلا صباحًا على أصوات النعاة. ولم يقع خبر موت أخيها وقعًا غريبًا عندها لكن وقعه كان شديدًا. ولم يمضِ إلا يسير حتى تعالى الصياح في القصور واجتمع الوزراء ورجال الدولة والكتاب وغيرهم، وغص قصر الذهب وسائر القصور بالناس. وأراد أهل الخليفة إقامة مأتم يليق بالخلفاء، وهمَّ رجال الدولة أن يبايعوا لداود ولي العهد، وإذا بالقصور قد أحاط بها رجال صلاح الدين. ثم جاء بهاء الدين قراقوش إلى الجليس الشريف وقال له: «إن السلطان يتقدم إليكم أن تجعلوا المأتم مختصرًا خوفًا من وقوع القلاقل، ومَن مات فقد مات ولا يجدي الصياح والعويل نفعًا.» فلم يسع القوم إلا الإصغاء والطاعة خصوصًا بعد ما شاهدوا من استقدام الخليفة لصلاح الدين بالأمس وإن لم يعلموا تفصيل ما دار بينهما، وإنما دلَّهم استقدامه على رفيع منزلته عنده، ومهما يكن من الأمر فالقوة غالبة وجند صلاح الدين قابض على المدينة بيد من حديد. فأذعن إلى أمره.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/7/
آخرة الفاطميين
أما سيدة الملك فبلغها العزم على منع أهل ذلك القصر من الخروج، ورأت الجند محدقًا به من كل ناحية فاكتفت بالبكاء وهي في غرفتها، فندبت أخاها وبكته والحاضنة بين يديها تبكي معها. وإنهما لفي ذلك إذ سمعتا دبدبة عند باب القصر، فخافت سيدة الملك ونهضت ياقوتة وهي تقول: «لا تخافي يا سيدتي بعد أن سماك صلاح الدين أخته.» ولم تصل إلى باب الغرفة حتى سمعت قارعًا يقرعه بلطف فسُرِّي عنها، وفتحته فرأت قراقوش واقفًا باحترام وهو يقول: «هل مولاتنا سيدة الملك هنا؟» قالت: «نعم، ماذا تريد منها؟ إنها في أشد حالات الحزن.» قال: «أريد أن أعزيها وأطمئنها وأطلب إليها بألا تهتم بما تراه من دخول بعض الناس إلى هذا القصر أو خروجهم منه، وأحب أن أسألها في شيء.» فصاحت سيدة الملك من الداخل: «تفضل يا أستاذ، ماذا تريد؟» فدخل قراقوش وهو ينظر إليها نظرة الاستعطاف، فالتفتت إليه وقالت: «ما وراءك الآن؟ ماذا تريد؟ ها إن أمير المؤمنين قد مات، فليسكن روعك وروع أصحابك.» وغصت بريقها. فجثا قراقوش بين يديها قائلًا: «إن موت أمير المؤمنين قد ساءني يا سيدتي، لكنه جرى بقضاء الله ولا مرد لقضائه. وإنما جئت الآن لأخبرك أن مولاي السلطان أمرني أن أقبض على ما في هذه القصور من الأموال وعلى مَن في هذا القصر من النساء، وهن كثيرات كما تعلمين. وإنما أستثني منهن سيدتي أخت أمير المؤمنين ومَن شاءت أن يصحبها من أهل هذا القصر من غير أهلها و…» فقطعت كلامه قائلة: «وماذا صنعتم بأهلي، وأين هم؟» قال: «لا بأس عليهم؛ لأن المولى الراحل — رحمه الله — قد أوصى السلطان بهم خيرًا، وهو عازم على نقلهم من هذا القصر إلى قصر آخر يكونون فيه تحت رعايته، لا بأس عليهم خصوصًا مولاتي سيدة الملك، فمن تريدين أن يخرج معك من الأتباع، وماذا تريدين من الأثاث والآنية أو غير ذلك؟» فأطرقت وقد كبر عليها الخروج من ذلك القصر. ومع اطمئنانها بما ستناله من الرعاية عند صلاح الدين لم تتمالك عن النفور من هذا الأمر وقالت: «تخرجوننا من قصورنا؟! وماذا تفعلون بمن فيها من النساء والرجال والأطفال فإنهم يعدون بالآلاف.» قال: «يا سيدتي، إن مولاي صلاح الدين سيعمل بما لا يمس كرامة أحد. فمن كانت من الجواري ذات بعل أطلقها مع بعلها، ومَن كانت حرة ولا بعل لها أطلق سراحها. وأما الجواري غير الحرائر فيهبهن لبعض رجاله. أما أهل الخليفة فإنهم سيقيمون نساءً ورجالًا في غاية الإكرام والحفاوة تحت عنايته، ويفرق فيهم الأعطية والألبسة والأقوات بحيث لا ينقصهم شيء كأنهم في قصورهم في حياة الخليفة — رحمه الله — ولا سيما سيدتي، فإنها ستنال كل رعاية هي ومَن معها.» فقطعت كلامه قائلة: «وماذا تفعلون بولي العهد داوود؟ ألم يبايعوه؟» فبلع ريقه وقال: «لا أظنهم يبايعون أحدًا، فإن السلطان نور الدين مولانا الأكبر قد أمر أن نبايع للمستضيء بالله العباسي، حتى لا يكون على الأرض خليفتان. على أني لا أرى الخلافة إلا تعبًا لصاحبها وخطرًا عليه ولا فائدة منها … أستميح سيدتي عذرًا في اختصار الحديث؛ لأني مضطر للاشتغال بتنفيذ أوامر مولاي السلطان بالاستيلاء على ما في هذه القصور كما قلت لك. فأخبريني ما الذي تريدين أن أحتفظ به.» قال ذلك ونهض وأظهر أنه يريد الخروج فقالت: «أريد أن تصحبك هذه الحاضنة وهي تخبرك بما أريد أن آخذه من الأثاث والثياب.» وحوَّلت وجهها عنه. فأتمت ياقوتة كلامها قائلة: «دعوا هذه الغرفة والتي إلى جانبها لا يمسهما أحد، وأنا أهيئ فيهما ما يجب نقله … بارك الله فيك يا أستاذ.» فتحوَّل قراقوش وخرج، فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك قالت لها: «الحمد لله أن صلاح الدين قائم بوعده. رأيتك تدققين في السؤال وتستغربين عدم المبايعة لسيدي داود … احمدي الله أنهم لم يستخدموا السيف في فناء مَن بقي من أهل الخلافة كما فعل غيرهم في مثل هذه الحال. ألم يأمر أبو العباس السفاح بقتل كل مَن بقي من بني أمية حتى لا يبقى واحد منهم يطالب بالخلافة؟ فلو أمر صلاح الدين مثل هذا الأمر مَن يقدر على رده؟ أم تظنين المغرور أبا الحسن يرده، لعنة الله عليه.» فلما سمعت ذكر أبي الحسن أحست براحة؛ لأنها نجت من حبائله في ظل صلاح الدين ونشطت للخروج فقالت: «أعدِّي ما نحتاج إليه من أثمن المتاع وأخفه.» قالت ذلك وتنهدت. فأخذت ياقوتة تهتم بذلك. وكان يومهم هذا من أعظم أيام الشدة؛ لأنهم في يوم الانتقال من دولة إلى دولة. ••• أما قراقوش فإنه قبض على مَن في تلك القصور من النساء وعرضهن على صلاح الدين، فوجد أكثرهن من الحرائر فأطلقهن. وجمع الباقيات فوهبهن الحرية وفرَّقهن في رجاله وأخلى تلك القصور من الناس. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه والخواص من مماليكه وأوليائه من الذخائر وغيرها. وأخذوا من الجواهر والمصوغات ما لا يحصره وصف. ونكتفي هنا بنقل عبارة مؤرخ الدولتين في كتاب الروضتين قال: «وأخلى دوره (دور العاضد) وأغلق قصوره، وسلَّط جنوده على الموجود، وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه ولخواص مماليكه وأوليائه من أخائر الذخائر وزواهر الجواهر ونفائس الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدرة اليتيمة والياقوتة العالية الغالية القيمة، والمصوغات التبرية والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعقود والتمائم والنقود، والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت، والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير، والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش، وما لا يُعد إحصاء ولا يُحد استقصاء، فوقع فيها الفناء وكشف عنها الغطاء وأسرف فيها العطاء، وأطلق البيع بعد ذلك في كل حدث وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغالٍ، وكل منقول ومحمول ومصوغ ومعمول، واستمر البيع فيها عشر سنين، وتنقلت في البلاد بأيدي المسافرين والواردين والصادرين.» أما أهل الخليفة فنقلهم صلاح الدين إلى دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه. واختص سيدة الملك بالإكرام والحفاوة. وكانت مصر إلى ذلك اليوم خلافة مستقلة يُدعى على منابرها لخليفتها الشيعي العاضد لدين الله. فأمر صلاح الدين أن تتحول الخطبة للمستضيء بالله الخليفة العباسي كما كان نور الدين قد طلب منه على يد أبيه نجم الدين. وكان قد اعتذر له في التأجيل خوف الفتنة والواقع أنه أجَّلها ليستعين بذلك على نور الدين إذا أراد أن يأخذ مصر منه بالقوة. فيأخذ هو جانب لعاضد ويتقوى به وبالمصريين على دفع عسكر الشام. فلما تأكد ضعف العاضد وتحقق اشتغال نور الدين عن مناهضته عزم على إقامة الخطبة العباسية مظهرًا بها الطاعة لنور الدين. فلم يجسر أحد من العلماء أن يبدأ بذلك إلا رجل أعجمي اسمه الأمير العالم تصدى للخطبة. فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر ودعا للمستضيء العباسي فوافقه الناس ولم يظهروا معارضة، فكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر. وكان هذا في أثناء اشتداد المرض على العاضد وتُوفي ولم يُعلم به. فأصبحت مصر بذلك تابعة لبغداد من حيث الخلافة من سنة ٥٦٧ﻫ، ومنعوا أبناء العاضد وسائر الرجال من أهله عن الزواج حتى لا يعقبوا نسلًا يطالب بالخلافة. أما سيدة الملك فلما رأت نفسها في قصرها الجديد في دار برجوان أكبرت ذلك الانتقال. ولما بلغها تحول الدعوة للعباسيين تحققت ذهاب دولة العلويين فشقَّ ذلك عليها كثيرًا، علاوة على وفاة أخيها. وقضت أيامًا وهي منزوية في غرفة من قصرها لا تكلم أحدًا إلا ياقوتة تتردد إليها لتخفف عنها، ومهما يكن من مشاغلها المتقدم ذكرها فإن أمرها مع عماد الدين كان غالبًا عليها. وقد فارقته في تلك الليلة المهولة وهي بين الشك واليقين من أمره. وكانت وهي في إبان أحزانها تود أن تفاتحها ياقوتة بحديثه لعلها تسمع ما يقوي أملها بلقائه، وياقوتة لا تفعل ليس عن تهيب ولكنها كانت ترى اشتغال سيدتها بحب ذلك الشاب من قبيل العبث وتود أن تنساه وتتحول عنه، فلا ترى من الحكمة أن تفاتحها بذكره أو أن تجعل ذكره من أسباب اطمئنانها وراحتها. على أنها كانت قد استأذنت صلاح الدين في الخروج للتنزه في البساتين، ولم يكن يُؤذن لسواها بذلك من أهل الخليفة، ولكن صلاح الدين كان كثير العناية بسيدة الملك والاحترام لإرادتها قيامًا بعهده لأخيها. وكان ذلك من أكبر أسباب تعزيتها على مصائبها. على أنه اشتغل عنها مدة بالحروب في الشام وتُوفي في أثناء ذلك أبوه (سنة ٥٦٨ﻫ.) وحدثت أمور أخرى شغلته عنها، لكنه كان يوصي بهاء الدين قراقوش بها. مضت مدة لم تسمع فيها شيئًا عن عماد الدين، ولا هي تعرف مقره ولا مصيره. ولا ترى بابًا للسؤال أو البحث، فضاق صدرها واستولى عليها القنوط وتغلبت عليها السويداء وأصبحت لا تفرح بنزهة ولا ترتاح إلى حديث. وقلَّ طعامها وتكاثر أرقها، فأخذت في الهزال وياقوتة تبذل جهدها في تسليتها، وكلما رأت ضعفها وانقباضها تحيَّرت في أمرها. وكانت تظن طول غياب عماد الدين ينسيها إياه، ولما لم تعد تسمعها تذكره ظنتها نسيته، لكنها ما لبثت أن أدركت خطأها ذات ليلة وهي نائمة في غرفة مستطرقة إلى غرفتها؛ إذ أفاقت على صوت سيدة الملك وهي تناديها: «ياقوتة ياقوتة!» فوثبت من فراشها إلى فراش سيدتها فرأتها قد قعدت على السرير وشعرها منفوش وتغيَّرت سحنتها فترامت عليها وصاحت: «مولاتي حبيبتي ماذا تريدين؟» فقالت: «عماد الدين، عماد الدين! أين هو؟ سمعتهم ينادونه.» فقالت: «أين هو يا سيدتي؟ إنه ليس هنا، إنك ترين حلمًا. ألا تعلمين أنه مسافر؟» فأزاحت شعرها عن جبينها وتفرست فيما حولها وعيناها تدلان على اضطرابها وارتيابها وقالت: «إنه مسافر؟ آه ما أطول السفر! إني سمعت اسمه في الحلم، يا ليتني ظللت نائمة لعلي أسمع ذكره مرة ثانية أو ربما تراءى لي طيفه.» قالت ذلك وأغرقت في البكاء. فأكبت ياقوتة عليها وأخذت تخفف عنها وتقول: «لماذا تفعلين ذلك يا سيدتي؟ ماذا أصابك؟ أين تعقلك وحكمتك؟» فاجتذبت نفسها من بين ذراعيها وهي تقول: «لا تذكري التعقل والحكمة. لا محل لهما مع الحب يا ياقوتة … يا لله ماذا جرى لي؟ ويلاه لم أعد أخشى التصريح بما في قلبي، لكنني حبسته زمانًا حتى كاد يقتلني، تدبري الأمر وأسعفيني، آه يا عماد الدين.» وعادت إلى البكاء. فجثت ياقوتة بين يديها وقالت: «هوني عليك يا مولاتي واتكلي عليَّ. لماذا لم تفاتحيني بهذا الأمر من قبل؟» قالت: «وما الفائدة من الكلام؟ ها إني قد كلمتك، أخبريني أين عماد الدين؟ ما العمل للوصول إليه؟ ألم تعلمي مقره؟ ألم تسألي أحدًا عنه؟ قولي.» قالت وهي تمسح دموع سيدتها بمنديلها: «نعم سألت عنه وقد علمت من الأستاذ بهاء الدين قراقوش أنه سار بمهمة سرية إذا نجح فيها صار رجلًا عظيمًا يليق بسيدة الملك، وهذا أمر ذو بال يا سيدتي؛ لأن بنت الخليفة وأخت الخليفة لا يليق بها أن تتزوج بواحد من عامة الناس و… و…» فقطعت كلامها قائلة: «لا تقولي خليفة ولا عامة، إنني أسيرة في هذا القصر وهو طليق، وقلبي أسير أيضًا ولا أدري إذا كان قلبه كذلك.» وشرقت بدموعها. فأخذت ياقوتة تضمها وتمسح دموعها وتقبِّلها وتقول: «خففي عنك يا سيدتي، وارجعي إلى رشدك. اصبري. لنرى ماذا نعمل.» قالت: «ماذا نعمل قد طال غيابه، ولا أدري ما أصابه.» قالت: «لم يصبه شيء، ولا بد من عودته ظافرًا ويصير من كبار الرجال. وإذا علم صلاح الدين بميلك إليه زاده رفعة وتقدمًا، يظهر أنك نسيت هذه النعمة. نسيت التفات صلاح الدين إليك ومعاملته إياك معاملة الأخ لأخته.» قالت: «كلا، لم أنسَ ذلك، ولولاه لقضيت حزنًا وكآبة … ولكن ما الذي أسمعني اسم عماد الدين في هذه الليلة؟» قالت: «لعل ذلك فاتحة القرب، تمهلي إلى الغد لنرى ما يكون.» وأشارت إليها أن تعود إلى الرقاد فأطاعتها ونامت وانصرفت ياقوتة إلى غرفتها وهي تفكر في سيدتها وقد ندمت لسكوتها عن ذكر عماد الدين كل هذه المدة، على أنها اعتقدت أن سيدتها لم تسمع اسم عماد الدين عبثًا، وأنه لا بد من شيء يحدث بشأنه. وقد تحقق ظنها في صباح اليوم التالي؛ إذ جاءها قراقوش يقول: «إن السلطان صلاح الدين قادم بعد قليل لمقابلة سيدة الملك.» فبُغتت لكنها توسمت في تلك المقابلة خيرًا — وصاحب اليأس يتوسم في كل جديد فرجًا — فقالت: «هل يطلب مولانا السلطان أن يقابل سيدتي ويخاطبها؟ إنه يفعل حسنًا لأنها منقبضة النفس وهي تستأنس برؤيته، أنا ذاهبة لأخبرها بقدومه.» ومضت إليها. ••• وكانت سيدة الملك قد نهضت من الفراش وهمت أن تستدعي ياقوتة، فلما دخلت عليها قرأت البشر في محياها فخفق قلبها وقالت: «ما وراءك؟» فقالت وهي تبتسم: «لعل الفرج قريب … إن السلطان صلاح الدين آتٍ لمشاهدتك.» قالت: «هو طلب ذلك من تلقاء نفسه؟» وتوردت وجنتاها من البغتة. قالت: «نعم يا سيدتي، فلعل عنده خبرًا يسرك. قومي والبسي ثيابك.» فنهضت وساعدتها ياقوتة في اللبس فارتدت ثوبًا بسيطًا وأصلحت شعرها وخمارها، وخرجت إلى قاعة الاستقبال وركبتاها ترتعشان من التأثر. وبعد قليل سمعت وقع خطوات في الدار وإذا ببهاء الدين قراقوش قد دخل وهو يقول: «إن مولانا السلطان قادم.» فتهيأت سيدة الملك لملاقاته. ثم دخل صلاح الدين وهو يتلطف في إلقاء التحية، فهمَّت بالنهوض له، فأشار إليها أن تقعد وهو يبتسم وقال: «اجلسي يا أختي، قد أبطأت في زيارتك هذه المرة لغيابي عن مصر، كيف أنت؟ أرجو أن تكوني في خير.» فلما سمعته يناديها بالأخوة انبسطت نفسها وقالت: «طالما كنت مشمولة برضاء السلطان صلاح الدين فأنا في خير، والحمد لله.» قعد صلاح الدين على وسادة بين يديها وهو يشير إلى قراقوش أن يقعد. وظلت ياقوتة واقفة. فقال صلاح الدين يخاطب سيدة الملك: «أرجو أن تكوني حائزة أسباب الراحة في هذا القصر.» قالت: «نعم إني من نعم السلطان لا ينقصني شيء من أسباب الراحة؛ لأن الأستاذ بهاء الدين لا يدخر وسعًا في هذا السبيل … ويكفيني من أسباب السعادة أن يدعوني السلطان صلاح الدين أخته.» قال: «فإذا كنت راضية عن هذه الأخوة لم يبقَ باعث لوضع هذا النقاب على محياك.» وضحك. فأزاحت النقاب عن وجهها وقالت: «نعم صدقت.» وأطرق حياءً. فرأى صلاح الدين الضعف في وجهها فقال: «أراك منحرفة المزاج يا سيدة الملك، هل تشكين من شيء؟» فسكتت وظلت مطرقة، فالتفت إلى ياقوتة، فعلمت أنه يستفهمها عن سبب ذلك النحول فقالت: «إنها لا تشكو ألمًا ولكنها منحرفة المزاج قليلًا.» قال: «لا بأس عليك يا أختي. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بهذه الزيارة … وإنما حملني عليك حب مصلحتك. ولكي أسألك عن أمر لا أحب أن يطلع عليه سواك وأظنك أعلم الناس به.» فتطلعت إلى معرفة ما يقوله وقالت: «إني رهينة ما تريد يا سيدي.» وشخصت في وجهه لترى ما يريده. فالتفت يمينًا وشمالًا كأنه يتحقق خلو المكان من الغرباء وقال: «أنت تعلمين أن أخاك — رحمه الله — أوصاني بك وبسائر أهلك خيرًا، وأظنني قمت بواجب الوصية.» فأشارت بعينيها ورأسها أن «نعم.» فقال: «وأظنني لم أقصر أيضًا في توخي كل وسيلة لإسعاد حال هذه البلاد من كل وجه، فرفعتُ كثيرًا من المظالم التي كانت في عهد الدولة الماضية، وقد أتاها الذين كانوا محيطين بالمرحوم أخيك. وكنت أظن هذا كافيًا لإجماع أولئك القوم على الطاعة.» وسكت. فقالت: «أظنهم مجمعين؛ لأن مولانا السلطان لم يدخر وسعًا في تخفيف الضرائب وإجراء العدل.» قال: «وكان في إمكاني لما تحولت هذه الدولة إلى يدي أن أقتل كل مَن كان من الأمراء والوزراء على رأي الدولة الماضية لكنني لم أفعل ذلك رغبة في أن يعرفوا لنا هذا الفضل.» فاستغربت قوله وتوسمت من ورائه شيئًا جديدًا، وأشارت بعينيها كأنها تستفهم عما حدث فقال: «ولكنني علمت أن هؤلاء الأمراء والأعيان يتآمرون علينا.» فرفعت بصرها وقالت: «يتآمرون على السلطان؟» قال: «نعم، ولو تآمروا فيما بينهم فقط لهان شرهم، لكنهم يستعينون علينا بالأعداء. إنهم يخابرون أعداءنا الإفرنج في ساحل الشام وصقلية، يحرضونهم على مناوأتنا ليُتاح لهم القيام علينا أو تخرج هذه البلاد من أيدينا.» قال ذلك وقد بان الغضب في غنة صوته. فأجفلت وقالت: «يتواطئون مع الإفرنج على سلطانهم؟ يا لها من خيانة!» وأطرقت لحظة ثم قالت: «هل وثق سيدي من هذا الخبر؟» قال: «إني واثق تمام الثقة مما أقول؛ لأن خبرهم جاءني من رجل أثق به وثوقي بنفسي. قبَّحهم الله! إذا كانوا يعدون خروج الدولة من الخلافة العبيدية إلى العباسية شرًّا وكلتاهما إسلاميتان فكيف بانتقالها إلى الإفرنج وهم أعداؤنا الألداء مذهبًا ووطنًا؟ فبدلًا من أن نتعاون على صيانة بلادنا منهم ندلهم على عوراتنا ونحرضهم على فتح بلادنا. هل رأيت أضعف رأيًا من هؤلاء؟ ألا يحل قتل الساعين في ذلك؟» قال هذا وقد ارتفع صوته وأبرقت عيناه برغم ما حاوله من تلطيف غضبه بين يدي سيدة الملك وقد عبث بعثنونه وأخذ يحكه. أما هي فإنها شاركته في الغضب وأحست بنوع من الخجل؛ لأن الذين قاموا بتلك المؤامرة من رجال أخيها فقالت: «نعم، إنها خيانة عظيمة، ولكنني أستغرب وقوع مثل هذا العمل من قوم عقلاء … فربما كان الساعون فيه من بعض العامة الجهلاء.» قال: «إنهم من أكبر الأمراء الأعيان، وفيهم رجل يزعم أنه من سلالة العبيد بين أقربائكم. ولم نوفَّق إلى القبض عليه مع مَن كان في القصر منكم، وحسبناه اكتفى بالنجاة من القتل واختفى، لكنه الآن من أكبر المحرضين على الخيانة، أظنك عرفته … ولولا دخوله في هذا الأمر لم أتعبك في شرح هذه الواقعة. وإنما أردت الاستعانة بك في استطلاع حاله لعلك تعرفين عنه شيئًا؛ لأنه أقرب المقربين لأخيك — رحمه الله — حتى إنه كان طامعًا في ولاية العهد بعده، أظنك عرفته.» فعلمت سيدة الملك أنه يعني أبا الحسن فامتقع لونها غضبًا وقالت: «نعم عرفته، أظنك تعني ذلك الشريف الكاذب، إنه يدَّعي النسب فينا وليس هو منَّا، ألا تعني أبا الحسن؟» قال: «إياه أعني، إنه من أكبر المنافقين الخائنين؛ لأنه جاءنا والمرحوم العاضد على فراش الموت وتوسَّل إلينا في نقل ولاية العهد إليه على أن يكون عونًا لنا في كل شيء فلم نوافقه. فانقلب إلى دس الدسائس ونصب الحبائل، فأطاعه جماعة من المارقين، وسينال كل منهم جزاءه، وإنما ألتمس منك أن ترشدينا عما تعلميه من مكان أبي الحسن.» قال ذلك وهو يتلطف في السؤال بخفض صوته. فظلت ساكتة وقد تمنت أن يكون ما يقوله صلاح الدين صحيحًا ليقع أبو الحسن في شر أعماله وتتخلص منه، وأحبت أن تتحقق صحة تلك الدعوة فقالت: «نعم أعرف نقص هذا الرجل وسوء خلقه ومطامعه وسأبحث عن مكانه، ولكنني أرجو أن يكون سيدي على ثقة في الخبر، وإذا شاء أن يزيدني بيانًا فإنه يعينني على البحث.» قال: «إن هذا الخبر تلقيته من عدة مصادر، فشككت فيه حتى أتاني بشأنه كتاب من رجل لا أشك في صدقه، كتب الكتاب بخطه وقد وصل إليَّ في فجر أمس سرًّا مع وفد أرسله الإفرنج الموالون لأولئك الخائنين بحجة أنهم يحملون إليَّ هدية من بعض ملوكهم، وهم إنما يحتالون في مقابلة تلك العصابة ليتموا المكيدة، وهذا هو الكتاب إذا طالعتِه أغناني عن زيادة الإيضاح.» قال ذلك ومد يده إلى جيبه واستخرج لفافة دفعها إلى قراقوش ليقرأها. أكتب هذا الكتاب إلى مولاي السلطان وأنا في أعماق السجن في بيت المقدس. ولا يسعني الوقت لتفصيل سبب سعيي؛ فإن الكلام فيه يطول وإنما أسرعت إلى كتابته لأنقل إلى مولاي خبرًا مهمًّا عرفته من ثقة، وأخاف إذا تأخر وصوله أن ينتهي بما أكره وقوعه، علمت بعد خروجي من مصر بموت العاضد وانتقال الدولة إلى مولاي السلطان، وسمعت وأنا في السجن أن بعض رجال تلك الدولة يجتمعون سرًّا في الفسطاط يتآمرون على إخراج هذا الأمر من حوزته. وقد خابروا الإفرنج في هذه الديار أن يهاجموا مصر بجند كثيف يجمعونه من هنا ومن صقلية، وأن أهل مصر يكونون معهم على جندكم. وأن أولئك المؤتمرين يرأسهم رجل من العلويين اسمه أبو الحسن، وهو الذي أغرى الناقمين على هذه الدولة فوافقوه واستنجدوا الإفرنج. وقد وافقهم الإفرنج وأخذوا يتأهبون لهذه الحملة، لكنهم هيئوا جماعة بصورة وفد يحمل هدية إلى السلطان صلاح الدين من ملك الإفرنج وهم في الحقيقة يريدون الاجتماع بتلك العصابة وإتمام المؤامرة. وقد وفقني الله بواسطة صديق لي هنا أن أطلع على ذلك، وأن أرسل هذه الرسالة مع حامل هذا الكتاب، وهو بحسب الظاهر من جملة خدم الوفد أو هو دليلهم في الطريق، فدفعت إليه هذا الكتاب، فإذا وصل إليكم فادفعوا إلى حامله مائة دينار وأكرموه. أما أنا فما زلت هنا وسأبقى حتى يُتاح لي الخروج للقيام بالمهمة التي وقفت حياتي للقيام بها في خدمة مولاي السلطان، وأنا ظافر بها بإذن الله، فإما أن أعود إليكم فائزًا منصورًا أو أموت في هذا السبيل فداء لمولاي؛ لأن حياتي وحياة كل رجاله مبذولة في خدمته. كانت سيدة الملك تسمع الكتاب ونفسها تحدثها في أثناء ذلك أن الكتاب يتعلق بعماد الدين. فلما سمعت قوله في الفقرة الأخيرة يذكر المهمة التي انتُدب لها خفق قلبها وتبادر إلى ذهنها أن يكون هذا الكتاب من عماد الدين نفسه، خصوصًا لأنه يقول إنه برح مصر قبل وفاة أخيها، فبدت البغتة في وجهها وتسارعت دقات قلبها ولم تتمالك عند الفراغ من تلاوة الكتاب أن قالت: «هل يأمر السلطان أن أعرف مَن هو صاحب هذا الكتاب؟» قال: «ينبغي لنا حفظ اسمه، لكنني نظرًا إلى ما بدا لي من غيرتك وصدق لهجتك لا أرى مانعًا من ذكره، إنه شاب جمع بين المروءة والحماسة وصدق المودة، كنا أنفذناه لأمر هام لا يجسر عليه سواه، لا أظنك تعرفينه.» ووقع نظر صلاح الدين وهو يتكلم على نظر بهاء الدين قراقوش فقرأ في وجهه شيئًا يستدعي التوقف عن التصريح، لكنه لم يدرك السبب ولا استطاع التوقف بعد أن وعد بالتصريح، ونظر إلى سيدة الملك فرآها متطاولة بعنقها وعيناها شاخصتان إلى شفتيه تكادان تحتلبان الكلام مِن فيه احتلابًا فقال: «إن صاحب هذه الرسالة اسمه عماد الدين.» لم يكد يلفظ باسمه حتى صاحت سيدة الملك: «عماد الدين؟» وأُغمي عليها! فدهش السلطان ونهض وأسرعت ياقوتة إلى الماء وأخذت ترش سيدتها به وتفرك يديها، واقترب بهاء الدين من صلاح الدين فأصغى إليه فقال له: «كنت أشرت إلى مولاي ألا يذكر هذا الاسم.» فقال: «وما الذين يعنيها من أمره؟ هل تعرف شيئًا عن ذلك؟» فقال همسًا في أذنه: «عرفت شيئًا منه قبل سفره، لكن ضياء الدين الهكاري منعني من إبلاغه لمولاي مخافة أن يفسد سعيه يومئذٍ في خطبة هذه السيدة.» وضحك. فقال صلاح الدين: «وما هي علاقتها به؟ يظهر أنها تحبه.» فأومأ إليه أن يتبعه إلى غرفة أخرى ريثما تفرغ ياقوتة من معالجة سيدتها، فتبعه فلما خلا به قص عليه ما كان من أمر عماد الدين ليلة مجيئه إلى القصر في السرداب، وكيف وشى به أبو الحسن ولم يتمكنوا من القبض عليه إلى آخر الحديث. فوقف صلاح الدين يفكر فيما اتفق وقوعه في تلك الجلسة، وقد سُرَّ لاطِّلاعه على ذلك السر؛ لأنه يحب عماد الدين ويريد إكرام سيدة الملك. وشكر الله لأنه لم يوفَّق إلى خطبتها، فقال لبهاء الدين: «لقد سرني اطلاعي على ذلك، فيجب علينا أن نسعى في جمع شمل هذين المحبين، والحمد لله أن سعي أبي الحسن لم يتكلل بالنجاح.» فقال قراقوش: «ويمكننا أن نتخذ سعينا في مصلحتها وسيلة إلى سعيها في مساعدتنا على كشف تلك المؤامرة؛ لأنها من أقدر الناس على ذلك فإذا أخلصت الخدمة في هذا السبيل ساعدناها على مرامها.» فضحك صلاح الدين وقال: «لله درك يا بهاء الدين! إنك لا تنظر في خير لأحد إن لم يَعُد جانب منه عليك، أحسنت.» قال: «إنما يهمني القيام بخدمة مولاي، أعزه الله.» ثم تحوَّل صلاح الدين نحو باب القاعة وسأل عن سيدة الملك، فقيل له إنها أفاقت، فدخل فرآها جالسة على وسادة وقد أطرقت خجلًا، وبان التعب في محياها وذبلت عيناها، فتقدم نحوها وقال: «قد علمت أمرك، وسرني ما علمته من علاقة حبيبنا عماد الدين بك، واعلمي أني باذل أقصى جهد في تقصير مدة غيابه، ولا يكون إلا ما تريدين، وقد أوصيت صديقي بهاء الدين أن ينظر فيما كنا فيه، أستودعك الله.» فوقفت لوداعه والخجل غالب عليها ولم تجب بلسانها، لكن عينيها أدتا واجب الشكر، على أنها لم تستطع السكوت عما يخالج فؤادها من الخوف على عماد الدين فقالت وصوتها يرتجف: «ولكنه في أعماق السجن يا مولاي.» قال: «إنه سيأتي بإذن الله، وإذا ظل في السجن فإننا نفتح بيت المقدس لنخرجه منه، وإن في فتحه تعزيزًا لدولة الإسلام. لا تخافي.» وابتسم ومشى مشية الأسد وهي تشيعه ببصرها وتزداد إعجابًا بعلو همته، وكبر نفسه، ورأت انتقال السيادة إليه وذهاب دولة أخيها أمرًا طبيعيًّا لا بد من وقوعه لما كانت تعلمه من ضعف نفوس رجال أخيها وفساد آرائهم وتنازعهم على التافه من الأمور شأن الدولة في أواخر عمرها. وبعد خروج صلاح الدين تقدم بهاء الدين إليها فقال: «سأعود إليك بعد قليل ريثما ترتاحين كوني مطمئنة.» وضحك. ••• لم يبقَ هناك إلا سيدة الملك وياقوتة. ووجهها مشرق: «الحمد لله صدق ظني ونلت ما كنت أريده.» فتنهدت سيدة الملك وقالت: «ما الذي نلناه وقد تبين لي من نص ذلك الكتاب أن عماد الدين في أعماق السجن عند الإفرنج وأنه مصمم على مهمة يظهر أنها غاية في الخطر، وأنه إذا لم يفز بها ظل هناك أو …» وغصت بريقها. فقالت: «ألا يكفي يا مولاتي أننا علمنا بوجوده حيًّا؟ وأن صلاح الدين عون لك في الوصول إليه؟ وسيقتص من ذلك الخائن؟ هيا بنا إلى الطعام واتكلي على الله.» فنهضت وقد سُرِّي عنها وتناولت طعامها وحديثهما في أثناء ذلك عن المؤامرة وأبي الحسن. وبعد الطعام أتى قراقوش — وهو يدخل المكان بلا استئذان — وقال: «يا سيدة الملك، أهنئك برضا السلطان صلاح الدين فإنه أوصاني بك خيرًا … إنما ينبغي لنا أن نكشف عن مكان المؤامرة، فهل تعرفين عنه شيئًا؟» فأطرقت تفكر ثم قالت: «أنَّى لي ذلك وأنا لا أعرف شارعًا من شوارع هذا البلد؛ لأني قضيت عمري محبوسة في القصور.» فتصدت ياقوتة للكلام وقالت: «إنَّ كشفَ هذا المخبَّأ عليَّ.» فقال قراقوش: «أين هو؟» قالت: «لا أعلم، ولكني أرجو البلوغ إلى خبره … ألا تعرف الغلام جوهر؟» قال: «أعرفه … ألم يكن من غلمان القصر؟» قال: «نعم. وهو جاسوس ذلك الخائن، كان يحمل إليه أخبارنا ويطلعه على أسرارنا.» قال: «وما الفائدة من معرفته إذا كان هذا شأنه وهو خائن لنا؟» قالت: «إن الخائن لا يثبت في الأمانة لأحد. كان في الأمس عينًا لأبي الحسن علينا، وهو الآن سيكون عينًا لنا عليه.» قال: «أين هو؟» قالت: «هو في هذا القصر، وقد أخبرني بعض الغلمان أنه غاضب على أبي الحسن؛ لأنه أساء معاملته ولم يبقَ له فيه وطر بعد خروج مولاتي من ذلك القصر ودخولها في حياطة مولانا السلطان. فنفر منه وجاء يتزلف إلينا … هل أستقدمه إليك الآن؟» قال: «افعلي.» فأمرت أحد الغلمان أن يستقدمه، وعادت فرأت سيدتها قد أبرقت عيناها من السرور وقالت لها: «بُورك فيك يا ياقوتة، إنك ساحرة.» قالت: «لا بد أن يعود كيد الخائن إلى نحره.» ثم جاء جوهر وعيناه ترقصان في وجهه من الاضطراب. وكذلك بصر المنافق لا يستقر في مكانه. فنظر إليه قراقوش نظر المتفرِّس وقال له: «يا جوهر، بلغنا أن أبا الحسن خدعك حينًا حين أخرجك عن طاعة مولاتنا … لكني سرني أنك رجعت إلى الصواب وعلمت أنك لا تنال خيرًا إلا بصدق الخدمة في مصلحة مولاتنا سيدة الملك ومولانا السلطان …» فأكب جوهر على يد بهاء الدين يقبِّلها ويتظاهر بالندم والإخلاص وقال: «يعلم الله أني كنت مغشوشًا، فإن ذلك الرجل خدعني وأوهمني أنه يد الإمام المرحوم ويفعل ما يشاء. ثم علمت أنه يريد به شرًّا وأنا قد رُبيت في خدمة مولاي، فلا يليق بي أن أغدر به. فلما تحققت سوء قصد أبي الحسن تركته لأني أكره الخيانة. ولا سيما لمن أحسن إليَّ وأنا صنيعته وعبده.» فقال قراقوش وهو يُظهِر أنه صدقه: «بارك الله فيك … واعلم أني حسن الظن بك وسأزيد في عطائك ولا أسألك عما مضى. وإنما أطلب إليك أمرًا واحدًا هو هين عليك وفيه انتقام لك من ذلك الخائن، فهل تطيعني؟» فلم يصدق جوهر أنه نال هذه الرعاية بعد خياناته الماضية فقال: «إني رهين الإشارة يا سيدي.» قال: «أطلب منك أن تخبرني عن المكان الذي يجتمع فيه أبو الحسن وأقرانه، هل تعرف أين هو؟» قال: «ذلك هين يا سيدي … نعم أعرفه وأعرف الذين يجتمعون معه — قبحهم الله — كنت عازمًا أن أطلعكم على ذلك، وإن لم تسألوني عنه فإنه فرضٌ علينا، وكان يمنعني الخجل من خطئي الماضي.» فربت على ظهره وضحك وقال: «عافاك الله، هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «هو في الفسطاط يا سيدي.» قال: «الآن تحققت صدقك؛ لأني كنت عالمًا أنه هناك. فأنا واضع ثقتي فيك من هذه الساعة. وأنت تعلم أن ثقتي هي ثقة مولانا السلطان، ولا يخفى عليك ما يستفيده صاحب هذه الثقة. أصلح ما أفسدته يا جوهر، وقد أوصتني مولاتنا سيدة الملك خيرًا بك وأخبرتني كم كنت مخلصًا في خدمتها قبلًا. ولكن ذلك الخائن أغراك بهذه الخيانة. مضى ما مضى تعالَ معي.» قال ذلك وتحوَّل وتبعه جوهر. وقد بادر إلى العمل قبل أن يحدث ما يغيِّر عزم ذلك الغلام المتقلب. وصمم ألا يفارقه قبل الوصول إلى المطلوب. على أنه تذكَّر أمرًا أحب أن يقوله لسيدة الملك قبل الذهاب، فرجع إليها وقال: «ينبغي لك يا سيدتي أن تتكلي عليَّ في كل ما يخطر لك، ولا بد أنك تذكرين اطلاعي على مجيء عماد الدين إلى قصرك، وأحمد الله على أنه نجا سالمًا.» فاغتنمت تقربه إليها وتلطفه في طمأنتها وقالت: «أما وأنت معي وقد رأيت السلطان راضيًا عني فإني أتقدم إليك أن تزيدني بيانًا عن حال عماد الدين.» قال: «لا أعرف عن حاله الآن غير ما في كتابه الذي تلوته عليك الساعة.» قالت: «أعني هل عليه خطر هناك؟ ومتى تظنه يعود؟» قال: «لا أعلم متى يعود، أما الخطر فلا أخافه عليه لعلمي بشجاعته وتعقله، ولا بد من الاتكال على الله … كوني مطمئنة في كل حال.» قال ذلك ومشى. فهرع جوهر في أثره وقد سرَّه ما يؤمله من الفوز بالمكافأة، لا يهمه ما يترتب على عمله من قتل النفوس وخراب البيوت. إن أمثال هذا الخائن ينقصهم الشعور الحي الذي يسمونه الضمير. فهم ينظرون في الأعمال من حيث ما يعود عليهم من النفع ولا يشعرون بغير ذلك. والدنيا عندهم لها وجهان: وجه منفعتهم، وهو ما ينبغي بقاؤه، وأما الوجه الآخر فهو كالعُدة في نظرهم، فلا يبالون أن يُمحى من الوجود أو يُساق أصحابه إلى المجازر. وقد يسرهم ما يرونه في الآخرين من الأذى وإن لم ينالوا هم منه خيرًا لأنفسهم. فكيف إذا كان لهم منه نفع. نعوذ بالله من هؤلاء. لكنهم بحمد الله قليلون ولو كانوا كثارًا لخربت الدنيا من عهد بعيد. ••• مشى قراقوش وجوهر في خدمته، وكان جوهر مملوكًا حبشيًّا وفيه ذكاء، لكنه لم يكن له ضمير كما علمت، فالتفت قراقوش إليه في أثناء الطريق وقال: «يا جوهر ما العمل الآن؟» قال: «الأمر لمولاي.» قال: «أنا متكل عليك في الوصول إلى الغرض، أريد أن أطلع على مجتمع القوم وأسمع حديثهم، هل يتيسر ذلك الليلة؟» قال: «نعم يا سيدي، نذهب بعد الغروب إذا شئت.» قال: «إلى أين؟» قال: «إلى الفسطاط؛ لأن القوم يجتمعون في بيت هناك أعرفه، ولا يمكن أن يهتدي إليه سواي، في دار خربة لا يُتوصل إليها إلا من أزقة ضيقة مظلمة، ولا بد من التنكر.» قال: «وماذا ترى أن نفعل؟» قال: «أرى أن يتنكر مولاي الأستاذ بلباس طبيب نصراني وأنا أكون في خدمته أحمل له جراب العقاقير وأقود بغلته.» قال: «هذا هين.» وصلا بعد هنيهة إلى منزل قراقوش فدخلا، وأمر قراقوش ألا يدخل البيت أحد من الناس ولو أنه السلطان صلاح الدين نفسه. وأمر جوهر أن يُعد ما يلزم للتنكر وسأله عن محل الاجتماع أين موقعه في الفسطاط فقال: «قرب جامع عمرو.» وعيَّن النقطة، فتركه يهيئ ما يلزم، وأخذ في إعداد فرقة من الجند تسبقه لتتربص في خان قرب ذلك المجتمع، ودبَّر وسيلة للإحاطة بالمنزل عند ابتداء الإشارة. أعد كل شيء قبل الغروب، ولم تغب الشمس حتى كان قراقوش قد تزيى بزي أطباء النصارى، والزنار على وسطه والعمامة على رأسه وأُعدت له البغلة. ومشى جوهر في ركابه، ولا يشك مَن يراهما أنهما الطبيب وغلامه. برحا القاهرة عند الغروب وقطعا المسافة بينها وبين الفسطاط بسرعة، ثم أطل قراقوش على الفسطاط من مرتفع فرأى آثار الحريق ما زالت ظاهرة فيها، وقد خربت أكثر أبنيتها بأمر شاور منذ بضع سنين (سنة ٥٦٤ﻫ)؛ إذ خاف شاور الوزير من وصول الصليبيين إليها واستيلائهم عليها فأمر أهلها بالخروج منها إلى القاهرة، وألقى النار فيها وأمر بنهبها. فانتقلوا ونُهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم. وظل الحريق عاملًا فيها ٥٤ يومًا، فاختلطت الأزقة حتى اشتبهت على المارة. ولولا جوهر ومعرفته الشوارع جيدًا لاستحال على قراقوش الوصول إلى المكان المطلوب. ولكن ذلك الحبشي كان يقود البغلة ويتخطى الخرائب كأنه ماشٍ في داره. ودليله الأظهر مئذنة جامع عمرو، فإنها كانت بارزة في الفسطاط دون سواها. لم يتجاوزا جامع عمرو حتى خيَّم الغسق وأظلمت الدنيا وقلَّ الناس في الشوارع. والمتأمل في الفسطاط يجد فرقًا كبيرًا بينها وبين القاهرة؛ فإن هذه أكثر عمارة وسكانًا وأضخم خانات وأعظم آثارًا. سكن الأمراء فيها؛ لأنها خاصة برجال الدولة، وأما الفسطاط فإنها مقر الباعة والصناع ويكثر فيها السوقة والملاحون لقربها من النيل، وقد زادها الحريق حقارة. ولما توسَّط قراقوش المدينة ورأى نفسه منفردًا هناك مع جوهر خطر له أن ذلك الحبشي ربما ينوي الغدر به وهو خائن لا يُركن إليه، فالتفت نحوه وقال: «أين نحن يا جوهر، يظهر أننا قد بعدنا عن المكان المطلوب الذي ذكرته وتجاوزنا جامع عمرو؟» قال: «ثق يا مولاي أنني ذاهب بك إلى المكان المطلوب، وقد تجاوزناه الآن حقيقة كما قلت، ولكنني أريد أن تشرف عليه من منزل آخر بابه في شارع آخر. ألا تريد أن ترى القوم مجتمعين وتسمع ما يدور بينهم؟» قال: «بلى، ولكن تمهَّل قليلًا.» قال ذلك وتفرس فيما يجاوره فعلم أنه على مقربة من الخان الذي أوصى الجند أن يتربصوا فيه فقال: «أخبرني يا جوهر أين هو البيت الذي يجتمعون فيه؟ دلني عليه بإصبعك من هنا.» فأشار هذا بإصبعه قائلًا: «ألا ترى هذا النور المعلق على تلك السارية.» قال: «رأيته.» قال: «أترى وراءه بيتًا خربًا؟ إنهم يجتمعون في داخله.» فتحول قراقوش ببغلته إلى الخان فلقيه قائد الفرقة بالباب فأوصاه أن يفرِّق جنده حول ذلك البيت من كل ناحية بحيث لا يشعر به أحد، ولا يظهر أحد من رجاله في الطريق، ثم قال: «إذا رأيتم مصباحًا يتحرك فوق أحد هذه الأسطح حركة رحوية فاهجموا على هذا البيت من كل ناحية واقبضوا على مَن فيه.» وعاد فأدار شكيمة بغلته وجوهر يقودها حتى دخل الزقاق المطلوب ووصل إلى باب فدقه وقراقوش لا يزال على البغلة، ففتحت خوخته وأطل رأس الشيخ قد تدلى سالفاه على خديه وقال: «مَن الطارق؟» فتقدم جوهر وقال: «الطبيب سمعان، افتح.» قال: «وماذا يريد الطبيب منا؟ ليس عندنا أحد مريض.» قال: «لم يأتِ للتطبيب لكنه يريد المبيت هنا، وهو من أهل القاهرة، وقد جاء للسفر في النيل فوجد السفينة التي يريد السفر عليها قد أقلعت، فأراد المبيت في الفسطاط إلى الصباح حتى يبكر إلى الشاطئ ويركب سواها. افتح يا عماه.» قال: «لماذا لم يذهب إلى الخان، إنه قريب من هذا المكان.» قال: «لا يريد المبيت في الخان، وهو لم يتعوَّد ذلك، وأنا أتيت به إلى هنا خدمة لك.» وهمس في أذنه قائلًا: «يظهر أنك لم تعرفني يا معلم حاييم.» فتفرس فيه الشيخ وقال: «عرفتك يا جوهر، عفوًا إذ لم أعرفك من قبل.» قال: «لا بأس، وأنا جئت بهذا الطبيب ليبيت هنا، وهو كريم الخلق كثير المال لا يبالي كم تأخذون منه. الأحسن أن تخلو له البيت برمته واطلبوا عن كل حجرة منه دينارًا، وإذا قال لكم إنه يحتاج إلى حجرة واحدة فقط، قل له إنك لا ترضى إلا بتأجير البيت برمته.» ففرح حاييم بهذا الرأي، ولم يكن في بيته كله ما يساوي إلا دينارين من الأثاث. فلما قال له جوهر ذلك رفع صوته وقال: «لا نقدر أن ندخل رجلًا غريبًا يبيت معنا، فإذا شاء الطبيب أن نؤجره البيت من بابه فعلنا.» فقال جوهر: «أجرته؟» قال: «إن فيه خمس غرف، وأجرته خمسة دنانير.» فتظاهر جوهر أنه يخادع قراقوش بالمساومة وقال: «إن خمسة دنانير كثيرة يا معلم حاييم. ألا تكفي أربعة؟» وضغط على إصبعه ألا يقبل. فأجاب: «كلا، إذا لم يعجبكم فهذا الخان قريب من هنا.» فأظهر أنه رضي وقال: «لا بأس، إن مولانا الطبيب كريم. وأنتم أين تنامون؟» قال: «ليس عندي إلا امرأتي العجوز، فنبيت عند صهرنا وهو قريب من هنا.» فتحوَّل جوهر إلى قراقوش وقبض منه الدنانير ودفعها إلى الشيخ وهو يقول له همسًا: «هذه هي الدنانير، لكن ينبغي أن تختصني منها بدينار تدفعه إليَّ غدًا صباحًا، فهمت؟» قال: «حسنًا.» وكان ينوي ألا يدفع إليه شيئًا، بل اعتزم أن ينتحل حجة في الصباح يقبض بها دينارًا سادسًا فيدعي أنهم أضاعوا شيئًا من الأثاث أو نحو ذلك. ثم تحوَّل الشيخ إلى الداخل وعاد بعد قليل والمصباح بيده ومعه امرأته وهي تقول: «يظهر أن هذا الضيف عزيز عليك حتى أخرجتني من البيت لأجله.» فقال: «كيف لا؟» وأشار إلى بهاء الدين أن يتفضل. فتحول بهاء الدين عن بغلته فأدخلها جوهر تحت قنطرة بجوار المنزل شدها إلى حلقة دُقت هناك لمثل هذه الغاية. ودخل ودفع حاييم المصباح إلى جوهر وانصرف وهو يوصيه بالبيت خيرًا. ••• دخل قراقوش البيت مع جوهر غير مبالٍ بما يتصاعد من ممراته من الروائح القذرة، ثم أقفلا الباب وأوصداه، ومشى جوهر بالمصباح بين يدي قراقوش وهما يسترقان الخطى لئلا يُسمع لهما صوت. ولم يمشيا طويلًا حتى سمعا ضوضاء عميقة فقال جوهر: «نحن بجانب مجلس القوم ليس بننا وبينهم إلا الحائط. اصبر قليلًا.» وكان قراقوش منذ خروجه من منزله يتحفز للدفاع عن نفسه ويده على خنجره ليغمده في صدر جوهر إذا آنس منه خيانة، فلم يلحظ منه شيئًا، فلما استهله وقف وهو يحدق فيه فإذا هو يشير إليه أن يصعد على سلم ضيق يؤدي إلى سقيفة أعلى الغرفة. فصعد معه، ومن هناك اتصلا إلى السطح من باب ضيق. ورأيا السماء فوق رأسيهما ونظر بهاء الدين إلى ما يحيط بهما فإذا هما والأسطح حولهما. فقال جوهر بصوت ضعيف: «لنترك المصباح على السقيفة ونمشي في الظلام لئلا يفتضح أمرنا.» فأطاعه ومشى والضوضاء تزداد وضوحًا حتى انتهى به إلى حائط فقال: «هذا حائط آخر من حوائط قاعة الاجتماع.» فرأى بهاء الدين في أعلى الحائط كوة قد انبثق النور منها، فتقدم نحوها فسبقه جوهر وقال: «انظر هنا.» فنظر فرأى قاعة غاصة بالناس قعودًا على وسائد مصفوفة في الغرفة فوق بساط. وقد علت الضوضاء ووقف بالباب رجل أسنده بظهره كأنه يمنع من شاء الدخول، فهمس في أذن بهاء الدين قائلًا: «هل ترى جيدًا؟» قال: «نعم، لكنني لم أعرف أحدًا منهم غير أبي الحسن، مَن هذا الجالس إلى جانبه؟» قال: «إن الذي تراه إلى يمينه عمارة بن أبي الحسن الشاعر اليمني، وإلى يساره القاضي العويرس، وبعده داعي الدعاة، وإلى الجانب الآخر عبد الصمد الكاتب وآخرون. وكلهم من الشيعة كما تعلم. انظر في وسط الغرفة ماذا ترى؟» قال: «أرى سيفًا ومصحفًا، أظنهم يحلفون عليهما.» قال: «نعم.» وأخذ قراقوش يتفرس في الحضور ليعرفهم عند الحاجة. وإذا هو بأبي الحسن أشار بيده يطلب الإصغاء فأنصتوا فقال: «أبشركم أيها الأمراء أن أعمالنا تكللت بالنجاح، وجاء وفد الإفرنج في هذا الصباح يحمل الهدايا إلى ذلك الكردي، وقد فرح بالهدية وفاته ما وراءها، وجاءتنا كتب أصحابنا في ساحل الشام بأنهم على أهبة الرحيل عند أول إشارة، فأبشروا بنيل المراد.» فتصدى عمارة اليمني وهو شاعر مشهور ووجَّه نظره إلى القاضي العويرس وداعي الدعاة وهما من أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة وقال: «إن مولانا الشريف أبا الحسن أهل لما بايعناه من الخلافة لنسبه الشريف؛ ولأن مولانا الإمام المرحوم قد أوصى له بولاية العهد كما سمعتم ذلك من الجليس الشريف قبل الآن. فيجب أن نخلص له الطاعة لنعيد بناء هذه الدولة ورونقها، وكانت قد فسدت بمن دخل في أمورها من الأعاجم بسوء رأي المحيطين بالخليفة السابق، وهم الذين أشاروا عليه باستنجاد نور الدين صاحب الشام، فكان ذلك سببًا في صيرورة الأمر إلى يوسف هذا (صلاح الدين)، ولكننا متى تم لنا ما دبَّرناه وقبضنا على أَزِمَّة الأمور صرنا نتجنب هذا الخطأ في المستقبل. ولا نولي المناصب إلا الذين نثق بإخلاصهم وتفانيهم في الدعوة العلوية من العرب، إننا عرب والقرآن عربي، فلا ينبغي أن نشرك في أمرنا غير العرب كما فعل غيرنا.» فقال عبد الصمد الكاتب: «بارك الله فيك يا أخا اليمن، قد مضى زمن الضعف والحمد لله. إن خليفتنا هذا (وأشار إلى أبي الحسن) جمع بين الحزم والدهاء، ووزيرنا هذا (وأشار إلى العويرس) لا مثيل له في أصالة الرأي و…» فقطع كلامه رجل كان جالسًا منذ ساعة لا يتكلم كأنه يفكر في أمر مهم لا يلتفت إلى ما يدور بينهم، فلما سمع كلام عبد الصمد بشأن الوزارة رفع رأسه وقال: «إن الوزارة لم يتم الاتفاق عليها بعد. وأنا مع احترامي للقاضي الأجل لا أرى له حقًّا في الوزارة، وإنما هي لسلالة الوزراء آل رزيك، فإنهم تولوها في عهد الأئمة السالفين ولهم عليها فضل، فلا يليق نقلها إلى سواهم.» فتصدى رجل آخر كان نهض في أثناء ذلك وأخذ يهمس في أذن أبي الحسن وأبو الحسن يهز رأسه له هزة الرضا والاستحسان، فقطع كلام الرجل قائلًا: «مهلًا لا تتنازعوا على منصب هو حق لنا وكان في قبضتنا بالأمس.» فضحك صاحب وزارة بني رزيك وقال: «تريد أن تُرجِع الوزارة لبني شاور؟ ألم تكن هذه المصائب كلها من وزارته؟ ألم يكن هو الذي أحرق هذه المدينة بسوء تدبيره؟ إن الوزارة لا تكون لغير آل رزيك ونحن أصحابها الأولون.» فتكلم أبو الحسن وهو يبش ويتلطف وقال: «خففوا من غضبكم وارجعوا إلى صوابكم، لسنا الآن في معرض التنازع على المناصب، إنما نحن في الاتحاد على إخراج هذا العدو من بلادنا، ومتى أخرجناه نعمل ما يتفق عليه الرأي.» فقال صاحب وزارة آل رزيك: «طبعًا إن أبا الحسن لا يهمه البحث في المناصب الآن؛ لأنه ضمن لنفسه الخلافة بسبب نسبه في العبيديين … ولم ينازعه أحد في صحة نسبه لأن الجليس الشريف شَدَه بصحته بناء على ما سمعه من الإمام المرحوم.» وضحك ضحكة استخفاف. ••• وكان قراقوش مصغيًا لما دار وقد شاهد كل حركة، وجوهر واقف بين يديه يتطاول ليرى ما يراه، فاكتفى قراقوش بما سمعه وشاهده والتفت إلى جوهر وقال بالإشارة: «أين المصباح؟ إليَّ به.» فنزل جوهر على السقيفة وأتى بالمصباح، فتناوله قراقوش وصعد إلى مرتفع وأداره بيده بحركة رحوية كما اتفق مع رجال الفرقة. ثم نزل وأخفى المصباح وعاد إلى الكوة والقوم يتحاجون ويناقشون. وإذا بالضوضاء قد تعاظمت ولم تمضِ دقائق قليلة حتى صار رجال قراقوش داخل القاعة وأخذوا في القبض على مَن فيها. وليس فيهم مَن يستطيع دفاعًا؛ لأنهم لم يكونوا قد أعدوا من وسائل الدفاع غير ألسنتهم وأصواتهم. ووجَّه قراقوش التفاتة خصوصًا إلى أبي الحسن فلم يجده بين المقبوض عليهم، فظنَّهم أخرجوه إلى خارج القاعة. ولما أيقن بفوز رجاله بالقبض على المتآمرين أشار إلى جوهر بالنزول للرجوع إلى القاهرة. فنزل بين يديه بالمصباح وقراقوش يتبعه ولم تطأ رجله السقيفة حتى سمع وقع أقدام مسرعة في أرض البيت فأجفل، وتفرس قراقوش على النور الضعيف فرأى شبحًا بالعمامة والجبة فلم يعرفه، فقال له جوهر همسًا: «هذا أبو الحسن هلم إليه.» فبادر إلى إطفاء المصباح حتى لا يعرف مكانه وأسرع في النزول ليقبض على أبي الحسن وهو يحسبه دخل هذا المنزل بتواطؤ سابق مع صاحبه لمثل هذه الساعة على أن يبيت ليلته ثم يفر في الصباح. نزلا إلى أرض البيت وجوهر يقود قراقوش؛ لأنه يعرف مداخل المكان وأصاخا فلم يسمعا خطوًا ولا صوتًا كأن ذلك الشبح كان ظلًّا وزال، فأراد قراقوش أن ينير المصباح، فأشار إلى جوهر أن يفعل واستل خنجره وتهيأ للهجوم على مَن يظهر أمامه. ولم يكد جوهر يبدأ بالإشعال حتى سمعا باب الدار فركضا إليه فوجدا الباب مفتوحًا وليس هناك أحد، فأضاء المصباح وأخذا في البحث عن أبي الحسن في كل مكان فلم يجداه، فتأكدا أنه نجا، وقال قراقوش: «هل أنت متأكد يا جوهر أنه أبو الحسن؟» قال: «يغلب على ظني يا سيدي أنه هو، ومع ذلك فقد يكون سواه، هلم بنا للبحث عنه في الأماكن المجاورة، فإذا لم نجده فلعله في جملة المقبوض عليهم، وإلا فإنه قد نجا، قبحه الله.» فخرجا وركب قراقوش بغلته وأخذا في البحث عنه في تلك الدار وما يجاورها فلم يقفا له على أثر، فذهبا إلى القاهرة وبهاء الدين يخاف أن يكون أبو الحسن قد نجا وكان خوفه في محله. أما سائر المقبوض عليهم من المتآمرين فحُكم عليهم بالصلب وفي مقدمتهم عمارة اليمني المتقدم ذكره، فصلبوه في ٢ رمضان سنة ٥٦٩ﻫ، وارتاح بال صلاح الدين من هؤلاء، لكنه ما زال يفكر في أبي الحسن سبب تلك الدسائس. أما سيدة الملك فإنها في اليوم التالي للقبض على المتآمرين كلفت ياقوتة بالبحث عما تم. فلما أنبأتها بالقبض عليهم فرحت، لكن ساءها فرار أبي الحسن وهو مصدر متاعبها. وتعلم أنه لا يبالي ماذا يفعل في سبيل غرضه، لا يرعى ذمة ولا يتجنب حرامًا، فنظرت إلى ياقوتة قائلة: «إن صلاح الدين قد فاز بما يريد.» فقالت ياقوتة: «إن نجاة ذلك الخائن كدرتني كثيرًا، ولكن ما العمل؟ لا بد أن يرجع كيده في نحره لأن الله غريمه، ولم يعد يهمنا أمره ونحن في حياطة صلاح الدين. والآن جئتك بشيء يعزيك على هذه المصيبة.» فبغتت سيدة الملك وقد أصبحت تبغت كل جديد تتوقعه لفرط قلقها على عماد الدين فقالت: «ما وراءك؟» فضحكت وقالت: «إني عاتبة عليك بالنيابة عن عماد الدين، كيف تعلمين بمجيء رسول من عنده رآه قبل سفره وخاطبه وعلمنا من كتابه أنه سجين ولا تسألين عن ذلك الرسول لكي تستزيديه إيضاحًا أو تحمليه رسالة؟» فتنهدت سيدة الملك وقالت: «آه يا ياقوتة، قد أقلقتك بكثرة الأسئلة، هل تتوهمين أني غفلت عن هذا الفكر؟ إن رسول عماد الدين يؤنسني إذا رأيته، وكنت عازمة على استدعائه أين هو؟» قالت: «أخبرني بهاء الدين الآن أن ذلك الرسول يطلب أن يراك وأن عماد الدين كلفه بذلك.» فتوردت وجنتاها وقد أخذها الفرح ولم تتمالك أن صاحت: «عماد الدين كلفه أن يراني؟! الحمد لله إنه يفكر فيَّ، هو إذن يحبني!» ثم تراجعت وقد ندمت على تلك اللهفة وخجلت وأدارت وجهها إلى حائط عليه ستارة موشاة بالألوان الجميلة تشاغلت بالنظر إليها. فقالت ياقوتة بصوت ضعيف: «يا لله من الحب! كيف يجعل سيدة الملك سلالة الخلفاء ونزيلة السلاطين يستخفها الفرج إذا سأل عنها شاب من …» فقطعت سيدة الملك كلامها قائلة: «لا تقولي شيئًا عن عماد الدين، إنه عندي فوق الخلفاء والسلاطين، صدقت إن الحب يفعل كثيرًا … والآن أين ذلك الرسول؟ دعيه يدخل.» فخرجت ياقوتة وعادت بعد قليل ومعها شاب في زي أهل بيت المقدس الذي يلبسونه في الأسفار، حول رأسه الكوفية كالخمار وقد ارتدى السروال القصير وحول خصره منطقة عريضة من الجلد غرس في مقدمتها خنجرًا صغيرًا، ولفَّ حول ساقيه لفافة من النسيج تسهِّل عليه المشي السريع. فلما دخل وقف متهيبًا متأدبًا، فأرسلت سيدة الملك خمارها ورحَّبت به قائلة: «ما اسمك يا غلام؟» قال: «اسمي جرجس.» قالت: «أنت مسيحي إذن؟» قال: «نعم يا سيدتي.» قالت: «من أين أنت آتٍ؟» قال: «جئت من بيت المقدس برسالة إلى السلطان صلاح الدين وقد أديتها بالأمس، ولكن صاحب تلك الرسالة أسرَّ إليَّ أمرًا خاصًّا كلفني به يتعلق بسيدة الملك.» قالت: «وما هو ذلك الأمر؟ أنت بين يدي سيدة الملك الآن؟» فأطرق احترامًا وقال: «أيتكما هي؟» فتقدمت ياقوتة وقالت وهي تشير إلى سيدتها: «هذه مولاتنا سيدة الملك، قل ما عندك. وأرجو أن تكون صادقًا فيما تقول.» قال: «وما الذي يحملني على الوقوف بين يديها إن لم أكن صادقًا في مهمتي، خصوصًا أن الأمر الذي جئت به سرٌّ لم يطلع عليه أحد سواي.» قالت ياقوتة: «صدقت يا شاب، بارك الله فيك.» ورأت أن تتولَّى هي السؤال عن عماد الدين فقالت: «كيف فارقت عماد الدين؟» قال: «لم يبقَ اسمه عماد الدين يا سيدتي، بل هو يُسمى عبد الجبار.» قالت: «ونعم الاسم. كيف عرفته؟ ومَن عهد إليك في هذه المهمة؟» قال: «عرفته في أحرج المواقف، وما لبثت أن تعشقت أخلاقه وصرت أفديه بروحي، إنه شاب نادر المثال بالمروءة والحمية.» ولما سمعت سيدة الملك إطراءه أشرق وجهها وخفق قلبها وتطاولت لتسمع بقية الحديث. أما ياقوتة فأجابته وهي تظهر السذاجة قائلة: «أمر غريب يظهر أنك عاشق له، قل كيف وقع ذلك، وما هي المهمة التي جئت بها؟» فقال: «كان عماد الدين مارًّا ببيت المقدس في طريقه إلى نواحي حلب في أمر لا أعلمه، فقبض عليه الإفرنج خداعًا وسجنوه. وكنت أنا مسجونًا مثله فتعارفنا في السجن، فرأيت فيه أخلاق الملوك، وتجاذب قلبانا فأحببته وأخلص لي وتكاشفنا في أمور كثيرة، فلم يذكر لي شيئًا يتعلق بسيدة الملك، ثم أُتيح لي الخروج من السجن وتقربت من صاحب بيت المقدس الإفرنجي، وأصبح همي إنقاذ صديقي من السجن، فلم يسعدني الحظ بعدُ. لكنني كنت أتردد عليه دائمًا وأتفقده بما يخفف عنه. وسمعنا في أثناء ذلك بما حدث هنا من موت الإمام — رحمه الله — وتغيير الأحوال وإنزال أهل الخليفة في هذا القصر بالإكرام، وكنت أقص عليه كل ما أعلمه وفي جملة ذلك المؤامرة التي تعلمينها، وقد بعثني صاحب بيت المقدس دليلًا للوفد الذي جاء لتقديم الهدايا، وجئت لوداع صديقي فكلفني بإيصال كتاب إلى السلطان صلاح الدين. ثم أسرَّ إليَّ أن أبحث عن سيدة الملك وأطمئنه على حالها، وها إني بين يديها.» فقالت ياقوتة: «وما الذي أطلعك عليه من علاقته بها؟» قال: «لم يذكر لي تفصيلًا كثيرًا؛ لأن الوقت لم يأذن بالتطويل. ولكنني فهمت من غرض الحديث أنه يجل سيدة الملك كثيرًا. وقد خطر له أنكم لا تصدقون قولي فدفع إليَّ هذه الجوهرة على سبيل الأمارة.» ومدَّ يده إلى جيب في منطقته واستخرج جوهرة دفعها إلى ياقوتة فتفرست فيها واقتربت من سيدة الملك، فحالما رأتها قالت همسًا: «هي إحدى جواهر العقد الذي أعطيناه إياه تلك الليلة.» والتفتت إلى الشاب وقالت: «صدقت، قد تأكدنا الآن أنك رسول منه. كيف هو ومتى يخرج من السجن؟ وإذا خرج ألا يأتي إلى هنا؟» قال: «سيخرج قريبًا إن شاء الله وهو في خير، وإذا خرج فلا أظنه يأتي توًّا إلى هنا؛ لأن لديه مهمة لا أعرفها. وقد كلفني أن أقول لك إنه سيعود إلى هنا متى فرغ منها.» فانقبضت نفسها وأطرقت ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «إذن هو في خير وهذا يكفي. وإذا دفعنا إليك أمانة هل توصلها إليه؟» فوضع يده على رأسه وقال: «كيف لا يا سيدتي! إني أتمنى أي خدمة أؤديها له.» فأشارت إلى ياقوتة فدنت منها فأمرتها أن تستخرج بعض الجواهر تبعث بها إليه، وأن تكتب إليه كتابًا تؤكد له فيه بقاءها على حبه، وأنها تتوقع رجوعه بفارغ الصبر. ففعلت ووضعت الجواهر والكتاب في كيس خاطته ودفعته إلى الرسول، ودفعت إليه صرة فيها خمسون دينارًا وقالت: «هذه أجر الطريق»، فأخذها وشكر وانصرف، وظلت سيدة الملك برهة بعد ذهابه وهي تخاطب ياقوتة في شأن عماد الدين وياقوتة تصبرها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/8/
السلطان نور الدين
وكان أبو الحسن قد نجا تلك الليلة من القبض عليه؛ لأنه كان لفرط دهائه وحذره يحتاط لكل شيء. وكان قد أعد منفذًا من قاعة الاجتماع إلى بيت ذلك اليهودي حتى إذا داهمهم مداهم فرَّ من هناك لا يبالي بما يصيب رفاقه. قضى بضعة أيام مختبئًا في بعض المنازل حتى علم ما كان من عاقبة رفاقه المتآمرين وكيف قُضي عليهم بالصلب، فيئس من مصر ورجالها. ولكن مطامعه ما زالت تريه المحال ممكنًا — والمرء إذا رغب في شيء وإن كان بعيدًا فإن رغبته فيه تريه إياه قريبًا — فأعمل فكرته في سبيل آخر يسعى فيه للانتقام من سيدة الملك. وقد علم في أثناء تربصه أنها هي التي استعانت بخادمه جوهر على كشف أمرهم، فازداد حنقًا عليها، وخطر له بعد التفكير أن يستعين بالسلطان نور الدين صاحب الشام. يحمل إليه أسرارًا هو مطلع عليها تتعلق برغبة صلاح الدين في الاستقلال بمصر وما صرح به ضد نور الدين. فيشي به إلى نور الدين لكي يحمله على محاربته وإخراجه من مصر عَنوة. وأن يشهد هو ذلك الفتح فيجعل غنيمته منه سيدة الملك، واستسهل كل صعب في هذا السبيل ورآه قريب المنال. فلما اقتنع بصحة رأيه احتال في الفرار من مصر طالبًا دمشق الشام، وواصل المسير وجد فيه، فوصل إلى دمشق متنكرًا بثوب تاجر مصري، ونزل في أحد خاناتها على مقربة من القلعة وهي يومئذٍ مقر السلطان نور الدين. ودمشق زاهية بذلك السلطان العظيم وأهلها فرحون بما ناله من الانتصارات المتوالية على الإفرنج في مواضع مختلفة من بلاد الشام. لكنه لم يكد يستقر به الجلوس في الخان حتى سمع لغط القوم بانحراف صحة السلطان منذ أيام وقلق الناس على حياته؛ لأنه أُصيب بالخوانيق. فأخذ أبو الحسن يفكر في وسيلة يتصل بها إلى مجالسته والمداولة معه في أمر مصر. وسأل عن طبيبه الخاص فعلم أنه الرحبي وهو من حذاق الأطباء وكانت له به معرفة. فسار إليه فوجده في منزله فاستقبله الطبيب أحسن استقبال، وكان قد لقيه بمصر وعرف منزلته من الخليفة العاضد، فسأله أبو الحسن عن حال السلطان فقال: «إنه مصاب بالخوانيق، وقد اشتد عليه المرض لأنه أبى الفصد.» فأظهر أسفه وقال: «ألا يتيسر لي ملاقاته لعلي أقنعه بالفصد. ولي معه حديث إذا أطلعته عليه سُرِّي عنه.» فرأى الطبيب أن يستعين به على ذلك، وهو مطلع على قلق السلطان نور الدين من جهة مصر، فظنه يرغب في استقبال أبي الحسن لعله يستطلع منه أمرًا جديدًا فيأذن في مقابلته ولو كان مريضًا، فاستمهله الطبيب إلى صباح اليوم التالي. وجاء الرحبي في الصباح فقال له: «إن مولانا السلطان أحسن حالًا الآن وقد ذكرتك له فأحب أن يراك.» ففرح أبو الحسن بذلك، وركب مع الطبيب إلى القلعة. وكان السلطان مقيمًا في غرفة من غرفها أصابه المرض وهو فيها فبقي هناك. فدخل الطبيب أولًا واستأذن لأبي الحسن، فأذن له، ودخل وهو يتلطف في التحية والاحترام. وكان قد عرف السلطان من قبل واجتمع به غير مرة، وعهده به قوي البنية مشرق الوجه، فرآه قد تغيرت حاله. وكان السلطان نور الدين أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا تحت فمه، وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين، ولكن المرض ذهب بلمعانهما، وقد امتقع لونه، فلما رأى أبا الحسن داخلًا ابتسم على عادته في المجاملة. فأكب أبو الحسن على يده كأنه يريد تقبيلها، فامتنع نور الدين عن ذلك وأشار إليه أن يقعد. ولم يكن في تلك الغرفة شيء من الرياش؛ لأنها ليست القاعة التي يقابل الناس فيها وإنما اتفق وجوده هناك عند الإصابة. جلس أبو الحسن على وسادة وقال: «كيف مولانا اليوم؟ أرجو أن يكون في صحة لأن سلامته سلامة الدولة، وفي شفائه شفاء الإسلام. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليه بقدومي.» فقال نور الدين وصوته ضعيف من الخوانيق: «الحمد لله على كل حال، وأما قدومك فقد سرني لعلمي أنك قادم من مصر، وفيها حبيبنا ووزيرنا الملك الناصر كيف فارقته؟» فلما سمعه يلقب صلاح الدين بالحبيب تشاءم، لكنه عزم على المراوغة فقال: «هو في خير بظل مولانا السلطان الملك العادل.» قال: «كيف فارقت مصر؟» قال: «فارقتها وأهلها يتشوقون إلى طلعة مولانا السلطان — أعزه الله — ويتمنون أنه لو شرفهم بالزيارة ليرى مملكته الجديدة.» فأشرق وجه نور الدين وسرَّه أن يسمع ذلك من أمير مصري كان من المقربين للدولة الماضية، فقال: «ولكن بلغنا أن بعضهم تآمروا على خلع الطاعة، فهل ذلك صحيح؟» فقال: «نعم يا سيدي، إنهم تآمروا ولكن ليس على خلع طاعة السلطان نور الدين.» قال: «وكيف إذن؟» وبدت البغتة في عينيه ونسي مرضه وأخذ يعبث بجانب لحيته، وتفرس في عيني أبي الحسن ليرى ما يبدو منه. فقال أبو الحسن: «إن أهل مصر من أقرب الناس إلى الطاعة ولكن.» وبلع ريقه وتنحنح وأظهر أنه يكتم أمرًا لا يحب التصريح به. فقال نور الدين: «ما بالك؟ ولكن ماذا؟» قال: «لا أحب أن أزعج سيدي السلطان بأمور لا أظنها تسره.» فبدا الغضب في وجه نور الدين وقال: «قل. تآمروا على خلع مَن؟» قال: «إنهم تآمروا على خلع السلطان صلاح الدين.» قال: «أليست طاعته طاعتي؟» قال: «بلى، هكذا يجب أن يكون، ولو طلب طاعتنا باسم السلطان نور الدين لما وجد مخالفًا.» قال: «وكيف طلبها إذن؟» قال: «يظهر أن أصحاب البريد يخفون الحقيقة عن مولانا السلطان فإذا أذن لي تكلمت.» قال: «قل. قد أذنت لك.» فالتفت أبو الحسن إلى الطبيب كأنه يستشيره في هل يضر الغضب صحة السلطان. فتقدم الطبيب إلى السلطان وقال: «أرى مولانا السلطان قد بان الغضب في وجهه وهو مريض، ألا يؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر؟» فقال: «كلا، إني في خير، فليقل ما يشاء.» فاعتدل أبو الحسن في مجلسه وقال: «إن وزيرك صلاح الدين لم يطلب طاعة المصريين باسمك، ولكنه طلبها باسمه، وزعم أنه هو صاحب الأمر وليس للسلطان نور الدين شيء منه، وقد قاومناه وتآمرنا عليه؛ لأننا لا نريد أن نعرف غير مولانا نور الدين سلطانًا. وأنا أستغرب كيف لم يبلغ ذلك مولانا السلطان، وقد صرَّح به صلاح الدين في جلسة علنية، حتى إن أباه نجم الدين انتهره وأمره بالكتمان؟» قال ذلك وسكت. وكان نور الدين حسن الفراسة فأطرق هنيهة يفكر فيما سمع وهو يعبث بلحيته، فلم تعجبه تلك الوشاية من عدو طبيعي لهما، ولا سيما بعد أن سمع اعترافه بأنه كان من المتآمرين على صلاح الدين، وأدرك أنه لو كان صادقًا في طاعته لم يكن ليساعد على خلع الطاعة بتلك الصورة، بل كان عليه أن ينقل خبر صلاح الدين إليه. فترجَّح لديه كذبه فقال: «وماذا ترى الآن؟» قال: «أرى ألا يستخف مولانا السلطان العادل بمطامع وزيره، فإنه قد جاهر باستقلاله بمصر قبل موت الإمام العاضد فكيف به الآن؟ فما على السلطان إلا أن يخضعه وأنا في خدمته أفديه بدمي.» فحملق السلطان فيه بعينيه السوداوين، وكاد الشرر يتطاير منهما لشدة الغضب وقال: «لو كنت صادقًا في نصحك لحملت إلينا هذه الوشاية من قبل. فصبرك عليها حتى الآن حجة عليك وعلى أصحابك المتآمرين. إنما أنتم تآمرتم على خلع طاعة نور الدين، بل أردتم نقض بيعة الإمام العباسي لأنه سني، وطمعتم في استرجاع السيادة لأنفسكم!» وكان يتكلم وهو مستلقٍ، وأخذ يرتعد من الغضب فاعتدل يريد الجلوس فأعانه الطبيب على ذلك وندم على الإذن له في الكلام. فأخذ أبو الحسن يتنصل من تلك التهمة وقال: «لم أحسن التعبير عن مرادي يا سيدي. إني أصدقك الخبر. إن ما قلته هو الصحيح. نحن طائعون للسلطان نور الدين و…» قال: «لو كنتم صادقين لأطعتم وزيري ونائبي صلاح الدين، لكنكم تعودتم التملق والتذبذب، ما الذي أساءكم به صلاح الدين؟ ألم ترسلوا إلينا شعور نسائكم تستغيثون بنا فأنفذنا إليكم عمه شيركويه وقد أنقذكم؟ وهذا صلاح الدين أخمد العصيان وأصلح البلاد وأبطل الضرائب. فكان ينبغي أن تعرفوا فضله. ولكن قومًا يبلغ بهم الذل أن يستشفعوا بشعور نسائهم لا يُرجى منهم وفاء. ما زلت أذكر سوء وقع ذلك في مجلسنا يوم أتتنا تلك الشعور في المناديل وقد عُقد المجلس للنظر في طلب إمامكم، وكان بين الغلمان شاب صغير لم يملك حين رأى تلك الشعور أن تقدم إليَّ لكي أعطيه خصلة منها حمراء ذهبية، وكان مقربًا من صلاح الدين فدفعتها إليه لأرى ما يبدو منه. فلما تفرس فيها قال: «إن صاحبة هذا الشعر الجميل لا تُمتهن وهي إما بنت الخليفة أو أخته، فإني معيده إليها.» فأذنت له بالخصلة فأخذها في منديلها ولا أدري إذا كان قد وفِّق إلى ما أراد، فكيف ترجو أن أتوقع منكم وفاء وقد جئتني الآن تريد الإيقاع بيني وبين نائبي؟ هب أنه أراد الاستقلال بمصر فليأخذها هو، فإن البيعة واحدة ولا ترجع لكم.» ولما بلغ إلى هنا بان التعب عليه وحوَّل وجهه عن أبي الحسن باحتقار، وأدار له ظهره وعاد إلى الرقاد وهو يلهث من التعب. أما أبو الحسن فجمد الدم في عروقه من الفشل وأحس كأنما صُب عليه ماء بارد. وأخذ يرتعد وقد وقع خبر خصلة الشعر عليه وقوع الصاعقة؛ لعلمه أنها من شعر سيدة الملك. فأشار إليه الطبيب أن يخرج حالًا؛ لأن السلطان أصابته نكسة بسبب الغضب. فخاف أبو الحسن أن يأمر السلطان بالقبض عليه فخرج مسرعًا واختفى في مكان لا يعرفه فيه أحد ريثما يرى ما يكون. وفي الصباح التالي طاف المنادون في المدينة ينعون السلطان نور الدين (تُوفي في ١١ شوال سنة ٥٦٩). وتناقل الناس عن سبب وفاته بعد أن تحسنت صحته أنه غضب من بعض الناس فأصابته نوبة ذهبت بحياته. فأسقط في يد أبي الحسن وعمد إلى الفرار، وقد تولاه اليأس وأظلمت الدنيا في عينيه. خرج من دمشق وهو يرغي ويزبد من شدة الغضب والخادم في ركابه لا يجسر على النظر إليه. حتى إذا مر بالغوطة وصل إلى عين ماء جارية يظللها ويحيط بها أشجار التفاح والسفرجل والمشمش وسائر أنواع الفاكهة، وقد دخل الربيع وتفتحت الأزهار وتغنت الأطيار. والطبيعة باسمة ضاحكة، ولكن أبا الحسن، لم يكن يرى شيئًا غير الفشل نصب عينيه. وإنما نبهته البغلة إلى الوقوف هناك؛ لأنها رأت الماء جاريًا فهاجها العطش فمالت إلى قناة الماء لتشرب. فانتبه أبو الحسن وقد صارت الشمس في الضحى وهو في الخلاء لا رقيب عليه. فلاح له أن ينزل هناك ليستريح فترجَّل وسلَّم البغلة إلى الخادم يهتم بأمرها. وتغلغل بين الأشجار على غفلة من خدم البستان لأنهم لا يتوقعون نزول الناس هناك في مثل تلك الساعة. أما أبو الحسن فلما خلا بنفسه قعد إلى جذع شجرة مشمش تدلت أغصانها تحمل نوعًا من المشمش يفاخر به أهل الشام سائر المشرق ويُعرف الآن بالمشمش الحموي ينضج في إبان الربيع، والناس يقصدون الغوطة للتمتع بمنظره وطعمه. على أنه لم يخطر ببال أبي الحسن شيء من ذلك، لكن إشراق الطبيعة أذكره ماضيه وأوضح له ما هو فيه فازداد انقباضًا. ومكث برهة يفكر وهو في غلفة عن زقزقة العصافير وتطايرها ومداعباتها، وليس فيها مَن يخاف الفشل؛ لأنها لا تطلب من الطبيعة غير ضروريات البقاء وهي ميسورة. أما الإنسان فمن مطالبه ما لا يُنال إلا بالجهد والعناء، وهو لا يبالي أن يرتكب في سبيل نيله أنواع المحرمات. وبعد السكوت مدة نبهته حشرة انسابت بجانبه بين العشب فالتفت إلى ما يحدق به من جمال الطبيعة وبهائها فاتضحت له الظلمة التي هو غارق فيها. ومر تاريخ حياته في خاطره مرور السهم فلم يزدد إلا انقباضًا، وتبين أن سبب هذا الشقاء إنما هو رفض سيدة الملك له فاشتدت نقمته عليها، واغتنم غياب خادمه وأخذ يحدِّث نفسه قائلًا: «ويل لتلك اللعينة! تفضِّل ذلك الغلام عليَّ؟ أما كان الأفضل لها أن يكون أبو الحسن زوجها ويبقى هذا الملك لنا. كنت قادرًا أن أقتل صلاح الدين ولم أفعل؛ لأني أريد أن أستثمر تعبي لنفسي لا أن يستغله سواي. علمت أنها تشك في صحة نسبي ولا تعتقد أني من بني عبيد الله. نعم لست منهم، ولكن شرف النسب ليس سوى وهم. إنما الرجال بالأعمال، وقد انتحلت ذلك النسب لأن الناس يحترمونه. وظننته يكون وسيلة إليها وإلى الملك، فلما أوشكت أن أصل إلى الغرض عرقلت مساعيَّ بغطرستها وتعلقها بذلك الخادم!» ثم أجفل لسقوط مشمشة وقعت على الحشيش اليابس فأحدثت حفيفًا فتحولت أفكاره إلى مجرى آخر فتذكر صباه فقال: «وأنت يا راشد الدين، قد آن الوقت لأستعين بك على هذه الفاجرة، لا لأتزوجها بل لأذيقها العذاب ثم أريها رأي العين سوء تصرفها فتندم حين لا ينفعها الندم.» وكأنه عزم على أمر توسَّم النجاح فيه فارتاح باله وانقشعت عنه السويداء، وقد أحس بالجوع فالتفت إلى ما حوله فلم يجد أحدًا فصفَّق للخادم وناداه فأتى فأوعز إليه أن يأمر البستاني أن يهيئ له طعامًا وفاكهة، وبعد أن أكلا عاد إلى تدبير ما عزم عليه. ••• علمت من سياق الحديث أن عماد الدين لاقى في سفره عذابًا؛ إذ قبض عليه الإفرنج بقرب بيت المقدس لاعتقادهم أنه جاسوس وسجنوه مدة تعرَّف في أثنائها إلى جرجس كما تقدم. ولم يكن جرجس مسيحيًّا كما قال وإنما هو من كبار الفدائيين الإسماعيليين، واسمه الحقيقي عبد الرحيم بعثه راشد الدين لقتل أموري الإفرنجي صاحب بيت المقدس. فتنكَّر باسم جرجس واحتال حتى جعلهم يقبضون عليه ويسجنونه ليتمكن في أثناء سجنه من التعرف إلى صغار أهل البلاط ويطلع على خفايا القصر بحيث يسهل عليه الوصول إلى غرضه. وعدة أولئك الفدائيين في تنفيذ أمر مولاهم راشد الدين أن أحدهم إذا كُلف بقتل أحد الملوك جعل نفسه من أصغر خدمه. والغالب أن يجعل نفسه سائسًا لجواده ليتيسر له الاقتراب منه عند الركوب والنزول فيغتنم غفلة منه ويغرس في قلبه خنجره. ففي أثناء إقامة عبد الرحيم (أو جرجس) هذا في السجن تعرَّف إلى عماد الدين وأحبه وتمكنت العلائق بينهما، فكاشفه عبد الرحيم بحقيقته، وكيف أنه مسلم وأنه احتال بالسجن ليتوصل إلى غرضه ويقتل صاحب بيت المقدس بإشارة مولاه راشد الدين، وأخذ يرغِّبه في هذه الطائفة وقبالة مقاصدها وشدة تأثيرها، فحمد عماد الدين السبب الذي جرَّه إلى ذلك السجن؛ لأنه كان وسيلة إلى هذا التعرف وسهَّل عليه مهمته. فأظهر ارتياحه لذلك الرأي ووعده بأن ينتظم في سلك الإسماعيلية بعد خروجه من السجن، وهو يضمر أن يجعل ذلك الانتظام وسيلة لتنفيذ مهمته التي جاء من أجلها لقتل راشد الدين. وبذل جهده في اكتساب ثقة عبد الرحيم وأطاعه في تغيير اسمه فجعله عبد الجبار. ولما كانت أيام السجن طويلة؛ لأنها خالية من العمل فيمل المسجونون الفراغ ويضطرون لقضاء الوقت بالأحاديث أو الألعاب، فقد أخذ عبد الرحيم يقضي معظم الوقت في التحدث عن راشد الدين وكراماته ومقدرته، وكيف أنه يعلم الغيب ويتنبأ عن المستقبل، ويحدِّث الأحجار ويأتي بالمعجزات. وأنه يفعل ذلك لا لطمع في الدنيا وإنما هو ينصر الإسلام. واستشهد على صحة قوله بالمهمة التي أتى فيها لقتل صاحب بيت المقدس. وكان كلما ذكر راشد الدين ثارت الحمية فيه وهاجت عواطفه وأصبح كله ألسنة تنطق بفضائله. فكان لأقواله مع التكرار تأثير في عماد الدين فأصبح يرى وجود راشد الدين قوة عظيمة يمكن الاستعانة بها على الإفرنج إذا تمكَّن من اكتساب صداقته. على أن ما سمعه من معجزات ذلك الرجل وكراماته وعن جنته وسمائه حبَّب إليه الاطلاع على حقيقة ذلك. تمكَّنت هذه الصحبة بينهما، ثم انتهت أيام عبد الرحيم في السجن وخرج وأهل البلاط يحبونه ويرون في وجوده نفعًا لهم؛ لأنه مسيحي يعرف لغة البلاد وعاداتها. فقرَّبوه وهو يبذل جهده في مرضاتهم توصلًا لغرضه، فلما دارت المخابرة بين الحزب العبيدي في القاهرة وبين الإفرنج وانتهت بإرسال الوفد اختاروه ليكون دليلًا. فذهب لوداع عماد الدين، وعهد إليه هذا فيما تقدم ذكره، فبذل جهده في خدمة صديقه رغبة في إدخاله سلك الإسماعيلية؛ لأنه آنس فيه من الشجاعة والذكاء ما يندر مثاله وهم في حاجة إلى الشجعان. فلما عاد من تلك المهمة توسَّط في إخراج عماد الدين من السجن، وأبلغه ثمرة كتابه إلى صلاح الدين، وكيف أنه قبض على المتآمرين وقتلهم صلبًا إلا أبا الحسن فإنه نجا. ثم دفع إليه كتابًا من صلاح الدين يثني فيه على حميته، وصدق مودته. ثم أطلعه على ما عرفه عن سيدة الملك، ودفع إليه كتاب ياقوتة والجواهر، فتناولها وأعطى جانبًا منها إلى صديقه عبد الرحيم فازداد تعلقًا به — وليس من شيء كالسخاء يحبِّب صاحبه إلى الناس مهما يكن فيه من العيوب. حتى جرى على ألسنة العامة قولهم «ما من عيب إلا والكرم غطاه.» فكيف إذا كان الكريم قليل العيوب أو لا عيب فيه، ولو علم الأغنياء ما يغطيه الكرم من عيوبهم لكرهوا البخل وبعدوا عنه، وكما يذهب الكرم بعيوب الأغنياء فالبخل يُلصِق بهم عيوبًا ليست فيهم. سلام عليك يا عماد الدين، جاءنا صديقك وسرَّنا أنك في عافية، ولكن ساءنا ما أصابك في السجن. على أن ما عرفناه من حب هذا الصديق لك وما يظهر فيه من المروءة والشهامة طمأننا عليك. إننا نقيم الآن في دار الأضياف في رعاية صلاح الدين. إنه شهم وقد أكرمنا غاية الإكرام. ويسرني أن أخبرك بأنه جعل مولاتي سيدة الملك أختًا له وهو يعاملها معاملة الأخت من كل وجه. وجاء ذكرك مرة أمامه فأكثر من الثناء عليك وصرَّح بما يرجوه لك من المستقبل السعيد. إنما ساء سيدتي أنك في السجن، على أن صديقك جرجس بشَّرنا بقرب خروجك منه سالمًا معافًى، ولكن عظُم علينا أنك ستبطئ في المجيء إلينا. عجِّل ولا تقطع أخبارك وعليك السلام. فلما قرأ الكتاب أحسَّ بشيء جديد لم يشعر به من قبل. وقد كان إلى تلك الساعة مضطرب الأفكار من جهة سيدة الملك؛ لعلمه أن صلاح الدين خطبها لنفسه. ورأى من الجهة الثانية ما أظهرته من الميل إليه حتى أوشكت أن تقول له صريحًا إنها عاشقة له تتفانى في حبه. فوقع في حيرة وإنما شُغل عن ذلك بالأسفار وملاقاة الأخطار ليرى ما تأتي به الأقدار. فلما اطَّلع على كتاب ياقوتة وعلم أن صلاح الدين لا يريد الزواج بسيدة الملك ورأى عطفها عليه في ذلك الكتاب مع اختصاره، أحسَّ أنها له وحده واضطرمت نيران الحب في قلبه مرة واحدة، كأن لواعج تلك المدة كلها اجتمعت في ذلك اليوم، فأصبحت صورة سيدة الملك نصب عينيه أينما توجَّه، وتذكر منظرها في تلك الليلة وهي واقفة تودِّعه وتتعجل نزوله في السرداب. ولم يكن يومئذٍ يشعر بشيء من تلك العواطف. كما تذكَّر خصلة الشعر الحمراء وكيف تجاسر على طلبها من نور الدين، وكيف أذن له نور الدين في أن يأخذها. ثم كيف وُفق للاجتماع بصاحبتها وهي في أشد الخطر فأنقذها ودفع إليها الخصلة. مر ذلك كله بذهنه في لحظة فتحقق أن المقادير أعدت له هذه النعمة، فإذا وُفِّق إلى إتمام مهمته بلغ أوج السعادة. فبدأ يشعر بالسعادة من ذلك الحين! لقد اختلف الناس في تعريف السعادة فجعلها بعضهم في المال، وآخرون في الشهرة، وآخرون في الصحة، وذهبوا فيها مذاهب شتى، لكن المحبين يعلمون أن السعادة في تبادل المحبة بين حبيبين يرجوان ويخافان، يلتقيان ويفترقان، وهما — في كل حال — في سعادة الاجتماع إما بالفعل وإما بالأمل. سواء أرافقهما الغنى أم الفقر، والشهرة أم الضعة. إنهما سعيدان في كل حال! شعر عماد الدين بعد تلاوة الكتاب بما لم يشعر به قبل. وأصبح شديد الرغبة في سرعة الرجوع إلى القاهرة. وكان عبد الرحيم خلال ذلك واقفًا يراقب حركات صديقه مخافة أن يكون في ذلك الكتاب ما يبعثه على تغيير خطته وهو يحب أن يدخله في طغمة الإسماعيلية. وانتبه عماد الدين لنفسه فرأى صديقه قاعدًا بجانبه فقال له: «إني أشكرك أيها الصديق على هذه الخدمة الثمينة جزاءك الله خيرًا.» قال: «هذا واجب أديته لا فضل لي به، وهل إذا أُتيح لك أن تخدمني مثل هذه الخدمة تتأخر؟» فثارت النخوة في رأس عماد الدين وقال: «أفديك بروحي.» ولم يقل ذلك حتى أحس بشيء في داخله يعترض ذلك القول؛ لأنه شعر من تلك الساعة أن روحه ليست له، وأنه يود البقاء ليرجع إلى حبيبته ويتمتع باللقاء. أما عبد الرحيم فأعجبه ذلك التعبير منه وقال: «سترى مَن هو أولى مني بالفداء. إن الشيخ راشد الدين إمامنا ومولانا نفديه كلنا بأرواحنا. وستذوق هذه اللذة متى صرت واحدًا منا. هل أنت عازم على الدخول معنا في هذا الأمر؟ أم غيَّرك هذا الكتاب؟» وضحك. قال: «لم يغيِّرني شيء، لكن ما هو السبيل إلى ذلك؟ كيف أذهب وإلى أين وما هي الطريقة؟ أرجو أن تساعدني وترشدني.» فرح عبد الرحيم وقال: «إني طوع إرادتك. سأعطيك كتاب توصية إلى الشيخ دبوس نائب مولانا الشيخ الأكبر وهو يقيم معه في قلعة مصياف من جبل السماق من أعمال حلب ثم ألحق بك بنفسي. يمكنك السفر اليوم. هل تعرف الطريق؟» قال: «أعرفها جيدًا؛ لأني رُبيت في هذه البلاد.» فأخذ عبد الرحيم ورقًا وكتب توصية إلى الشيخ دبوس نائب شيخ الجبل، فتناولها عماد الدين وودَّعه وركب جواده قاصدًا جبل السماق. وهو جبل عظيم من أعمال حلب يشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع كلها للإسماعيلية، وفيه بساتين ومزارع، لكن المياه الجارية فيه قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع خاصة، ومع ذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتى المشمش والقطن والسمسم. وقد اشتهر جبل السماق بالقلاع التي فيه لطائفة الإسماعيلية، وهي عديدة أشهرها مصياف وكهف والخوابي وعليقة ومرقب والرصافة وغيرها، ويهمنا هنا مصياف وفيها يقيم زعيم الإسماعيلية راشد الدين وهي على مسافة ١٢ ساعة غرب حماة. ••• وقد اشتهرت هذه القلعة في زمن الإسماعيلية بإقامة شيخ هذه الطائفة فيها وهي واقعة على جبل مصياف، وهو جبل شامخ يحيط به من الشرق والغرب مستنقعات واسعة، وينتهي من الشمال بقمة عالية فوقها قلعة منيعة هي مقر شيخ الإسماعيلية. ومن أسباب مناعتها أنها قائمة على صخر جوانبه عمودية يعسر تسلقها. وتشرف على ما يحيط بها من المستنقعات من كل ناحية، ومن جملة ذلك وادٍ يقيم فيه بعض الفلاحين يزرعون الحنطة والشعير. وعلى مسافة من الجبل بلدة مصياف يسكنها طائفة من العامة. أما القلعة فإنها محاطة بسور سميك ليس له إلا باب سقفه عقد متين، إذا دخل الرجل منه سار في ممر كله معقود يصل من الداخل إلى قمة القلعة وما وراءها وفوقها من الغرف، وكلها مبنية من الحجر الصلد. وعلى السور أبراج متلاصقة تقيم بها الحامية ترمي الهاجمين عليها بالسهام أو الحجارة قبل وصولهم إلى الباب بمسافة بعيدة بحيث يستحيل أخذها بالهجوم إلا بعد قتل المئات والألوف. برح عماد الدين بيت المقدس على جواده، وكان يعرف عدة طرق إلى جبل السماق، لكنه أحب أن يمر بدمشق مرتع صباه، وقد اشتاقت نفسه إلى رؤيتها ومشاهدة بساتينها، فوصل إليها بعد بضعة أيام. وكان وصوله قبل وصول أبي الحسن بيومين، وظل متنكرًا لم يُطلِع أحدًا على حقيقة حاله. لكنه طاف المدينة وزار القلعة وشاهد كثيرين ممن يعرفهم. واتفق رجوع السلطان نور الدين من الميدان فرآه عائدًا على جواده وحوله الأمراء والأعوان ففرح برؤيته، ولكنه بذل جهده في التنكر لئلا يشعر به أحد وهو يعلم ما بين نور الدين وصلاح الدين من الفتور ويود زواله، لكنه يميل أن يكون مولاه صلاح الدين هو الرابح. قضى معظم النهار في دمشق، فأكل من طعامها وفاكهتها وتمتع بمناظرها، ومر عند خروجه بغوطتها، ولعله مر في نفس المكان الذي اجتازه أبو الحسن بعد يومين. وبات في تلك الليلة في قرية بضواحي دمشق. وقام في اليوم التالي قاصدًا جبل السماق، وبات الليلة الثانية في بعض الخانات، وقضى معظم اليوم التالي في الطريق. وكان في إمكانه الوصول إلى مصياف في أصيل ذلك اليوم لكنه فضل الوصول إليها في الصباح التالي. فبات في بعض القرى وركب في الصباح، وبعد ساعتين أطلَّ على جبل مصياف وعلى قمته القلعة تناطح السحاب، فهاله ما رآه من مناعتها ورسخ في اعتقاده أنها أمنع من عُقاب الجو. ترجَّل هناك فجاءه شيخ من الفلاحين يعرض عليه خدمة يؤديها، وقد ظنه من كبار الإسماعيلية وهم يعهدون فيهم الشدة والقسوة. وكثيرًا ما شهدوا القتال بينهم وبين مَن جاء لمهاجمتهم من الجنود الشامية أو الجبلية أو المصرية، فضلًا عما يتناقلونه من كرامات الشيخ راشد الدين وهم يلقبونه بشيخ الجبل أسوة بالحسن بن الصباح مؤسس هذه الطغمة. حتى أوشكوا لفرط ما استولى عليهم من الاعتقاد بكرامته ألا يحدث حادث غريب مخيف إلا نسبوه إليه ولو كان من العوارض الطبيعية كالمطر والرعد والبرق، وأصبح فزاعة لأعدائه وتعويذة لمريديه. وكان همُّ عماد الدين عند وصوله أن يلقى الشيخ دبوس ويدفع إليه كتاب التوصية الذي يحمله من عبد الرحيم، فلما جاءه ذلك الفلاح الشيخ سأله عماد الدين عن راشد الدين أين هو. فأجفل الرجل وتفرَّس في عماد الدين وقال: «يظهر أنك غريب عن هذه الديار يا سيدي؟» قال: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟ وماذا تريد من شيخ الجبل؟» قال: «إني أحمل كتابًا إلى نائبه الشيخ دبوس.» قال: «دبوس؟! ظننتك تطلب الشيخ راشد الدين نفسه، فإنه لا يطمع أحد في رؤيته. حتى أصحابه وأعوانه إنهم لا يرونه إلا في بعض الأحوال الخاصة.» فقال عماد الدين: «ومَن أنت يا عماه؟ لعلك من رجاله؟» فقطع الشيخ كلامه قائلًا: «حبذا ذلك، إن مثلي لا يطمع في هذا المشرف، ويكفينا من جواره أن نقوم بخدمته بما نغرسه من الحنطة أو نرعاه من الماشية له ولرجاله في مقابل بقائنا في قيد الحياة.» قال: «والآن أحب أن أقابل الشيخ دبوس، فهل ذلك ميسور؟» قال: «لا أدري. أعطني الكتاب إذا شئت لأوصله إلى بعض رجاله فيوصله إليه، ثم آتيك بالجواب.» فدفع إليه الكتاب فتناوله وركض نحو الجبل، ومكث عماد الدين في انتظار عودته وقد أمسك زمام فرسه بيده وأدار بصره فيما يحيط به من السهل الفسيح، وذلك الجبل الشامخ القائم في صدره وفوقه قلعة مصياف وقد أحدق بها السور والأبراج. ولم يقدر أن يتبين طريقًا يصل بها إليه، كأن أهلها يصعدون إليها على أجنحة النسور أو في المناطيد. فهاله ذلك وتمثَّل له الخطر المحدق بمن ينوي براشد الدين شرًّا. لكنه ازداد رغبة في استطلاع أحوال ذلك الرجل، فإما أن يفتك به، وإما أن يقرِّب ما بينه وبين صلاح الدين. ••• قضى في ذلك ساعة ثم رأى الشيخ الفلاح راجعًا ومعه شاب في لباس السعاة، حاسر الرأس حافي القدمين عاري الصدر كأنه من العفاريت. فلما وصل إلى عماد الدين حياه ثم سأله عن غرضه فقال: «أحب أن أقابل الشيخ دبوس.» فمد يده وفيها كتاب التوصية وقال: «هذا هو كتابك، ما هو اسمك؟» قال: «عبد الجبار.» قال: «اتبعني.» فتبعه ماشيًا يقود فرسه والشاب يسير بين يديه وهو يتلفت إليه يجيل نظره فيه كالمتفرِّس. فاستغرب عماد الدين تلفته وتفرسه، ولو كان جبانًا لوقع الرعب في قلبه، ولكنه كان شجاعًا لا يعرف الخوف. وبعد قليل وصلا إلى قاعدة الجبل فأشار إليه الشاب أن يترك الجواد هناك ويتبعه فتردد عماد الدين لحظة فقال له: «لا بد من ترك الجواد هنا وإلا فارجع من حيث أتيت.» فأطاعه ومشى في أثره في طرق متعرجة بعضها منقور في الصخور وبعضها سلالم من الحجر يصعب تسلقها. والرجل يقفز بين يديه كالنمر لا يبالي بالتعب وعماد الدين يجاريه لئلا يظهر عليه الضعف وهو أبي النفس. وبعد الصعود ساعة في تلك الطرق المتعرجة وصلا إلى باب القلعة وهو غليظ متين. فوقف الشاب وأشار إلى عماد الدين أن ينتظر، وتقدم هو إلى الباب ودقه دقات خاصة ففُتح وكان لفتحه صرير شديد. فدخل وأغلق الباب وراءه، وظل عماد الدين واقفًا ينظر إلى ذلك البناء المنيع وهو لا يرى منه غير السور الغليظ وعليه الأبراج. ولمح من شقوق الأبراج أو نوافذها الضيقة أناسًا يذهبون ويجيئون كأنهم الحامية. وبعد قليل عاد الرسول وقد لطَّف لهجته وأشار إلى عماد الدين أن يدخل، فدخل من ذلك الباب تحت العقد الغليظ ومشى في ممر طويل متعرج سقفه معقود وأرضه من الصخر الخشن. وقد وقف إلى جانبيه الحراس بالحراب والسيوف كأنهم أصنام لا يتحركون. فهاله ذلك المنظر لكنه تشدد وتجلد وصمم على الصبر إلى النهاية. سار في ذلك الممر مسافة وانتهى منه إلى منفذ يستطرق إلى ساحة حولها أبواب مغلقة، فأشار إليه الرسول أن يتبعه ففعل حتى وصل إلى باب منها فطرقه. ولما فُتح تقدم الرسول إلى عماد الدين ودفع إليه كتاب التوصية، وتراجع وأشار إليه أن يدخل. فتقدم فرأى نفسه في حجرة ببابها حراس أشاروا إليه برءوس حراب بأيديهم أن يدخل فدخل. ثم وقف وتلفت فإذا هي غرفة واسعة قد فُرشت بالسجاد وغُطيت جدرانها بأنواع الأسلحة. وفي جوانبها ضروب من آلات العذاب كالقيود والأغلال. وحول جدرانها مقاعد من الحجر المنحوت في ذلك الصخر فوقها غطاء من جلد الدب والأسد. ولم يكن في تلك الحجرة حينئذٍ أحد غير الشيخ دبوس جالسًا في صدر الحجرة على جانب من ذلك المقعد وعليه جبة تكسوه كله، وعلى رأسه عمامة خضراء كبيرة، فحيَّاه عماد الدين وقال: «لعلي في حضرة الشيخ دبوس؟» فأشار الشيخ برأسه أن «نعم.» وأومأ إليه أن يتقدم ويعطيه الكتاب ففعل، فتناوله وفضه وقرأه. ولما فرغ من قراءته أومأ إلى عماد الدين أن يجلس وهو يقول: «إن ولدنا عبد الرحيم يوصينا بك خيرًا، تفضل يا عبد الجبار اقعد.» فقعد على طرف المقعد وهو ينتظر ما يكون، فقال له دبوس: «يقول لنا عبد الرحيم إنك تطلب نعمة القربى من شيخنا وإمامنا راشد الدين.» قال: «نعم يا سيدي، فهل هذا ميسور لي؟» فأطرق يفكر ثم قال: «إنه ميسور على شروط.» قال: «وما هي يا سيدي؟» قال: «اعلم يا عبد الجبار أنك قبل كل شيء ينبغي أن تنقي قلبك وتصفي نيتك وتستسلم إلى هذا الأمر. هل أنت فاعل؟» قال: «نعم.» قال: «احذر أن تخدع نفسك فإني لا أقدر أن أعرف خفايا قلبك، ولكن المولى الشيخ الأكبر لا تخفى عليه خافية. إنه فاحص القلوب، إذا نظر في عينيك عرف مكنونات قلبك. فإذا كنت في شك من نيتك واستسلامك فارجع من هنا ولا تعرض نفسك للخطر. إني أنصح لك بناء على ما قرأته في كتاب التوصية من الثناء على شجاعتك وصداقتك. وأما إذا كنت قد أوتيت النعمة وأُلهمت الانتظام في هذا السلك والحصول على العهد فقد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة. وأنا تاركك يومًا كاملًا تفحص فيه ضميرك وتخبرني بما يستقر عليه رأيك.» فوقع كلام الشيخ من نفسه وقعًا شديدًا وغلب عليه التردد، وقام في اعتقاده صدق ما سمعه عن شيخ الجبل من استطلاع خفايا القلوب. ولكنه تجلَّد وأظهر الثبات في عزمه وقال: «إني على عزمي، وسأصبر يومًا آخر على حسب أمرك وأجيبك.» فهز رأسه استحسانًا وقال له: «اخلع ما عليك من السلاح، وهات ما عندك من الأدوات أو النقود أو غيرها، تلك عادتنا في مثل هذه الحال، ولا يخامرك شك فيما أفعل فإن هذه الأشياء تبقى عندي باسمك.» فعظم هذا الطلب عليه وعنده الجواهر. وقد شقَّ عليه أن يفارق خنجره ويبقى أعزل فتوقف حينًا ولم يجب. فقال له دبوس: «اعلم يا بني أن طالب الحصول على عهد مولانا الشيخ لا بد له من الاستسلام لكل ما يُؤمر به بلا تردد. وقد خيرتك عملًا بتوصية عبد الرحيم؛ لأنه ذو مقام عندنا. فإذا رأيت العدول عن عزمك رددنا أشياءك إليك.» فلم يرَ بدٌّ من الطاعة؛ لأنه لم يوفَّق إلى دفاع، فمد يده واستخرج خنجره من منطقته ودفعه إليه. ثم استخرج ما كان عنده من الجواهر والنقود ودفع كل ذلك إلى دبوس وقد أحس بالخوف من الخديعة، لكنه اطمأن نوعًا لما رأى الشيخ يبش له وقد وضع أشياءه كلها في منديل وأخفاه في حفرة بأسفل المقعد. وأومأ إليه أن يخرج إلى غرفة أخرى يستريح فيها. فخرج وقاده أحد الحراس إلى حجرة خلا فيها بنفسه وأخذ يفكر فيما سمعه، فتحقق الخطر الذي أوقع نفسه فيه وأصبح لا يعرف ماذا يعمل: أيعدل عن مهمته بعد أن وعد صلاح الدين بها أم يعرِّض نفسه للخطر بالدخول؟ وتذكر ما سمعه من صديقه عبد الرحيم عن كرامات راشد الدين وما هو شائع من هيبته واقتداره، فوقع في حيرة لأن رجوعه عنها يحط من قدره عند صلاح الدين وعند حبيبته. أو على الأقل ينحط قدره عند نفسه فإنها لا تطاوعه على الجبن. ودخوله يعرضه للقتل أو لخيانة صلاح الدين. وكان يفكر في ذلك وهو يمشي في تلك الحجرة وليس فيها شيء من الأثاث سوى حصير وبساط قديم، فأطل من نافذة صغيرة فأشرف على ما يحيط بجبل مصياف من المستنقعات والسهول والروابي والأودية إلى مسافة بعيدة. واستغرق في أفكاره حتى نسي موقفه. ثم أجفل لأنه سمع وقع خطوات وراءه فالتفت فرأى رجلًا كالخادم أتاه بالطعام ودعاه إلى الأكل وخرج. فأشار عماد الدين شاكرًا وعاد إلى تفكيره ونفسه لا تطلب الطعام لفرط اهتمامه وقلقه. وحانت منه التفاتة وهو يجيل بصره في ذلك الفضاء إلى سور عالٍ يحيط ببناء لا يظهر منه شيء، فظنه قلعة أو حصنًا يلجأ إليه الإسماعيليون عند الاضطرار. وعاد إلى هواجسه وهي تتعاظم وتتكاثف حتى ضاق صدره من كثرة التردد، وكان إلى تلك الساعة لم يذق طعامًا، وأحس بالجوع فتحول نحو الطعام الذي أتوه به، وهو مؤلف من بعض الثمار وشيء من الخبز واللحم. فمد يده إلى الرغيف وكأن شيئًا أرجعها عنه، وخطر له سوء الظن فقال في نفسه … «قد يكون هذا الطعام مسمومًا.» ثم تذكَّر صديقه عبد الرحيم وتوصيته لدبوس، فغلب عليه حسن الظن وأكل ما يسد رمقه واقتصر على الثمار. وفيما هو يأكل سمع ضوضاء في الساحة فنهض ونظر من الباب فرأى جماعة من أهل القلعة وفيهم الحراس والأجناد يتهامسون ويتضاحكون والبشر ظاهر في وجوههم. فخاف أن يكون لذلك علاقة بوجوده هناك أو ربما كان عليه خطر. فأصاخ بسمعه وإذا هم يتكلمون لغات مختلفة؛ لأن رجال الإسماعيلية أخلاط من أمم شتى، وفيهم العربي والتركي والفارسي والكردي والشركسي، يتكلمون كل هذه اللغات وإنما تغلب العربية على ألسنتهم. وبعد الإنصات وإعمال الفكرة سمعهم يذكرون السلطان نور الدين وكأنهم يذكرون موته، فغالط سمعه ولم يعبأ به لأنه فارق السلطان منذ يومين في صحة تامة ورآه عائدًا من الميدان على جواده كالأسد. واعتقد أنهم يشيعون ذلك رغبة في اجتماع كلمتهم. لكنه ما لبث أن جاءه رسول من الشيخ دبوس يدعوه إليه، فأسرع في أثره إلى مجلس دبوس فرآه قاعدًا في صدر الغرفة وبين يديه جماعة من الأمراء بلباس متشابه وعلى رءوسهم العمائم تقرب من عمامة دبوس. فغلب على اعتقاده أنهم من رجاله. فلما وقف عماد الدين أمامهم خاطبه دبوس قائلًا: «أأنت قادم من بيت المقدس؟» قال: «نعم.» قال: «ألم تجعل طريقك على دمشق؟» قال: «بلى.» قال: «كيف كان سلطانها الأتابك نور الدين هل شاهدته؟» قال: «نعم شاهدته على جواده عائدًا من الميدان نحو الظهر.» قال: «ومتى كان ذلك؟» فأطرق عماد الدين وهو يحسب الوقت ثم قال: «منذ يومين وبعض اليوم.» قال: «لكنه مات في هذا الصباح، رحمه الله.» فأجفل وبانت البغتة في وجهه وقال: «مات؟ هل أنتم على ثقة من ذلك؟ لا أظن الخبر صادقًا، ثم كيف يموت في هذا الصباح ويصل خبره إلى هنا الآن وبيننا وبين دمشق أكثر من يومين؟» فضحك دبوس ضحكة استخفاف، وضحك الجلوس معه وهم يتلفتون بعضهم إلى بعض، ثم قال دبوس: «لا لوم عليك يا بني، وأنت لا تعرف مصدر هذا الخبر. إنه لم يأتنا بالبريد وإنما هو وحي هبط على مولانا الإمام الشيخ الأكبر نفعنا الله ببركته وكراماته. كذلك فعل يوم مات الإمام العاضد بمصر، فقد جاءه علمه في يوم موته، ومصر أبعد من دمشق. وكذلك خبر المؤامرة التي قُتل فيها عمارة وأصحابه.» ثم نظر إلى الجلوس كأنه يستشهدهم فبدت على وجوههم أمارات الإيمان بما قال. فدهش عماد الدين ومع ذلك ما زال يظن أن في الأمر خداعًا للإيهام وأن نور الدين لم يمت وقال في نفسه: «إذا ثبت موته بورود المرسوم من دمشق على العادة فإن لهذا الشيخ لشأنًا عظيمًا.» ولحظ الشيخ دبوس تردده ودهشته فقال: «لا تستغرب ما تسمعه يا بني، إنك إذ تمت النعمة عليك ووفِّقت إلى الدخول في طريقتنا رأيت أعجب من ذلك. إن مولانا الشيخ الأكبر يخاطب الحجارة فتجيبه حتى الميت إذا كلمه أجابه في الحال.» والتفت إلى القوم وقال: «وأزيدكم بيانًا أن مولانا الشيخ — حرسه الله — أخبرني عن سبب موت هذا السلطان، قال إنه تُوفي بعلة الخوانيق.» ثم حوَّل نظره إلى عماد الدين وقال: «وسترى في الغد ما يحقق ذلك حينما يأتي المرسوم.» فوقع عماد الدين في حيرة عظيمة مما سمعه ورآه وأوشك أن يعتقد صحة كرامات راشد الدين. وقال له دبوس: «تفضل يا بني إلى غرفتك حتى يستقر رأيك، وإنما دعوتك لعلمي أنك قادم من دمشق لعلك علمت شيئًا من مقدمات موت نور الدين. ولتعلم أيضًا أن صديقك عبد الرحيم أخلص النصح لك. أتم الله نعمته عليك وعليَّ؛ لأنه هو أيضًا مرشح للارتقاء في هذه النعمة؛ إذ ينال المجتهد فيها نصيبه. هذا كلام لا تفهمه الآن ولكن سوف تفهمه تفضل.» وأشار إليه أن ينصرف. فعاد إلى غرفته وهو كالغائب عن الرشد لا يعرف كيف يعلل ما يشاهده من الغرائب المدهشة. وعزم في سرِّه إذا صحت نبوءة الشيخ عن موت نور الدين أن يلتمس الدخول في تلك الطغمة بلا تردد. وود لو كان صديقه عبد الرحيم هناك ليوضح له بعض ما أُشكل عليه ويزيده بيانًا. ••• بات عماد الدين في تلك الليلة كالتائه في البحر، وتوالت عليه الأحلام وأفاق في الصباح على نقر باب حجرته. فذُعر وجلس فإذا بصديقه عبد الرحيم واقف بين يديه فشعر عند رؤيته بارتياح عظيم وقد خف قلقه واطمأن باله كأنه لقي أباه أو أخاه واستأنس به كثيرًا، فأكب عليه وعانقه وأوشك الدمع أن يتساقط من عينيه لشدة التأثر. فعانقه عبد الرحيم وهو يبتسم وقال له: «يظهر من تلهفك لملاقاتي أنك كنت في ضيق.» قال: «لم أكن في ضيق، ولكنني متردد في أمور ولا أرى لي فرجًا إلا على يدك. وأشعر أنك أخي أو أبي وألقي اتكالي عليك، وهناك أشياء أحب أن أستشيرك فيها.» فهش له عبد الرحيم مطمئنًّا، فأشار إليه عبد الجبار (عماد الدين) قائلًا: «اقعد، من أين أنت آتٍ؟» فقعد وهو يقول: «إني آتٍ من عند الشيخ دبوس، وقد قص عليَّ ما أعجبه من ذكائك وشجاعتك. وأنه تلطف في معاملتك وأمهلك حتى تفكر في أمرك.» قال: «نعم. وهذا ما أحب الاستفهام منك عنه، لقد أدهشني أمر لم أقدر على تفسيره.» قال: «وما هو؟» قال: «أخبرني الشيخ دبوس ظهر أمس أن السلطان نور الدين صاحب دمشق مات في الصباح. وأنا رأيته بعيني قبل ذلك بيومين راكبًا على جواده سليمًا معافى والصحة تتجلى في وجهه بعد أن قضى يومه مع سائر رجال دولته في السباق.» فقال عبد الرحيم: «هذا كله صحيح، نعم إنه عاد من ذلك الميدان صحيحًا معافى لكنه لم يصل إلى القلعة حتى أحس بألم في حلقه، ظهر بالفحص أنه الخوانيق.» فأطرق عبد الجبار (عماد الدين) وقد بانت الدهشة في عينيه، وهان عليه أن يُصاب نور الدين بالخوانيق على أثر رؤيته إياه على جواده فقال: «يظهر أن المرض جاءه شديدًا فلم يمهله طويلًا. لكن إذا فرضنا وقوع ذلك فعلًا ومات نور الدين صباحًا، فكيف وصل الخبر إلى هنا قبل الظهر؟» فضحك عبد الرحيم وقال: «إن ذلك يا عبد الجبار من كرامات مولانا الشيخ الأكبر — نفعنا الله ببركته — ألم أقل لك شيئًا من ذلك ونحن في بيت المقدس؟ إنه طالما أنبأنا بالأخبار حال وقوعها، ولو كان بيننا وبينها مسافة أيام، وليس هذا أعجب كراماته. وهل تظن سطوته وقوة نفوذه لا أساس لهما؟ كيف يخضع له الألوف من الناس وفيهم العقلاء والحكماء إن لم يروا فيه ما يستحق ذلك؟ أتعلم أن أتباعه اليوم يزيدون على ستين ألفًا من نخبة الناس وفيهم الشجعان والأبطال والقواد، وكل منهم طوع إرادته يبذل نفسه في طاعته. أتظن ذلك يقع عفوًا بلا استحقاق؟» فقال عماد الدين: «أنت تشير عليَّ إذن بأن أبقى على عزمي؟» قال: «هذه نصيحتي لك.» قال: «إنهم أخذوا مني نقودي وسلاحي.» قال: «لا خوف عليها. فإذا رجعت عن هذا الأمر فأنا أضمن إرجاعها إليك. ولا أظنك راجعًا عنه ولا سيما بعد أن ترى الشيخ الأكبر نفسه وتسمع أقواله وتختبر كراماته. إنها كثيرة إنما …» وسكت كأنه أراد أن يقول شيئًا وندم عليه. فقال عماد الدين: «أراك تتردد في نصحي.» قال: «معاذ الله يا أخي، أنت تعلم أننا تحاببنا وتصادقنا لغير غرض سوى تقارب القلوب. ولما كانت جماعتنا هذه تضم خيرة الشجعان وذوي البسالة فقد رأيتك أهلًا للانتظام في سلكها. وسوف تحمد مغبة نصحي. لكنني أتردد في أمر أحببت أن أبوح به لك تخفيفًا من قلقك. لكنه محظور عليَّ. فسكت.» قال: «إذا أطلعتني على شيء يخفف قلقي ضاعفت فضلك ولا يعلم به أحد، أعاهدك على ذلك.» قال وهو يخفض صوته: «متى رضيت الدخول فإنهم يمتحنونك بأشياء لا يصبر عليها إلا الشجاع ثابت الجأش وأنت كذلك. لكنني أحببت أن أزيدك اطمئنانًا، إن ما يظهر لك من تلك التجارب خطرًا أو مستحيلًا ليس هو في الحقيقة إلا ظاهرة لا طائل تحتها. وإنما يُراد بها امتحان شجاعة الطالب. فمهما يُطلب منك أن تعمله فاعمله ولا تخف. لا أقدر أن أفصح لك أكثر من ذلك.» فقال عماد الدين: «يمتحنون شجاعتي؟ فليمتحنوا لأنني لا أبالي وأنت تعلم ذلك، ولكنني أحب أن أعرف شيئًا آخر. هل تطلعني على حقيقته؟» قال: «قل ما تريد لعلي أستطيع؟» قال: «كل ما أعرفه من أمر هذه الطائفة أن زعيمها راشد الدين رجل حكيم ذو كرامات، وأن أتباعه يطيعونه طاعة عمياء ويبذلون أنفسهم في طاعته. لكنني لا أعلم ما يناله أولئك الأتباع من المكافأة. وهل هم درجة واحدة أو درجات، فقد رأيت بعضهم كالخدم أو الجند وآخرين كالأمراء، وهذا دبوس كالملك، فما هو نظام هذه الطائفة أو الدولة؟ إنها غريبة في بابها!» قال: «صدقت، إن نظامها غريب لم يُنسج على منواله، ولا بأس من أن أقص عليك خبر هذا النظام باختصار. اعلم يا عبد الجبار أن جماعتنا هذه التي أرعبت العالم بتدبيرها وبسالة شبانها مؤلفة من طبقتين: الفدائيين، والمستنيرين. وفوقهما الزعماء وأصحاب الأسرار الحقيقية. وأول ما يدخل الإسماعيلي يكون فدائيًّا، فإذا استحق الرقي صار مستنيرًا. أنا لا أزال إلى اليوم من الفدائيين (الفداوية).» فقطع كلامه قائلًا: «إذا دخلت أنا غدًا، هل أكون مثلك؟» قال: «نعم. لكنني الآن مرشح لنيل العهد فأصير مستنيرًا عن قريب؛ لأن مهمتي التي ذهبت بها إلى بيت المقدس كانت آخر تجربة في سبيل الترقي، وقد جئت إلى هنا لكي أتلقى السر الجديد في طبقة المستنيرين.» قال: «بماذا استحققت هذا الترقي؟» قال: «استحققته بصدق الخدمة في مصلحة الجماعة وبذل النفس في سبيل الطاعة. ولا بد لكل فدائي أن يفعل ذلك قبل أن يصير مستنيرًا. وأما أنت فأرجو أن يسرع ترقيك لأنك أهل لذلك بما فُطرت عليه من المروءة وعلو الهمة. وليس في طلاب الانتظام كثيرون مثلك؛ ولذلك أرجو أن ترتقي على عجل.» فأطرق عماد الدين (أو عبد الجبار) حينًا يفكِّر في أمره وفي أصل مهمته وما خلفه وراءه في مصر من البواعث التي تقضي بسرعة عودته ولا سيما سيدة الملك. فإنها أصبحت منذ رجوع رسوله من عندها لا تبرح من باله. لكنه اطمأن عليها وهي في كنف صلاح الدين. ولحظ عبد الرحيم تفكيره فقال له: «لا حاجة إلى التردد، إن دخولك في هذا السلك أصبح أمرًا مقضيًّا ولا بأس عليك منه. لكنني أحب أن تؤخره إلى مجيء المرسوم من دمشق بموت السلطان نور الدين وتتأكد كرامة إمامنا. وكن مطمئنًّا إلى أنك إذا عدلت عن الدخول فلن يصيبك أذى، ومولانا الشيخ الأكبر لا يقبل كل من يطلب الانضمام، وإذا شئت أن تتحقق قولي فتعالَ لأريك جماعة من أولئك الطلاب.» قال ذلك ونهض فتبعه عماد الدين وسارا إلى ساحةٍ سمعا فيها عربدة وغوغاء بلغات مختلفة وغنات متفاوتة. ثم مشى به حتى أطل من وراء حائط على بقعة ازدحم فيها الرجال جماعات بين جلوس يتسامرون أو وقوف يتخاصمون. فقال عبد الرحيم: «انظر يا أخي. هؤلاء هم طلاب الدخول وأنت ترى الوحشية والعربدة وسفك الدماء في ملامحهم. وقد اشتهرت جماعتنا هذه بالفتك، فكل من يهون عليه قتل الأبرياء ويضيق به الرزق يأتي إلينا. ولكن غرضنا أسمى من ذلك وإن كنت إلى الساعة لم أطلع على سره الحقيقي. فهؤلاء يعدون بالعشرات كما ترى. وهم هنا منذ أيام لم يحفل الشيخ دبوس بهم.» وفيما هما في ذلك رأيا رجلًا كرديًّا من أولئك وقف وبيده جمجمة صب فيها خمرًا وتمايل عجبًا ثم شربها وهو يزدري رفاقه ويفاخرهم ببسالته وخشونته. فغضب واحد من رفاقه الأتراك فهزأ به ولطم تلك الجمجمة بقفا يديه فرماها وتناثر ما كان فيها من الخمر على الأرض، فضحك الرفاق وقهقهوا وقد أعجبهم عمل ذلك التركي، فلم يصبر الكردي على الإهانة واستل خنجره وطعن التركي طعنة قضت عليه. فهمَّ الآخرون أن ينتقموا له فصاح بهم عبد الرحيم وأوقفهم وهددهم وأشار إلى بعض الحرس أن يقبض على القاتل. ولم يزدد عماد الدين بذلك إلا دهشة مما رآه وسمعه. فرجع إلى حجرته وذهب عبد الرحيم لشأنه. وأتاه في اليوم التالي وقد جاء المرسوم من صلب الشام بوفاة نور الدين بالخانوق في الوقت الذي رواه شيخ الجبل. ولكنه صمم على الدخول في ذلك السلك؛ إذ لا بد له من ذلك للقيام بالمهمة التي جاء من أجلها، وقد تبرع بين يدي صلاح الدين بقتل راشد الدين، وربما علمت سيدة الملك بعزمه فكيف يعود بخفي حنين؟ على أن ما شاهده من مقام الرجل وكراماته جعل مهمته شاقة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/9/
عند زعيم الحشاشين
أصبح عماد الدين في اليوم التالي وهو على موعد للدخول على الشيخ الأكبر لينضم إلى جماعة الفدائيين. وكان كلما فكَّر في ذلك اختلج قلبه في صدره. وبعد قليل جاءه صديقه عبد الرحيم وهو يهش له تشجيعًا وطمأنة، فقال عماد الدين: «هل أذهب الآن إلى الشيخ الأكبر أم إلى الشيخ دبوس؟» قال: «لا بد من الذهاب إلى الشيخ الأكبر بواسطة الشيخ دبوس، فهل أنت متأهب لذلك؟» قال: «نعم.» وأكبر أن يُظهِر الوجل. فقال عبد الرحيم: «هلم بنا إلى الشيخ دبوس.» فمشيا حتى دخلا عليه وأطلعه عبد الرحيم على الغرض. فوجَّه كلامه إلى عماد الدين قائلًا: «هل أنت مصمم يا عبد الجبار على الانضمام إلينا؟» قال: «نعم يا سيدي.» فأمره أن ينزع ثيابه التي عليه ويرتدي ثوبًا أبيض كالقميص الكبير دفعه إليه. فلبسه فجلله إلى عقبيه. ثم أمره فنزع عمامته وحل شعره وكان طويلًا فأرسله على كتفيه. وأشار عبد الرحيم إليه أن يتقدم إلى الشيخ دبوس ويقبِّل يده ففعل. ثم أومأ إليه أن يتبعه فمشى في ممرات وطرقات والحرس وقوف في جوانبها بالحراب حتى أطلَّ على رواق يؤدي إلى باب كبير عليه ستر وبجانبه حارسان عظيما الهامة كأنهما من الجان. فلما اقترب عبد الرحيم منهما أومأ إليهما بالإشارة (لأنهما أخرسان) أن يأذنا له في الدخول وهما يعرفانه فأذنا له، واستبقيا عبد الجبار خارجًا. فوقف وهو مطرق يتردد بين الندم والعزيمة وإذا بصديقه قد عاد وقال له: «إن الشيخ مشتغل بمحاكمة الكردي القاتل لكنه أذن لنا في الدخول.» ومشى فتبعه عماد الدين فدخلا قاعة مظلمة في صدرها كرسي كبير قد جلس عليه الشيخ الأكبر وإلى جانبيه رجال من خاصته وقد غطوا وجوههم ما عداه. ولم يستطع عماد الدين أن يتعرف الوجوه هناك إلا بعد قليل ريثما تعود النظر في الظلام فرأى ذلك الكردي واقفًا وهو موثق اليدين. وفي وسط القاعة جثة القتيل ملطخة بالدماء. فأشار عبد الرحيم إلى عماد الدين أن يقف معه في ناحية ففعل، وأخذ يتفرس في راشد الدين فإذا هو يرتدي ثوبًا أسود يغطيه كله إلا وجهه وقد بانت الشيخوخة في ذلك الوجه بتجعده وبياض لحيته، لكن عينيه تبرقان كالسراجين ويكاد الشرر يتطاير منهما. وما عتَّم راشد الدين أن صاح بذلك الكردي قائلًا: «أتجسر يا هذا أن تقتل نفسًا في جوارنا؟» فصاح الرجل: «إني لم أقتله يا مولاي، وإنما هم يتهمونني زورًا.» قال: «وتكذب أيضًا؟ أتحسب أن ذلك ينطلي علينا؟ ألا تعلم أننا نفحص القلوب ونعرف أسرارها؟» فعاد الرجل إلى الإنكار وقال: «إنهم يتهمونني يا سيدي زورًا، فإذا شئت فإني آتي بالشهود، أو أقسم لك ببراءتي.» قال: «لا حاجة بنا إلى شهود أو قسم، أنا أسأل هذا القتيل وهو ينبئني بالحقيقة.» فلما قال ذلك أجفل عماد الدين، ونظر فرأى راشد الدين قد وقف وانتصب كالصنم ثم خطا خطوة نحو القتيل وصاح به وهو يشير إليه بإصبعه كأنه يهدده: «ألم يقتلك هذا الكردي؟ قل!» كان السكوت مستوليًا على الحضور وقلوبهم تخفق تطلعًا إلى ما يكون، فسمعوا القتيل يقول بصوت ضعيف: «بلى هو قتلني!» فسأله ثانيًا: «بماذا قتلك؟» فأجاب: «بخنجره!» فلما سمع عماد الدين ذلك اقشعر بدنه. كيف لا وقد سمع الميت يتكلم وهو على ثقة من تلك الحادثة لأنه رآها بنفسه؟! أما راشد الدين فرجع إلى مقعده وأشار إلى بعض الوقوف بين يديه من رجاله أن يذهبوا بالرجل إلى السجن وأن يدفنوا القتيل ففعلوا. وقد استولت الدهشة على الحضور ولا سيما عماد الدين. وبعد قليل أشار راشد الدين إلى الوقفين في مجلسه بالانصراف ولم يبقَ غير بعض خاصته الملثمين، وأومأ إلى عبد الرحيم أن يقدم عبد الجبار فقاده بيده حتى أوقفه بين يديه، فوقف وركبتاه ترتعدان من التهيب وقد عظم أمر راشد الدين في خاطره. فوجَّه هذا كلامه إلى عماد الدين قائلًا: «وأنت يا عبد الجبار، أرجو أن تصدقنا ولا تفعل كما فعل ذلك الكردي، أنت كردي أيضًا لكنني أقرأ في وجهك الصدق. أنت تطلب الانضمام إلى رجالنا؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «وهل تعلم ما أنت مقدم عليه من الأمر العظيم؟» قال: «نعم.» قال: «لا تخدع نفسك إذا كنت مترددًا أو خائفًا ارجع من حيث أتيت. ونحن إنما نطلب رجالًا أهل بسالة وصدق. وهل تعرف الخطر الذي يحدق بك؟» قال: «نعم.» فتنحنح وقال: «وما الذي حملك على هذا الأمر؟» قال: «أن أتشرف بخدمة مولانا الشيخ الأعظم.» قال: «من أين أتيت؟» قال: «من بيت المقدس.» وخاف أن يسأله عن حقيقة غرضه فيكشف أمره ويقع في خطر الموت. فارتعدت فرائصه لكنه تجلَّد وصبر. فقال له راشد الدين: «أنا أعلم أنك قادم من بيت المقدس الآن، ولكنني أحب أن تخبرني عن المكان الذي جئت منه قبل بيت المقدس.» فتحيَّر في الجواب وسكت وهو يفكر في هل يصدقه أم لا. وخاف أن تكون كرامة راشد الدين دلته على حقيقة غرضه الذي جاء من أجله فتلعثم لسانه. فلم يصبر راشد الدين عليه فقال: «يظهر أنك خائف. لا تخف يا بني. إنك شاب شهم ولست من طبقة أولئك الزعانف الجهلاء. أنا لا أكلفك أن تقول شيئًا، وإنما أستفهم شعرة من شعرك وهي تنبئني.» وأشار إلى عبد الرحيم أن يأتيه بشعرة من ذؤابة عماد الدين فجاءه بها فتناولها بين السبابة والإبهام وجعل يخاطب الشعرة قائلًا: «يا شعرة عبد الجبار، قولي لي أين كان صاحبك قبل بيت المقدس؟» فسمع عماد الدين الجواب آتيًا من ناحية الشعرة ضعيفًا كأنه صادر عن وتر رنان وهو: «من القاهرة!» فقال: «قولي لي أين كان صاحبك هناك ومَن هو؟» فقالت: «كان عند يوسف صلاح الدين وهو من رجال خاصته.» فلما سمع عماد الدين ذلك أوشك أن يسقط على الأرض من الارتعاد، وأطرق لا يحير جوابًا. وخاف أن يواصل الأسئلة ويطَّلع على سر قدومه إلى هناك. مرت عليه دقيقتان هما أطول من سنة. ثم رأى راشد الدين تنهد عند سماع اسم صلاح الدين ورمى الشعرة من يده وقال: «صلاح الدين يوسف؟ أطال الله بقاءه.» فاستغرب عماد الدين قوله وانتعشت آماله، لكنه ظل ساكتًا. فقال راشد الدين: «كيف فارقت صلاح الدين، هل هو في صحة وسلامة؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «الحمد لله على ذلك.» ولحظ عماد الدين تغيرًا في وجه راشد الدين لم يفهم سببه. لكنه ما زال خائفًا من افتضاح أمره حتى سمع راشد الدين يخاطبه قائلًا: «أحمد الله على سلامة صلاح الدين، والآن هل أنت مصمم على الانضمام إلى رجالنا؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «أتعلم ماذا يُطلب منك؟» قال: «لا، لكني طوع أمر مولاي فيما يريد.» فابتسم راشد الدين ابتسامة لم تغيِّر شيئًا من انقباض سحنته وقال: «أعجبني جوابك يا عبد الجبار. وأنت إذا أُتيح لك أن تكون من رجالنا كسبت الدنيا والآخرة. لكن ذلك ليس بالأمر الهين.» قال ذلك ووقف وأشار إليه أن يتبعه، فتبعه وهو يسترق النظر إلى عبد الرحيم استئناسًا برأيه ولو بالإشارة. فرآه يشجعه ويطمئنه. حتى وصل راشد الدين إلى جانب من جوانب تلك القاعة الواسعة المظلمة فوقف وقال لعماد الدين: «انظر هنا.» وأومأ بإصبعه إلى حفرة بين يديه. فنظر فإذا هو على شفا هوة لا قرار لها. فقال له: «إذا كنت صادقًا فيما تقوله فألقِ بنفسك في هذه الهوة!» ونظر عماد الدين إلى الحفرة فلم يشك في أنه إذا أطاعه فسيُقتل لا محالة. فالتفت إلى عبد الرحيم خلسة فإذا هو يشجعه ويشير إليه بعينيه أن يخطو. وهو واثق بصدق صديقه، لكنه خاف أن يكون في الأمر دسيسة وأن راشد الدين اطلع على حقيقة مهمته فأراد الانتقام منه على هذه الصورة. على أنه تذكر ما نبهه إليه عبد الرحيم من قبل وهو لم يتعوَّد الخوف أو التردد فسبقت قدمه إلى الوثوب نحو فوهة تلك الهوة مدفوعًا بوعده وشجاعته. فإذا هو قد تلقته عارضة برزت وغطت تلك الفوهة. وفُتحت فوهة أخرى في المكان الذي كان واقفًا عليه. فلم يصدِّق أنه لا يزال حيًّا. أما راشد الدين فأمسكه بيده وهو يقول: «الآن تأكدت صدقك. ولو لم تصدقني لقُتِلت؛ لأن فوهة الهوة تحولت إلى موقفك الأول.» وأشار إليه أن يتحول نحو القاعة وهو يقول: «استحققت النعمة التي تطلبها. إنك منذ الآن من أبنائي الصالحين.» وعاد راشد الدين إلى مجلسه وأشار إلى واحد من الخدم الوقوف بين يديه بالإشارة أن يتبعه بقدح فأتاه به، فتناوله وصبَّ فيه سائلًا من إناء بجانبه وقال: «هذا ماء الحياة وطريق النعيم إذا كنت صادقًا، وهو سم قاتل إذا كنت كاذبًا. فإذا كنت على وعدك بالطاعة وصدق النية فاشربه.» فتناوله وتردد لحظة وهو ينظر إلى صديقه عبد الرحيم فرآه يشجعه فشرب ما في القدح وأومأ إليه الشيخ أن يقعد. فقعد وأحس بعد قليل بالخدر ثم غاب عن رشده. ••• ولا تسل عن دهشته لما أفاق من غيبوبته وفتح عينيه فرأى نفسه في حديقة كالجنة بما يصفونها به من جري الأنهار وتعانق الأشجار وتجاوب الأطيار من صادح وسابح. وأول ما نبهه من رقاده نسيم مر على وجهه ويد لمست جبينه. فإذا هي يد غادة أو حورية كأنها البدر عليها ثوب يجللها لكنه لا يكسوها لشفافته. وبيمناها مروحة من ريش النعام تروِّح له بها. وقد وضعت يسراها على جبينه كأنها تمسح عرقه فظن نفسه أول وهلة في حلم وخاف إذا نهض أن يفقد تلك المناظر البديعة فصبر قليلًا، فإذا بتلك الحورية تخاطبه بصوت رخيم قائلة: «انهض يا حبيبي إلى متى الرقاد؟» فنهض ونظر إلى نفسه فرأى عليه ثوبًا يشبه أثواب الأمراء لم يرَ على السلطان صلاح الدين أحسن منه. وعلى رأسه عمامة من نسيج مزركش بالقصب. وقد جلس على بساط من أجمل أبسطة عصره عليه الصور المنسوجة بالذهب. وقضى برهة وقد أخذته الدهشة ينظر تارة إلى نفسه وطورًا إلى تلك الحورية، وآونة لما بين يديه أو لما يقع عليه بصره من الأشجار والأزهار وما يسمعه من خرير الماء وتجاوب الأطيار، وما يفوح من الروائح العطرية مما لم يرَ مثله ولا خطر بباله. وبينما هو يفكر في ذلك تقدمت إليه تلك الغانية وقد أزاحت نقابها عن رأسها وأرسلت شعرها الذهبي على كتفيها وهي تنظر إلى عماد الدين بعينين تكادان تنطقان بعبارات الحب وتشكيان لواعج الغرام. على أنه تجلَّد ونظر إليها وصبر لما يبدو منها فمدت يدها للمصافحة فناول يده وهو ما زال يحسب نفسه في رؤيا، فقبضت على أنامله وهي تقول: «ما بالك يا عبد الجبار ما زلت تحسب نفسك في منام؟ أنسيتَ أنك شربت ماء الحياة من يد مولانا الشيخ الأكبر؟ إنك في الجنة الآن التي لا يدخلها إلا المستحقون؟» فتذكر القدح الذي شربه من يد راشد الدين فغلب على اعتقاده صدق دعوى ذلك الرجل وأنه في الواقع انتقل إلى الجنة بأنهارها وأشجارها وأطيارها، وأن هذه المرأة حورية من حورها. ثم تذكَّر سيدة الملك فأجفل وقال في نفسه: «ما لهذه المرأة تهم بقلبي لتختطفه وهو ليس لي؟» وتباعد عنها فتباعدت، وبان العتب في وجهها وتحوَّلت عنه ثم غابت عن عينيه. فتركها ومشى على أرض مكسوة بالعشب الأخضر اللون كالبساط المزركش وقد فاحت منه الروائح المنعشة، فوقع بصره عن بُعد على قناة يجري فيها الماء لامعًا كأنه الزلال، وعلى ضفتيها أشجار الفاكهة وقد وقعت أشعة الشمس من خلال الأغصان على ذلك الماء وهو يجري فتلوَّن بألوان قوس قزح. فدنا من تلك القناة ووقف على ضفتها ينظر إلى الأشعة الواقعة على الحصى في قاعها كيف تتكسر وتتلون. وأنه لفي ذلك إذ رأى في الجانب الآخر حورية برزت من بين الأشجار ومشت نحوه وهي تبتسم له. فسرَّه أن بينه وبينها قناة تحول دون وصولها إليه، وتوقَّع أن تقف على الضفة الأخرى وتخاطبه. فإذا هي تجاوزت الضفة ولم تزل ماشية إليه فوق سطح الماء ولم تبتل قدماها. وتعاظمت دهشته لما رآها وصلت إليه وقدماها العاريتان تنتقلان فوق سطح الماء الجاري لا تقع فيه ولا تعكره أو تعيق سيره. فتحقق لديه أنه في مكان غير الأرض، وأن أولئك الحور من الملائكة. وصلت تلك الحورية إليه والهواء يعبث بشعرها ويلاعب أطراف ردائها. وبسطت يدها نحوه كأنها تستقبله وهو يحارب هواه ويتذكر سيدة الملك وحبها إياه ويهم بالابتعاد، فرأى وجه تلك الحورية شيئًا يشبه ملامح حبيبته فذعر وتفرس فيها جيدًا وحدثته نفسه أن تكون هي بعينها وأن مجيئها إلى تلك الجنة من جملة معجزات راشد الدين. فوقف ريثما وصلت الحورية إليه ومدت يدها نحوه، فمد يده وتصافحا وهو يتفرس في وجهها فكانت كلما دنت منه بعدت المشابهة بينها وبين سيدة الملك. لكنه استأنس بها وأحب أن يحادثها عما يراه. فلما دنت منه فاحت رائحة الطيب من ثوبها فوضعت يدها على كتفه فاقشعر بدنه فقال لها: «من أنت يا هذه وأين أنا؟» قالت: «ألا تعرف أين أنت؟ إنك في جنة شيخ الجبل مولانا الإمام الأكبر.» قال: «وهذا مقر أتباعه أجمعين؟» قالت: «نعم. ولكن لا يمكث فيها إلا مَن أحسن البلاء في طاعته.» وأمسكت بيده ومشت فمشى، وأومأت إليه أن يتبعها فوق تلك القناة فتردَّد هنيهة فجذبته بيده وهي تقول: «لا تخفْ امشِ.» فمشى فإذا هو يخطو على شيء صلب يفصل بين قدميه وبين الماء. فظن الماء جمد تحت قدميه. ووصل إلى الجانب الآخر وسار مع الفتاة وهو شديد الرغبة في معرفة حقيقة ما يراه، فلما سمع قولها قال: «هل أنا باقٍ هنا؟» قالت: «أنت حديث العهد، وإنما جئت لترى ما أعده المولى لأتباعه ومريديه إذا قاموا بأوامره. وعسى أن تكون من المستحقين.» فعلم أنه هناك إلى أجل ولا يلبث أن يعود. فمشى لترويح النفس وعيناه تنتقلان بين الأشجار والرياحين ويرى الأطيار تتنافر بين أيدي تلك الحورية، وفيها الكراكي والطواويس بألوانها الجميلة. والبلابل والحساسين تتجاوب بالتغريد أو الزقزقة. والفتاة تناديها فتأتيها وتقع على كتفيها أو على يدها وتنتقل كما تأمرها كأنها تفهم لغتها. ثم سمع عماد الدين زئيرًا علم أنه زئير الأسد، وكان قد سمعه مرارًا فأجفل وقال: «أليس هذا زئير الأسد؟» قالت: «بلى، وهل خفته؟ إن الأسود لا تؤذي أهل هذه الدار.» ومشت حتى دنت من مربض لأسد تحت شجرة، فإذا هو مقعٍ وعيناه تبرقان لكنه لم ينتقل من مكانه، فتقدمت الفتاة إليه ومدت يدها إلى رأسه وعبثت بشعره كما تعبث بشعر الهر فلم يتحرك، فاستغرب عماد الدين ذلك أيضًا. وجاء إلى السير فوقع نظره في بعض جوانب الحديقة على غرف مفردة تغطيها الأزهار والأغصان فسألها عنها فقالت: «هذه مساكن الذين استحقوا البقاء هنا يتمتعون بالملذات والنعيم، لا يعكر عليهم ذلك أحد.» وبعد المسير برهة بين صعود وهبوط وقفت به الفتاة عند حائط وقالت له: «انظر إلى هنا.» فنظر من كوة في الحائط تشرف على وادٍ أجرد لا شيء فيه من الماء ولا الخضرة. فأجفل لما رآه هناك من الثعابين والوحوش المفترسة تسرح بين جماجم البشر فقال لها: «أظن هذه هي الجحيم.» قالت: «نعم هذه هي، فلو لم تُطِع الشيخ الإمام لكنت في عداد المغضوب عليهم هنا.» لم يشأ أن يقف هناك طويلًا. فتحوَّل وعادت معه حوريته وهي تلاطفه وتقطف من الثمار وتعطيه وهو كالتائه في أفكاره لا يدري ماذا يرى. وإذا هو يسمع صوتًا اهتزت له جوارحه وجمد الدم في عروقه؛ لأنه صوت سيدة الملك كأنها تستغيث به. فأخذ يتلفت يمينًا وشمالًا وهو يحسبها على مقربة منه والحورية تنظر إليه بذهول قائلة: «ما بالك؟ ما الذي أوقفك؟» قال: «ألا تسمعين شيئًا؟» قالت: «كلا، ماذا تسمع؟» فأطرق وهو يصيخ بسمعه فلم يعد يسمع شيئًا. فرجح عنده أنه مخطئ وأنه سمع ما سمعه لفرط تفكيره في سيدة الملك، فأتت روحها لزيارته أو هو صوتها جاء للسلام. لكنه لم يطمئن إلى هذا الفكر والصوت الذي وصل إليه صوت استغاثة، وساءل نفسه أهي في شدة؟ وإذا كانت كذلك فما أجدره أن يسعى في إغاثتها. وكان قد شعر بارتياح إلى تلك الحورية لحسن أدبها وكثرة ما بذلته في سبيل استرضائه واجتذاب قلبه، وهو شاب في مقتبل العمر، فغلب على اعتقاده أنه في جنة أو مكان يشبه الجنة جاءه بكرامة أو معجزة من معجزات راشد الدين، وأوشك أن يشتغل عن سيدة الملك. فلما سمع ذلك الصوت توهَّم أنه صوت ضميره يناديه بالثبات على حب حبيبته فلا يشتغل عنها بسواها، فأحس بانقباض، وودَّ الخروج من ذلك النعيم. وفيما هو يفكر في ذلك لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا سمع وقع خطوات غير خطوات رفيقته فالتفت فرأى غلامًا كالبدر طلعة وبهاءً قد تمنطق بمنطقة من الخز أرسل جانبًا منها إلى الأمام كالمئزر، وأرسل شعره ضفائر ذهبية وعليه ثوب سماوي اللون، فلما دنا من عماد الدين انحنى انحناء الاحترام وقال بصوت رخيم: «ألا يتفضل المولى لتناول الغداء؟» فالتفت إلى رفيقته كأنه يستزيدها بيانًا فابتسمت له قائلة: «تفضل يا مولاي إلى الطعام فقد آن وقت الغداء.» وكان في شغل عن الطعام، فلما ذُكر له أحس بالجوع. فمشى في طرقة مسواة كأنها فُرشت بالزعفران يحف بها من الجانبين سياج من الأزهار الجميلة، ينتهي في آخره بباب كباب القصر الفخم. وقبل الوصول إلى الباب فاحت روائح الطعام الشهي مما لم يُعرف مثله إلا في قصور الفاطميين في أثناء الأعياد. ولما اقتربوا من ذلك الباب فتح بنفسه، وتقدم غلامان آخران يرحِّبان بالقادم ومشيا بين يديه من باب إلى باب حتى وصل إلى غرفة المائدة وهو يلتفت إلى الجانبين، وقد أدهشه ما على جدران الممرات من الستائر المصورة تمثل البساتين والقصور ومواقف البذخ والرخاء، وتلفت النظر وتجتذب القلب. وأما غرفة المائدة فقد ذهبت برشده وأوقفته موقف الحيرة ونسي مكانه لأن جدرانها الأربعة مكسوة بالمرايا على طول الحائط. فيظهر الشخص الواحد عشرات من المرات من كل جانب. فتقدمت الفتاة أولًا وأشارت إلى عماد الدين أن يتفضل فجلس على مقعد مغشى بالديباج المزركش، وبين يديه مائدة مكسوة بملاءة من الحرير الوردي، ولم تمضِ دقائق قليلة حتى تواردت الأطباق وعليها الألوان من اللحوم والفاكهة. وجلست تلك الحورية بجانب عماد الدين وهي تلاطفه وتقدِّم له اللقمة بعد اللقمة وتبالغ في إكرامه، والغلمان وقوف بين أيديهما للقيام بالأوامر، فعاد عماد الدين إلى نسيان سيدة الملك وقد سحرته تلك الفتاة بجماله ولطفها. ولا سيما بعد أن دارت الأقداح وفيها الخمور اللذيذة، فأصبح لا يعرف غير تلك الساعة وقام في ذهنه أنه في النعيم الحقيقي. ولما رأت الفتاة ميله ورضاه أخذت في الإعراض عنه وهو يزداد شغفًا، وقد زادته الخمور اندفاعًا حتى أصبح يتزلَّف إليها ويغازلها وهي تتمنَّع فلما تحققت افتتانه بها قالت: «لا تخرج عن حدك، فأنت إنما جئت إلى هنا على سبيل التجربة. وليس الوصول إلى ما تطمع فيه سهلًا. إن من دونه بذل النفس في طاعة الإمام الأكبر.» فشقَّ عليه هذا الإعراض لكنه زاد افتتانًا وقال: «قد كنت منذ هنيهة تتقربين وأنا أبعد فهل كنتِ تخادعينني؟» قالت: «كلا، ولكن لا بد أن تأتي عملًا يؤهلك إلى المقام في هذا النعيم دائمًا، وعند ذلك أكون طوع إرادتك، وإذا خاطبت الأطيار أجابتك، وتجد النعيم الحقيقي من كل شيء. وليس ما تراه إلا مثالًا صغيرًا من ذلك النعيم فعسى أن تعمل عملًا يؤهلك لبلوغه. والحق يُقال إني فُتنت بجمالك وبسالتك، وشعرت نحوك بما لم أشعر به قبلًا نحو أحد. ولكنني لا أقدر أن آتي أمرًا يخالف رضا مولانا، ولا أقدر أن أخفي عليه شيئًا؛ لأنه فاحص القلوب يطَّلع على خفايا السرائر، ولكنني تأكيدًا لعلائق المودة بيننا أدهن شعرك بطيب خاص بي.» قالت ذلك واستخرجت علبة من بين أثوابها فتحتها ففاحت منها رائحة لم يشم مثلها في حياته. فأخذت بعض الطيب ودهنت به يديه وشعره. فلذَّ له ذلك وطابت نفسه. ثم قالت: «احفظ هذه الرائحة تذكارًا بيننا حتى نلتقي اللقاء الدائم إن شاء الله.» وبان الإعجاب في عينيها فازداد هو تهيبًا من ذلك الشيخ العجيب، فسكت. وبعد الفراغ من الطعام والشراب أحس عماد الدين بميل إلى النعاس فتوسَّد فراشًا من الحرير المحشو بريش النعام وتلك الحورية إلى جانبه تداعبه وتعرض عنه، ولم تمضِ دقائق قليلة حتى غلب عليه النوم واستغرق في رقاده. وأفاق في اليوم التالي فإذا هو في قاعة راشد الدين كما كان من قبل وعليه الثوب الأبيض وشعره محلول. فجعل يتلفت يمينًا وشمالًا وينظر في ثوبه فتبادر إلى ذهنه أول وهلة أنه رأى حلمًا. ثم ما لبث أن شم رائحة الطيب في شعره ويديه فلم يبقَ عنده شك أنه رأى ما رآه حقيقة. وانتبه بعد قليل لنفسه فرأى راشد الدين جالسًا كما تركه، ورأى صديقه عبد الرحيم بجانبه. فهشَّ له وضمه إلى صدره، فقال له عبد الرحيم: «إن رائحة الجنة تنبعث من شعرك، هنيئًا لك وعسى أن يُتاح لك النعيم الدائم. قم واجثُ عند قدمي مولانا وقبِّل ركبته وادعُ بطول بقائه.» فنهض وترامى على قدمي الشيخ عن اعتقاد صحيح بكرامته. وقبَّل ركبته فمنعه ودفع إليه يده فقبَّلها، ثم قال له الشيخ: «أنت الآن من أبنائنا الفدائيين، ويلوح لي أنك لا تلبث أن ترتقي إلى مصاف المستنيرين. قم إلى غرفتك وقد أوصيت الشيخ دبوس بك خيرًا. ولكنني أحب قبل خروجك أن أزودك بعهد مني.» قال ذلك ونهض وأنهض عماد الدين معه وهو يحدِّق في عينيه وعماد الدين يشعر بقوة تنبعث من عيني ذلك الرجل وتوشك أن تغلبه على أمره. وقد قبض الشيخ على يدي عماد الدين بيديه قبضًا شديدًا. ومكث كذلك عدة دقائق ثم صاح به: «افتح فمك.» ففتحه فتفل فيه وقال: «كن فدائيًّا مطيعًا.» وتركه وأشار إلى عبد الرحيم أن يذهب به إلى غرفته. فمشيا إلى غرفة الشيخ دبوس وهما صامتان، وقد استولت الدهشة على عماد الدين وأصبح كالمأخوذ أو مَن أصابه السِّحر. فلما وصلا إلى الشيخ دبوس بدَّل عماد الدين ثيابه وهنَّأه دبوس بما ناله من رضا الشيخ الأكبر، وأعاد إليه خنجره ونقوده وجواهره وأصبح واحدًا منهم. على أنه حالما عاد من دار النعيم التي كان فيها، عاد إلى ذكرى صلاح الدين وسيدة الملك، فأصبح همَّه أن يخلو بعبد الرحيم ليسأله سؤالًا شغل خاطره بالأمس، وهو قول راشد الدين: «أطال الله بقاء صلاح الدين.» فإنه لم يقدر على تعليله وهو يعلم تعمده قتله مرارًا. أما عبد الرحيم فاستأذن صديقه عبد الجبار في الغياب تلك الليلة التي عينوها لترقيته إلى درجة المستنيرين. فبات عماد الدين على أحر من الجمر وقد تراكمت عليه الهواجس وأخذته الغرائب. وكلما تضوعت رائحة الطيب من شعره تذكر تلك الفتاة وما لقيه هناك من أسباب السعادة. نام تلك الليلة نومًا متقطعًا، وما كاد يطلع النهار حتى جاء صديقه عبد الرحيم والبِشر يتجلَّى في عينيه فنهض عماد الدين وقبَّله وقال: «قد أصبحت منذ الآن أرقى مني، ولا يحق لي أن أناديك أخي كما كنت أفعل.» فضحك عبد الرحيم وقال: «إن صداقتنا أمتن من ذلك كثيرًا، كنا غريبين وتحاببنا ونحن الآن أخوان على عهد واحد. ولا تلبث أنت أن ترتقي إلى مثل رتبتي. أتمنى ذلك لك قريبًا، بل أنا أتوقعه عن ثقة.» ولم يكن ذلك الشرف ليهمه، وإنما همه استطلاع رأي راشد الدين في صلاح الدين، فإذا علم أنه ما زال ينوي قتله عاد إلى مهمته الأولى. وأما إذا تحقق صدق دعائه له بطول العمر كان له رأي آخر فقال: «أما أنا فلا أتوقع قرب الترقي كما تظن. ويكفيني أن تكون لي صديقًا. ولا أحب أن أحملك ثقل صداقتي لشيء أطمع فيه على يدك، وإنما أتقدم إليك أن تفسِّر لي كلامًا قد سمعته من الشيخ الأكبر بالأمس فوقع عندي موقع الاستغراب ولم أصدِّقه وهو قوله «أطال الله بقاء صلاح الدين» مع أني أعلم أنه بعث أناسًا لقتله غير مرة.» فابتسم عبد الرحيم وهو ينظر إلى عماد الدين ويهم بالكلام ويمسك نفسه، فلما رآه عماد الدين يتردد قال له: «إذا كنت تعرف الحقيقة فأرجو أن تخبرني بها؛ لأن ذلك يهمني كما تعلم. ولعلك من أعلم الناس بأمري مع هذا السلطان.» فاعتدل عبد الرحيم في مجلسه وأظهر الاهتمام وقال: «اعلم يا صديقي عماد الدين أن عبارة الشيخ الإمام التي ذكرتها كانت مغلقة عليَّ إلى مساء الأمس، فلما صرت من المستنيرين دخلت في جملة ما عرفته. وليست هي سرًّا اؤتمنت عليه مثل سائر أسرار هذه العشيرة، لكنني اطَّلعت عليه عَرضًا، ولذلك لا يمنعني الواجب ولا الخوف من أن أجيبك عن سؤالك.» فتطاول عماد الدين بعنقه وقال: «قل بالله. هل يريد الشيخ الأكبر حقيقة أن يطول بقاء مولاي صلاح الدين؟» قال: «نعم، إنه يتمنى ذلك من كل قلبه، وهو يطلبه ليل نهار.» قال: «يا للعجب! كيف يبعث مَن يقتله ثم هو يدعو بطول بقائه!» قال: «لعلك تعني ما حدث لصلاح الدين قبيل خروجك من مصر؛ إذ نهض في الصباح فوجد الخنجر فوق رأسه ورسالة التهديد بجانبه.» قال: «نعم، هذا ما أعنيه.» قال: «هذا دليل على رغبة الشيخ الأكبر في طول بقاء صلاح الدين، ولولا ذلك لأمر الفدائي الذي تمكَّن من الدخول عليه حتى غرس الخنجر في وسادته عند رأسه بأن يغرسه في صدره ولم يكن ثمة ما يمنعه. ولكنه أمر أن يكتفي بالتهديد لرغبته في بقائه حيًّا.» فاستغرب عماد الدين ذلك وقال: «لكنني لم أفهم الباعث على تلك الرغبة، وهذا شيخنا — حفظه الله — قد اشتهر فتكُه بالملوك والسلاطين. ولم يبقَ فيهم مَن لا يخافه حتى صلاح الدين نفسه، فكيف هو يحب بقاءهم أحياء و…» فقطع كلامه قائلًا: «لا. لا. إنه لا يلتمس طول البقاء لأحد من هؤلاء غير صلاح الدين.» فقال: «لماذا؟ أرجو أن تفصح لي.» قال: «السبب يا أخي أن شيخنا — أيده الله — عَلِم بالوحي أنه يموت في نفس السنة التي يموت فيها صلاح الدين، فمن مات منهما قبل صاحبه لا بد للثاني أن يتبعه في تلك السنة. فهو لذلك حريص على حياة صلاح الدين حرصه على حياة نفسه. وهل عندك شك في صدق هذا الشيخ العظيم. قد رأيت من معجزاته ما يكفي، وإن كان قليلًا من كثير.» فأطرق عماد الدين وأخذ يفكِّر فيما سمعه، وما لبث أن صدَّق ما قاله راشد الدين بعد ما شاهده بنفسه. فاعتقد موت الرجلين في سنة واحدة، ورأى أن من مصلحة صلاح الدين أن يطول عمر راشد الدين. فتحوَّلت همته إلى المحافظة على حياة هذا الرجل لا قتله. وعدَّ مهمته قد انقضت وأصبح يميل إلى الخروج من ذلك الحصن والإسراع إلى صلاح الدين لينقل إليه تلك البشرى ويرى حبيبته سيدة الملك. واعترضت أفكاره رائحة الطيب ومناظر تلك الجنة، لكن الحقيقة تغلَّبت على الوهم واشتد ميله إلى الخروج، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن يرسله راشد الدين في مهمة لقتل أحد الملوك أو الأمراء، فالتفت إلى صديقه عبد الرحيم والامتنان بادٍ في وجهه وقال: «لا أنسى صداقتك يا عبد الرحيم، إني أشعر بصدق مودتك شعورًا يكاد يُلمس باليد. ولذلك كانت ثقتي بك عظيمة، فلا ينبغي لي أن أخفي عليك شيئًا، فهل تأذن لي في أن أستخدم تلك الثقة؟» قال: «قل ما بدا لك، فأنت في موضع ثقتك.» قال: «لا حاجة بي إلى بيان الأسباب التي تلجئني إلى سرعة الخروج من هذا الحصن، فأنت تعلم علاقتي بمصر، فأتقدم إليك أن تساعدني في ذلك.» قال: «خروجك لا يتم إلا إذا دبَّروا لك مهمة تذهب في إنفاذها لقتل كبير من الكبراء.» قال: «فليكن ذلك، وأنا فاعل ما يأمرون به.» قال: «أمهلني يومًا أو يومين لأغتنم فرصة تساعدني.» قال: «إني في انتظار وعدك بارك الله فيك.» قال: «واسمح لي بالذهاب الآن، فإن عليَّ واجبات تتعلق برتبتي الجديدة لا بد من إنجازها وسأعود إليك بما أُوفَّق إليه.» قال: «أشكرك يا أخي.» ونهض عبد الرحيم وانصرف. ••• لما خلا عماد الدين بنفسه بعد ما انتابه من الأهوال وما مر به من الغرائب، أخذ يفكر فيما رآه وسمعه فلم يزدد إلا استغرابًا، وراجع ما كان يسمعه عن تدجيل ذلك الزعيم فأخذ اعتقاده بكراماته يضعف، ولكنه لم يستطع تعليل ما شاهده من المعجزات تعليلًا معقولًا. كيف يطلع على الوقائع قبل وصول أخبارها؟ وكيف يكلِّم الميت فيجيبه؟ والشعرة فتطلعه على السر؟ وهذه الجنة بما فيها من الطيبات والحور اللواتي يمشين على سطح الماء فلا يُعكَّر ويخاطبن الأطيار فتطيعهن ويلاعبن الأسود فلا تؤذيهن؟! فإذا تمثلت له هذه الظواهر لم يرَ مندوحة عن الاعتقاد بكرامة الشيخ راشد الدين. وتعب من التفكير فخطر له أن يتمشى في ذلك الحصن، ولم يبقَ ثمة ما يمنعه؛ لأنه أصبح من أهله. فنهض ومشى فرأى أرض الحصن وما يحيط به خلوًا من النبات إلا ما وراء ذلك الجبل من السهول البعيدة فتذكَّر ما شاهده بالأمس من أمثال النعيم من الأشجار والأنهار، فمال إلى استطلاع خبره وأين يمكن أن يكون. فصعد إلى بعض المرتفعات لعله يشرف منها على تلك الحديقة فلم يُوفَّق إلى شيء من ذلك لكنه وقع نظره وهو يجيل بصره في السهل الذي نزل فيه يوم وصوله إلى هناك على رَكْب لم يستطع أن يتبين وجوههم لبُعدِ المسافة. ولما اقتربوا وجدهم ملثمين وهم بضعة فرسان في ركابهم جماعة من المشاة كالخدم. فلم يهمه أمرهم وعاد إلى التفكير فيما هو فيه من الهواجس التماسًا لسرعة الخروج من هناك. وحدثته نفسه أن يفر فوجد ذلك مستحيلًا عليه إلا بالتعرض للخطر الشديد وهو في غنى عن ذلك إذا استعان بصديقه عبد الرحيم، ولا شك عنده أنه لا يدَّخر وسعًا في سبيل إنقاذه. وأعاد نظره إلى ذلك الركب فرآهم دنوا من الجبل حتى حجبهم سفحه عن عينيه. فترجَّح لديه أنهم من ذلك الجبل أو النازلين في جواره. وأحس بالجوع فتحوَّل إلى مجتمع الفدائيين فتناول الطعام معهم ولم يجد فيهم مَن يبلغ مبلغه من علو النفس ورقة الإحساس. فازداد رغبة في الخروج من هناك ولبث ينتظر عودة عبد الرحيم وهو على مثل الجمر. قضى ذلك اليوم واليوم التالي ولم يرَ عبد الرحيم، فاشتغل خاطره ولم يعرف سبب تخلفه. وزاد بلباله لما شاهد غياب الشيخ دبوس أيضًا عن غرفته في أثناء ذينك اليومين. وبلغه أنه في شغل شاغل مع الشيخ الأكبر للمباحثة في أمور مهمة حدثت بعد مجيء أناس وصلوا بالأمس. فتذكَّر الرَّكب الذين رآهم قادمين أول البارحة، فمال إلى استطلاع حقيقتهم فلم ينبئه منبئ؛ لأن هذه الأخبار لا يتناولها إلا الخاصة من المستنيرين. فصبَّر نفسه حتى يأتي صديقه عبد الرحيم، فلما استبطأه استفهم بعض الرفاق عنه فقيل له إنه مع نخبة المستنيرين في شاغل عند الشيخ الأكبر. فازداد شوقًا إلى الاستطلاع لكنه لم يرَ بدًّا من الانتظار، ومضى نصف اليوم الرابع ولم يرَه، فضاق ذرعًا وأخذ الملل منه مأخذًا عظيمًا وهمَّ بالبحث عنه فإذا هو قادم نحوه، فاستقبله استقبال الظمآن للماء، فأكبَّ عليه عبد الرحيم وقبَّله وأخذ يعتذر عن تأخره قائلًا: «اعذرني يا أخي، كنت في شاغل لم يكن في الحسبان، وكلما عزمت على المجيء إليك يحدث شاغل جديد.» قال: «نسيت قلقي واضطرابي حال رؤيتك، وأشعر أني أسبب لك تعبًا، ولكن يمكنك أن تتخلص من هذا التعب بتدبير مهمة أخرج بها من هذا الحصن. هل وُفِّقت إلى شيء من ذلك؟» قال وهو يضحك للمداعبة: «وُفِّقت إلى نصف الطلب فقط.» قال: «كيف ذلك؟» قال: «أنت تطلب أمرًا بالخروج من هذا الحصن لقتل أحد الأمراء، وقد استصدرت لك أمرًا بقتل أحد الأمراء، ولكن بلا خروج من هذا الحصن.» فاستغرب عماد الدين قوله وحمله على المزاح فقال: «بالله قل لي الصحيح، ألم تُوفَّق إلى شيء بعد؟» قال: «أقول لك الصحيح تمامًا، قد صدر أمر الشيخ الأكبر لك أن تفتك بأمير هو مقيم في هذا الحصن.» ورأى الجد في عيني عبد الرحيم فانقبضت نفسه؛ لأن رغبته إنما هي في الخروج فقط وليس في الفتك والقتل فقال: «أفصح يا أخي، فإنك أزعجتني بهذه البشارة. وأنت تعلم أني أطلب الخروج قبل القتل.» قال: «أعلم ذلك، ولكن ما الحيلة وقد صدر أمر الشيخ؟ وهي ثقة كبرى فيك لأن المهمة التي سيعهد فيها إليك شاقة. وهي ستكون السبب في تعجيل ارتقائك، وقد رأيت مولانا الشيخ كثير الرغبة في ذلك.» فأطرق عماد الدين وأعمل فكرته فيما سمعه، ولم يجد فيه حيلة فقال: «هل أعد كلامك هذا بلاغًا لي؟» قال: «كلا. سوف يستقدمك الشيخ الإمام نفسه ويبث فيك روح العزيمة والثبات ويأمرك بما يريد. أما أنا فأخاطبك مخاطبة الصديق سرًّا لعلمي أنك في قلق.» فقطع عماد الدين كلامه وقال: «اسمح لي يا أخي أن أقول لك إنك زدتني بهذا الخبر قلقًا.» قال: «ستحمد عاقبة هذا القلق يا عبد الجبار.» وابتسم كأنه يكتم سرًّا لا يريد أن يبوح به. فقال: «لم أفهم مرادك، بالله ألا خففت بعض ما بي ولو بالتلميح، أنا أعلم فضيلة المحافظة على السر. ولا أطلب منك أن تبوح بسر مقدس اؤتمنت عليه، لكنني أرجو تخفيف قلقي بعض الشيء. قل لي مَن هو الأمير أو الكبير الذي سيعهد إليَّ في قتله وهو مقيم هنا؟ إني لا أعرف كبراء هذا الحصن.» قال: «هو ليس من كبرائنا، وإنما هو طارق جاءنا منذ يومين.» فتذكَّر عماد الدين الرَّكب الذين رآهم قادمين في ذلك السهل فقال: «رأيت ركبًا قادمًا إلى هذا الجبل منذ بضعة أيام لعله كان فيه؟» قال: «نعم هو جاء في ركب. أعلم أني أسر إليك أمرًا خطيرًا.» وخفض صوته، فقال عماد الدين: «علمت ذلك، ولكنني أستغرب قدوم هذا العدو ليلقي حياته بين يدي عدوه.» قال: «ليس هو عدوًّا للشيخ، بل هو من أصدقائه وأخص أخصائه. تفارقا وهما صغيران قبل أن تصير المشيخة إلى مولانا راشد الدين. ولعلك تعلم أن مولانا هذا قبل أن صارت إليه الإمامة كان يقيم في مكان اسمه «عقر السدن» وخدم شيخ الإسماعيلية في «ألاموت» بالديلم، وتفقَّه على يده في العلم والدين، ثم انتقل إلى سوريا ونزل في حلب وأخذ يعظ ويعلِّم واشتهر بالتقوى، فتقاطر إليه الناس أفواجًا. وكان يجلس على صخر ويعظهم وهو جامد كالصخر. وإنما سحر الناس ببيانه فكثر أصحابه ومريدوه. وكان شيخ الإسماعيلية يومئذٍ رجلًا اسمه أبو محمد فخافه على منصبه وبعث إليه مَن يقتله فاختفى في كهف قرب حلب وما زال مختفيًا حتى ضعف أمر أبي محمد فخلفه وانتقل إلى هذا المكان. هذه خلاصة سيرة مولانا. فضيف اليوم من أعز أصدقائه الذين جاهدوا في نصرته ورافقه إلى الكهف ثم شُغل عنه بالأسفار. وعاد الآن في مهمة لا أعلم ما هي، فلاقاه مولانا أحسن ملاقاة واختلى به غير مرة لا أدري ما دار بينهما خلالها، لكن الشائع بين رجالنا أن مولانا فرح به كثيرًا وأنه من أعز أصدقائه. ومع ذلك فإنه بعث إليَّ بالأمس سرًّا وأخبرني عن تقديره بسالتك حق قدرها، وسألني إذا كنتَ تليق بمهمة خطيرة، فأكدت له اقتدارك على ذلك وأنك راغب في مهمة يعهد فيها إليك. ولم أكن أحسب أنها داخل هذا الحصن. فرأيته أبدى اهتمامًا كثيرًا ووضع فيَّ ثقة كبرى وأسرَّ إليَّ بأنه يحب أن يتخلص من هذا الصديق القديم على يدك.» وكان عماد الدين في أثناء حديث عبد الرحيم مصغيًا يفكِّر في دهاء هذا الطاغية وكيف أنه عمد إلى الفتك بصديق قديم له؛ لأنه رأى بقاءه حجر عثرة في طريقه. فضعف اعتقاده بكرامته لأنه لا يعرف ولاية أو كرامة تأمر بخيانة الأصدقاء. وأخذ ظنه يتغيَّر فيه. وأصبح يخافه على نفسه، ولكنه لم يجسر على التصريح به فقال: «الحقيقة أنها ثقة عظيمة في كلينا، ولكن هل أنت واثق أن الرجل المشار إليه كان من أصدقاء مولانا الشيخ؟» قال: «إني على ثقة تامة. وقد يخطر لك أن تنتقد عمل الشيخ؛ لأنه عمد إلى قتل صديقه ولكنك ستحمد عمله بعد حين. فالآن.» فقطع كلامه قائلًا: «ربما كان مصيبًا بعمله من حيث دفاعه عن سلطته فأعذره عليه. لكنني أصبحت منذ الآن أخاف على حياتي وحياتك.» قال ذلك بلحن التصريح عما في الضمير ولو تحت الخطر. ووافق ذلك التصريح هوى في نفس عبد الرحيم، فابتسم ابتسامة المصادقة وقال: «لا ألومك على هذا الشك؛ لأنه خطر لي أيضًا. وهناك أمور ظهرت لي بعد انتظامي في سلك المستنيرين، ربما سنحت الفرصة لبيانها. وأما الآن فالمطلوب أن تعلم المهمة التي سيعقد فيها إليك، فلا تتردد في قبولها، وسترى أني ناصح لك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/10/
مقتل أبي الحسن
مكث عماد الدين على مثل الجمر وهو يردد ما سمعه عن راشد الدين، وتغلبت عليه الشكوك في كراماته. لكنه ما زال مكبرًا اقتداره. وبينما هو في ذلك إذ جاءه خادم للشيخ أصم أبكم مثل سائر خدمه. وإنما يقتني الصم والبكم للخدمة لئلا يفهموا شيئًا مما يدور بينه وبين رجاله. فهم يحملون الأوامر بالإشارة. فلما جاء ذلك الأبكم يطلبه مشى في أثره حتى دخل به على راشد الدين وهو في غرفة صغيرة ليس فيها سواه. وقد تخفَّف بعمامة صغيرة وجعل يتمشى ذهابًا وإيابًا ويداه وراء ظهره وفيه عَرَج قليل. فلما رآه عماد الدين، سيطرت عليه الرهبة ووقف وقفة الاحترام. فأشار راشد الدين إلى الحارس أن ينصرف. وأقفل الباب وراءه ولم يبقَ عنده إلا عماد الدين. فدعاه إلى أن يقترب منه. وابتسم وقال له: «انظر في عيني.» فنظر فإذا هما تلمعان ويكاد الشرر يتطاير منهما. فقال راشد الدين: «ماذا ترى فيهما؟» فاستغرب سؤاله وقال: «لا أرى فيهما شيئًا يا مولاي غير النور والذكاء.» قال: «أما أنا فأرى في عينيك أشياء كثيرة، إني أقرأ فيهما ما يكنه ضميرك.» فخاف عماد الدين أن يطلع راشد على ما خامره من الشكوك فيه فقال: «لا غرابة في ذلك، فقد تحققناه من قبل.» قال: «ويسرني أني تحققت صدق طاعتك وإخلاصك، ولذلك رأيت أن أُسرِع في مكافأتك، وهذا لا يكون إلا بمهمة تقضيها. ورغبة في التعجيل جعلت ذلك قريبًا في هذا الحصن. فهمت؟» قال: «إني طوع أمرك يا مولاي.» قال: «إن في هذا البيت المنفرد داخل سور هذا الحصن أميرًا كبيرًا ينبغي أن يذهب من هذا العالم بلا ضوضاء ولا شكوى، وأن يكون ذلك على يدك. فما رأيك؟» فانحنى انحناء الطاعة وقال: «وهل للعبد رأي بين يدي مولاه؟ إنما يأمره فيفعل.» فقبض على أنامل عماد الدين بكفيه وأمره أن ينظر في عينيه ثم قال له: «أريد يا عبد الجبار أن تقتل الشيخ سليمان اللعين. تقتله وتخمد أنفاسه هكذا أريد.» فأحس عماد الدين عند سماع ذلك الصوت على هذا الشكل بقشعريرة جرت في عروقه، وكأن شرارة كهربائية تطايرت أمام بصره. فأغمض جفنيه رغم إرادته. فقال راشد الدين: «قد أحسنت يا عبد الجبار (عماد الدين) إنك فاعل ما أريد، وسوف تنال جزاء أمانتك. واعلم أنك منذ الآن خادم لسليمان أو الشيخ سليمان كما يسمونه. فالبس لباس الخدم وغيِّر قيافتك وابذل جهدك في إرضائه حتى تغتنم منه غرة تقتله فيها ولا يشعر أحد بك. وأحب أن يكون ذلك خارج القلعة. وأنت عند ذلك من طبقة المستنيرين.» ثم أدنى شفتيه من أذنه وقال له: «ومع الرجل امرأة بارعة في الجمال ستكون غنيمة لك مع سائر ما يمتلكه من أثاث وغيره. ويمكنك التعويل على صديقك ولدنا عبد الرحيم في بعض التفصيل. وهذا يكفي، امضِ الآن إلى نائبنا الشيخ دبوس وهو يُتِم تجهيزك بما يلزم.» قال ذلك وترك أنامله، فودعه وخرج وهو يرتجف من عظم التأثر وأخذ يفكر فيمن عساه أن يكون سليمان هذا. ولم يهمه أن تكون امرأته جميلة وهو لا يرضى من سيدة الملك بديلًا. سار توًّا إلى الشيخ دبوس ولم يحتج في تفهيمه إلى كلام؛ لأن هذا كان على بينة مما يُطلب منه فحال دخوله عليه قال له: «ادخل يا عبد الجبار واقفل الباب.» فدخل ونهض الشيخ دبوس بنفسه فأعطاه لباس الخدم وأصلح شعره وقيافته بحيث تغيَّر شكله كثيرًا ودفع إليه كتابًا وقال له: «تأخذ هذا الكتاب إلى ذلك المنزل وتكون خادمًا لصاحبه كما أمرك مولانا الشيخ الأكبر، أفهمت؟» فأشار مطيعًا وخرج وهو كالخادم تمامًا. وقبل خروجه نظر إلى وجهه في المرآة فأنكر نفسه. ونظر في بطاقة الشيخ دبوس إلى سليمان وهو يتردد في ذهابه ويقول في نفسه: «كيف أقتل هذا الرجل ولا ثأر بيني وبينه؟» ثم خطر له قول عبد الرحيم إنه سيجد في قتله راحة فوقع في حيرة. وما عتَّم أن وصل إلى المنزل الذي ذكروه له فوجد الباب مقفلًا فأخذ في البحث عن الشيخ سليمان في ذلك الجوار فلم يقف له على خبر، فقعد على صخر في ظل البيت ينتظر قدومه لعله ذهب في حاجة لا يلبث أن يعود منها. واستغرق في هواجسه وتفقَّد الخنجر الذي خبأه في ثوبه لاستعماله عند سنوح الفرصة. لكنه ما زال يتردد في أمر القتل. وفيما هو في ذلك إذ رأى رجلًا قادمًا عن بُعد وعلى رأسه عمامة خضراء اللون كبيرة الحجم وقد أرسل شعره تحتها حول رأسه إلى كتفيه، وتزمَّل بجبة طويلة وعلَّق في صدره سبحة طويلة وحمل سبحة أخرى بيده يعدد حباتها ويتمتم كأنه يصلي أو يدعو كما يفعل المنقطعون عن العالم إلى الصلوات والدعوات، فتحقق أنه الشيخ سليمان لا محالة، فجعل يراقب حركاته وهو قادم حتى دنا منه فتقدم إليه وهمَّ بتقبيل يديه ودفع إليه بطاقة الشيخ دبوس فتناولها وفضها وقرأها وهو لم ينظر إلى عماد الدين بعدُ. فلما أتم قراءتها رفع بصره إليه وقال: «يقول أخونا الشيخ دبوس إن مولانا الشيخ الأكبر بعثك لخدمتنا.» قال: «نعم يا سيدي، وهل يتم لي هذا الحظ؟» قال: «إنني في غنى عن الخدم؛ لأني أحب الخلوة بنفسي للصلاة والدعاء وطعامنا يأتينا من مطبخ الجماعة. فما هي الحاجة إلى الخدم؟» وكان عماد الدين يسمع قوله وهو يتفرس في سحنته كأنه رأى ذلك الوجه وسمع ذلك الصوت من قبل. فلما فرغ الشيخ سليمان من قوله أجابه عماد الدين: «قد أمرني الأستاذ الأكبر أن أقف بباب مولاي أخدمه بما يحتاج إليه، فإن كان في شاغل بالصلاة أو غيرها فلا شأن لي به، وإنما ألبي أمره إذا أمرني فأجلب له الطعام أو ما يحتاج إليه من الأمور.» قال: «حسنًا. ما اسمك؟» قال: «عبد الجبار.» قال: «اقعد هنا، وإني شاكر لأخينا الشيخ فضله. وعلى كل حال لا حاجة لي بك في الليل فإذا غابت الشمس انصرف إلى مكانك.» ومشى نحو الباب وتناول المفتاح ليفتحه وعماد الدين يراقب حركاته ويبحث في ذاكرته عما يعرفه عن ذلك الرجل وأين رآه في دمشق أو القدس أو مصر فلم يخطر له شخص يعرفه بهذا الاسم. دخل الشيخ سليمان المنزل وظل عماد الدين جالسًا على حجر وقد شُغل خاطره بأمر هذا الرجل. ولم يتذكر أين رآه فظن نفسه واهمًا في تصوره، فصرف فكره عنه وعاد إلى التفكير في صلاح الدين والخروج من ذلك الحصن ليخبره بما عمله؛ وليرى سيدة الملك على فراغ واطمئنان. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فذهب ليأتيه بالعشاء وكانوا قد أعدوه له في أطباق، فحملها فوق رأسه حتى أتى الباب وقرعه وطال انتظاره قبل أن يفتحه له. ولما فتحه تناول الطعام منه وأدخله بيده ودفع إليه دينارًا وقال له: «قد جاء الغروب فانصرف إلى شأنك يا عبد الجبار.» فتناول الدينار وأظهر الامتنان وانصرف وهو يفكِّر في أمر هذا الرجل وحرصه الشديد على منزله حتى لا يأذن لخادمه بالدخول إليه. وفيما هو في الطريق لقيه عبد الرحيم فسلَّم عليه وسأله عما جرى فأخبره بما شاهده وما استغربه من حال الشيخ سليمان، فضحك عبد الرحيم وقال: «لم يسمح لك بالدخول، لا بأس؟ ألم تتذكر أنك تعرفه من قبل؟» قال: «تصورت أول وهلة أني رأيت ذلك الوجه أو على الأقل سمعت ذلك الصوت. لكنني غيرت فكري لأني وجدت نفسي واهمًا.» فقال وهو يحك عثنونه ويخفي ضحكة: «قد تكون واهمًا وستبدو لك الحقيقة بعد قليل. لكن كيف أشار بانصرافك الآن وهو قد يحتاج إليك في الليل؟» قال: «لا أدري، ويظهر لي أنه يكتم أشياء لا يحب أن أطلع عليها. أظنك عرفت عنه شيئًا لم تقصه عليَّ.» قال عبد الرحيم: «عرفت عنه أشياء كثيرة لا أقدر أن أبوح بها كما تعلم، لكنني أقدر أن أقول لك بأنه من أصحاب المطامع السياسية وهي التي ستجر إليه حتفه، ويظهر لي أنه أراد أن يشارك شيخنا سلطانه، أو أنه طلب منه أمورًا لا يوافقه عليها. وهو يعرفه صغيرًا فخاف إذا أغضبه أن يشيع عنه أمورًا تقلل من هيبته فأحب التخلص منه. هذا هو الذي لحظته إلى الآن وسترى الحقيقة وأنت أولى مني بكشفها.» فقال: «هذا أول يوم رأيته فيه، وقد صرفني ساعة الغروب وسأعود إليه في صباح الغد.» قال: «هب أنه صرفك فيمكنك أن تبقى قريبًا من منزله لعله يحتاج إليك أو لعلك ترى فرصة مناسبة للقيام بمهمتك.» وكانا ماشيين وقد أخذت الظلال تتكاثف وأوشك الظلام أن يسدل نقابه. فقال عماد الدين: «إلى أين نحن ذاهبان الآن؟» قال: «إلى حيث تشاء.» قال: «أحب أن أحادثك في بعض الأمور.» قال: «تعالَ إلى غرفتي، إنها على مقربة من هذا المكان.» ومشى حتى دخل الغرفة وفيها مصباح ضعيف أضاءه له بعض الخدم. فقال عماد الدين: «أحب أن نكون في خلوة.» فأومأ عبد الرحيم إلى خادمه بالانصراف وقعد. وأشار إلى صديقه أن يقعد فقعد وهو يتنهد. فقال له عبد الرحيم: «ما لك يا صاحبي لماذا تتنهد؟» قال: «أتنهد يا أخي لأني أشعر كأني في قفص لا أرى لي منه مخرجًا، وقد أطعتك في كل شيء كما رأيت، ولا يمكنني أن أنكر صدق نصيحتك لي كل مرة. ولكنك تعلم أيضًا أني لا أقدر على البقاء هنا طويلًا، ولي في مصر أناس ينتظرون رجوعي و…» وسكت. فأدرك عبد الرحيم ما يعنيه فقال: «أتريد أن تخرج من هذا الحصن؟» قال: «نعم أريد ذلك. أرجو أن تساعدني عليه.» قال: «وعدتك أني فاعل ما تريد ولكل أجل كتاب. إني مدبِّر طريقة لخروجنا كلينا.» ففرح عماد الدين بهذه البشرى وقال: «وأنت أيضًا عازم على الخروج؟» قال: «نعم، وربما اتفق خروجنا معًا.» قال: «هذا هو الأفضل. وقد اطمأن بالي الآن. وإن كنت لا أعرف سبب رغبتك في الخروج بعد أن صرت من خاصة الإسماعيلية واطلعت على أسرارها.» فأشار إليه بسبابته على فمه أن يسكت وقال: «سوف نتكلم عن ذلك في فرصة أخرى. أما من حيث رغبتك في الخروج فتدبيره عليَّ حالما تفرغ من مهمتك. تعالَ إليَّ فتجدني هنا في أكثر الأوقات، وإنما يُطلب منك أن تسهر على مهمتك المعلومة.» قال: «حسنًا، إني ذاهب كما قلت.» وأشار إلى خصره وقال: «وهذا هو الخنجر الذي سأغمده في صدر الشيخ لغير ذنب له عندي.» ثم استأنف الكلام قائلًا: «ولكن الشيخ راشد قال لي إن للرجل زوجة ستكون غنيمة لي، فهل هي معه في هذا المنزل؟ وقد أوعز إلى الشيخ أن أعوِّل عليك في بعض التفاصيل فما هو رأيك؟» قال: «رأيي أن تفتك بهذا الشيخ في أول فرصة. أما امرأته التي أشار إليها شيخنا فليست هنا. وإنما هي في منزل خارج الحصن بجوار القرية القريبة منه مع سائر أهله وخدمه.» قال: «وسمعت من شيخنا أنه يفضِّل أن أقتله خارج الحصن. فهل هو يذهب إلى هناك؟» قال: «قد أذن له في الذهاب متى شاء، وهو يذهب كل ليلة تقريبًا. فالأفضل أن تغتنم وجوده خارجًا وتقضي عليه ومتى قتلته أصبحت امرأته وسائر ما يملكه حلالًا لك.» فقال عماد الدين: «اسمح لي أن أستشيرك في أمر آخر. ما قولك إذا قضيت مهمتي وأنا خارج هذا الحصن في أن أبقى خارجًا وأنصرف.» قال: «نعم الرأي هو. وأنا أتبعك على عجل.» فقال: «وكيف تعلم أني فرغت من مهمتي؟» قال: «متى صرت في آخر هذا السهل أوقِد مشعلًا مزدوجًا، وحالما أرى المشعل من هنا أخرج إليك ونذهب معًا.» فانبسطت نفس عماد الدين لهذا الرأي وهمَّ بالانصراف، فأمسكه عبد الرحيم وجذبه إليه وقال: «احذر أن تحدِّثك نفسك وأنت خارج الحصن أن تفر من غير أن تقتل الشيخ سليمان. بل يجب أن تقتله ولو لم تستطع الفرار. اسمع نصحي هذه المرة أيضًا.» قال: «حسنًا سأفعل ما تقول، ولكن هل أقدر على الخروج من باب الحصن بلا إذن؟» قال: «إذا داهمك الوقت قبل أن أستأذن لك يكفي أن تقول للبواب كلمة الخروج فيفتح لك الباب.» قال: «وما هي هذه الكلمة؟» قال: «قل له: «حسن بن الصباح في الأموات» فيطلق سراحك.» قال: «بارك الله فيك، قد انشرح صدري الآن، وسأذكر لك هذا الفضل في جملة أفضالك.» قال ذلك ومشى نحو منزل الشيخ سليمان وقد اشتد الظلام. فلما دنا من المنزل رأى ذلك الشيخ خارجًا منه وبيده مصباح. فتقدم كأنه رآه مصادفة وحيَّاه وأكبَّ على يده يقبِّلها وقال: «كيف تحمل المصباح بيدك وأنا خادمك قد أمرني مولانا الشيخ بخدمتك؟» قال ذلك وتناول المصباح منه ومشى بين يديه حتى دنا من الباب ففتحوه له. فأحب الشيخ أن يسترجع المصباح منه فأبى أن يعطيه إياه تخفيفًا للثقلة عنه وقال: «إذا علم مولانا الشيخ الأكبر أني لم أقم بحق خدمتك غضب عليَّ وعنفني.» فأطاعه ومشى ولم يعترضه أحد لأنه ذكر كلمة الخروج للبواب. ومشى بين يدي الشيخ والطريق أكثره منحدر حتى إذا فرغ من الانحدار وقف الشيخ وقال: «بارك الله فيك هاتِ المصباح. إنني على مقربة من منزلي.» قال: «إني أسير بين يديك إلى باب المنزل.» قال: «لا حاجة إلى تعبك. هذا هو المنزل.» وأشار بإصبعه إلى نور ضعيف لا يظهر سواه في ذلك السهل. فقال: «بل أسير معك حسب أمر مولاي.» فوقف الشيخ ومد يده ليتناول المصباح منه فامتنع عماد الدين عن أن يناوله إياه، فغضب الشيخ وقال بانتهار: «هات المصباح يا غلام وانصرف لسبيلك.» فقال عماد الدين: «أهذا جزاء مَن يريد القيام بخدمتك؟» قال ذلك واستل خنجره وأغمده في قلبه. فوضع الشيخ كفه على موضع الضربة وصاح: «آه. قتلتني يا لعين. ويلاه آه. ماذا فعلت معك؟» فهمَّ عماد الدين أن يثني الضربة فأمسكه بيده الأخرى وهي ترتعد وقال: «هذه الطعنة تكفي لقتلي، فأغمد الثانية في صدر تلك الخائنة. انظر. إني مسامحك على قتلي؛ لأني أستحق القتل، ولكن هناك امرأة، هناك في هذا المنزل حيث ترى النور امرأة أحق بالقتل مني! بالله ألا ذهبت إليها وقتلتها، وخذ ما في جيبي من النقود والجواهر مكافأة لك.» قال ذلك وسقط وعماد الدين يستغرب قوله، فأكبَّ عليه وفتَّش جيبه فوجد فيه أوراقًا ونقودًا وجواهر استخرجها وتركه يتخبط في دمه. ••• مشى وهو يفكر في هل يذهب إلى ذلك المنزل أم يسير توًّا إلى مصر ومعه النقود. فترجح لديه الذهاب إلى مصر مخافة أن يكون في ذهابه إلى المنزل ما يعيقه عن المسير أو ربما بعث راشد الدين في استقدامه ليعود إلى الحصن. وقد كان في عزمه أن يفر قبل قتل الرجل لو لم يلح عليه عبد الرحيم بقتله فأطاعه وهو لا يعلم السبب، لكنه استخلصه ورأى في طاعته خيرًا. فلما رجح الفرار وقف يفكر في الطريق المؤدي إلى مصر وقد اشتد الظلام وهو لا يميز الطرق ولا يعرف الجهات. وتذكَّر وصية القتيل وغرابتها واستنتج منها أنه ناقم على امرأة يريد قتلها. فرأى أن يذهب إلى المنزل ويستدل من هناك على الطريق. فمسح خنجره وأغمده وأصلح من شأنه وأطفأ المصباح حتى لا يراه أحد ومشى نحو النور. ولما اقترب من المنزل جعل خطاه خفيفة كأنه يتلمس الطريق. وأصغى بسمعه وتطاول بعنقه. وخطا خطوات قليلة حتى أوشك أن يدق الباب. فسمع رجلًا يخاطب رفيقًا له في ذلك البيت قائلًا: «ألم ترَ مصباح الشيخ؟» فأجابه الآخر: «رأيت مصباحًا منذ هنيهة على بُعد يشبه مصباحه.» قال: «بل هو بعينه ثم انطفأ. ماذا جرى له يا تُرى؟» قال: «لا تخف عليه. إنه طويل العمر.» قال: «أراك تحسده على حياته وهو من أشقى خلق الله.» قال: «صدقت لم أرَ أشقى حياة منه.» فقطع الآخر كلامه قائلًا: «بل أشقى منه هذه المسكينة التي لا يبرح يعذبها ويضربها و…» فقال: «صدقت، مسكينة! إن قلبي يتقطع عليها أحيانًا. وكم حدثتني نفسي أن أنتصر لها …» فقال ذاك: «ما لنا ولها؟ إنما نحن نلتفت إلى مصلحتنا، فإذا وفَّي لنا بما وعدنا به حصلنا على السعادة الحقيقية. إذ نصير من كبار الأمراء! أليس كذلك؟» فقال الآخر: «هل تعتقد كل ما يقوله الشيخ صحيحًا؟» فقال: «إذا لم يصح إلا بعضه فإننا نكون سعداء! يظهر أنك لم تفهم حقيقة مهمته عند شيخ الإسماعيلية.» قال: «فهمتها، كيف لا أفهمها؟» قال: «لا. لم تفهمها كما هي. اعلم أن مولانا الشيخ هذا كان صديقًا للشيخ راشد الدين سنان رئيس الإسماعيلية الآن قبل أن صار رئيسًا، وقد أعانه وارتكب معه أمورًا كثيرة حتى تمكَّن راشد الدين من هذه الرياسة. فحسده صاحبنا، فأراد أن يعمل عملًا يفوق به على صاحبه فذهب إلى مصر وطمع في الخلافة!» فضحك الآخر وقال: «الخلافة؟» قال: «نعم، طمع أن يكون خليفة وسمَّى نفسه أبا الحسن، وادعى النسب الفاطمي وصدَّقه الناس. ولما مات خليفة مصر العاضد بايعه جماعة من المصريين. ثم انكشف أمره لصلاح الدين وقبض على رفاقه ونجا هو بنفسه وجاء الشام. وأنت تعلم ما جرى بعد ذلك، وكيف كلَّف بعض الفدائيين الذين يقتلون القتيل بدرهمين فاختطفوا له هذه المرأة من بيتها، وهي تكرهه ولا تطيق أن تراه.» فقطع الآخر كلامه وقال همسًا: «احذر أن تذكر الفدائيين بسوء. فإننا في دارهم. وأما هذه المرأة فأنت لا تعرف مَن هي: مسكينة كم قاست منه! قبحه الله! لا أظن لها نجاة إلا بموته.» فضحك ذاك وقال: «إنه طويل الحياة، لا خوف عليه ولا سيما إذا نجح في مهمته عند راشد الدين، والحق يُقال إنه يحب هذه المرأة ويعدها بكل خير إذا أحبته. لكنها لا تحبه، ولذلك يعذبها.» ففهم عماد من هذا الحديث أنه قتل أبا الحسن، لكنه لم يكن يعرف علاقته بسيدة الملك، وإنما يعرف أنه من الخارجين على صلاح الدين وأنه نجا من القتل. فرقص قلبه فرحًا لأنه سيذهب إلى صلاح الدين بخبرين مهمين: الأول ذهاب الخطر على حياته من راشد الدين والثاني أنه نجا من أبي الحسن. لكنه سمع في أثناء الحديث أنه يعذِّب امرأته حتى أشفق عليها الخدم. وتذكَّر أن أبا الحسن أمره بقتلها وأجازه على ذلك. وكان عماد الدين قد أصبح بعد تعلقه بسيدة الملك يشفق على كل أنثى لأجلها. فأحس بميل إلى إنقاذ هذه المسكينة. فتقدَّم إلى الباب وطرقه فأجفل الرجلان وصاح أحدهما: «مَن الطارق؟» وقال لرفيقه: «لعله مولانا الشيخ سليمان، ألم أقل لك إني رأيت مصباحه؟» فقال عماد الدين: «إني رسول من الشيخ سليمان.» ففتح أحدهما الباب ودخل الآخر فأتى بالنور وأدناه من وجه عماد الدين، فرأياه ورآهما فلم يذكر أنه يعرف أحدهما، لكنه عرف من زيهما أنهما من أهل دمشق، وكان قد لحظ ذلك من لهجتهما. وكلاهما في حدود الكهولة، فتقدم أحدهما وقال لعماد الدين: «ماذا تريد؟» قال: «بعثني الشيخ سليمان في مهمة ومعي هذا المصباح علامة لصدق الرسالة فانطفأ في أثناء الطريق.» قال: «صدقت، وما الذي تريده؟» قال: «أمرني أن آتيه بامرأته على بغلتها وهو في انتظارها بباب الحصن.» فالتفت الرجلان أحدهما إلى الآخر لفتة الاستغراب ولسان حالهما يقول: «كيف يبعث الشيخ يطلب امرأته على بغلتها إلى الحصن؟ وما الذي يريده منها هناك؟» فقال أحدهما: «وهل يطلب امرأته وحدها؟» قال: «يطلبها مع ما تريد حمله من متاعها وثيابها.» قال: «علينا أن نبلغها الرسالة.» ودخل الرجل والنور بيده وظل عماد الدين واقفًا وقد أصاخ سمعه. وأول شيء سمعه قبل وصول الرسول أنين وتأوه وصوت ضعيف يقول: «ويلك من الله يا خائن … ألا تخاف العقاب يوم الدين؟ أين يا موت. متى تأتي ساعتي وأتخلص من هذه الحياة … آه … ما بالهم يتآمرون عليَّ؟» ولما سمع عماد الدين ذلك الصوت اقشعر بدنه لأنه كثير الشبه بصوت سيدة الملك. وحدثته نفسه أن يتقدم ليراها ولكنه صبر ليسمع ما يدور بينها وبين الخادم. فإذا هو يقول لها: «إن سيدي الشيخ بعث يطلب مولاتي إليه في هذا الحصن.» فصاحت فيه: «إلى أين؟ مَن هو سيدك هذا؟ ما بالكم تزعجونني بالأسئلة؟ دعوني أنم لحظة لكي أنسى فيها مصائبي.» قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن مولاي بعث رسولًا خاصًّا من خدمة الشيخ راشد الدين لكي يحملك إليه بما تريدين حمله من متاعك وثيابك و…» فقالت: «لا. لا أذهب إلا محمولة على خشبة. دعوني منه. لعنة الله عليه. ويا ويله من الله ومن يوم الدين. آه. آه. حملني إلى بلاد ليس فيها مَن يعرفني ولم يشفق على قلبي … آه … كل بلائي من هذا القلب!» وأصبح عماد الدين يرتعد من عظم التأثر؛ لأن الصوت صوت سيدة الملك. ولو كان عالمًا بما بينها وبين أبي الحسن لما شك في أنها هي، لكنه استبعد وصولها إلى هناك وهي في ظل صلاح الدين. وإنما ارتعد انتصارًا لامرأة مظلومة إكرامًا لحبيبته لأنها من جنسها. وزادت نقمته لأن صوتها يشبه صوتها. ثم سمع الرجل يخاطبها قائلًا: «والآن يا سيدتي ماذا تريدين أن نفعل؟ لا بد لنا من أخذك إليه حسب أمره، وهذا رسوله واقف بالباب وليس في الإمكان رد طلبه، فالأوفق أن تنهضي راضية.» فلما سمعت تهديده صاحت صيحة وقف لها شعر عماد الدين قائلة: «أتهددونني بالأخذ قهرًا؟ أريد هذا الشقي أن يحملني على أيدي اللصوص كما خطفني من مصر بأيدي أتباعه قبل الآن؟» ثم خفضت صوتها وغصت بدموعها وقالت: «ولكن الله بعث إليَّ في تلك المرة ملاكًا شجاعًا أنقذني من مخالب الموت وأنقذ شرفي وحياتي.» ثم تنهدت وقالت: «آه. أين أنت يا عماد الدين؟» فلما سمع عماد الدين نداءها لم يتمالك عن الوثوب كالأسد الكاسر وقد تحقق أن تلك المظلومة حبيبته سيدة الملك وأجابها: «لبيك. لبيك. يا سيدتي.» وما لبثت بعد أن سمعت صوته حتى رأته أمامها وقد أزاح الخادم بيده وتقدم نحوها وهو يقول: «مولاتي سيدة الملك أنت هنا في هذا العذاب؟» فشخصت إليه شخوص الأبله كأنها أُصيبت بجِنَّة، وقد جمدت عيناها وعقد لسانها ولم تعد تستطيع النطق، لكنها تماسكت وتوهَّمت نفسها في حلم، فقالت وصوتها يتقطع وهو مختنق: «عماد الدين؟ عماد … الدين؟! آه … يا ليت ذلك كان في اليقظة!» وغطَّت وجهها بكفيها وأخذت في البكاء، فتقدم عماد الدين نحوها وقد تقطع قلبه لرؤيتها وهي في شدة الضعف، ولو أنه شاهدها بدون أن تناديه لما عرفها. فأمسك بيدها وقال: «أنت في يقظة يا سيدتي. أنا عماد الدين. أنت في يقظة وروحي فداك فلا تخافي.» فلما سمعت صوته فتحت عينيها والدمع يغشاهما ونظرت إليه وهو في زي غير زيه. لكنها عرفت صوته وتفرست في وجهه وهي لا ترى شيئًا من الدمع، فمسحت عينيها بكمها فعرفت عينيه فصاحت: «عماد الدين! أنت عماد الدين؟ مَن أرسلك إليَّ؟ لا. لا. لست عماد الدين. أنت خادم ذلك الخائن جئت لتأخذني إليه. بالله قل لي، هل أنت عماد الدين؟» وضحكت كالأبله المعتوه وقالت: «أنت عماد الدين؟ إن المعجزات لا تتكرر. نعم أتى عماد الدين لإنقاذي في مثل هذا الضيق فيا ليته يأتي الآن.» ثم سكتت كأنها استرجعت رشدها ومسحت عينيها ثانية ونظرت إلى عماد الدين نظر متفرس، وهو جاثٍ بين يديها وعيناه شاخصتان في عينيها وقلبه يتفطر. فما لبثت أن تحققت أنها ترى عماد الدين فصاحت ملء فيها: «عماد الدين! عماد الدين!» وترامت عليه وقد أُغمي عليها. فأنهضها، وتراكض الخدم بالماء فرشَّها به وأخذ يمسح وجهها وعينيها بمنديله، وسقاها جرعة من الماء فانتعشت وأعادت النظر إلى عماد الدين وهي تضحك ضحك طفل استرجع شيئًا كان يبكي لفراقه. لكن تلك الضحكة أبكت عماد الدين وقد شق عليه أن يرى تلك الملكة أخت الخليفة قد ذهب مِلْكها وصارت أسيرة في حيازة صلاح الدين، ثم سيقت كرهًا مع ذلك الشيخ اللعين، لكنه حالما تذكر أنه قتله سُرِّي عنه وعاد إلى تطمين سيدة الملك وقال: «صدقتِ، إني يا سيدتي عبدك عماد الدين.» فصاحت: «ألا تزال تقول إنك عبدي، أنت سيدي وتاج رأسي. أنت منقذي من الموت والعار مرتين. أنت روحي. أنت حياتي. أنت … آه … دعني لقد خلعت العذار.» وغطت عينيها خجلًا. فانتبه عماد الدين لوجود ذينك الخادمين وكان قد عرف كرههما لأبي الحسن وشفقتهما على سيدة الملك فقال لكبيرهما: «ربما استغربتما ما رأيتماه في هذه الليلة، وقد علمت أنكما ناقمان على ذلك الشرير، وأن قلبيكما مع هذه، أليس كذلك؟» قال ذلك ومد يده إلى جيبه وفيه نقود أبي الحسن وأعطاهما بلا حساب. فأعجبهما كرمه وأريحيته وأجابه أحدهما: «صدقت، ويظهر أنك لست خادمًا كما ادعيتَ، بل أنت أمير أرسلك الله لإنقاذ هذه السيدة، إنها قطَّعت قلبينا وأوشكنا أن نأخذ بيدها ونخلصها من ذلك الظالم.» فقال: «إذن أنتما مسروران بنجاتها.» قال: «ونحن رهينا الإشارة في أي خدمة تريدها منا ولو كانت قتل ذلك اللعين.» قال: «لا حاجة إلى قتله، فقد كفانا الله شره في هذه الليلة. وهذه النقود التي كانت معه أعطيتكم بعضها وهذا البعض الآخر.» ودفع إليهما دفعة أخرى. فزادهما دهشة فقال أحدهما: «قتلته؟ لا رحمه الله.» وكانت سيدة الملك تنظر إلى عماد الدين وهو يخاطب الرجلين نظر الإعجاب والحب وعيناها غائرتان من الضعف والهزال وقد امتقع لونها. فلما سمعت التحدث بقتل أبي الحسن قبضت على عماد الدين واجتذبته نحوها وهي تقول: «قتلته؟» قال: «نعم. وكنت أود أني عرفته قبل قتله لأشبعه قتلًا وأخبره وهو في حشرجة الموت أني قتلته في سبيل طاعتك انتقامًا لفظاعته.» وقص عليها عماد الدين مهمته لمصلحة صلاح الدين وما قاساه من العناء وكيف انتهت بالفوز وأصبح صلاح الدين في مأمن من الفدائيين، فلما سمعت اسم صلاح الدين أشرق وجهها وقالت: «بارك الله في صلاح الدين، إنه نادر المثال.» فضحك وقال: «ألم أقل ذلك في آخر ليلة رأيتك فيها وأنت ناقمة عليه؟» قالت: «لم أكن أعرفه. وفي كل حال فإني أمتدح مروءته وعلو همته. وأما أنتَ فكنتَ تمتدحه في معرض آخر … فهو في ذلك المعرض ما زال حكمي عليه كما كان، ولا سيما إذا قابلته بعماد الدين.» وضحكت وكانت تتكلم وعيناها شاخصتان فيه تكاد تتلقفه بهما. ثم جاء الخادمان وقد أعدَّا الركائب وشدَّا الأحمال، فركبوا جميعًا وقد توسَّط الليل وأطل القمر من وراء جبل السماق. فتذكَّر عماد الدين صديقه عبد الرحيم وما أوصاه به، فلما أمعن في السهل أمر الرجلين أن يوقدا مشعالًا مزدوجًا ففعلا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39482082/
صـلاح الـدين الأيـوبي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «صلاح الدين الأيوبي» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية الفترة التاريخية التي انتقلت فيها مصر من الحكم الفاطمي إلي الحكم الأيوبي، بانتهاء حكم الخليفة العاضد كآخر الخلفاء الفاطميين، وبداية حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي البطل التاريخي المعروف وصاحب معركة حطين. كما تتضمن الرواية في وقائعها وصفا لطائفة الإسماعيلية المعروفة بجماعة الحشاشين، وهي طائفة انفصلت عن الفاطميين في القرن الثامن الميلادي لتدعو إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت هذه الطائفة ما بين القرن الثامن والقرن الرابع عشر، ويتزعمها في هذه الرواية رجل يدعي راشد الدين سنان.
https://www.hindawi.org/books/39482082/11/
هناء الحبيبين
وسار الركب وبغلة سيدة الملك بجانب فرس عماد الدين وهما يقصان ما جرى لهما في تلك المدة الطويلة، والمحب إذا غاب عن حبيبه ساعة عاد ومعه عدة حكايات يرويها. وهو يرى في ذلك لذة خاصة لا يشعر بها غير المحبين. والغريب أن المحب لا يصبر على كتمان شيء عن حبيبه كأنه يرى في كتمانه خيانة، أو كأن قلبيهما يطلبان المكاشفة في كل شيء. فكما يتشاكيان ويتعاتبان. فهما أيضًا يلذ لهما نقل ما في قلب الواحد إلى قلب الآخر من حب أو فكر أو حكاية أو حديث. وفيما هم في ذلك وقد بعدوا عن جبل السماق سمعوا وقع حوافر جواد وراءهم وكان عماد الدين لا يفتر يترقب سماع ذلك التماسًا لمجيء صديقه عبد الرحيم، وقد أصبح في شوق لرؤيته ليستطلع منه ما لمَّح إليه به وهما في الحصن. فلما سمع وقع حوافر الفرس تباطأ في المسير ووقفت معه سيدة الملك. فأشار إليها أن تبقى سائرة والخادمان يتبعانها فمشت وتأخَّر هو لحظة فوجد صديقه عبد الرحيم يسوق فرسه كأن وراءه أناسًا يطاردونه فناداه: «عبد الرحيم.» فأجابه: «عماد الدين؟» قال: «ما وراءك؟ أراك مسرعًا هل عليك بأس؟» قال: «كلا. لكنني خفت عليكم.» قال: «وما الذي أخافك علينا؟ إننا في أمان.» قال: «كنت في أثرك ساعة طعنت ذلك اللعين الطعنة القاضية، وتربصت بعد ذلك وأنا أراقب حركاتك حتى علمت أنك دخلت منزله ثم طال انتظاري ولم أشاهد مشعالك، فخفت أن تكون قد أُصبت بسوء، فركبت نحو المنزل من طريق آخر فلم أجد هناك أحدًا ثم رأيت المشعال فهرعت إليك هل عليكم بأس؟» قال: «لا بأس علينا والحمد لله، بل نحن في خير وبركة.» قال: «هلا علمت مَن هو الشيخ سليمان الذي قتلته؟» قال: «نعم علمتُ، إنه أبو الحسن صاحب ثورة القاهرة التي ذهبتَ بسببها إلى مصر بتلك الرسالة المباركة وجئتني بذلك الجواب الثمين، وقد ظهر لي من إلحاحك عليَّ في قتله أن في الأمر سرًّا، وقد ظهر الآن أنك أعنتني على التخلص من هذا الشرير، وهذه بشرى سنزفها إلى مولاي صلاح الدين ولك الفضل فيها.» قال: «وسنزف إليه بشرى أخرى بأن حياته في مأمن من غائلة الإسماعيليين.» قال: «طبعًا. وسأزف إليه وإليك بشرى هي في نظري أهم مما تقدم.» فقال: «وما هي؟» قال: «لم تسألني عن هؤلاء الرفاق مَن هم؟» قال: «كنت عازمًا على سؤالك، لكنني تنبأت بأنهم زوجة ذلك الشرير وخادماها وهي الآن زوجتك طبعًا.» قال: «لا. لا. لم تكن له زوجة قط.» قال: «مَن هي إذن؟» قال: «أتذكر الرسالة التي جئتني بها من القاهرة والسيدة التي خاطبتك وذكرتَ لي إعجابك بلطفها وكمالها؟» قال بدهشة: «سيدة الملك، أخت الخليفة؟» قال: «نعم، سيدة الملك. اختطفها هذا الخائن على يد بعض الفدائيين أصحابنا، وجاء بها إلى هنا تحت العذاب الشديد، وقُدِّر لي أن أنقذها.» فقال: «هذه الراكبة على البغلة سيدة الملك؟» قال: «نعم، هل تريد أن تراها؟» قال: «كيف لا … ولكن تمهل قليلًا ريثما نصل إلى مكان ننزل فيه عند الفجر. إذ لا بد من الراحة.» قال: «هل أنت ذاهب معنا إلى مصر؟» قال: «إذا كنتم تقبلونني.» فأسرع في الجواب بلهفة قائلًا: «إن ذلك يكون من حسن طالعي. كم أحب أن تكون معي فنعيش معًا لعلي أقدر على مكافأتك، وسأخبر السلطان صلاح الدين بما كان من فضلك في إتمام هذه المهمة، وهي بشرى رابعة أزفها إليه. ولكن كيف تركت طائفة الإسماعيلية بعد أن صرت من كبار رجالها وصارت لك هذه الدالة على رئيسها العجيب الغريب. إني لا أنسى ما شاهدته من المدهشات في هذين اليومين.» فتنهد وقال: «لو لم أرتقِ إلى درجة المستنيرين لم يخطر ببالي أن أعتزل هذه الطائفة. ألم تنتبه إلى تغيري بعد هذا الارتقاء، لو بقيت فدائيًّا لظللت مشتاقًا إلى الارتقاء والاطلاع على الأسرار. فلما اطلعت عليها رأيتني كنت مغشوشًا وندمت على دخولي.» فقال: «يا للعجب! لماذا لم يفعل ذلك الذين ترقَّوا إلى مثل هذه الدرجة قبلك؟» قال: «لأنهم يرون في بقائهم ما يسد مطامعهم من الملذات وأسباب السعادة البدنية. لا يهمهم أن يتم لهم ذلك بتضحية الشبان الشجعان والفدائيين أمثالك. أما أنا فلا أحب هذه العيشة بما فيها من الغدر.» فأطرق عماد الدين وتشاغل بتمشيط عُرف فرسِه بأنامله. ثم قال: «ألا تزال تعتقد كرامة الشيخ راشد الدين ومعجزاته؟» قال: «كنت أعتقدها حتى ارتقيت وعرفت سرَّها فأنكرتها، وفي الدنيا كثير من الظواهر المدهشة إذا عرفت سرَّها احتقرتها.» قال: «إني شديد الرغبة في معرفة سر ما شاهدت من معجزات الرجل.» قال: «إني أعذرك، وقد كنت أود أن أكاشفك بسرها لولا أني أقسمت الأيمان المغلظة على الاحتفاظ بها، وأنت لا ترضى لي الحنث باليمين؛ لأني وإن تركت الجمعية وتخليت عنها فلم أتخلَّ عن شرفي وضميري. لكن هذه المعجزات ليس فيها شيء من الخوارق التي لا يقدر عليها الناس، وليست من قبيل الوحي الإلهي أو المقدرة الخاصة كما كنا نظن. والآن قد دنونا من محطة فيها ماء وخان أعرف صاحبه، فأرى أن ننزل هنا ريثما نستريح ثم نستأنف المسير.» فأسرع عماد الدين إلى سيدة الملك وأخبرها برأي رفيقه عبد الرحيم فوافقت عليه، وكان الفجر قد لاح فنزلوا. وتقدم عماد الدين ومعه عبد الرحيم إلى سيدة الملك فقدَّمه لها وأخبرها عن فضله في نجاح مهمته فأثنت عليه كثيرًا. فلنتركهم جميعًا يستريحون ولنعد إلى القاهرة، فقد طال سكوتنا عن أهلها. تركناهم بعد صَلْب عمارة وأصحابه المتآمرين وخروج رسول عماد الدين (عبد الرحيم) بالكتاب والجواهر إلى بيت المقدس. وقد اطمأن بال سيدة الملك وسَرَّها أنها خطرت ببال حبيبها. وقد ذكرنا ما كان من نقمة أبي الحسن بعد فشله في دمشق. وأنه أصبح همه الانتقام من سيدة الملك بأي وجه كان فأغرى بعض الأشقياء من الفدائيين على الاحتيال لاختطافها وذهب هو إلى مصر. فاغتنموا خروجها مع حاضنتها إلى البساتين على مقربة من قصر صلاح الدين واختطفوها كما تقدم، وسقطت ياقوتة وقد أُغمي عليها ولم تفُق إلا بعد ساعات. وكان اللصوص قد نجوا بغنيمتهم، فأخبرتْ قراقوش بذلك فأطلع صلاح الدين عليه فغضب وأمر بالتفتيش عن سيدة الملك وبث الجواسيس في الأطراف فلم يقفوا لها على خبر. فشق ذلك عليه كثيرًا، وزاد غضبه لانقطاع أخبار عماد الدين وندم على الإذن له في الذهاب؛ لأنه أحس بحقيقة منزلته بعد ما رآه من ثبات عزمه على خدمته. وكان يود ليزوجه بسيدة الملك ويفرح به فكان غيابهما سببًا لتنغيص عيشه، وكان يشغل خاطره عن حروبه مع الصليبيين وهي على أشدها في ذلك العهد، وقد أخذ يتهيأ لفتح بيت المقدس. وفيما هو في ذلك جاءه قراقوش يقول: «إن رسول عماد الدين الذي جاءنا في المرة الماضية أتى ومعه بشرى مهمة.» فأمر بإدخاله ورحَّب به فوقف متأدبًا فقال له: «ما وراءك، إنك لا تأتينا إلا بالبشائر الحسنة.» قال: «إن ذلك بتوفيق الله وبركة مولانا السلطان. أُخبر مولاي أن عبده عماد الدين عاد من مهمته سالمًا ظافرًا، وكان يود أن يحمل هذه البشرى بنفسه لكنه شُغل بسيدة الملك فاستأذنته أن أحمل هذه البشرى إليكم قبل وصوله.» فصاح صلاح الدين قائلًا: «وسيدة الملك معه؟» قال: «نعم يا مولاي.» فالتفت إلى بهاء الدين يلتمس مشاركته في الاستغراب، فقال بهاء الدين: «إن ذلك غريب! إنه في هذه المرة أيضًا أنقذها من الخطر. أليس ذلك دليلًا على أنهما خُلقا ليقترنا؟» قال: «لا شك في ذلك، وهذا غاية ما أتمناه فابعث مَن يستقبلهما في موكب يليق بمقامهما.» فأعد قراقوش موكبًا حافلًا استقبل القادمين في الخانقاه بجوار القاهرة ومعه هودج لسيدة الملك. ولما دنا الموكب من قصر صلاح الدين حوَّلوا الهودج إلى قصر سيدة الملك، وكانت ياقوتة قد علمت بقدومها فاستقبلتها وترامت على يديها تقبِّلهما، وشكرت الله على هذه النعمة. ورأت الضعف ما زال ظاهرًا في وجهها، فأخذت تداعبها بذكر عماد الدين وأنه لا يلبث أن يصير زوجها فقالت لها: «هل رأيت يا ياقوتة أن هذا الشاب يستحق قلبي؟ إنه أنقذني من الموت والعار مرة أخرى.» وقصَّت عليها خبرها باختصار. أما عماد الدين فترجَّل قبل الوصول إلى قصر السلطان ومشى حتى دخل عليه وأكب على ركبته يقبِّلها ويقول: «أشكر الله؛ لأنه أراني وجه مولاي السلطان في خير.» وتقدَّم إليه الوزراء والقواد وسلَّموا عليه وهم لا يعرفون الغرض من مهمته ولكنهم جاروا السلطان بإكرامه. ثم خلا صلاح الدين بعماد الدين، وبهاء الدين، وسأل الأول عن نتيجة مهمته فقصَّ عليه ما جرى من أوله إلى آخره، فأُعجب بهمته وما أظهره من الصبر وما لاقاه من المصاعب والمشاكل وتغلبه عليها جميعًا. وكان أغرب ما سمعه قتله أبا الحسن وإنقاذه سيدة الملك. فلما وصل إلى هنا ابتسم السلطان وقال: «بارك الله فيك. هذه همة عالية. رحم الله والدي، إنه كان صادق النظر في الرجال، توسَّم فيك مناقب كبار القواد، وقد صدق توسمه لأنك أتيت ما لم يستطعه سواك من رجالنا. فأنت الآن من كبار قوادنا ورجال خاصتنا.» والتفت إلى بهاء الدين وقال: «يا بهاء الدين، هذا هو الشاب الذي فرَّ من بين يديك من قصر النساء. ألا تراه يستحق أن يكون زوجًا لسيدة الملك وقد أنقذها من أبي الحسن؟» قال: «إنه أهل لكل التفات، ويكفي أن يكون مولانا نجم الدين قد توسَّم فيه ذلك.» قال: «قد آن له الآن أن يستريح من وعثاء السفر، وأحب أن تحتفلوا بزواجه احتفالًا يليق بالملوك وكبار القواد.» فأكبَّ عماد الدين على يدي صلاح الدين يقبِّلهما فقبَّل صلاح الدين رأسه ثم قال عماد الدين: «أستأذن مولاي في كلمة عن صديقي عبد الرحيم، فقد سمعت بلاءه في خدمتنا وسيكون عونًا لنا في حروب الإفرنج؛ لأنه يعرف بيت المقدس بيتًا بيتًا و…» فلم يصبر صلاح الدين حتى يتم حديثه فقال: «إنه أهل ليكون من خاصتنا، وهذا بهاء الدين يعرف له قدره وينزله منزلته. وأحب الآن أن أرى سيدة الملك وأهنئها بالسلامة.» فهرع بهاء الدين إلى قصر النساء يبشر سيدة الملك بزيارة السلطان، فاستعدت لاستقباله، فلما أقبل عليها حيَّاها وقال: «قد أصبتِ لأنك فضلت عماد الدين عليَّ فإنه أنقذك من الموت مرتين وخلصنا من شر الأعداء. فهو جدير بك ونعقد له عليك بما يقتضيه مقامك.» فخجلت سيدة الملك خجلًا يمازجه الفرح والإعجاب وأطرقت حياءً، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «لم أفضِّل عماد الدين إلا لمناقب تعجب السلطان صلاح الدين وقد رفعه بسببها من عامة الناس إلى خاصتهم وجعله جليسه. على أني إذا فضلته من بعض الوجوه فإنني أنا وهو لا نفضِّل أحدًا على صلاح الدين، ونحن في رعايته وتحت ظله.» فأعجبه جوابها فقال لها: «لست في رعايتي، ولكنك الآن في رعاية البطل عماد الدين، ويحق لك أن تفخري به كما يحق له الافتخار بك فاهنآ.» قال ذلك وخرج وغادر سيدة الملك وقلبها يرقص فرحًا وقد نسيتْ كل مصائبها الماضية. واحتفلت مصر بزفافها إلى عماد الدين احتفالها بزواج الملوك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/0.2/
مراجع رواية عروس فرغانة
تاريخ: ابن الأثير — المسعودي — المقدسي. تاريخ التمدن الإسلامي. البلدان لليعقوبي. معجم ياقوت. سير الملوك. رحلة ابن بطوطة. تاريخ طبرستان لابن اسفندبار.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/1/
فذلكة تاريخية
فرغانة مدينة كبيرة على حدود تركستان، كانت عاصمة الكورة المسماة باسمها، وكان الفرس يسمونها «اخشيكسيت». وهي تطلُّ على ضفاف نهر جيحون الذي يسميه العرب نهر «الشاش» ويسميه الإفرنج نهر «يكسارت» والأتراك يسمونه نهر «سرداريا». وبيننا وبين فرغانة بُعد شاسع يستغرق قطعه بضعة أشهر، في السير شرقًا عبر الشام فالعراق ففارس فخراسان. ثم عبور نهر سيحون واختراق بخارى وسمرقند وأشروسنة للوصول إلى ضفاف جيحون أو نهر الشاش، بعد اجتياز كثير من الجبال والصحاري والسهول والأودية، ومشاهدة أمم شتى فيما بين سيحون وجيحون. تختلف لغة وعنصرًا ودينًا. ناهيك بالمفاوز التي يعسر سلوكها، وكثرة قطاع الطرق فيها، وأكثرهم من بدو التركمان وهم أهل خشونة وسطو. وقد استطاع العرب بعد الإسلام أن يفتحوا الشام والعراق ومصر وفارس في بضع عشرة سنة. لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى فرغانة إلا في أواخر القرن الأول للهجرة. وكان فتحها على يد قتيبة بن مسلم فاتح تركستان سنة ٩٤ﻫ. ولم يستعمرها العرب أو يقيموا بها إلا بعد ذلك بأعوام عديدة. وكانت تابعة لعامل خراسان في تأدية الجزية والخراج. وبرغم ما تقدم ذكره من المفاوز والجبال في الطريق إلى فرغانة، كان المسافر إليها إذ ينتهي بعد تلك الأخطار إلى نهر جيحون يسير ما بقي من الطريق حتى مدينة فرغانة على ضفة النهر الشرقية، فيرى هنالك الأسواق والقصور ذات الأسوار العالية، ويرى الأرباض والبساتين على ضفتي النهر ممتدة في أرض مستوية مساحتها ثلاثة فراسخ. ثم يرى شماليها جبلًا وعرًا على بعد ميل منها. ويرى وسطها قلعة عظيمة يُقال لها في اصطلاح الفرس «قهندر» شِيدت لتعتصم بها حامية المدينة عند الحاجة. ولذلك بُنيت بناء متينًا بالأحجار الضخمة دون كل أبنية المدينة المتخذة من الطين. وحول القلعة سور له أربعة أبواب. تليه أرباض فسيحة، ثم سور ثانٍ بأبواب أربعة أيضًا. ويتخلل المدينة والأرباض مياه جارية وحياض كثيرة. هذا إلى ما يحيط بالمدينة كلها من بساتين ملتفة ونهيرات جارية تصلها بالنهر. فكانت هذه المنطقة من أنزه بلاد تركستان أو ما وراء النهر. وكان سكان فرغانة عند الفتح الإسلامي خليطًا من أهل البلاد الأصليين الذين يسمونهم «طاجية». وجماعات من الفرس والهنود والأتراك وأهل الصين. وكان الفرس أرقاهم جميعًا. بل كانوا أرقى المشارقة في ذلك العصر. فكانت لهم الرياسة والسياسة والنفوذ الأدبي والديني، لأنهم كانوا ينقلون معهم تمدنهم حيثما حلوا. وكانت لغتهم البهلوية (الفارسية القديمة) لغة الطبقة الراقية في الشرق الأقصى، كما هو شأن اللغة الفارسية الحديثة الآن. وكانت لغة أهل فرغانة الأصليين التركية القديمة المعروفة بالشاغطائية. وكانت المجوسية دين أكثر الفرس حتى ذلك الحين. وحينما فتح العرب فرغانة كان يحكمها أمراء أو ملوك يُلقب كلٌّ منهم بلقب خاص بهم هو «أخشيد». كما يُلقب ملك الحبشة بالنجاشي، وملك الروم بقيصر، وملك الفرس بكسرى. وكان الأخاشيد الذين يتولون أجزاء كورة فرغانة كثيرين. فلما دخلت في حوزة المسلمين وألحقوها بإمارة خراسان، لم تبقَّ بها حاجة إلى ملوكها المذكورين، ولم يعترضهم المسلمون في دينهم أو عاداتهم أو شيء من أحوالهم، فبقي أكثرهم في البلاد يتمتعون بالسكينة والعيش الهنيء في ظل المسلمين، ونزح بعضهم إلى قلب المملكة الإسلامية في العراق، فتقربوا إلى بلاط الخلفاء وخدموهم واعتنقوا الإسلام وتولوا الأعمال، وأشهرهم الأخشيد طغج بن جف صاحب مصر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/2/
جهان عروس فرغانة
أصبح أهل فرغانة في يوم من أيام سنة ٢٢١ للهجرة وهم يتأهبون للاحتفال بالنيروز (رأس السنة). فأخذوا في إقامة معالم الزينة، ناصبين الأعلام الملونة فوق منازلهم، معلقين طاقات الرياحين على أبوابها. ثم تقاطروا إلى الأسواق يبتاعون الألبسة الجديدة لهم ولأولادهم، وأطباق الحلوى وغيرها من المآكل التي تكفي خلال أيام العيد الستة. ولو دخلتَ المنازل لرأيت النساء قد أوقدن النيران لإعداد الأطعمة والحلوى، وأحمين الحمامات للاغتسال. ولرأيت الجواري مشتغلات بتزيين الأولاد والطبخ وعجن أرغفة العيد. وهي أرغفة كان يصنعها الفرس في ذلك اليوم من حنطة السنة الجديدة ليقتسموها صباح العيد متفائلين بأكلها استبشارًا بخصب تلك السنة. وكانوا يتعاملون في ذلك اليوم بالنقود الجديدة ويتهادون الحبوب الجديدة على أطباق من الفضة ونحوها، ويترامون بالبيض والثمار. أما الأسواق فكانت في ذلك الصباح تحفل بالمارة من الرجال والأولاد. هذا يحمل قفة وذاك ينقل سلَّة، وذاك يسوق حمارًا أو فرسًا، وكلهم يتسابقون إلى المنازل أو إلى بيت النار، يحملون الهدايا لأولادهم أو للموبذان — كهان المجوس — وقد تصاكت مناكبهم وتصادمت أقدامهم. ولو أنك صعدت إلى القلعة الكبرى (القهندر) القائمة وسط المدينة وأشرفت من سطحها على أطراف فرغانة، لرأيتها أشبه بخريطة مرسومة على ورق أو صورة ملونة. فحول القلعة مبانٍ متشابهة من الطين كلها من طبقة واحدة ما عدا بناءين: أولهما «بيت النار» وهو الهيكل الذي يتعبد فيه المجوس. وكانت المجوسية لا تزال متغلبة هناك، ويسمونه «كارشان شاه». وهو رفيع العماد يظهر بارزًا بين أبينة المدينة كالنخلة بين الرياحين وقد نصبوا حول سطحه رايات من الديباج طول الواحدة منها عشرات من الأذرع، مرسلة في الفضاء يلاعبها الهواء، أكثرها خضراء اللون. أما البناء الثاني فهو «بيت المرزبان» — والمرازبة هم حكام المقاطعات في عهد الأكاسرة — وحول البيت حديقة فيها من كل فاكهة زوجان. وهناك وراء سور المدينة امتدَّت الأغراس والأعناب والرياحين تتخللها مجاري الماء وتتغنى على أفنانها الأطيار. فبينا أهل المدينة في ذلك الاحتفال إذا بموكب جليل يخترق الأسواق ويشغلهم عما هم فيه لفخامته وغرابته. وهو مؤلَّف من مركبة كبيرة أشبه بالغرفة منها بالعربة، فوقها قبة من الفضة المموهة بالذهب قائمة على أعمدة من الخشب الملون بينها ستائر من الديباج الأزرق، ويجر المركبة جوادان مجللان بالحرير المزركش، وقد ركب السائق أحدهما وفي يده سوط يسوقهما به. وعود كبير يصوبهما به إذا عاجا عن القصد. ويكتنف المركبة بضعة من الخصيان يركضون إلى جانبيها، وقد أُرخيت الستائر على الراكبين فلا يراهم أحد. على أنه لم يكن في فرغانة أحد من الرجال أو النساء لا يعرف صاحب هذه المركبة؛ إذ ليس هناك مثلها، وهي مركبة مرزبان المدينة، أهداها إليه بعض أهل امرأته في بلاد القوقاز؛ إذ كان فارسي الأصل وامرأته جركسية من القوقاز. وأهل تلك البلاد يستخدمون هذه المركبات لحمل الخواتين في خروجهن أو أسفارهن، وفي المركبة كل ما يحتاج إليه الخاتون من الأدوات حتى الطعام والشراب، فكان أهل فرغانة لا تمرُّ بهم هذه المركبة إلا تشوقوا لرؤية من فيها لعلمهم أنها تقلُّ بنت المرزبان التي يحبونها ويجلُّون قدرها ويُعجبون بجمالها وتعقلها. وكثيرًا ما رأوها تمرُّ بهم في مركبتها وقد أزاحت ستائرها فلا تحتجب عن أحد. وإذا وقع بصرها على أحدهم ابتسمت له ابتسامًا يزيده تهيبًا منها. أما في ذلك اليوم فكانت ابنة المرزبان قد أرخت ستائر المركبة، وأركض السائق الجوادين، وأدرك المارة من إسراعه أنه يريد الخروج من المدينة. ثم رأوا وراء المركبة جوادين مسرجين لا يقودهما سائق ولا يركبهما راكب، أحدهما أدهم على سرجه جعبة مملوءة بالنبال فلم يخفَ على العارفين أن الجواد لصاحبة المركبة وقد تعوَّدوا أن يروها خارجة عليه بألبسة الرجال للصيد أو السباق، ووراء الجوادين خَدَمَة الصيد وفيهم أصحاب الكلاب والفهود. ولم يعجب أهل فرغانة لرؤيتهم معدات الصيد هذه؛ لأنهم يعلمون مهارة بنت المرزبان فيه، ولكنهم عجبوا لخروجها في ذلك اليوم. وكان بين المارة رجلان؛ أحدهما تاجر من أهل فرغانة، والآخر قريب له من أهل «خوقند» أتى لقضاء أيام النيروز عنده. ولم يكن رأى شيئًا من ذلك قبلًا. فسأل رفيقه عن صاحب هذا الموكب فقال: «هو موكب الخاتون «جهان» بنت المرزبان «طهماز». ألم تسمع عنها من قبل؟» قال: «سمعت في المرة الماضية عن مرزبان يقيم بهذه المدينة معتزلًا وأنه ذو ثروة طائلة وليس له إلا ابنة سمعت الناس يتحدثون بجمالها، فهل هي وحيدته؟» قال: «لها أخ أجرد قبيح الخَلق والخُلق كأنه ليس أخاها.» قال: «لعل المرزبان من أهل المدينة؟» قال: «بل هو غريب عنها جاءها وهو شاب منذ ثلاثين سنة أو أربعين، واتخذها وطنًا له فرارًا من المسلمين العرب. وكان حاكمًا في بعض مقاطعات فارس فقاسى اضطهادًا ولم يشأ أن يبدل دينه فأتى بأمواله وأقام هنا.» فسأله: «وهل هو غني يا صاحبي؟» قال: «له ثروة طائلة، وأكثر المغارس خارج فرغانة على ضفة نهر الشاش ملك له، فضلًا عن المنازل والنقود والجواهر. ولكن ما لنا وله؟ دعنا من ذلك وامضِ بنا إلى سوق اللحم لنبتاع خروفًا نذبحه لأولادنا.» وكان رفيقه من محبي الاطلاع على أخبار الناس والاعتراض على أعمالهم فلم يصغِ لرأي صاحبه، بل قال: «قلْ لي كيف تخرج هذه الخاتون من البيت في مثل هذا اليوم؟» فضحك رفيقه وقال: «كأنك تريدها أن تبقى في البيت لتعجن العجين وتخبزه ولتطبخ الطبيخ كما تفعل نساؤنا؟! إنها يا صاحبي سيدة بيت أبيها، وقد تُوِّفِيَت والدتها منذ أعوام فلم يتزوج المرزبان بعدها إكرامًا لها، فهو يحبها حبًّا جمًّا ويعاملها كأنه عاشق يدلل عشيقته!» قال: «لست أعني أن تقيم في البيت للعجن أو الطبخ بل تبقى فيه لاستقبال الزائرين الذين يتوافدون على بيت أبيها بالهدايا والتحف في يوم العيد.» فقطع الآخر كلامه قائلًا: «دعنا من ذلك يا صديقي، وسِرْ بنا إلى السوق لننتقي خروفًا نشتريه.» وكان الموكب قد جاوز الرجلين حتى خرج من المدينة إلى الأرباض، ومنها إلى البساتين، فوقف عند مضرب لبعض أتباع المرزبان تعوَّدوا استقبال هذا الموكب فخفُّوا لملاقاته. فلما وقفت المركبة ترجَّل السائق ووقف بجانب الجوادين ليمنعهما من السير أثناء نزول الخاتون، وتقدَّم أحد الخصيان للأخذ بيدها، وكانت قد قربته للطفه وخِفَّة ظلِّه واسمه «مرجان». فوقف بجانب المركبة لا يتجرأ على إزاحة الستارة. فطال وقوفه دون أن تفتح أو تطل الخاتون، ولكنه سمع حديثًا داخل الستارة فتاق إلى معرفته، ولكن ردَّه التهيُّب عن الإصغاء لسماعه. وكان رجال الموكب والأُجرَاء في المزرعة واقفين ينتظرون ترجُّل جهان. فلما أبطأت قلقوا. وكان جوادها الأدهم أشد قلقًا منهم. فأخذ يفحص الأرض بقوائمه وسائسه لا يقوى على زجره. ثم صهل كأنه ينادي صاحبته أو يستعجلها، فإذا بستارة المركبة قد أُزيحت ونزلت منها امرأة كهلة في الخمسين من عمرها عليها سمات الرزانة، وقد زادها الانقباض فتنة، وكانت ترتدي ثوبًا يغطي كل جسمها، وعلى رأسها وعنقها خمار أحمر لا يظهر غير وجهها. فعرف الواقفون أنها القهرمانة خيزران مربِّية جهان ووصيفتها ومستودَع أسرارها. وبعد أن ترجلت القهرمانة مدَّت يدها لاستقبال سيدتها، فنزلت «جهان» حتى وقفت بجانب المركبة والأبصار شاخصة إليها للتمتع بجمالها الجاذب النادر. وكانت قد لبست ذلك اليوم ثوب الصيد، وهو يتألف من السراويل والقباء أو الدراعة، وتزمَّلت بما يشبه العباءة من الحرير المزركش، ولفَّت رأسها بعمامة أشبه بالعصابة تغطي الجبين إلى الحاجبين، وأرسلت منها ذؤابتين خلف العنق اتقاءَ حرِّ الشمس. وأدارت العباءة حول العنق حتى لا يبدو منها غير بعض وجهها. وكانت طويلة القامة جليلة الطلعة، في وجهها هيبة وصحة وجمال، وعيناها كبيرتان فيهما نور وذكاء وجاذبية لا يعبَّر عنها بغير السحر؛ ولذلك يشعر من يبادلها النظر أو الحديث بسلطانها على قلبه وعقله فلا يقوى على التبسط معها في الحديث، ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها في أمر كأنها ملكت عليه إرادته فيصبح آلة بيدها. وكان الناس ينتظرون خروجها من منزلها للصيد أو النزهة فيقفون في الطرق ليشاهدوا محياها فكانت تبتسم للناظرين فتزيدهم تعلقًا بها. أما في ذلك اليوم فخاب فَأْلُهم؛ لأنهم رأوا في وجهها قلقًا وفي عينيها دمعتين تحاول إخفاءهما بالابتسام. ولو أنك نظرت إلى جهان في بيتها وقد أزاحت اللثام حتى ظهر عنقها وأرخت شعرها، لرأيت قوة الجنان ورباطة الجأش ظاهرتين حول فمها وفي ذقنها، وتجلَّت لك قوتها في اندماج عنقها. وقد تعجب لأول وهلة من اختلاف ملامحها عن ملامح الفارسيين وأبوها منهم. فإذا علمت أن أمَّها جركسية زال تعجبك وعلمت أنها ورثت تلك الملامح عن أمها، كما ورثت عنها كثيرًا من سجايا الجراكسة كالقوة والشجاعة والأنفة وتعوُّد ركوب الخيل والسباق بها والخروج للصيد. على أنها أخذت عن أبيها ذكاء الفرس وتعقلهم ودِقة إحساسهم؛ فكانت لهذا وذاك نادرة عصرها جمالًا وجلالًا، وشغف بها الفرغانيون وسموها «عروس فرغانة». فلما نزلت من المركبة ورأت الناس وقوفًا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيَّتهم على عجل خوفًا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها؛ ثم الْتفتت إلى القهرمانة وقالت بصوتٍ موسيقي جميل: «أين الجواد يا أماه؟» وكانت تناديها بذلك تلطفًا وتحببًا؛ لأنها ربَّتها من صِغَرها وكانت ضنينة بها شفيقة عليها؛ ولذلك كانت جهان تستودعها أسرارها وتكشف لها عن مكنونات قلبها. ولم تبطئ في الخروج من المركبة إلا لاشتغالها بالتحدث إليها في شيء أهمَّها. فأشارت القهرمانة إلى السائس، فأتى بالجواد يختال تيهًا كأنه يرقص، فلما دنا من جهان نظرت إليه وابتسمت ثم داعبت جبينه بأناملها، وكان على جبينه شعرات بيضاء تمثل أسدًا رابضًا فسمَّته لذلك «شير» وهو اسم الأسد بالفارسية. فلما شعر الجواد بأناملها استأنس وأخذ يضرب الأرض برجله. ثمَّ الْتفتت القهرمانة إلى الواقفين وقالت: «إن مولاتنا ذاهبة إلى الصيد فامكثوا مع المركبة هنا لإعداد الطعام، وليَتْبَعنا منكم رجلان يحسنان الركض حتى إذا وقع لنا صيدٌ أتيا به.» ثُمَّ امتطت جهان جوادها الأدهم بأسرع من البرق، وقدم «فيروز» السائس للقهرمانة خيزران جوادها، وأعانها على الركوب، فركبت وأشارت إلى السائس أن يتقهقر ويمشي مع الرجلين الآخرين وأحدهما مرجان، وساقت جوادها إلى جانب جواد سيدتها وسارتا متلازمتين، وقد تنكبت جهان القوس وأما جعبة النبال فكانت معلقة بالقربوس، والْتمست عرض البر والجوادان يسيران معًا على مهل، والأرض سهلة وأكثرها مزروع، وتبدو في أقصاها الجبال المحيطة بالمدينة. كانت جهان قد تعوَّدت الذهاب في الشعاب والأودية مع الفهَّادين وأصحاب الكلاب لاصطياد الغزلان أو حمر الوحوش أو الوعول. ولكنها في هذا اليوم لم تصطحب أحدًا من أولئك؛ لرغبتها في الانفراد، وإنما اتخذت الصيد حيلة للخروج. فلما أمعنتا في الخلاء الْتفتت القهرمانة إلى جهان لفتة حنوٍّ وانعطاف وقالت: «والآن يا سيدتي ألا تكشفين لي عن سبب انقباضك، وأنت تعلمين أني مستودع أسرارك وأسرار أمك من قبلك؟» فتنهدت جهان وقالت: «دعيني يا أماه من هذا الحديث، إنما جئت لأروِّح عن النفس بالصيد.» فضحكت القهرمانة وقالت: «وهل تريدين مني أن أصدق أنك خرجت للصيد وأنا التي اخترعت هذه الحيلة لنخرج معًا؟ أم تحسبين سرَّك خافيًا عليَّ؟!» فأرادت مغالطتها فقالت: «أتستغربين انقباضي وأنت ترين أبي مريضًا بالنقرس منذ أعوام. وقد سمعت طبيبه يصرح بضعف الأمل في شفائه؟! إنني إذا أُصيب أبي بسوء أصبح وحيدة لا أهل لي هنا، ولست أعرف أهل أبي في بلاد فارس ولا أهل أمي في بلاد القوقاز، ولا أدري مع ذلك كيف …!» وغصَّت بريقها. فقالت القهرمانة: «إن مرض سيدي المرزبان لم يحدث بغتة، وقد كنت تخافين على حياته من قبل ولم يبدُ عليك مثل هذا الانقباض … وإنما سببه سرٌّ أنت شديدة الحرص على كتمانه، ولكنني أعرفه!» فالْتفتت إليها جهان مستغربة وتفرَّست في عينيها ووجهها كأنها تحاول أن تقرأ ضميرها، فتأثَّرت القهرمانة من نظرها وبما تلألأ في عينيها وهي تغالب عواطفها وقالت: «نعم إن سرك غير خافٍ عليَّ، وإن كنتِ تحاولين إخفاءه حياء. وأرى هذا الحياء يبدو على وجهك الآن.» فصعد الدم إلى وجنتي جهان فتوردتا وأشرق وجهها وأبرقت عيناها بريقًا ينم عما يجيش في قلبها من لواعج الحب. واعتراف العينين حجة صادقة مهما يبالغ صاحبهما في الإنكار. فإذا قالت العين قولًا وقال اللسان آخر فالصادق هي لا هو، خصوصًا من يكون مثل جهان في رقة الإحساس وقوة العاطفة؛ فقد كانت كبيرة القلب وكبيرة العقل معًا، ولكن الضعف النسائي غلب عليها في تلك اللحظة فأطرقت، فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تعجبي يا سيدتي لاطلاعي على السر، ولست أنا وحدي المطلعة عليه فإنه متداول بين أهل القصر لا يجهله أحد غير أبيك، ولولا تهيب أهل القصر لنقلوه إليه ولكنهم لا يستطيعون ذلك إلا على يدي وأنا لم أفعل.» فبغتت جهان وقالت وهي تتشاغل بإصلاح عرف جوادها: «وأخي سامان؟ هل يعلمه أيضًا؟!» فابتسمت ابتسامة تشفُّ عن تألمها من ذكر ذلك الاسم وقالت: «سامان؟! إن سامان لا تخفى عليه خافية يا سيدتي وقد قلت لك ذلك مرارًا.» فأدركت جهان أنها تريد انتقاد إخلاص أخيها. فقطعت كلامها قائلة: «إني أتوسم في أخي سامان شيئًا لا يرتاح إليه قلبي ولا أدري ما هو، ولكنني لا أحب العيب فيه فهو أخي الوحيد، وأرى منه انعطافًا إليَّ، وإن كان بعضه لا يروق لي، على أني لا أحبذ انشغاله بالأسرار حتى ليخيل إليَّ أنه جعبة خفايا وغوامض. وكثيرًا ما يغيب عن البيت يومًا فنبحث عنه في فرغانة بحثًا دقيقًا فلا نقف له على خبر، ثم يرجع ونسأله عن غيابه فلا يجيب أو يجيب جوابًا مبهمًا. وقد أخبرنا بعضهم أنه كثير الاختلاء بالموبذ كاهن بيت النار في المدينة. ولا يخفى ما هو عليه هذا الكاهن من الدهاء والمكر.» فقالت خيزران: «أظن هذا الموبذ يؤيد طائفة الخرمية الجمعية السرية التي يتزعمها «بابك الخرمي» صاحب الحول والطول، والذي أصبح خليفة المسلمين يخافه، ولا يبعد أن يكون أخوك سامان أحد أعضاء هذه الجمعية، ولا بأس بذلك فالخرمية يعملون على إعادة السلطة للفرس ومحاربة المسلمين.» قالت: «لا أنكر ما في أخي سامان من مواضع الضعف، ولكنه أخي. وعلى كل حال ما لنا وله الآن؟» فأطرقت القهرمانة وهي تُعجب لحسن ظنِّ الفتاة بأخيها، رغم ما يظهر من قبيح أعماله وما تعتقده هي من سوء قصده، ولكنها أعرضت عن ذكره. ورجعت إلى ما كانا فيه فقالت: «والآن ألا تبوحين لي بما شغلك؟» فأعظمت جهان أن يغلب عليها الضعف إلى هذا الحد أمام مربيتها، فتحرَّكت فيها الأنفة وقالت: «لا تستضعفيني يا أماه فقد تكونين واهمة، وإلا فاذكري لي سبب كدري إن كنت تعلمين.» فقالت: «إن ضرغام هو السبب!» فلما سمعت جهان ذلك خفق قلبها وعاد الدم إلى وجنتيها وأبرقت عيناها فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تنكري يا حبيبتي فعيناك تشهدان بأنك تحبين ضرغامًا!» فسكتت جهان منتظرة أن تسمع من خيزران استحسانًا أو استهجانًا لذلك الحب، فقالت القهرمانة: «إن ضرغامًا شاب جميل وشجاع باسل، لا مثيل له في فرغانة ولا في غيرها من بلاد فارس.» فقالت: «فهمت أنه شجاع وجميل ثم ماذا؟» فهمَّت خيزران بأن تصرح برأيها ولكنها خافت على جهان فأطرقت وسكتت. فقالت لها جهان بصوت هادئ وجأش رابط: «صرحي يا أماه ولا تخشي شيئًا.» فقالت: «ليس في العالم أحسن من ضرغام لولا نسبه؛ فليس في فرغانة من يعرف أصله ونسبه حتى هو لا يعرف من أبوه.» قالت جهان وهي تتشاغل بإصلاح القوس على كتفيها: «وماذا يقول الناس عنه؟» قالت: «يقولون إنه مثال الشجاعة وكرم الخلق، عدا جماله وعلو همته وكِبَر نفسه. لكنهم يتساءلون عن نسبه، وأنا أذكر أمه عندما أتت إلى فرغانة تحمله، وكانت في إبان شبابها جميلة الطلعة، وقد خطبها غير واحد من أهل فرغانة فأبت أن تتزوج وانصرفت إلى تربية ابنها، فقد كانت على فقرها شديدة العناية به، ثم سمع سيدي المرزبان بخبرها فدعاها إليه وسألها ما خطبها فتكتمت في بادئ الأمر، ثم ذكرت أنها أُخذت طفلة من حضن أمها في بادية الترك ونشأت في منزل أحد النخاسين بالعراق حتى انتهت إلى رجل من أهل تلك البلاد فأعتقها وتزوجها، ثم تُوفي قبل أن تضع حملها، فلما وضعته أحبَّت الانقطاع إلى تربيته. وقد شك سيدي المرزبان في قولها وأحَبَّ أن يجربها فعرض عليها أن يزوجها من أحد رجاله فأبت واعتذرت؛ فازداد شكًّا في حديثها، وأنزلها بجانب قصره وأمر لها بما تحتاج إليه من أسباب المعيشة، وكانت تحسن الخياطة وتعمل مع خدم القصر حتى أُصيبت بالرمد وكفَّ بصرها فكفَّت عن العمل وظلَّت في بيت أبيك كما تعلمين. ولما شبَّ ضرغام تعلَّم ركوب الخيل والرمي بالنشاب وظهرت فيه سجايا نبيلة؛ فجعله مولاي المرزبان في جملة أعوانه. وكان يحبه ويجلُّ مناقبه حتى بعث الخليفة المعتصم منذ بضعة أعوام إلى هذه البلاد ليجند الرجال من الأتراك والفراغنة والأشروسنيين، فتطوَّع ضرغام لخدمته. وكنت قد لحظت ما بينكما من الحب المتبادل الذي تحاولين الآن إخفاءه، ولكنني عجبت لذهابه وغيابه كأنه رأى نفسه أقصر باعًا من أن ينالك للتباعد بينكما في المقام والنسب!» وكانت القهرمانة تتكلم وجهان مصغية تسمع كلامها بشوق ولهفة. ثم أجابتها قائلة: «إنه تطوَّع للعمل في خدمة المعتصم لعلمه أن الرجال إنما تظهر مواهبهم في مثل هذا الوقت. وكان قد تغلَّب عليه الوهم الذي أراه متغلبًا عليك؛ فرغم أنه لا يستحقني، وأنا أراه يفضلني بدرجات، فالمرء لا يُقدَّر بمزارعه ومنازله وإنما بمواهبه ومناقبه، وأنت تشهدين والناس كلهم يشهدون بأنه لا يُبارى في مواهبه ومناقبه. ولا ريب عندي أنه سيبلغ أرقى مراتب الجند، فقد سمعنا بأناس من رقيق البلاد ابتاعهم الخليفة وربَّاهم وجنَّدهم فبلغ بعضهم وبلغوا مراتب القواد. فكيف بضرغام وهو كما تعرفينه وأعرفه!» وكانت تقول ذلك ولسانها يكاد يتلعثم لخفقان قلبها وثورة عواطفها. فأدركت القهرمانة مما سمعت أنها عالقة بضرغام، وهي تعرف ثباتها على رأيها فلم ترَ أن تعارضها لكنها قالت: «لا شكَّ عندي أن ضرغامًا سينال مرتبة عليا في جند المعتصم، ولكن عروس فرغانة أرقى من أن ينالها القواد؛ فإن الملوك يخطبون رضاها.» قالت ذلك جادة تعني ما تقول لا على سبيل الإطراء والمجاملة. ولكيلا تترك لجهان وقتًا للتفكير والجواب أظهرت أنها تعبت من الركوب والْتفتت إلى ما حولها فوجدت أنها على مقربة من تلٍّ يشرف على أودية كانت تأتيها جهان للصيد، فقالت لها: «ألا ترين أن نترجل للاستراحة هنا قليلًا ثم نعود إلى الركوب إذا شئت؛ لأني لا أصبر صبرك على هذه المشقة؟» فأجابت جهان بالقبول. وترجَّلَتا فسارع السائس إلى الجوادين فانتحى بهما ناحية، وافترش لنا ذنبها على صخرة مبسطة فوق التل قعدتا عليها واشتغل هو بعلف الجوادين. ثم أشارت جهان إلى الخادمين بأن يتوغَّلا في الأودية يستطلعان حال الصيد هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/3/
كتاب ضرغام
قالت القهرمانة لجهان: «كيف رأيت كلامي يا سيدتي؟» قالت: «لا بدع إذا أطريتني وأعجبت بي فإني بمنزلة ابنتك وكل أم بابنتها معجبة حتى تظن الملوك يقتتلون عليها.» فقالت: «إني لم أقل ما قلته إلا واثقة من صحته، وهل هناك شكٌّ في أن أعظم ملوك الفرس يطلبون رضاك؟!» فهزَّت جهان كتفيها مفكرة مستبعدة وقالت: «ملوك الفرس؟ وهل للفرس ملوك اليوم؟» فاستبشرت القهرمانة بقرب إقناعها بعلو مرتبتها؛ لأنها على ثقة مما تقول فقالت: «لا تهزي كتفيك يا سيدتي. إن للفرس ملوكًا عظامًا لا يلبثون أن يعيدوا سلطان الأكاسرة. ألا تعرفين مازيار صاحب طبرستان؟ ألا تعرفين بابك الخرمي صاحب أردبيل؟ إن كلًّا من هذين ملك عظيم تخضع له الألوف من الأبطال، ولكنه في الوقت نفسه يخضع لعروس فرغانة، ويضحي بحياته في سبيل رضاها.» فهزَّت جهان رأسها مستخفة وقالت وهي تنظر إلى جوادها الأدهم سارحًا يرعى العشب: «دعينا من الملوك، لا أرب لنا في غير ضرغام. وما لنا وبابك ومازيار وأين نحن من أردبيل وطبرستان؟» قالت: «إذا كنتِ في شكٍّ من قولي فاسألي أخاك سامان عن بابك الخرمي.» قالت وقد تذكرت: «أظنني سمعته يطري صاحب هذا الاسم، ولكنني لا أثق بأقواله كلها كما تعلمين، ولم أكترث للأمر؛ لأن ضرغامًا ليس مثله أحد عندي ولا رغبة لي في الملوك والأمراء.» فقالت: «إذا كنت تستبعدين تلك البلاد فهذا الأفشين صاحب أشروسنة على مقربة منا، وهو الآن قائد جند المسلمين كافة في بغداد، وعما قليل يأتي لزيارة أبيك؛ لأن سيدي كتب إليه منذ أشهر يدعوه إلى زيارته في عيد النيروز.» وكانت جهان حتى الساعة لا تبالي ما تقوله خيزران، فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وتغيَّر وجهها وانقبضت نفسها، وصدَّت خيزران عن الكلام بكفها كأنها تقول: «كفي لا تذكري هذا الاسم!» وأرادت هذه أن تستأنف الحديث فصاحت بها جهان قائلة: «دعيني من ذكر هذا الرجل؛ إني لا أتحمل سماع اسمه! إنه سبب كدري الذي زعمت أنك عرفته؛ فإن نفسي انقبضت منذ سمعت بقرب قدومه إلى فرغانة وأنه سيقضي بعض أيام عيد النيروز عندنا، ولو أني استطعت أن أقضي العيد في مكان بعيد لفعلت.» فاستغربت خيزران كرهها للأفشين وقالت: «وهل أساء إليك الأفشين في شيء؟» قالت: «ما أساء إليَّ ولا كلَّمني كلمة، ولكنني منذ رأيته يأتي لزيارة أبي ونفسي تعافه وتنكر النظر إليه. ولا أذكر أن شعوري خانني في الحكم على الناس!» فقالت القهرمانة: «يا للعجب! ألا تعلمين أن الأفشين رئيس ضرغام، وإن غاية ما يبلغه ضرغام من التقدم في جند المسلمين أن يصير قائدًا من قواد الأفشين وتحت رايته.» فقالت بترفع وهدوء: «كلا يا أماه، إنه لا يعمل تحت رايته بل هو رئيس حرس الخليفة.» قالت وقد ظهر الاستغراب في محياها: «وهل أنت على يقين مما تقولين؟!» يا سيدتي، ولا أزال أدعوك سيدتي لأنك سيدة العالمين؛ وأنت أيضًا حبيبتي لأنك ملكت قلبي وكل جوارحي. تركت فرغانة منذ بضع سنوات ولم أكتب إليك حتى الآن؛ لأني لم أكن أهلًا لمخاطبتك، وكيف يتجاسر ضرغام الفقير اليتيم أن يخاطب جهان بنت المرزبان صاحبة السيادة مالكة الأموال والرقاب! وقد وعدتك يوم الوداع أن أبذل جهدي في طلب العلا، فإذا بلغت درجة تقربني من مقامك أتيت إليك والْتمست رضاك وإلا فإني أموت في سبيل طلبك. وقد انتظمت في الجندية وخضت المعامع باسمك واستقبلت النبال بصدري وهو فيه فوقاني من الأذى. ولما ارتقيت في مراتب الجند حتى صرت رئيس الحرس في قصر الخليفة بادرت إلى زفِّ البشرى إليك، وكأنك تسألينني عن عاقبة ذلك التقدم فإنه إن لم يكن لأكتسب به رضاك فلا مأرب لي فيه؛ لأني لا أرى للحياة قيمة إن لم تكن لك ومعك. وقد أخذت أسعى في الشخوص إلى فرغانة لأقبِّل يد سيدي المرزبان وأحظى بمشاهدة حبيبتي جهان، ولولا بعض المشكلات التي نخاف عواقبها على الخلافة لجئت إليك منذ أشهر، على أني ظفرت الآن بوسيلة تساعدني على الرحيل؛ ذلك أن أمير المؤمنين بنى سامرا بالقرب من بغداد كما تعلمين لتكون خاصة به ليجعل فيها جنده الأتراك وأنا واحد منهم، وقد أراد أن ينتصر بهم على الأحزاب المختلفة التي نشأت في المملكة الإسلامية من الفرس وغيرهم، وخشي على هؤلاء الجنود إذا اختلطوا بسكان المدن المجاورة أن تذهب شِدَّتهم ونخوتهم؛ فارتأى أن يزوجهم جواري تركيات من وراء النهر، وعيَّن أناسًا يرسل بهم إلى ما وراء فرغانة يبتاعون الجواري والإماء ويعودون بهن. وقد أعربت له عن رغبتي في زيارة وطني وطلبت السماح لي بمصاحبة ذلك الوفد، فوعدني الخليفة بتحقيق هذه الرغبة. فعسى أن آتيك قريبًا. وقد عهدت في توصيل كتابي هذا إلى رجل من خاصتي. أمي تهديك السلام. فلما فرغت القهرمانة من تلاوة الكتاب همَّت بجهان وضمَّتها إلى صدرها وقبَّلتها وهي تقول: «بُورك فيك وفيه، إنه أهل لك. صدقت؛ إن الرجل بأعماله لا بماله، وإذا كان قد أصبح رئيس الحرس بجده وبسالته فكيف بعد أعوام والدولة الإسلامية لا تزال حروبها قائمة ومثل ضرغام لا يعدم وسيلة للارتقاء!» فسرَّت جهان لموافقة القهرمانة على ما في ذهنها لكنها ما لبثت أن استدركت وقالت: «إن هذا الكتاب جاءني منذ عدة أشهر ولم يأتِ ضرغام ولا عرفت شيئًا عنه.» قالت: «لا تجزعي إنه آتٍ. ولكن …» وأطرقت كأنها تفكر في أمر طرأ لها. فقالت جهان: «ولكن ماذا؟ قولي يا أماه!» قالت: «ولكن أباك قد لا يرضى بضرغام.» قالت: «لم أخاطبه في شأنه بعد، ولكنني أعلم أنه يحبه ويجله. كما أنه لم يمنعني أمرًا أردته قط.» قالت: «أعلم أن سيدي المرزبان يحب ضرغامًا ويجلُّه، ولكن هناك أمرًا آخر هل فكَّرت فيه؟» قالت: «وما هو؟» قالت: «إن ضرغامًا مسلم على ما أعلم، فكيف يصح زواجه بك إلا إذا اعتنقت الإسلام.» فقالت: «وما يمنعني من ذلك، والإسلام دين الدولة؟!» فقالت: «وتتركين ديانة أبيك وعشيرتك؟!» قالت: «إذا كانت هذه الديانة تحول بيني وبين ضرغام فإني أتركها؛ لأني أحب أن أكون حيث يكون هو في الدنيا والآخرة.» قالت ذلك واغرورقت عيناها وهي تبتسم. وأحست القهرمانة أن الحديث طال وتحرَّج، فأحبَّت أن تشغل عنه جهان فنهضت وقالت: «مضى قسم من النهار ولم تباشري الصيد، فاركبي فرسك وأنا أتبعك وألهو بما أشاهده من مهارتك في مطاردة الغزلان.» ••• أشارت جهان إلى السائس أن يأتي بالجواد والقوس والنبال، ثم نظرت إلى الجبال أمامها لتختار جهة تركب إليها، فبصرت بوعل يركض على صخر قريب منها، ولم تكن تعهد وجود الوعول في تلك الجهة فبغتت وصاحت بالسائس: «فيروز، هات القوس.» فأسرع إليها بالقوس فأوترتها وسدَّدت السهم، وأسرَّت أنها إذا أصابت طريدتها كان ذلك فألًا بنيلها ضرغام وقرب مجيئه وإلا فلا. ونظرت إلى الوعل فرأته وقفًا على تلك الصخرة والْتفت نحوهم فرمته بأسرع من لمح البصر وسمعت طنين النبل في الهواء وخيزران تنظر إلى الوعل وتخاف أن يفرَّ قبل إطلاق السهم فما لبثت أن رأته سقط ثم انقلب إلى شق بين صخرين فصاحت جهان: «وقع وقع … إليَّ به يا مرجان.» فركض ورفيقه والسائس في أثرهما، وظلَّت جهان واقفة وقلبها يكاد يطير من الفرح، ثم تقدَّمت خيزران إليها وهي تضحك وتقول: «لقد سرَّني رمي هذا الوعل، ليس لأنك أصبته فقط ولكنني قبل أن ترميه أضمرت أن يكون فوزك في صيدك هذا رمزًا إلى فوزك بضرغام.» فابتسمت جهان وقالت: «وهذا ضميري أيضًا … أتقولين بعد ذلك إن ضرغامًا يليق بي؟» قالت: «بسطت لك رأيي وأنا الآن أكثر رغبة فيه.» وضحكت تمازحها. فانبسطت نفس جهان وسُري عنها بعد مكاشفة خيزران. ثم سمعت صياحًا فالْتفتت فرأت الرجال يجرُّون الوعل جرًّا لثقله فأسرعت إليهم فرأت الوعل ميتًا لا حراك به. فتعجبت من سرعة مصرعه بسهم واحد. فلما وصلت إليه رأت سهمها لا يزال مغروسًا في خاصرته ولاحت منها الْتفاتة فرأت سهمًا آخر في ليته فصاحت: «إنه مُصاب بسهمين وأنا لم أطلق إلا سهمًا واحدًا. هو ذا السهم الآخر!» وأمرت مرجان أن يستخرجه فأخرجه بعد عنف شديد وهو يقول: «إن الوعل مات بهذا السهم.» ودفعه إلى جهان فتناولته وقلَّبته بين أناملها فرأت على ريشه كتابة بالعربية وكانت تحسن قراءتها، ولم تكد تتبين أحرفها حتى صاحت: «ضرغام … ضرغام! إني أقرأ اسم ضرغام على هذا السهم.» فتقدم مرجان، وكان يقرأ العربية أيضًا، فقال: «هو اسم ضرغام.» فبهتت جهان والْتفتت إلى خيزران وهي تتجلد خوفًا من ظهور بغتتها أمام الرجلين، ثم أمرتهما أن يذهبا بالوعل إلى مكان يذبحانه فيه ويفعلان به ما شاءا، فلما ابتعدا قالت: «ما قولك في هذه المصادفة؟» قالت: «يظهر أن ضرغامًا قريب من هذا المكان وهذا سهمه قد رمى الوعل به فحمل الوعل جرحه مسافة طويلة؛ لأن هذه الوعول لا تسرح إلا عند ضفاف نهر الشاش على مسافة بعيدة من هذا المكان.» فأطرقت جهان وهي تحسب نفسها في حلم ثم قالت: «إنها مصادفة غريبة! على أني أخاف أن نكون قد أخطأنا الظن. ولكن لا … إن قلبي يحدثني بصدق ظني … فإذا كنت مصيبة فأين تظنين ضرغامًا الآن؟» قالت: «أظنه معسكرًا على ماء للاستراحة قبل دخول فرغانة، ولا أعرف ماء في هذه الجهة إلا نهر الشاش فلعله معسكر على ضفته الشرقية.» قالت: «وهل هذه الضفة بعيدة عنا؟» قالت: «إنها على فرسخ وبعض الفرسخ من هنا. أظنك تريدين الذهاب؟» فابتسمت والخجل يعارض ابتسامها، وحدَّقت في خيزران لتستطلع حقيقة غرضها من السؤال، فرأتها تنظر إليها باهتمام فعلمت أنها تشاركها شعورها فقالت: «وهل تظنين في ذهابي إليه بأسًا؟» فأشفقت خيزران على عواطفها وأحبت مجاراتها فقالت: «لو علم القوم أنك ذاهبة إليه عمدًا لتحدثوا بذهابك، ولكننا إذا لقيناه اتفاقًا فلا بأس، على أن المكان بعيد لا يخلو الذهاب إليه من المشقة. هل تستطيعين ذلك؟» قالت: «لا مشقة علينا ونحن راكبتان، هلمي بنا.» قالت ذلك والْتفتت إلى الرجلين فرأتهما مشتغلين بذبح الوعل بعيدًا. فأدركت خيزران أنها تريد استقدامهما فسبقتها إلى ذلك وقالت: «أرى أن آتي بخادمك فيروز يسير في ركابك وتأمري الآخر بالذهاب مع بقية الموكب بباب المدينة ينتظرنا مع بقية الخدم هناك.» فاستحسنت جهان رأيها، فمشت خيزران إلى الرجلين ونادتهما وأومأت إلى فيروز أن يأتي فأسرع مهرولًا فأمرته بإبلاغ رفيقه أن يذهب للانتظار مع بقية الركب، وبأن يأتي هو بالجوادين، ويظل في ركابهما ففعل، وانطلق خلفهما لا يدري إلى أين تسيران.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/4/
ضرغام وجهان
أدارت جهان رأس جوادها نحو النهر ومضت وعيناها شائعتان في الأفق لعلها ترى حبيبها قادمًا، وبجانبها خيزران على جوادها. وكانت الشمس قد تكبَّدت السماء، ونسيت جهان لفرط انشغالها أنها لم تذق طعامًا في ذلك اليوم. وقد يغلب الحب على صاحبه حتى ينسيه وجوده. وظلَّ الجوادان يسيران بهما في أرض بعضها مزروع وفيه الأجراء الذين يعرفون عروس فرغانة، كما يعرفون جوادها وخادمها. فكانوا يقفون لها احترامًا ويبتسمون إعجابًا، وهي لا تبتسم لتبلبل بالها. وبينما هي غارقة في تفكيرها صهل فرسها وفرس خيزران فانتبهت ونظرت أمامها فرأت على مقربة منها مزرعة فيها خيام كروية السقف على شكل خيام التركمان — وهم يبنونها مستديرة وسقفها قبة — ورأت بين الخيام بضعة جياد وغلامين يحلبان فرسين على عادة أهل بادية تركستان إذ يغتذون بألبان الخيل كما يتغذى بدو العرب بألبان الإبل. فلما رأتهم جهان أرادت أن تسلك طريقًا آخر لا يمر بهم توفيرًا للوقت. ولكن خيزران حوَّلت شكيمة جوادها نحوهم وأشارت إليها أن تتبعها قائلة: «أرى يا مولاتي أن نسأل هؤلاء القوم عن ضرغام لعلهم رأوه مارًّا فيغنينا ذلك عن تكبد المشقة في الوصول إلى النهر؟» فاستحسنت جهان رأيها وحوَّلت إليهم شكيمة جوادها أيضًا. فلما رآهما أحد الغلامين فنهض وقد علم من قيافة جهان أنها أميرة كبيرة وأسرع إلى أبيه في إحدى الخيام يدعوه إلى استقبال الأضياف. فجاء الرجل وهو فلاح شيخ يتوكأ على عكازه، وما وقع بصره على جهان حتى عرفها. فأمر أولاده بأن يعاونوها على الترجل مبالغة في الحفاوة بها، ولكنها لم تشأ النزول وأثنت على الرجل. ثم الْتفتت إلى خيزران كأنها تحرضها على السؤال، فقالت لها هذه: «انزلي يا سيدتي للاستراحة هنيهة ثم نركب.» فأطاعتها مرغمة واستلم فيروز زمام الجوادين وابتعد بهما عن المكان لئلا يشوشا الموقف بالصهيل مع بقية الخيل. ولما ترجلتا خاطبهما الشيخ بلطف وسذاجة قائلًا: «ألا تشرفنا بنت المرزبان بجلوسها لحظة في هذا البيت الحقير؟» فخجلت وجلست على جلد افترشوه لها ولرفيقتها. وقبل أن تهم خيزران بالسؤال جاء الغلام يحمل قدحًا من الخشب فيه سائل عرفت أنه لبن الأفراس فاعتذرت بأنها لا تشعر بالجوع. فقال الشيخ يخاطب غلامه: «قدم لها قدحًا من القومز، وهو لبن الخيل يخمرونه ويقدمونه شرابًا للزائرين كما يقدم العرب السويق وكما يقدم أهل هذا الزمان الليمونادة أو الشاي. ونظر إلى جهان وقال: «هذا القومز لا يستدعي جوعًا فإنه كالماء ويزيل التعب.» فلم تستطع جهان رده فتناولته، فاغتنمت خيزران تلك الفترة وخاطبت الشيخ قائلة: «ألم يمر بكم أضياف غيرنا في هذا اليوم؟» قال: «كلا يا سيدتي؛ ولذلك سررت بقدومكم، وقد تشرفت بمرور مولاتنا جهان فإذا فاتنا الأضياف فهي خير من ألف ضيف.» فقالت: «وهل يمر بكم المسافرون دائمًا؟» قال: «نعم يا سيدتي؛ لأن القادم من أشروسنة أو خوكند أو بخارى قاصدًا إلى المشرق لا بد له من أن يمرَّ بنا بعد اجتيازه النهر. ثم يذهب إلى فرغانة أو إلى غيرها. وكثيرًا ما تمرُّ بنا قوافل التجار قادمة من الهند أو التبت أو الصين قاصدة إلى بلاد الروم، أو راجعة منها إلى بلادهم.» فنظرت إلى جهان وكلَّمتها بالفارسية — وأكرة تلك البلاد يتكلمون الشاغطائية أي التركية القديمة — وقالت لها: «ألا ترين أن نمكث هنا ريثما يمر ضرغام إذا كان لا بد من مروره؟ أليس ذلك أفضل من أن نقصده هناك وقد نسير إليه من طريق ويأتي هو من طريق آخر فلا نلتقي؟» فلم تجب ولكن ظهر على ملامح وجهها أنها رضيت. فقالت لخيزران: «ائذني للرجل في أن يقدِّم لنا شيئًا نأكله.» فقالت: «وكيف نطلب الطعام بعد أن رفضناه؟» قالت: «أنا أطلبه بأسلوب معقول. والْتفتت إلى الرجل وقالت بلغته: «ألا تبيعون خيلًا للذبح؟» قال: «كلا يا سيدتي؛ لأننا نربي الأفراس للبن ولا نذبحها إلا متى عجزت وقلَّ لبنها.» قالت: «وإذا أردتم مُهرًا للذبح كيف تفعلون؟» قال: «نترصد قطيعًا من الخيل مارًّا من هنا فنشتري منه ما شئنا.» ثم أشار بيده إلى الشرق وقال: «وقد مضت عليَّ برهة وأنا أنظر إلى هذه الجهة فأرى في الأفق البعيد غبارًا كثيفًا محلقًا في الجو، وأتوقع دنوه فلعله غبار قطيع من الخيل قادم إلينا فأبتاع منه فرسًا أو فرسين للذبح. وإذا شاءت مولاتنا المكث هنيهة أخرى وتنازلت بأن تتناول الطعام عندنا ذبحت لها فرسًا سمينًا.» فاستحسنت جهان أريحية الرجل وخفة روحه وابتسمت له، ففهم أنها رضيت فأمر أحد أبنائه بملاقاة القطيع وتعجيله، فأسرع الغلام يعدو واشتغل الشيخ بإعداد المائدة ثم أتى ببطيخة وضعها بين يدي جهان وقال: «وهذه بطيخة من بطيخ بخارى المشهور بحلاوته سنذبحها لمولاتنا في جملة الذبائح!» فاستغربت جهان وجود هذا البطيخ عنده وهو مما يتفاخر باقتنائه الكبراء. ولم يفت الرجل ما جال في خاطرها فاستدرك قائلًا: «أهداني هذه البطيخة شاب مغرم جاء ليطلب إليَّ إحدى بناتي فأتى بهذه البطيخة في جملة الهدايا.» فلما سمعت جهان ذِكر الغرام تذكرت لوعتها، فتنهَّدت وأومأت إلى الشيخ أن يحتفظ بالهدية وقالت: «احفظ الهدية لصاحبتها.» وأراد الشيخ أن يجيبها فسمع صوتًا يناديه فالْتفت فرأى ابنه راجعًا يعدو وهو يلهث من التعب ويقول: «إن رعاة القطيع لا يبيعون من قطيعهم شيئًا.» ونظرت جهان إلى جهة الغبار المتصاعد من قطيع الخيل القادم، فرأت في مقدمته فارسًا على جواد مسرج، ووراءه عشرات من الخيول عارية تتزاحم وتتراكض، وعلى بعضها رعاة من بدو الكرج الذين يعيشون في براري تركستان على رعاية الخيل والماشية. ورأت الفارس الأول لابسًا لباس الجند وبيده راية على رمح لم تنتبه للاسم الذي طُرز عليها ولو قرأته لارتعدت فرائصها. أما الشيخ فأسرع إلى الفارس واستوقفه وقال: «ألا تبيعوننا فرسًا من هذه الأفراس؟» فأجاب الفارس بأنفة وعجرفة: «كلا.» قال: «أنا في حاجة إلى ذبيحة فنعطيكم الثمن الذي تريدونه.» فأدار رأسه يمنة ويسرة إشارة إلى الرفض. ولكن الشيخ عاد فسأله: «ولماذا لا تبيعون؟» فقال: «لأن هذا القطيع لأناس لا يبيعونه.» فقال: «ومن هؤلاء؟ أليسوا تجارًا؟» أجاب: «كلا». ثم أومأ إلى الراية وقال: «أظنك لا تعرف القراءة ولو عرفتها لكفيتنا مئونة السؤال والجواب». فلما سمعت جهان قوله نظرت إلى الراية فقرأت فيها: «الأفشين حيدر بن كاوس» بأحرف عربية. فتغيَّر لونها ونظرت إلى خيزران فرأتها في مثل بغتتها. أما الشيخ فأجاب الفارس قائلًا: «صدقت إني لا أعرف القراءة. لمن هذه الراية؟» قال: «هي للأفشين حيدر بن كاوس قائد جند الخليفة المعتصم وصاحب مملكة أشروسنة.» ولم يكن أحد في تركستان يجهل هذا الاسم؛ لأن الأفشين كان ملكًا على أشروسنة قبل دخوله في خدمة المعتصم. فبغت الشيخ وتهيَّب وقال: «إن مولانا الأفشين مقيم ببغداد على ما نعلم.» قال: «كان في بغداد ولكنه جاء إلى أشروسنة منذ أيام وبعثنا نبتاع الماشية لرجاله.» فقال: «وأنتم ذاهبون الآن بهذا القطيع إلى أشروسنة؟» قال: «كان مولانا الأفشين في أشروسنة، ولكنه قادم إلى فرغانة يقضي عيد النيروز فيها، ورجاله معسكرون خارجها على ضفاف الشاش، وهذه الخيول لهم. فهل تحتاج إلى زيادة إيضاح؟» قال ذلك وساق جواده وتبعه الرعاة بالخيول. فلم يعد الشيخ يجرؤ على السؤال، وخجل من جهان؛ لأنه عجز عن القيام بضيافتها. وأخذ يهيئ عبارة يعتذر بها إليها فإذا بها وقفت وأشارت إلى خادمها أن يأتي بالجوادين وأسرعت إلى الشيخ وقالت: «إني شاكرة حسن صنيعك يا عماه وقد طرأ عليَّ ما يدعو إلى الإسراع برجوعي، وعسى أن أتمكن من زيارتك في فرصة أخرى.» فأكبر الشيخ ذلك التلطف وهمَّ بتقبيل يد ابنة المرزبان شكرًا على تلطفها وتنازلها، فاجتذبت يدها منه وأشارت إلى القهرمانة فدفعت إليه بضعة دنانير وقالت له: «أعطِ هذه الدوانق إلى الغلام يشتري بها قوسًا ونشابًا يلهو بهما.» فشكر الشيخ لهما، وودعتاه وركبتا جواديهما فانطلقا بهما وخلفهما فيروز. وبعد هنيهة الْتفتت جهان إلى خيزران وقالت بعد تنهد يدل على غيظ تكتمه: «والآن ماذا تقولين؟ هذا الأفشين أتى فرغانة ولا شك أنه نازل عندنا لزيارة أبي.» قالت: «وما الذي يهمك من زيارته؟ و…» فقطعت كلامها قائلة: «لا يهمني شيء من أمره ولا أكترث له، ولا جنده يخيفني، ولكنني أكره مجالسته و…» وبلعت ريقها، وتشاغلت عن إتمام الحديث بإصلاح عصابتها على رأسها. ففهمت خيزران تخوفها ولكنها تجاهلت وقالت: «إن جهان العاقلة الحكيمة لا يُخشى عليها من أحد ألا تزالين عازمة على المسير إلى النهر.» فنظرت إليها جهان شزرًا وابتسمت كأنها تستغرب سؤالها ولسان حالها يقول: «وكيف لا؟!» وساقتا الجوادين وهما تنظران إلى قطيع الخيل حتى توارى وطريقه غير طريقهما، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل وأثر الجوع في خيزران. أما جهان فشغلها تلهفها للُقيا حبيبها عن كل عاطفة، وقضت معظم الطريق ساكتة وهواجسها تتعاظم وتتلاطم، وكلما تصورت لقاءها حبيبها اختلج قلبها ورأت أنها ارتكبت شططًا ما كانت لتأتيه لولا غلبة الحب على إرادتها. وكثيرًا ما يغلب الحب الإرادة ويكون الفوز له عليها، وقد تفوز الإرادة ولكن إلى أجل قريب، وإذا طالت غلبتها كان الحب ضعيفًا سريع الزوال. وقد يكون المحب كبير العقل مدبرًا حكيمًا ويرتكب في سبيل الحب أمورًا لا يأتيها غير أهل الطيش. وليس استغراب الناس عمله أكثر من استغرابه هو عمل نفسه؛ لأنه يأتي تلك الأمور وعقله مشرف على عمله ينتقده ويقبحه ولا يرى له سلطانًا على رده؛ وذلك لأن للعاقل الحكيم قلبًا فُطر على الحب الشديد، فإذا هو خالف هوى قلبه تألم ألمًا لا طاقة له باحتماله وقد يُجن أو يُصعق، وكم من عاشقٍ ذهب ضحية النزاع بين العقل والقلب؛ فالعاقل إذا أحب انتشبت بين إرادته وعواطفه حرب لها اضطرام، فإذا كان كبير النفس قوي الجنان جارى عواطفه اعتمادًا على عزة نفسه وقوة جنانه فلا يخاف أن يُغلب على أمره. وكانت جهان كبيرة العقل قوية الإرادة، ولكنها كانت كذلك كبيرة القلب شديدة العواطف، ألوفة شديدة التعلق بما تألفه. فكيف بها وهي تحب الأليف وقد عاشرته أعوامًا عدة حتى تمكن حبه من قلبها؟! وكانت قوية الجنان ثابتة الرأي في حبه وزادها تعلقًا به تخوفها من الأفشين ونفورها من رؤيته، فلم ترَ بأسًا من السعي لملاقاة حبيبها خصوصًا أنها ذاهبة بحجة الصيد. ••• سارت جهان وخيزران حينًا وهما تنظران إلى الأفق والجوادان يدلانهما على الطريق المؤدي إلى ضفة النهر، حتى أطلَّتا على الماء عن بعد ورأتا الشاطئ فلم تجدا عليه خيامًا ولا رأتا جندًا ماشيًا ولا راكبًا. فأوقفت جهان جوادها والْتفتت إلى القهرمانة وقالت: «هل ترين أحدًا هناك؟» قالت: «كلا يا سيدتي ولكننا على مقربة من الشاطئ. فهلمَّ بنا إليه لعلنا نرى فيه أثرًا يفيدنا.» فاستأنفتا السير وخلفهما فيروز، حتى بلغتا الشاطئ بقرب كوخ تحت شجرة. فرأتا آثار أناس كانوا هناك وانصرفوا من برهة وجيزة. ومن بين هذه الآثار بقية نار لا تزال موقدة. وبقايا طعام وفاكهة وعظام. ثم إذا بصاحب الكوخ قد خرج للقائهما ورحَّب بهما ظانًّا أنهما نازلتان عنده. وكانت خيزران قد دعت فيروز وأمرته أن يسأل أهل الكوخ عن القوم الذين كانوا هناك، فتقدم وحيَّا الرجل وسأله فقال: «هم جند من المسلمين عبروا النهر عند الفجر وأقاموا هنا إلى الظهر فتغدوا وانصرفوا.» قال: «وهل عرفت وجهة مسيرهم؟» قال: «أظنهم يقصدون فرغانة ولعلهم يريدون قضاء النيروز فيها.» فلما سمعت جهان قوله رجَّحت أن القوم ضرغام ورجاله، وندمت على مجيئها لاعتقادها أن ضرغامًا إذا أتى فرغانة يذهب توًّا إلى دار أبيها، فرأت أن ترجع إليها لتدركه، وأشارت إلى خيزران أن تحول عنان جوادها وتتبعها قبل أن يدركهما الظلام وهما على بعد ميلين من المدينة. ففعلت وحثَّتا الجوادين عائدتين إلى المكان الذي ينتظرهما الركب فيه بباب المدينة. وكان مَنْ في الموكب قد قلقوا لغياب جهان، وأرسلوا بعضهم للبحث عنها في الجهة التي ذهبت للصيد فيها، فعاد هؤلاء دون أن يجدوها. فازداد القلق عليها. فلما رأوها مقبلة عرفوها من بعيد بقيافتها ولون فرسها. ثم رحَّبوا بها وجاءوها بالطعام المهيأ لها، فأشارت عليها خيزران أن تتناول شيئًا منه فأطاعتها وتناولت بعض اللحم والقومز والفاكهة على عجل. ولحظت أثناء ذلك أن خادمًا يكلم القهرمانة همسًا وأن هذه تغيَّر وجهها. فأدركت أن هناك أمرًا ذا بال. ونادت القهرمانة ونظرت في عينيها مستفهمة فقالت خيزران: «إن مولاي سامان جاء إلى هنا وسأل عنك، ثم رجع لتوه.» فقالت: «وماذا قال؟» قالت: «لم يقل شيئًا.» وتشاغلت بازدراد لقمة كانت تمضغها وكادت تغص بها. فتفرست جهان في وجه الخادم الذي كان يخاطب خيزران وقالت: «أظنه جاء في شأن أبي. هل عليه بأس؟» فلم تستغرب خيزران سرعة انتباهها؛ لأنها كثيرًا ما كانت تقرأ أفكار المتكلمين بالتفرس في عيونهم. فأجابتها بقولها: «لا بأس على مولاي بفضل «أورمزد» — إله الخير عند المجوس — لكنه استبطأ عودتك ويريد أن يراك فنحن في يوم النيروز.» فنهضت جهان وأشارت إلى الخدم أن يعدوا المركبة للعودة وقالت: «لم يبعث أبي إليَّ إلا وهو يشكو من اشتداد المرض عليه. هيا بنا.» وكانوا قد أعدوا المركبة فركبتاها معًا، وسار الموكب إلى القصر وهي تتوقع أن تجد ضرغامًا هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/5/
في قصر المرزبان
بلغ موكب جهان قصر أبيها عند العشاء، فرأت الحديقة تتلألأ بما أُوقد فيها من المصابيح، وقد غصَّت بجماهير الناس وما يحملونه من الهدايا والتحف إلى المرزبان كعادتهم في مثل ذلك المهرجان. على أنهم في الأعياد السابقة كانت وجوههم تطفح سرورًا وبهجة. وكانوا يقرعون طبولهم ويضربون طنابيرهم. أما اليوم فقد أتوا بآلات الطرب لكنهم لم يضربوا عليها تهيبًا لما علموه من اشتداد المرض على المرزبان. فرأتهم جهان متفرقين زرافات ووحدانًا في طرقات الحديقة وعلى السلم، وعليهم ألبسة العيد من الخز والديباج، وكلهم وقوف يتهامسون ويتلفت بعضهم إلى بعض وعلامات الأسف بادية على وجوههم. وبباب الحديقة الدواب تحمل التحف من الثياب والأطياب والفاكهة. والخدم يشتغلون بإنزالها وحملها إلى داخل القصر. ولما وصلت مركبة جهان إلى باب القصر تفرق الناس إلى الجانبين وشغلوا بمشاهدتها عما هم فيه. وكانوا يحبونها ويتبركون بطلعتها ويتوسمون فيها الخير. فلما نزلت من المركبة هتفوا بالسلام عليها، وسُري عنهم حين رأوا وجهها ونسوا ما كانوا فيه من القلق كأنهم يحسبون دخولها على أبيها يذهب مرضه ويعافيه. أما هي فحنت رأسها للسلام تلطفًا، وخُيل إليهم أنها ابتسمت لفرط ما في محياها من الوداعة والإيناس. وكانت خيزران قد نزلت فسبقتها ومشت إلى جانبها، والناس يوسعون الطريق ويقفون احترامًا حتى دخلت جهان الحديقة ماشية بجلال ورشاقة وصعدت درجات السلم المؤدي إلى إيوان القصر وهي تتفرس في الوجوه خِلسة لعلها ترى ضرغامًا، خائفة أن ترى الأفشين. وكان أهل القصر في انتظارها على أحرِّ من الجمر فجاءوا لاستقبالها، ولم تجد أخاها سامان بينهم فظنَّته عند أبيها في غرفته. فلما لقيت قيمة القصر سألتها عن أبيها فقالت: «إنه في خير، فشكرًا لرحمة أورمزد.» فاطمأنَّت قليلًا ولكنها ظلَّت سائرة إلى غرفة أبيها بين صفوف الجواري والخصيان والكل وقوف إجلالًا لها. فمشت في دهليز مفروش بالسجاد حتى أتت غرفة أبيها وقد اشتدت لهفتها لرؤيته وقلبها يخفق خشية عليه. وكان بباب الغرفة حاجب من المماليك الخصيان قد اختص بباب المرزبان، فلما رأى جهان أسرع إلى سيده وبشَّره بقدومها، ثم عاد ورفع الستر ووسع لها، فدخلت وهي لا تزال باللباس الذي خرجت به للصيد والعصابة على رأسها، ولكنها حسرت عن وجهها وعنقها فبان إشراقهما وقد زادها القلق والتعب هيبة وجمالًا، فأقبلت على سرير أبيها ووجهها يطفح رونقًا وبهاء وعيناها تبرقان ذكاء وفطنة. وكان المرزبان كهلًا لم يتجاوز الستين من عمره، ولكن المرض والضعف جعلاه شيخًا هرمًا، فابيضَّ شعر لحيته التي تملأ صدره، وزاد الضعف في غور عينيه وتجاعيد وجهه. ولكن هذا كله لم يقلل شيئًا من هيبته ولا من بريق عينيه الذي اشتد حين علم بمجيء ابنته في إبان الحاجة إليها. وكان قد استلقى على سريره المصنوع من خشب الأبنوس، تحمله أربع قوائم نزل فيها العاج، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفوقه غطاء من الديباج المزركش بالقصب على نصفه الأعلى الذي يغطي الصدر مطرف من فرو النمور الثمين، ويداه مرسلتان فوق المطرف وقد حسر عنهما كمَّ القميص فبان هزالهما. فلما دخلت جهان من الباب، اتجهت أولًا إلى صنم مُذهَّب نُصب على عضادة بارزة من الحائط بجانب سرير أبيها وأمامه شمعة مضيئة غير المصباح المعلق بالسقف، فانحنت للصنم خاشعة على عادة المجوس، ثُمَّ سارعت إلى أبيها فجثت بجانب سريره وأكبَّت على يده تقبلها. وقد أثر فيها ضعفه ولكنها تجلدت تشجيعًا له فابتسمت وعيناها لا تبتسمان ولكنهما تنطقان بأجلى بيان بعظيم احترامها لأبيها وشدة حبها له. أما هو فحالما رآها ابتسم والدمع يترقرق في مآقيه، وفتح ذراعيه فعلمت أنه يريد تقبيلها فألقت نفسها على صدره فقبَّلها واستنشق رائحة عنقها فأحست بحرارة نفسه وخشونة شعره فاستأنست بتلك الخشونة لاطمئنانها على صحته؛ لأنها كانت تخاف ألا تدركه حيًّا. ثم تجلد المرزبان وتحامل على ساعديه حتى اتكأ على الوسادة وأشار إليها أن تقعد على الفراش بجانبه فقعدت وسألته: «كيف ترى نفسك يا سيدي؟» قال: «إني بفضل أورمزد إله الخير الحنون في خير، وكنت أخشى أن يتغلب أهريمان إله الشر فلا أراك، وذلك لشدة ما قاسيته من الألم والضعف. ولكنني شعرت بالراحة منذ علمت برجوعك إلى القصر، وأنت تعلمين أنك تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، فلا تفارقي القصر؛ لأني أرتاح لرؤيتك.» فأرسلت جهان دمعتين دلَّتا على حنوها وخففتا لوعة أبيها الشيخ المريض وأثَّرتا في نفسه. وكأنه تصوَّر حال ابنته بعد موته فغلب عليه الحنو فبكى وهو يحاول إخفاء عواطفه رفقًا بعواطفها، فابتسمت هي وتجلدت، ولم يفتها ما خالج ذهنه فقالت: «شكرًا لأورمزد الشفوق، إني أراك في صحة، وسأصلي له وأتوسل إليه (وأشارت إلى التمثال) أن يعافيك ويدفع عنك المرض، ولا ريب أنه يسمع دعائي.» فقال: «قد أرسلت أخاك سامان في طلب الموبذ (الكاهن) فإذا جاء صلينا معًا.» فأحسَّت جهان براحة لاتكال أبيها على الصلاة. وليس للإنسان تعزية في مثل هذه الساعة غير الإيمان، فهو وحده خير تعزيه له في الشدائد، بعد أن يعجز عقله وتغل يده عن درئها. ولولا الإيمان لكان حظ الناس من دنياهم التعاسة والشقاء. يدلك على ذلك أن الأرض لم تخلُ من دين. وما من أمة إلا وهي تدين بشيء ترجع إليه في رد القوي عن الضعيف، وتتعزى به في المصائب التي يضيع فيها الاجتهاد ويعجز عنها العقول، ولا ينجح في دفعها لا مال ولا سلطان، ولا يفيد فيها جند ولا أعوان. وتقصر عن معالجتها مهارة الأطباء، وحكمة الفلاسفة وعلوم العلماء. هذه المصائب لا ينجح فيها غير الإيمان والاستسلام عن اعتقادٍ صحيحٍ في الدين؛ فالمؤمن يتلقى المصائب بالشكر، ويستقبل الموت ضاحكًا مسرورًا. وليس أضر للبشرية ممن يضع الشكوك في أذهان العامة؛ لأنها تقتلهم وتذهب بسعادتهم، وهو نفسه، مهما يبلغ من شكوكه أو إنكاره، إذا أُصيب بضعف أو خاف على حبيب نفدت حيلته في إسعافه لا يرى مندوحة عن الالتجاء إلى غير الوسائل المعروفة فيستغيث بقوة لا يعرفها. ويتوسل إلى شخصٍ لا يراه ولا يعتقد بوجوده. وقد اختلف الناس في تفاضل الأديان لكنهم أجمعوا على التدين بواحد منها. فلما رأت جهان اتكال أبيها على الصلاة سكن اضطرابها واطمأن قلبها فقالت: «وهل يأتي الموبذ الليلة؟» فتنهَّد وقال: «قد بعثت أخاك في طلبه، ولكن ما أظنه يأتي به لأنه عوَّدني ألا يطابق عمله ما في نفسي.» وكأنه ندم على هذا التعريض فاستدرك وقال: «لا بأس من تأجيل ذلك إلى الغد.» وشعرت جهان بأن أباها غير راضٍ عن أخيها. وكانت قد لحظت شيئًا من ذلك من قبل ولم تعلم سببًا لهذا الفتور. وكان المرزبان يبالغ في كتمان ذلك لعلمه بذكاء جهان وسرعة انتباهها وأنها إذا اطلعت على ما في قلبه من أمر أخيها يتكدَّر عيشها. فسكتت وسكت أبوها حينًا، وأخيرًا انتبه هو فقال: «اذهبي يا جهان يا حبيبتي إلى غرفتك، لتبدلي ثيابك وتتناولي عشاءك فإني أشعر براحة وميل إلى الرقاد.» فنهضت وهي تقول: «ألا تحتاج إلى شيء أقضيه لك يا أبتي قبل ذهابي؟» قال: «لا أحتاج إلى شيء الآن، وإذا أصبح الصباح وجاء الموبذان علمت شيئًا جديدًا. اذهبي محفوظة محروسة.» شُغلت جهان بأمر النبأ الذي وعد أبوها بأن يطلعها عليه في اليوم التالي، وتاقت إلى معرفته. ولكن تفكيرها لم يهدها إلى شيء، وقد سرَّها على أية حال أن أباها لم يذكر «الأفشين». وودت لو سنحت لها فرصة تذكر فيها ضرغامًا لعله يذكره بخير فتطلعه على ميلها إليه. وكان أبوها قد عوَّدها ألا تتحرج أمامه من ذكر مثل ذلك، ثم همَّت بالخروج من حجرة أبيها مؤجلة ذلك حتى يأتي ضرغام لزيارته فتتخذ هذه الزيارة ذريعة للحديث في ذلك الشأن. وقبل أن تخرج دخل الخادم وقال للمرزبان: «إن سامان بالباب.» فلما سمع المرزبان اسمه انقبضت نفسه ولكنه قال: «يدخل». فدخل سامان ولا يكاد الناظر إليه يصدق أن جهان أخته؛ إذ كانت أمه جارية هندية ماتت وهو في الثامنة من عمره وسافر أبوه على أثر ذلك إلى بلاد القوقاس فلقي هناك فتاة شركسية أعجبه جمالها فتزوجها وجاء بها إلى فرغانة فولدت له توأمين هما جهان وطفلة أخرى. وماتت الأم والطفلتان صغيرتان فعهد في أمرهما خيزران ولم يتزوج بعد أمهما؛ لأنه كان يحبها حبًّا شديدًا لفرط جمالها وتعلقها، وأحب ابنتيها لشدة مشابهتهما لها، ولكنهما لم تبلغا الثالثة من العمر حتى فُقدت توأم جهان فبقيت هذه وحدها وتحولت كل محبة أبيها إليها. ولم يكن فَقْد تلك الشقيقة بسبب موتها، ولكنها فُقدت بطريقة عجيبة هي أن فرسًا اختطفتها. وكان في تركستان جماعة من اللصوص يدربون الخيل على اختطاف الأطفال أو الأحمال بأسنانها والفرار بها إلى حيث ينتظرونها في مكان بعيد. وبقي أهل فرغانة من ذلك العهد يحذرون خطف أطفالهم بهذه الطريقة. أما المرزبان فنظر إلى سبب ضياع ابنته نظرًا آخر، وتولَّد البغض في قلبه لسامان من ذلك الحين، لكنه كتم السبب عن كل إنسان! ••• كان سامان قصيرًا أجرد ليس في وجهه إلا شعرات متفرقة في ذقنه. وخداه منبسطان، ويخامر بياض عينيه حمرة كأنه استيقظ من رقاد، فضلًا عن شدة حَوَله، فإذا نظر إليك حسبته ينظر إلى السقف أو إلى الباب ولا يستقر نظره على شيء. وهو يكلمك مطرقًا أو محولًا بصره عنك وأجفانه ترتجف، وشفتاه ترتعشان كأنه خائف تخرج الألفاظ من بينهما متلاحقة متقطعة. ولكنه كان كثير الدهاء واسع الحيلة شديد الأنانية يكره كل أحد إلا نفسه. فلما أذن له أبوه في الدخول، دخل مهرولًا، وعلى رأسه قلنسوة من الخز بلا عمامة، وقد ارتدى جبة طويلة تغطي ثيابه فكان يتعثر بأردانها، ثم وقف بين يدي أبيه وقال: «ذهبت إلى بيت كرشان شاه (هيكل المجوس بفرغانة) فلم أجد الموبذ هناك، وقِيل لي أنه يعود في الصباح فهل أبحث عنه في منزله؟» فهزَّ المرزبان رأسه متضجرًا وقال: «لقد كان في إمكانك أن تبحث عنه قبل مجيئك ولكن لا بأس … غدًا نرسل من يأتينا به. اذهب الآن.» فرأت جهان في خطاب أبيها له جفاء زادها شكًّا في ميله إليه. ولم تكن قد سمعته يخاطبه بهذه اللهجة من قبل. أما سامان فقال: «لم أكن أحسبك تريده الليلة، وإلا لبحثت عنه حتى رجعت به. هل أذهب للبحث عنه الآن؟» وكان المرزبان يحدق في وجه ابنه وهو يتكلم، فلما انتهى أدار وجه عنه وقال: «كلا، ولكن دعني الآن فإني أحتاج إلى الراحة!» فأكبَّ سامان على يدي أبيه يقبلهما، ثم خرج يتعثَّر في أذياله، وظلَّت جهان واقفة تنظر إلى أبيها فرأت في عينيه دمعتين تكادان تنحدران وهو ينظر إلى الشمعة المضيئة بين يدي التمثال، وقرأت حول شفتيه معنى دلَّها على سرٍّ في خاطره يحب إفشاءه فقعدت على السرير وتناولت يده فشعرت بعرق بارد ورعدة خفيفة فقالت: «هل تريد شيئًا يا أبتاه أم أذهب؟» فقال وهو يصلح متكأه: «اذهبي يا حبيبتي … لا … لا تذهبي … لا بل اذهبي واستريحي!» فقالت: «ما بالك؟ هل أغضبك إهمال أخي سامان؟ إنه لم يكن يعلم مرادك.» فهزَّ رأسه وقال: «إنه لم يفهم مرادي ولكنني فهمت مراده. وقد دنا وقت الحساب.» قال ذلك واستلقى على الفراش ورفع الغطاء إلى كتفيه لينام، فعلمت أنه لا يريد الخوض في الموضوع، فأصلحت غطاءه وقبَّلت يده ثم خرجت وذهبت إلى غرفتها وهي في شاغل جديد بأخيها، وكانت خيزران في انتظارها فرحبت بها وسألتها عن أبيها ثم قالت: «أبدلي ثيابك واذهبي إلى فراشك.» فظلَّت واقفة ولم تجبها فأدركت أن ذهنها مشتغل بضرغام فقالت لها: «إن الناس قد انصرفوا وأُطفئت الأنوار في الحديقة والإيوان ولم يأتِ ضرغام ولعله يأتي غدًا.» فاقتنعت وأخذت في تبديل ثيابها بمساعدة خيزران، ثم ودَّعتها هذه وانصرفت، وأرادت جهان أن تذهب إلى فراشها وإذا بخادمة دخلت تقول: «إن مولاي سامان يطلب أن يكلم مولاتي.» فسُرَّت جهان بمجيئه؛ لأن حديث أبيها معه لم يَرُقْ لها، فدخل وعليه ملامح الاكتئاب والانكسار، فلما رأته أخذتها الشفقة عليه فرحبت به وابتسمت له وقالت: «لا يسوءك ما صدر من أبينا من إشارات الكدر، فأنت ضيق الصدر لمرضه.» فقعد مطرقًا على وسادة ولم يجب. فجلست إلى جانبه ونظرت إليه فرأت دموعه تتساقط على خديه فأثر منظره وغلب حنوها وطيب عنصرها على فراستها وتعقلها وقالت: «ما يبكيك يا أخي؟» فرفع بصره إليها وقال وصوته مختنق: «تسألينني عن أمري وقد شاهدت بعينيك وسمعت بأذنيك؟!» قالت: «قلت لك إن ما أتاه أبوك ليس عن غرض بل هو عن مرض، فإنه يحبك وليس له ابن سواك، وأنت حامل اسمه وأنت …» فقطع كلامها قائلًا: «قد يكون أبي يحبني، ولكني سيء الطالع. فأنا أبذل جهدي في طاعته، ولم يكن قد كلَّفني استدعاء الموبذ ولكنني رأيته يسأل عن خادم يرسله في طلبه، فتطوعت لخدمته. ولا أرى منه غير الإعراض، ويؤلمني ألا يكون راضيًا عني!» قالت: «إنه راضٍ عنك، أو إنه سيرضى، كن مطمئنًّا.» قال: «أنا أعلم أنك تحبينني وتسعين في استرضائه لي، ولكن آخرين يكيدون لي عنده، وهو لسلامة نيته ينخدع بأقوالهم.» قال ذلك ووقف يهم بالخروج خشية أن يسوءها حديثه، فأوقفته وقالت: «من تعني بأولئك الكائدين؟» قال: «أعني جماعة تعرفينهم أسروا عقولنا وقلوبنا وأموالنا باسم الدين.» فأدركت أنه يعني الموبذان (الكهان) فقالت: «فهمت، وأظنك تعمدت الرجوع وحدك الليلة فلم تأتِ بالموبذ؟» فتنحنح وبلع ريقه وقال: «لم أتعمد ولكنني لم أجده في بيت النار فلم أبحث عنه في مكان آخر؛ لأن دخول الموبذان بيتنا يفسده!» فقطعت كلامه قائلة: «لا أرى رأيك في هذا؛ لأن أولئك الموبذان يصلون لأجلنا فهم بركة لنا، وليس لنا عزاء إلا بهم، ثم إن أبانا يؤمن بهم ولا ينبغي أن نخالفه.» فقال: «لا أنكر أن بينهم أناسًا صالحين، ولكن بعضهم طماعون يبغون أن يستولوا على كل شيء. ما لنا ولهم الآن فإنما يهمني ألا يكون أبي ناقمًا علي.» فقالت: «اترك هذا لي، واذهب إلى فراشك مطمئنًّا.» فخرج مطأطئ الرأس مظهرًا الانكسار، ودخلت هي فراشها حيث عادت إلى هواجسها ولم تنم تلك الليلة إلا قليلًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/6/
ضرغام وجهان
وبكرت جهان في صباح اليوم فالْتفَّت بمطرفها وذهبت إلى أبيها فرأته جالسًا في سريره وهو أحسن حالًا منه بالأمس، ففرحت وسألته عن حاله فقال: «شكرًا لأورمزد، لقد نمت ليلتي مرتاحًا، وأشعر اليوم بنشاط. ألم يبلغك قدوم الأفشين إلى فرغانة؟ لقد كنت على موعد من مجيئه في هذا العيد.» فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وقالت: «لا أعلم يا سيدي، ولعله جاء ولم يأتِ إلينا بعد.» فقال: «من لي بمن يبحث عنه؟» فقالت: «إذا أمرت أن نبعث في طلبه فعلنا، ولكنه لو أتى فرغانة لجاءنا بلا دعوة.» قال: «صدقت، وهل ذهب أخوك ليدعو الموبذ اليوم؟» قالت: «خرج من الفجر للبحث عنه، وقد ساءه البارحة أنك لم تكن راضيًا عنه.» فقال: «ننتظر رجوعه. اسقني شربة ماء من يدك.» فأسرعت مسرورة فأتته بكأس ماء وقدمته إليه فشربه. ثم دخل الحاجب يقول: «إن ضيفًا قادمًا من العراق يستأذن على مولاي المرزبان.» فصاح المرزبان: «هذا هو الأفشين.» وأظهر ارتياحه لمجيئه ولم يسأل عمن هو قبل الإذن على جاري العادة فقال: «ليدخل.» وأسفت جهان لوجودها هناك، ولو استطاعت أن تشق الحائط وتخرج منه لفعلت، ولكنها تجلدت إكرامًا لأبيها فوقفت وقد انقبضت نفسها فتماسكت لئلا يبدو ذلك عليها. فأزاح الحاجب الستر فدخل القادم، فلما أطلَّ أجفلت جهان وبدت الدهشة في وجهها وانقلب انقباضها إلى انبساط، وتحوَّل امتقاع لونها إلى تورد؛ لأن القادم لم يكن الأفشين وإنما ضرغام. فلما رآه المرزبان ابتسم له ورحَّب به وصاح: «ضرغام؟ أهلًا بولدنا ضرغام. ظننتك صديقنا الأفشين. أقادم أنت من العراق؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «وهل أتى الأفشين معك؟» قال: «لم يأتِ معي ولكنني علمت يوم خروجي من العراق أنه عازم على المجيء إلى أشروسنة، وأظنه أتى.» وكان ضرغام شابًّا في حوالي الثلاثين من العمر قد كمَّله الله خَلقًا وخُلقًا؛ ربْع القامة، ممتلئ الجسم، عريض المنكبين، واسع الجبهة كبير العارضين كث اللحية، تلوح البسالة والهمة في عينيه، وتتجلَّى المروءة وصدق اللهجة حول شفتيه. وعلى رأسه قلنسوة قرمزية حولها عمامة سوداء، وقد لبس قباء سماويَّ اللون تمنطق عليه بمنطقة علَّق عليها سيفًا قبضته مذهبة، وتحت القباء سراويل من الخز الأرجواني وفوق القباء حبة سوداء، وقامته قامة الأبطال؛ إذا وقف حسبته جبلًا راسخًا. وكان قد دخل على المرزبان غير مقدِّر أن يلقى جهان هناك، فلم تكن دهشته أقل من دهشتها. أما هي فلما وقع بصرها عليه لم تعد تعلم كيف تخفي عواطفها، فإذا استطاعت إخفاء خفقان قلبها وارتعاش أعضائها فكيف تستطيع إخفاء ما ظهر من التورد في وجنتيها أو الإشراق في عينيها. وقد نسيت مرض أبيها وأصبح همها أن تلاحظ ما يبدو منه نحو حبيبها من ترحاب أو انعطاف، فلما رأته يرحب به فَرِحَت وكانت بجانب الصنم فأسندت ظهرها إلى العضادة وتشاغلت بمسح ما على الصنم من الغبار مخافة أن يبدو ارتعاشها، ولم تغطِّ وجهها؛ لأن نساء تلك البلاد لم يكنَّ يعرفن الحجاب يومئذ ولا سيما جهان فقد كانت تستنكف من تغطية وجهها وتعد الحجاب جبنًا وضعفًا. ولا تسل عن سرور ضرغام بتك المصادفة. وساعده في إخفاء عواطفه السلام على المرزبان فأكب على يديه يقبلهما. فأمر بوسادة جلس عليها وجلست جهان على وسادة أخرى، وأخذ المرزبان يسأله عن حاله فقال ضرغام: «قد أسرعت في الزيارة لأكون أول من يهنئك بهذا المهرجان المبارك، ولم أكن أعلم أنك متوعك فأرجو أن تكون أحسن حالًا.» فقال المرزبان: «أصبحت مرتاحًا اليوم وقد سررت برؤيتك وأنت تعلم حبي لك.» فانحنى ضرغام شاكرًا، وسره عطفه عليه، ولكن سروره لم يكن شيئًا يذكر بالقياس إلى سرور جهان، فكانت تسمع كلمات أبيها وقلبها يرقص فرحًا فأجابه ضرغام: «إني أشكر لسيدي المرزبان الْتفاته إلى ضيفه، وقد تأكدت فضله عليَّ من قبل وأنا غرس نعمته.» فخجل المرزبان من ذلك الإطراء وسأله: «أقادم أنت توًّا من العراق؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد وصلت إلى فرغانة مساء أمس.» قال: «وكيف فارقت القوم هناك؟» قال: «فارقتهم في شغل شاغل بالمشكلات، وكل واحد يخاف صاحبه ويحذره، ويستعين عليه بجند من غير جنسه. وإنما السبق اليوم للجند التركي.» فقال: «علمت أن الخليفة الجديد المعتصم بالله استعان في تأييد خلافته بأخواله الأتراك فأعانوه، وفي جملتهم الأفشين ملك أشروسنة وأنت.» فسرت أن قرن المرزبان اسمه باسم الأفشين فقال: «إن الأفشين عون كبير للخلافة وأما أنا فلا أستحق الذكر.» فقطع المرزبان كلامه قائلًا: «إن مستقبلًا مجيدًا ينتظرك لما أعلمه من بسالتك وعلو همتك. إنك لنعم القائد البطل ولا شك أنك تقدمت في جند الخليفة.» قال: «نعم أصبحت بفضل مولاي رئيسًا للحرس.» قال: «رئيس حرس الخليفة؟!» قال: «نعم يا سيدي.» فبان السرور على وجه المرزبان والْتفت إلى جهان كأنه يشركها في إعجابه بذلك التقدم السريع، فرأى جهان شاخصة إلى ضرغام تسمع حديثه وتكاد تلتقفه ببصرها. ولو أدنى المرزبان أذنيه من صدرها لسمع خفقان قلبها. فالْتفتت إليه وابتسمت ثم سكتت وعيناها تتكلمان كلامًا لم يفهمه وإن فهمه ضرغام. وعاد المرزبان إلى الكلام عن الجند فقال: «إذن في العراق الآن جند كبير من الأتراك.» قال: «إنهم يزيدون على عشرين ألفًا، وفي جملتهم أبناء ملوك فرغانة الأخاشيد وغيرهم.» فقال: «أظنه رغب في تجنيدهم لأن أمه منهم.» قال: «لا يخلو أن يكون ذلك بعض السبب، ولكن السبب الأكبر أن دولة المسلمين هذه عربية الأصل كما تعلم، ولما نهض المسلمون للفتح كان الجند كلهم عربًا ففتحوا الأمصار وأسَّسوا الدولة وظلَّ معظم الجنود عربًا في أيام بني أمية. ثم قام الفرس بنصرة العباسيين وشاركوهم في تأسيس دولتهم، فاشتدَّ ساعد الفرس وضعف أمر العرب. وما زال الفرس يتوقون إلى أيام المأمون الخليفة السابق، فأصبحوا أهل الدولة وفي أيديهم الحل والعقد. ولا يخفى عليك أنهم ما زالوا من أول الإسلام يعملون على رد السلطة إلى الأكاسرة.» فتنهد المرزبان تنهدًا عميقًا أدرك منه ضرغام أنه يتحسر على ضياع دولة الفرس، فتجاهل ومضى في حديثه فقال: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم، خاف الفرس ولا سيما أنهم قتلوا أخاه الأمين وسلموا الدولة إلى أخيه وابن أختهم المأمون تمهيدًا لردها إلى الفرس بعد موته؛ فلم يرَ المعتصم خيرًا من أن يستعين بقوم أشداء لم تذلهم الحضارة فعمد إلى تجنيد الأتراك.» فقال: «وهل يقيم هؤلاء ببغداد؟» قال: «كانوا يقيمون بها إلى عهدٍ غير بعيد، ولكن البغداديين ضاقوا بهم لأنهم كانوا يؤذون العوام في الشوارع، وربما قتلوا بعضهم في الأسواق، فابتنى لهم المعتصم مدينة سماها «سر من رأى» أو «سامرا» واختط فيها الخطط واقتطع فيها القطائع. وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك التجار. ثم شِيدت بها القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه وتسامع الناس أن دار الملك قد انتقلت إلى هناك؛ فقصدوها وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس؛ فاتسع عمرانها.» فأُعجب المرزبان بهذا التدبير فقال: «إذن هي مدينة كبيرة؟ وهل بقي الأتراك على دينهم أم غيَّروه؟» قال: «لا يخفى على مولاي أن معظمهم يدين بالزرادشتية ولكنهم أصبحوا اليوم مسلمين. ومن أغرب الوسائل التي تذرَّع بها الخليفة لإبقاء الجند قويًّا كما هو الآن أنه أبعده عن أهل البلاد ومنع رجاله أن يتزوجوا منهم. ورأى أن يزوجهم ببنات تركيات ابتاعهن من تركستان. وقد أرسل وفدًا لابتياع هؤلاء الجواري فاغتنمت أنا الفرصة واستأذنت في مرافقة هذا الوفد فأتيت إلى فرغانة لهذا السبب.» فقال المرزبان: «لقد سرَّني قدومك يا ولداه وفرحت برؤيتك، وكأن أورمزد قد هيأ ذلك حتى أراك قبل …» قال ذلك وتغيرت سحنته وبان الانقباض في وجهه لكنه تشاغل بالسعال ومسح شاربيه وعينيه حتى لا يظهر بكاءه. فاختلست جهان أثناء ذلك نظرة إلى ضرغام بادلها مثلها. وقد فرحت بتودد أبيها إليه ولكنها تأثرت من يأس أبيها. وهي أرغب في بقائه بعد ما عاينته من رضاه على حبيبها، ووثقت بأنه لا يمانع في زواجها منه، وعزمت على ذكر ذلك له في أول فرصة. أما المرزبان فأراد أن يشغل ضرغامًا عما بدا منه فقال: «وكيف حال أمك المسكينة؟» قال: «هي في خير والحمد لله، ولا تفتر لحظة عن ذكر مولاي وأفضاله علينا، وتذكر مولاتنا جهان؛ لأنها شديدة التعلق بها.» فرأت جهان سبيلًا لمخاطبته فقالت: «مسكينة آفتاب! إني أحبها محبة الابنة لوالدتها، ولم ألقَ امرأة أطيب قلبًا منها، وقد كنت كثيرة الاستئناس بها.» وهب المرزبان بغتة كأن شيئًا نبهه فقال: «أين سامان؟ هل أتى الموبذ؟ ادعوه لي حالًا. إن سامان لا يُعوَّل عليه.» قال ذلك وهزَّ رأسه هزة كلها معانٍ. فنهض ضرغام وقال: «أنا ذاهب لاستدعائه فإني أعرفه وأعرف مكانه.» فقال المرزبان: «لا تكلف نفسك الذهاب وفي قصرنا عشرات من الخدم والخصيان … ولو لم يتصدَّ سامان للذهاب بنفسه لكان لنا غنًى عنه بواحد منهم.» فقال: «قد أحسن سامان بتطوعه لتنفيذ أمر أبيه بنفسه. وإذا أذن مولاي أن أتولى أنا ذلك فعلت.» فقطع المرزبان حديثه قائلًا: «كلا لا تذهب أنت.» فقال: «أتأذن لي في أن أبعث إليه بخادمي بل رفيقي وردان. فإني لم أكل إليه أمرًا إلا أنفذه ولو ركب إليه رءوس الأسنة.» قال ذلك وخرج فنادى: «وردان». فأتاه رجل في نحو الأربعين من العمر خفيف العضل خفيف اللحية، يظهر من بروز أنفه وبقية ملامحه أنه أرمني. وكان قد دخل في خدمة ضرغام بسامرا منذ عهد قريب وسرعان ما اكتسب ثقته بما أبداه من علوِّ همته ونشاطه، فكان ضرغام يعامله معاملة الرفيق فلما وقف بين يديه وعليه عمامة مستديرة وسراويل قصيرة وفروة من جلد الغنم قال له ضرغام: «هل عرفت بيت النار الذي مررنا به مساء أمس وعليه الأنوار والرايات؟» قال: «نعم.» قال: «اذهب إلى هناك واسأل عن الموبذ، وقل له: «إن المرزبان يريدك في هذه الساعة.» وارجع به معك.» فأشار مطيعًا وخرج. أما جهان فأصبحت متشوقة لتحادث ضرغامًا وتشاكيه الغرام، وكانت تشعر بأن رأسها مملوء بالأخبار التي يلذ لها كشفها له، على عادة المحب إذا فارق حبيبه فإنه لا يمل الكلام مهما يكن موضوعه أو مرماه، فلا عجب إذا اشتاقت جهان لمجالسة ضرغام بعد ذلك الفراق الطويل. وكان هو في مثل شوقها ولهفتها. ولكنه كان في حيرة لا يدري كيف يتسنى لهما ذلك. فإذا بالمرزبان ينادي جهان قائلًا: «مري «المهتر» — قيِّم الدار — أن يُنزِل حبيبنا ضرغام في القصر، ويعد له ما يحتاج إليه، ومتى فرغ من ذلك يجيء إليَّ فإني أريد أن أختلي به حينًا حتى يأتي الموبذ.» فخرجت لتنفيذ ما أمر به أبوها. وسبقها ضرغام إلى قاعة خاصة تعوَّد أن يراها جالسة فيها. ••• حينما خرج وردان من قصر المرزبان رأى الناس يتزاحمون ببابه بأفراسهم وهداياهم وعليهم أثواب العيد وهم ينتظرون الإذن في الدخول، فلما رأوه خارجًا جعلوا يتساءلون عن سبب عجلته وسأله بعضهم عن حال المرزبان فلم يجبهم وظلَّ سائرًا حتى جاوز القصر، فمضى في الطريق وقد تزاحمت فيها الأقدام وتصادمت المناكب والناس في شغل شاغل من أمر العيد، وهم يحملون الفاكهة والحلوى، ويتبادلون التهنئة. فلم يكترث لشيء من هذا، ومشى حتى أطلَّ على بيت النار. والأعلام تخفق على سوره وحوله مقاصير تُعد بالعشرات، يقيم بها السَّدَنة والخدم والقوام، وقد تزاحم الناس ببابه الذي زُيِّن بالريحان. فتظاهر وردان بأنه واحد من عبَّاد النار وقد جاء لأداء فريضة الزيارة. ودخل إلى صحن المعبد فرآه مفروشًا بالديباج والحرير، تحيط به أروقة مستديرة قد عُلِّقت فيها الستائر المطرزة وبعضها مرصعة بالحجارة الكريمة. واتصل من الصحن بباحة المعبد حيث يقيمون الصلاة، فإذا هي بقعة مربعة يقوم وسطها بناء معقود في وسطه فجوة بمثابة الباب يُصعد إليها بخمس درجات. وحول الباحة أحواض ملتصقة بالجدران أوقدوا فيها النيران وأحرقوا البخور فتصاعد دخانها في الفضاء، وعلى زوايا القبة أجران تصاعد دخانها كما تصاعد من مئات أمثالها فوق السور. وفي بعض جوانب الباحة إلى اليسار وعاء مستدير مملوء بالنفط يتصاعد اللهب من فوهة فيه، وقد اصطف الناس حوله بين جلوس ووقوف وهم يتعبدون أو يصلون. ورأى رجلًا واقفًا على الدرج ظنَّه الموبذ، فهمَّ بالذهاب إليه فاعترضه رجل على رأسه قلنسوة مستطيلة هرمية الشكل عرف من منظره أنه أحد السدنة، فقال له وردان: «أريد مولانا الموبذ. أليس هذا هو؟» وأشار إلى الرجل الواقف على الدرج. فقال السادن: «كلا، إن الموبذ مشغول الآن.» قال: «وأين هو؟» قال: «ما لك وله؟! إذا شئت الصلاة أو البركة فهذه هي النار في الأجران.» قال: «بل أنا أريد الموبذ.» فحوَّل الرجل وجهه عنه وقال: «إنك لن تظفر برؤيته إلا بعد الصلاة.» فاستمهله قائلًا: «لا تغضب يا سيدي فإني غريب وقد أتيت من خوكند بالأمس وعهدي بكم تكرمون الغرباء.» فخجل السادن ووقف له وقال: «ألم تأتِ للصلاة أو الاقتباس؟ أمامك النار المقدسة فاقبس منها ما شئت.» قال: «بل أنا أريد الموبذ.» فتقدم السادن وأدنى فاه من أذنه وهمس قائلًا: «إن الموبذ في خلوة مع بعض الكبراء في هذه الحجرة التي إلى اليمين، فانتظر خروجه أو افعل ما شئت.» فمدَّ وردان يده إلى جيبه وأخرج دنانير دفعها إليه وهو يبتسم وقال: «ألا تأذن لي أن أدنو من الحجرة أصلِّي بجانبها استئناسًا بمولانا الموبذ.» فتناول السادن الدنانير وقال: «افعل ولكن احذر أن يشعر بك أحد.» فقال: «طبعًا.» وهرول إلى الحجرة معتزمًا أن يحتال للدخول على الموبذ ويبلغه أمر المرزبان. فلما دنا من الباب رأى الموبذ ومعه رجلان بلباس فاخر. عرف أن أحدهما «الأفشين» ثم ما كاد يعرف الآخر حتى اضطرب دهشة إذ عرف فيه رجلًا في نفسه منه أمر عظيم، وهو أصبهنذ (نائب) بابك الخرمي. وأخذ يسائل نفسه عما جاء به من أردبيل في أرمينيا، وبينها وبين فرغانة سفر طويل؟ فلما لم يجد جوابًا شافيًا وقف في مكانه متظاهرًا بالصلاة والدعاء، وأخذ يفكر في سبب هذه الخلوة في بيت نار المجوس بين «الأفشين» قائد جند المسلمين، ونائب بابك الخرمي المجوسي ألد أعداء المسلمين! وبعد هنيهة تحوَّل إلى فرجة تؤدي إلى ممرٍّ وراء الحجرة به نافذة تشرف على ما في داخلها بحيث يرى الجلوس فيها وهم لا يرونه. فتربص وأخذ يتفرس فيهم فرآهم جالسين على بساط من الديباج؛ الموبذ بقلنسوته وقبائه الأرجواني، والأفشين بعمامته حول القلنسوة. والأصبهبذ بالقلنسوة بلا عمامة. وكان عهده بالأفشين يلبس الجبة السوداء شعار العباسيين، وطالما رآه يصلي بمسجد سامرا. فعجب لارتدائه القباء الأرجواني الذي يلبسه كبار المجوس في العيد. ولوجوده مع المصلين في بيت النار. على أنه لم يستغرب مجوسية الأصبهبذ؛ لعلمه بأنه لم يعتنق الإسلام. وأصاخ بسمعه إلى ما يقولون فسمع الموبذ يقول: «سنفوز بعون أورمزد، ولكن علينا أن نصبر.» قال الأصبهبذ: «إننا صابرون، ولن يطول اصطبارنا بشرط.» وسكت فجأة. فقال الأفشين: «لا بأس من الصبر وإن طال، ولكن ما كان ينبغي لصاحبك أن يغيِّر رأيه فيَّ.» فقال الأصبهبذ: «إنه لم يغير رأيه فيك، ولكنه رآك أصلت التقرب من أولئك اليهود الذين يسمون أنفسهم مسلمين أو عربًا. وقد أرسلني للاجتماع بك في هذا العيد لأذكرك بعهدك بين يدي الموبذ.» فضحك الأفشين وقال: «ربما ظن صاحبك أنني غافل عما تعاهدنا عليه هنا منذ بضع سنين ومعنا المازيار صاحب طبرستان. ولكن هذا هو الموبذ يشهد بأني أقمت بعهدي.» فأشار الموبذ برأسه أن «نعم». واستطرد الأفشين قائلًا: «إن هذه النار تشهد على عهدنا، فقل لأخي بابك بأنني لا أدخر وسيلة في جمع المال وإرساله، ولا أخطو خطوة في حرب أو سلم لدى المعتصم إلا اقتضيت عليها مالًا أرسله إلى خزينتنا بأشروسنة. وأما المازيار فإنه كذلك مقيم على العهد، ولم يحضر معنا هذا العام لأسباب خاصة. وقد كتب إليَّ يحثني على الثبات، ويعد بأن يكون هو وطبرستان كلها معنا متى تحركنا. ولا شك أنه أشد غيرة منا على التخلص من هذه الدولة وإرجاع دولة الفرس.» فقال الأصبهبذ: «ذلك عهد مولاي بك، ولكنه رآك أطلت الرضوخ لحكم اليهود كأنك أصبحت واحدًا منهم حتى تصديت لحربنا غير مرة.» فقهقه الأفشين وهزَّ رأسه قائلًا: «ألمثلي يُقال هذا؟ وهل يخفى قصدي على أخي بابك؟ ألا يعلم أني إذا خرجت لحربه فإنما أفعل ذلك إخفاء لغرضي! إنني لن أدع فرصة تسنح دون أن أنتهزها لنقوم جميعًا قومة رجل واحد فننال أمنية قصر عن نيلها أبو مسلم الخراساني وجعفر البرمكي والفضل بن سهل! إن هؤلاء أفسدوا أمرهم بالعجلة، أما نحن فسنفوز بالتؤدة.» فالْتفت الموبذ إلى الأصبهبذ وقال: «صدق الملك. فإنه رجل حنكه الدهر، فأبلغ ولدنا بابك أن ينتظر. وليثق بأن أورمزد في عوننا. فقد رأيت فيما يرى النائم أن الفوز قد دنا أجله.» وكان وردان يسمع الحديث وقد أخذته الدهشة، وكيف لا وقد تبيَّن أن قائد جند الخليفة مجوسي يمالئ أعداء المسلمين على الإيقاع بالدولة عند سنوح الفرصة. على أنه اغتبط بأنه حصل على سلاح ماضٍ يستعمله عند الحاجة. ثم رأى الموبذ يتحفز للنهوض، فنهض الأفشين ورفيقه وتلثما تخفيًا. فغادر مكمنه، ثم وقف في صحن الهيكل ليلتقي بالموبذ عند خروجه. وكان الناس في شغل شاغل بعبادتهم، فأومأ إليهم السادن أن الموبذ خارج، فتهيئوا للتبرك بطلعته، ووقف وردان بينهم يقلد حركاتهم، ثم ظهر الموبذ يخطر بثوب يبهر البصر بألوانه وتطريزه، وفي عنقه عقد من الجوهر، وفي شماله صولجان قبضته مذهبة، وفي يمينه عصا يضرب بها الأرض مختالًا، والناس يطأطئون رءوسهم إجلالًا وتعظيمًا له. فلما اقترب من وردان، سارع هذا إليه وأكبَّ على يده يقبلها وقال: «إن مولانا المرزبان يدعوك إليه الساعة لأمر ذي بال.» فقال: «هل اشتد المرض عليه؟» قال: «لا أدري، ولكنه ألحَّ عليَّ أن أرجو منك أن تزوره الآن، وأمرني ألا أعود إلا بك.» قال: «انتظرني خارجًا لأذهب معك.» فخرج وردان محاذرًا أن يراه الأفشين لئلا يدرك أنه اطلع على شيء من سره. ولما صار بالباب رأى مركبة شدَّ إليها فرسان عليهما العدة المذهبة فعلم أنها معدة للأفشين. ثم خرج الموبذ فركبها والأفشين إلى جانبه وهو ملثم، وأشار إلى وردان فركب أحد الفرسين، ومضوا إلى قصر المرزبان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/7/
اجتماع المحبين
تركنا ضرغامًا في انتظار جهان بغرفتها وأهل القصر لا يرون بأسًا من اجتماعهما، لما يعلمونه من منزلة ضرغام عند مولاهم، ولأن جهان لا تحتجب عن الرجال، جلس ضرغام على كرسي في بعض جوانب الغرفة ينتظر حبيبته وهو على مثل الجمر وقد أهمه ما شاهده من مرض أبيها وتشاءم من ذلك، ولكن شوقه لجهان وشدة رغبته في مقابلتها أنسياه كل شاغل. ثم سمع صوتها بجانب باب الغرفة تكلم «المهتر» وتوصيه بما أمر به أبوها، فخفق قلبه، ثم دخلت فلما أقبلت عليه خف للقائها وكلاهما يبتسم وقلبه يضحك، وقد نسيا الدنيا ومصائبها كأنهما انتقلا من عالم الشقاء إلى عالم السعادة والهناء. وإذا عجز الفلاسفة تمثيل الفردوس، فإن أقرب مَثَل لحال المقيمين به، وحال حبيبين تصافيا وصفا لهما الزمان وخلا الجو، فاجتمعا وطفقا يتشاكيان لا يزعجهما رقيب، ولا يخامر قلبيهما شكٌّ أو غيرة. تلك هي الجنة لولا ما ينتابها من القصر، أو يعرض لأصحابها من طوارق الحدثان. فلما رأت جهان حبيبها واقفًا لاستقبالها هشَّت له ومدَّت يدها لمصافحته، فمدَّ يده وقبض على كفها وقلبه يضحك وعيناه تبرقان. وإذا كان، وهو الشجاع الباسل الذي لا يهاب مواقف القتال، قد ارتعد واضطرب. فكيف يكون شأنها وهي مهما تبلغ من رباطة الجأش والتعقل لا تخرج عن طبيعة المرأة الحساسة! وبدأ ضرغام الكلام فقال: «لقد أطلت الغيبة عليك يا سيدتي.» فنزعت يدها من يده ونظرت في عينيه نظرة المحب العاتب وقالت: «لا تقل سيدتي بل …» وتشاغلت عن إتمام الكلام بالقعود وهي تدعوه إليه، فقعد كلٌّ منهما على كرسي، وأدرك هو مرادها فقال: «كيف لا أدعوك سيدتي وأنت جهان عروس فرغانة وبنت المرزبان، وأنا ضرغام اليتيم ابن آفتاب الأرملة المسكينة؟!» فقطعت كلامه قائلة: «بل أنت سيدي ومولاي. ليس لأنك رئيس حرس الملك أو قائد جند الخليفة، ولكن لأنك شهم نبيل باسل. بل إن هذا أيضًا لا يزيدك رفعة في عيني. إني أشعر بشيء آخر يعجزني التعبير عنه؛ أشعر بسلطة لك عليَّ، إذا لم تسعفني بالتعبير عنها كنت حزينة بائسة!» قالت ذلك وتوردت وجنتاها وغلب الحياء عليها، فعلم أنها تعني الحب وأن الحياء يمنعها من التصريح فقال: «إن العامل الذي تحسبين ضرغامًا المسكين أصبح به سيدًا قد جعل الأميرة جهان معبودة فأنا عبدها الخاضع المطيع.» فقالت: «قلت لك إني عاجزة عن أداء ما في خاطري أو بيان أسبابه، وإنما أعلم أن منزلتك عندي لا تعلوها منزلة أحد على وجه هذه البسيطة. ويهمني الآن ألا نضيع الوقت سدى؛ إذ أخشى أن يأتي الموبذ فيدعوني أبي إليه.» ولما ذكرت أباها تذكرت حاله فتنهدت ثم استدركت فقالت: «إن وقتنا ثمين يا حبيبي. نعم يا حبيبي! سامحني إذا دعوتك بهذا اللقب قبل أن تدعوني أنت به. آه من سلطان الحب!» فقال وقد هاجت أشجانه: «لا يحق لأحد أن يبدأ بهذا التصريح سواك، وقد فعلت حتى يكون لك فضل المتقدم. وهل أجسر أنا أن أدعوك به قبل أن أسمعه من فيك؟ فأحمد الله على ذلك. وحق لي الآن أن أسميك حبيبتي … آه ما أشهى هذا اللفظ في فمي، وما أخفه على قلبي! لطالما كررته في خلواتي، وكم تمنيت أن أسمعه من فيك. وقد سمعته. فهل في العالم رجل أسعد مني؟!» فأطرقت وهو لا يحول نظره عنها وكأنه يهم بأن يضمها بجفنيه تهيبًا من أن يضمها بذراعيه، فلما رآها مطرقة وقد بدا الاهتمام في محياها اختلج قلبه في صدره وتوهم أنها ستخطف من بين يديه فقال: «ما بالك مطرقة يا حبيبتي؟» فرفعت بصرها إليه وابتسمت وقد فهمت ما خالج خاطره وقالت: «لا تذهب بك المخاوف بعيدًا. إني لم أسمك بهذا الاسم وأنا أخاف أحدًا أو أخشى بأسًا، ولا سيما بعد أن آنست من أبي ما آنسته من الارتياح إليك والتعلق بك، ولولا مرضه. آه لولا مرضه …!» وسكتت. فقال: «أرجو أن يُشفى قريبًا.» وسكت وعيناه تتفرسان في عينيها، وكل منهما يقرأ فِكْر صاحبه، ولعلها قرأت أكثر مما قرأ هو فقالت: «ضرغام، لا ينبغي أن يغلب الضعف على جهان حتى تخفي إحساسها عن حبيبها وتحمله على الشك في شيء من أمرها. لقد تعاشرنا أعوامًا وعرف كلٌّ منا صاحبه حتى امتزجت روحانا فما في الأرض قوة تستطيع التفريق بيننا، وأراني غير قادرة على الاستقلال بفكري أو حياتي عنك. فأنا أشعر بأنك مني وأنا منك. فإذا فكَّرت في شيء رأيت فكري يمرُّ على تذكارات أنت قوامها، وإذا تخيلت أمرًا كان خيالك نصب عيني يحول بيني وبينه، ولا ترتسم في عقلي صورة إلا وفيها شيء من صورتك. فهل بعد ذلك يستطيع البشر أن يفصلوا بيننا؟ وإذا استطاعوا التفريق بين هذين الثوبين الباليين فإنهم أعجز من أن يفصلوا بين روحينا وفكرينا. ولكننا مقبلون على أمر عظيم. فإذا تجاوزناه …» وسكتت وحوَّلت وجهها عنه خشية أن يبدو له ما يتردد في مآقيها. أما هو فأسكره تعبيرها ومرآها، على أنه لم يفهم مرادها فقال: «وما الذي يخيفك؟ لا أعهدك تخافين، ولك من تعقلك وثبات جأشك حصن حصين. وهذه روحي بين يديك فارمي بها من تشائين.» قالت: «سلمت روحك يا ضرغام. إني لا أخاف شيئًا؛ إذ ليس في الأرض قوة تستطيع أن تبعدني عنك. وكنت أحاذر أن أجد من أبي تغيرًا أو فتورًا، فذهب حذري اليوم. ولكنه مريض، فعساه أن يُشفى قريبًا.» قال: «يُشفى بإذن الله. وهل تخافين شيئًا آخر؟» قالت: «أتوقع أمورًا كثيرة تخيف غيري، ولكنني لا أخافها لأني أعدها أعراضًا وأنت الجوهر، فإذا كنت لي فقد ملكت الدنيا وما فيها — اعذرني على هذا التصريح وخاطبني بمثله فإني لا أحب التكتم والتردد!» فقال بلهفة وعزم ثابت: «تريدين أن أصرح بأني أحبك، أو بأني أترك الدنيا لأجلك؟ إن هذا لا حاجة لي إلى ذكره، والظمآن لا يُطلب منه الاعتراف بحاجته إلى الماء، والتعس لا يُسأل هل يتمنى السعادة. وأنا بغيرك ظمآن بلا ماء، وجسم بلا روح، وأنت سعادتي وحياتي وأنت كل شيء!» فأبرقت عيناها وسُري عنها وقالت: «هذا كل ما أبغيه. إني أسمع صوت سامان في الدار، وربما دخل علينا فيقطع حديثنا، فنحن على العهد وعند إبلال أبي سأفاتحه في هذا الشأن ثم أخبرك بما يكون.» قالت ذلك وتحفزت للوقوف، فإذا بخيزران قد دخلت وفي وجهها انقباض ولهفة، فنهضت جهان لملاقاتها فابتدرتها خيزران قائلة: «إن سامان داخل على مولاي المرزبان.» قالت: «وهل أتى الموبذ معه؟» قالت: «كلا». فهزَّت رأسها وحرقت أسنانها ثم قالت لها وهي تشير إلى ضرغام: «هل رأيت ضرغامًا؟» قالت وقد علاها الخجل: «لم أَرَه يا سيدتي. اعذريني لدخولي بهذه اللهفة فقد شُغلت بأمر سامان لعلمي أن أباك يستاء من دخوله عليه وقد أوصى بألا يدخل عليه أحد.» وتحوَّلت إلى ضرغام فحيَّته باحترام وهمَّت بتقبيل يده. فردَّ التحية وابتسم لها، وكان يستأنس بها لعلمه بحبها لجهان، وقال: «ما لي أراكم تخافون دخول سامان على أبيه؟!» قالت جهان: «لأن أبي تكدَّر منه أمس لإهماله المجيء بالموبذ إليه.» قالت ذلك وخرجت وهي تقول: «سأذهب إلى أبي ثم أعود.» لبث ضرغام في مكانه وسارت جهان حتى أتت غرفة أبيها، فرأت سامان واقفًا بالباب والحاجب يحول بينه وبين الدخول وهو يجادله مغضبًا، فقالت: «ما بالك يا أخي؟» قال: «إن هذا الرجل يمنعني من الدخول على أبي.» قالت: «لا تغضب فإن أبانا في فراشه، وقد صرفني وأدخل المهتر ليكلمه في بعض الشئون. هل رأيت الموبذ؟» قال: «لا. لم أجده.» قالت: «ألا تعلم أن رجوعك وحدك يغضب أبانا؟» وبينما هما في ذلك سمعا المرزبان ينادي من الداخل: «لا تدخلوا عليَّ سامان، ادخلي يا جهان.» فالْتفتت إلى أخيها وقالت له هامسة: «اذهب يا أخي إلى الإيوان، ولا تكدر أبانا، وسأعود إليك حالًا.» فأطاع وانصرف. ودخلت هي فوجدت القيِّم جاثيًا بين يدي أبيها وأمامه أوراق ودفاتر وقلم ودواة، ورأت أباها جالسًا في السرير وقد تغيَّر وجهه وبدا الجد في عينيه، فلما دخلت رفع بصره إليها وابتسم، فبشَّت له ودنت منه فقبلت يده وقالت: «وكيف أنت الآن يا أبتاه؟ عسى أن تكون بخير!» فضمَّها إليه وقبَّلها وأطال معانقتها، وأحست بدمعة حارة سقطت على عنقها فارتجفت ونظرت في وجهه فرأت الدمع في عينيه، فأثر منظره فيها، وكأنه خاف أن تنزعج فقال وهو يتكلف الابتسام: «إنني في خير. لا تخافي. سأعمل كل شيء في سبيل راحتك، اجلسي.» وأشار إلى القيِّم فخرج وأغلق الباب، فأعادت نظرها إلى ما بين يدي أبيها من الأوراق والدفاتر ولم تستحسن أن تسأله عنها. أما هو فتثاءب وأشار إليها أن تساعده على التوسد فأعانته، فاستلقى واتكأ على الوسادة وقال: «علمت أن أخاك سامان عاد هذه المرة أيضًا وحده، فإنه لا يرى في مجيء الموبذ نفعًا له.» فقالت: «لقد أرسل ضرغام خادمه ليأتي بالموبذ، ولا يلبث أن يجيء، فاطمئن.» وقد ذكرت ضرغامًا عمدًا لترى ما يبدو من أبيها، فقال: «إن ضرغامًا جل كريم النفس، وقد سررت بلقائه وهو جدير لأن يكون أخًا لك لا سامان الشرير.» فسرها ثناؤه على حبيبها، وهمَّت بأن تفاتحه في شأنه وإذا بالحاجب دخل يقول: «الموبذ بالباب ومعه الأفشين.» فلما سمع اسم الأفشين أشرق وجهه وبغت وقال: «والأفشين أيضًا؟!» قال: «نعم يا سيدي.» أما جهان فلما سمعت اسم الأفشين انقلب سرورها كآبة، ووقفت كأنها تحاول الفرار من رؤية ذلك الرجل، ولكنها تجلدت ولبثت تنتظر أمر أبيها فقال لها: «لا بأس من بقائك هنا إذا شئت، ولك الخيار.» قالت: «أتأذن لي في الخروج؟» قال: «اخرجي واطمئني.» فخرجت من باب سري في ناحية من الغرفة، والْتفت المرزبان إلى الحاجب وقال: «يدخل الموبذ والأفشين.» فدخل الموبذ والأفشين وراءه، وتوجه الموبذ أولًا إلى الصنم فوقف أمامه وانحنى متمتمًا، وفعل الأفشين فعله. فأشار المرزبان إليهما فجلسا، ثم رحَّب بهما ووجه كلامه إلى الأفشين قائلًا: «لقد أبطأت عليَّ حتى اشتد شوقي إليك.» فقال وهو يحك ذقنه وقد شاب معظمها لأنه كان في نحو سن المرزبان: «كان قد طرأ عليَّ ما عاقني فلم أصل إلى فرغانة إلا اليوم. كيف أنت؟» قال: «كما تراني. وقد جئت في إبان الحاجة إليك.» ثم الْتفت إلى الموبذ وقال: «أرسلت في طلبك غير مرة فلم تأتِ.» قال: «لم يأتني أحد قبل الآن.» قال: «أرسلت إليك بني سامان أمس واليوم فلم يجدك في كارشان شاه.» فاستغرب الموبذ كلامه وقال: «إني لم أفارق المعبد منذ ثلاثة أيام لمناسبة العيد وتقاطر الناس إلى فرغانة للتبرك وإيفاء النذور. وكيف تدعوني ولا أجيب؟! وكيف يسأل عني في المعبد ولا أعلم. لا شك أن ولدنا سامان لم يسأل عني أو لعله سأل غير العارفين.» فحرق المرزبان أسنانه غيظًا وقال: «بل هو لم يسأل عنك. ولا أدري غرضه من ذلك أو لعلي أدري ولا أقول، ولقد آن وقت الجزاء وهذا أخي الأفشين شاهد.» ثم صفق فدخل الحاجب فقال له: «لا تأذن لأحد علينا وأغلق الباب.» كانت جهان قد غادرت الغرفة منفعلة مضطربة لمفاجأتها بقدوم الأفشين، ولما لاحظته من اهتمام أبيها بإعداد الورق والدواة والقلم. فسارت توًّا إلى ضرغام فرأته واقفًا بالإيوان وحده، فأنستها رؤيته هواجسها، وسُري عنها. أما هو فتقدم نحوها وسألها عن أبيها، فقالت: «إنه أحسن حالًا من الصباح وقد ذكر أنه كان يتمنى أن تكون لي في مكان أخي سامان. فليته علم أنك خير منه مكانًا.» قالت ذلك ونظرت إليه نظرة أغنته عن شرح كثير. فقال لها وعيناه تضحكان: «أشكرك على حسن ظنك يا جهان. وكيف تركت أباك الآن؟» فتنهدت وقالت: «ألم تعلم بمجيء الأفشين والموبذ؟» قال: «هل جاء الأفشين أيضًا. إني لم أرَ وردان بعد.» قالت: «أتيا معًا … هذا الذي كنت أتخوفه! ولكن لا بأس ما دام أبي أحسن حالًا.» قال: «وأين هما؟» قالت: «هما عنده في خلوة وقد خيرني بين البقاء معهم وبين الخروج ففضلت الخروج للتخلص من رؤيتهما ولكي أشاهد حبيبي ضرغامًا.» قال: «لعل خلوتهم ستطول. فهل تأذنين لي بالانصراف برهة ثم أعود؟» قالت: «إلى أين تتركني؟» قال: «إذا شئت بقيت، ولكنني لن أطيل الغياب.» قالت: «اذهب في حراسة أورمزد ولا تبطئ.» فلما سمعها تذكر أورمزد قال: «لقد أذكرتني شيئًا لا بأس من سؤالك عنه فهل أقول؟» فحدَّقت في عينيه فقرأت فكره وقالت: «أظنك ستسألني عن أورمزد وأنت تدين لغيره أليس كذلك؟» فدهش لفراستها وقال: «نعم هذا سؤالي.» قالت: «إني أدين بما تدين به لأني لا أحب فراقك في الدنيا ولا في الآخرة.» ففرح لتعلقها به وقال: «ولي سؤال آخر!» قالت: «قل ما بدا لك.» قال: «أنت تعلمين غرام والدتي بالإقامة بالعراق لسرٍّ لا أعلمه.» فقطعت كلامه وقالت: «إني أكون حيث تشاء أنت، فإن الدنيا كلها حيث تقيم، ولا يهمني شيء مما لنا في فرغانة أو غيرها.» فقال: «قد نلتُ الآن ما أتمناه وقبضت على السعادة بيدي. فهل تأذنين في ذهابي لأرى رجال الوفد الذين صحبتهم فأتخلص منهم ثم آتي الليلة؟» قالت: «اذهب في حراسة الله.» فودَّعها وخرج بعد أن أرسل من يستقدم وردان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/8/
موت المرزبان ووصيته
خُيل إلى جهان أن قلبها يتحفز للذهاب في أثر ضرغام، فتماسكت واسترجعت رشدها وفكرت فيما هي فيه من أسباب القلق والاضطراب لمرض أبيها فإنه إذا مات تصبح يتيمة ليس لها إلا أخوها، وهو لا يُؤمن جانبه ولا يُعول عليه. وذكرت خلوة أبيها بالموبذ والأفشين فخفق قلبها خوفًا من تلك الخلوة وقامت في ذهنها هواجس كثيرة ومخاوف شتى؛ لما تعلمه من مطامع الموبذان ودسائسهم ولا سيما بعد أن تحولت الكهانة إلى مرتزق لهم ومورد للأموال. والعقائد إذا تقادم عهدها وتولاها أهل المطامع دبَّ إليها الفساد وأصبحت شرًّا على الناس من الكفر. وعلى ذلك لم تكن جهان شديدة الأخذ بأسباب دينها. وإنما كانت على الزردشتية مذهب أبيها على غير تفهُّم أو نقد؛ لأنها وُلدت فيها فشبَّت عليها كما شبَّت على سائر عاداتها وأخلاقها. وهذا شأن السواد الأعظم من العامة فإنهم يدينون بما يألفونه من صغرهم، وإذا كبروا وتثقفوا ودلَّهم العلم على مظنة للنقد فيه اغتفروها في جانب ما غُرِس في قلوبهم وعقولهم من مبادئه، فأصبح الدين كالجنس يغضب له المرء وينصره غيرة وحمية كما ينصر عرضه ويذب عن حياضه. وكانت تنظر إلى الموبذان وأمثاله مستخفة بما يقولونه ويزعمونه، فلم تكن تحذرهم لاعتقادهم أنهم يعجزون في كل شيء عدا اكتناز الأموال. فلم يكن اختلاء الموبذ بأبيها ليهمها لو لم يكن الأفشين معه وهي تكرهه بلا سبب ظاهر. وتخافه لأنه ملك ذو أعوان وجند. على أن أباها كان يجلُّه ويعول عليه. ووقع بصرها عفوًا على بساط في الغرفة رأت عليه من الرسوم المزركشة صورة أسد رابض عيناه كأنهما شرارتان فتذكرت حبيبها لأن اسمه من أسماء الأسد. فلما ذكرته ذهبت مخاوفها لعلمها بأنه ما دام بقربها فلا خوف عليها. بقيت جهان مستغرقة في هواجسها، حتى سمعت وقع أقدام أدركت أنها لخيزران القهرمانة فخفق قلبها توقعًا لخبر تسمعه، فلما دنت منها قالت: «إن سيدي المرزبان يدعوك إليه. تجلدي يا جهان وكوني كما أعهدك.» فأوجست خيفة من تحذيرها ولم تسألها عن السبب اعتمادًا على قدرتها في تحمل الصدمات، وأكبرت أن تبدي جزعًا فمشت مسرعة، وذكرت أنها سترى الموبذ والأفشين عند أبيها فانقبضت نفسها وظلَّت سائرة حتى وصلت إلى باب الغرفة فوسع لها الحاجب فدخلت وعيناها إلى سرير والدها. فرأته مستلقيًا وعيناه شاخصتان إلى الباب وقد غشيهما الدمع وتكسرت أهدابهما من البكاء. وحالما وقع بصره عليها ابتسم ابتسامة لا حياة فيها، ولولا بريق تينك العينين وما يتحلى فيهما من الحنو والمحبة لظننته ميتًا. فتمالكت ودنت من السرير، فلما رآها أحس بنشاط جديد فبسط ذراعيه وفتح فاه ليكلمها فامتنع عليه النطق فاكتفت بحركات شفتيه وترامت على صدره، ولولا ثبات جأشها لأُغمي عليها؛ لأنها تحققت في تلك اللحظة أنها لا تلبث أن تصير يتيمة وحيدة. فأمسكت بذراعي أبيها المحتضر ونظرت في وجهه نظرة الاستعطاف كأنها تتوسل إليه ألا يتركها، فسبقتها العبرات وبكت وهي تمسك أنفاسها لئلا يسمع شهيقها وأطرفت لئلا تظهر دموعها. أما هو فلم يفته ما خامر قلبها من الحزن والخوف، وأراد تعزيتها فعصاه النطق ولم يزد على أن حرك شفتيه وحوَّل نظره وأشار بيده إلى الأفشين والموبذ. فالتفتت فرأت الأفشين جالسًا وفي يده لفافة من الورق فلما رآها تنظر إليه بعد إشارة أبيها أراها اللفافة وابتسم لها كأنه يعزيها. وكان الموبذ واقفًا بجانب التمثال يصلي ويتضرع فالْتفت إليها وهو يظهر الأسف والحزن. ففهمت جهان خلاصة ما تمَّ في تلك الخلوة وهو ما كانت تخشاه وتحذر الوقوع فيه. وأعادت النظر إلى المريض وصاحت: «كيف أنت؟ إنك في خير.» فأراد أن يجيبها ويطمئنها والحشرجة تمنعه من الكلام، فجلست بجانبه وأمسكت يده فوجدتها تندى بعرق بارد، فكادت تصيح وتولول لأنها تحققت أنه في آخر ساعات الدنيا، وتجلدت لكنها لم تستطع إمساك دموعها فأطرقت والدمع يتساقط على خديها وقد زادهما احتباس العواطف توردًا وزاد عينيها بريقًا. وأما المريض فإن سرعة تنفسه وخرير صدره ودنو أجله لم تفقده شيئًا من رشده ولا أنسته ابنته الحبيبة، وجاهد كي يطلق لسانه بكلمة يقولها ولكنه غلب على أمره. فلما تحقق عجزه عن الكلام أشار إليها أن تخرج لعله ينام. فوقفت ترتعد مترددة لا تدري أتطيعه فتخرج أن تبقى بين يديه. ثم رأته قد ازدادت حشرجة صدره وأخذ يدير رأسه ويلتفت كأنه يحاول النهوض ولا يقوى عليه، وأخيرًا حدق نظره في جهان فتطلعت في عينيه فرأت ماءهما قد جفَّ وذهب منهما بصيص الحياة وكأنه همَّ بأن يبسط يديه نحوها فلم ترتفعا إلا قليلًا، ثم شهق وأرخى يديه وسكن صدره وهمد جسده وأظلمت عيناه وتراخت أجفانه وبرز أنفه ووجنتاه، واصفر اصفرار الموت ونفش شعر لحيته ورأسه حتى أصبح منظره مروعًا مفزعًا، فصاحت جهان: «وا أبتاه!» وحلَّت شعرها ولطمت وجهها وسمع أهل القصر صوتها، وبلغ الخبر إلى القهرمانة فركضت وأخذت بيد جهان وراحت تخفف عنها وتعزيها. ولما قُضي الأمر أخذ أهل القصر في إعداد المأتم كما هي عادة المجوس، فغسلوا الجثة وألبسوها ثوبًا أبيض ووضعوها على دكة في غرفة كبيرة أخلوها من الأثاث، وجلس الأخصاء حولها. والموبذ يصلي ويدعو وهم يؤمنون ويستغفرون. وبعد هنيهة جاء سامان وكان غائبًا عن البيت وأخذ يندب أباه والناس يخففون عنه، وأما جهان فبعد أن استسلمت للجزع ساعة الوفاة رجعت إلى نفسها فغلب عليها التعقل وإعمال الفكر. وكانت تفكر في ضرغام مصدر تعزيتها الوحيد فأخذت تتلفت لعلها تجده قادمًا فتتعزى برؤيه ومخاطبته. ثم أشار إليها الموبذ أن تتبعه إلى غرفة أخرى، ومشى فتبعته مطأطئة الرأس، وتبعها سامان فلما خلا الموبذ إليهما قال: «لا ينبغي أن تبالغا في الحزن على أخينا الراحل، فإن أورمزد معه لأنه كان رجلًا تقيًا محسنًا، وسنوقد النيران على اسمه ثلاثة أيام ونجعل وقودها الند والصندل. ولا يخفى عليكما أن روح أبيكما لم تفارق هذا المكان بعد ولا تفارقه إلا بعد ثلاثة أيام فلا تحزناها بالبكاء والنوح. وقد أوصى بتفريق الحسنات والمبرات وهو لا ريب عندي من أهل النعيم. ولذلك فإن روحه بعد أن تقضي ثلاث ليال حول الجثة تصعد إلى الأماكن المباركة فتلاقي ضميره على هيئة حورية تقص عليه حسناته وتقوده إلى النور الأبدي. كما أننا سنوالي الصلاة على روحه طول السنة فلا تجزعا. على أني أبلغكما وصيته عن دفنه.» وكانت جهان تسمع مطرقة وتتلقى دموعها بمنديلها، فلما قال ذلك رفعت بصرها إليه وفي عينيها ملامح الاستفهام فقال: «لقد أوصى بأن ندفنه في برج السكوت.» فلما قال ذلك بانت الدهشة على وجه الفتاة وأخيها وقالت: «كيف ذلك؟! إنما يُدفن في برج السكوت عامة الناس والفقراء، ومثل أبي يُدفن في حجرة خاصة.» قال: «نعم ولكنه أوصى بدفنه هناك، وأسرَّ إليَّ السبب الذي بعثه على ذلك ولا أقدر أن أبوح به.» فاكتفت بقوله وسكتت، أما سامان فلم يسكت وقال: «كيف ندفن أبانا المرزبان في برج السكوت وأنت تعلم أنه مدفن العامة، توضع فيه الأجساد على أحجار تعرضها للهواء وتذهب طعامًا للنسور والكواسر فلا يبقى منها إلا العظام ثم تُطرح هذه في البئر العميقة وسط البرج فتختلط بعظام الطغام والمجرمين و…» فاستغرب الموبذ اعتراضه ولم يُعِرْه الْتفاتًا وإنما قال له: «هذه وصية الفقيد بحضور مولانا الأفشين وقد دوَّنها في وصيته التي ستُتلى عليكم بعد بضعة أيام.» قال ذلك وتوجه إلى قيِّم القصر فأوصاه بما ينبغي إعداده للدفن. وقضى القوم بضعة أيام في المأتم وتوابعه من مراسم وتعازٍ وإحسانات وصلوات. وطال انتظار جهان رجوع ضرغام، وشُغلت لإبطائه وزادها هذا حزنًا على حزنها، وغم عليها أن المهمة التي ذهب فيها قد تستغرق أسابيع، والمحب كثير القلق سريع التخوف. ولكنها آنست من أخيها سامان تقربًا وتلطفًا لم تعهدهما فيه قبلًا، فلم يعد يفارقها لحظة، وكلما رآها تتضجر خفَّف عنها. ولم يكن غافلًا عن تعلقها بضرغام وإن لم يفاتحها في شأنه من قبل، فأخذ يكثر من ذكره وبالغ في الثناء عليه، مع أنه كثيرًا ما كان يحسن لها غيره ولا سيما بابك الخرمي. وكان سامان لا يعرف الحب ولا يشعر بجواذب المحبين ولكنه لذكائه ودهائه لم يكن يخفى عليه أمرهم وأوجه الضعف فيهم. ورغم قوة فراسة جهان وسوء ظنها بأخيها، كانت تلتذ بحديثه، وسرها أنه يحب حبيبها ويُعجب بمناقبه وبسالته، فاستأنست به وأخذت تتناسى ما كانت تعهده من نقائصه أو تخافه من مطامعه. ذلك هو سلطان الحب، يعمي ويصم فمهما أُوتي صاحبه من الحكمة والتعقل فإنه يفقدهما إذا وقع في شراكه، وقد يبقى حكيمًا في كلِّ شيء، وقد يُعد من كبار أهل الدهاء والسياسة أو من كبار العلماء أو الشعراء أو الفلاسفة، ولكنه إزاء الحب يكون كالطفل يُقاد بخيط، وقد يغلب عليه الوهم في بعض الأحوال حتى يصدق المستحيل ويعتقد الخرافات إذا كان في ذلك ما يسهل عليه أمنية أو يطمئن له قلبًا. ومن هنا نرى الأب الحنون مهما يبلغ من إثارة الخرافات إذا مرض ابنه وفشلت في علاجه حِيَل الأطباء قادته رغبته في شفائه إلى تصديق ما يصف الدجالون! ••• بقي الموبذ والأفشين يترددان على قصر المرزبان أثناء المأتم قيامًا بواجب العزاء، وسامان في شوق إلى معرفة وصية أبيه. فلما انتهى المأتم جاء الموبذ وطلب الاختلاء بجهان وأخيها، فلما اختلوا أخرج من جيبه أسطوانة من فضة فتحها وأخرج منها درجًا ملفوفًا وقال: «هذه هي وصية أبيكما التي عهد بها إلى مولانا الأفشين بحضوري.» والْتفت إلى جهان وقال: «والحق يُقال أن أباك قد أحسن الاختيار بإلقاء مقاليد الوصية إلى صديقه الأفشين.» هذا ما عهد به المرزبان طهماز في فرغانة، في آخر يوم من أيام حياته، إلى الملك الأفشين حيدر بن كاروس صاحب أشروسنة وقائد جند المعتصم، بحضور الموبذ صاحب بيت كارشان شاه وبمعونة أورمزد العظيم، في اليوم العاشر من شهر خرداد ماه من السنة … للإسكندر. يعهد المرزبان طهماز إلى الأفشين حيدر بن كاروس ملك أشروسنة وقائد جند المعتصم بأن يكون وصيًّا على أهله من بعده يتصرف فيما خلفه من مال وعقار، فيما يعود على الورثة بالخير، بمقتضى هذه الوصية. ولم يخلِّف المرزبان طهماز من الورثة الشرعيين غير ولدين، هما الفتى سامان، والفتاة جهان، وقد أوصى بما يملكه جميعه لابنته جهان وحدها فهي الوريثة للقصر بما فيه والضياع وما فيها من ماشية ودواب ومنشآت، ولها كل ما خلفه من جارية ورفيق وأثاث ومصنوعات وآنية ونقد. يكون ذلك كله ملكًا لها بشرط إشراف صديقنا الأفشين عليه وتدبيره بما يلهمه أورمزد إليه من أسباب النفع لها. أما ولدنا سامان فإنه محروم من هذا الميراث كله، لا يصير إليه منه مال ولا عقار إلا ما يكفي لمعيشته على ما يقدره الوصي. وأما سبب حرماني إياه فلم أشأ أن أدونه في هذه الوصية. ولكن لكيلا يبقى مجهولًا ويذهب معي إلى القبر قصصته على الوصي بحضور الموبذ. على أن يبقى مكتومًا عندهما إلى حين الحاجة. هذه وصيتي كُتبت أمامي، وقد صدَّرتها وختمتها بتوقيعي، وشهد فيها الموبذ. ومن أخلَّ بحرف منها كان ملعونًا خمسين لعنة. وقد فعلت كل ذلك باختياري وأنا في سلامة العقل. وأوصيت أيضًا أن أُدفن بعد موتي في برج السكوت في ضاحية فرغانة، وتُترك جثتي طعامًا للكواسر. وأورمزد يتولى القيام بهذه الوصية ويعين صديقي الأفشين على العمل بها. وكان الموبذ يقرأ وسامان وجهان صامتان، حتى بلغ إلى حرمان سامان من الإرث فتغيَّر وجه الشاب وامتقع لونه، ولكنه تجلد وكظم حتى فرغ الموبذ من تلاوة الوصية فقال له: «كيف حرمني أبي من حقي وأنا ابنه الوحيد؟! هذا لا يكون أبدًا. أنا وارث اسم أبي ولقبه وأما العقار فلي ولأختي جهان!» فقال الموبذ: «قد قرأت عليكما الوصية ولا سبيل إلى غير ما فيها. والرأي في كل حال رأي الأفشين، وقد فرغت من رسالتي فائذنا لي في الانصراف، وسيأتي الأفشين فيتولى العمل بالوصية، والدولة تساعده على تنفيذها بالقوة، فأنصح لك يا ولدي بأن تصبر على ما فاتك من إرث والدك.» قال ذلك وخرج مسرعًا وخرج سامان يشيعه إلى سلم الإيوان. فلما ودَّعه ونزل الحديقة وقف سامان ينظر إليه ويحرق أسنانه ويقول في نفسه: «هذا ما كنت أخافه من مجيئك يا موبذ النحس، كم أرسلني أبي لطلبك وأنا أماطل وأحتال لتأخير حضورك خوفًا من مثل هذه الوصية؛ لأني كنت أشعر بما في نفس أبي عليَّ. نعم أنا أعرف سبب غضبه وما كنت أظنه عرفه، ولكن ذلك لا يحرمني من حقي في الميراث. صدقت يا موبذ إن الأمر بيد الأفشين اللعين وهذا أطمع من نملة. ولعله سعى في الوصاية ليستولي على التركة ويحرمنا منها جميعًا. آه لو كانت جهان تطاوعني لكنا نكيد له كيدًا عظيمًا، ولكنها شديدة التمسك بما يسمونه شرف النفس والأريحية على أني سأكيد لهم جميعًا.» وكان يناجي نفسه بهذه الخواطر وهو ينظر إلى الموبذ الذي غادر الحديقة وركب فرسه وسار في سبيله، ثم رجع سامان إلى أخته. وكانت قد شق عليها أن يكون الأفشين وصيًّا عليها، ولكنها رأت ألا مفرَّ من ذلك. كما شق عليها حرمان أخيها من الإرث، فقالت له: «طب نفسًا يا أخي، إنك لن تلاقي ضيمًا وأنا على قيد الحياة. فأنت أخي وأنا أعوضك عما فاتك من الميراث.» فأطرق ولوى عنقه تذللًا ومسكنة، ثم رفع بصره والدمع في عينيه وقال: «لم يسؤني حرماني من الإرث بقدر ما ساءني سببه، فأي ذنب ارتكبته حتى أُعامَل هذه المعاملة؟!» قالت: «لا أعلم السبب ولا يعلمه إلا الأفشين، وسيسافر إلى بغداد ونبقى نحن والمال بين أيدينا نتصرف فيه كما نشاء.» فشكر لها عطفها عليه، وكظم ما في نفسه، وشقَّ عليه أن يطلع الأفشين والموبذ على سبب حرمانه فسكت، وجلس يفكر في تدبير المكائد ونصب الحبائل، وخاف أن تنتبه أخته لما في ذهنه فشغلها بذكر ضرغام فقال: «لقد أبطأ علينا البطل ضرغام، ولا بد لتغيبه من سبب قهري.» قالت: «يلوح لي أنه بعيد عن فرغانة، فلو كان بها أو قريبًا منها لما فاته خبر المصيبة التي حلَّت بنا، ولعله يعود قريبًا.» فقال: «لو كان هنا لخفَّت المصيبة علينا؛ إني أستأنس بطلعته، لقد سموه ضرغامًا وهو اسم على مسمى. وكم فيه من خصال تندر في سواه!» فوقع ذلك الإطراء في نفس جهان وقوع الماء على الظمآن. ومع علمها أن أخاها يمدحه مجاملة لها، أسرع لسماع الحديث عمن تحب، وأخذت تغالط نفسها في أن أخاها يحبه، وأنها كانت مخطئة في زعمها الأول! وبينما هما في الحديث أتت القهرمانة تنبئ سيدتها بمجيء ضرغام، فخفق قلبها ونسيت حزنها. ولكنها بكت إذ تذكرت إعجاب أبيها به وما كانت تتوقعه من السعادة لو بقي حيًّا. ثم تجلدت وابتسمت له عندما رأته، فحياها وأخذ في تعزيتها، ثم تحوَّل نحو سامان وعزاه فقال سامان: «إن لنا في بقائك تعزية كبرى.» ومشت جهان إلى غرفتها فتبعها ضرغام بلباس السفر فدعته إلى الجلوس وقالت: «لقد كانت مصيبتنا مضاعفة لغيابك يا ضرغام.» قال: «كنت في مكان بعيد اضطررت للذهاب إليه تعجيلًا للفراغ من المهمة التي جئت لإنجازها، ولكن …» وسكت، فسألته: «وماذا جرى؟» قال: «جاءني أمر الخليفة يستعجلني بالرجوع.» فأطرقت ثم قالت: «إن سفرك يسوءني كثيرًا ولكنني …» فقطع كلامها قائلًا: «سأبقى في فرغانة؛ لأن فيها قلبي وعقلي وكل جوارحي.» وانتبه إلى أن سامان يسمعه فأجفل وخجل. فقالت له: «لا تخجل، إن أخي عالم بما بيننا، وأراه يحبك كثيرًا ويعجب ببسالتك ومناقبك، وليس ما يمنعنا من العلانية، أما بقاؤك هنا فهو أمنية حياتي، ولكنني أرى أن تلبي طلب الخليفة؛ لأنه أكرمك ورفع منزلتك وقد يكون في حاجة إلى حسامك أو رأيك. وهل لم يرسل الخليفة في طلب الأفشين أيضًا؟» قال: «لم يبلغني شيء عن دعوته، ولكنني أظنه يطلبه قريبًا؛ لأن الأمر حرب والأفشين كبير القواد. ولكن كيف أسافر وأنت في هذا الحزن وكيف أطمئن وأنت …!» فقطع سامان كلامه قائلًا: «لا بأس عليها؛ لأن أبانا عهد إلى مولانا الأفشين بتولي شئونها.» وارتجفت شفتاه من الغضب والحقد. فالْتفتت جهان إليه وقد شقَّ عليها أن يفشي ذلك لضرغام فيقلقه. وهذا شأن المرأة العاقلة فإنها تكتم متاعبها عن رجلها ولا تظهر له إلا ما يسره، ما لم تضطر إلى غير ذلك. وعجب ضرغام مما سمعه عن وصاية الأفشين، ونظر إلى جهان مستفهمًا فقالت: «إن الأفشين صديق لأبي، وكان يثق فيه كثيرًا، فأراد أن يكرمني ويهيئ لي أسباب الراحة بعد موته فأوصاه بي بعهد كتبه له وأشهد الموبذ عليه. وما في ذلك شيء غريب.» فأطرق وأعمل فكرته، فرأى أن الأفشين معه في العراق، فوصايته خير من وصاية رجل من أهل فرغانة لا سبيل له إليه. فمال إلى السفر وأحب أن يسمع رأيها في سفرها معه، فنظر إليها وعيناه تسبقانه إلى الكلام وهي لا تحول نظرها عنه فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد يبقى الأفشين هنا أيامًا ليدبر ما عُهد فيه إليه، وفي هذا ما يطمئنك في بعدنا.» فأدركت غرضه وقالت: «لا يطول بقائي هنا إلا ريثما تنقضي عدة الحداد، ثم أسافر إلى بغداد؛ فإني لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد بعد وفاة أبي، وقد أصبحت رغم ما ألقاه من مؤانسة الفرغانيين ومحبتهم أشعر بأني غريبة بينهم، ولا سيما بعد أن تسافر.» وكان سامان يسمع ما يدور بينهما ولا يشعر؛ لأن قلب الأجرود مغلق لا نافذة فيه ولا سبيل للحب إليه، ولكنه رأى من الحكمة أن يجاريهما فلما سمع كلام أخته قال: «إن جهان ولا شك مشتاقة إلى رؤية والدتك في بغداد، فهي صديقتها وكانت تحبها وتأنس بها.» فالْتفتت جهان إلى أخيها لفتة تأنيب وقالت: «أنا لا أحب غير الصراحة، لكأنك تظنني أخشى التصريح بحبي ضرغامًا، على أني لا أرى في الحب عارًا، ولو مد أورمزد في أجل أبي عامًا آخر لانتهى الأمر على ما تمنيناه. فماذا ترى أنت؟» فقال سامان: «لا أرى بأسًا بحبك ضرغامًا؛ إنه أهل لذلك، ولو لم تسبقيني إلى حبه لسبقتك أنا إليه. لولا أنه لا يرضى بهذا البدل!» فراقها مزاح أخيها، على ما في قلبه من الغيظ منذ سمع الوصية. ولكنها كانت تعرف فيه الكظم والدهاء والحقد. فلما سمعت مزاحه نظرت إليه شذرًا في غير غضب، ثم وجَّهت كلامها إلى ضرغام قائلة: «إن سفرك يسوءني، ولكنه واجب، ولا يمضي إلا القليل حتى ألحق بك.» فقطع سامان كلامها قائلًا: «وأنا أكون في خدمتها حتى أصل بها إليك، أو إلى والدتك.» فأتمَّت كلامها قائلة: «ولا تظن شيئًا من حطام الدنيا يحول بيني وبينك وقد أكتب إليك قبل سفري.» قالت ذلك وهي تشعر بما يهددها من التعب ولكنها كانت كثيرة التعويل على نفسها كبيرة الثقة بتدبيرها. أما ضرغام فكان يخشى أن تمنعه من السفر وهو راغب فيه تحقيقًا لآماله، فلما رآها تدعوه إليه زهد فيه وآثر البقاء، فسكت وهو لا يعلم بماذا يجيب، فأدركت تردده فقالت: «إن بقاءك معي أكبر أسباب سعادتي، ولكن القائد الباسل ليس من شأنه إلا أن يلبي الدعوة، فما بالك وهي موجهة إليه من الخليفة مالك رقاب الناس؟!» وقال له سامان: «كن مطمئنًّا فإني في خدمتها حتى تصل إليك سالمة.» ولم يكن ضرغام ممن يتخلفون عن أداء الواجب، ولكنه ظنَّ أن في سفره وحده ما يسوء جهان؛ لأنها لا تستطيع مصاحبته قبل انتهاء أيام الحداد، فلما رآها ترغبه في السفر سُري عنه فقال: «إذا كان هذا ما تريدين فأنا طوع أمرك، وغدًا أسافر إن شاء الله.» وأحس سامان بثقل وجوده في تلك الساعة، فنهض بحجة أن لديه أمورًا خاصة لا بد من ذهابه لإنجازها ثم يعود، فقالت له جهان: «لا تطل غيابك كعادتك فقد تغيرت الأحوال الآن وأصبح وجودك في القصر ضروريًّا.» فأشار مطيعًا وخرج مسرعًا يتعثر بأذيال قبائه. أما ضرغام فلما رأى نفسه في خلوة مع جهان شعر كأنه في عالم غير هذا العالم، ونسي السفر والحرب والرتب والألقاب، وتمنى لو تتحول تلك الساعة إلى دهر أو تمتد إلى الأبد، لا يلتمس معها طعامًا ولا شرابًا ولا ثراء، كأنه تجرد عن المادة ورأى في تقارب روحيهما معنًى لا يشوبه شيء مما يفتقر إليه البدن أو تجر إليه الشهوات. والحب تجاذب بين الأرواح لا يفسده أو يضعفه غير الجسد بشهواته وميوله؛ ولذلك لا يبرح قويًّا ما دام عذريًا. فمن رغب في بقاء الحب فلينزهه عن شهوة الجسد. فإذا بادل المحب حبيبته حبًّا بحب أتته السعادة صاغرة وأنبأ الملأ الذين عجزوا عن تمثيل النعيم أنه استمتاع الأرواح بالحب الطاهر المنزه عن أغراض الجسد — وقد يعد الناس هذا الحب خيالًا شعريًّا، ولكن ما أدرانا أن هذا الخيال لا يكون حقيقة في وقت من الأوقات. ولا خلاف على كل حال في أن اجتماع الحبيبين بعد فراق طويل، مثل اجتماع جهان وضرغام، يمثِّل السعادة الحقيقية. ولعل جهان كانت أشد شعورًا بتلك السعادة بعد ما نال الحزن من قلبها بموت أبيها. والنفس الحزينة أحوج إلى التعزية وأشد شعورًا بها من سواها. فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وما حديثهما إلا التشاكي، وقد نسيا موقعهما وطال حديثهما، ولو لم تدخل عليهما القهرمانة خيزران لبقيا في غفلة عن الوجود وأهله. وكانت خيزران لا تترك جهان برهة طويلة وحدها لئلا تستسلم للأحزان، وكانت تحسبها وحدها بعد خروج سامان فأتت تفتقدها، فلما رأت ضرغامًا عندها خجلت وتراجعت، فنادتها جهان فدخلت وقد أذهلها ما رأته في ذينك المحبين من ظواهر الهيام كتورد الوجنتين وبريق العينين وشخوص كل منهما إلى رفيقه ببصره وسمعه، فأيقظهما دخولها ونقلهما من عالم الأرواح إلى عالم الأجساد. فحيَّت ضرغامًا وسألت جهان عن حالها وعما تحتاج إليه. فقالت هذه: «لا أحتاج إلى شيء. ولكن كيف رأيت ضرغامًا يا خيزران؟» فأجفلت القهرمانة لأنها لم تكن تتوقع سماع هذا السؤال وقالت: «تسألينني عن رجل وقع منك هذا الموقع وأنت أعلم مني بأقدار الناس. فمن أين لمثلي أن تبدي رأيًا، وغاية جهدي أن أتوسل إلى أورمزد ليمنحكما ما تتمنيان!» ثم سألتهما عن سامان فقالت: «خرج من القصر على أن يعود على عجل، فعسى أن يصدق.» ووقفت فوقف ضرغام وقال: «أتأذنين لي في الانصراف؟» فقالت: «يعز عليَّ سفرك، ولكن …» ثم تجلدت وقالت: «سر محروسًا وكن مطمئنًّا فإني لا ألبث أن ألحق بك فقد كرهت الإقامة بهذه البلاد.» فودَّعها وخرج، وكان وردان في انتظاره مع بعض أهل القصر فأمره بإعداد ما يقتضيه الرحيل إلى العراق.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/9/
بين الأفشين وجهان
عادت جهان إلى القاعة وقد فارقها قلبها وفقدت رباطة جأشها، فندمت على ترغيب ضرغام في السفر، وأخذت تفكر فيما هي فيه، فعزمت على أخذ أمورها بالحزم والتعقل حتى تتخلص من تلك الوصية أو ترى سبيلًا آخر. ومضى النهار وسامان لم يعد. وفي اليوم التالي نهضت مبكرة وضفَّرت شعرها ولبست ثوبًا أسود وتزمَّلت فوقه بمطرف من الخز الأسود، وغطَّت رأسها بنقاب أسود ووجهها من وراء ذلك السواد كالقمر، لو أن في القمر تلك المعاني، أو لو كان فيه مثل تينك العينين الساحرتين! وخرجت إلى الحديقة تتمشى بين أشجارها متشاغلة بالتنقل من شجرة إلى أخرى حتى وصلت إلى مقعد فقعدت واستغرقت في تأملاتها، وإذا بالقهرمانة تأتي مسرعة تقول: «سيدتي، أنت هنا؟» قالت: «ما وراءك؟» قالت: «جاء … جاء الأفشين، وهو يطلب أن يراك.» لم تستغرب جهان الخبر؛ لأنها كانت تنتظره بل فرحت بقدومه لتعرف غرضه عسى أن ترى وسيلة للنجاة من وصايته. فنهضت وسألت: «أين هو؟» قالت: «في الإيوان ينتظر قدومك.» فمشت مشية الجلال كأنها ملك يحف به الأعوان لا تبالي ما ينتظرها لاعتمادها على قوة جنانها وعزة نفسها، حتى أتت القصر، فصعدت الدرجات المؤدية إلى الإيوان متشاغلة بمخاطبة القهرمانة في شئون لا أهمية لها، حتى أطلَّت على باب الإيوان فرأت الأفشين جالسًا متصدرًا، فلما رآها خفَّ لاستقبالها، وهو يومئذ في نحو الستين من عمره وقد خضب لحيته حرصًا على مظاهر الشباب. وكان طويل القامة كبير العينين مستطيل الوجه والعنق، وقد تجعد جبينه وبرزت وجنتاه، وعلى رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة من الخز الموشى، ولبس قباء بني اللون تظهر السراويل من تحته ترف على قدميه، وفوق القباء جبة سوداء. تمنطق تحتها بمنطقة مرصعة علَّق بها سيفًا قبضته مرصعة. ومشى لملاقاتها مشية معجب بمنصبه، يحسب الترحيب بها تلطفًا أو تنازلًا، فلما دنا منها ابتسم وقال: «مرحبًا بعروس فرغانة، كيف أنت اليوم؟» ومدَّ يده لمصافحتها فمدَّت يدها فأخذها وتباطأ في الإفراج عنها، فاقشعر بدنها وأحست بنفور دلها عليه قلبها ولكنها أجابته عن سؤاله فقالت: «إني في خير، تفضل اجلس.» فتثاقل حتى جلست، ثم جلس على كرسي أمامها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فلمحت فيهما معاني زادتها نفورًا منه فأطرقت حياء وترفعًا، فحمل ذلك منها على محمل الحزن فقال لها: «إن المصيبة التي أصابتك كبيرة يا عزيزتي؛ لأن موت أبيك — رحمه الله — خسارة لا تُعوَّض، وأنت تعلمين ما كان بيننا من صلات المودة، ويؤكدها أنه قد وكل إليَّ الاهتمام بشئونك بعده، ولم يفعل إلا لعلمه بمنزلتك عندي. ألم تسمعي ذلك منه في حياته …؟ ألم يقل لك كم أنا معجب بتعقلك وذكائك.» فاستغربت دخوله في الحديث على هذه الصورة، ولكنها سايرته فقالت: «كثيرًا ما سمعت أبي يذكر مودتك ورفعة مقامك، والأفشين صاحب أشروسنة مشهور ليس في فرغانة ولا أشروسنة من لا يعرف اسمه أو سمع بأعماله.» فسرَّه إطراؤها وجرَّأه على التقدم خطوة أخرى نحو الغرض الذي طالما كتمه فقال: «لم أسألك هذا السؤال لأسمع إطراءك ومدحك وإنما أردت سماع الجواب عن سؤالي. فهل لم تسمعي من أبيك عما لك من المنزلة عندي؟» فلم يفتها ما يعنيه أو يضمره، ولكنها تجاهلت وقالت: «لا أذكر أني سمعت شيئًا من ذلك، ولا أظنك أحسنت الظن بي إلا لأنك تعدني من بعض أولادك كما تعد أبي أخًا لك، فشكرًا لك على هذا الإحساس، وهذا ما يشجعني على أن تجيبني إلى طلب لي عندك.» قال: «وما هو؟» قالت: «رأيتك تثني على تعقلي وذكائي، فإذا كنت عند حسن ظنك فما معنى الوصاية عليَّ؟» فضحك وقال: «إن الوصاية يا عزيزتي لا تسلبك شيئًا من هذه الخلال!» فقالت: «إنك ملك وقائد، ولك من المهام والأعمال ما يشغلك عن الاهتمام بمثلي، وأنت مقيم بالعراق وأنا بفرغانة، فهل ألقيت أثقال الوصاية عنك؟» فقال: «كلا … كلا! إني لا أستطيع أن أخالف وصية أبيك، ومهما تكلفني من الأعباء فهي هينة ما دامت في سبيل خدمتك، وهذه أمنية طالما تمنيتها، وأما البعد بين العراق وفرغانة فأمره سهل، فإما أن تنتقلي إلى العراق أو أنتقل أنا إلى فرغانة، ولا بد من أن نكون معًا على كل حال!» فتحققت غرضه ولكنها لم تشأ أن تفهم مراده فقالت: «لا أرى باعثًا على هذا الارتباط يا مولاي.» فقال وهو يستعطفها: «لا تقولي مولاي.» فقالت: «يا أبت أو يا عماه، كما تشاء، إني لا أرى داعيًا لهذا الارتباط.» فقطب حاجبيه وابتسم، ثم قرَّب كرسيه من كرسيها وقال: «إن قولك يا عماه يسيء إليَّ أكثر من قولك يا مولاي. لماذا لا تخاطبيني كما أخاطبك؟» قال ذلك وأخرج من جيبه عقدًا من الجوهر يساوي مالًا كثيرًا ومدَّ يده نحوها والعقد يتلألأ في كفه وقال: «ما لي أناديك يا عزيزتي فتنادينني يا عمي؟!» فحوَّلت جهان وجهها عنه وهي تنظر إليه شزرًا وتباعد كرسيها، ووضعت يديها وراء ظهرها وقالت: «لا يا سيدي، لا حاجة لي إلى الجواهر، فإني حزينة ولا أرى مع ذلك مسوغًا لهذا الخطاب.» فأظهر استغرابه من نفورها وقال: «أهكذا تعاملين رجلًا أقامه أبوك وصيًّا عليك؟ هبي أني من عامة الناس فاحترمي وصية أبيك.» فقالت بصوت هادئ يزينه وقار وترفُّع: «كان الأولى أن تبدأ أنت باحترام تلك الوصية أيها الملك والقائد!» فقال بنغمة الفائز الظافر: «أتظنين أباك لم يوصِّ إلا بما في تلك الورقة؟ إنه أوصاني وصية شفاهية لا بد لي من تنفيذها.» فقالت والازدراء بادٍ في شفتيها وعينيها: «لو كان أبي حيًّا ما قَبِل منك ذلك.» فابتسم وأبرقت عيناه بريقًا أزعجها، وقال بلحن الهائم الولهان: «هبي أنه لم يقل شيئًا من ذلك، ألا يكفي أن أقوله أنا. يلوح لي أن ما ظننته من تعقلك وذكائك لم يكن في محله؟ أيسوق إليك ملك أشروسنة عبارات التقرب والتودد وتجيبينه بالخشونة والنفور؟!» فنظرت إليه نظرة ملؤها الاستغراب والدهشة وقالت وفي كلامها تهديد: «قف عند هذا الحد من التلميح، واحذر أن تنزع إلى التصريح، إن ملكك وإن ضخم لا يساوي عندي شيئًا.» قال: «يظهر أنك لم تفهمي مرادي. ألم تفهمي بعد؟ إني أحبك يا جهان، نعم إني أحبك.» قال ذلك وقد ازدادت عيناه بريقًا وبدا فيهما الاحمرار. فلما سمعت ذلك نهضت عن كرسيها ونفرت نفور الظبي من الأسد، وقالت: «قلت لك قف عند حد التلميح فلم تصغِ، أما وقد تجاوزته، فاعلم أني لا أسمح لك بمثل هذا الخطاب. وهل يليق بك وقد اشتعل رأسك شيبًا أن تخطب محبة فتاة أصغر من بعض أبنائك؟» فتنهد الأفشين تنهدًا حارًّا وقال وهو يتذلل ويتلطف: «آه يا جهان! أتحسبين الحب محرمًا على غير الشبان؟ إني أرى الكهولة أولى به وأقدر عليه. إن الناس مخطئون بما يتوهمون فلا شأن للسن بالحب.» ثم اعتدل في مجلسه وأشار إلى صدره وقال: «إن في هذا القلب من لواعج الغرام ما لا يتسع له صدور الشبان. ولقد كنت شابًّا وأنا اليوم كهل، وأقسم لك بما تعبدين أني أشد كلفًا وأعرق في الحب من قبل، ويدلك على ذلك أني وأنا الملك السيد والقائد الباسل أترامى عند قدميك لأخطب ودَّك وألتمس رضاك متذللًا متصاغرًا.» وترامى عند قدميها وقال: «فإذا أطعتني رأيتني عاشقًا يبذل نفسه في سبيل سعادتك، وكنت الملكة النافذة الكلمة في العراقين وفارس وخاراسان وأشروسنة وفرغانة. وإن أبيت وظللت على خطئك …» فقطعت كلامه وهي تنظر في وجهه مستخفة وقالت: «انهض يا حيدر، انهض يا ابن كاروس، انهض يا ملك أشروسنة وارجع إلى رشدك ودع ما تقول وأنا أصفح عنك وأغضي عما فرط منك وأكتم خبر جرأتك. إنه لا ينبغي أن تكون فتاة مثلي أربط منك جأشًا وأكثر تعقلًا.» فوقع كلامها وقع السهم في قلبه فنهض يحرق أسنانه وقال: «لقد قتلتني بعنادك، فلا تحسبيني عاجزًا عن إرغامك؟ وارجعي إلى صوابك وفكري فيما عرضته عليك من أسباب السعادة ولا تعملي عمل أهل الجهالة، واعلمي أنك وما تملكين في قبضة يدي. فإذا أطعتني كنت أنا وما أملك في قبضة يدك!» فهاج غضبها ودبَّت الحمية في عروقها وحدَّثتها نفسها بأن تزيده تأنيبًا، لكنها أمسكت لعلمها أنها لا تقوى على مناوأته وهو ملك وعنده الجند والعوان، وبيده عهد أبيها بالوصاية المطلقة عليها، فلا ينصرها عليه حاكم ولا ينجيها منه سلطان، إلا إذا كان في دار الخلافة فربما استعانت عليه بالخليفة فينصفها. فرأت من الحكمة أن تستعين عليه بالتعقل والتدبير، فتمالكت جأشها بما فطرت عليه من قوة الإرادة وقالت بصوت خافت: «سمعتك تستمهلني ريثما أفكر فيما عرضته عليَّ، وأنا أمهلك لتفكر فيما قلته لك، ونرى بعد ذلك ما يكون … وسأكتم ما بدا منك وأبذل جهدي في نسيانه حتى يكون مكتومًا عني أيضًا؛ لأني أضن بصديق أبي ووصيه أن يُقال عنه ما قد يُقال عنك لو علم الناس أقوالك. فهل تقبل ما أقوله لك؟ وإذا أبيت إلا الطيش فأنا أولى بالطيش منك ولا تحسبني فتاة ضعيفة.» فأحس الأفشين بعظمة تلك الفتاة، ولم يَعُد يقوى على النظر في عينيها، كأن الغضب زاد كهربائيتهما فتطاير منهما الشرر. ووقع كلامها على رأسه كالصاعقة وقال: «ما أنت فتاة ضعيفة ولا أنا من أهل الطيش، ولكنك ترين ما يرى سائر الناس أن الحب مقصور على الشبان، وأنا أريك رأي العين أن الكهول أشد هيامًا. إن بين جنبيَّ قلبًا يضحي بالملك وبالحياة في سبيل محبوبه، فهل يفعل الشبان ذلك؟ وهم إنما يحبون عن خفة وجهالة لا يثبتون في الحب ولا يرعون زمام المحبوب. أما وقد استمهلتني فها أنا ذا أجيب طلبك راجيًا أن ترجعي إلى رشدك، وأيام الحزن على صديقي أبيك لم تنقضِ بعد، فنحن الآن في أوائلها، ولعلي لا يخيب ظني بعد انقضاء أجل الحداد، وبعد أن تتحققي صفاء نيتي فيما أرجوه لك من الخير في دنياك، فأعملي فكرك على مهل.» فأغضت عن طويل شرحه في بث عواطفه وآماله. وقالت بصوت هادئ وجأش رابط: «بقيت لي كلمة أحب أن تسمعها بوصفك وصيي الأمين، هل قمت بحق الوصية فدبَّرت شئون القصر وأهله؟» قال: «فعلت كل شيء؛ فالزراع عاملون في الحقول، والقيِّم يدير شئون القصر، وأنا أحرص على مالك منك.» ومدَّ يده والعقد لا يزال فيها وقال: «والعقد ألا تقبلينه؟ خذيه إذا شئت.» فحوَّلت وجهها عنه مشمئزة وقالت: «لا أريد قبول شيء يذكرني بهذا الاجتماع، ولو استطعت أن أجرِّد هذه القاعة من فراشها وأثاثها لفعلت حتى لا أرى شيئًا شهد هذا الموقف أو سمع هذا الكلام. والآن اسمح لي أن أشكر لك عنايتك بشئون التركة، وذلك ما كنت أرجوه من الأفشين صديق أبي الأمين على أهله. وأخيرًا هل لي أن أعرف لماذا حرمتم أخي سامان إرثه؟» فأحسَّ الأفشين عند سماع أقوالها أنه يتصاغر أمامها، وأنها هي تعظم وتعلو حتى كاد يتلعثم لسانه وأغلق عليه. وإنما غلبته على بسالته وسلطانه بالعفة وأدب النفس، فتجلد وقال: «إنك تسألينني سؤال القاصر لولي أمره وأنا مكلَّف أن أكتم السبب، فلو سألتني سؤال الحبيب لمحبه لأطلعتك على كل شيء.» قالت: «اعمل بالوصية ودع الحب للمحبين.» فدهش الأفشين ولم يزدد إلا هيامًا بها، ولكنه تهيب الكلام معها، فسكت ونهض مستأذنًا في الانصراف. ثم خرج وقد غلب على أمره وعلم أنه لن ينال رضاها، وإنما أطاعها وقَبِل التأجيل فرارًا من الفشل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/10/
المعتصم و«سامرا»
ظلَّت جهان واقفة تنظر إلى الأفشين حتى غادر غرفتها، فرفعت بصرها إلى صورة مطرزة على ستارة الحائط تمثِّل وجه أبيها، وتنهَّدت تنهدًا عميقًا وأحسَّت بضعف مفاصلها كأنها خارجة من عمل شاقٍّ فألقت نفسها على الكرسي، والْتفتت إلى ما حولها وناجَت نفسها قائلة: «آه يا جهان، أواه يا عروس فرغانة! ما الذي دهاني في هذين اليومين؟» مات أبي، وحسَّنت السفر لحبيبي. ولكن لا بأس من سفره حتى لا يعلم بما يضمره ذلك الشيخ الجاهل — قبحه الله من ملك صعلوك وتبًا له من قائد مغرور! أيطمع في جهان وهي أبعد عنه من الثريا؟ ما لي لم أقل له إن قلبي لضرغام؟ ولكني لو قلت ذلك لعرضت حبيبي للخطر. حبيبي ضرغام أين أنت؟!» ولما ذكرت اسمه وتذكرت بعده عنها انقبضت نفسها واستسلمت للبكاء؛ فأطلقت لدموعها العنان وهي تحاذر أن يسمع صوت بكائها أحد، وكأنها نسيت نفسها وهوَّن عليها البكاء آلامها فأغرقت فيه. وفيما هي في ذلك أعادها إلى نفسها أن سمعت وقع خطواتٍ مسرعة نحوها، فالتفتت فإذا بالقهرمانة دخلت مذعورة وقد فتحت ذراعيها كأنها تهم بأن تضمها إليها، فترامت جهان بين ذراعيها وقد أخذها الخجل لما بدا من ضعفها فابتدرتها خيزران قائلة: «ما بالك يا سيدتي، ماذا أصابك؟» فقالت وهي تتجلد وتمسح دموعها: «أتستغربين بكائي يا أماه وقد فقدت أبي بالأمس؟ إن مصيبتي بفقده مضاعفة!» ولم تكن خيزران غافلة عما دار بين جهان والأفشين وإن لم تسمعه، ولكنها أدركت شيئًا منه لما رأت وجه الأفشين عند خروجه فقالت: «صدقت، إن وفاة سيدي المرزبان رزء عظيم، خصوصًا إذا خلفه مثل هذا الوصي!» وغصَّت بريقها وهمَّت بجهان فضمتها وقبَّلتها وقالت: «أنا أعلم سبب بكائك فلا تهتمي، واعلمي أني أضحي بحياتي في خدمتك، وكذلك كل أهل القصر بل أهل فرغانة جميعًا يفدونك بأنفسهم.» فتخلصت جهان من بين ذراعي خيزران بلطف، وأشارت إليها أن تقعد إلى جانبها، فجلست وهي ترمق جهان ولا ترتوي من النظر فرأت وجهها تغير من الحزن والقنوط إلى الاهتمام والجد وأطرقت وبدا التفكير في عينيها وجبينها. وطال سكوتها وخيزران مصغية تنتظر ما يبدو منها وما تريد أن تقوله، وأخيرًا وقفت جهان فجأة ونظرت إلى خيزران نظرًا حادًّا وقالت: «لا مقام لي بهذه الديار بعد الآن!» فصعقت خيزران عند سماعها ذلك منها ووقفت وصاحت قائلة: «ماذا تقولين؟!» قالت: «ينبغي أن أترك هذا القصر، يجب أن أسافر حالًا.» قالت: «وإلى أين؟ كيف تتركينه وفيه كل مالك وقد رُبيت فيه؟! لمن تتركينه؟» قالت: «أتركه للطامعين فيه. أتركه للأفشين والموبذ!» قالت وقد اصفرَّ وجهها وجلًا: «كيف تتركينه وفيه ثروتك وأنت صاحبة الأمر والنهي فيه؟!» قالت والحزم بادٍ في محياها: «لا تهمني الثروة ولا الأمر والنهي، وما الفائدة من الجدران والأشجار والأحجار؟ ليست السعادة بهذه الأمور.» فأدركت أنها تشير إلى ما تخشاه من مطامع الأفشين وهي بعيدة عن ضرغام، فقالت: «إذا كان ذلك الرجل قد أساء إليك فانبذيه نبذ النواة. لا تعيريه الْتفاتة فأنت سيدة في قصرك ولن يجرؤ على إخراجك منه.» فنظرت إليها شزرًا وقالت: «هل هو يريدني أن أبقى فيه وأنا التي أطلب الذهاب.» قالت: «كيف تذهبين يا سيدتي وإلى أين؟» فأطرقت ثم قالت: «إني ذاهبة. نعم ذاهبة … لا محالة. وأما أنت فامكثي هنا!» فقطعت خيزران كلامها وقالت وهي تشرق بدموعها: «أنا أبقى؟! وماذا أفعل هنا من غيرك؟ إني بين يديك حيثما تذهبين. وإنما أردت أن أعلم الجهة التي تقصدين.» قالت: «إني ذاهبة إلى العراق.» قالت: «إنك تقولين ما يسهل لفظه ويصعب فعله، أتعلمين المسافة بيننا وبين العراق؟» قالت: «لا أعلم، ولكني سأذهب إليها.» قالت: «إنك حكيمة لا تقدمين على أمر إلا بعد التفكير، فهل تعلمين أن بيننا وبين العراق مسيرة بضعة أشهر، يُقطع معظمها في البراري الخطرة التي لا يستطيع سلوكها إلا القوافل المحروسة لكثرة اللصوص وقاطعي الطريق؟» قالت: «مهما يكن من الأمر فإني ذاهبة إلى العراق.» قالت: «تبصري يا سيدتي، أو يا حبيبتي، وأشفقي على شبابك ولا تعرضي نفسك للهلاك … إن القاصد إلى العراق ينبغي له أن يقطع صحاري قاحلة يكثر فيها اللصوص من التركمان وغيرهم، وكثيرًا ما يعترضون قوافل التجار الذاهبة إلى خراسان أو فارس فيقتلون أصحابها ويسلبون أموالها فكيف تسافرين أنت فيها؟» قالت: «أسافر كما يسافر الناس. وسندبِّر وسيلة للسفر.» فلما لم ترَ حيلة لإرجاعها عن عزمها قالت: «إذا كنت تذهبين إلى العراق خوفًا من الأفشين فالعراق مقره وهو صاحب النفوذ هناك.» قالت: «لست أخافه هناك، فإن يد الخليفة فوق يده، وهناك ضرغام أيضًا.» قالت ذلك وسكتت لحظة ثم استأنفت الكلام قائلة: «لا أعني أن أستعين بضرغام عليه ولكنني ألقى هذا الشيخ الجاهل في بلد يُسمع فيه صوت الحق. إنه يغلبني هنا بجنوده ولكنه هناك لا يقدر على ذلك، فلا تحاولي أن ترجعيني عن عزمي.» ومشت إلى الباب فتبعتها خيزران وقد أخذتها الدهشة ولم تتمالك عن البكاء. أما جهان فمشت مسرعة نحو غرفتها لا تلتفت يمينًا ولا شمالًا وقد تمثَّلت فيها الشجاعة وثبات الجنان، ولم تجرؤ خيزران أن تعترضها ولا أن تدخل في أثرها فتباطأت في مشيتها. وإذا بجهان تناديها من الداخل، فأسرعت إليها فرأتها جالسة على سريرها والحيرة تتجلى في عينيها رغم ما في جبينها من دلائل العزم الصادق، فلما دخلت ابتدرتها جهان قائلة: «ألم يَعُدْ سامان بعد؟» قالت: «كلا يا سيدتي، لم أشاهده هذا الصباح.» فهزَّت رأسها وقالت: «تعالي، اجلسي بجانبي يا أماه.» فجلست خيزران وهي تتهيَّب النظر إليها، فقالت جهان: «احذري أن يعلم أحد سبب سفري، وأوصي المهتر (قيِّم القصر) بأن يستمر في تعهد أموالنا ومغارسنا، وأخبريه أننا خارجون إلى بلد قريب …» قالت: «سأفعل ذلك يا مولاتي … ومتى السفر؟» قالت: «في أقرب وقت. وقبل انقضاء عدة الحداد وهي لا تزال طويلة وسأحدده لك. إنما أرجو منك أن تعدي ما ينبغي حمله من الأمتعة فإننا على سفر طويل.» فأشارت برأسها مطيعة وسكتت تنتظر ما يأتي به الغد، وإن كانت لا تتوقع رجوع جهان عن عزمها لما خبرته من إقدامها وثباتها وحزمها فتركتها في الغرفة وحدها وخرجت. قضت جهان بقية اليوم تفكر في أخيها سامان لاحتياجها إلى صحبته في ذلك السفر الطويل وهي تعلم أنه لا يقل عنها رغبة فيه. وأصبحت في اليوم التالي فإذا سامان يقرع باب غرفتها فابتدرته بالعتاب على غيابه فقال: «إذا كان غيابي عنك يومًا واحدًا قد أقلقك فكيف إذا غبت عنك أشهرًا؟» قالت: «هل اعتزمت السفر؟» قال: «وفيم الإقامة ببلد حُرمت من خيراته فأنا غريب بين أهلي! أما أنت فإنك وريثة القصر والمال فامكثي ودعيني أضرب في الأرض.» قال ذلك وهو يتظاهر بالحزن فلم يفُتها قصده ولكن سفره وافق هواها فقالت: «وما قولك إذا سافرنا معًا؟» قال: «أعازمة على السفر أيضًا؟» قالت: «نعم.» قال: «لا أرى باعثًا على شكرك إلا إذا كنت تقصدين العراق وهناك ضرغام حبيبك.» قالت: «نعم أنا عازمة على السفر إلى العراق. وأنت؟» قال: «ولكن مثل هذا السفر لا يتأتى إلا بعد التأهب الكافي، ولا بد لنا من صحبة قافلة؛ لأن الطريق وعر وطويل.» قالت: «دبِّر ما تراه وليكن في القريب العاجل.» فأبرقت أسرَّة سامان وهو إنما بدأ بتلك المقدمة ليسمع هذه الخاتمة لحاجة في نفسه طالما سعى في قضائها، ولولا رغبة جهان في السفر فرارًا من الأفشين لانكشف لها غرض أخيها، ولكنها تعامت وتجاهلت رغبة في النجاة، والإنسان كثيرًا ما يطغى غرضه على تعقله، فعهدت إلى سامان بتدبير أمر السفر وأخذت هي وخيزران تستعدان في الخفاء.» ••• وكان المعتصم قد ترك بغداد وبنى مدينة «سر من رأى» أو «سامرا» على مسافة خمسين ميلًا شمالها، ليقيم بها رجاله الأتراك وغيرهم، فكانت المدينة الثانية من مدن بني العباس، وقسَّمها إلى قطائع أقطعها لرجاله وهم فرق تنتسب كل فرقة منهم إلى مواطنها التي حُملت منها، فقد حُمل بعضهم من سمرقند وهم الأتراك، وبعضهم من فرغانة، وبعضهم من أشروسنة أو غيرها، وجعل على كل جماعة قائدًا. وأشهر قواده الأفشين وأصله من أشروسنة، وأشناس وكان في الأصل مملوكًا لبعض قواد المعتصم فابتاعه ورقاه، وأيتاخ، وسما، وكانا مملوكين أيضًا. ولما استقر رأيه على بناء «سامرا» أحضر المهندسين والفَعَلة والبنَّائين وأصحاب المهن من النجارين والحدادين، وأمر بحمل الساج والخشب والجذوع من البصرة وبغداد وسائر السواد، ومن أنطاكية وسائر سواحل الشام، وأحضر الرخام من اللاذقية. وأقام قصره وسط المدينة وبجانبه المسجد الجامع، واختطَّ الأسواق حول المسجد، وجعل كل تجارة منفردة في سوق على نحو ما فعل المنصور في بغداد، وأفرد لقواده قطائع أبعدها عن قصره وعن منازل الناس وأهل الأسواق، فأقام أشناس في محلة بأقصى شمال المدينة على بضعة أميال من قصره سمَّاها الكرخ على اسم كرخ بغداد. وأقام الأفشين في الطرف الجنوبي في مكان يُسمى المطيرة على نحو تلك المسافة من قصره. وأنشأ للفراغنة قطائع أقرب إليه من سواهم. وكذلك الأتراك والخراسانية والمغاربة. وأمر قواده أن يبنوا المساجد والأسواق في قطائعهم لرجالهم. وجعل لسامرا شوارع موازية لمجرى دجلة تقطعها دروب وأزقة أكبرها الشارع الأعظم يمتد من المطيرة شمالًا على موازاة دجلة إلى الكرخ، وتمتد قطائع الناس يمنة ويسرة على هذا الشارع وتتصل إليه بدروب وأزقة تنفذ إلى دجلة. وفي هذا الشارع كان ديوان الخراج وقصر المعتصم والمسجد وسوق الرقيق. ويلي الشارع الأعظم شارع آخر على موازاته يعرف بشارع أبي حمد. وبنى على دجلة جسرًا يوصل الشاطئ الشرقي بالغربي، وأقام في هذا الجانب العمارات وغرس البساتين وحفر الآبار واستقدم من كل بلد أصحاب الأعمال اللازمة للعمارة، فاستقدم مهندسي الماء وصنَّاع القراطيس من مصر، وصناع الزجاج والخزف من البصرة، وأنزل أهل كل مهنة وصناعة مع عيالهم، وجعل الأبنية قصورًا حولها البساتين وبينها الميادين. ولما تسامع الناس ببناء هذه المدينة تقاطروا إليها للبيع والشراء، وزاد فيها الواثق والمتوكل وغيرهما ممن خلف المعتصم كثيرًا من الأبنية الفخمة. وكان في جملة أبنية الفراغنة بقرب قصر المعتصم بيت متوسط الحجم قائم في حديقة حولها سور، له باب مطلٌّ على دجلة وعنده نخلتان. ولم يكن أهل سامرا يعرفون شيئًا عن أهل هذا البيت؛ إذ قلما كانوا يرون فيه أحدًا غير الخدم الذين يخرجون إلى السوق في حوائجه، على أن القواد كانوا يعرفون أنه منزل القائد ضرغام وكانوا يعجبون لرغبته عن زخارف الحياة خلافًا لسائر القواد أو الأمراء الذين كانوا يستكثرون من الحاشية والموالي والمماليك. وكان أكثرهم يظنونه وحيدًا فيه، وربما زاره بعضهم أثناء إقامته بسامرا. أما بعد سفره الأخير فإنهم انقطعوا عنه إذ لم يبقَ في البيت أحد إلا امرأة مكفوفة البصر هي أمه ومعها جارية عجوز تخدمها اسمها مسعودة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/11/
أم ضرغام
كانت أم ضرغام واسمها آفتاب قد كفَّ بصرها في عنفوان شبابها قبل ذهابها إلى فرغانة، ولم يكن أهل ذلك البلد أكثر معرفة بسابق حياتها من أهل سامرا، حتى المرزبان وأهل قصره مع طول إقامتها بينهم؛ فقد كانت تكتم أصلها حتى عن ابنها ضرغام، فكان إذا سألها عن أبيه زعمت أنه كان من جند المسلمين وقُتل في بعض الوقائع، وأنها نذرت لبس السواد عليه كل حياتها. ولم يصدق ضرغام قولها؛ لما لاحظه من الْتجائها إلى الإيجاز عند ذكره، فألحَّ عليها ذات يوم واستحلفها أن تخبره الحقيقة، فوعدته أن تطلعه عليها فيما بعد، وكان كلما ذكرها بوعدها استمهلته إلى فرصة أخرى. وقضى شبابه في فرغانة وهو يطلب الشخوص إلى العراق لينخرط في الجندية أو يتعاطى عملًا يرتزق منه كما فعل أمثاله من أهل النشاط والذكاء، فلم توافقه على ذلك إلا في الأعوام الأخيرة فجاء معها وأقام بسامرا، فظهرت مواهبه وارتقى في الجندية حتى صار رئيس الحرس، وكان يسألها عن أبيه فتؤجل الجواب. ولما استأذنها في الذهاب إلى فرغانة في مهمته الأخيرة أذنت له وألحَّت عليه في أن يعجل بالرجوع، وبقيت في ذلك القصر ليس معها غير جاريتها مسعودة. وكانت تقضي نهارها في البيت لا تخرج إلى البستان إلا نادرًا، والجارية تبذل جهدها في تسليتها، وقد قضت في خدمتها أعوامًا عديدة لم ترَها ضاحكة قط، فلم تكن أقلَّ استغرابًا لحالها من الآخرين. على أنها كانت تحترمها وتحبها حبًّا جمًّا لما خبَّرته من لطفها وطيب عنصرها، مع الْتزامها الصمت إلا نادرًا. وكانت آفتاب على كهولتها وابتلائها بفقد بصرها جميلة الخلقة خفيفة الروح، تدل ملامح وجهها على ما كانت عليه في شبابها من الجمال المفرط وكانت رشيقة القوام ممتلئة البدن محتفظة بآثار الجمال رغم ما مرَّ بها من تكاليف الحياة، فكانت جاريتها مسعودة تبذل جهدها في تسليتها وتروي لها ما تسمعه من الأخبار، فتلحظ منها الإصغاء لسماع أخبار الخليفة المعتصم، ولا سيما بعد أن صار ابنها رئيسًا لحراسه. ولم تكن تسمع منها جوابًا غير قولها وهي تتنهد: «متى يعود ضرغام! لقد طال غيابه.» حتى إذا جاء البشير بقدومه كان أوَّل من علم به مسعودة، أخبرها به رسول أنفذه ضرغام قبل وصوله لعلمه أن أمه تتلهف لرجوعه. فدخلت مسعودة على سيدتها مهرولة، ولو تيسر لآفتاب أن ترى وجهها لقرأت فيه دلائل البشر. ولكنها حُرمت نعمة النظر لا لذنب أو مرض وإنما قضت عليها بذلك مظالم ذلك العصر، كما قضت تلك المظالم أيضًا بأن تكتم سبب عماها وتخفي حقيقة حالها على كل إنسان. فلما دخلت مسعودة شعرت آفتاب بسرعة حركتها وحدَّثها قلبها بخير تحمله إليها فبدت على وجهها ملامح الاهتمام ولم تمهل خادمتها حتى تتكلم فابتدرتها قائلة: «ما وراءك يا مسعودة؟ هل أتى ضرغام؟» فصاحت: «نعم يا سيدتي، من أنبأك بهذا؟» قالت: «أنبأني قلبي! وهل لقلبي شغل سواه! أين هو؟» قالت: «إنه على مقربة منَّا.» فما تمالكت آفتاب عن النهوض فجأة وبدت في محياها علامات البشر وتقطر من بياض عينيها دمعتان سالتا على خديها فتلقتهما بطرف نقابها الأسود، وصاحت وهي تبتسم: «أتى ضرغام؟! الحمد لله. متى يصل إلينا؟» قالت: «يصل هذا المساء، إن شاء الله.» فقالت: «أعدي العشاء.» ومشت نحو غرفتها مشية البصير لا تعثر بشيء ولا يوقفها شيء، على عادة العميان الأذكياء. فدخلت غرفتها وغسلت وجهها وبدَّلت ثيابها وشغلت نفسها ببعض المهام حتى لا يطول عليها الانتظار. وكان من توقد ذهنها ورِقة شعورها أنها تتعرف مكان كل واحد من خدمها في الغرفة أو الحديقة وهي جالسة في مجلسها، فبعد أن فرغت من إصلاح شأنها جلست في الإيوان ومسعودة في المطبخ تهيئ الطعام تفكر في قدوم مولاها مفعمة سرورًا لفرح مولاتها، فإذا بها تسمعها تنادي: «مسعودة …» فهرولت الجارية تقول: «أمرك يا مولاتي.» قالت: «إن ضرغامًا آتٍ قولي للخدم يخرجوا لاستقباله.» فعجبت مسعودة لكلامها؛ لأنها لم تكن ترى شيئًا يدل على ذلك، فخرجت إلى الحديقة فلم تجد أحدًا فعادت تقول: «لم يأتِ بعد ولكنه آتٍ قريبًا.» قالت: «إني أسمع وقع حوافر جواد!» وكانت مسعودة قد تعوَّدت منها كثيرًا من أدلة الشعور البعيد، فذهبت إلى البستان وأمرت الخدم بالخروج لاستقبال سيدهم وهي لا ترى أحدًا قادمًا، ولكنها لم تبلغ البستان حتى نظرت الغبار من بعيد وسمعت وقع حوافر الخيل وتحققت قول سيدتها، ولم تمضِ هنيهة حتى رأت ضرغامًا قادمًا على جواده بلباس السفر، ووراءه تابعه وردان على جواد آخر. فرجعت لتبشر سيدتها فرأتها قد سبقتها إلى باب الدار وعيناها شائعتان نحو الجهة التي تسمع الصوت منها وهما تجولان بين الأجفان كأنهما تريان شيئًا. وإنما حركهما محرك البصيرة النقادة ولهفة الوالدة المشتاقة، ولم تمهلها فسبقتها إلى الكلام قائلة: «ألم أقل لك إنه جاء؟! وإني أشعر بوقع حوافر جواده يمشي في مفاصلي وكأني أحس بحرارة أنفاسه، حرسه الله.» قالت ذلك وكأنها تنطق بعينيها وحاجبيها ويديها وبكل جارحة من جوارحها، فأثَّر منظرها في مسعودة وخفق قلبها شفقة عليها، وودَّت لو تعيرها عينيها لترى بهما ابنها وتفرح بمنظره. ولما وصل ضرغام إلى باب البستان ترجَّل وأعطى الخادم زمام جواده، ثم صعد درجات الدار حتى بلغ مكان أمه، فأكبَّ على يديها يقبلهما. فضمَّته إلى صدرها وقبَّلته ومشت إلى الإيوان ترحب به وتكرر تقبيله وتستنشقه وتتفحص كتفيه وذراعيه وصدره وعنقه بيديها وتتحسس بأصابعها وجهه ولحيته وشاربيه وعينيه كأنها تحدق فيه بأناملها. حتى إذا دخل الإيوان جلست على وسادة وأجلسته بجانبها وهي تضمه وتشمه كأنها تخاف أن يخطفه أحد من بين يديها. بينما الدمع يتساقط من عينيها وهو لا يعترضها فيما تعمله ليسرها. ثم أخذت تسأله عن صحته، فطمأنها وشرح لها شوقه إليها وأنها لم تبرح من خاطره أثناء ذلك السفر الطويل. فأمرت مسعودة أن تهيئ المائدة، فاستأذنها ضرغام في تبديل ثيابه قبل الطعام فأذنت له، ثم قاموا إلى المائدة ففرغوا من الطعام نحو العشاء وقد أُنير البيت بالشموع وهي أول ليلة أُنير فيها منذ سفره؛ لأن آفتاب في غِنى عن الضوء ولم يكن يزورها أحد فلم تكن تُنار الشموع في غياب ضرغام إلا نادرًا. وبعد العشاء خلَت آفتاب إلى ابنها وأخذا يتحدثان. فاتكأ ضرغام على وسادة، ووالدته بجانبه وهي قابضة بيدها على يده كأنها تعتاض عن المشاهدة باللمس، وأخذت تسأله عن سفره وهو يقص عليها ما شاهده في طريقه من الغرائب والأخطار حتى وصل سامرا في ذلك المساء فقالت: «وهل أقمت بفرغانة كثيرًا؟» فلما ذكرت فرغانة تذكَّر أشياء كثيرة فقال: «نعم، أقمت بها بضعة أيام.» وسكت مترددًا في إخبارها بموت المرزبان فأدركت تردده من صوته فقالت: «قُص عليَّ ما رأيته هناك. ماذا جرى؟» قال: «ماذا أقص عليك! إن القوم يذكرون جيرتك ويتحدثون عنك كثيرًا.» قالت: «وكيف المرزبان وأهله؟» قال: «كلهم في خير إلا المرزبان فإنه مريض مرضًا ثقيلًا عجز الطب والأطباء عن علاجه.» قالت: «أظنه مات. أليس كذلك؟» قال: «إذا لم يكن مات فإنه يموت قريبًا لطول مرضه. والحق يُقال إنه رجل طيب القلب يُكنُّ لك احترامًا كبيرًا.» قالت: «أراك تتلطف في إبلاغي خبر موته، رحمه الله، كيف فارقت أهله؟» فلم يستغرب ضرغام شعورها بموت المرزبان، وقد تعوَّد منها مثل هذا الشعور المرهف، وأحبَّ الاستطراق إلى التحدث عن جهان فقال: «إن أهله في خير فقد ترك لهم مالًا كثيرًا.» قالت: «وقد آل هذا الميراث إلى جهان على ما أظن.» فاستغرب نسيانها سامان فقال: «وهل نسيت سامان أخاها؟» فأدركت أنها كادت تبوح بسر تكتمه، وبان الارتباك في وجهها فأطرقت وعيناها ترقصان في وجهها من الحيرة ثم قالت: «لم أنسَ سامان ولكنني أحسب أن أباه حرمه من الميراث.» فازداد تعجبه وهو يعلم أنها لا تلقي الكلام جزافًا فقال: «أتقولين ذلك تخمينًا أم أن هنالك سببًا تكتمينه؟» فقالت: «ربما كان ذلك. وهب أني لم أكتم سببًا، فلو جاز لي أن أقوله لك لقلته، دعنا الآن من سامان وأخبرني عن جهان عروس فرغانة كيف هي؟ إني أحبها وأُعجب بذكائها ولطفها.» فلما سمع إطراءها جهان شغل بها عن رغبته في استطلاع خبر سامان وطاب له التحدث عن حبيبته فقال: «إن جهان جديرة بإعجابك، وهي موضع إعجاب الفرغانيين على بكرة أبيهم. إني لم أرَ مثلها بين النساء ولا مثل جمالها وتعقلها. وكم تمنيت أن يمنَّ الله عليك بالبصر لتشاهديها.» وحينما سمعت إعجابه بها آنست منه ميلًا شديدًا إليها فقالت: «أراك كثير الإطراء لسجاياها، ولا ألومك على ذلك؛ إذ لم يفتني من مشتهيات المبصرين في هذه الدنيا إلا رؤيتك ورؤيتها.» وتنهَّدت وقالت: «هذا نصيبي من دنياي، وأحمد الله أنه أنار بصيرتي ومنَّ عليَّ ببقائك. وإذا فاتني أن أراك بعيني فلم تفتني رؤيتك بقلبي. أما جهان فلم أحب فتاة مثل حبي لها وهي أيضًا مرسومة في قلبي.» قالت ذلك ومدَّت يدها إلى صدر ضرغام وهي تظهر أنها تحاول ضمه فأحسَّت بخفقان قلبه فتحققت حبه لجهان وهو لا يفقه مرادها ثم قالت: «إني أحب جهان يا ضرغام فهل أنت تحبها؟» فقال: «نعم يا أماه. ولا أظنك ترين بأسًا بذلك؛ لأنك وضعتها في قلبك معي كما تقولين.» قالت: «لا أرى بأسًا. ولكن هل هي تحبك أيضًا؟ إنها بنت المرزبان وقد كنا أضيافًا في قصر أبيها. فربما حسبت نفسها أرفع منك مقامًا على عادة أهل اليسار. ولا لوم عليها إذا فعلت ذلك لأنها لا تعرف أباك.» ولم تكد تقول ذلك حتى تصاعد الدم إلى وجهها ثم أمسكت كأنها ندمت على ما فرط منها. فقال: «اطمئني يا أماه، إن جهان تحبني حبًّا شديدًا، وهي بحمد الله بمنجاة من الكبرياء، وقد تعاقدنا على الزواج وهي لا تعرف نسبي، والآن وقد جرَّنا الحديث إلى ذلك ألا ترين أنه قد آن لك أن تبري بوعدك؟» فعلمت أنه يستنجزها وعدها ليعرف اسم أبيه فقالت: «لم يجئ الوقت يا ولدي، وسيأتي قريبًا. عد بي إلى حديث جهان فإن خبر خطبتها يفرحني وطالما تمنيت وأنا أحسبه بعيدًا. فهل حدث ذلك على يد أبيها؟» فقال: «أعترف لك الآن بسرنا فقد تعاقدنا على الزواج قبل مجيئي معك إلى سامرا، ولم أبح لك قبلًا لأني لم أكن أحسب نفسي أهلًا لها وأنا يومئذ لا شأن لي، فلما وفقني الله إلى المنصب الذي نلته عند أمير المؤمنين احتلت في الذهاب إلى فرغانة لأعلمها وأتمم العقد على يد أبيها فذهبت فوجدتها عند عهدنا. وكدنا نعقد القران لولا مرض أبيها ووفاته فأجَّلنا هذا الأمر إلى فرصة أخرى.» قالت: «وهل تنوي إن تزوجتا أن تقيما بفرغانة، أم تأتي بها إلى هنا؟» قال: «هذا أمر منوط برأيك، فهي لا تخالف لك رأيًا، وكنت قد عزمت على البقاء هناك حتى تنقضي عدة الحداد فأعقد القران وآتي بها إلى هنا. فجاء أمر الخليفة يستعجلني الرجوع، ولقيتها قبل سفري فحبَّذته على أن نعمل بما نراه بعد ذلك.» فأبرقت أسرَّة آفتاب وابتسمت وقالت: «أحمد الله على هذا التوفيق وأطلب إليه أن يتم نعمته عليك بما في خاطري لتكون أسعد الناس.» فعلم أنها تشير إلى سر أبيه فقال: «إني أسعد الناس بك. ولكن …» فخافت أن يستأنف سؤالها عن أبيه فقطعت كلامه وقالت: «لماذا استعجل الخليفة بقدومك؟» قال: «لم أعلم بعد، ولعله سيرسلني في مهمة عسكرية. هل علمت شيئًا عن هذا؟» قالت: «لم أسمع شيئًا في غيابك؛ لأني لم أكن أعلم أحدًا غير مسعودة.» فقال: «وهل بعث في طلب الأفشين أيضًا؟» قالت: «لا أدري. أين هو الأفشين الآن؟ أليس في سامرا؟» قال: «كلا إني لقيته في فرغانة.» فأطرقت كأنها تفكر في أمر خطر لها ثم قالت: «إن الأفشين كان صديقًا حميمًا للمرزبان. هل شهد موته؟» قال: «نعم شهده وقد أقامه المرزبان وصيًّا على أهله بعده.» فابتسمت ابتسام مطلع على أمور سابقة تؤيد ما قاله. فلحظ ضرغام ابتسامتها فقال: «ما بالك تبتسمين؟ هل عرفت شيئًا عن هذا الأمر من أحد غيري؟» قالت: «لا، ولكنني تذكرت أشياء كنت سمعتها من صديقتي أم جهان، رحمها الله، فقد كانت تسر إليَّ كل ما يهمها. وأنا أيضًا كنت أكاشفها بأسراري. وكثيرًا ما شكت إليَّ ثقة زوجها بالأفشين وهي لا تثق به؛ لما تعلمه من جَشَعه وطمعه، ولكنها لا تجسر على اعتراض المرزبان في أعماله.» فلما سمع ذكر الجشع والطمع شغل باله لأن الرجل أصبح وصيًّا على تركة كبيرة ربما تلاعب بأموالها ولكنه كان حسن الظن بالناس لسلامة طويته، فأكبر أن يطمع ذلك القائد العظيم في مال أُقيم وصيًّا عليه فقال: «هل تظنين الأفشين يمد يده إلى شيء من التركة؟» قالت: «لا أدري، ولكنني ذكرت لك ما كانت تُسِرُّه إليَّ تلك المسكينة. وهي التي أسرَّت إليَّ ما علمته عن سامان وسبب حرمانه من الإرث.» فانتبه ضرغام لشيء لحظه من سامان فقال لها: «لا شك أن سامان نفسه كان عالمًا بنية أبيه؛ ولذلك كان يبذل جهده في منع الوصية؛ فكان كلما بعث به أبوه لاستقدام الموبذ، لم يفعل وانتحل أعذارًا غير مقبولة!» قالت: «وهل كُتبت الوصية على يد الموبذ؟» قال: «نعم، وأنا أرسلت وردان للمجيء به.» فهزَّت رأسها وقالت: «أنعم به من موبذ! وهكذا أيضًا كانت تلك المسكينة تستثقل ظله وتنفر من رؤيته، فإذا زارهم في عيد هربت من الإيوان حتى لا تلتقي به. وقد أذكرتني وردان، أين هو؟» قال: «هنا عندنا، وأظنه نام الآن؛ لأنه متعب من السفر. إنه والحق يُقال همام غيور كنت كثير الاعتماد عليه في شئوني، وأنا لا أدعوه خادمًا فهو أولى أن يُدعى صديقًا؛ لأنه أرقى كثيرًا من طبقة الخدم، ولعل له شأنًا.» فقالت: «احتفظ به فقد يكون شهمًا خانه الدهر والدهر بالناس قلب.» ثم انتبهت إلى أن قد دنا موعد الرقاد، ولا سيما أنه متعب من السفر؛ فقالت: «اذهب يا حبيبي إلى فراشك، وغدًا تخرج بحراسة الله إلى المعتصم، وأرجو أن تلقاه وأنت في خير وعافية.» قالت ذلك ونهضت وذهب كلٌّ إلى فراشه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/12/
المعتصم والأسد
نهض ضرغام في صباح اليوم التالي، فقبَّل يد أمه وأفطر، ثم ارتدى الثياب التي يدخل بها على الخليفة وأهمها: القلنسوة حولها العمامة، والسواد وهو الجبة السوداء الخاصة بالعباسيين وتحتها القباء والسراويل. وتقلَّد السيف، ثم ركب جواده، وركب وردان في أثره، وسارا يلتمسان قصر الخليفة. وكان قصر المعتصم في الجانب الشرقي من سامرا، ويُقال له الجوسق، ويحتوي على أبنية عدة يضمها سور واحد. وقد قُلِّد في بنائه طراز الأكاسرة في المدائن؛ فجُعل بابه الخارجي مثلث القناطر؛ القنطرة الوسطى كبيرة لمرور الفرسان، وإلى كلٍّ من جانبيها قنطرة صغيرة يمرُّ تحتها المشاة. ويستطرق الداخل إلى حديقة كبيرة بها أبنية كثيرة أكبرها البناء الذي يقيم به المعتصم، وبقية الأبنية للحاشية وفي جملتها بناء للأضياف وآخر للسباع. فقد كان المعتصم مولعًا باقتنائها وكثيرًا ما يخرج لاقتناصها. وصل ضرغام إلى ذلك القصر في الضحى، فلما أقبل على الباب وقف له الحرس وحيوه، فدخل على جواده، وترجَّل وردان وقاد فرسه في أثره أما ضرغام فلم يترجل حتى دنا من قصر الخليفة فأخذ وردان فرسه وساق الفرسين إلى الإصطبل، فرحَّب الحاجب بضرغام، ولما سأله عن المعتصم قال: «لقد خرج أمس للقنص ولم يَعُدْ بعد.» قال: «وهل تظنه يعود الآن؟» قال: «لا يلبث أن يأتي.» فأدخله الحاجب إلى قاعة يستريح فيها، ووقف بين يديه وأخذ يرحب به ويسأله عن سفره، فطمأنه وسأله عن الأحوال الجارية لعله يفهم سبب طلبه فلم يجد ما يشفي غليله. ومكث وهو يتشاغل بمشاهدة ما أُحدث في القصر من الرياش الجديد. ثم رأى أن يخرج إلى الحديقة يتفرج على ما فيها من الأشجار والرياحين فرافقه الحاجب إلى بعض أطرافها وإذا بأهل القصر في هرج ومرج وصاح بعضهم: «عاد الخليفة.» فتحول القوم نحو الممر المؤدي إلى القصر وأخذت طلائع الموكب تتقاطر بين فرسان ومشاة، ثم أقبل الخليفة على جواده وعليه لباس الصيد فوق الدرع التي يلبسها إذا خرج للصيد خوفًا من وثوب السباع أو غيرها من الضواري. وكان المعتصم ربع القامة طويل اللحية أبيض أصهب مشربًا حمرة تلوح الشجاعة في وجهه وتتجلى القوة العضلية في بدنه. وبلغ من قوته أنه كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات. وإذا اعتمد بإصبعيه السبابة والوسطى على ساعد إنسان دقَّه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقًا ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته. وكان غضوبًا شديد النقمة منصرف الهمة إلى ركوب الخيل واللعب بالصوالجة. فلما وصل إلى باب القصر ترجَّل وحيَّا الوقوف وأكثرهم من القواد والفرسان، فوقع بصره على ضرغام فهشَّ له وحياه فأسرع ضرغام إليه وهمَّ بتقبيل يده. فمنعه وقال: «أنت هنا!» قال: «جئت يا مولاي طوعًا لأمرك.» قال: «وددت لو كنت البارحة معي في هذا الصيد.» قال: «وأنا أشتهي ذلك يا أمير المؤمنين … لا زلتَ ظافرًا غانمًا.» وبعد أن حوَّل الخليفة وجهه نحو القصر رجع كأنه تذكر شيئًا وأشار إلى الوقوف فانصرفوا واستبقى ضرغامًا، وقال له: «سأذكر لك الآن شيئًا يسرك؛ فقد اصطدت أسدًا هائلًا، ولا أرى أسدًا إلا تذكرتك؛ لأنك تُسمى ببعض أسمائه.» ثم أشار إلى الحاجب فوقف بين يديه فقال له: «قل لأصحاب الصيد أن يأتوا بالأسد إلى تلك المصطبة.» ومشى الخليفة إلى مصطبة في بعض جوانب الحديقة وهو يراعي ضرغامًا ويكلمه، واغتنم فرصة الانتظار وأخذ يسأله عن سفره قائلًا: «عسى أن تكون قد وُفقت في هذه الرحلة إلى ما يسرنا.» قال: «صدعت بأمر مولاي فرافقنا توفيقه فابتعنا الجواري …» فقطع كلامه قائلًا: «أنت ابتعتهن؟» قال: «كلا يا مولاي، فليس لي أن أكون تاجرًا، ولكنني ساعدت الجماعة في ابتياع ما يلزم وسيصلون هنا عما قليل، وإنما تعجلت المجيء طوعًا لأمر أمير المؤمنين.» فلما قال ذلك بدا الاهتمام في وجه المعتصم وأطرق ثم قال: «سنتكلم في هذا بعد قليل.» والْتفت إلى باب الحديقة فأبرقت أسرته، وأشار إلى ضرغام فالْتفت فإذا بجماعة يحملون قفصًا من قضبان الحديد على أعمدة. وفي القفص أسد هائج يكاد الشرر يتطاير من عينيه. فقطب ضرغام حاجبيه تهيبًا وكأن شيئًا جاش في خاطره؛ إذ تمثَّلت له الشجاعة في وجه ذلك الحيوان المفترس. فلبث المعتصم واقفًا، فلما اقتربوا بالقفص أمرهم بوضعه، فوضعوه أرضًا والأسد يزأر زئيرًا تصطك له المسامع، فقال المعتصم: «إنه يزأر من شدة الألم؛ لأني رميته بنبل أصاب ليته، وأخشى أن يموت منه. مع أني أحب أن يبقى حيًّا لأتمتع بلذة هذا الصيد كلما رأيته.» قال ذلك ومشى إلى القفص وضرغام بجانبه إلى الوراء تأدبًا حتى أصبحا على بضع أذرع من الأسد. وكان بيد الخليفة نبل ليس معه من الأسلحة سواه؛ لأن صاحب لباسه أخذ أسلحته ساعة وصوله واستبقى النبل بيده يتشاغل به. فلما دنا من القفص أخذ يداعبُ الأسد ويشير إليه بالنبل كأنه يهمُّ بضربه والأسد يزأر ويتململ والدم يقطر من ليته وقد جمد بعضه على صدره وقائمتيه واحمرَّت عيناه وتناعستا، فظنَّ المعتصم أنه سيموت فرمى النبل عليه لمداعبته، فأصاب عينه فهبَّ الأسد غضبًا وألمًا ووثب يطلب الخليفة فلطم رأسه قضبان الحديد فارتدَّ وقد اشتد غضبه كأنه جُنَّ، والمعتصم وضرغام ينظران إليه مستهزئين وقلباهما يخفقان، فإن للأسد رهبة حتى في حالة الاحتضار. وفيما هم في ذلك وضرغام يتفرَّس في الأسد راثيًا لما أصابه إذا بالأسد يضرب جانب القفص برأسه ضربة قوية حطَّمت منه قضيبين وأحدث فرجة نفذ منها خارجه، فذُعر الناس وفرُّوا مسرعين يطأ بعضهم بعضًا، ما عدا ضرغامًا والخليفة. ولم تكن إلا لحظة حتى هجم الأسد على الخليفة ممسكًا ذراعه بمخالبه، وفتح فمه وهمَّ بأن يلتقم رأسه، فبغت المعتصم، وذهبت قوته وأيقن بالهلاك؛ إذ لم يجد شيئًا يدفع به عن نفسه ولا وسيلة للنجاة من براثن الأسد وقد ولَّى الناس فرارًا ورعبًا. على أن ضرغامًا ثبت في موقفه وانقضَّ على الأسد فقبض على فكه الأسفل بيد وعلى الأعلى باليد الأخرى، وهو يقول: «لبيك يا مولاي. سلمت بإذن الله.» وما عتم الخليفة أن سمع تمزق شدقي الأسد. وشعر بأن ذراعه تخلَّصت من مخالبه ثُمَّ رآه يهجم على ضرغام، ولكن هذا استلَّ خنجره ومضى يطعنه في ليته وخاصرته وتحت إبطه، وقد غلبت عليه سورة الغضب حتى أصبح منظره أشبه رهبة من الأسد، فوقف شارباه واحمرَّت عيناه وتقطَّب حاجباه. وكان الجمود قد استولى على الحاضرين، ولكنهم لما رأوا الأسد مضرجًا بدمه وضرغام فوقه والخليفة واقف وعيناه شائعتان إلى ضرغام تقاطروا راجعين، وعلا صياحهم يهنئون الخليفة وينظرون إلى ضرغام معجبين. وابتسم المعتصم لضرغام والاصفرار غالب على سحنته من أثر البغتة، وقال: «بورك فيك يا ضرغام … إنك والله ضرغام حقيقة!» فلما سمع إعجاب الخليفة به رجع إلى رشده فوقف والخنجر في يده يقطر دمًا. فرماه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين ولم أفعل شيئًا إلا ببركته، وإنه أولى مني بالانتقام من هذا الوحش. ولو انفرد به لقتله ولكنني غلبت على رشدي فلم أستطع صبرًا على ما رأيته من جرأته فنُبْتُ عن مولاي بقتله، وهي جرأة أستغفر لها.» فأُعجب المعتصم بأسلوبه في الاعتذار وشكره، ورأى أن يؤجِّل ما بقي عنده من الكلام لخلوة يختليانها، وهمَّ بالمسير فأحسَّ بألمٍ في ذراعه من أثر مخالب الأسد ولكنه تجلَّد ومشى وأمر القوم بالانصراف، وتحول ضرغام إلى قصره وأمر الحاجب أن يمنع الدخول عليه في ذلك اليوم إلا للطبيب الذي أمر بإحضاره، فلما أتى هذا وكشف عن الجرح لم يجده يستحق الاهتمام؛ لأن الدرع صانت موقع المخالب. فهنأه بالسلامة وأشار عليه أن يلزم الفراش بقية ذلك اليوم. ••• وتسامع أهل الجوسق بما وقع للخليفة، فتقاطر الوزراء والقوَّاد للسؤال فأنبأهم الحاجب بما أوصاه به فرجعوا. ثم دعا ضرغامًا إلى مخدعه فدخل بعد أن غسل يده وأصلح من شأنه، فتحفَّز المعتصم للوقوف له إظهارًا لإعجابه، فأكبَّ ضرغام على يده يقبلها، ثم أمره الخليفة بالجلوس بجانبه فجلس متأدبًا، فقال له: «إن حياتي الآن من يدك يا ضرغام.» فأطرق ضرغام استحياء وقال: «عفوك يا مولاي، إني لم أفعل ما يستحق هذا الإطراء فإنما نبل أمير المؤمنين أردى الأسد من قبل، وما وثوبه هذا إلا من حشرجة الاحتضار. وهب أني أتيت شيئًا فأنا عبد أمير المؤمنين أفديه بدمي.» قال: «بورك فيك. إني لطالما أُعجبت ببسالتك وإخلاصك وأنا محاط بالمداهنين والمملقين لا أثق إلا بقليلين، وإن كنت أظهر وثوقي بهم جميعًا. وإن قائدًا مثلك يندر في بلاط الخلفاء في مثل هذا الجيل الفاسد. ولم أكن أجهل إخلاصك من قبل؛ ولذلك جعلتك رئيس حرسي، فأنت جدير بهذا المنصب ولا يليق إلا بك.» ثم الْتفت إلى الباب ثم إلى النافذة كأنه يتفقد المكان ليتحقق خلوه من الرقباء وأطرق وضرغام ساكت يسترق النظر إليه، ثم رفع المعتصم رأسه وقال: «أتعلم لماذا استعجلت مجيئك من فرغانة؟» قال: «كلا يا مولاي.» قال: «أتعلم أن دولتنا قامت على كتم الأسرار؟» قال: «نعم أعلم ذلك، وليتأكد مولاي أني أحفظ لسرِّه من صدره.» قال: «إني وثقت بك لإخلاصك وحسن بلائك منذ رأيتك للمرة الأولى وقد شعرت بشيء حببك إليَّ.» فتحفز ضرغام للوقوف إجلالًا وشكرانًا وقال: «تلك منة لا أستحقها، ومن أين لجندي مثلي أن ينال هذه الحظوة عند أمير المؤمنين؟! وأي فضل لي إذا أخلصت الخدمة لخليفة الرسول؟ أليس ذلك فرضًا على كل مسلم؟!» فقال وهو يقعده بيده: «بلى. إن ذلك فرض على المسلمين ولكن المخلصين قليلون، ولولا ذلك ما اضطررت إلى الخروج من بغداد وإنشاء هذه المدينة ولا كان ثمة ما يدعو لتجنيد هؤلاء الأجناد من أقصى تركستان وفرغانة لأستعين بهم على قومي وعشيرتي، وعلى أولئك الفرس الذين أطمعهم أخي المأمون في الدولة. إني محاط بالأعداء من كل ناحية. وكأنه ما كفاني الأعداء الأباعد في أذربيجان وطبرستان حتى ابتُليت بهم في مدينتي وفي قصري! حتى هؤلاء الأتراك الذين جعلتهم بطانتي وعهدت إليهم في حمايتي ونصرة هذه الدولة، لا ينصرونني إلا طمعًا في المال! وأنا إنما أسايرهم وأخادعهم وأنفق الأموال فيهم، وهم يظنون أنهم يخدعونني!» وسكت وبدا الجد في عينيه فأبرقتا بريقًا يوهم الناظر إليهما أن الدمع يغشاهما فتهيَّب ضرغام من ذلك وأطرق ينتظر ما يبدو من الخليفة فاستأنف هذا كلامه وقال: «ضرغام، هل رأيت الأفشين في فرغانة؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟» قال: «لم يخبرني عن سبب ذهابه، ولكنني أظنه ذهب ليتعهد بلده وأهله في عيد النيروز. وأظنه قادمًا قريبًا.» قال: «إنه قادم لا شك؛ لأنه لا يجد رزقًا أوسع من هذا ولكن …» قال: «وهل أمير المؤمنين في ريب من إخلاصه؟» فقال: «إني أكاد ألمس ذلك بيدي ولكني أغالط نفسي وأظهر الثقة به؛ لأننا في حرب لا غنى لنا فيها عن رجاله، وليتني كنت مخطئًا، فالذي أبغيه منك الآن أن تكون موضع سرِّي وألا تفارق قصري.» فأجابه على الفور: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إشارته.» قال: «أنت منذ الآن صاحبي، فإنه وإن كان اسمك أليق الأسماء ببسالتك فقد اخترتُ لك اسم «الصاحب»؛ لأنك مصاحبي. فهمت يا صاحب؟» فحنى ضرغام رأسه شكرًا وقال: «لقد تكاثرت عليَّ نعم أمير المؤمنين، ولا أراني أهلًا لها ولكنه أراد أن يرفع صنيعته و…» فقطع الخليفة كلامه قائلًا: «كيف لا تكون أهلًا لذلك وقد أنقذتني من براثن الأسد؟!» فأطرق ضرغام استحياء وقلبه يرقص طربًا لما يتوقع من فرح جهان بارتفاعه في نظر الخليفة، وبأنه صار أهلًا لها بحق — والمحبون إنما يطلبون العلا إرضاء لأحبائهم — ونظر إلى الخليفة وقال: «لم أعد أستطيع الشكر على نعم مولاي.» فقال: «إذا كنتَ تعدُّ هذه نعمًا، فكيف بما أعددته لك من النِّعَم الحقيقية؟» فظلَّ ضرغام ساكتًا واستأنف الخليفة الكلام قائلًا: «علمت أنك لم تتزوج بعد وأنك تقيم مع والدتك. فأردت أن تقيما بقصر خاص بجوار هذا القصر، وقد آن لك أن تتزوج. أليس كذلك؟» فأطرق ضرغام أدبًا وقال: «الأمر لمولاي.» قال: «لقد استحسنت لك جارية تركية عرفت فيها الذكاء والجمال. رأيتها منذ عام وبعض العام فأضمرت أن أزوجك منها.» فلما سمع ضرغام كلامه سقط في يده؛ لأن قلبه ليس له، وقد أحب جهان ولا يريد أن يحب سواها، ولكنه لم يستطع مخالفة الخليفة ولا استطاع التأمين على قوله، فظلَّ ساكتًا وقد حار في أمره. فرأى المعتصم حيرته، ولم يدرِ في خلده أنه يمتنع. فقال: «لماذا لا تجيب؟ ألم يرُقك اقتراحي؟» قال: «كيف لا! إن جوار أمير المؤمنين أمنية الأماني.» وسكت عن الزواج فظنَّه الخليفة سكت حياء فقال: «والزواج … لعلك لست كسائر الناس؟ ليس في جندي واحد لا يتمنى الزواج؛ ولذلك تراني أبعث في ابتياع الجواري لهم من تركستان؛ لأني لا أريد لهم أن يختلطوا بالسوقة ببغداد وغيرها فيغلب عليهم التخنث. أم لعلك تؤثر أن تختار جارية من الجواري اللواتي ابتعتموهن في هذه الرحلة. ولكنك لن تجد في تركستان كلها فتاة أجمل من التي اخترتها لك ولو جهدت. ويكفي أن اختياري وقع عليها. وقوادي يتنازعون عليها لفرط جمالها وذكائها ولكنني قد اختصصتك بها دونهم!» فلم يجد ضرغامٌ سبيلًا للقبول أو لإبداء ما يجول في خاطره، ثم تشجع وقال: «إننا في حرب أو في تأهب لحرب، ومتى فرغنا من ذلك فإني عبد أمير المؤمنين.» فاكتفى المعتصم بما سمعه وأعجبه منه تأهبه للحرب فقال: «وهبْ أننا في حرب فلست تفارق قصري. وأت بأمك وأهلك إلى هنا وأخبرها أن اسمك من اليوم «الصاحب»، وسأوصي بطانتي وقوادي وسائر رجال دولتي بذلك.» ثم تزحزح من مكانه فتحفَّز ضرغام للنهوض وقال: «أيأذن أمير المؤمنين في أن أذهب لأخبر والدتي بما أمر؟» قال: «سِرْ إذا شئت وستهيئ القهرمانة لكم المنزل اليوم.» فمشى ضرغام ووجهه إلى المعتصم حتى خرج. ثم أرسل إلى وردان فجاءه بالفرس فركبا قاصدين إلى البيت وضرغام تتقاذفه الأفكار، وقد سرَّه إعجاب الخليفة به ودعوته ليقيم بقربه كما ساءه أمر الزواج، ولكنه لم يعلق عليه كبير شأن؛ إذ لا دخل له بالسياسة فيسهل التخلص منه. فلما وصل إلى منزله تلقَّته أمه بالترحاب، وسألت وردان عن حاله وكانت قد أعدَّت الطعام فجلست معه إلى المائدة، وشعرت من سكوته أن تغييرًا طرأ عليه فقالت: «هل لقيت أمير المؤمنين؟» قال: «نعم يا أماه.» قالت: «كيف حاله؟ وهل أخبرك بسبب تعجيله باستقدامك؟» فأبطأ في الجواب؛ لأنه خاف إن قال لها كل شيء أن يخلف الوعد ويبوح بالسر ثم قال: «أخبرني، ولكن حدث أمر غريب.» قالت: «ما هو؟» فقصَّ عليها خبر الأسد وما كان من دفاعه عن الخليفة، فانشرح صدرها وبان في محياها. ثم أخبرها أن الخليفة غيَّر اسمه وسمَّاه «صاحب»، وذكر لها السبب فازداد سرورها، ثم قال: «وقد دعاني للإقامة بجواره.» وكانت تهم بلقمة من الرغيف لتتناولها فلما سمعت كلامه ارتبكت وشخصت بعينيها البيضاوين إليه وقالت: «دعاك للإقامة بجواره؟ لماذا؟» قال: «لأكون ملازمًا له. وذلك إكرام عظيم.» قالت وقد توقفت عن ازدراد ما فيها من الطعام: «وهل يريد أن أكون أنا معك أيضًا؟» قال: «نعم فقد قال لي: «تسكن أنت وأمك هنا».» فتغيَّر لونها وتشاغلت بالمضغ وبان قلقها من تسرعها فيه وقالت: «اذهب أنت وحدك، ولا حاجة بي إلى الإقامة بقصر الخليفة.» قال: «ولماذا يا أماه؟ إذا كنت لا تريدين الذهاب معي فأنا أيضًا لا أذهب.» قالت: «اذهب أنت فإن القرب من الخليفة شرف يتمنَّاه القواد، وأما أنا فأمكث هنا على أن تتردد عليَّ حينًا بعد آخر لألمسك وأقبِّلك.» فعجب ضرغام من استنكافها وإبائها وقال: «بل تذهبين معي فنقيم هناك كما نقيم هنا، وقد وعدت الخليفة بذلك ولا سبيل إلى الإخلاف.» فوجمت حينًا ثم قالت: «ننظر في ذلك.» قال: «ليس في الوقت متسع فإننا ذاهبون غدًا، فقولي لمسعودة تستعد، وسأوصي وردان بأن يساعدها. ولا ريب أنك ستأنسين بمَنْ في قصر الخليفة من النساء فتقضين النهار في الحديث أو سماع الغناء. وذلك خير من بقائك وحيدة هنا. هذا فضلًا عن حاجتي إلى وجودك هناك لأمر يهمني.» فصعد الدم إلى وجنتيها وتغيَّرت سحنتها وأدارت عينيها دورة تكاد تنطق بما اعتراه من الارتباك، وقالت: «أما الاستئناس فلا أبغيه من سواك فأنت تعزيتي الوحيدة لا أطلب سواها، بل أنا أشترط عليك إذا كان لا بد من ذهابي أن يكون لي الخيار في البقاء بالمنزل أو الخروج منه. ولكن ما حاجتك إليَّ وأنا مكفوفة البصر كما ترى؟» قال: «أنت ضوئي، وستكونين عوني على إنقاذي من السعادة التي أعدَّها الخليفة لي.» قالت: «إنقاذك من سعادة؟! ماذا تعني؟» قال: «أعني أن الخليفة خطب لي جارية تركية ذكر أنها أجمل نساء هذه المدينة واختصني بها دون قُوَّاده.» قالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «أجَّلت الجواب لأني استحييت أن أرفض.» قالت: «هل نويت الرفض؟» قال: «وهل أقبل؟» فسكتت وذكرت أنه عالق بجهان فقالت: «وكيف ترفض أمر الخليفة؟» قال: «وجهان؟ أليست خطيبتي؟» قالت: «لذلك تريدني أن أكون معك؟ عسى أن أحتال لإنقاذك من هذه الورطة. ذلك شيء يسير.» فانشرح صدره وقال: «إذن غدًا ننتقل جميعًا. واحذري أن تناديني ضرغامًا فإن الخليفة قد سمَّاني «الصاحب» وقد يستاء إذا دعيتني بغير ما سماني.» قالت: «لك عليَّ ذلك.» وكانوا قد فرغوا من الطعام فأمرت مسعودة بالتأهب، وأمر وردان بمساعدتها، وفي اليوم التالي انتقل الجميع إلى قصر الخليفة وأقاموا بمنزل بجانبه وليس معهم من الخدم إلا وردان ومسعودة. اكتفاء بخدم الخليفة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/13/
أحمد بن أبي دؤاد
قضى الصاحب في جوار الخليفة أيامًا يتوقع أن يسمع خبرًا عن جهان أو نبأ بقدومها، وقد ازداد رغبة في مجيئها لتنقذه من الجارية التي اختارها الخليفة. ولم يداخله شك في أن الخليفة إذا رأى جهان زهد في سائر نساء الأرض فلا يلومه حينئذ إذا أبى الزواج بسواها. وطال غيابها واستبطأها فقلق لتأخرها وانقطاع أخبارها، وضاق صدره عن كتمان القلق، فاستدعى وردان ذات يوم وقال له: «ما قولك في أهل فرغانة؟» ففهم وردان قصده وقال: «أتعني مولاتي جهان؟» قال: «أعني أني كنت على موعد معها هنا بعد انقضاء الحداد، ولكنها لم تأتِ ولا سمعنا عنها خبرًا، فما رأيك؟» قال: «أتريد أن أذهب للبحث عنها؟» فأُعجب الصاحب بتفانيه في خدمته وابتسم وقال: «بورك فيك يا وردان، لا أكلفك هذه المشقة ولكنني أستشيرك في الأمر.» فأطرق وردان يفكر ثم قال: «الرأي عندي أن نصبر مدة أخرى حتى يأتي مولانا الأفشين من فرغانة.» قال: «ومتى يكون هذا؟» قال: «جاءت البشائر بقرب وصوله، فإذا جاء سألناه أو سألنا بعض رجاله.» فاستحسن ضرغام ذلك، وقال له: «أرى أن تتولى أنت أمر البحث من بعض رجال الأفشين.» قال: «فهمت مرادك.» فضحك الصاحب (ضرغام) وقال: «لا تكتم رأيًا ترى فيه نفعًا لي. واعلم أني أعدُّك رفيقًا لي لا خادمًا فأنت أرقى من ذلك كثيرًا.» فأطرق وردان احترامًا وقال: «أنا خادمك، أتفانى في خدمتك. أتأذن لي في أن أذهب للقاء حملة الأفشين قبل وصولها؟» قال: «افعل ما يبدو لك.» فودَّعه وخرج. ومكث ضرغام ساعة في القصر، ثم جاءه رسول المعتصم يدعوه إليه، فلبس سواده وذهب إلى القصر فقيل له إن الخليفة في خلوة مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد في دار الخاصة. وكان ضرغام يعرف منزلة ابن أبي دؤاد عند الخليفة، وأنه لا يختلي به إلا أمر ذي بال، فاستأذن ودخل فرأى الخليفة جالسًا على سريره في صدر القاعة، وأحمد بن أبي دؤاد على كرسي بين يديه. وكان أحمد هذا معروفًا بالمروءة وبعصبيته العربية؛ إذ كان ينتسب إلى بني إياد، ولكن المعتصم وإن أبعد العرب من مجلسه وقطع أعطياتهم وحطَّ من أقدارهم واختصَّ الأتراك ببطانته؛ كان شديد الثقة به لا يمضي أمرًا إلا بمشورته ولا يشاور وزراءه. وكانت نشأة ابن أبي دؤاد في قرية من أعمال قنسرين، ثم هاجر أبوه إلى الشام للتجارة فأخذه معه إليها وهو غلام، فنشأ في طلب العلم ولا سيما الفقه والكلام حتى فاق معاصريه، وأصبح معتزليًّا فصيحًا قوي الحجة، ونال عند المعتصم حظوة ودالة لم يسبقه إليهما أحد، حتى صار يفتتح الكلام في حضرته وكانت العادة عند الخلفاء ألا يبدأهم أحد بالكلام. ومن أمثلة دالته هذه أن المعتصم غضب مرة على خالد بن يزيد الشيباني وأشخصه من ولايته لعجزٍ لحقه في مال طُلب منه وأسباب أخرى، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد فشفع فيه فلم يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه الذي اعتاده فقال له المعتصم: «يا أبا عبد الله لِمَ جلست في غير مجلسك؟» قال: «ما ينبغي لي أن أجلس إلا دون مجلسي هذا!» فقال له: «وكيف؟» قال: «لأن الناس يزعمون أن ليس موضعي موضع من يشفع في رجل فيُشفَّع.» قال: «فارجع إلى مجلسك.» قال: «مشفعًا أو غير مشفع؟» قال: «بل مشفعًا.» فارتفع إلى مجلسه. ثم قال: «إن الناس لا يعلمون رضا أمير المؤمنين عنه إن لم يَخْلع عليه.» فأمر بالخلع عليه فقال: «يا أمير المؤمنين، قد استحقَّ هو وأصحابه رزق ستة أشهر لا بد أن ينالوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة.» فقال: «قد أمرت بها.» فخرج خالد وعليه الخلع والمال بين يديه، وكان الناس في الطريق ينتظرون الإيقاع به فصاح به رجل: «الحمد لله على خلاصك يا سيد العرب.» فقال له: «اسكت، سيد العرب، والله، أحمد بن أبي دؤاد.» ولم يكن نفوذ ابن أبي دؤاد خافيًا على ضرغام، فلما دخل على المعتصم وهو عنده علم أنه دُعي لأمر ذي بال، فلما أقبل على الخليفة حيَّاه بتحية الخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» فهشَّ له المعتصم وناداه وأمره بالجلوس بجانب ابن أبي دؤاد وهو يقول: «مرحبًا بالصاحب.» ثم الْتفت إلى القاضي وقال: «أظنك تستغرب تسميتي هذا القائد بغير اسمه، فاعلم أني عملت بحسن رأيك فيه؛ فقد طالما أثنيتَ على شهامته وإخلاصه، وقد رأيت منه فوق ما وصفت حتى عرض نفسه للموت لأجلي؛ إنه أنقذني من براثن الأسد ببسالته؛ فقرَّبته وسمَّيته الصاحب وأسكنته بعض قصوري.» وكان ابن أبي دؤاد في نحو الستين من عمره وقد خطَّ الشيب لحيته وعارضيه، فازداد إجلالًا ووقارًا وهو يلبس زي القضاة: العمامة الطويلة، والطيلسان الرقيق، فلما سمع إطراء المعتصم وترحيبه بضرغام هشَّ له وحيَّاه، والْتفت إلى المعتصم فقال: «ألا يرى أمير المؤمنين حسن ظني في محله؟ إني أنزلته من نفسي منزلًا رفيعًا يوم رأيته، وتوقعت له مستقبلًا مجيدًا. أعانه الله على خدمة أمير المؤمنين.» فقال المعتصم: «وبناء على ذلك أرى ألا نخفي عنه ما يدور بيننا.» وكان ضرغام جالسًا متأدبًا ينتظر أمر الخليفة فقال الخليفة: «اعلم يا صاحب أني كنت والقاضي نتشاور فيما بلغنا من أخبار المجوسي في أرمينيا.» فأدرك ضرغام أنه يعني بابك الخرمي القائم على الدولة في أردبيل. وكان عالمًا بانتقاضه وبوقائع جرَت بينه وبين جند المسلمين ولم يظفروا منه بطائل حتى استفحل أمره، فقال: «وهل أحدث هذا الرجل حادثًا جديدًا؟» فقال القاضي: «لا يخفى عليك أن بابك الخرمي تمرَّد على أمير المؤمنين بأرمينيا، فرماه بالأفشين ورجاله مرة، وبغيرهم مرة أخرى، والشقة بيننا وبين أرمينيا واسعة؛ فكانت الحرب سجالًا، ولا يزال الرجل معتصمًا هناك وأمير المؤمنين …» وسكت ونظر إلى المعتصم، فأتمَّ هذا كلامه قائلًا: «قلت لك يا صاحب إني لا أثق بالأفشين هذا ولا أعلم كيف أستغني عنه وقد رأيته أنت في بلاده بين أهله وعشيرته، فكيف وجدته؟» قال: «إن لهذا الرجل سطوة عظيمة في تلك البقاع، فهم يعدونه ملكًا كبيرًا ويسمونه ملك الملوك، وبعضهم يخاطبه بإله الآلهة كما كانوا يفعلون قبل إسلامه، ولعله الآن يستنكف من هذا. وقد رأيت يا أمير المؤمنين من سلطانه شيئًا عظيمًا حتى يجتمع لندائه ألوف الألوف من الرجال. وإذا رأى أمير المؤمنين أن يخلعه فإنه فاعل ما يشاء، وإذا شاء أن يرمي بي في مكانه بذلت دمي وروحي في خدمته. ولا أزعم أني أقدر من ذلك الرجل ولكنني طوع أمير المؤمنين والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» فقال القاضي للمعتصم: «إن الصاحب يبدي إخلاصه وتفانيه في خدمة الدولة، ولكنه لو سُئِل عن عاقبة هذا التبديل لما جهل الخطر الذي يترتب عليه. لا أرى أن يعلم الأفشين أو أحد رجاله بما يجول بأذهاننا عنهم، وإذا أذن أمير المؤمنين أبديت رأيًا لعلَّ فيه نفعًا.» فقال: «قل ما بدا لك.» والْتفت إلى ضرغام وقال: «إن القاضي أحمد يحل لدينا محل الوزراء والمشيرين، فعندنا من الوزراء والخاصة غير واحد ولكنني لا أثق بأحد منهم وثوقي به. قل أيها القاضي.» فقال: «إن الأفشين ملك في بلده وعنده الجند والأعوان، وقد رضي أن يخدم أمير المؤمنين طمعًا في المال. ويتحدث بعض الناس بأنه لا يخدم المسلمين إلا لذلك، ولو تُرك لشأنه لانضمَّ إلى بابك وحاربنا. وهو إذا صح إسلامه فإنه لا يزال حديثًا فيه، فإذا جافيناه انقلب علينا، وإذا اتحد مع بابك أصبحا خطرًا علينا مما لا يخفى على أمير المؤمنين. والذي أراه أن نظهر له ثقتنا بإخلاصه ونشتريه بالمال هو ورجاله ونضرب بهم ذلك المجوسي المتمرد في أرمينيا، فإذا غلبوه كفونا شره، وإذا اتضح لأمير المؤمنين بعد ذلك أن الأفشين خائن، سهل علينا الاقتصاص منه؛ إذ يكون وحيدًا. وإذا أخلص حقًّا نال ما يستحقه.» فلما سمع ضرغام كلام القاضي أدرك أن الرجل ينطق عن تعقل ودهاء، ولو تُرك هو لرأيه لم يصل إلى هذا الحكم؛ لأنه من أهل الشجاعة وليس من أهل الرأي، ويندر اجتماع الشجاعة والرأي في واحد. ثم قال الخليفة: «أرى قاضي القضاة يغالي بقوة هذا الفارسي أو الأشروسني ويخشاه، وفَاتَه من في جندنا من القواد العظام وكلٌّ منهم يدفع عن دولتنا برجاله وعدته.» قال: «صدق أمير المؤمنين؛ فعنده أشناس التركي وأيتاخ وبغا وسما وغيرهم، ولكن هؤلاء نشئوا من العامة ليس لأحد منهم ما للأفشين من النفوذ في نفوس الجند، وقد سمعنا الآن بما لهذا الرجل من السطوة في قومه وهم ألوف الألوف، فإذا أغضبناه لا يقوم هؤلاء مقامه. ولولا تمرد بابك هذا لم نكن نخشى بأس الأفشين. وأنت يا أمير المؤمنين شجاع باسل، أيدك الله بالخلافة، فلا ترى الالتجاء إلى الحيلة أو الصبر على المكاره، ولكنا نعلم من الحديث المأثور عن الرسول ﷺ أنه قال: «الحرب خدعة.» فهذا رأيي والأمر من قبل ومن بعد لأمير المؤمنين، وأنا وسائر رجال الدولة رهن ما يريد، نبذل دماءنا وأرواحنا في طاعته.» فالْتفت المعتصم إلى ضرغام كأنه يستطلعه رأيه، فقال ضرغام: «إني لا أرى ردًّا على قول قاضي القضاة، ولم أكن لأفطن لما فطن هو له من حسن السياسة، وقد سمع أمير المؤمنين جوابي فإني رجل سيف أصدع بالأمر، فإذا رميت بي أذربيجان أو تركستان أو أرمينيا ركبت إليها ودمي على كفي، ولكن الصواب فيما قاله قاضي القضاة والرأي الأعلى لأمير المؤمنين.» فقال المعتصم: «قد استشرتكما في الأمر لسببين؛ الأول: أن طلائع الأفشين جاءت تبشِّر بقُرب وصوله، والثاني: أن قد جاءنا جاسوس من أرمينيا بأن بابك الملعون قد استفحل أمره وربما تحرَّك نحونا، فلا ينبغي أن نمكث هنا في انتظاره.» قال القاضي: «لا أظنه يجسر على القدوم وإنما هو يقنع بأن نتركه وشأنه، وعلى كل حال أرى أن نحتفل بقدوم الأفشين ونبالغ في إكرامه حتى نفرغ من حاجتنا إليه.» ••• وفيما هم في ذلك سمعوا صوت الأذان لصلاة العصر، فتحفز الخليفة للقيام وصفق فجاء الحاجب فأمره بأن يخبر صاحب وضوئه أنه سيصلي العصر في المسجد الكبير. فلم يبقَ لضرغام والقاضي بُدٌّ من الذهاب إلى الصلاة معه في ذلك المسجد، وكان المعتصم قد بناه وبالغ في إتقانه على شكل لم يسبق له مثيل في الإسلام، فجعل جدرانه من مرايا حتى إذا وقف الخليفة للصلاة رأى من يدخل المسجد من خلفه، وبنى له منارة عظيمة على شكلٍ لولبي مكشوف يُصعد إليها على درج لولبي من ظاهرها. ولعل ابن طولون بنى منارة جامعه في مصر على مثال تلك. وكان المعتصم كثيرًا ما يصلي في ذلك المسجد لقربه من قصره. فلما تحفز للنهوض استأذن أحمد وضرغام في الانصراف وذهب كل منهما إلى منزله حيث توضأ ويمم المسجد. دخل الخليفة أولًا والناس وقوف للتبرك برؤيته، وفيهم القواد والوزراء حتى إذا دخل المقصورة الخاصة في أثره، وفيهم القاضي أحمد، ومحمد بن عبد الملك الزيات وزيره، وقواده الأتراك الذين ذكرناهم. أما ضرغام فدخل حتى وقف في جملة الحاشية وكانت المرايا في الجدران على شكل غريب يرى الناس صورهم فيها كأن أمامهم مسجدًا آخر فيه أناس يصلون، ووقف ضرغام في جملة الواقفين للصلاة. وبينما ضرغام واقف يصلي وعيناه على المرايا في المحراب يرى الناس يدخلون من الباب وراءه ممن يعرفهم ولا يعرفهم، وقع بصره على رجل لم يكد يتثبته حتى أجفل ولم يتمالك أن الْتفت إلى الوراء ليتحقق ظنه فإذا هو مصيب في تخيله؛ وكان قد رأى بالمرآة صورة سامان أخي جهان، فاحتال في التقهقر رويدًا رويدًا حتى دنا من الباب ورآه سامان يتقهقر فسبقه إلى صحن المسجد، فخرج ضرغام في أثره وهو يحدق فيه ويكاد ينكره لما رأى في حاله من التغير. فقد فارقه في فرغانة وعليه لباس أهل الوجاهة مما يعوض عن قبح صورته بعض الشيء، ولكنه رآه هذه الساعة في حالة يُرثى لها من الضعف ورثاثة الثوب وقد ربط زنده وعصب رأسه ووقف ذليلًا كئيبًا، فأثَّر منظره فيه وأخذته عليه الشفقة وخشي أن يكون قد أصاب جهان سوء فصاح به: «سامان؟!» قال: «نعم أنا سامان يا سيدي.» فقال: «ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين جهان؟» قال: «إذا أذنت لي في خلوة قصصت عليك كلَّ شيء، فقد تعبت من البحث عنك في سامرا، وأخيرًا أتيت المسجد لعلي أراك.» فأشار إليه أن يمشي وراءه في صحن الجامع وقال: «يظهر أنك سألت عني باسمي القديم (ضرغام) وأنا اليوم لا يعرفني أحدٌ بهذا الاسم، وإنما اسمي الصاحب. أين جهان؟ وما لي أراك رث السربال على هذه الحال؟» وكانا قد انتهيا من الصحن إلى بناء مربع على هيئة الكعبة. فرأى الصاحب أن يدخل إليه ليختلي بسامان؛ إذ لم يبقَ له صبر حتى يصل إلى المنزل، فدخل وأشار إليه أن يجلس على دكة هناك وهو يقول: «أخبرني أين جهان وماذا جرى لكم؟» فجلس يتنهد ويتمسكن وقال: «أحمل إليك خبرًا لا يسرك.» فاضطرب ضرغام وقال: «هل أصاب جهان سوء؟» قال: «لم يصبها سوء ولكن …» وبلع ريقه. قال: «ولكن ماذا؟ أين هي؟ قل!» قال: «لا أدري أين هي يا سيدي … فقد خطفها مني اللصوص.» قال ذلك وتظاهر بالبكاء. فزأر ضرغام كزأر الأسد وحملق عينيه ووقف شعر شاربيه وأصبح منظره مخيفًا وقال: «اختطفوها؟ من تجاسر على ذلك؟» قال: «لا أعلم يا سيدي مَنْ أولئك اللئام الذين اختطفوها. ولكن تمهل قليلًا حتى أقص عليك الخبر كما وقع.» قال: «قل وأوجز.» قال: «فارقتنا يا مولاي وظللنا في فرغانة بعد سفرك بضعة أيام ذُقْنَا فيها الأَمَرَّين.» قال ذلك وأرسل بصره إلى صحن الجامع وخفض صوته كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فلما تحقق خلو المكان من السامعين قال: «إن مصيبتنا أتت من أقرب الناس إلينا؛ أتت من الرجل الذي أوصاه أبي بنا؛ فالأفشين لم يكتفِ بأنه حرمني من ميراث أبي حتى مدَّ يده إلى أختي!» فاقشعر جسد ضرغام من هذا التعبير مع ظنه أنه يعني تعدِّيه على حِصَّتها من الميراث كما تعدى على حصة سامان، ولم يخطر له شيء وراء ذلك فقال: «أظنه طمع في ميراثها أيضًا؟» فتشاغل سامان بحك ذقنه الأجرود وتنحنح وظلَّ ساكتًا، فارتاب ضرغام في أمره فقال: «أليس الأمر كما أقول؟» قال: «لو أنه اكتفى بالإرث لكان خيرًا، ولكنه طمع فيها هي نفسها. ويحزنني أن أغضبك بهذا الخبر ولكنه الواقع وعليَّ أن أصدقك؛ فإنه طلب الاقتران بأختي على علمه أنها مخطوبة للبطل ضرغام وأنها يستحيل أن تقبل سواه.» فقال ضرغام وهو يرتعد: «ثم ماذا؟» قال: «تداركنا الأمر بالفرار؛ ففررت أنا وجهان في قافلة بما خفَّ حمله من المال والمتاع، ولم نخبر أحدًا من أهل القصر إلا القهرمانة خيرزان، فأخذناها معنا وركبنا مسرعين نقصد إلى سامرا قبل أن يعلم الأفشين بنا، فقطعنا البراري والقفار، وقاسينا عذابًا شديدًا من الحر والبرد والتعب حتى دخلنا خراسان ودنونا من همذان. وهناك فارقتنا القافلة وحسبنا أننا صرنا في أمان، فاعترضنا قوم من قُطَّاع الطريق على خيولهم فدافعنا عن أنفسنا دفاعًا حسنًا جهد طاقتنا حتى كلَّت يدي وجُرح رأسي، وكنت أتمنى لو أُقتل وتبقى جهان سالمة ولكن …» فصاح به: «ولكن ماذا؟ هل أصابها سوء …؟ أليست حية؟» قال: «هي حية يا سيدي ولكنهم خطفوها وذهبوا بها وبقهرمانتها، وآخر ما سمعته منها قولها: «سلِّم على ضرغام وأخبره بما جرى».» فتعاظم غضب ضرغام حتى غلى دمه واحمرَّت عيناه وقال: «ومن هم أولئك اللصوص؟ ألم تعرف أحدًا منهم؟» قال: «كلا؛ فقد كانوا ملثمين ولم يفوهوا بكلمة ولا سمعنا لهم صوتًا خوفًا من انكشاف أمرهم.» ••• وأطرق ضرغام برهة كان فيها كالضائع يحسب نفسه في حلم أو كأنه انتقل إلى عالم آخر، ثم انتبه لجلبة الناس أثناء خروجهم من المسجد وتذكر أن الخليفة معهم، فخاف أن يراه مختبئًا فيشك في أمره فخرج واختلط برجال الدولة وأشار إلى سامان أن ينتظره فظلَّ واقفًا في مكانه. وبعد قليل انفرج الوقوف وشقوا طريقًا للخليفة ووقفوا للتحية فمرَّ بهم المعتصم يتفرَّس في وجوههم حتى وقع بصره على ضرغام فأشار إليه أن يتبعه، فاستعاذ بالله وخاف أن يكون في تلك الدعوة ما يحول دون البحث عن جهان. وتفرَّق الناس عن الخليفة رويدًا رويدًا حتى وصل إلى القصر ولم يبقَّ معه غير ضرغام، فدخل وأشار إليه أن يلحقه، ففعل حتى وصلوا إلى غرفة خاصة، فالْتفت الخليفة إليه وقال: «رأيتك خرجت من المسجد قبل الفراغ من الصلاة.» فخجل ضرغام من هذا الاستفهام وقد فاته أن الخليفة يرى الخارجين والداخلين بالمرايا كما رأى هو سامان، ولكن رؤية سامان فجأة أنسته نفسه وموقفه. فلما سأله الخليفة عن سبب خروجه اعتذر بقوله: «خرجت لمشاهدة رجل لم أكن أنتظر رؤيته ويهمني أمره، وكان ينبغي أن أتم الصلاة لأكون في معية أمير المؤمنين، فعفوًا لمولاي، وإني أعد ملاحظته الْتفاتًا كبيرًا إلى صنيعته.» قال: «إني كثير الاهتمام بشئونك؛ لأنك صاحبي، فأرجو ألا يكون عليك بأس مما رأيته أو سمعته.» فرأى ضرغام الفرصة مناسبة للاستئذان في الذهاب إلى همذان فقال: «لا بأس عليَّ ما دمت في ظل مولاي أمير المؤمنين، ولكن قومًا من أهلي قادمين من فرغانة إلى العراق فأصابهم ما أخَّر وصولهم فبعثوا يستعينون بي على ذلك، فهل يأذن مولاي بذهابي بضعة أيام؟» فأطرق المعتصم ثم قال: «سر ولا تطل الغياب، وإذا رأيت أن تستعين بجند أو بريد فافعل.» فانحنى ضرغام شاكرًا واستأذن وعاد إلى المسجد حيث ترك سامان، وقد سرَّه اهتمام المعتصم بأمره ولكنه ظلَّ مضطرب البال لما سمعه عن جهان والأفشين، ولم يكن الأفشين قد وصل إلى سامرا بعد، فرأى ضرغام المبادرة إلى همذان فأمر بإعداد أفراس البريد ينتقل بها هو وسامان، وذهب لوداع أمه وذكر لها أنه ذاهب في مهمة يعود منها بعد بضعة أيام، فقبَّلته وودَّعته. فركب في ذلك المساء وقلبه يكاد يسبقه من شدة القلق إلى همذان، وكلما وصل إلى محطة من محطات البريد لتبديل الركائب يسأل الناس هل سمعوا بلصوص يلجئون إلى بعض الأماكن في تلك الناحية. وكان يواصل السير نهارًا وليلًا ولا ينام إلا قليلًا حتى دنوا من همذان وبجانبها جبل وعر وطريق البريد بجانب ذلك الجبل وفيه محطة لخيل البريد، فلما وصل إلى هناك سأل سامان: «ألا تذكر المكان الذي وقع فيه الحادث؟» قال: «وراء هذا الجبل على ما أظن.» وكان وصولهم إلى الجبل عند الغروب، وقد أعدَّ له أصحاب البريد منزلًا يبيت فيه، ولكنه لم يستطع صبرًا إلى الغد. وكان في تلك المحطة غير واحد من السعاة والكوهبانية وأصحاب الأخبار الْتقوا هناك صدفة وكلٌّ منهم سائر في طريق، وعلم صاحب تلك المحطة أن الصاحب من خاصة الخليفة وقد جاء للبحث عن شيء يهمه، وأنبأ الآخرين بذلك فأصبحوا يتوقون إلى خدمته، وسأل ضرغام صاحب المحطة: «هل أنت هنا من زمن طويل؟» فقال: «من بضعة أسابيع ونحن أصحاب البريد ننتقل دائمًا، فهل يأمر مولاي بخدمة نقوم بها؟» قال: «شكرًا لك، هل سمعت بلصوص أو قطاع طريق يعتصمون في بعض هذه الأودية أو الجبال أو يمرون من هذه الأمكنة؟» قال: «قلما نسمع بشيء من هذا، ولكني علمت بالأمس أن جماعة من قطاع الطريق معتصمون وراء هذا الجبل، ولم يصل خبرهم إلى الحكومة بعد على ما أظن.» فلما سمع ضرغام كلامه قال له: «أرسل معي رجلًا يهديني إلى مكان أولئك اللصوص.» ومشى. فأُعجب الرجل بشجاعته ومبادرته إلى الذهاب وحده فقال: «ألا ترى يا سيدي أن نرسل أحدًا للبحث عنهم وتمكث أنت هنا؟» قال: «كلا، يكفي أن ترسل معنا رجلًا يدلنا على الطريق.» ومشى وسيفه إلى جانبه وقد الْتفَّ بعباءته والكوفية حول رأسه، وتبعه سامان ورجل من حراس تلك المحطة، سار أمامهما في شعاب وعرة وقد غابت الشمس وأخذ الظلام يتكاثف، وضرغام مطرق لا يلتفت ولا يتكلم، حتى انتهوا إلى منعطف في ذلك الجبل فوقف الدليل وأشار بيده إلى نور ضعيف على أكمة أمامهم وقال: «هذا مقر القوم يا سيدي، وأخاف أن يبطشوا بنا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/14/
المعتصم والعرب
أظهر سامان أنه يود الذهاب مع ضرغام، ولكن هذا أبقاه هناك ومشى وحده يتعثر بالحصى ويُسمع لوقوع نعاله قرقعة كأن غضبه أعماه عن الخطر الذي يهدده بالسير وحده، ولكنه كان شديد الاعتداد بقوته كثير الاعتماد على بسالته. حتى إذا صار على مرمى سهم من مقر اللصوص، رأى أشباحًا تتراوح بينه وبين المصباح وسمع هرير الكلاب فلم يبالِ. ورآه القوم قادمًا وحده فلم يخطر لهم أنه عدو لعلمهم أن العدو لا يجسر على القدوم وحيدًا، فتصدَّر واحد منهم وصاح: «من هذا؟» فقال ضرغام: «قادم يبحث عن ضائع … أين كبيركم؟» ومضت لحظة رأى في أثنائها القوم في حركة وتهامس، ثم تقدم واحد منهم وبيده قبس وقد تلثم بكوفية والْتف بعباءة، فتفرس ضرغام فيه فلم يعرفه ولكنه جعل يده على قبضة سيفه وهو يتحفز للوثوب أو الدفاع ولم يكد صاحب القبس يصل إلى ضرغام حتى قال له: «أهلًا بضرغام، أهلًا بالصاحب.» فلما سمعه يناديه باسمه خفق قلبه واستأنس به ولكنه لم يعرفه فقال: «من أنت؟» وكان قد وصل إليه فأزاح اللثام وأدنى القبس من وجهه وقال: «ألم تعرفني؟» فتفرس ضرغام فيه، ولما عرفه صاح: «حماد؟! ما الذي أتى بك إلى هنا؟» قال: «أتى بي إلى هنا ظلم صاحبك. تفضل.» قال ذلك وصفر صفيرًا أبطل نباح الكلاب، وفرَّق الرجال الذين كانوا مجتمعين، ومشى وهو قابض على يد ضرغام يرشده إلى الطريق، وضرغام يعجب لما يراه؛ لأنه يعرف حمادًا من وجوه رجال الدولة في سامرا، وقد رآه فيها منذ أسابيع وكان صديقًا حميمًا له، فتبعه مطمئنًّا حتى وصلا إلى بناء قديم حجارته ضخمة وجدرانه مهدمة. ولو تفرس القادم فيما بقي من أنقاضه على ضوء القبس لرأى عليها نقوشًا وصورًا من آثار قدامى الفرس. ولكن ضرغامًا لم ينتبه إلى شيء من ذلك. وإذا بصاحبه قد أوصله إلى غرفة ليس فيها شيء من الأثاث أو الرياش، ولكنه شاهد في أرضها أكياسًا من الحبوب وصناديق فيها الآنية والمتاع كأنها أُخذت من أصحابها التجار في تلك الساعة. فأشار حماد إلى ضرغام فجلس على صندوق وجلس هو على صندوق آخر وقال: «أظنك تعجب لما تراه؟» فقال: «كيف لا أعجب وقد بلغني عن هذا المكان أنه مأوى اللصوص وأراك فيه كواحد من أهله.» قال: «بل أنا زعيم أصحابه. ولم أكن لأكاشفك بذلك وأدخلك هذا المكان لولا ثقتي بك ولتعلم مغبة ظلم صاحبك.» قال: «أتعني أمير المؤمنين؟» قال: «بل أعني أمير الأتراك والفراغنة، وإذا أحرجتني قلت إنه أمير الكافرين مثل أخيه المأمون.» فشغل ضرغام بهذا الأمر الغريب عن الغرض الذي جاء من أجله فقال: «إني لا أرى مسوغًا لهذه النقمة، ولولا ما تعلمه من حبي لك ما صبرت على ما أسمعه منك، ولكنني أذكر صداقتك وأحب أن تصرح لي بما يكنه ضميرك عساي أن أذهب ما في نفسك من الغل على الخليفة، ونحن في حاجة إلى رأيك وسيفك وأعداؤنا كثيرون فلا ينبغي أن نتفرق.» فاعتدل حماد في مجلسه وبان الاهتمام في وجهه وقال: «لا ألومك على دفاعك عن المعتصم؛ لأنه صديق الأتراك والفراغنة، وقد عادى أهله وعشيرته من أجلهم. وأنت الآن صاحبه ومن أقرب المقربين إليه. لا أقول إنك لا تستحق ذلك بل أنت أهل لأكثر منه، ولكنك لو كنت في مكاننا نحن العرب لما قبلت ما يأتيه هذا الرجل من المظالم؛ لم يَكْفِه أنه صادرنا في ديننا وجلَد الإمام أحمد بن حنبل الرجل التقى البار حتى غاب عن رشده وسال دمه وتقطع جلده، ثم قيَّده وحبسه واضطهد كل من لم يقل بخلق القرآن، لم يَكْفِه ذلك حتى قطع العطاء عن العرب كافة، ومنع المسلمين من رواتبهم ولم يفعل ذلك أحد قبله. ولا أذكرك بما كان للعرب من العز والسؤدد في عهد الراشدين والأمويين يوم كان الفرس والترك وسائر الأعاجم يُعدون من العبيد والموالي، ولا يستنكفون أن يكون العرب سادتهم، بل كانوا يتشرفون بالانتماء إليهم. وإنما أذكرك بما كان لهم من الزعامة في صدر الدولة العباسية مع أنها قامت بسيوف الفرس. حتى المأمون الذي حارب العرب وحاربوه لم يُنْقِصْ شيئًا من أعطياتهم كما فعل المعتصم هذا، مع أن المأمون كان معتزليًّا مثله يقول بخلق القرآن ويضطهد الأئمة القائلين بقدمه، ولكنه كان يعلم أن العرب مادة الإسلام وأصل هذه الدولة وروح هذه الأمة. أما صاحبك فقد قطع العطاء عن كل عربي، ولم يفعل ذلك عن فقر أو جدب فإنه ينفق الأموال الطائلة في اصطناع الأتراك والأشروسنية والفراغنة، وقد بنى لهم سامرا وأحضر لهم النساء والجواري وأسال النضار في خزائنهم. ولو كنت أنت أعرابيًّا ما صبرت على ذلك.» فلم يرَ ضرغام حجة يدفع بها قول حماد؛ لعلمه أنه يقول الحق، ولكن غيرته على المعتصم وإخلاصه في خدمته حملاه على انتحال الأعذار فقال: «لا أنكر عليك ما ذكرته من مواضع النقد على أمير المؤمنين. ولكنك حملت ذلك منه على سوء القصد؛ فهو قطع العطاء عن بعض العرب بعد أن تحقق عداوتهم للدولة، ومنهم من حاربه وجرَّد الجيش عليه. أما الذين يخلصون في خدمته فيبالغ في تقريبهم والإنعام عليهم. هذا القاضي أحمد بن أبي دؤاد لا أزيدك علمًا بمنزلته عند الخليفة وهو عربي. وأنت؟ ألم تكن مقربًا ولك منصب رفيع؟» فهزَّ حماد رأسه وقال: «أراك تحسن الدفاع عن صديقك الخليفة. وقد أتيت بالقاضي أحمد شاهدًا وهو عربي من بين ألوف قد لحقهم الذل والعار والفقر. أما أنا فقد كان لي منصب وبئس المنصب لو بقي! جعلني سادن الكعبة التي أنشأها في سامرا ليحول المسلمين عن كعبة مكة ويذهب بما بقي للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز؛ لأنهم يرتزقون من الحجاج، فأنشأ الكعبة في سامرا ليغني المسلمين عن الحجاز …» فقطع ضرغام كلامه قائلًا: «ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء؛ فقد حاول ذلك الحجاج والمنصور ولم يفلحا.» فقال: «وهذا لن يفلح أيضًا؛ لأن بيت الله في مكة فلا يقدر أن يجعله في سامرا.» ••• ورأى ضرغام أن الحديث قد طال لا يهمه بقدر ما يهمه الأمر الذي جاء لأجله، فأراد أن يختصر الكلام فقال: «ومع ذلك لا أجد فيما ذكرته مسوغًا يجيز لك اللصوصية.» فقال: «لا تقل اللصوصية. إننا لم نرتكب شيئًا من ذلك على الإطلاق.» فتضاحك ضرغام وهزَّ رأسه استخفافًا بدفاع حماد. فابتدره هذا قائلًا: «لا تضحك يا صديقي. إننا لا نسرق وما نحن لصوص وإنما نحن نستولي على حقوقنا بأيدينا.» فاستغرب قوله ونظر إليه وتطاول بعنقه نحوه كأنه يستفهمه فقال حماد: «إن هذه الأموال التي تجدها ملقاة هنا إنما هي حق الفقراء وأبناء السبيل بأمر الله — تعالى — في كتابه، وهي عشور الأموال أو أخماس الفيء، فهذه كان الخلفاء في صدر الإسلام يأخذونها من أصحاب الأموال والتجار ويفرقونها صدقة أو عطاء، وقد قطع المعتصم هذه الأعطيات، فهل يموت المسلمون جوعًا لأنهم عرب؟! فنحن إنما نستولي على حقوق الفقراء بالقوة؛ لأن الإمام أراد ضياعنا!» فتعجب ضرغام لقوة تلك الحجة ولكنه أراد وقف الجدال فقال: «ما لنا وذاك! لقد علمت أنك كنت في سامرا من عهد قريب ولم يقطع الخليفة عطاءك فما الذي حملك على الخروج؟» فوقف حماد وتنهَّد وتغيَّرت سِحْنته من الغضب إلى الكآبة ونظر إلى ضرغام وقال: «إن ما حملني على هذا الخروج وأثار فيَّ هذه الضغائن أمر أصاب مني مقتلًا، أصاب قلبي فأذهب رشدي؛ فأنا ناقم على الرجل الظالم ما دمت حيًّا.» قال ذلك وقد تصبب العرق من جبينه، فازداد ضرغام رغبة في كشف خبره وتوسَّم من عبارته أنه يشكو من حبيب فارقه فقال: «وما ذاك يا أخي؟ قل وأوجز فإني أتيتك لأمر يهمني كثيرًا فشغلتني بأمورك.» قال: «مهما يكن من أمرك فلست بالغًا أمري. أحببت جارية لبعض البغداديين وأحبتني، فلما أقدمت على الزواج بها، تصدى لي رجل من خاصة المعتصم اسمه الحارث السمرقندي أظنك تعرفه وطلبها لنفسه وأخذها مني عنوة، فشكوت أمري إلى الخليفة على يد القاضي الذي ذكرته فأجابني بقوله: «ابحث عن جارية أخرى فإن هذه لا تكون لك.» مع علمه بأنها تحبني حبًّا شديدًا.» ثم تنهَّد وقال: «آه يا ياقوته!» فقال ضرغام: «هل اسمها ياقوتة؟» قال: «نعم هذا اسمها. فهب أني أغضيت عن كل السيئات التي ذكرتها فهل أقدر أن أغضي عن هذه؟ إني واللهِ ناقمٌ على الخليفة ودولته، وما خرجت لأكون لصًّا وإنما خرجت لأنتقم من هذه الدولة ما وجدت إلى ذلك سبيلًا، وأعداؤها كثيرون.» فتأثَّر ضرغام من حكاية ياقوتة؛ لأنه واقع في مثلها. والإنسان إنما يشارك الناس في المصائب التي أُصيب بمثلها أو يخشى أن يُصاب بها. فالأعزب لا يشعر بمصاب الآباء بفقد أبنائهم كما يشعر من تزوج وله ولد، ولا يشارك المحب في شعوره إلا الذي جرَّب الهوى. فقال ضرغام لحماد: «هوِّن عليك ولعلي أنفعك في شيء من شكواك. وقد آن لي أن أسألك عن الأمر الذي جئتُ في هذا الليل لأجله فأعرني سمعك واعلم أني أول من يشاركك إحساسك؛ لأني واقع في مثل ما أنت فيه.» فقال حماد: «قل أيها البطل فإني سامع.» قال: «لي خطيبة كانت في فرغانة وأنا في سامرا، فركبت مع أخيها وجاريتها، فلما وصلوا إلى همذان هجم عليهم اللصوص واختطفوا الفتاة وجاريتها وجاء إليَّ أخوها بالخبر فأسرعت للبحث عن الجناة فأنبأني صاحب البريد عن هذا المكان فأتيت، فما قولك؟» قال: «أما نحن فلا نختطف نساء. وقد أخبرتك بما نفعله، وأنا على يقين أنه ليس في هذا الجوار لصوص أو قاطعو طريق.» قال: «ولكن أخا الفتاة شهد الوقعة وهو الذي نجا من المعركة وأخبرني.» فهزَّ رأسه هزة الإنكار وقال: «نحن هنا منذ أسابيع، ولم نسمع بحدوث شيء من ذلك وأظن الراوي كاذبًا.» فانتبه ضرغام إلى ما يعلمه من سوء نية سامان من يوم عرفه فقال: «إن الراوي واقف في مدخل هذه الشعب. وسأستقدمه إليك لتسأله.» فأشار حماد إلى بعض رجاله أن ينادي الرجل الواقف هناك، فذهب وعاد يقول إنه لم يجد أحدًا. فذهب ضرغام بنفسه فلم يجد سامان. وسأل الدليل عنه فقال إنه مضى إلى حيث لا يعلم. فبعث في البحث عنه فلم يقف له على أثر، فرجح لديه أن في الأمر سرًّا غامضًا وأن الرجل قد يكون كاذبًا فيما رواه حتى عن الأفشين، فقلَّت ثقته بما رواه عن جهان. ولم يرَ بدًّا من الرجوع إلى سامرا، فاستأنف الكلام مع صديقه ونصح له أن يرجع معه فلم يرضَ وقال: «لا أرى في رجوعي فائدة ولو اقتصر ظلم صاحبك على خسارة المال لتحملته ولكنه طعنني في قلبي وأنت تقدر شعوري. فلا تلمني.» فتذكر ضرغام مصيبته وتصوَّر نقمته على خاطف حبيبته فعذره وقال: «صدقت إني معك فيما ذكرت، ولو علمت أن الخليفة صادرني في خطيبتي لنقمت عليه مثل نقمتك وأشد منها. فافعل ما بدا لك. وعلى كل حال أرجو أن تذكرني ولك مني مثل ذلك.» وأطرق قليلًا ثم قال: «وإذا حدث ما يدعو إلى الاتصال بك أو المجيء إليك فهل أجدك هنا؟» فأجاب: «لا أعلم أين يكون مقري بعد الليلة، وما قيامي هنا إلا إلى أَجَلٍ موقوت. وأنا إذا وُفقت إلى أمر يسرُّك وأردت أن أراك فأين تكون؟» قال: «في سامرا.» ••• ودَّع ضرغام صاحبه وهو يفكر فيما سمعه، وصورة جهان لا تذهب من مخيلته؛ لأنه في المكان الذي قِيل له أنها أُخذت فيه والليل مظلم مثل ظلام الليلة التي خطفت فيها. فتصور حالها وهم يقبضون عليها وتوهم أنه يسمعها تستغيث به وتناديه باسمه فاقشعرَّ بدنه وحرق أسنانه. وقضى في تلك الهواجس مدة وهو يتلمس ذلك الطريق الوعر على هدي الدليل يسير بين يديه حتى أدرك محطة البريد فركب وعاد إلى سامرا. وطريق البيت في الرجوع إليه أقصر منها في الخروج منه ولكن ضرغامًا استطال الطريق واستبطأ وصوله لشدة رغبته في ملاقاة وردان لكي يستشيره في الأمر وقد تعوَّد ذكاءه وصدق فراسته. وأشرف ضرغام أو الصاحب على سامرا نحو الغروب والشمس تقابله وقد ضعف نورها وتبددت أشعتها واحمرَّ لونها وتكوَّر شكلها وتعاظم حرُّها فظهرت كأنها كرة من نار سابحة في ضباب من دم. ونظر إلى أبينة سامرا وأعظمها قصر الخليفة والمسجد الأعظم ومنارته تناطح السحاب. ويخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب نهر دجلة وعلى ضفافه أشجار النخيل واقفة وقوف الجند يحملون سهامهم في عمائمهم. فشغله منظر الطبيعة عما في نفسه فأحسَّ بارتياح فوقف هنيهة والبريدي على بغلته إلى جانبه لم يدهشه ذلك المنظر؛ لأنه تعوده، والنفس يختلف تأثرها بمناظر الطبيعة باختلاف حالها. والمحبون أكثر الناس مشاركة للطبيعة في أحوالها. وأحسَّ ضرغام بميل إلى الانفراد هناك، فأشار إلى البريدي أن يسبقه إلى سامرا فأطاع، وبقي ضرغام وحده يراقب الشمس ساعة الغروب وهي تتراءى لعينيه من وراء جذوع النخل عن بعد، بألوانها القزحية وإن غلب عليها لون الأرجوان، حتى إذا أدركت حافَّتها الأفق استطالت تلك الحافة إلى شبه خرطوم نزل وراء الأفق وهبطت في أثره الهويناء وقد أخذت الظلال تستطيل وتنتشر حتى توارت الشمس وخلَّفت مكانها أفقًا أخذ احمراره في الاكفهرار شيئًا فشيئًا؛ من الدموي إلى الأرجواني فالبنفسجي فالأزرق على اختلاف ألوانه، حتى استحالت الظلال إلى ظلام. فأحسَّ ضرغام بانقباض نبَّهه إلى المسير فوخز الفرس وخزًا خفيفًا فمشى مشيًا بطيئًا حتى تخلل مغارس المدينة من طرفها الأسفل، وتراءى له دجلة في مكان لا يغشاه النخيل فيممه على أن يسير على ضفته إلى الجوسق. وكان الجو هادئًا، فلما دنا من دجلة عاد إلى تخيله فلج في نيار فكره والجواد يسير على ضفة النهر من تلقاء نفسه، وقد هب النسيم عليلًا، وسكنت الطبيعة، فلم يعد يسمع إلا حفيف الورق ووقع حوافر الفرس. ولم يكن ضرغام يسمع شيئًا لذهوله، وإذا بجلبة فاجأته من ورائه وسمع صوتًا وقع وقوع السهم في قلبه وأجفله؛ لأنه صوت امرأة تستغيث قائلة: «خافوا من الله … اتركوني … يا ناس … اتركوني …» ثم اختنق الصوت. فارتعدت فرائص ضرغام؛ لأن الصوت كثير الشبه بصوت جهان، وتذكر ما أصابها من اللصوص، وتصوَّر أنها استغاثت بمثل الكلام ولم ينجدها أحد فصمَّم على نجدة هذه المستغيثة لعل الله يوفق جهان إلى منجد ينقذها. وسرعان ما ترجل عن جواده وركض إلى جهة الصوت شاهرًا في يده حسامه وهو يقول: «لبيك لبيك. اتركوها أيها اللئام.» قال ذلك وهو لا يرى أحدًا لشدة الظلام، فخاف أن تكون قد خدعته أوهامه وأن ما سمعه هاتف يمثل له جهان. لكنه ما عتم أن سمع الصوت يقترب منه ورأى شبح امرأة تعدو من ضفة النهر باسطة يديها إليه وتصيح: «بالله أغثني أشفق على حياتي.» ورأى رجلين يجريان في أثرها وقد شهر أحدهما السيف ويقول: «إلى أين تهربين يا خائنة؟! سأقتلك لا محالة.» فصاح ضرغام: «دعها يا رجل وإلا ضربت عنقك.» فلم يبالِ الرجل وظلَّ مسرعًا حتى كاد يدرك المرأة، وكانت قد وصلت إلى ضرغام وترامت على قدميه. فلما رآه ضرغام هاجمًا والسيف بيده تناوله بضربة أطارت رأسه فوقع مجندلًا بدمه، وهجم على رفيقه وهمَّ بأن يضربه فرآه أعزل، فأمسك وصاح فيه: «من أنتم؟» فقال: «ما لك ولنا؟ ليس هذا من شأنك. دع الجارية وامضِ في سبيلك وسترى عاقبة أمرك.» قال: «قف حيث أنت وإلا قتلتك. أو قل لي من أنت وما خبر هذه الفتاة؟» قال: «إنها جارية هربت من بيت مولاها فبعثنا للبحث عنها فأدركناها هنا وأبت الرجوع فهدَّدها رفيقي تخويفًا لها. ولولاك لرجعت صاغرة ولكنها سبَّبت قتل رفيقي. وسوف تعلم مصيرك.» فلما سمعت الجارية كلامه وكانت مستلقية على العشب من التعب نهضت وصاحت: «كذبتم أيها الغادرون، ليس الأمر كذلك.» فلما سمع كلامها شُبِّه له صوت جهان واختلج قلبه في صدره واستبعد أن تكون هي نفسها؛ إذ لو كانت هي لعرفت صوته فقال للرجل: «قل الحق ولا تخوفني بأحد وإلا ألحقتك برفيقك.» قال: «لا تغتر بما سمعته، إن هذه الجارية هاربة من بيت الخليفة فمن يجسر على حمايتها؟» قال: «أنا أجسر، دعها وسر في طريقك.» فصاح الرجل: «من أنت حتى تجسر على ذلك؟» فحول ضرغام وجهه عنه وأمسك الفتاة بيدها ومشى وهو يقول: «قل للخليفة أو لسواه ممن يدعي السيادة على هذه الفتاة أنها في حماية الصاحب.» فلما سمع الرجل اسمه تراجع وبهت كأنه صعق ثم قال: «عفوك يا مولاي عن جرأتي؛ إذ لم أكن أعلم أن مولانا الصاحب يخاطبني.» قال ذلك وقفل راجعًا. أما ضرغام فترك يد الفتاة ومشى إلى جواده وكان لا يزال واقفًا في مكانه، فقاده بلجامه وسار وقال للجارية: «امشي يا بنية لا تخافي. وأخبريني عن حقيقة أمرك فقد سلمت الآن من الخطر.» فقالت وصوتها مختنق: «أشكر الله إذ أرسلك لإنقاذي، ولولاك لذهبت ضحية الظلم.» فأطربه صوتها وأحبَّ أن ينظر إلى وجهها وقلقه على جهان يوهمه أنها قد تكون هي بعينها، ولكن الظلام كان يحول دون ذلك فقال لها: «قولي ما خبرك؟» قالت: «كنت جارية لبعض الناس وأعتقني سيدي لوجه الله. فطلبني شاب عرفني وعرفته وتحاببنا وتواعدنا على الزواج، ثم رآني رجل من بطانة أمير المؤمنين يُقال له الحارث السمرقندي، فتقرَّب إلي وخطبني لنفسه، فأبيت عليه ذلك.» فلما سمع ضرغام اسم الحارث ذكر ما سمعه من حمَّاد فقال: «وما اسم خطيبك؟» قالت: «حماد.» قال: «فأنت إذن ياقوتة؟!» فلما سمعته يذكر اسمها دُهشت وتلعثم لسانها وقالت: «كيف عرفت ذلك يا مولاي؟ هل تعرف حمادًا؟ أين هو؟» قال: «عرفته ولكن لا سبيل إليه الآن. وسأقصُّ عليك خبره فيما بعد. فأتمي حديثك.» فلم تعد تعرف كيف تتكلم لشدة فرحها فقالت: «فلما أبيت على الحارث ما أراد وسَّط القاضي أحمد لدى أمير المؤمنين، فطلب الخليفة أن يراني، فلما مثلت بين يديه نظر إليَّ طويلًا ثم أودع أذن القاضي كلامًا وأمرني أن أبقى عند الحارث بلا زواج حتى يبدي رأيه فيَّ. فأخذني الحارث إلى منزله وحبسني وأخذ يحاول إقناعي بأن أقترن به، تارة بالحسنى وطورًا بالتهديد. حتى جاءني منذ بضعة أسابيع وهو يهزأ بي ويقول: «إن خطيبك غادر سامرا.» فلم أصدقه، وعزمت على الفرار إلى حماد وهو على مقربة من قصر الخليفة. فأدركني هذان الرجلان وهما من أعوان الحارث وأرادا إرجاعي، ولما رفضت الرجوع هدداني فصحت الصيحة التي سمعتها وجئت لإنقاذي، جزاك الله عني خيرًا.» فلما فرغت من حديثها سرَّه أنه أنقذها إكرامًا لصديقه، ولكنه تذكَّر أن حمادًا برح همذان في الليلة التي فارقه فيها ولا يعرف مقرَّه، فظل ساكتًا وهو يفكر في ذلك وصورة جهان أمام عينيه وهو يناجي نفسه: «هل يُتاح لجهان من ينقذها يا ترى كما أنقذت أنا هذه الفتاة؟» ظلَّ برهة يفكر في ذلك وياقوتة ماشية إلى جانبه وقلبها يخفق سرورًا وقلقًا وهي تتوقع أن تسمع منه ما يعلمه عن حبيبها، فلما استبطأته قالت: «وعدتني يا مولاي أن تخبرني عن حماد. هل خرج من سامرا؟» قال: «نعم، خرج منها كما قال لك الحارث.» قالت: «وأين هو؟» قال: «لا أدري. وقد لقيته منذ بضعة أيام في مكان خارج بغداد، وأخبرني أنه مسافر إلى حيث لا يعلم، وقد قصَّ عليَّ غضبه من الحارث والخليفة من أجلك. كوني على ثقة أنه شديد المحافظة على ودك.» فلطمت خدَّها بكفها وقالت: «ويلاه وأين أذهب وأين أبيت وكيف أعرف مقره؟!» فقال: «لا بأس عليك، إنك تمكثين في منزلي مع أمي حتى يأتي الله بالفرج، فإني على موعد مع حمَّاد أن يكتب إليَّ عند الحاجة؛ لأنه صديقي.» فقالت: «جزاك الله خيرًا يا سيدي، ولكن …» قال: «لا تخافي يا أُخية، إنما تكونين مع أمي في خير وأمان لا يمسك أحد بسوء، إن أمي وحيدة في البيت ولا ريب أنها تتخذك ابنة لها وتستأنس بك كثيرًا.» وانتبهت ياقوتة في تلك اللحظة إلى أنها على مقربة من الجوسق، فوقفت وقالت: «أراني بجانب قصر الخليفة؟» قال: «إني أقيم بقصر داخل هذا الجوسق.» فتراجعت وقالت: «أكون إذن في خطر إذا عرف الخليفة بأمري؟» قال: «كوني مطمئنة. إنك في مأمن عندي.» وكانا قد وصلا إلى باب الجوسق، فلما رأى الحراس ضرغامًا وسَّعوا له وتقدَّم أحدهم فأخذ الجواد إلى الإصطبل. وسار ضرغام مع ياقوتة حتى أتى منزله، فلما رآه الخدم أسرع بعضهم إلى أمه فبشَّروها وأناروا الشموع، فدخل والفتاة في إثره حتى توسَّط الدار، وأوَّل شيء فعله أنه تفرَّس في الفتاة على نور الشموع، وحالما وقع بصره عليها خفق قلبه وبدت البغتة في وجهه لشدة المشابهة بينها وبين جهان، فقال في نفسه: «سبحان الخالق! ما هذه الصدفة؟» وأحسَّ بارتياح إلى الفتاة، وأعجبه ما قرأه في محياها من الهيبة والجمال رغم ما كان يغشاها من الاضطراب. ويكفي لارتياحه إليها مشابهتها حبيبته بالوجه والصوت. وزاده استئناسًا بها ما قاساه في سبيل إنقاذها. والمرء بفطرته يحب الذين يشقى في سبيل راحتهم، ولذلك كان الرجل أكثر انعطافًا إلى أشد أولاده حاجة إليه. وكلما تعب الوالد في سبيل ابنه ازداد تعلقًا به. ولو لم يكن قلب ضرغام مشتغلًا بجهان لتعلَّق بياقوتة. أما آفتاب فكانت قد تهيأت لاستقبال ابنها، فلما سمعت وقع خطواته أسرعت إليه وقبَّلته. ثم شعرت بحركة في الدار فقالت: «من رفيقك؟» قال: «بل هي رفيقة لك.» فظنَّت أنه جاءها بجهان فتوجهت ببصرها نحو الحركة التي كانت تسمعها كأنها تستقبل الضيفة وصاحت: «هل هي جهان؟» فوقع قولها وقعًا شديدًا على قلب ضرغام فتح جراحه فتنهد وقال: «كلا يا أماه ولكنها عزيزة عليَّ؛ لأنها خطيبة بعض أصدقائي.» ودنت الفتاة من آفتاب وهمَّت بتقبيل يدها فضمَّتها ورحَّبت بها وقالت: «ما اسمك يا حبيبتي؟» قالت: «اسمي ياقوتة يا سيدتي.» فلما سمعت صوتها دُهشت وبان الاستغراب حول مبسمها وفي اختلاج عينيها البيضاوين وقالت: «سبحان الله، كأني أعرف هذا الصوت!» فقال ضرغام: «أظنك تعنين صوت جهان فإنه كثير الشبه به وقد لحظت ذلك منذ سمعتها تتكلم للمرة الأولى.» فسكتت آفتاب ولم تجبه، وأخذت الفتاة بيدها وأجلستها إلى جانبها وجعلت تضمها وترحب بها والْتفتت إلى ضرغام وقالت: «كيف لقيت هذه الياقوتة، وأين كانت؟» فقال: «اتفق لي وأنا عائد من المهمة التي أخبرتك عنها أني مررت بأسفل المدينة، فسمعت الفتاة تستغيث من رجلين كانا يحاولان أخذها إلى رجل يريد أن يتزوجها رغم إرادتها، فأنقذتها منهما وجئت بها.» قالت: «ومن هو ذلك الرجل؟» قال: «يُقال له الحارث السمرقندي من أعوان أمير المؤمنين.» قالت: «ولماذا لم تقبله فإنه ذو جاهٍ ومال؟» قال: «لأنها أحبَّت رجلًا اسمه حماد العربي، ألا تعرفينه؟» قالت: «أظنني سمعت صوته مرة وقد جاء معك. أين هو الآن؟» قال: «غائب، وستبقى ياقوتة هنا حتى يعود. هل يسرك ذلك؟» قالت: «يسرني كثيرًا؛ لأنها تكون تسليتي إذا خرجت أنت في مهمة. ولقد شعرت من هذه اللحظة كأني أعرفها منذ أعوام، أهلًا وسهلًا بك يا حبيبتي.» ••• وأمرت مسعودة فأخذتها لتبدِّل ثيابها وتصلح من شأنها ثم جِيء لهم بالطعام، فقال ضرغام لأمه: «ألم يأتِ وردان؟» قالت: «جاء منذ بضعة أيام وسألني عنك فلم أقدر أن أخبره عن مكانك.» قال: «هل أخبرك بشيء عن الأفشين؟» قالت: «أخبرني أنه جاء وعسكر خارج سامرا على أن ينتقل بعد بضعة أيام إلينا، وأظن أن وردان قد عاد إليه أو لعله يريد الذهاب إليه غدًا أو بعد غد.» ولم يطيلوا السهرة الْتماسًا للراحة. وأصبح ضرغام في اليوم التالي وقد عادت إليه هواجسه وأصبح شديد الاهتمام بلقاء وردان ليسأله عمَّا سمعه من أصحاب الأفشين عن جهان. وفي أصيل ذلك اليوم جاءه رسول الخليفة يطلب حضوره، فلبس سواده وقلنسوته وذهب إليه في دار العامة، فاستأذن ودخل فوجد القاضي أحمد فسلَّم ووقف فاستدناه إليه وأمره بالجلوس فجلس. فقال له الخليفة وهو يبش في وجهه: «متى عدت من السفر؟» قال: «أتيت مساء البارحة يا مولاي، وكنت عازمًا على المثول بين يدي أمير المؤمنين قبل أن يأتيني رسوله.» قال: «من لقيت في طريقك؟» ففطن إلى أنه يشير إلى ياقوتة، لعلمه أن الحارث لا بد من أن يشكوه فقال: «لقيت فتاة بين يدي رجلين يعذباها.» قال: «وهل أنقذتها كعهدك؟ بارك الله فيك.» فعلم أن الخليفة يشير إلى فضله عليه في إنقاذه من مخالب الأسد، فخجل وتجاهل وقال: «لم أتمالك يا أمير المؤمنين عن إنقاذها. ثم علمت أنها تنتمي إلى بعض رجال الدولة فحملت تبعة عملي طمعًا في حلم أمير المؤمنين وهو ذنب أستغفر له.» فضحك المعتصم وقال: «لقد اصطدت حلالًا، أنت أولى الناس بإحرازه، كيف رأيت الفتاة؟ أهي جميلة؟» قال: «لا بأس بها يا مولاي.» قال: «قد وجب عليك إقرارك.» فلم يفهم ضرغام قصده فابتدره القاضي: «أتذكر أن أمير المؤمنين خطب لك جارية؟» قال: «نعم.» قال: «هذه هي الفتاة بعينها.» فاستغرب ضرغام ذلك الاتفاق الغريب، وتحيَّر في الجواب فقال القاضي: «إن أمير المؤمنين رأى هذه الفتاة للمرة الأولى منذ أسابيع وقد جاء بها الحارث يخطبها لنفسه، وكان رجل آخر يدعي أنها له، وكنت حاضرًا فقال لي أمير المؤمنين: «إنها تصلح للصاحب.» وأمر الحارث أن يحتفظ بها حتى يطلبها. وفي هذا الصباح جاء الحارث يشكوك؛ لأنك خطفت ياقوتة منه فقال له: «إنها للصاحب، ولا سبيل لك إليها.» فخرج مفحمًا، ولذلك قال مولانا إنك اصطدت صيدًا حلالًا ووجب إقرارك عليك.» فلم يسع ضرغام إلا الدعاء للمعتصم على الْتفاته إليه وقال: «إن أمير المؤمنين يتصرَّف بعبيده ومواليه كما يشاء.» فقال المعتصم: «أحرزت أجمل نساء سامرا، بارك الله لك فيها.» ثم صفَّق، فجاء الحاجب، فأشار إليه إشارة فهمها، وخرج ثم عاد غلام يحمل طبقًا عليه عقد من الجوهر يتلألأ كالشمس، فأشار الخليفة إلى الغلام أن يقدمه إلى الصاحب، فقدَّمه، فبُهر ضرغام من لمعان ذلك العقد ووقف احترامًا، فابتدره المعتصم قائلًا: «هذا عقد تلبسه ياقوتة وتتحلى به.» فانحنى ضرغام احترامًا وامتنانًا وقال: «قد غمرني أمير المؤمنين بإنعامه.» قال: «إنك أهل لأكثر من ذلك.» فتناول ضرغام العقد ولفَّه بمنديل وكرر الدعاء. ثم استأذن وخرج فقصد إلى منزله والهواجس تتقاذفه، على أن أمر الزواج بياقوتة لم يزده قلقًا؛ لأنه رأى استبقاءها في بيته حتى يجد خطيبها فيجمعه بها دون أن يعلم الخليفة هل تزوجها أم لا. فوصل إلى المنزل ولقي أمه فسألته وياقوتة جالسة عن سبب ذهابه إلى الخليفة فقال: «دعاني لأمر يتعلق بياقوتة.» فأجفلت ياقوتة؛ لأنها كانت تخاف وشاية الحارث، لكنها اطمأنت لما رأته يبتسم ونظرت إليه مستعطفة، ثم سألته أمه عما جرى فقال: «شكانا السمرقندي إلى أمير المؤمنين، فأرجعه خائبًا، وأوصاني بياقوتة خيرًا.» فانشرح صدر الفتاة وازدادت إعجابًا بضرغام وسمو منزلته عند الخليفة ونفوذ كلمته في الدولة، وأُعجبت بهيبته وجلال طلعته. والإعجاب إذا اقترن بالألفة وبالعادة تحوَّل إلى غرام، ولكن ياقوتة كانت مشتغلة القلب بحماد ورأت ضرغامًا فوق ما ترجوه لنفسها. ولما سمعت قوله عن الخليفة تورَّدت وجنتاها حياء ولم يمنعها الحياء عن الكلام؛ لأنها كانت عاقلة رابطة الجأش فقالت: «أشكر لمولاي الصاحب فضله؛ فقد أنقذني من العار والموت، ورفع منزلتي؛ إذ جعلني تحت حمايته.» فمدَّ ضرغام يده إلى جيبه وأخرج العقد وقدَّمه إليها وقال: «هذه هدية أمير المؤمنين إليك.» فأصبحت ياقوتة لا تدري كيف تعبِّر عن إحساسها، فتناولت العقد ودفعته إلى آفتاب فأخذته وتلمست حباته وقالت: «يظهر أنه عقد جدير بك.» وتقدمت نحوها وقلَّدتها إياه. كل ذلك لم يشغل ضرغامًا عن قلقه وكل ما حدث في مساء الأمس وصباح اليوم يذكِّره بحبيبته وخاصة العقد لمَّا لبسته ياقوتة فقال في نفسه: «لماذا لا تكون جهان هنا وتلبسه!» فلما تخيَّل ذلك اضطرب وترك الغرفة وخرج ليسأل الخدم عن وردان، فلقيه داخلًا وفي وجهه ذعر. ولما رأى ضرغامًا حيَّاه، فقال ضرغام: «قد طال غيابك، فما الذي أعاقك؟» ثم مضى إلى حجرة منعزلة جلسا فيها، فقال وردان: «قد عاقني تأخر الأفشين عن الحضور؛ لأنه لم يصل إلى سامرا إلا منذ بضعة أيام، ولم أتمكن من إتمام مهمتي إلا اليوم.» فقال: «وما الذي عرفته عن جهان؟» فتوقف وردان لحظة ثم قال: «عرفت من صديق لي في حاشية الأفشين لا تخفى عليه من أحواله خافية أن جهان خرجت من فرغانة قبل خروجهم منها.» قال ضرغام: «عرفت ذلك أثناء غيابك من سامان أخيها.» فتغيَّر وجه وردان عند سماع اسم سامان، وقال: «سامان هنا؟ أين هو؟ أين هو؟ لأقبض روحه … لعنه الله من منافق.» فاستغرب ضرغام غضبه وقال: «ولماذا تريد قتله، ماذا فعل؟» قال: «سأقص عليك فعله وإنما أرجو أن تخبرني عما قصَّه هو عليك.» قال: «أخبرني أنه خرج من فرغانة مع أخته فرارًا من الأفشين، فلقيهم اللصوص في همذان فأسروا جهان وقهرمانتها ونجا هو ليخبرنا.» قال: «فأنت عالم بما فعل اللصوص. بقي عليَّ أن أخبرك عما فعله هذا اللعين اليوم: سِرْت أمس لأتمم مهمتي في البحث كما أمرتني، فلم أستطع إلا صباح اليوم؛ إذ لقيت صديقي فقصَّ عليَّ الخبر. وبينما هو يكلمني لمحت سامان مارًّا على فرسه يطلب عرض البر ولم أتحققه، فسألت صاحبي في شأنه فأخبرني بأنه هو بعينه وأنه جاء البارحة في أواخر الليل واجتمع بالأفشين، وقصَّ عليه خبر اختطاف جهان، ولكنه جعل الذنب في ذلك لك، وأساء القول فيك، ولم أعلم ذلك إلا بعد أن غاب عن بصري ولم يبقَ سبيل إليه، ولولا فراره لضربت عنقه، أو قتلته خنقًا، قبحه الله من أجرود لئيم.» وكان ضرغام قد لمس من قبل نفاق سامان وسوء نيته؛ فأصبح لا يصدق شيئًا من أقواله، ولكنه لم يستطع تكذيبه في اختطاف جهان فقال: «قد عرفت نفاق هذا الشاب من قبل، ولكن هل تظنه كاذبًا فيما رواه عن اختطاف جهان؟» وجاءت الأخبار أثناء ذلك بقيام بابك واستفحال أمره فأصدر الخليفة أمره إلى الأفشين بالسفر مع جنده إلى أردبيل، ولم يتسنَّ لضرغام الاجتماع به.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/15/
فراق فرغانة
كانت جهان حين عزمت على الفرار من فرغانة مع أخيها وقهرمانتها قد أعدَّت كل ما تحتاج إليه مما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، وعوَّلت على أخيها في تدبير قافلة يسيرون في ظلِّها تجنبًا لخطر البوادي التي لا بد من قطعها قبل الوصول إلى العراق، فجاءها سامان وذكر أنه هيَّأ كل شيء. فأخذوا في نقل الأحمال محتجين بالسفر إلى مصيف قريب. ولما دنا وقت الرحيل وعلمت أنها لن تعود إلى بلدها بعد ذاك عظم عليها فراق مسقط رأسها وهجر قصر أبيها وقد ألفت هواءه وماءه وظلاله وعاشت بين أهله ومنازله وأسواقه، فقضت أيامها الأخيرة منقبضة الصدر. وقد ذهبت بشاشتها وأخوها يسهل عليها الخروج وقهرمانتها ترى في خروجها شططًا. وأما هي فلم تتردد في الأمر لحظة واحدة رغم ما أحسَّت به من الوحشة. وفي الليلة التي قضوها على أهبة الرحيل استدعت قيِّم الدار إليها وأوصته بالقصر وأهله خيرًا، وأسرَّت إليه أن قد يطول غيابها، فليكن أمينًا قسيطًا، فأسف لسفرها وإن لم يعرف حقيقة غرضها، ولو علم لبكى بكاء مرًّا على فراقها؛ لأنه كان يجلُّها حتى العبادة. وكذلك كان إحساس كل من عرفها أو عاشرها؛ لما فُطرت عليه من اللطف والذكاء والهيبة والجمال. وفي الصباح التالي خرجت على جوادها الأدهم كأنها ذاهبة إلى متنزه أو مصيف. وركب معها أخوها وقهرمانتها ولم تتمالك عند خروجها من باب المدينة أن التفتت ودمعت عيناها حزنًا على ما خلَّفته هناك من ثمار شبابها وجني أبيها، لكنها تماسكت واسترجعت رشدها وعزَّت نفسها بما ستلقاه من أسباب السعادة بقرب حبيبها. وكانت القافلة التي سافروا فيها قادمة من بلاد الهند بأحمال العطريات والبهارات والأنسجة قاصدة إلى خراسان، فضموا أحمالهم إلى أحمالها، وقد اعتمدت جهان في ذلك على أخيها ولبست ثياب السفر، وأقلعت القافلة في مساء ذلك اليوم وهي مؤلفة من قطارين مسلسلين من الجمال والبغال على بعضها الأحمال وعلى البعض الآخر الرجال، غير المشاة من المكارين والسياس على أقدامهم ومعهم الكلاب وأدوات الطبخ والنوم، فإن القافلة كالبلد يمشي بأهله ودوابه وأثاثه. تمشي ساعات من النهار وساعات من الليل تختلف مقاديرها باختلاف فصول السنة، حسب أوجه القمر، يحدق بها حراس من الرجال تعوَّدوا الأسفار والأخطار، أشداء الأبدان يعرفون الطرق، ولهم صداقة ورهبة عند قبائل التركمان بدو الترك المتفرقين في البادية بين نهر جيحون ونهر الشاش. والمسافة بين النهرين تُقطع في أسابيع وقد تستغرق الشهرين. ناهيك بما فيها من اللصوص وقطاع الطرق؛ ولذلك لا يجسر على السفر هناك غير القوافل الكبيرة. وتحتدي القافلة أثناء السير نظام الجند للحرب، وفي ساعات الراحة تضرب الخيام وتوقد النيران وتذبح الأغنام أو الأبقار وتنصب القدور على النار ويشتغل القوم بالأكل والنوم. ولم تكن جهان جرَّبت هذا السفر ولا ذاقت مثله ولا سمعت به في حياتها، فكانت تحمل ثقله متجملة بالصبر، وتعزِّي نفسها بلقاء الحبيب. كل ذلك من معجزات الحب وإنَّ أمره لعجيب. ولو أردنا تفصيل ما لقوه في سفرهم الطويل من حرِّ النهار وبرد الليل وخوف قطاع السابلة وأهل الغزو وما أصابهم من عطش أو جوع لفراغ مئونتهم من الماء أو الطعام قبل بلوغ المكان الذي يتزودون منه؛ لضاق بنا المقام. فنقول موجزين إنه لما بلغت القافلة «الري» أشار سامان على أخته بالتخلي عنها ليسيرا وحدهما؛ لأن القافلة تمشي متثاقلة وليس طريقها طريقهم إلى العراق إذ تتوجه شمالًا. فأذعنت جهان لرأي أخيها وانفردوا بأحمالهم ودوابهم عن القافلة. وفي مساء ذلك اليوم بغتهم جماعة من الرجال على الخيول في مكان بعيد عن همذان، وكانت جهان على فرسها فدافعت عن نفسها دفاع الرجال. وأظهر سامان دفاعًا حاميًا. ولكنهم غُلبوا على أمرهم فقبضوا على جهان وقهرمانتها وشدوا وثاقهما وفرَّ سامان بحجة إيصال الخبر إلى ضرغام. فلما رأت جهان نفسها في الأسر صاحت بكبير القوم وهم جميعًا ملثمون وقالت له: «ما الذي حملكم على هذا العمل؟ إذا كنتم تطلبون المال فهذه أحمالنا خذوها وأطلقوا سراحنا ولن نطالبكم بشيء منها.» فأجابها الفارس وهي أول مرة سمعت كلامه وقال: «لسنا لصوصًا يا سيدتي. ولا حاجة بنا إلى المال وإنما أمرنا أن نحمل عروس فرغانة إلى أعظم رجل في الأرض لم ترضَ به طوعًا فعساها أن ترضى به كرهًا.» فلما سمعت كلامه أدركت أن فخًا نُصب لها، وكانت تؤثر أن يكون القوم لصوصًا يبغون المال على أن تكون هي بغيتهم. ليس لأنها تخاف أن تُغلب على أمرها فإنها كانت من رباطة الجأش وثبات الجنان على ما علمت. ولكن شقَّ عليها فراق حبيبها. فأرادت أن تزداد بينًا فقالت: «ولكن ما تأتونه يا صاح لا يشبه أعمال العظماء.» قال: «وماذا يعمل الرجل إذا اضطر ولم يرَ مركبًا يركبه إلا هذه الوسيلة؟ ماذا يفعل إذا تقدم خاطبًا فرُدَّ خائبًا، وهو كبير القدر تأبى نفسه الفشل؟» قالت: «يترك الخطبة والخطيبة.» قال: «وإذا كان مفتونًا قد غُلب على أمره؟» قالت: «دعنا من ذلك فإني لا أراكم إلا لصوصًا تطلبون المال فهذه الأموال لديكم وأنا الكفيلة بأضعافها إذا أطلقتم سراحنا.» قال: «أما إذا أعطيتنا المال فنشكرك كثيرًا، ولكننا لا نستطيع أن نطلق سراحك. ولا ينبغي يا سيدتي أن تحزني على شيء أضعته بهذا الانتقال فأنت ذاهبة إلى أعظم رجل في العالم فإذا أحسنت معاملته ملكت الرقاب.» فأشكل عليها فهم حقيقة ما يعنيه فقالت: «لم أفهم مرادك، من هو ذلك الذي تعنيه؟» قال: «ستعلمين كل شيء بعد بضعة أيام. فاطمئني وستكونين معنا معززة مكرمة، ثم متى وصلنا إلى المكان المقصود كنت في أرغد عيش وأسعد حال.» قضت عدة أيام مع قهرمانتها وأولئك القوم في أتمِّ ما يرام من الإعزاز والإكرام. وكانوا قد حلُّوا وثاقهما في صباح اليوم التالي وقاموا بخدمتهما أحسن قيام من الطعام والشراب والمبيت. وقد أُتيح لجهان الفرار لو أطاعتها نفسها عليه. ولكنها أكبرته وخافت مغبته. وكبير النفس لا يطاوعه وجدانه على الفرار حتى من الموت. مرَّت في أثناء هذه الرحلة بمدن وقرى وجبال وأودية وسهول وحرون، ورأت أقوامًا من أمم شتى، فعلمت من القرائن أنها مرَّت بأذربيجان، وجاء العريف ذات يوم وأخبرها أنها صارت في أرمينيا وأنها لا تلبث أن تدخل أردبيل. فعلمت أنهم سائرون بها إلى بابك الخرمي. فتذكَّرت أنه كان قد طلبها من أبيها ولم تقبله، فتحقَّقت أنها محمولة إليه، فأخذت تتأهب لدفعه وعلمت أنها مكيدة من أخيها فندمت على الركون إليه. وقد أصاب ظنُّها بسامان؛ فإنه طُبع على اللؤم وزاده فعل أبيه نقمة عليه وعلى أخته. وكان صاحب أطماع لم يستطع تحقيقها بعلو الهمة والبسالة مثل كبار الرجال فالْتمسها بالحيلة والخداع. وليس أشأم على الأمة من أن يعجز رجال المطامع فيها عن نيلها بأعمال تتفق ومصلحتها؛ لأنهم حينئذ يضحون بمصلحتها في سبيل مطامعهم. فانتظم سامان في سلك الخرمية. وهي جمعية سرية قامت على مقاومة أصحاب السيادة، وزعيمها في ذلك العصر بابك الخرمي صاحب أردبيل. وكان الخرمية يسعون في تأييد سلطته سرًّا. وكان شديد البطش يبالغ في اقتناء النساء لا يسمع بامرأة جميلة إلا سعي في استجلابها، فإذا لم يستطع ذلك بالجاه طلبها بالمال، فإذا أعجزه إحضارها بالمال حملها بالقوة. فشاع خبره في الآفاق، وسمع بجهان فبعث يخطبها على يد سامان فلم يرضَ أبوها؛ فدسَّ إلى سامان أنه إذا أتاه بها رفع قدره وأغناه وقلَّده منصبًا عاليًا. ولم يكن سامان قادرًا على شيء في حياة أبيه، فلما تُوفي أبوه وقد حرمه من الإرث ازداد رغبة في الانتقام، ولقي الأصبهبذ نائب بابك في فرغانة أيام النيروز في بعض جلسات الخرمية التي كان يحضرها سرًّا فيغيب عن البيت أيامًا وأبوه لا يعلم وإنما كان يقضيها في الكيد والتواطؤ. فتواطأ معه على أن يحتال في حمل جهان إلى أردبيل وهو لا يبالي عواطف المحبين لدناءة طبعه وهو ناقص الرجولة. وعزم على ذلك خاصة بعد مقابلته للأفشين واطلاعه على وصية أبيه، فأصبح همه الانتقام من الأفشين؛ فوجد في تنفيذ المؤامرة مع الأصبهبذ سبيلًا لنيل ما يتمناه من الثروة والنفوذ والانتقام من عدوه. فاتفق مع الأصبهبذ على أن يهيئ رجالًا يكمنون في الطريق بين الري وهمذان ليأسروا جهان أثناء سفرها إلى العراق ليظهر للملأ أنهم أخذوها منه قهرًا. وبعد أن أخذوها لم يكن غرضه من الذهاب إلى العراق إلا إلقاء الفتنة بين ضرغام والأفشين. وهو يعلم بسالة ضرغام وتفانيه في سبيل جهان فإن علم أن الأفشين أسرها أسرع إلى قتله. وكان سامان ضعيف العزم قليل الدهاء. فلم يحسن سبك حيلته، فلم ينطلِ أمر اختفائها على ضرغام. فرجع من العراق وهو يعتقد أنه أتمَّ مهمته وفاز بمرامه. أما جهان فلما علمت أنه على مقربة من أردبيل قصبة أرمينيا في ذلك الحين أخذت تتهيأ لدفع ما يهددها. وكانت تسمع ببابك وتعرف انغماسه وتهتكه وتعلم أنه مقيم بأردبيل. وما عتم الركب أن وصلوا إلى غيضة كثيرة الأدغال والأشجار إذا دهم أهل أردبيل أمر لجئوا إليها فتمنعهم وتعصمهم ممن يريد أذاهم فهي معقلهم ومنها يقطعون الخشب الذي يصنعون منه الصواني والقصاع، واستغرقت جهان في تفكيرها وهي تنظر إلى تلك الغيضة فيما تخاطب به بابك لتدفع أذاه، وذكرت ضرغامًا وقالت في نفسها: «ماذا هو فاعل إذا بلغه ما أنا فيه؟» وفيما هي في ذلك رأت الركب يتحوَّل عن الطريق المؤدي إلى أردبيل ويدخلون الغيضة. وأتاها رجل منهم أومأ إليها أن تحوِّل شكيمة جوادها الأدهم نحو الغيضة ففعلت وهي لا تعرف السبب. وساروا في طريق وعر يخترقون الأشجار المشتبكة وجهان تلتفت يمينًا وشمالًا لعلها تعرف سبب هذا السير، وإذا بعريف الركب جاءها وزاملها بجواده وخاطبها قائلًا: «أراك تستغربين اتجاهنا إلى هذا الطريق أو لعلك تخافين؟» قالت: «إني لا أخاف شيئًا، ولكنني أستغرب دخولكم هذا الطريق الوعر بعد أن كنَّا على مقربة من أردبيل.» فأكبر العريف جرأتها وكبر نفسها وقال: «أظنك لم تشاهدي الراية المنصوبة على مقربة من الطريق.» قالت: «كلا، وأين هي؟» فأومأ إليها أن تنظر، وصعد بها إلى أكمة هناك، فلما صعدا قال لها: «ألا ترين هذه الراية؟» فلما وقع نظرها عليها خفق قلبها؛ لأنها راية الأفشين فقالت: «إنها راية المسلمين.» قال: «نعم، وقد جاءنا أحد الكوهبانية (وهم أصحاب الأخبار عند قدامى الفرس يشبهون قلم المخابرات في هذه الأيام) وأخبرنا أن مولانا قد غادر أردبيل واحتلها المسلمون بعده.» قالت: «أظنك تعني بابك. وإلى أين ذهب؟» قال: «أخبرنا الكوهباني أنه أوغل في أرمينيا وتحصن في بلد منيع يُقال له «البذ» عند نهر «ارس» ونحن ذاهبون إليه.» وآنست من الرجل لطفًا وإكرامًا كثيرًا فطمعت في أن يطلق سراحها بعد أن شُغل القوم بالحرب فقالت: «فأنتم إذن ذاهبون بنا إلى البذ؟» قال: «نعم يا سيدتي وهي على بعد أيام من هنا.» قالت: «وهل حتم أن أذهب معكم؟» فأدرك الرجل أنها تشير إلى إمكان تسريحها فقال: «إن أمر مولانا قضاء لا سبيل إلى نقضه، هذا ولو أننا أخلينا سبيلك هنا لكنت في خطر شديد، إن لم يكن من اللصوص فمن الوحوش.» وكانت خيزران على فرس وراء فرس جهان، فالْتفتت جهان إليها فابتدرتها خيزران قائلة: «وما الذي تخافينه عند «بابك» ومثلك لا يُخشى عليه؟!» فتشجعت جهان بكلام خيزران وأدركت أنها لم تقل ذلك اعتباطًا. ثم عادوا إلى المسير صعدًا وجهان تلتفت إلى ما حولها تتأمل وحشة ذلك المكان وسعة تلك الغيضة، فوقع بصرها من بعد على مدينة أردبيل، ورأت ساحتها الكبرى غاصة بالجند وبالرايات الإسلامية، وهي تعلم أن الأفشين نفسه ليس هناك؛ لأنها تركته في فرغانة، وأن النازلين بأردبيل فرقة من جنده. وكان الوقت ظهرًا فحثَّ الركب خيولهم للخروج من الغيضة قبل دخول الليل خوفًا من المبيت فيها. ولما اجتازوها وواصلوا السير بعدها مروا بمدن كثيرة منها أرشق وخش وبرزند. ورأت جهان رايات المسلمين على أسوار هذه المدن التي ليست إلا محطات لاختزان مئونة الجند أثناء انتقاله لمحاربة بابك. فكانت كلما تقدَّمت أحسَّت ببرد الطقس حتى أشرفوا على البذ. فرأتها أشبه بالمعقل أو القلعة منها بالمدينة؛ لأنها مؤلفة من قصور عدة كالقلاع يحيط بها كلها سور هائل عليه الأبراج والأبواب وفوقها أعلام الخرمية، والأرض في تلك الجهات جبلية وعرة يصعب مرور الجند فيها بأثقاله وأحماله. فعلمت أن بابك الْتجأ إلى ذلك المعقل لمناعته حتى يكاد يستحيل على المسلمين أخذه. وسبق واحد من الركب إلى البذ يستأذن في الدخول ويسأل أين ينزلون جهان، ثم عاد وأشار بالدخول من باب غير الذي كانوا عازمين على الدخول منه. ولما صارت جهان داخل السور شعرت كأنها في قفص فاستوحشت، وأحسَّت خيزران بوحشتها فساقت فرسها إلى جانبها وسألت كبير القوم: «أين أنت ذاهبون؟» فقال: «إن مولانا الآن في خارج البذ، وقد أمر أن نأخذ عروسه الجميلة إلى قصر النساء هنا فتمكث فيه مُكرمة مُعززة حتى يأتي.» فأجفلت جهان عند سماعها قوله: «عروسه»، ولكنها تجلَّدت وظلَّت ساكتة حتى أقبلوا على القصر. وله سور خاص ورحبة وحديقة. وكأنه حصن قائم بنفسه، فوقف لهم الحراس ووسعوا. فدخلت جهان وقهرمانتها على فرسيهما من الباب الكبير. حتى إذا دنت من الباب الصغير المؤدي إلى المساكن ترجلت وترجلت خيزران معها. وأسرع بعض الخدم لتناول الفرسين وقد أدهشهم ما رأوه في تلك القادمة من الجمال والهيبة؛ لأنها لا تتحجب. وأسرع عريف الركب إلى الوقوف بين يدي جهان باحترام وقال: «أرجو أن تكون سيدتي قد أغضت عن جرأتي في حملها على غير ما تريد فإني مكره على هذا بأمر سيدنا ومولانا، ولكنني بذلت جهدي في راحتها، وأرجو أن تذكرني بالخير لدى الأمير، فلا شك في أنها ستكون الآمرة الناهية!» قالت: «ما اسمك؟» فقال: «بهزاد يا سيدتي.» قالت: «وإلى أين نذهب الآن؟» قال: «إلى قهرمانة القصر وهي تقوم بما تحتاجين إليه من أسباب الراحة.» وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار بينهما فقالت للرجل: «ألا تعرف من أهل هذا القصر امرأة صديقة؟» فقال: «أعرف أكثرهن، وهن من أمم شتى، ولكنني أظن مولاتنا ستأنس بالسيدة هيلانة؛ فإنها من بيت الأمراء، وقد عرفت بيت زوجها بأرمينيا قبل أن أمر مولانا بابك بضمها إلى أهله. وكنت ممن حملوها إليه وتعارفنا في أثناء الطريق، فرأيتها عاقلة لطيفة وأظن مولاتنا تستأنس بها. والآن استأذن في الانصراف فقد أقبلت القهرمانة. وأنا اسمي بهزاد يا سيدتي …!» وانصرف. ظلَّت جهان واقفة هادئة رزينة وقوف الملكة بباب قصرها، حتى وصلت القهرمانة إليها، وهي عجوز طويلة القامة، تدل ملامحها على ما كانت عليه من الجمال في شبابها. وقد لبست ثوبًا يتلألأ بالوشي والتطريز، وحول جِيدها العقود وفي يدها الأساور وفي أذنيها الأقراط. فلما وقع نظرها على جهان أكبرت ما هي عليه من المهابة والجمال رغم آثار السفر الطويل، ورأت في عينيها معاني لم تعهد مثلها في واحدة من عشرات النساء اللاتي عندها. واستغربت رباطة جأشها مع أنها جاءت مكرهة، وكانت تعلم علو منزلتها وكيف طلبها بابك من أبيها فلم ترضَ به، فتوقعت أن تراها منكسرة القلب باكية حزينة. فلما رأتها رابطة الجأش هادئة ظنَّتها راضية بما قُسم لها. ولما دنت منها رحَّبت بها وقالت: «مرحبًا بعروس فرغانة. يشق عليَّ أن تُحملي إلينا قسرًا وأرجو أن تكوني قد غيَّرت رأيك.» فلم تُجِبْها جهان، ولكنها ابتسمت ومشت معها في دهليز القصر مطرقة. ولو تلفَّتت لرأت نساء القصر يتشابقن ويتزاحمن للنظر إلى ضرتهن. فلما شاهدن جمالها وهيئتها حسدنها؛ لأنها سيكون لها المقام الأول عند بابك. أما هي فما زالت سائرة لا تبالي حتى أدخلتها القهرمانة إلى حجرة مفروشة بالطنافس فرشًا حسنًا وقالت لها: «هذه غرفتك يا حبيبتي فاستريحي فيها.» قالت: «وأين ثيابي؟ فقد أخذوها في جملة الأحمال.» قالت: «ستكون عندك بعد قليل.» وخرجت وأرسلت إليها صناديقها. ولما خلت جهان إلى خيزران في تلك الغرفة، أيقنت أنها وقعت في الفخ فانقبضت نفسها ولم تتمالك عن البكاء برغم تجلدها، فوقفت خيزران بجانبها تواسيها متجلدة، ولكنها لما رأت دموعها تنحدر على خديها انفطر قلبها وترامت على قدميها وأخذت تقبل طرف ثوبها وتقول: «آه يا سيدتي ما الذي أصابنا؟! كيف جئنا وكيف أُخذنا؟ وأين نحن؟ أين ضرغام الآن؟» واسترسلت في النحيب، وجهان تبكي ولا تتكلم. ثم شعرت خيزران بأنها أخطأت بإظهار ذلك الضعف بين يدي سيدتها، فتماسكت وقالت: «ولكنني واثقة بتعقلك وقوة جنانك، وأنا رهينة إشارتك.» قالت: «سمعت بهزاد يثني على امرأة من نساء القصر اسمها هيلانة، فلعلها تؤنسنا إذا عرفناها. هل لك أن تبحثي عنها وتأتيني بها؟ وقبل ذهابك هيئي لي ثيابي.» فأعدَّت لها ما تحتاج إليه ومضت، وكانت الشمس قد آذنت بالزوال، وأخذ الخدم في إنارة القصر بالشموع، فبدَّلت جهان ثيابها واستلقت والْتفتت إلى ما حولها، فلما رأت نفسها في تلك الحيرة وبينها وبين فرغانة سير بضعة أشهر، وكذلك بينها وبين سامرا، فكَّرت في ضرغام وساءلت نفسها: ترى هل علم بما أصابها؟ أو هل من سبيل إلى إنبائه بمكانها وما هي فيه فلعله يستطيع إنقاذها. ثم تذكَّرت أخاها سامان وساءلت نفسها ما دهاه؟ وهل قُتل في المعركة أم فرَّ إلى مكان آخر؟ وفيما هي في ذلك قُرع الباب ودخلت خيزران تقول: «قد جئتك بالسيدة هيلانة يا مولاتي.» فهمَّت جهان بالوقوف لملاقاتها، فأسرعت هيلانة وأجلستها وجلست إلى جانبها وهي تهش لها وترحِّب بها كأنها تعرفها من قبل. واستأنست جهان بها وأحسَّت كأنها في قصر أبيها بفرغانة بين أهلها؛ لأنها آنست في وجه تلك المرأة لطفًا ومودَّة وإخلاصًا، فضلًا عن الجمال. وكانت هيلانة شقراء الشعر زرقاء العينين بيضاء البشرة لا يبارح الابتسام فمها، فابتسمت جهان لها وشكرت تلطفها، فقالت هيلانة وهي تبتسم تشجيعًا وإيناسًا: «مرحبًا بعروس فرغانة، لقد طالما سمعت بجمالك وتعقلك، وقد مضى وقت ونحن في انتظارك.» فقالت: «ما زلت أحسبني ذاهبة إلى الجحيم حتى رأيتك فخفَّت المصيبة عني.» فأحسَّت هيلانة عند سماع صوتها بلذة، وشعرت بجاذب نحوها وكأنها تذكَّرت بلواها هي، فانقبضت نفسها، وقالت: «هكذا أراد المولى يا حبيبتي، ولو أنك قِسْت بَلِيَّتك بِبَلِيَّة سواك لهان عليك أمرك. لو عرفت ما فعلوا بي لرأيت أنهم رحموك.» فسألتها جهان أن تقصَّ حديثها عليها عسى أن يخفف ما بها، فتنهَّدت هيلانة وقالت: «لا بد أنك عرفت من وجهي وضعف لغتي الفارسية أني غير فارسية، وما أنا تركية ولا أرمنية وإن كنت أُخذت من أرمينيا، ولكنني يونانية نشأت في بيت أبي في عمورية، وخطبني بطريق من بطارقة أرمينيا وتزوجني وحملني إلى بلده. ولم أكد أقيم معه عامين حتى بلغ هذا الخرمي خبري (وخفضت صوتها) فبعث يطلبني من زوجي، فلما أباني عليه بعث قوة من رجاله اغتنموا غياب زوجي وحملوني إليه بالقوة فحبسني هنا منذ بضعة أعوام فلا أنا أعرف أين زوجي، ولا ما فعله بعدي. وهو يعرف مقري طبعًا ولكنه لا يجد سبيلًا إليَّ. هذا إذا كان لا يزال حيًّا.» قالت ذلك وشرقت بريقها ثم مسحت دموعها وابتسمت وقالت: «ما قصدت أن أكدرك بهذا الحديث، ولكنني أردت أن أخفف مصابك.» أما جهان فأعظمت مصيبة هيلانة وهمَّت بأن تقصَّ عليها حديثها فأرجعها الحياء. فتنهَّدت وأحبَّت تغيير الحديث فقالت: «أين هو بابك هذا، وكيف تعيشون هنا؟» قالت: «إن الرجل يقيم بقصر غير هذا قريب من أسوار هذا البلد، وذلك ليراقب تحصيناته، وهو ينقل من يشاء من نساء هذا القصر إليه لتقيم عنده يومًا أو بضعة أيام على ما يتراءى له.» قالت: «بلغني أنه اليوم في شاغل عن هذا القصر وأهله بأمر ذي بال.» قالت: «نعم، إنه يتأهب لحرب شديدة.» قالت: «مع من؟» قالت: «جاء جواسيسه بالأمس، وكان قد أرسلهم ليتجسسوا أحوال المسلمين في العراق، فأخبروه أن المسلمين يتأهبون لإرسال حملة عظيمة عليه، يقودها الأفشين صاحب أشروسنة بنفسه.» فلما سمعت اسم الأفشين ارتجفت وتذكَّرت أنه علة بلواها، ولو انتبهت هيلانة لرأت أثر ذلك التغير في عينيها، ولكنها لم تكن تعرف عن جهان إلا أنها بنت مرزبان في فرغانة طلبها بابك ولم ترضَ به فاختطفها قسرًا. فقالت جهان: «وهل جاء الأفشين نفسه؟» قالت: «لا أدري، ولكنه آتٍ ولا شك في ذلك، وقد خرج بابك من البذ في جماعة من رجاله ليقيم العراقيل وينصب الأرصاد في الطريق. وقد لا يعود إلينا قبل بضعة أيام.» ففرحت للخبر ونبهها ذكر الجواسيس الذين عادوا من العراق فسألت: «هل تعرفين أحدًا من الجواسيس الذين عادوا من العراق؟» قالت: «خادمتي تعرف واحدًا منهم.» وكانت خيزران قد ذهبت وعادت بالعشاء إلى سيدتها ووقفت تسمع الحديث، فلما سمعت هيلانة تقول إن خادمتها تعرف أحد الجواسيس ابتدرتها قائلة: «أي خادمة يا سيدتي؟» قالت: «التي دلَّتك علي.» قالت: «عرفتها، حقًّا إنها لطيفة كأنها اقتبست من سيدتها.» فقالت هيلانة وهي تضحك: «لذا وقع الجاسوس في هواها ولا يزال يحمل إليها الهدايا ويأتمر بأمرها ويريد أن يتزوجها.» فسري عن جهان عند سماعها ذلك، ونظرت إلى خيزران فرأتها تنظر إليها فتفاهمتا فقالت خيزران: «أريد أن أقترح عليها أمرًا تكلِّف خطيبها به في طريقه إلى العراق. هل تساعدينني في ذلك؟» قالت: «حبًّا وكرامة، أعدي ما تريدين إعداده.» فتهلل وجه خيزران فرحًا لعلمها أنها تستطيع إرسال خبر سيدتها إلى ضرغام. ثم وضعت المائدة فتناولن العشاء معًا، وتذكرت هيلانة أن جهان في حاجة إلى الراحة من تعب السفر، فاستأذنت في الذهاب على أن تعود في الصباح فتأخذها إلى غرفتها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/16/
بين بابك وجهان
باتت جهان ليلتها تتقاذفها الهموم من كل جانب، فأرادت أن تكتب إلى ضرغام كتابًا ولكنها خافت أن يقع الكتاب عمدًا أو سهوًا في يد غريبة فتكون العاقبة وخيمة. فصمَّمت أخيرًا أن تبعث الرسالة شفاهًا. فلما نهضت في الصباح أخبرت خيزران بما استقرَّ عليه رأيها، فاستحسنته وقالت: «يكفي أن نخبر سيدي ضرغام بأن جهان في البذ عند بابك.» قالت: «هذا الذي أراه.» فقالت: «ألا تزورين هيلانة؟ ومتى كنا عندها أقابل الخادمة وأفهمها ما تصنعه.» قالت: «حسنًا.» وأخذت في إصلاح شأنها وهمَّت بالخروج، وإذا بأحد الخصيان قد دخل وقال: «أين السيدة جهان؟» فلما سمعت جهان اسمها أجفلت وظنَّت بابك أتى أو أنه بعث يطلبها. فسكتت وتصدَّت خيزران للرسول وسألته عما يريد فقال: «إن أخاها يريد مقابلتها!» وما سمعت جهان ذكر أخيها حتى تنازعها عاملا الفرح والغضب؛ فرحت لعلها تسمع منه خبرًا عن ضرغام، وغضبت لأنه خدعها، فقالت للرسول: «أين هو؟ فليدخل.» فدخل سامان وعيناه تذرفان الدموع وقد احمرَّتا من البكاء، ولما أقبل عليها ترامى بين يديها وهو يبكي، فشغلها بذلك عن تعنيفه. ولم تفهم سبب بكائه فابتدرته قائلة: «ما بالك؟ ما الذي يبكيك؟» قال وصوته مختنق من البكاء: «لا أدري …» قالت: «كيف لا تدري … قل … قل!» فلم يجبها وسكت وجعل يمسح دموعه بكمه وهو مطرق، فقالت: «من أين أتيت؟» قال: «من سامرا.» فقالت: «وكيف ضرغام؟ هل لقيته؟» فلما ذكرت ضرغامًا عاد إلى البكاء فاختلج قلبها في صدرها ووقفت فجأة وصاحت فيه: «قل ما بالك؟ كيف ضرغام … أين هو؟» فتراجع وأمسك بيدها كأنه يستمهلها حتى يسكن روعه ثم قال: «لا أعلم أين هو.» قالت: «ألم تقل إنك كنت في سامرا؟» قال: «نعم كنت فيها. ولكنه ليس هناك.» فقالت: «ضرغام ليس في سامرا؟» قال: «نعم يا أختي ليس هناك، وقد سألت الناس كافة فلم أجد بينهم من يعلم أين هو.» فأخذتها الدهشة، وبقيت تنظر إليه متسائلة، فعاد إلى الكلام فقال: «ماذا أقول؟ إن ضرغامًا ليس في سامرا، ولم يَرَه أحد رجع إليها بعد ذهابه إلى فرغانة.» فلما سمعت قوله غلى الدم في عروقها، وكاد الغضب يغلب على رشدها، لكنها تجلدت وأمسكت نفسها، فتقدمت خيزران وأخذته بيده نحوها وقالت: «صرح. ما الذي سمعته؟» فقال وهو يخفض صوته محاذرًا أن تسمعه أخته وهي واقفة تسمع: «لما سطا علينا اللصوص وقبضوا على حبيبتي جهان وعليك رأيت حتمًا عليَّ أن أبلغ الأمر إلى البطل ضرغام، فأسرعت إلى سامرا وقصدت إلى بيته فيها فوجدته خاليًا خاويًا، فسألت عنه كثيرين فلم أقف له على خبر. وأخبرني أحدهم …» قال ذلك وبلع ريقه وسكت مطرقًا. فلما توقف عند هذا أصغت إليه جهان وتطاولت بعنقها وأشارت إليه خيزران أن يصرح بما سمعه فقال: «أخبرني أن عدونا الأكبر سبب مصائبنا جميعًا قد بعث إليه جماعة من رجاله كمنوا له في منحنى الطريق وغدروا به.» قال ذلك وبكى. فلما سمعت جهان قوله ورأته يبكي أمسكت نفسها حتى كفَّ عن البكاء، ثم تفرست في وجهه تفرس ناقد وهو مطرق لا يستطيع النظر إليها كأن أشعة نارية تنبعث من عينيها فتبهر بصره — والمنافق لا يستطيع تثبيت بصره في عيني أحد ولا سيما إذا كان في غضون نفاقه — فلما لاحظت ذلك تنبه ذهنها إلى احتمال كذب سامان. وبدلًا من أن يقيمها الخبر ويقعدها حتى يخرجها عن الصواب، كما توقع، أخذت تراجع أعمال أخيها السابقة، فرجحت أنه يكذب عليها لحاجة في نفسه فقالت: «هل تقول الحق يا سامان؟» قال: «وهل أختلق الأخبار من عندي؟ لقد قصصت عليك ما رأيته وسمعته، وأتمنى من صميم فؤادي أن يكون كذبًا.» فأطرقت هنيهة ثم قالت: «من الذي أنبأك أني هنا، ومن أدخلك القصر؟» فلما سمع سؤالها ارتجَّ عليه وأخذ على غرة؛ لأن معرفته مكانها تدل على علاقة بينه وبين اللصوص، فتوقف حينًا. ولكنها لم تمهله حتى يهيئ الجواب فقالت: «لا أطلب منك جوابًا، ويكفي ما فهمته، فاذهب الآن إلى أصحابك الخرمية لعلهم يكافئونك على صنيعك. اذهب.» قالت ذلك وخرجت من الغرفة وكانت قد تهيأت للذهاب إلى هيلانة. فخرج سامان وهو يهز رأسه ويتظاهر بتعجبه من تصرف أخته وإنكارها ما يقول. فلما خلت خيزران إلى جهان قالت: «أرى يا سيدتي ألا نستخفَّ بما ذكره سامان وأن نرسل من يأتينا بحقيقة حال ضرغام.» قالت: «لا ريب عندي في كذب سامان. ولكنني أرى أن تكلفي الجاسوس أن يذهب إلى سامرا ويسأل عن ضرغام رئيس حرس الخليفة.» وذهبتا معًا إلى زيارة هيلانة فرحَّبت بهما. وجلست السيدتان للحديث وأنست خيزران مهمتها مع الجاسوس. ••• كانت قهرمانة بابك سيدة قصره الآمرة الناهية فيه. وكان جميع من يضمهم من النساء والخصيان يخشون بأسها ويخفون لخدمها؛ لأنها الوسيلة بينهم وبين بابك. إلا جهان فإنها بقيت على سليقتها متلطفة متحفظة. ومع هذا كانت القهرمانة تجلُّ قدرها وتبالغ في إكرامها. وبعد أيام جاءت إلى جهان ووجهها يتهلل بشرًا فحيَّتها وقالت: «أبشري، إن العريس قد جاء!» فأجفلت جهان ولم تجب، فحملت القهرمانة ذلك منها على محمل الحياء، فقالت: «جئتك من قِبَل مولانا بابك. فإنه رجع من سفره، ولما علم بمجيئك سُر سرورًا عظيمًا وأمرني أن أدعوك إليه.» فأجابتها جهان بهدوء وسكينة: «إلى أين؟» قالت: «إلى قصره.» قالت: «أليس هذا الذي نحن فيه قصره كذلك؟» قالت: «بلى، ولكنه أَلِفَ أن تنتقل نساؤه للإقامة معه هناك.» فهزَّت جهان رأسها إنكارًا وإباءًا وقالت: «لا»، ولم تَزِدْ. فعجبت القهرمانة لجوابها وهي في الأسر بين مخالب الأسد، وقالت لها: «إن بين هذا القصر وقصر بابك دهليزًا مسقوفًا تسير فيه المرأة مكشوفة كأنها في غرفتها ولا يراها أحد، فهيا ولا تخشي شيئًا.» فظلَّت جهان جالسة لا تبدي حراكًا، فغضبت القهرمانة لهذا الاستخفاف وقالت بصوت عالٍ: «أنصح لك يا بنية بأن تنهضي ولا تستخفي بهذا الرجل فإنه فتَّاك لا يبالي أحدًا إذا غضب.» ثم خفضت صوتها ودنت منها ووضعت يدها على كتفها تتحبب إليها وقالت: «إنني شديدة الحرص عليك؛ لأني أحببتك منذ رأيتك، قومي يا حبيبتي، قومي.» فرفعت جهان بصرها إليها وقالت: «أشكر لك شعورك، ولكنني لسن بخارجة من هذه الغرفة.» فنفرت القهرمانة من الجواب وتحوَّلت نحو الباب وخرجت، وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار بينهما، وساءها ما أبدته سيدتها من الأنفة والشدة وهمَّت بِلَوْمِها بعد خروج القهرمانة. فسبقتها جهان قائلة: «لا تقولي شيئًا يا أماه. فإني لا أبالي ما يكون من هذا الجلف العاتي. إنه يريد أن أذهب إليه مختارة. ولكني لن أذهب وما قُدِّر يكون. على أني رغم وحدتي وأسري هنا أشعر بأني لي قوة وسلطانًا، كما لو كنت في قصر أبي بين أهلي وأعواني. ذريه يفعل ما يشاء فإن عروس فرغانة وخطيبة ضرغام لا تذل لإنسان!» ونهضت فالْتفَّت فوق ثوبها بمطرف من الخز، وتخمَّرت بشالٍ مزركش الْتماسًا للدفء؛ لأنها في إقليم بارد. ومشت في أرض الغرفة مطرقة تفكر فيما عسى أن يفعل بابك إذا بلغه إباؤها، وعزمت على الدفاع والثبات لآخر لحظة في حياتها. وفيما هي في ذلك وخيزران واقفة لا تبدي حراكًا، سمعت سعالًا قويًّا لم تسمعه في القصر من قبل، فعلمت أنه سعال بابك. وآنست في القصر حركة وجلبة؛ لأن أهله لم يألفوا دخول بابك عليهم، ثم سمعت صوت القهرمانة تخاطب بابك ونظرت من نافذة صغيرة تطل على الرواق فرأت بابك قادمًا، والخدم على كلٍّ من الجانبين يخرون سجدًا، والنساء يحنين رءوسهن احترامًا، والجميع يحيونه كما يحيون معبودهم، وأكثرهم من المجوس، وهو يمشي مشية المختال الفخور. فلما وقع نظرها عليه ارتجفت غضبًا، وكانت قد ألفت منظر سجود الناس في قصر أبيها فلم تستغربه، ولكنها أبت أن تكون هي أيضًا في جملة الساجدين، بل غالت في الترفع شأن الإنسان إذا كان في رفعة وانحطت منزلته بعض الشيء فإنه يصبح أكثر محافظة على مقامه. وكان بابك ضخم الجثة، عظيم الهامة كبير الوجه، جاحظ العينين ضخم الشفتين، كبير الكتفين بارز الصدر، إذا مشى ترنَّح في مشيته ترنح الخيلاء والكبرياء. وقد اعتاد الصدارة في موقفه أو مجلسه حتى لو أراد الانثناء لتناول شيء وقع منه لم تطاوعه أعضاؤه. ولا غرابة في أن يكون هذا شأن من لا يفتح عينيه إلا على المسبحين باسمه، المتفانين في طاعته، مثل بابك رئيس الخرمية وقائدهم في حروبهم. فضلًا عن أنه كان شجاعًا شديد البطش قوي العضل أبيَّ النفس. ولولا انغماسه في الملذات والشهوات لكن من أعاظم الرجال. ولكنه أدمن الخمر وأسرف في احتسائها ولا سيما في أيام السلم. وكان في هذا اليوم قد أعدَّ مائدة الشراب في قصره، وبعث في طلب جهان، وجلس في انتظارها يشرب. فلما جاءته القهرمانة بخبر رفضها كانت الخمر قد لعبت برأسه فأكبر إباءها وجاء غاضبًا ليعاقبها. فلما دنا من غرفتها تقدَّمت القهرمانة وفتحت الباب وقالت: «هي هنا يا مولاي.» ورجعت وأشارت إلى خيزران أن تخرج معها فخرجت وتباعدت. وكانت جهان واقفة، فلما رأته داخلًا قعدت، فاستنكر استخفافها به، ولكنه لم يكد يرى جمالها الرائع ومهابتها وما ينجلي في عينيها من الذكاء والسحر حتى دُهش. وعلى كثرة من رأى من جميلات النساء، الفارسيات منهن والكرجيات والشركسيات والروميات، وبعضهن أجمل من جهان تكوينًا وأصفى لونًا، شعر بأن عينيه لم تقع على فتاة في مثل جاذبيتها؛ فخفَّ غضبه، وإن أخذته العزة بالإثم، لتعوده خضوع الناس له على طول الخط فقال: «وتقعدين أيضًا في حضرتي؟!» أما جهان فانتفضت كالعصفور بلَّله القطر؛ لفرط تأثرها رغم رباطة جأشها، ثم تشاغلت بإصلاح شعرها ورفعت بصرها إليه وحدَّقت وهو ينظر في عينيها، فأحسَّ بسهم اخترق صدره وكأن الغضب تسرَّب من صدره حتى خرج من أطراف أنامله وسُرِّي عنه. وقالت: «هل ينفعك وقوفي إن لم تملك فؤادي؟» فتوسم من جوابها فرجًا، فقعد على وسادة بجانبها وقال: «أرجو أن يكون لي نصيب من ذلك الفؤاد، فلا أظن أحدًا أجدر به مني، وأنت تعلمين من هو بابك صاحب الحول والطول زعيم الخرمية قاهر جنود المسلمين. وإنه ليحزنني أن حملتك إليَّ قهرًا، ولكني لم أُقْدم على ذلك إلا بعد أن فشلت في نيلك بالحسنى. فكيف ترينني؟» فلما رأت تلطفه وتقربه قالت: «أراك بطلًا باسلًا قاهرًا، وما أنت إلا أسير.» فأجفل وقال: «أسير؟! ماذا تقولين؟» قالت: «نعم إنك أسير شهواتك. فمن كان ملكًا عظيمًا قاهرًا لا يليق به أن يكون عبدًا لشهواته … إني أشتم رائحة الخمر منبعثة منك.» قال: «يلوح لي أنك من أولئك اليهود الذين يسمون أنفسهم مسلمين فيحرمون الخمر. وهل في ملذات العالم أشهى منها، بل هي أم الملذات؛ لأنها تشحذ القوى وتستحث مطالب الجسد فتضرم الرغبة فيما تشتهيه النفوس من الطيبات.» فقالت: «كيف تكون صاحب السلطان وقاهر المسلمين، ثم ترى هذه الشهوات زينة الحياة؟ إن هدف البطل هو أن يكون سيدًا جليلًا نافذ الكلمة يهابه البعيد ويحبه القريب.» فقطع كلامها قائلًا: «ألست كذلك؟» قالت: «كلا. فقد يخافك البعيد ولكن القريب لا يحبك. والذين حولك يسبحون باسمك ويعظمونك تملقًا، فإذا غبت قالوا فيك كل قبيح؛ لأنك لم تفعل ما يحببك إليهم.» فملَّ بابك في أمرٍ هو مغلوب فيه. ورأى من الجهة الأخرى أنه بالَغ في التزلف لتلك الفتاة، وأكبر أن تكون منه بمنزلة الواعظ أو المرشد فقال: «ما لنا ولهذا الجدال الآن؟ هيا بنا يا جهان.» ووقف وهو يمد يده ليمسك بيدها ويعينها على النهوض. فجذبت يدها منه وظلَّت قاعدة. فمدَّ يده ثانية ليمسكها فوقفت ويدها وراء ظهرها وقالت: «قف عن حدِّك يا بابك، إنك بهذا العمل تؤيد قولًا أنت تنكره على الناس. لا تدنُ مني.» فقال: «ومن يدنو منك إذن غيري؟ أنت عروسي وقد بعثت فأتيت بك من أقصى بلاد الترك لأجعلك سعيدة، فلا تجعليني شقيًّا!» قالت: «من كانت مطالبه جسدية وكان ذا سلطان فقد لا يشقى؛ لأن يده تنال ما يريده إن لم يكن بالمال فبالسيف، فكيف تشقى لأني لم أرضخ لك وفي قصورك مئات من النساء الجميلات، فافرض أني لست هنا واتركني وشأني.» قال: «لو لم أكن أتوقع السعادة بقربك. أو لو كان لي غنًى عنك ما تكبَّدت المشقة في استقدامك، ولم أكن لأنال ذلك لولا حبيبنا سامان.» فتحقَّقت عند ذلك أن أخاها هو الذي أسلمها. فتحوَّلت نقمها إليه وأصبحت لا تدري ممن تنتقم ولا كيف تنتقم، فتجاهلت ما فهمته عن سامان وقالت: «تكبدت كل ذلك من أجلي لتجعلني مثل نساء قصرك؟» قال: «بل أبالغ في إكرامك وأهدي إليك الجواهر وألبسك أحسن الملابس وأختصك بالتقرب والمحبة، وأجعلك سيدة هذه المدينة، ولا أمنعك شيئًا تطلبينه.» قالت: «تلبسني الجواهر؟! ما الجواهر عندي إلا حجارة لامعة لا ترفع نفسًا ولا تعلي مقامًا، وهذا صندوقي مملوء من الجواهر، وقد تركت قصري وعقاري في فرغانة. ولو بقيت هناك لكنت ملكة من الملكات، ولكني رأيت هذه الأموال من أسباب شقائي؛ فتركتها!» فقطع كلامها قائلًا: «بلغني أن أباك المرزبان أقام عليك الأفشين صاحب أشروسنة وصيًّا. ما لنا ولكل ذلك، تعالي نتناول الطعام معًا.» ودنا منها، فتراجعت مغضبة، فنظر إليها شزرًا وقال: «إذا كنت لا تأتين طوعًا أخذتك كرها، وأنت تعلمين أني إذا قلتُ فعلت؛ فقد كنتِ في فرغانة وأتيتُ بك إلى أرمينيا. فهل يشقُّ عليَّ أن أنقلك من قصر إلى قصر وبينهما مائة خطوة؟!» قالت: «أظنك تحسبني وأنا على مرأى منك أقرب إليك مني يوم كنت في فرغانة. اعلم أنني لا أزال بعيدة عنك كأني في فرغانة أو أبعد منها!» قال: «تقولين ذلك وأنت بين يدي! ولو شئتُ لقبضت عليك بيد من حديد أو أمرت رجالي فحملوك إليَّ موثقة؟ ولكنني لا أزال أرجو رجوعك إلى رشدك.» فنظرت إليه نظرة حادَّة ملؤها التوبيخ والترفع وقالت: «قد تقبض على عنقي، وربما استعنت برجالك فأوثقتني أو قتلتني. ولكنك تنال كل ذلك قبل أن تستطيع لمسة أو نظرة مما كنت ترجوه مني. اقتلني إذا شئت، وإذا جبنت عن قتلي فأنا لا أجبن عن قتل نفسي فلا تحتقرني أو تهددني، واعلم أنك تخاطب فتاة أكبر منك نفسًا وأربط جأشًا وأقوى جنانًا، وإذا كنت تحسبها كسائر من في قصرك من اللقيطات أو المسبيات أو الرقيقات فقد أخطأت. إنك تكلم ابنة مرزبان فرغانة. وقد قادتها المقادير إليك فاكسب صداقتها ودع غير ذلك. أو فامضِ في سبيلك وأرحني وأرح نفسك.» وكانت تتكلَّم كمن له سلطان، وبابك يشعر بأنه يكاد يُغلب على أمره بين يديها وكلما أرسلت إليه نظرة حلَّت من عزائمه عقدة فقال: «والآن … ماذا تريدين؟» قالت: «أريد أن تتركني وشأني.» قال: «أتركك أيامًا تفكرين في أمرك لعلك ترجعين إلى صوابك وتعلمين أنك إذا أطعتني نلت السعادة.» قال ذلك وتحوَّل حتى خرج من الغرفة وقد امتقع لونه. وكانت القهرمانة وخيزران واقفتين تسمعان شيئًا من الحديث وكلتاهما معجبة ببسالة جهان وأنفتها. وبعد أن كانت القهرمانة ضدها أصبحت معها ولم تتظاهر بذلك لكنها صارت تلاطفها وتراعيها من ذلك الحين. أما جهان فلم تقل ما قالته لبابك تهديدًا، ولكنها كانت قد أخذت عُدَّتها للدفاع أو الانتحار عند اليأس. وقد فتحت باب الاستمهال قصدًا ريثما يعود الجاسوس وتعلم ماذا جرى لضرغام ثم تنظر فيما يكون. ولم ينقضِ ذلك اليوم حتى شاع حديث جهان في القصر ولم تبقَ واحدة من النساء إلا أُعجبت بها. وأصبحن ينظرن إليها نظر الصغير إلى الكبير أو نظر الجاهل إلى العاقل، ولا سيما صديقتها هيلانة فإنها حينما علمت بخروج بابك من القصر هرولت إلى جهان وأخذت تسألها عما جرى وجهان تتواضع في التفسير وتتلمس الأعذار لبابك على جرأته. فلم يكن ذلك إلا ليزيد هيلانة احترامًا لها وتقديرًا. وهكذا أصبحت جهان حديث أهل البذ ومضرب أمثالهم. وهي لا تعبأ بشيء من ذلك، وكلُّ هَمِّها ضرغام وإبلاغ خبرها إليه، ولم تعد ترى سامان. مكثت حينًا في انتظار رجوع الجاسوس وكانت قد بادلت هيلانة ودًّا بود. فقصَّت عليها متاعبها، فشاركتها هذه آلامها وأصبحت شديدة الاهتمام بأمرها. ولم تكن أقل شوقًا لرجوع الجاسوس من جهان نفسها. وعاد الجاسوس واتفق يوم رجوعه أن كانت جهان عند هيلانة في غرفتها وخادمتها قائمة على الخدمة وخيزران غائبة. فلاحظت جهان في وجه الخادمة تغيرًا فقالت لهيلانة: «اسأليها ماذا قال لها خطيبها؟» فدهشت هيلانة لتلك المفاجأة وقالت: «وهل تظنينه جاء؟» قالت: «نعم جاء، ويظهر أنه لم يأتنا بخبر مفرح.» فاستغربت تكهنها وأشارت إلى خادمتها فأتت فقالت لها: «هل عاد صاحبنا من سامرا؟ ومتى؟» قالت: «نعم يا سيدتي، أتى منذ ساعتين.» فقالت: «ولماذا لم تخبرينا؟» وكانت جهان تسمع ذلك. فاضطربت فصعد الدم إلى وجنتيها وقالت: «ماذا قصَّ عليك؟» قالت: «قال لي إنه سأل عن الرجل الذي طلبت منه البحث عنه في سامرا كلها فلم يقف له على خبر.» قالت: «هل يمكن أن نراه ونسأله.» قالت: «لا أدري هل تأذن القهرمانة في ذلك أم لا؟» فقالت هيلانة: «هي تأذن بكل ما تريد جهان عروس فرغانة لأنها سحرتها. فاذكري للقهرمانة أنها تطلب صاحبك لتسأله في أمر.» فذهبت الخادمة وعادت به، فسألته جهان عما علمه فقال: «سألت عن ضرغام يا سيدتي فلم أجد أحدًا يعرفه.» قالت: «ألم تسأل عنه في قصر الخليفة؟» قال: «سألت عنه فلم أقف على خبره.» قالت: «أظنك لو سألت عن رئيس الحرس لوصلت إليه.» قال: «سألت عن رئيس الحرس فقِيل لي إن اسمه الصاحب.» قالت: «هل أنت واثق مما تقول؟» قال: «نعم يا سيدتي، وقد دقَّقت البحث عن رئيس الحرس نظرًا إلى ما رأيت من اهتمام الناس به، فقِيل لي إنه رجل شجاع باسل وإن الخليفة يحبه حبًّا جمًّا وقد زوَّجه فتاة جملية من بنات قصره وأهداه هدايا ثمينة.» فثبت عندها أنه صادق فيما يقول، وقد كان من الجائز أن يتبادر إلى ذهنها أن الصاحب هو ضرغام نفسه لولا حديث زواجه وهي لا تتخيل أن ضرغامًا يتزوج ويتركها، فتأكد عندها ما قصَّه عليها أخوها من أن الأفشين سعى في قتله، فازدادت ميلًا للنقمة وغلب اليأس عليها ونسيت موقفها، ولم تنتبه إلا وخيزران تدعوها فخجلت ونهضت تقصد إلى غرفتها للاختلاء فيها. ونسيت أن خيزران نادتها، فلما خرجت من عند هيلانة لقيتها خيزران فقالت: «إلى أين يا سيدتي؟» قالت: «أظنك دعوتني وقد نسيت. ماذا تريدين؟» قالت: «كنت في حديقة القصر فرأيت بابك خارجًا من قصره فظننته خارجًا إلى الحصون والمعاقل، وإذا به دخل هذا القصر وذكر للقهرمانة أنه يريد أن يراك الآن، فأوعزتْ إليَّ أن أبلغك ذلك.» فأجفلت وقالت: «بابك يطلب أن يراني؟!» قالت: «نعم وهو في غرفتك.» قالت: «وفي غرفتي أيضًا؟! وما العمل؟ يا أورمزد ساعدني. إني أراني في ورطة يصعب التخلص منها. أعلمت الخبر الذي جاء به الجاسوس؟» قالت: «نعم يا سيدتي علمته.» قالت: «وما رأيك؟» قالت: «يظهر أن مولاي ضرغامًا ليس في سامرا.» قالت: «لا يخيفني غيابه عنها، وإنما يخيفني أن تصدق رواية أخي سامان، ألم تسمعيها؟!» قالت: «سمعتها ولكن من يعلم الصحيح؟» كانت جهان وخيزران تتكلمان وهما تمشيان على مهل، حتى أشرفتا على الغرفة فتراجعت جهان وقالت: «والآن لا بد من مقابلة بابك؟ ماذا أقول له؟ لعلَّ عنده خبرًا جديدًا.» وسمعت صوت بابك ينادي من داخل الغرفة: «جهان. جهان.» فأسرعت وركبتاها تصطكان ولكنها تتجلد، حتى أقبلت على باب الغرفة فأطلَّت على بابك، وكان جالسًا فوقف لها واستقبلها وهو يبش ويبتسم، فلما رأت ابتسامه اطمأن قلبها ولا سيما عندما وقف لها ورحَّب بها. وابتدرها قائلًا: «إني أقف لعروس فرغانة وإن كانت هي تحتقر بابك ولا تقف له.» قالت: «إن جهان لم تحتقر بابك وإنما احتقرت خصالًا فيه ذكرَتها.» قال وهو يجلس ويدعوها إلى الجلوس: «وإذا نزع تلك الخصال منه هل تحبينه؟» ولاح لها من خلال كلامه أنه جاد فيما يقول، فأظهرت ارتيابها قائلة: «أراك تسخر من فتاة أغضبتك فأحببت التشفي منها، ولكنني أخلصت لك النصيحة وعرضت نفسي للخطر.» وقال والاهتمام بادٍ في محياه: «لا يا جهان، إني لا أسخر منك، ولكنني أعملت الفكرة فيما قلته لي فقضيت مدة غيابي وأنا أفكر في أقوالك وحقيقتها تتجلى لي رويدًا رويدًا. وكلما انجلت شعرت بالخجل من نفسي وندمت على ما فرط مني. كنت منغمسًا في الملذات والإكثار من النساء؛ لأني لم أجد واحدة تملأ عيني وتملك قلبي. ولا أدري ما الذي غيَّرته أنت من وجداني … أراني قد حدث لي انقلاب لم أعهد مثله من قبل، كأنك روح مرسلة إليَّ من عند أورمزد. وإنما أربي الآن أن تقولي لي إنك تحبينني …» قال ذلك والعرق يتلألأ على جبينه. فاستغربت انقلابه ولم تخف مداجاته أو خداعه لأنها قرأت الإخلاص في عينيه وأكبرت أن ترى ذلك الرجل الفظ يتقرب إليها بمثل هذا الكلام. قالت: «هل تعني حقًّا ما تقول؟» قال: «نعم. وأنت تفهمين أني لا أداجي. وقد عملت بنصيحتك بعد أن نزلت منزلة الدم من قلبي والسواد من عيني، فهجرت الخمر وسأترك النساء من أجلك. صدقت يا جهان، إن العيشة الهنيئة في الحب المتبادل. وها أنا ذا أحبك فهل تحبينني؟ لا عذر لك في الرفض الآن.» فأطرقت، وفكَّرت فيما سمعته من أمر فَقْدِ ضرغام ويَأْسِها من وجوده. ورأت هذا الجبار يخطب ودها ويعاهدها على الانقطاع لخدمتها وهجر الخمر والنساء لأجلها، فحدَّثتها نفسها بأن تجيبه بالإيجاب، فاعترضها خيال حبيبها فتصوَّرت أنه كان ضالًّا فوُجد فكيف تقابله وبأي عين تنظر إليه. فظلَّت حينًا تتردد وبابك صابر ينظر إليها ويراقب حركة عينيها، فلما استبطأ جوابها قال: «أظنك تفكرين في الأفشين.» فلما سمعته يذكر الأفشين ظنَّته يعلم شيئًا عنه فقالت: «وكيف عرفت أني أفكر فيه وما علاقته بي؟» قال: «أليس هو الوصي عليك؟» قالت: «وماذا في هذا؟» قال: «لا أخفي عليك ما سمعته وإن كنت تحاولين إخفاءه. علمت أن الأفشين بعد أن جعله أبوك وصيًّا عليك طمع في زواجك فرفضت، أليس كذلك؟» فأطرقت وبدا الحياء في محياها ولاح الغضب في عينيها ولم تجب، فقال بابك: «وإن فتاة ترفض الأفشين ملك أشروسنة، ثم ترفض بابك صاحب أرمينيا عفافًا ورغبة في الفضيلة لجديرة بالعبادة. وقد بلغت أن الأفشين انتقم منك انتقامًا جارحًا. ولسوف أنتقم لك منه أشد الانتقام.» فلما سمعته يلوِّح بالانتقام من الأفشين مالت إلى القبول، ولكنها بقيت في قلبها ترجو لقاء ضرغام فقالت: «إذا كنت تعني ما تقول وأنك تنتقم لي من الأفشين فاسمح لي أن أنبهك إلى أمر. أنت تعلم أني فارسية مثلك وأن أبي مرزبان كبير لم تكن تخفى عليه خافية من نوايا الفرس على العرب. فأنت متآمر مع الأفشين والمازيار صاحب طبرستان على قلب دولة المسلمين. أليس كذلك؟ أصدقني.» قال: «صدقت هذا هو الواقع.» قالت: «فما معنى أن يحاربك الأفشين بجيش من المسلمين؟» قال: «إنه يتظاهر بنصرته للمسلمين ليجمع أموالهم ويرسلها إلى بلده، ومتى توافر المال اتحدنا جميعًا وقلبنا هذه الدولة.» فنظرت إليه نظرًا نافذًا والارتياب بادٍ في عينيها وقالت: «أتكون قائد هذا الجند وزعيم العصبة الخرمية والناس يجلُّون قدرك ويسجدون لك، ثم تنطلي عليك هذه الحيلة؟» قال: «ولماذا تعدينها حيلة؟ إني أعرف الأفشين من قبل. وقد أجمعنا وأقسمنا على هذا الأمر منذ بضع عشرة سنة ومعنا صاحب طبرستان، وما زلنا نجدد العهد كل عام، فأي نفع له في خداعنا؟» فتفرست في عينيه وقالت: «إن الأفشين يخدعك ليكسب المال؛ لأنك إن لم تقم لحرب المسلمين لا يبقى له باب للارتزاق، أما المازيار صاحب طبرستان فقد يكون أخلص طوية ولكنه لا شأن له في عملك. فإذا شئت أن أجيبك إلى ما طلبته مني فلا أريد لك أن تكون مخدوعًا تحارب برجالك فإذا فزت طالبك الأفشين بحق الشركة وإذا هُزمت استفاد من هزيمتك.» فانتبه بابك كأنه هبَّ من رقاد، ورآها قد أزالت غشاوة عن عينيه، وشعر بسلطانها عليه فقال: «بورك فيك. نعم الرأي رأيك. لا شك أن الأفشين مداجٍ.» قالت: «فمثلك يجب أن يكون صاحب الأمر وإليه المرجع لا شريك له يقاسمه ولا منازع ينازعه. فإذا رأيت ذلك كنت أنا عونك في سراء السلم وضراء الحرب، على ألا يتم زواج بيننا إلا بعد الفراغ من هذه الحرب، وعند ذلك أفخر بأني حظيت بأكبر رجل في فارس.» فتوقدت حماسة بابك وقال: «ولكن قولي قبل كل شيء. هل تحبينني منذ الآن؟» وقالت وفي شفتيها ابتسامة الظفر: «ومتى كان الحب يهمك؟» قال: «عندما وجدت المرأة التي تستحق محبتي، فأرجو أن أستحق محبتها. فهل تحبينني؟» فأمسكت نفسها لحظة ثم قالت: «نعم … لا …». ولم يطاوعها لسانها فقالت: «أحبك محبة الأخ حتى تفرغ من هذه الحرب.» قال: «يكفيني ذلك يا جهان.» فاستدركت وقالت: «وأرجو ألا يعرفني الناس بهذا الاسم؛ لأني قد أخطب في الجند وربما شاع ذكري، فلا أحب أن يعرفني الأفشين أو غيره. فليكن اسمي منذ الآن جلنار.» قال: «اتفقنا يا جلنار.» وشعر لساعته براحة ولذة فكأنه انتقل من زمرة الأشرار الفاسقين إلى صحبة الأبرار المحبين. وليس من حافز على هذا الانقلاب الخير إلا نعمة الحب الصادق، فإنه لم يكن يعرف من اللذة إلا الانغماس في شهوات الجسد، ولم يذق طعم الحب العذري المتبادل بينه وبين فتاة تملك قلبه وتملأ عينيه … فتبدَّلت حاله وعادت إليه أريحيته وأصبح منقادًا لجهان لا يقطع أمرًا إلا برأيها ولم يعرفها أهل البذ إلا باسم «جلنار»؛ لأنهم لم يكونوا قد عرفوها من قبل. وتحفَّز بابك للذهاب وهو يقول: «اليوم بدء أيام سعادتي يا جلنار، فإني لم أكن أسعد حالًا مني في هذه الساعة.» ووقف وأتمَّ حديثه فقال: «إنما لي رجاء لا أظنك تخالفينني فيه؛ ذلك أن خاصتي تعوَّدوا مجلس الشراب، وفيهم المولعون بالخمر، ولم يوفقوا إلى من يهديهم الصراط المستقيم بعد، وأخشى إن فاجأتهم بإبطال هذه العادة أن يغضبوا، وأنا في حاجة إليهم في هذه الحرب؛ فأرى أن أسايرهم وأجالسهم وأوهمهم أني أشرب معهم حتى نرى ما يكون.» قالت: «لا بأس، على أن تتلطف في جعلهم يقلعون عما أَلِفوا بالتدريج.» فأشار مطيعًا، وتمَّت المعجزة؛ إذ انقلب مثال الاستبداد والعنف إلى مثال ليِّن العريكة. وفي هذا ما يدل على قوة سلطان المرأة العاقلة إذا هي أحسنت الأسلوب في رد الرجل عن النقائص. ولن تستطيع شيئًا من ذلك إلا بأن تجعله يحبها فمتى ملكت قلبه ملكت زمامه. أما إذا أرادت إصلاحه بالانتقاد فقد تزيده تمسكًا بزلاته. ولا تسل عن فرح جهان بما حدث لبابك وقبوله ما اشترطته، لما فيه من صيانة نفسها حتى تتحقق أمر حبيبها والانتقام من الأفشين. وتذكَّرت في تلك اللحظة أخاها سامان فاستوقفت بابك وقالت: «لي طلبة أرجو أن تقضيها.» قال: «لك ما تريدين.» قالت: «سامان. أخي. أنت تعرفه وتعرف أنه خانني وغدر بي. لا أطلب الانتقام منه ولكنني أريد إبعاده عن هذه المدينة؛ لأن في وجوده خطرًا على الجيش. لا أطلب قتله أو سجنه بل أكتفي بإبعاده لنأمن شرَّه.» قال: «هذا ما كنت عازمًا عليه، وإن كنت قد أفدت من خيانته … إذ لولاه لم أحظَ بعروس فرغانة، وقد يخونني كما خان أخته، وسأنفيه من هذه الديار، والآن ألا تريدين الإقامة معي بقصري؟» قالت: «دعني في القصر كما أنا، فإني مستأنسة بأهله، وإن أردتني لمشورة أو تدبير فإنا نلتقي على موعد.» فأذعن وهو يبتسم وينظر في وجهها نظر المحب المتهيب. فوقفت وهشَّت له فودعها وهو يقول: «نحن على وفاق منذ الآن. فهل أنت تحبينني؟» قالت: «إننا أخوان. أنت أخي بابك أحبك محبة الأخ لأخيه وأرعاك رعاية الأخت لأخيها، وسترى أني أبذل نفسي في سبيل راحتك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/17/
يأس ضرغام
كان ضرغام قد بثَّ العيون والجواسيس يبحثون عن جهان في أنحاء المشرق، وفيهم من سافروا إلى فرغانة، فلبث حقبة من الدهر ينتظر رجوعهم فعادوا وما فيهم من سمع خبرًا أو عرف شيئًا يهديه إلى مكانها، فضاقت الدنيا في عينيه بما رحبت وغلب عليه اليأس وأخذ يفكر في المجرم الذي سبَّب فقدها، فلم يجد غير الأفشين، ثم تذكر ما عرفه عن سامان ونفاقه وغدره فارتاب في أمره. وكان يقضي أيامه وحيدًا في منزله إلا إذا خرج المعتصم واصطحبه للصيد أو الرياضة أو الصلاة، وكان يستأنس بياقوتة استئناسًا كثيرًا لكمالها ومشابهتها لجهان، وكلما نظر إليها تذكر صاحبه حمادًا وودَّ من صميم فؤاده أن يجمعها به لعله يُوفق إلى من يجمعه بحبيبته. ولما طال انتظاره وانقطعت أخبار جهان عنه ويئس من وجودها، استولت عليه السويداء ولم يعد يرى للحياة معنى، وودَّ لو أنه يشغل نفسه بحرب أو نكبة أو مرض، أو أن يموت ويتخلص من عذاب الشوق والقلق. وسبيل الموت الانتحار، وهو يعده جبنًا لا يقدم عليه غير الضعفاء إذا غُلبوا على أمرهم أو خُولطوا في عقولهم. ومع هذا فإن في نفسه بقية أمل في العثور على جهان. وكبُر عليه أن يموت ولا يثأر لها، فوقع في حيرة، وظهرت حيرته في وجهه فلم يكن يراه أحد إلا تبيَّن في محياه القلق رغم ما يحاوله من التكتم، ولا سيما أمام أمه لئلا يحزنها، ولم تكن هي لتخفى حاله عليها. فكان إذا سألته عن جهان وأخبارها قال: «إنهم لم يقفوا لها على خبر وقد أرسلت آخرين لجهات أخرى، فلعلهم أن يعثروا عليها.» وكانت أمه توهمه أنها صدَّقت قوله وتزيده أملًا بلقائها فأصبح ولا تعزية له غير وردان، وأصبح على طول العشرة أقرب الناس إليه. فكان إذا سئم أو قلق شكا إليه حاله واستشاره في أمره، فيخفف وردان عنه. فسمعه مرة يتذمر ويسأم الحياة وهو يتمشى في حديقة القصر معه فقال له: «مثلك لا يجوز أن يضعف إلى هذا الحد يا مولاي.» قال: «لا تقل يا مولاي؛ لأنك صديقي يا وردان؛ ولذا تراني أشكو إليك همي وأكشف لك نفسي، إني لا أرى معنى للحياة مع اليأس من لقاء جهان.» قال: «لكل نفس أجلها لا تُؤخر ساعة ولا تُقدم ساعة. فاصبر إن الله مع الصابرين.» قال: «لقد مللت الصبر، ولا أرى راحة إلا في الموت. ولكني أحتقر المنتحرين.» فأحبَّ وردان أن يبدي رأيًا يرتاح إليه ضرغام ويصادف هوًى في نفسه هو منذ جاء العراق فقال: «أمثلك يكره الحياة ويعجزه السبيل إلى الموت وهو من خاصَّة المعتصم وكبار قواد المسلمين والحرب قائمة لا يخمد سعيرها بينهم وبين جيرانهم من الفرس أو الروم أو العرب؟» فنبَّه كلامُه ضرغامًا. وكان ينبغي أن يتنبه من قبل فقال: «صدقت، إن الموت في ساحة الوغى ميسور لمثلي. ولكن أمير المؤمنين يلزمني صحبته؛ فقد جعلني صاحبه ومنعني من السفر.» فقال: «لا أظنه يمنعك بعد الآن.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأن الأخبار تتوالى باستفحال أمر الخرمية في أرمينيا حتى ضاق الأفشين ذرعًا ببابك وحصونه.» قال: «من أنبأك بهذا؟ كنت أحسب الأمر على عكس ما تقول والخليفة لا يُخفي عليَّ شيئًا.» قال: «إن الخليفة لا يخفي عليك أمرًا يعرفه، ولكنه لا يعرف ذلك!» قال: «هل تعرف شيئًا عن هذه الحرب لا يعرفه الخليفة؟» قال: «نعم يا سيدي؛ لأن الوزراء ورجال الخاصة يرون من حسن السياسة كتمان بعض الأخبار عن الخليفة.» قال: «صدقت، ولكنني من الخاصة ولم يبلغني شيء مما تشير إليه.» قال: «ولا أظنه يبلغك من سواي؛ لأني سمعته من مصدر لا علاقة له برجال البريد الذين يحملون الأخبار إلى الخليفة.» فاستغرب ضرغام ذلك وقال: «ماذا سمعت؟» قال: «سمعت أن بابك الخرمي تضاعفت قوته بعد أن انتقل من أردبيل إلى البذ واتخذها حصنًا له.» فقطع ضرغام كلامه قائلًا: «هذا سمعناه بالأمس.» قال: «وهل عرفت سبب قوته بعد أن كاد يعمد إلى الفرار؟» قال: «نعم. إنه استقوى بمن انضمَّ إليه من الأقوام الناقمين على المسلمين.» فابتسم وردان وقال: «هذا هو السبب الفرعي، ولعله يبلغ الخليفة اليوم على يد صاحب البريد. أما السبب الأصلي فهو غير ذلك.» قال: «وما هو؟» قال: «أخبرني بعض القادمين من أرمينيا خبرًا كدت أنكره لولا ثقتي بالناقل؛ ذلك أن بابك المشهور بالتهتك والانغماس بالمسكر والفحشاء قد تاب وأناب وأصبح إذا جالس رجاله لا يشرب معهم. وقد انقطع إلى تدبير أمور جنده واستجماع قواه واستنهاض الناس على المسلمين. أخبرني رجل يعرف دخائل البذ. وهم ينسبون هذا التغيير إلى امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير اسمها جلنار ملكت قياده وتصرفت في أموره.» فأطرق ضرغام لحظة وقد ساءه رجوع بابك عن رذائله؛ لأنه كان يرجو أن تكون عونًا لهم عليه. وكان يفكر في ذلك وهو واقف بجانب شجرة من التفاح يتلقى بضرب ثمارها المتدانية بخيزرانة في يده ووردان واقف بجانبه. وإذا بغلام من غلمان الخليفة جاء مسرعًا. فلما رآه ضرغام علم أنه قادم من عند الخليفة يدعوه، فالْتفت إلى وردان وقال: «أظن الخليفة يدعوني لإطلاعي على أخبار الحرب.» قال: «إذا رأى مولاي أن يكون في هذه الحرب فليأمر أن أكون في خدمته؛ لأني أعلم أحوال تلك البلاد وطرقها وقد أنفعه.» قال: «حسنًا.» واتجه إلى المنزل ولبس قلنسوته وسواده، وقصد إلى دار الخاصة في قصر الخليفة، فوسع له الحاجب وأدخله بلا استئذان. فلم يجد عند الخليفة إلا القاضي أحمد، ولكنه قرأ في محياه القلق والغضب. فلما أقبل وحيا بش له الخليفة وأمره بالجلوس فجلس، فقال له الخليفة: «أرى الصاحب قد ملَّ القعود في هذا القصر وشبعت نفسه ترفًا فاشتاق إلى ميدان الوغى وخوض المعامع.» فأدرك ضرغام أن الخليفة يمهِّد له طلب السفر إلى القتال، وأنه لم يفعل إلا وهو يرى الحاجة ماسة إلى نجدته فقال: «إن البقاء إلى جوار أمير المؤمنين نعمة وبركة، ولكن الضرب بسيفه فرض مقدس. وقد طالما حدثت نفسي أن ألْتمس من أمير المؤمنين أن يرمي بي في هذه الحرب القائمة بأرمينيا، فإذا أذن لي في ذلك فإنه يغمرني بفضله وأنا في كل حال صنيعته وربيب نعمته.» فاستحسن الخليفة ذكاءه ونظر إلى القاضي أحمد فالْتفت القاضي إلى ضرغام وقال: «إن أمير المؤمنين ضنين بك حريص على قربك، ولكنني لحظت منك في هذه الأيام انقباضًا حسبته ناتجًا عن هذا الانحباس؛ فإن القائد الشجاع لا يُسَرُّ إلا بخوض المعامع والظفر بالحرب. ونحن الآن في حرب بأرمينية، وقد صبرنا على ذلك المتمرد لاعتصامه في حصونه. فأشرت على أمير المؤمنين بأن يوجهك إليه فيأتي النصر على يدك.» فقال: «إني على ما يريد أمير المؤمنين، وأنا على أهبة السفر هذه الساعة.» فقال الخليفة: «أنت تعلم أن جند المسلمين في أرمينية بقيادة الأفشين، فهل يشق عليك أن تكون من قواده.» قال: «إنما أنا سيف من سيوف أمير المؤمنين، فليستلني رئيسًا أو مرءوسًا.» فهشَّ له الخليفة وقال: «بورك فيك، وسأبعث إلى الأفشين أن يعرف قدر الصاحب قبل سائر القواد.» فوقف ضرغام وقال: «يأذن لي مولاي في أن أسافر مصحوبًا بدعائه وبركته، وأرجو ألا أعود إليه إلا وقد فُتح البذ وقُتل بابك الطاغية.» فابتسم له الخليفة وأمر أن يخلع عليه، فخرج وقد زال قلقه. وكان وردان في انتظاره بباب القصر. فأخبره بما تمَّ، وقال له: «كنت أحب أن تبقى قريبًا من أمي هنا.» فقال: «لا بأس عليها فهي في قصر الخليفة وبين يديها الخدم والموالي.» ومضى إلى أمه فأخبرها بأن الخليفة أشخصه إلى ميدان القتال، فاستحسنت الأمر وشجَّعته وقالت: «أطلب إلى الله أن يعيدك ظافرًا.» ثم تقدم إلى ياقوتة وحيَّاها، فلما علمت بأنه يتأهب للسفر دمعت عيناها فقال: «ادعي لي بالتوفيق لعلي أرى حمادًا في طريقي، لا تحسبيني غافلًا عن أمره.» قال ذلك وتنهَّد خفيًّا وتذكَّر مصيبته بفقد حبيبته. فأجابته ياقوتة بدمعتين أرسلتهما على خديها وهي مطرقة لا تتكلم، فتركها وخرج، فأمر وردان بالاستعداد للسفر، وبعد أيام ودَّع أمه وأوصاها بياقوتة خيرًا، وسافر في فرقة من خاصة رجال الفراغنة الأشداء. ••• جرت بين جند المسلمين والخرمية مواقع عديدة في أردبيل وغيرها انتهت بتخلي الخرمية عن أردبيل، واستقروا في البذ مدينة بابك وهي مدينة حصينة أو قلعة كبيرة مؤلفة من قصور وقلاع حولها سور ضخم له الأبواب الكبيرة وعليه الأبراج الكثيرة، والطريق إليها وعر بين الجبال والأودية. واقتفى جندُ المسلمين أثر بابك عندما فرَّ إلى البذ. وبين البذ وأردبيل محطات عدة جعلها المسلمون نقطًا عسكرية تحفظ لهم خط الرجعة، وتضمن الاتصال مع سامرا مقر الخليفة. فكانت الميرة القادمة من العراق إذا دخلت أرمينية أنزلوها في أردبيل، ومن هناك ينقلونها إلى نقطة عسكرية أسسها «حصن النهر» ثم يعود حُرَّاسها إلى أردبيل ويتولى حراستها جند آخرون من «حصن النهر» إلى أرشف وهكذا إلى خش فبرزند إلى «روذ الروذ» وهي آخر محطة قبل البذ وبينهما بضعة فراسخ. وكان الأفشين قد كلَّف جواسيسه أن يختاروا مكانًا حصينًا يعسكر فيه، فاختاروا في «روذ الروذ» ثلاثة جبال عليها أنقاض أبنية قديمة، فأقام عسكره عليها وسدَّ الطريق الواصلة بينها وبين البذ بالأحجار الضخمة حتى صارت كالحصون، ثم حفر خندقًا وراء الحجارة عند كل طريق ما عدا طريقًا واحدًا يخرج منه رجاله إذا أراد الهجوم، وقد بذل في هذا العمل جهدًا شاقًّا فكان الرجال ينقلون الحجارة ويحفرون الخنادق، والعساكر يحرسونها ليلًا ونهارًا. وكان «روذ الروذ» واديًا بين آكام وعرة. فعبَّأ رجاله وعهد إلى كل قائد من قواده، بفرقة منهم؛ وهم ثلاثة: جعفر الخياط، وأبو سعيد، وأحمد بن الخليل. أقامهم في محطات بينه وبين البذ قبل الوادي الفاصل بينهما، فأصبح معسكر الأفشين كبير جدًّا إذا أراد النهوض أو السير به جعل الإشارة ضرب الطبول لبعد المسافات واحتجاب الفرق بعضها عن بعض بالجبال والأودية. فإذا سار ضرب الطبول، وإذا وقف أمسك. فيقف الجند جميعًا أو يسيرون جميعًا في مصافهم وعلى ترتيبهم. وكان للأفشين معسكر أقامه على أكمة يشرف منه على «البذ» ويرى قصر بابك وغيره من قصور المدينة. وكان بابك كثير الاعتماد في حروبه على طوائف من رجاله يرسلهم ليكمنوا في الأودية وراء التلال ليفاجئوا جند المسلمين ويغدروا بهم. وكان الأفشين يهتم كثيرًا بقطع دابرهم فيرسل الجواسيس أو الكوهبانية للبحث عن الكمين. قضى في ذلك الحصار مدة طويلة وهو يشاغل الخرمية فيأمر قواده فيقطع الواحد منهم الوادي إلى الجانب الآخر إزاء البذ في كردوس من رجاله فيقف بهم هناك فيخرج بابك فرقة من جنده تحمي باب السور وتمنع الأعداء منه، فإذا انقضى النهار أمر الأفشين رجاله بالعودة إلى معسكرهم وراء الخندق ويبيتوا هناك، فتضايق الخرمية من هذه المناورات فعزموا على الفتك بهم فراقبوا رجوع كراديس الأفشين من جانب الوادي ذات يوم كالعادة حتى لم يبقَ منهم إلا جعفر الخياط بكردوسه فخرجوا عليه وارتفعت الضجة فرجع جعفر ورد الخرمية بنفسه إلى باب البذ وتصايح الجند حتى بلغت الضجة الأفشين فرأى جعفرًا وأصحابه يقاتلون فخاف أن يفسدوا عليه خططه. أما جعفر فجاءته نجدة من المتطوعة وهي فرقة تنصر المحاربين رغبة في الغنائم والسبي، فاشتد أزره وهجموا على السور وتعلقوا به وكادوا يصعدونه ويدخلون المدينة فبعث إليه الأفشين يقول: «إنك أفسدت عليَّ تدبيري فتخلص قليلًا قليلًا وخلص أصحابك وانصرف.» ثم تحرَّكت كمناء بابك فاضطر جعفر إلى الرجوع أسفًا لضياع الفرصة. وبقي المتطوعة بعد ذلك أيامًا يقاتلون وحدهم حتى قلَّت علوفتهم ومئونتهم وهم يتذمرون ويقولون: «لو أنجدنا الأفشين لدخلنا البذ.» وضجَّ سائر الجند وطلبوا أن يبادروا بالقتال فكان يماطل خشية الفشل. أو لعله كان يطاول رغبة منه في جمع المال؛ لأن المعتصم كان قد جعل له على كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ما عدا العدة والمئونة. فجمع من ذلك مالًا كثيرًا كان يرسله إلى أشروسنة. وكان الأفشين جالسًا ذات يوم في فسطاطه المطل على البذ، فوقع نظره على جماعة من رجاله يقودون رجلًا عليه لباس أهل تلك المنطقة، وما وصلوا به إليه حتى عرف أنه سامان أخو جهان. فأجفل ولكنه توقع أن ينتفع به فصاح بالرجال أن يتركوه، فتقدم سامان مطأطئ الرأس وجثا بين يدي الأفشين فأمره أن يقف وبشَّ له وقال: «من أين أتيت؟» قال: «من البذ يا سيدي.» فأشار إليه أن يقعد فقعد متأدبًا. ثم سأله: «ما الذي أدخلك هذه المدينة؟» فهز رأسه وقال: «أتيت إليها في خدمة مولاي الأفشين.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: «ما زلت منذ تشرفت بلقيا مولاي في سامرا أبحث عن جهان عملًا بأمره حتى علمت أنها عند بابك!» فدهش الأفشين لقوله وصاح به: «جهان هنا الآن؟ هنا في البذ؟!» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «وما الذي جاء بها إلى هذا البلد البعيد؟» قال: «أخبرتك يا مولاي أن اللصوص خطفوها مني بقرب همذان، وما زلت أجدُّ في البحث عنها حتى علمت أن بابك هو الذي بعث رجاله لاختطافها؛ لأنه سمع بجمالها، وكان قد خطبها من أبي فردَّه خائبًا وكأنه أقام الكمناء يترقبون خروجها حتى تمكَّن من غرضه.» فقال: «ثم ماذا؟ ألا تزال هنا؟» قال: «إن أمر أختي يحيرني، فهي لا تستقر على حال، فبعد أن رفضت نعمة صاحب أشروسنة، رضيت ببعض رجاله. ثم عادت فرضيت ببابك وأصبحت أقرب نسائه إليه وتتفانى في نصرته. وكم نصحت لها أن ترجع عن غيها وحسنت إليها المجيء إلى الأفشين لأنه ولي نعمتها فأبت. فلما رأيتها مصرَّة على عنادها تركتها وجئت إليك.» قال: «بورك فيك، لكني علمت من بعض الجواسيس أن أعز نساء بابك إليه امرأة اسمها جلنار يقولون إنها حازمة حسنة التدبير، وإنها أعانته وشدَّت أزره كثيرًا.» فقال: «هي جهان نفسها يا سيدي، وقد غيَّرت اسمها تمويهًا. ووعدت صديقها الجديد أن تنصره على جند المسلمين فهي تتفانى في نصرته، ولولاها لقضي عليه من زمن مديد.» وكان الأفشين يعلم خبث طوية سامان ولكنه جاراه رغبة في الاستعانة به على أمر لا يصلح له غير الخبثاء، ولم يفته أن سامان يكرهه ولو استطاع قتله لقتله، فعمد إلى المداجاة وهزَّ رأسه وحكَّ ذقنه وأصلح قلنسوته وتحرك في مقعده وقال: «بئس ما كافأتنا به هذه الفتاة على إحساننا فقد أغضبناك لأجلها فعقتنا. وعسى يا سامان أن تكره شيئًا وهو خير لك.» ثم سكت عن الكلام قليلًا وعاد فقال: «ألم يعلم ضرغام أن جهان هنا؟» قال: «كلا. ولا هي تعلم بأنه على قيد الحياة.» فلم يصدق قوله وسأله: «وكيف هذا وضرغام لا يدخر وسعًا في البحث عنها!» قال: «قد ساعدني على هذا تغيير الأسماء. كن على يقين أنها تؤمن بما قلته لها من أنه قُتل، وهو ما يزال يعتقد أنها خُطفت إلى مكان مجهول. وقد فعلت أنا ذلك حِسْبة لوجه مولاي الأفشين رغم ما قاسيته من إعراضه وحرماني.» قال ذلك ونظر إلى الأفشين وعيناه ترقصان حولًا. فقال الأفشين: «لقد وثقت الآن بإخلاصك. فإذا زدتني يقينًا بإكمال سعيك كنت من الغانمين.» قال: «إني طوع الإشارة، سل ما تشاء أبذل نفسي في خدمتك.» قال: «ذكرت أنك كنت في البذ فما الذي تعرفه عن أهله وحصونه وجنده؟» قال: «إن المدينة منيعة كما ترى وفيها الجند والأسلحة، والخرمية يتضامنون في أموالهم وأنفسهم، يتفانون في خدمة زعيمهم. ولكنني أرجو أن يُغلبوا على أمرهم.» قال: «بماذا ترجو ذلك؟» قال: «أرجوه مما أعلمه من دخائل هذا البلد. فأنا أعرف أن فيها من الأسرى المسلمين وغيرهم عددًا كبيرًا، منهم سبعة آلاف وستمائة من النساء والأطفال، ويُقدَّر عدد الذين قتلهم بابك بنحو ٢٥٥ ألف نفس. وأعرف أن الناس قد ملُّوا سيادته حتى المقيمين ببلده، فإذا تمكن عشرون رجلًا منكم أن يدخلوا المدينة ويراهم الناس فأهلها جميعًا يستسلمون.» قال: «ما رأيك في الجهة التي نهاجم البلد منها حتى نضمن الدخول إليها؟» فوقف سامان وأشار بيده إلى جبل في طرف البذ وقال: «من هنا يا سيدي. أرأيت هذا الجبل؟ إن بابك يقيم الكمناء في سفحه لعلمه أن العدو إذا تجاوزه سهل عليه دخول المدينة، فإذا احتال مولاي في الإتيان من ورائه ظفر.» فسر الأفشين من قدوم سامان، وهمَّ بأن يستزيده إيضاحًا، فإذا بالحاجب دخل يقول: «إن بريد أمير المؤمنين بالباب.» قال: «يدخل.» فدخل البريدي وعلى وجهه أمارات السفر والتعب وعلى صدره صفيحة البريد النحاسية وعليها علامة خاصة. ووقف فناداه الأفشين: «تقدم. ما وراءك؟» فتقدم البريدي ودفع إليه لفافة حريرية عليها خاتم الخلافة، فتناولها وقبَّلها ثم فضَّ خاتمها فإذا داخلها أنبوبة من فضة مختومة ففتحها وأخرج منها كاغدًا ملفوفًا نشره وأخذ يقرأه وسامان يراعي حركاته وملامح وجهه فرآها تغيرت، حتى إذا فرغ من تلاوته أشار إلى البريدي فانصرف، والْتفت إلى سامان وابتسم ليزيده استئناسًا وترغيبًا في خدمته، وكان سامان واقفًا فأمره بالجلوس وقال: «أتعلم ما في هذا الكتاب؟» قال: «من أين لي علم الغيب؟» قال: «إنه كتاب المعتصم يحثني فيه على الثبات، ويبشرني بأنه أرسل إليَّ نجدة بقيادة صاحبه ضرغام.» فقال سامان: «أترى صاحب أشروسنة في حاجة إلى النجدة وهو الملك والقائد، وجنده يملأ السهل والجبل؟» قال: «كلا. وأمير المؤمنين يعلم ذلك. وأخشى أن يكون الرجل قادم لغير الحرب. أخشى أن يكون قد عرف أمر جهان … وسواء أعلى علمٍ أم لم يعلم فجهان لا يمسها أحد سواي، إن لم يكن حبًّا لها وافتتانًا بها فانتقامًا من كبريائها وقحتها. إني لا أنسى ذلك اليوم في فرغانة.» فقال سامان: «أما ضرغام فلا شك أنه لم يعلم بأن أختي هنا، بل هو لا يعتقد أنها على قيد الحياة. وقد يكون كره الحياة بعدها لكلفه بها فأتى إلى ساحة القتال رغبة في الموت، فإني أرى في الناس جنونًا لم أجربه؛ أراهم إذا أحبَّ أحدهم فَعَل فِعْل المجانين حتى يجازف بحياته غرامًا بحبيبه وإذا توفى الله أحدهم أراد الآخر أن يتبعه.» فضحك الأفشين حتى بانت نواجذه وقال: «إن كان قد جاء يطلب الموت فأهلًا به ومرحبًا. له علينا ذلك حبًّا وكرامة. أما ما تراه من جنون المحبين وهيامهم فأنت معذور لأنك أجرود لا تشعر شعورهم.» ثم أطرق هنيهة وقال: «إذا هجمنا غدًا على البلد ودخلناه فأين تكون أختك؟» فوقف سامان والْتفت إلى البذ وأشار بيده وقال: «أرأيت هذا القصر الفخم عند الباب الشرقي؟ هذا قصر النساء وبه تقيم جهان. ومن أراد الوصول إليه حالًا فليأته من ذلك الباب.» ثم أشار بيده إلى قصر في الغرب وقال: «وهذا القصر عند الباب الغربي قصر بابك نفسه، وهو أمنع القصور ولا يهاجمه أحد إلا قُتل. فاختر لنفسك.» وتحرك الأفشين في مقعده، فنهض سامان واستأذن. فقال له الأفشين: «تمكث عندنا لنستأنس بك ولا تخرج من هذا المعسكر إلا للضرورة.» ففهم سامان قصده فقال: «أحب أن أكون أسيرًا عندك حتى تتحقق من إخلاصي وأتقدم إليك أن تبقي خبري مكتومًا عن ضرغام وغيره وإلا فسد تدبيرنا.» فأشار الأفشين برأسه موافقًا، ثم نادى غلامه وأمره أن يكرم سامان ويحتفظ به، فخرج سامان من حضرته وقد سرَّه أن الأفشين أحسن لُقْيَاه ووعده بإرث أبيه انتقامًا من أخته. واستبشر بقرب الانتقام من أخته متى جاء ضرغام فيكيد له ويسعى في هلاكه. ونسي أنه كان ناقمًا على الأفشين وقد استعان بضرغام عليه وأن أخته صاحبة الفضل الأكبر عليه. ولكنه يجري في أعماله على هوى منافعه فهو لا يغضب من الأفشين لأنه تعدى حدود الوصاية أو لأنه أراد السوء لأخته، وإنما أبغضه لأنه حرمه من الإرث. ولم يحب ضرغامًا لشهامته وأريحيته أو نسبه وإنما أظهر حبه له ليستعين به في نيل مرامه. ثم إنه لم ينقلب هذا الانقلاب في الحالين إلا جريًا وراء ما يفيده فلم يكن له قلب يحب ولا وجه يخجل. ولكنه ملتفت بكل جوارحه إلى حب المال، وزاده حبًّا فيه يأسه من احترام الناس له لسجاياه أو مناقبه فأراد أن يكسب احترامهم بالمال ظنًّا منه أنه متى صار غنيًّا احترموه وأجلُّوا قدره. وسيان عنده أحبوه أم أبغضوه!
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/18/
سقوط البذ
لما خلا الأفشين إلى نفسه بعد خروج سامان فكَّر مليًّا فيما سمعه منه فصادف هوًى في نفسه، وسيان عنده فعل سامان ذلك حبًّا له أو خوفًا منه أو طمعًا في تغيير الوصية، وأعاد ما سمعه عن جهان وتذكر جمالها وكبرياءها فسرَّه أنه ظفر بها، وأنها متى وقعت في يده هذه المرة فلا مفرَّ لها منه، ثم تذكَّر أن ضرغام هو العقبة الوحيدة في سبيله، وفكَّر فيما لمَّح إليه سامان من الاحتيال لإيقاعه، فاعتزم ذلك. وقضى أيامًا في مثل هذا المنى حتى جاءه صاحب الخبر منبئًا بقدوم الصاحب مع رجاله. وفي صباح اليوم التالي جاء ضرغام، فرحَّب به الأفشين وأثنى على رغبته في نصر الدولة. فأجابه الصاحب شاكرًا، ولحظ الأفشين في وجهه تغيرًا مما أحدثه يأسه من جهان، فلم يبالِ وجعل يبالغ في إطراء بسالته وعلوِّ هِمَّته فقال ضرغام: «لا فضل لنا في خدمة الدولة ونصرة الدين الحنيف.» قال: «صدقت، وقد جئتنا في إبان الحاجة إليك فإني لا أرى بين قوادي من يُركن إليه في المهمات غيرك، وقد خبرتك وعلمت شجاعتك وصبرك.» فقال ضرغام: «كنت قد استطلت الحرب واستبطأت الفتح فلما رأيت هذه الحصون ووعورة الأرض أيقنت أن الأفشين قد أتى بما لا يستطيعه إلا الأبطال، وما أنا من يزيد في إقدامه أو يسهل فتحه، ولكنني مللت القعود وأحببت أن يكون لي في هذه الحرب نصيب. فارمِ بي حيث تشاء.» فتأكَّد الأفشين من يأس ضرغام، وأحبَّ تغيير الحديث ليهيئ له مهلكًا فقال: «بورك فيك. لا بد أن تستريح أولًا من عناء السفر … أخبرني عن أهل سامرا كيف هم وكيف أمير المؤمنين؟» قال: «كلهم في قلق من أمر بابك هذا، ولكنهم يثنون على ثبات الأفشين وحسن تدبيره … وقد آنست من الخليفة رغبة في إنهاء هذه الحرب، فجئت لألقي نفسي في أقرب السبل إلى ذلك عسى أن أتعجل الشهادة.» قال ذلك وأبرقت عيناه بريقًا حادًّا قرأ الأفشين خلاله حديثًا طويلًا فقال: «غدًا ننظر في ذلك. وأما الآن فاخرج بنا نطلعك على معسكرنا ومواقع القواد ونظام الخنادق والحصون والمكامن.» ونهض وأمر أن تُهيأ الأفراس. فنهض ضرغام وهو يقول: «قد رأيت بعض هذه المعاقل فعلمت أن مولانا الأفشين قد أتى في تنظيمها بالمعجزات.» وقضى الرجلان بقية اليوم في التجول بين الحصون والاستحكامات. فرأى ضرغام جندًا كبيرًا وتدبيرًا حسنًا، وسرَّه اهتمام الأفشين بإطلاعه على ذلك من تلقاء نفسه فقال له: «إن مثل هذا الجند لا ينبغي أن يصبر على فتح البلد طويلًا.» قال: «غدًا أقصُّ عليك سبب الإبطاء.» وافترقا. فذهب ضرغام إلى فسطاطه وكان وردان في انتظاره وقد أصبحا صديقين حميمين. فلما اجتمعا قصَّ ضرغام عليه ما لقيه عند الأفشين إلى أن قال: «وقد وعدني الأفشين أن يسرع في القتال، وألححت عليه أن يرمي بي في أخطر المواقع فإذا لم أرجع فإني أعهد إليك منذ الآن في العناية بأمي المسكينة.» قال ذلك واختنق صوته فتنحنح حتى يخفي اختناقه وعاد إلى إتمام كلامه فقال: «وأنت تعلم ما قاسته في محبتي. أما ياقوتة فاحتفظ بها ريثما يمنُّ الله عليها برجوع خطيبها. وأظنك تعرفه. وأما جهان فإذا كانت على قيد الحياة ولقيتها بعد موتي فبلغها ما تعلمه من وجدي!» فقطع وردان الحديث وقال: «لا توصني فإني لن أبقى بعدك، وما صحبتك إلا لأكون معك حيثما ذهبت.» قال: «إني ألقي بنفسي إلى الهلاك فرارًا من حياة لم يعد لي لذة فيها، فما خطبك أنت؟» فتنهد وردان وأطرق وذرفت عيناه دمعتين تقطرتا من مآقيه، وكأنه خجل فرفع بصره، وقال: «إن نصيبي من اليأس كبير جدًّا، ولو علمته لطلبت لي أن أسير إلى الهلاك أمامك وإذا بقيت حيًّا قصصته عليك. ومهما يكن من شيء فمصيري رهن بمصيرك.» فأعجب ضرغام بأريحيته، وكان قد شعر بشيء مما يجول بذهنه، ولم يشأ أن يستطلعه إلا إذا همَّ هو بنفسه بأن يكشف عما به، فقال: «لك ما تريد يا وردان، وغدًا نرى ما أعده لنا الأفشين من المهام.» أما الأفشين فقضى تلك الليلة مع سامان يكيدان لضرغام. وفي صباح اليوم التالي زار ضرغام الأفشين ومعه وردان، فوجداه وحده، وسأله ضرغام عمَّا استقر عليه رأيه فقال: «لا أزال أرى التريث في الحصار برهة أخرى.» فأجفل ضرغام لهذا التغيير وساءه تأجيل الهجوم فقال: «ولماذا؟» قال: «إني أرى هجومنا اليوم مجازفة لا تُحمد عقباها. فقد قضيت البارحة وأنا أقلب الأمر على وجوهه فلم أُوفق إلى تعبئة تضمن لنا النصر.» قال: «هل لك أن تطلعني على ما تخشاه؟» فنهض الأفشين ومشى حتى وقف بباب الفسطاط وأطلَّ على البدو حصونها ثم قال: «أرأيت هذه المدينة، إنها أمنع من عقاب الجو ولا سيما من جهة الغرب حيث هذا القصر الفخم فإنه قصر بابك الذي يقيم به، فإذا وصلنا إلى باب السور الذي يليه أخذنا المدينة.» ثم قال: «ألا ترى هذا التل الشاهق المشرف على المدينة من غربيها؟ لا سبيل إلى القصر إلا من ورائه، والطريق وعر لا يسلكه الجند الكثير ولا يجسر الجند القليل على سلوكه؛ لما يلقاه من نبال الخرمية ومجانيقهم. وبابك كثير الاعتماد على الكمناء فنخاف أن يكون له كمين أو أكثر وراء ذلك التل أو في واديه.» فقال ضرغام: «أنا ذاهب إلى ذلك التل مع رجالي الفراغنة.» قال: «إذا فعلت ذلك فإني أعبئ الجند حول الأسوار من جميع جهاتها فتضمن الفتح بإذن الله.» فقال ضرغام: «ومتى الهجوم؟» قال: «متى شئت.» قال: «الليلة. دعني أدهم القوم ليلًا فإذا أصبح الصباح ودخلت البذ حيًّا، فاهجموا أنتم على سائر جهات البلدة فيكون فتحها أمرًا مقضيًّا.» قال الأفشين: «بل أرى أن نتهيأ جميعًا للهجوم ليلًا، على أن تذهب أنت برجالك من وراء التل وتمكث تجاه المدينة حتى ترى نارًا أوقدها هنا بعد نصف الليل، وعلامتها أنها مثلثة؛ أي تكون ثلاث نيران متحاذية، فإذا رأيتَها علمت أن الجند كله مهاجم المدينة من كل جهاتها فاهجم أنت برجالك من ناحيتك، ولا يخفى عليك يا ولدي أنك في أشد المواقع خطرًا.» قال: «لا أبالي بالخطر … أنا ذاهب الآن لأعد رجالي وأرجو أن نلتقي جميعًا في قصر بابك غدًا.» قال ذلك وتضاحك مكشرًا عن أسنانه كما يكشر الأسد إذا همَّ بالوثوب. وكان الغضب واليأس قد زادا وجهه هيبة وقوة فازداد شارباه وقوفًا وحاجباه خشونة وعيناه بريقًا وحِدَّة حتى تهيَّب الأفشين النظر إليه والتفرس في عينيه فقال له: «لو كان لنا عشرة مثلك لفتحنا البذ من زمن بعيد.» أراد بذلك أن يثبته في عزمه وهو على يقين أنه لا يستطيع تجاوز التل إلى السور لما وضعه بابك هناك من آلات الدفاع الخطرة فضلًا عن الكمناء. وأغرب من هذا أن ضرغامًا ودَّع الأفشين ليذهب ويتهيَّأ للهجوم وهو لا يعرف شيئًا عن الطريق ولم يسأل عنه. وقد فرح الأفشين لذلك؛ لأن جهله الطريق يؤكد فشله. فخرج ضرغام وهو يقول للأفشين: «غدًا نلتقي هناك.» وأشار بيده إلى قصر بابك، والأفشين يهشُّ له حتى إذا توارى عن الخيمة لقيه وردان فماشاه وسأله: «ما الذي استقرَّ الرأي عليه؟» قال: «الليلة نهاجم البذ.» قال: «من أين؟» قال: «نأتيه أنا والفراغنة من وراء ذلك التل حتى ندخل من الباب الغربي وبجانبه قصر بابك، فنكون أوَّل من يدخله أو نموت تحت الأسوار.» فوقف وردان والْتفت إليه وقال: «هل تعرف الطريق إلى التل؟» قال: «لا … لا أعرفه … ولكن …» قال: «ولكن ماذا؟ إنه طريق طويل يبغي لسالكه أن يسير من وراء التل مسافة تستغرق ساعات حتى يأتي إلى سفحه تجاه السور.» وكأنه نبَّه ضرغامًا فقال له: «وهل تعرف الطريق أنت يا وردان؟» قال: «نعم أعرفه.» قال: «إذن أنت دليلنا بل أنت قائدنا، هلمَّ إلى رجالنا ليتأهبوا من الآن، ثم ننتقل بهم أصيل اليوم إلى الطريق الذي تعرفه حتى نصل في العشاء إلى تجاه المدينة.» قال: «حسنًا.» ومشيا وكلاهما ساكت يفكر، يريان الخطر الذي يهددهما واليأس يعزيهما عنه حتى وصلا إلى معسكر الفراغنة، وكانوا قليلين لا يتجاوز عددهم بضع مئات لكنهم أشداء مُنْتَخَبون يتفانون في طاعة ضرغام لو قال لهم ادخلوا النار لتسابقوا إليها. أما الأفشين فجاءه سامان بعد خروج ضرغام فقصَّ عليه ما فعله وقال: «والباقي عندك يا سامان.» فقال: «سمعًا وطاعة.» وخرج. وعبأ الأفشين جنده للهجوم في ذلك الليل ليأخذوا القوم على غِرَّة وجعل فرقته بحيث تهاجم المدينة من جهة الباب المؤدي إلى قصر النساء الذي تقيم فيه جهان أو جلنار، حتى إذا فتح البلد ودخل الناس للنهب استولى هو على قصر النساء وأعطى جهان إلى من يحتفظ بها وانصرف إلى قيادة الجند. أما ضرغام فجهَّز رجاله ومشى بهم ووردان دليلهم، وداروا حول التل حتى وصلوا إلى مكان فيه يشرف على البذ من الغرب، فمكثوا هناك حتى أظلمت الدنيا فأمرهم ضرغام أن يتربصوا ويكونوا على أهبة الهجوم، وخلا إلى وردان على أكمة ونظر إلى البذ فرأيا فيه أنوارًا متفرقة كما يطل القادم على بلد في الليل فإنه لا يرى إلا أنوارًا ويندر أن يتبين شيئًا من أبنيتها أو قلاعها. فقال وردان: «إن أقرب هذه الأنوار إلى السور وأكثرها إشعاعًا أنوار قصر بابك، وهو الذي سنفتحه أو نموت دونه، وتُرى أنوارًا بعيدة في الجانب الآخر من البلد فهناك قصر النساء، ولا أظنك تجهل استكثار هذا الرجل من النساء وانغماسه في الملذات.» قال: «وقد رويت لي ما طرأ عليه من التغيير من عهد بعيد بفعل امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير. ما أكبر عقل تلك المرأة!» فقال: «إنها عاقلة؛ ولذلك تسلطت عليه، فأصبح لا يقطع بأمر إلا برأيها.» فتنهَّد ضرغام وقال: «ما لنا ولهذا الآن! دعنا ننظر في الطريق الذي نسلكه في الهجوم. ما الذي يحول بيننا وبين المدينة الآن؟» قال: «بيننا وبينها وادٍ.» قال: «وكيف نقطعه؟» قال: «نقطعه من مكان فوقه قائم كالجسر، ومتى صرنا في الجانب الآخر أصبحنا قريبين من السور فنهجم ونتسلقه، ولا أظننا نجد عليه حامية؛ لأن الخرمية لا يخطر لهم أن عدوهم يأتيهم من هذا الطريق الوعر أو يجسر على النزول هنا.» قال: «إذن هلم بنا ننزل.» قال: «تمهَّل يا مولاي حتى تطمئن القلوب ويهجع الناس فلا يجدر بنا أن نزحف قبل نصف الليل وبعد أن نرى نيران الأفشين.» قال: «حسنًا.» وتحوَّل إلى رجاله وأوصاهم بالسكون والتربص وبألا يوقدوا نارًا ولا يسمعوا صوتًا حتى يأمرهم بالتقدم، ثم تركهم وأشار إلى وردان فلحقه فقال له: «تعالَ نتجسس الممر الذي قلت عنه لنرى هل هو سالم أو لعلَّ فيه عقبة.» ومشيا مسافة طويلة في أرض صخرية كثيرة الحجارة يتلمس الماشي أرضها تلمسًا، وكان الظلام مخيمًا لا يكاد الناظر يرى ما بين يديه. وقد ساد السكون فلم يكن يسمع هناك أي صوت سوى حفيف الثعابين والحيات المنسابة بين الصخور أو رفرفة طائر يحلق بجناحيه في الجو. فكان لوقع أقدامهما صوت بذلا الجهد في إخفائه لئلا ينمَّ عن مكانهما. ولما اقتربا من الوادي رأيا فوقه شبه جسر من الصخور يمر عليه الاثنان والثلاثة معًا. فقال ضرغام: «تحدثني نفسي أن أسير توًّا إلى السور فأصعد عليه والناس في غفلة ومتى صرت داخله يشتد أزر المسلمين بي فيكون هجومهم أدعى إلى الظفر.» فقال: «أخاف عليك كمينًا، وأرى أن تعود معي أو أعود أنا وحدي فأدعو الرجال ونتعاون على العمل.» قال: «اذهب أنت واتركني هنا حتى تعود بهم.» فقال: «احذر يا مولاي أن تبرح مكانك أو تظهر أي حركة.» ثم عاد وردان إلى الفراغنة، وظل ضرغام وحده. فلما خلا إلى نفسه نظر إلى السور فوجده على بعد مائتي خطوة منه فسوَّلت له نفسه أن يمشي الهويناء حتى يصل إلى السور فينظر ما وراءه ثم يعود. فمشى وهو لا يعرف الطريق وإنما جعل وجهته السور. وكان ينقل قدمه محاذرًا سماع وقعها. ويرفع السيف بيده حتى لا يقعقع. ولما دنا من السور وجده عاليًا وعليه الأبراج، ولم يسمع هناك صوتًا ولا رأى نورًا إلا في برج كبير فوق الباب رأى فيه ضوءًا ضعيفًا. ولما ازداد قربًا من السور سمع حركة فوقف ويداه على قبضة حسامه، وإذا بعشرات من الرجال خرجوا من وراء الصخور وأحدقوا به وسيوفهم مشرعة كأنهم كانوا ينتظرونه فأدرك أنه وقع في كمين، فاستلَّ حسامه وصاح فيهم صيحة أجفلتهم ووثب وثوب الأسد يضرب ذات اليمين وذات اليسار ضرب رجل شديد البأس قوي القلب لا يهاب الموت، وكانوا يفرُّون أماه فرار الظباء من الأسد، وهو وراءهم لا يحترس، فما درى إلا وهو يهوي في حفرة، فانقلب وسقط السيف من يده، وشُدَّت الحبال حول قدميه وكتفيه وأخذوا في إخراجه من الحفرة. وسمع جلبة وقرقعة ودبدبة وصوت وردان ينادي لبيك يا سيدي. فتحوَّل الكمين نحو الصوت وتركوا عند ضرغام من يخفره. وفهم ضرغام أن رجاله أتوا لنجدته من بعيد فزأر زئير الأسد ونادى: «وردان اقطع هذه الحبال.» فما كان إلا كلمح البصر حتى قفز وردان إليه وقطع الحبال. فلما أفلت ضرغام أخذ سيفه وهجم على الخرمية وأعمل فيهم سيفه فقتل من قتل وفرَّ الباقون ولم تمضِ ساعة حتى خلت الساحة منهم فصاح ضرغام في رجاله: «هلم إلى السور.» وما أتم كلامه حتى سمع صوتًا هائلًا كأنه دبدبة جبل يتدحرج، ثم ناداه وردان: «تنحَّ يا سيدي إنهم يرمون بعجلات من أعلى الجبل عليها صخور كبار لا تلبث أن تدحرج علينا ولا تغني الشجاعة في دفعها.» فتنحَّى ضرغام وقد كلَّت ذراعه من الضرب والطعن، ولو لم ينبهه وردان لهرسته واحدة منها؛ إذ لم يمضِ إلا يسير من الوقت حتى وصلت كالسيل الجارف أو كالرجم المتساقطة أو هي كجلمود صخر حطَّه السيل من علٍ. ولما استقرَّت العجلات في آخر انحدارها الْتصق بعضها بالسور بحيث يمكن التسلق عليها إلى سطحه. وشاهد ضرغام ذلك فصاح برجاله: «إلى السور.» وركض أمامهم وسيفه مشرع ولم يكد يفعل حتى رأى ظهر السور قد امتلأ بالرجال وفي أيديهم النبال فأخذوا يرمون الهاجمين بها وهؤلاء لا يبالون وفي مقدمتهم ضرغام وقد وقعت قلنسوته وتمزق قباؤه وتقطعت سراويله. ورآه وردان يصعد إحدى العجلات بقرب الباب ويهم بتسلق السور ففعل فعله، وإذا بباب السور انفتح وخرجت منه فرقة من الخرمية أحاطت بالعجلة ومن عليها وألقوا الحبال على ضرغام ووردان فتحولا وأعملا السيف في الحبال فتقطعت وصاح ضرغام: «ما بالكم تحاربوننا بالحبال أين سيوفكم أيها الأنذال؟» فلم يجبه أحد وهو واقف على العجلة يعمل السيف فيهم فزلَّت قدمه فجأة عن خشب العجلة فوقع وارتطم رأسه بحجر … فلما رآه ورادن شغل به عن نفسه فتكاثر عليهما الرجال فشدُّوا وثاقهما وحملوهما إلى داخل السور وصعدوا بهما إلى البرج فوق الباب وألقوهما بين يدي رئيس الحامية، فأمر بالماء فرُشَّ ضرغام، فلما صحا تحفَّز ليقبض على سيفه ويهم بالوثوب فإذا هو موثق بين يدي صاحب الحامية، والْتفت فرأى وردان إلى جانبه في مثل حاله. فعظم عليه الأمر فصاح في القوم قائلًا: «عار عليكم أن تلجئوا في قتالكم إلى الحبال فإن كنتم رجالًا فحكموا السيف. اقتلوا ولا تأسروا.» والْتفت فرأى قائد الحامية جالسًا وعليه القلنسوة والسراويل من لباس الخرمية. وشاهد بين يديه جماعة من رجال الخرمية الذين نجوا من المعركة وعليهم آثار القتال وسمعهم يتكلمون الفارسية وهو يعرفها فخاطب الرئيس بمثل ما قال بالعربية فلم يجبه وأشار إلى رجاله فخرجوا وأغلق الباب وتقدم إلى ضرغام فحلَّ وثاقه ثم وثاق وردان وقال بالعربية: «قم يا ضرغام. قم واجلس.» فلما سمع ضرغام الصوت أجفل والْتفت إلى الرجل وتفرس في وجهه فعرفه فصاح «حماد؟!» قال: «نعم حماد.» فنظر إليه والدهشة بادية في وجهه وقال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟» قال: «جئت بعد أن تركتني قرب همذان لسبب لا تجهله، وقد جُندت في جيش هذا المجوسي للانتقام من صاحبك الظالم، أما كان الأجدر به أن يدخر هذه السيوف للدفاع عنه بدلًا من أن تكون عليه؟» فابتسم ضرغام رغم ما هو فيه من القنوط وقال: «ليس صاحبي ظالمًا.» ثم تذكر ما وعده من البحث عن جهان فقال: «خفف عنك إني حامل إليك نبأ يسرك فعسى أن تكون حاملًا مثله لي.» فاضطرب حمَّاد وبدت الدهشة في عينيه وقال: «ماذا؟ هل وجدت ياقوتة؟ وأين هي؟» قال: «نعم وجدتها، وهي الآن بسامرا عند أمي معززة مكرمة.» فظنَّ حماد نفسه في حلم، ولم يتمالك عن النهوض وقال: «ياقوتة في منزلك الآن؟» وأكبَّ عليه وقبَّل رأسه ووجهه وهو يقول: «هل هي في خير وصحة؟ إني أشكر لك فضلك.» ثم تراجع وتغيَّرت سِحْنته كأنه تذكَّر أمرًا أزعجه وقال: «ولكني لسوء الحظ لم أُوفق إلى خدمتك مثل توفيقك في خدمتي. على أني لم أدخر وسعًا في السعي والاستفهام، ماذا فعلت أنت هل وُفقت على خبر جهان؟» قال: «لم أجد وسيلة من الوسائل لم أتبعها وذهب سعيي عبثًا.» ثم تنهَّد وقال: «ليتك تركت رجالك يجهزون عليَّ، إذن لأحسنت إليَّ؛ لأني لم آتِ هذه البلاد الْتماسًا للفخر بالفتح أو الكسب بالغزو وإنما أتيت لألقى حتفي وأتخلص من هذه الحياة.» قال ذلك وهو يحرق أسنانه ويتململ. فشاركه حمَّاد شعوره وأخذ يخفِّف عنه فقال: «لا تيأس يا صديقي من الفرج فإنه يأتيك وإن حسبته مستحيلًا. فقد تعلم ما كان من أمري مع ياقوتة وكيف تركت وطني وأهلي يأسًا من العثور عليها، وهذا أنت تحمل لي نبأ سلامتها، فأتاني الفرج من حيث لا أتوقع. ولا أخفي عليك أني صمَّمت بأن أفعل مثلك وعرَّضت نفسي للقتل، ولكني وُفقت إلى أمر هدأ روعي وساعدني على الصبر، فلو وُفقتَ إلى مثله لصبرتَ صبري. لقد وُفقت إلى فتاة تشبه ياقوتة فتعزَّيت برؤيتها وخفف ذلك كثيرًا من لوعة البعد.» فتذكر ضرغام مشابهة ياقوتة لجهان فقال: «لكني وُفقت إلى من تشبه جهان ولكنني لم أشعر بما يخفف اللوعة، بل زاد ذلك في أشجاني!» فاستغرب حمَّاد وقال: «أما أنا فإني أستأنس بشبه ياقوتة استئناسًا يكاد يذهب بقنوطي، وإن لم يكن لي سبيل إليها. فقد رأيت لياقوتة شبهًا في هذه المدينة هي أعز نسائها جانبًا وأسماهن حسنًا وأمنعهن مقامًا، وهي لا تحتجب فتخرج سافرة لا تبالي أن يراها الناس، وكنت كلما نظرتها تيمنتُ بطلعتها وارتويت برؤيتها.» وكان وردان جالسًا يسمع ولا يشترك في الحديث، فلما سمع حمادًا يذكر فتاة تشبه ياقوتة تذكر شبه ياقوتة لجهان، وهمَّ بأن يستوضح حمادًا فرأى ضرغام قد سبقه إلى ذلك وقال بلهفة: «أين رأيت شبه ياقوتة؟» قال: «رأيتها في هذه المدينة في قصر بابك نفسه. لا أظنكم تجهلون الفتاة التي قامت بنصرة بابك وقوَّمت أخلاقه ودفعته من الرذيلة إلى الفضيلة.» قال وردان: «أظنك تعني جلنار؟» قال: «نعم إياها أعني، إنها تشبه ياقوتة شبهًا عجيبًا، فكنت إذا رأيتها حسبت ياقوتة أمامي. وكانت تتردد على قصر بابك أو تخرج معه على فرسها سافرة، فلم أشاهد في حياتي أجمل منظرًا ولا أكثر هيبة وجلالًا منها.» فأحسَّ ضرغام باختلاج قلبه، ولولا الظلمة المخيمة لرأى حماد الدم يتصاعد إلى وجنتيه. فأطرق لحظة راجع فيها ما يذكره عن ياقوتة وشبهها لجهان فقال في نفسه: «لعلها جهان.» والْتفت إلى حماد وقال: «ومن هي جلنار؟ ومن أين أتت؟» قال: «هي من جملة نسائه، حُملت إليه من بلد بعيد كما حُمل عشرات من أمثالها، لكنها كانت أكثرهن سلطانًا عليه فكأنها سحرته. فبينما ترى رفيقاتها مختبئات في قصر النساء إذا رأين بابك سجدن له تراها راكبة فرسها الأدهم تجول في المعسكر تأمر وتنهي وأمرها نافذ على الكبير والصغير.» فلما سمع ضرغام قوله: «فرسها الأدهم» انتفض كالعصفور بلَّله القطر أو هي قشعريرة المفاجأة فهبَّ ناهضًا وقال: «فرسها أدهم؟! أين هي بربك أرنيها يا حماد. إنها جهان ولا شك.» فأخذ حماد بلهفته وقال: «ليتها كانت جهان يا صاحبي، ولكنها أخرى اسمها جلنار.» قال: «قلبي يحدثني بأنها هي، وما دامت تشبه ياقوتة. فإني أعرف أنها هذه شديدة الشبه بجهان. ثم إنك ذكرت أن جوادها أدهم، وأنها حُملت من بلد بعيد، وهذه الأوصاف كلها تنطبق على جهان، ولا عبرة بتغيير الاسم. فأنت تعرفني مثلًا بضرغام وليس في سامرا أحد يناديني بهذا الاسم، فاسمي عندهم الصاحب. هذه جهان لا شك. لقد ذهب اليأس من قلبي. فقل أين هي الآن؟» قال: «أظنها في قصر النساء، فإنها تبيت هناك وتخرج عند الحاجة إلى قصر بابك.» فتنهَّد ضرغام تنهد الفرج بعد الضيق، وتحوَّل يأسه إلى أمل، ونظر إلى ثيابه الممزقة وهو يهم بالخروج فاستوقفه حماد وقال: «اخلع ثيابك والْبس ثياب الخرمية حتى لا ينكرك الناس. وكذلك يفعل وردان، وفي صباح الغد نخرج معًا إلى قصر النساء.» فقطع ضرغام كلامه قائلًا: «أأصبر إلى الغد؟ كيف أصبر؟ وهب أني صبرت فهل تصبر المدينة وقد أحدق بها المسلمون من كل جانب ولا يلبثون أن يفتحوها. وهل يخفى ذلك عليك؟» قال: «لا أستغرب ذلك؛ لأني من جملة قواد بابك، وقد ندبني الليلة لحراسة هذا الباب؛ لأن بعض الجواسيس أنبأه بعزمكم على الهجوم من هذه الناحية، فأتيت في المساء وأقمت الكمناء حتى رأيناكم قريبين، فأمرتهم بالهجوم عليكم وكان ما كان، فهيا بدل ثيابك.» ثم الْتفت إلى وردان ليقول له أن يبدل ثيابه هو الآخر، فوجده مطرقًا غارقًا في تأملاته، فقال له: «ما بالك يا صاحبي؟ أمصاب أنت بمثل مصابنا أيضًا؟» فتنهد وردان وقال: «نعم يا سيدي. وستعلم ذلك متى وصلنا إلى قصر النساء وأنا أرى رأي ضرغام؛ أن نسرع الآن بالخروج.» فأطاعهما، وبعد أن ارتديا زي الخرمية خرج بهما، وأوصى رجاله أن يحرسوا الباب حتى يعود، موهمًا إياهم أن الأسيرين عنده في جملة الأسرى الذين أُخذوا تلك الليلة. وأطلَّ حماد من السور فرأى البذ مضاءة وسمع الضوضاء وسطها فصاح في رجاله فلم يجد منهم أحدًا فنادى خادمه فأسرع إليه فقال: «أين الرجال؟» قال: «ألم تسمع يا مولاي طبل الهجوم؟» فقال: «كلا.» وكأنه شُغل عنه بضرغام ووردان. فقال الغلام: «ضُربت الطبول وصدر الأمر بأن يجتمع الرجال للدفاع عن الباب الشرقي؛ لأن المسلمين هجموا عليه بقيادة قائدهم الأكبر على ما يُقال.» فقال: «الأفشين نفسه؟» قال: «لا أدري.» فالْتفت وردان وضرغام معًا إلى معسكر الأفشين فرأيا النار المثلثة موقدة فتأكدا من الهجوم، فقال ضرغام: «هلمَّ بنا إلى القصر.» ركب كلٌّ من حماد وضرغام ووردان جوادًا من جياد الخرمية، وأركضوها إلى قصر النساء، فلقوا أهل البلد في هرج وخوف وليس فيهم رجل لم يحمل سلاحه ليدافع عن نفسه، وقد ظنوا حمادًا ورفاقه من المغيرين، ثم رأوا نفرًا من المسلمين وسط المدينة ينهبون وأصبحوا كلما اقتربوا من الباب الشرقي رأوا المسلمين يتكاثرون فتحققوا أن البلد قد أُخذ، فلم يبالوا. ولما وصلوا إلى القصر رأوا جنود المسلمين يخرجون منه حاملين الأمتعة والرياش، ورأوا بعضهم يقود نساء فاختلج قلب ضرغام خوفًا على جهان أن تكون في الأسرى، فدخل القصر مع وردان، فقال لهما حماد: «تمهلا حتى أعرف الخبر اليقين من مصدره.» قال ذلك واتجه إلى غرفة بقرب الباب رآها موصدة، فقرعها فلم يسمع جوابًا، فكلَّم الذين في داخلها بلسانهم ففتحت لهم امرأة كهلة أدخلتهم وأغلقت الباب خلفهم وهي ترتعد من الخوف، فقال لها حماد: «ما الذي جرى يا خالة؟» قالت: «ألم ترَ ما جرى؟ فتحوا المدينة، وجاءوا إلى هذا القصر فدخلوه ونهبوه وسبوا نساءه ولو لم أختبئ هنا، أو لو كان لي بقية من جمال أو مال لأخذوني فاكتفوا بأخذ حليي وانصرفوا.» فلما سمع ضرغام قولها: «سبوا نساءه»، ارتعدت فرائصه ولم يكن وردان أقلَّ منه اضطرابًا ولكنه كان أصبر منه على كتم شعوره، وأدرك حماد لهفتهما فسأل القهرمانة: «أخذوا كل النساء؟» قالت: «نعم.» قال: «وجلنار أيضًا؟» قالت: «لا … جلنار لم يأخذوها.» قال: «أين هي؟» فنظرت إلى رفيقيه وترددت في الجواب كأنها تكتم شيئًا تخاف ظهوره، فقال لها: «قولي ولا تخافي.» قالت: «إن مولاتنا جلنار ورفيقة لها رومية من نساء بابك خرجتا منذ بضعة أيام في مهمة إلى بابك.» فتصدى لها ودران مستفهمًا فقال: «وما اسم تلك الرومية يا خالة؟ هل تعرفينها؟» قالت: «كيف لا أعرفها وأنا قهرمانة هذا القصر أعرف تاريخ نسائه واحدة واحدة؟ فجلنار مثلًا لا يعرف أهل البذ عنها شيئًا وأما أنا فأعرف أصلها وفصلها منذ حُملت إلينا من فرغانة واسمها يومئذ جهان بنت المرزبان، ثم تسمَّت بجلنار، وأحبَّت هذه الرومية وصادقتها وتوافق ذوقاهما حتى ذهبتا في هذه المهمة معًا.» فثبت لديهم، أن جلنار هي جهان نفسها، ولم يبقَ مكانٌ للشك، أما وردان فلم يشفِ غليله فقال: «سألتك عن المرأة الرومية ما اسمها وهل كان لها اسم غيره؟» قالت: «اسمها هيلانة ولم تغيِّره منذ سرقوها من زوجها البطريق في أرمينيا.» فاضطرب وردان وارتجف وصاح: «هيلانة؟ هي … هي … زوجتي!» وأدرك ضرغام أن وردان بطريق من بطارقة أرمينيا، وأن بابك سلبه امرأته فالْتفت ضرغام إليه لفتة تهنئة وعتاب وقال: «أتكون بطريقًا وتحملني على ظنك خادمًا؟ والله، إني رأيت في برديك نفس الرجل الكبير منذ عرفتك.» فقال: «لجأت إليك ودخلت في خدمة المسلمين في انتظار هذه الساعة حتى أنتقم من ذلك الفاسق الظالم، فأرجو أن يكون قد أُخذ ونال جزاء فعلته.» فقال حماد: «إن لم يكن قد فرَّ فإنه مأسور لا محالة؛ لأن المدينة سقطت وقُضي الأمر.» ثم عاد حماد فقال للقهرمانة: «لم تخبرينا يا خالة عن الجهة التي سارت إليها جلنار وهيلانة.» قالت: «سارتا معًا إلى بلاد الروم يستنجدان أهلها على المسلمين. ارتأت جلنار هذا الرأي لنصرة بابك وصحبتها هيلانة؛ لأنها من تلك البلاد وتعرف لسانهم.» قال حماد: «ومولانا بابك أين هو؟» قالت: «ليس في البذ الآن ولا هو أسير.» قال: «فأين هو؟ أخبرينا لا تخافي فإن البذ دخل في حوزة المسلمين، وهم أبقى لنا من سواهم. وأنا أعلم أنك أخبر الناس بما يعمله بابك.» قالت: «بقي بابك في المعركة يناضل ويدافع حتى تحقق سقوط المدينة فأتاني واصطحب من شاء من نسائه مع أحمال من الطعام والشراب، وأظنه غادر المدينة وأوغل في أرمينيا.» فنظر حماد إلى ضرغام كأنه يسأله عما يفعلون فقال: «ننصرف.» ثم خرجوا يلتمسون مكانًا يتشاورون فيه، وقد لاح الصباح. فقادهم حماد إلى مكان يعرفه وشاهدوا في طريقهم جند المسلمين ينهبون المدينة ويهدمون بيوتها ويحرقون قصورها حتى لا يبقى فيها ملجأ لعدو أو صديق. ولما وصلوا إلى المكان قال ضرغام: «ماذا يرى البطريق وردان فيما نحن فيه؟ لقد ذكرت القهرمانة أن جهان وهيلانة ذهبتا إلى بلاد الروم. وهي بلاد واسعة، فلو عرفنا البلد الذي تنزلانه لقصدنا إليه.» فضحك وردان لتسميته بالبطريق وقال: «لا حاجة بي إلى هذا اللقب، يكفيني أني صديق ضرغام. وأما جهان وهيلانة فأذن لي أن أضرب في البلاد طولًا وعرضًا أبحث عنهما ولا أعود حتى أعرف مقرهما.» فقطع حماد كلامه وقال: «كلا … لا يذهب أحد في هذه المهمة سواي، إن لضرغام يدًا عندي؛ فقد أنقذ خطيبتي واحتفظ بها في بيته مكرَّمة معززة، فإذا لم أجازِه على عمله كنت لئيمًا. دعني أذهب وحدي أبحث وأفتش ومتى وقفت على شيء بعثت إليكما.» فقال ضرغام: «ليس من العدل أن تكون عالمًا بمكان ياقوتة وهي في لهفة للقياك وتذهب في مهمة أخرى.» قال: «لا تجادلني. لست راجعًا إلى أهلي قبل أن آتيك بأهلك وأهل هذا الصديق الأرمني. لقد سررت بمعرفته سرورًا كثيرًا. وأما ياقوتة فتبقى عندك في سامرا. ويكفي أن تبشرها باللقاء القريب.» فقطع وردان كلامه وأخبره بما كان الخليفة قد أمر به ضرغامًا من التزوج بها. وبأن ضرغامًا أوهم الخليفة بأنه تزوجها. فصاح حماد وقد ثارت الأريحية في رأسه قائلًا: «وهل بعد هذا يستعظم أن أبحث عن عروسه؟» فقال: «إذن أسير معك؛ لأني أعرف البلاد ولغتها وطرقها.» فقال: «لا حاجة بي إلى أحد منكما، أستودعكما الله من هذه الساعة.» قال ذلك وخرج. فلما خلا ضرغام إلى وردان قال: «أحسبني في منام يا وردان، إن الفرق بين اليوم والأمس كالفرق بين الرجاء واليأس، ولكن …» فقطع وردان كلامه وقال: «وأنا أحسبني انتقلت من الجحيم إلى النعيم؛ لأني كنت شديد الشغف بامرأتي، وبلغ من قحة ذلك الوحش الكاسر أن طلب مني أن أطلقها ليتزوجها، فلما أبيت بعث جندًا حملها إليه بالقوة! قبحه الله من مجوسي فاسق. والها لو ظفرت به لأشربن دمه.» فقال ضرغام: «لعلَّ الأفشين ظفر به ونحن لا ندري فهلمَّ بنا إلى المعسكر.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/19/
مصرع بابك
كان الأفشين قد أحسن إعداد الهجوم حتى فتح البذ وقتل الخرمية على بكرة أبيهم وأخذ أولاد بابك وعياله، إلا جهان وهيلانة؛ لأنهما كانتا غائبتين وبعد أن أحرق المدينة وتحقق فرار بابك عاد إلى معسكره في «روذ الروذ» وقد ساءه أنه لم يظفر بجهان ولا علم مكانها. فارتاب في أقوال سامان، وخطر بباله أنه فرَّ بها. وكان بين الأسرى كثيرون من العرب والفرس وأبناء الدهاقين، فأمر بهم فجُعلوا في حظيرة كبيرة وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم فكان كل من جاء وعرف امرأة أو صبيًّا أو جارية وأشهد شاهدين أخذه. فأخذ الناس منهم خلقًا كثيرًا. وكتب الأفشين إلى ملوك أرمينيا وبطارقتهم بأن بابك هرب، وأمرهم بحفظ نواحيهم ومراقبة طرقه، وندم على تفريطه في ضرغام وهو يظنه قُتل لأن بعض الفراغنة الذين كانوا معه أخبروه أنه أُخذ أسيرًا أو مات؛ لأنهم رأوه محمولًا بين حيٍّ وميت ولم يجدوه بين القتلى. وفي اليوم التالي عاد ضرغام مع وردان إلى معسكر المسلمين فرحَّب به الأفشين وهنأه بالسلامة وأطرى ما سمعه عن بسالته ليلة الهجوم وبالغ في الإطراء حتى يبعد عنه مظنة السوء. اختصه بالشورى في الشئون الهامة وأهمها يومئذ فرار بابك. وأخبره بما فعله في سبيل القبض عليه. فقال ضرغام: «إن خادمي وردان أرمني الأصل والوطن، وهو يعرف هذه البلاد فاستخدمه لهذا الغرض. وإذا شئت أتيتك به الساعة.» قال: «افعل.» فنادى غلامًا أمره أن يستقدم وردان، وكان خارج الفسطاط، فلما دخل حيَّا ووقف فقال له الأفشين: «أتعرف طرق أرمينيا ومسالكها يا وردان؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «أين تظن الخرمي يختبئ وإلى من يلتجئ؟» قال: «لا أظنه يلتجئ إلى بلد؛ لأن أهل أرمينيا يكرهونه ويريدون قتله، ولكنني أحسبه يختبئ في بعض الغابات أو الأودية وأشهرها الوادي الأكبر المسمى الغيضة، وهو كثير العشب والشجر بين أذربيجان وأرمينيا لا يمكن الخيل نزوله، ولا يُرى من يختفي فيه لكثرة شجره.» فاستفاد الأفشين من هذه المعلومات، وبعث جواسيسه للبحث في تلك الغيضة فعادوا إليه وأكدوا له اختباء بابك هناك. وكان الأفشين قد بعث إلى المعتصم ليستكتبه كتابَ أمان لبابك. فلما جاء كتاب الأمان دعا الأفشين بعض الذين أمَّنهم من أصحاب بابك وأعلمهم بذلك وأمرهم أن يسيروا إليه بالكتاب وفيهم ابنه، فلم يجسر أحد منهم خوفًا منه، فقال: «إنه يفرح بهذا الأمان.» فقالوا: «نحن أعرف به منك.» فقام رجلان فقالا: «اضمن لنا رزق عيالنا إذا هلكنا ونحن نذهب إليه.» فضمن لهما ذلك، فسارا بالكتاب حتى أتياه وأعلماه بما قدما فيه، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين. وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابًا فقال لذلك الرجل: «أبلغ ابن الفاعلة أنه لو كان ابني لَلَحِقَ بي، ولكنه ليس ابني، ولأن تعيش يومًا واحدًا رئيسًا خيرٌ من أن تعيش أربعين سنة عبدًا ذليلًا.» وقعد في موضعه. فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده وخرج من بعض تلك الطرق، ومعه بعض رجاله، فلم يجد أحدًا من الجند الذين أرسلهم الأفشين لمحاصرته، وظن بابك أن القوم يئسوا من القبض عليه فرحلوا. فسار هو وعبد الله أخوه، وأمه وامرأة أخرى، يريدون أرمينيا، فرآهم بعض الحراس فأرسلوا إلى الجند المكلف بتعقبه. وكان أبو الساج هو المقدم عليهم، فلحق بهم وقد نزلوا على ماء يتغذون. فلما رأى بابك العساكر ركب هو ومن معه فنجا وأخذ أبو الساج أمَّ بابك والمرأة الأخرى فأرسلهما إلى الأفشين، وسار بابك في جبال أرمينيا مستخفيًا، وكان بطارقة أرمينيا يراقبون سبله فاحتال بعضهم حتى خدعه وأدخله حصنه، وأرسل إلى الأفشين يعلمه بذلك، فبعث الأفشين يعده ويمنِّيه وهو يأبى الاستسلام. ثم احتال صاحب الحصن عليه حتى أخرجه بحجة الصيد وأنبأ الأفشين بخروجه فتمكنوا من القبض عليه ومعه أخوه عبد الله وحملوهما إلى الأفشين. فلما قرب بابك من المعسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه، وصفَّ عسكره صفين، وأمر بإنزال بابك من فوق دابته فنزل ومشى بين الصفين، فأدخله بيتًا في برزند، ووكل به من يحفظه، وأنعم على الذين أسلموه، وكتب إلى المعتصم بذلك. فأمره بالقدوم إليه به وبأخيه، فانتقل بهما في جنده وحاشيته من بزرند إلى سامرا (سنة ٦٢٣ﻫ). وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم رسولًا يحمل إليه خلعة وفرسًا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم. وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن دؤاد متنكرًا، فنظر إلى بابك وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه أيضًا متنكرًا فرآه. فلما كان الغد قعد المعتصم واصطفَّ الناس من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم وأمر أن يركب على الفيل فركب عليه واستشرفه الناس إلى باب العامة. فقال محمد بن عبد الملك الزيات: ثم أدخل بابك دار المعتصم، فأمر بإحضار سيَّاف بابك فحضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما، فسقط فأمره بذبحه ففعل. وشقَّ بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا. وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمره أن يفعل به ما فعل هو بأخيه بابك ففعل وضرب عنقه وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين. وكان ذلك آخر عهد الخرمية. وكان ضرغام ووردان في جملة الذين رجعوا مع حملة الأفشين وشاهدا قتل بابك فاشتفيا بقتله، وودَّ ضرغام لو أنه قتله بيده في المعركة. وحال وصولهم إلى سامرا سار ضرغام إلى منزله وقبَّل يد أمِّه وسلَّم على ياقوتة وبشَّرها بلقاء حماد، فلم تعد تعرف كيف تشكره. ثم أخبر أمه بطرف من خبر جهان وبأنها ذهبت إلى بلاد الروم وأن حمادًا أبى إلا أن يبحث عنها بنفسه. قال ذلك وياقوتة حاضرة، ونظر إليها وابتسم وقال: «أظن هذا الخبر يسوءك. ولكنه أبى إلا الذهاب.» فتورَّدت وجنتاها خجلًا وأطرقت وقالت: «مهما نفعل فإننا لا نفي ببعض فضلك، فقد أنقذتني من القتل والعار وكفلتني.» فقطع كلامها قائلًا: «لم أقم إلا ببعض ما وجب طبقًا لإشارة أمير المؤمنين فنحن عبيده وعلينا طاعته.» ورأى ضرغام في وجه ياقوتة تغيرًا وفي عينيها ارتباكًا كأنها تهم بشيء يمنعها الحياء من ذكره فسألها عما بها فقالت: «أذكرني تفانيك في نصرة أمير المؤمنين شيئًا لحظته خلال إقامتي ببيت الحارث السمرقندي، وأخشى منه على حياة أمير المؤمنين. فقد فهمت أن هناك قومًا يتآمرون على حياته.» فلم يشأ ضرغام أن يعير الأمر اهتمامًا فقال: «إننا لا نحفل بما يكيده بعض الخونة لأمير المؤمنين فمعظم ما يأتمرون به لا يترك أثرًا، وسببه على الغالب جهل بعض أهل الخليفة الأقربين فيزين لهم ذوو المطامع من الوزراء أو القواد أن يسعوا إلى الخلافة ليستفيدوا هم من انتقالها من يدٍ إلى يد، وهذا العباس ابن المأمون قد حسَّنَ له بعضهم أن يطالب بالخلافة لنفسه ولا ينالها إلا إذا قُتل المعتصم، فهم يتآمرون ويتواطئون على قتله ولكنهم لا يفلحون، وسيردُّ كيدهم إلى نحورهم.» فلما سمعته أمه أشرق وجهها وابتسمت وقالت: «بورك فيك يا بني، هكذا الأمانة، وهكذا الرجال.» ثم لبس سواده وذهب للسلام على المعتصم وعنده الأفشين وغيره من كبار القواد، فلما دخل عليه هشَّ له وقال: «مرحبًا بالصاحب البطل الهمام. بلغنا ما كان من بلائك في الأعداء وما أبديته من البسالة والهمة بورك فيك. ألا تزال ترى لقب الصاحب كثيرًا عليك؟» وأشار إليه بالجلوس قريبًا منه. فأطرق خجلًا وقال: «إن العبد لا يستأهل أجرًا إذا قام بخدمة مولاه، ويكفيه رضاه عنه.» فالْتفت الخليفة إلى الأفشين فقال هذا: «يندر يا أمير المؤمنين أن نرى مثل الصاحب في الشجاعة وصدق الخدمة.» وأخذ يطري أعماله يريد أن يمحو ما يخشى أن يكون قد خامره من إساءة الظن به. وعاد الخليفة نفسه إلى الثناء عليه، وأمر له بالهدايا والخلع. ولما انفض المجلس عاد ضرغام إلى منزله وعادت إليه هواجسه في شأن جهان. ولبث في انتظار ما يأتيه من حماد، فكان يقضي أكثر أيامه مع وردان يتحادثان فيما عسى أن يكون من أمر جهان وهيلانة. وشاع في هذه السنة في سامرا أن «تيوفيل» ملك الروم خرج إلى بلاد الإسلام. وسمع بذلك ضرغام. فأرسل إلى صديقه وردان فجاء، فأخذا في تقليب الرأي فيما هو حادث وما قد يحدث، فقال له وردان: «إني أرى فتح البذ سبب خروج الروم لقتال المسلمين، فقد أنبأني بعضهم أن بابك لما ضيَّق عليه الأفشين وأشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم بأن جنود المسلمين مشغولون به، فالفرصة سانحة أمامه لاكتساح مملكة الإسلام، وربما كان لجهان يد في هذا التوجيه.» قال: «تحدثني نفسي أنها مع هيلانة هناك.» قال: «لو كانتا هناك لجاءنا الخبر من حماد، فإنه يبحث عنهما حيث يكون ملك الروم. ولا بد من الصبر.» لقد طال سكوتي عليك، وأظنك مللت الانتظار، ولكني مُكرَه على هذا؛ فإني قضيت أشهرًا أبحث على غير هدى إلى أن بلغني أن تيوفيل ملك الروم قادم على «زبطرا»، فهممت بأن ألقاه هناك لعلي أجد ضالتنا، فما كدت أبلغ البلد حتى علمت أن الروم اكتسحوه وخربوه وسبوا النساء والأطفال. ثم أغاروا على «ملطية» وغيرها من حصون المسلمين وسبوا المسلمات ومثَّلوا بمن أخذوا من المسلمين؛ فسملوا أعينهم وقطعوا أنوفهم وآذانهم، وقد شاهدت بعض أولئك المجدوعين ورأيت الناس قد خرجوا من بلادهم في الشام والجزيرة فرارًا من وجه الروم إلا من لم يكن له سلاح أو دابة. فلما رأيت ذلك عدلت عن الذهاب إلى «زبطرا» وتذكرت أن «ناطس» بطريق عمورية كان قد زار البذ في عهد بابك وعرف جهان. ولعها ذهبت إليه. وقد صدق حدسي؛ لأني علمت عندما دخلت عمورية أن جهان وهيلانة جاءتا رأسًا من البذ للسعي في حمل البطريق ناطس على أن يتوسط لدى ملك الروم في نجدة بابك، فأنزلهما ناطس في قصره ووعدهما خيرًا، ثم جاء الخبر بسقوط البذ وقتل بابك، فلم يبقَ لهما مأرب في أرمينيا كلها فبقيتا في عمورية. وقد حرص عليهما هذا البطريق حرصًا شديدًا ولا سيما جهان، وضيَّق عليهما فلا يسمح لهما بالخروج. ولعل جهان رضيت بالأسر عن طيب خاطر؛ إذ يئست من لقائك. وقد حاولت الاتصال بها لأطلعها على حالك وأبشرها بقرب لقائك فلم يتيسر لي؛ لأن القوم هنا شديدو الحذر من المسلمين، وإذا أساءوا الظن بأحد منهم قتلوه ومثَّلوا به كما فعلوا بأهل «زبطرة». فجهان وهيلانة مسجونتان الآن في قصر «ناطس» بطريق عمورية، وسأبذل جهدي في إبلاغ خبرك إليهما وإن كنت لا أتوقع نجاحًا عاجلًا. وقد علمت أن الروم ينوون اكتساح مملكة الإسلام، فالذي أراه أن يسبقهم المسلمون ويكتسحوا بلادهم، وهذه عمورية التي تُعدُّ أمنع حصونهم لا أراها تمتنع على المسلمين لعلمي بمواضع الضعف في أسوارها، ولا أخالك بعد كتابي هذا إلا محرضًا صاحبك على فتحها، فإذا فعلت فاجعل رايتك قطعتين مستطيلتين حتى أعرفها إذا نزل معسكركم أمام عمورية وأعرف مكانك والسلام. وما فرغ ضرغام من قراءة الكتاب حتى تصبب العرق من جبينه وهاجت أشجانه وثارت عواطفه، ودفع الكتاب إلى وردان فقرأه وقال: «أرى أن قد تحتم المبادرة إلى العمل، ولا بد من ذهابي إلى عمورية.» قال: «لا فائدة من ذهابك؛ فإن المرأتين في إطار أضيق مما قرأته في هذا الكتاب، وقد أراد صديقنا حماد تخفيف الخبر. ألم تقرأ قوله: «إن ناطس حرص عليهما حرصًا شديدًا ولا سيما جهان»، إنه يعني أن هذا البطريق أحبَّ جهان فاستبقاها لنفسه، فلا تجدي الحيلة في إنقاذها منه ولا بد من القوة. وقد أشار حماد إلى ذلك تلميحًا في أواخر كتابه.» فقال وردان: «إذا كان لا بد من الحرب فلا يثيرها سواك بما لك من المنزلة عند الخليفة.» فنهض ضرغام لساعته تاركًا وردان في مكانه ومضى إلى داره فلبس سواده والقلنسوة وخرج يقصد دار الخليفة فاستأذن فقال له الحاجب: «إن أمير المؤمنين في خلوة مع القاضي أحمد.» فقال: «استأذن لي أيضًا.» فلما أذن له دخل وسلَّم، فرأى القاضي أحمد جالسًا بجانب سرير المعتصم والاهتمام بادٍ في وجهيهما. فلما دخل ضرغام رحَّب به الخليفة قائلًا: «جاءنا الصاحب في إبان الحاجة إليه فقد كنت عازمًا على دعوتك.» وأشار إليه بالجلوس. فجلس وقال: «إن نفسي حدثتني بأن هناك ما يدعو إلى مجيئي؛ لأني لا أفتأ أفكر في مولاي، أشاركه آماله فتتلاقى خواطرنا.» فقال القاضي: «بلغني رضاء أمير المؤمنين بما أبديته من البسالة في فتح البذ، وقد سرَّني صدق توسمي فيك، فأصبحت ذا منزلة لدى مولانا يُعول على رأيك وسيفك.» فأطرق ضرغام تأدبًا ولم يجب. فأتمَّ الخليفة الحديث قائلًا: «جاءنا البريد من بلاد الروم بأن تيوفيل اللعين نزل «زبطرا» و«ملطية» وأساء إلى أهلهما وارتكب فيهما كل قبيح مما لم يألف المسلمون مثله.» فقال ضرغام: «هل يطلب أمير المؤمنين رأيي؟» قال: «نعم.» قال: «لا أرى لي غير السيف كما عوَّدهم الرشيد من قبل. فأحمل عليهم ودوخهم واكتسح بلادهم. إن الإسلام لا يصبر على ما فعله تيوفيل من سمل العيون وجدع الأنوف وسبي النساء. جرِّد يا أمير المؤمنين جندك فيعودون من ظفر إلى ظفر آخر وأنا عبدك أول المتطوعين في هذه الحرب. وإذا صبر أمير المؤمنين على سمل عيون المسلمين فلا أخاله يصبر على سبي المسلمات!» وكان ضرغام يتكلم وعيناه تقدحان شررًا وشفتاه ترتجفان، وأحسَّ أنه بالغ في الجرأة بين يدي الخليفة، ولكنه لم ينتبه إلا بعد أن فرغ من كلامه. ورفع بصره إلى المعتصم فرآه وقد تغيَّر وأبرقت عيناه وخالطهما احمرار من الغضب. واضطرب في مجلسه وثبت بصره في ضرغام وهو يتكلم فهاجت حماسته وأصبح كالأسد في بطشه وسلطانه. فخاف ضرغام أن يكون قد أغضب المعتصم بجرأته، فأراد أن يستأنف الكلام للاعتذار فقطع القاضي أحمد كلامه قائلًا: «لقد نبهت حمية أمير المؤمنين إلى مصلحة المسلمين وما هو بغافل عنها، وإنه ليسره أن يرى ذلك في رجاله وأبطاله.» فقال المعتصم: «إن الصاحب تكلَّم بلساني وعبَّر عن جناني. وسآمر الأفشين والقواد الآخرين بالتأهب لحرب بعد أن أستخير الله فيها. إنها جهاد في سبيل الإسلام.» ثم قال: «موعدنا غدًا إن شاء الله.» فانصرف القاضي وضرغام. مشى ضرغام إلى منزله وقد هاجت عواطفه، وكان وردان في انتظاره فقصَّ عليه ما جرى فسرَّه الأمر ولكنه خاف أن تئول تلك الاستخارة إلى العدول عن القتال. وفي الصباح التالي جاء غلام الخليفة مبكرًا في طلب الصاحب. فمضى حتى دخل على الخليفة، فرآه في بهوٍ خاصٍّ لا يجلس فيه للناس وهو بثوب النوم وقد الْتفَّ بمطرف. وآنس في وجهه انقباضًا. فأوجس خيفة ولكن المعتصم أمره بالجلوس، فجلس فقال له الخليفة: «أتدري لماذا دعوتك وأدخلتك عليَّ وأنا في هذه الحال؟» قال: «كلا يا مولاي.» قال: «نهضت من فراشي منذ هنيهة بعد أن استيقظت منزعجًا مضطربًا.» قال: «خيرًا إن شاء الله.» قال: «صلَّيت العشاء أمس وتوسلت إلى الله أن يلهمني ما فيه خير المسلمين من أمر الروم، ثم نمت فرأيت في رؤياي ما أطار صوابي وأذهب رشدي.» فظل ضرغام مصغيًا يتطاول بعنقه. فمسح المعتصم لحيته وشاربيه وأصلح عمامته الصغيرة على رأسه وقال: «قلت إني رأيت، والحقيقة أني لم أرَ شيئًا، ولكني سمعت صوتًا اخترق أعماق قلبي. سمعت امرأة هاشمية أسيرة في بلاد الروم تصيح: «وا معتصماه!» فأجبتها: «لبيك»، واستيقظت وقد علمت أن الله يأمرني بالجهاد وأن أكون على رأس المجاهدين، فخذ أهبتك للسفر وسآمر قوادي يتأهبوا. هل أثق بجندي؟» فتذكر ضرغام ما كان يبديه من الارتياب في إخلاص الأفشين فقال: «لا سبيل إلى تحقق ذلك، وقد علم أمير المؤمنين أنهم إنما يحاربون في سبيل حطام الدنيا، وقد فتحوا البذ وقضوا على الخرمية وسيفعلون ذلك بالروم.» فقال المعتصم: «يُخيل إليَّ أنهم لولا ذهابك لم يفتحوه إلا بعد أعوام.» فخجل من الإطراء وقال: «إذا كان لأمير المؤمنين ثقة بعبده فليجعلني في هذه الحملة ولا يخشى غدرًا بإذن الله.» قال: «وما رأيك في البلد الذي نقصده من بلاد الروم؟» قال: «إن الصوت الذي سمعته يا أمير المؤمنين خرج من عمورية وهي من أكبر مدائن الروم وعين النصرانية، وفي فتحها نفع للمسلمين.» قال: «أحسنت.» وتحفَّز للنهوض، فخرج ضرغام مسرعًا إلى وردان يبشره وأخذ في الاستعداد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/20/
فتح عمورية
أعدَّ المعتصم جنده للقتال، وجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد ومعه ٣٢٨ رجلًا هم أهل العدالة فأشهدهم على ما وقفه من الضياع، جاعلًا ثلثه لله، وثلثه لولده، وثلثه لمواليه. ثم تجهَّز إلى عمورية بالسلاح والعدد والآلات وحياض الماء والروايا وغير ذلك، وجرَّد جيشًا عظيمًا بلغ تسعمائة ألف مقاتل. عليه من القواد الأفشين وأشناس وغيرهما. وخرج المعتصم نفسه على دابته وخلفه حقيبة فيها زاد تشبهًا بالمجاهدين في صدر الإسلام. وفرَّق جنوده في جهات مختلفة من بلاد الروم حتى الْتقوا قرب أنقرة وعزموا على المسير إلى عمورية. فأمر المعتصم بتعبئة الجند فجعله ثلاثة معسكرات أحدهما في الميسرة وعليه أشناس التركي، والثاني في الوسط وفيه المعتصم نفسه، والآخر في الميمنة وقائده الأفشين. وجعل بين كل معسكر ومعسكر فرسخين. وأمر بأن يكون كل معسكر ميمنة وميسرة، وبأن يحرقوا ما يصادفهم من القرى ويخربوها ويأخذوا من فيها. ثم ترجع كل طائفة إلى موضعها فيما بين أنقرة وعمورية وبينهما سبع مراحل. ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية وكان أوَّل من أتاها أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين. فداروا حولها وقسمها المعتصم بين القواد وجعل لكل واحد منهم أبراجًا منها على قدر أصحابه. وكان ضرغام في معسكر المعتصم، والمعتصم يقربه ويكرمه، وكان في حاشيته أيضًا الحارث السمرقندي وقد أخذ الحسد منه مأخذًا عظيمًا لما شاهده من منزلة ضرغام عند الخليفة، وضرغام لا يكترث وإنما همُّه أن يُوفق إلى إنقاذ جهان، وكذلك كان وردان يتوق إلى لقاء هيلانة. وحينما حطَّا رحالهما هناك، صعدا إلى رابية أطلَّا منها على عمورية فرأياها مدينة كثيرة الأبنية واسعة الأرجاء حولها سور عالٍ عليه الأبراج الضخمة وله الأبواب المتينة، ورأيا بين الأبنية قصرًا تخفق عليه الرايات، فعلم ضرغام أنه قصر البطريق وأن جهان فيه، فتنهد ونظر إلى وردان فرآه مطرقًا فسأله: «أليس هذا قصر البطريق؟» قال: «بلى، هذا هو بعينه.» قال: «إذا صحَّ قول حماد فإن جهان وهيلانة محبوستان فيه، وأرى المدينة حصينة، ولكنها لا تمتنع علينا بإذن الله. هل أعددت الراية المزدوجة التي أوصانا حماد بها؟» قال: «نعم أعددتها ولكن كيف السبيل إلى نشرها ونحن في معسكر المعتصم تحت رايته.» قال: «ننشرها في مكان منعزل عسى حماد أن يكون في انتظار رؤيتها كما ذكر في كتابه.» قال: «غدًا أقف لها على هذه الرابية نحو ساعة لنرى ما يكون.» وعاد إلى المعسكر. وفي اليوم التالي عقد المعتصم مجلسًا حضره القواد ورجال خاصته وفيهم الصاحب والحارث السمرقندي، وأخذوا في وضع خطة القتال. ولما أذن المؤذن لصلاة الظهر تفرقوا ودخل الخليفة فسطاطه وأشار إلى الصاحب أن يأتيه صباح الغد، فرجع إلى فسطاطه فرأى وردان في انتظاره وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا فسأله عن الراية فقال: «وضعتها على الرابية.» فقال: «كيف تركتها وما لي أراك متجهمًا؟» قال: «تركتها لأمر أهمَّ منها.» قال: «وما ذلك؟» قال: «رأيت سامان اللعين في معسكر الأفشين مقربًا منه ملحوظ المنزلة، فلم أستطع الصبر على رؤيته وحدَّثتني نفسي أن أبطش به.» قال: «لا تفعل، إننا في موقف يقتضينا جمع الكلمة. فإذا رفعت يدك على سامان أغضبت الأفشين فتوقظ الفتنة في الجيش، فاترك سامان إلى وقت آخر، وامضِ إلى الرابية وراقب الأسوار وامكث هناك ليلًا.» فمضى وردان لشأنه، وما خلا ضرغام إلى نفسه حتى أخذ يفكر في حاله؛ متنقلًا بخياله من جهان إلى أمِّه إلى حماد إلى الأفشين، حتى أخذه النعاس فنام واستيقظ على صوت وردان يناديه، ففتح عينيه فإذا هو في المساء وقد أظلمت الدنيا فظنَّ أن وردان جاء يبشره بلقاء حماد فقال: «هل أتى حماد؟» قال: «كلا.» قال: «وكيف عدت وتركت الراية؟!» قال: «تركتها لأمر لم أستطع كتمانه إلى الغد، ولا بد من أن تعلمه قبل أن تذهب في الصباح إلى المعتصم.» قال: «وما هو؟ قُلْهُ بكلمتين وإلا فدعني أرافقك إلى الرابية أساهرك وتقصُّه عليَّ هناك.» قال: «ليس حديثي طويلًا لكنك إذا صحبتني إلى الرابية كان هذا أجدى.» فنهض ضرغام ولبس ثيابًا لا تميزه عن سواه من الجند وخرج مع وردان، وكانت الرابية واقعة بين معسكر المعتصم وبين معسكر أشناس، فمرَّا بكثير من الفساطيط بين مضيء ومظلم، فقال ضرغام: «أراك تسير بي في غير الطريق المستقيم.» فقال: «أريد أن أريك شيئًا طريفًا. هل تعرف هذا الفسطاط إلى يسارنا؟» قال: «أعرفه، هو فسطاط العباس بن المأمون. ما لنا وله؟» قال: «اكتشفت سرًّا لو عرفه المعتصم لقلب المعسكر رأسًا على عقب!» قال: «ما هو؟» قال: «لما عدت من عندك هذا النهار، مررت من هنا فرأيت الحارث السمرقندي خارجًا من هذا الفسطاط وقد خفَّ العباس لوداعه وبالغ في إكرامه، فقلت في نفسي: «لأمر ما هذا الإكرام؟» وأنا أعلم أن السمرقندي ناقم على المعتصم لأخذه ياقوتة منه، ولِما رآه من تقديمه إياك. ولا يخفى عليك ما في نفس العباس بن المأمون على المعتصم؛ لأنه أخذ الخلافة منه، وكان بعض القواد يريدونها له، ولكنه جبن عن طلبة البيعة فنالها المعتصم. وقد سمعت وأنا في سامرا أن الحارث السمرقندي كان من الساعين في خلع المعتصم ومبايعة العباس، لكنهم تهيبوا الإقدام على هذا الأمر خوفًا من الجند، فلما رأيت الحارث خارجًا من فسطاط العباس اليوم حدثتني نفسي بأمر ذي بال بينهما.» وكان وردان يقصُّ حديثه همسًا حتى وصلا إلى الخيمة المنصوبة على الرابية والليل مظلم، فرأى ضرغام رجلًا نائمًا عند باب الخيمة وله شخير كخوار الثور وشمَّ رائحة الخمر فقال: «من هذا؟ كأني أشم رائحة الخمر!» قال: «هذا ناقل السر إليَّ، وهو من عبيد الحارث عرفته في سامرا فاحتلت في دعوته إليَّ وسقيته خمرًا حتى سكر وقصَّ عليَّ الحديث الغريب الذي سأقصه عليك، فهل تدخل الخيمة أم أتم الحديث خارجها؟ إني والحق يُقال لا أرى لحراسة الراية في هذه الظلمة فائدة؛ لأن الظلام يحول دون رؤيتها على عشر أذرع فكيف من عمورية؟» قال: «صدقت ليس القصد أن يراها حماد من هناك ليلًا، ولكنه قد يراها ساعة الغروب ويحتال في الخروج بعد قليل فلا يراها أو ربما وقع بصره عليها في صباح الغد فيأتي وأنت لا تزال عندها. اقصص علينا ما سمعته من العبد.» فمشى وردان إلى صخرة على بضع أذرع من الرابية وضرغام يتبعه، فجلسا وأخذ يقصُّ عليه فقال: «أخبرني العبد أن سيده الحارث اتفق مع العباس على أن يكون رسوله إلى القواد في هذا المعسكر، وبعضهم تحت قيادة الأفشين وبعضهم من رجال أشناس وآخرون من جند المعتصم؛ ليأخذ البيعة له منهم، فأخذ يدور بالمعسكرات الثلاثة حتى بايعه نفرٌ من القواد وفيهم جماعة من خاصة المعتصم، وقال لكل من بايعه: «إذا أظهرنا من أمرنا فليثب كل منكم على الأمير الذي هو معه ويقتله»؛ فوكَّل من بايعه من خاصة المعتصم أن يثبوا في الأجل المضروب على المعتصم ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة الأفشين أن يثبوا على الأفشين ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة أشناس أن يقتلوه. وهكذا.» وكان ضرغام يسمع كلام وردان مطرقًا يهزُّ رأسه استغرابًا ويقول: «قبَّحهم الله من خونة مارقين.» فقال وردان: «إني أرى العباس أعقلهم جميعًا فقد فهمت من محدثي أنه لم يوافقهم على تنفيذ المكيدة الآن خوفًا من تضييع الفتح، فأحببت أن أطلعك على ما سمعته وأنت ذاهب غدًا إلى الخليفة فتنقله إليه إذا شئت.» قال: «كلا يا وردان. لا ينبغي أن يعلم الخليفة ذلك وإلا فإننا نجرُّ على المسلمين ما نتحاشاه من الفتنة، ولكننا نكتمه إلى حينه، ولا سيما أنهم أجَّلوا تنفيذه. ويكفي أن نسهر على حياة أمير المؤمنين.» فأُعجب وردان بأريحية ضرغام وقال: «بُورك فيك يا بطل. هذا هو الرأي الصواب.» قال ضرغام: «ولكنك أخطأت؛ إذ بقيت العبد هنا فإذا صحا عرف المكان وربما وشى بك، والأحسن ألا يعرفه، فانقله الآن وهو بين السكر والنوم وأنا أمكث هنا حتى تعود.» قال: «أصبت.» ونهض وأخذ في إيقاظ العبد وهو لا يصحوا فجعل يوقفه أو يقوده أو يجرُّه حتى بَعُد به عن فسطاطه واقترب من فسطاط العباس فألقاه هناك ورجع، وكان الليل قد انتصف ونام من في المعسكر. فلما عاد إلى ضرغام قال له هذا: «أنا ذاهب إلى خيمتي فامكث هنا حتى الصباح.» قال: «سمعًا وطاعة.» اتجه ضرغام نحو فسطاطه وهو غارق في تفكيره، وقبل أن يصل إليه سمع لغطًا بينه وبين السور، فالْتفت فرأى جماعة من حراس المعسكر يقودون رجلًا أمسكوا بخناقه وهو يقول: «خذوني إلى الصاحب.» فلما سمع صوته أجفل؛ لأنه صوت حماد، فأسرع إلى فسطاطه ولبث في انتظار وصولهم، وبعد قليل دخل أحدهم وقال: «أخذنا جاسوسًا دخل المعسكر من جهة المدينة وزعم أنه قادم إليك.» قال: «أدخلوه.» فدخل فتبينه فإذا هو حماد بعينه فقال: «دعوه.» فتركوه ورجعوا. فلما خلا إليه حيَّاه ورحَّب به وأجلسه بجانبه وسأله عن جهان فقال: «لا تزال عند البطريق.» قال: «ألم تنقل خبرنا إليها؟» قال: «كلا. لم أستطع الظهور قط، ولما رأيت جندكم بالأمس تطلعت إلى الأعلام فلم أرَ الراية المزدوجة إلا هذا المساء، ولم أستطع الخروج إلا الآن بحيلة شيطانية فتهت عنها، ولما أخذني الحراس طلبت إليهم أن يحملوني إليك كما ترى.» قال: «أهلًا وسهلًا. فجهان لا تزال في قصر ناطس؟» قال: «نعم وهيلانة معها، والرجل شديد الحرص عليهما، ولا تغضب، فإنك ظافر بما تريد عن قريب.» قال: «وكيف ذلك؟ إني أرى الأسوار منيعة وسيطول الحصار على ما أرى.» قال: «سأجعله قصرًا بإذن الله.» قال: «هل تعرف مدخلًا سهلًا؟» فضحك وقال: «نعم، أعرف مدخلًا يسهل الفتح، هل أدلك عليه الآن؟» قال: «إني مبكر غدًا إلى الخليفة، وسأطلعه على ما عندك من أخبار العدو ونجعل ذلك ذريعة لرضائه عنك فيغفر لك ما مضى.» قال: «حسنًا.» فقال ضرغام: «أظنك في حاجة إلى الراحة. هذا فراشٌ نَمْ عليه وأنا أنام هنا ونذهب في الصباح معًا.» وأصبحا في الغد وقصدا إلى فسطاط المعتصم فاستأذن ضرغام عليه فدخل واستبقى حمادًا خارجًا، فرحَّب به الخليفة وقرَّبه ولحظ ضرغام في وجه المعتصم تجهمًا، فتهيَّب وسكت فقال المعتصم: «أتدري لماذا دعوتك يا صاحب؟» قال: «ليس لي علم الغيب يا مولاي.» فتنهَّد المعتصم وقال: «كنت وأنا في سامرا أستأنس بالقاضي أحمد وأطلعه على سري، أما الآن فأراني في حاجة إلى مشاورتك بعد أن خبرت صدق نيتك.» قال: «إني عبدٌ مخلص لمولاي.» قال: «أتذكر أن شكوت إليك ارتيابي في الأفشين؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «كنت أستعظم ما رأيته من جشعه، ولكنني أصبحت الآن لا أعد طمعه شيئًا مذكورًا بجانب ما أراه في هذا المعسكر من الدسائس، هل عرفت شيئًا من ذلك؟» قال: «لم أفهم مراد مولاي.» وقد فهمه لكنه تغابى. قال: «بلغني أن قومًا أجمعوا على نقل البيعة إلى العباس بن المأمون أخي ويريدون قتلي.» قال ذلك وعيناه تقدحان شررًا من الغيظ. فرأى ضرغام من الحكمة أن يخفف عنه فقال: «لا أعرف شيئًا من ذلك وإن كنت لا أستبعده؛ لأن الخلافة ما برحت من عهد الراشدين مطمح أنظار الطامعين، وهبْ أن بعضهم تحدثه نفسه بذلك، فإنه صائر إلى الفشل المحقق، وإنما نحن الآن أحوج إلى جمع كلمتنا لنتمكن من أعدائنا المحدقين بنا. فهل أدلُّ مولاي على ما يُذهِب عنه الغضب؟» فانبسطت أسرَّة المعتصم وقال: «ما وراءك؟» قال: «أتيت أمير المؤمنين برجل خرج إلينا في مساء الأمس من عمورية، وهو يعرف مداخلها ومخارجها. هل أدخله على مولاي؟» قال: «يدخل.» فنهض ضرغام ونادى حمادًا فدخل ووقف وألقى التحية، فلما رآه الخليفة عرفه، فعبس ولكنه أشار إليه بالجلوس، فجلس جاثيًا فنظر المعتصم إلى ضرغام وقال: «كأني أرى حمادًا العربي بين يدي؟» قال: «نعم، هو عبد أمير المؤمنين، وقد يكون سبق منه ذنب فعفو مولانا أوسع.» قال: «ما الذي جاءنا به؟» فقال حماد: «قُضي عليَّ أن أدخل هذه المدينة منذ بضعة أسابيع فعرفت حصونها ومعاقلها، لما رأيت جند أمير المؤمنين بالأمس بذلك جهدي ففررت وأتيت.» قال: «وماذا تستطيعه في خدمتنا؟» قال: «أدلُّ أمير المؤمنين على عورات البلد فيسهل عليه فتحها؛ إن لهذه المدينة سورًا منيعًا، وحدث أن سيلًا جرف جزءًا منه، فكتب الملك إلى عامله ليعيد بناءه فتوانى فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يأتي عمورية ويرى السور خرابًا فبنى وجهه حجرًا وعمل الشرف على جسر من خشب وإذا شاء مولاي دللته عليه من هنا.» فنهض الخليفة وقال: «أرنيه.» فدلَّه على مكانه من بعيد، فلما رآه أثنى عليه وقال: «إذا صدقت فيما تقول فلك الجزاء الحسن.» فقال ضرغام: «أنا أضمن صدقه يا مولاي، فهل يأمر أمير المؤمنين بتعجيل الجزاء.» قال: «نعجله إكرامًا لك، ما جزاؤه؟» قال: «إنه لا يطلب مالًا وإنما تأذن له بجاريتك ياقوتة فيتزوجها.» فقال: «ياقوتة زوجتك؟!» فوجم ضرغام ثم قال: «نعم ياقوتة التي أمر أمير المؤمنين أن تكون زوجة لي فجرؤت على حلم مولاي ولم أتزوجها لعلمي أنها مخطوبة لصديقي هذا، فحفظتها عندي أمانة له، فإذا شاء أمير المؤمنين أن يغمرنا بنعمه عفا عنَّا وأذن أن تكون ياقوتة زوجة لحماد بعد رجوعنا من القتال ظافرين بإذن الله.» فأُعجب الخليفة بأريحية ضرغام وكرم أخلاقه وابتسم له وقال: «قد عفونا عنكما. وأحب أن يكون حماد من خاصتي وسأغدق عليه النعم.» فشكر كلاهما فضله عليهما فقال: «هلمَّ بنا إلى العمل.» وأمر أن يُنقل فسطاطه أمام السور المتخرب ونصب المجانيق عليه فتخرب فجعل الروم بدلها أعوادًا كل عود بجانب الآخر فكان المنجنيق يكسر الخشب فجعلوا عليه البرازخ، فلما ألحَّت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور وألح المعتصم بالحصار وكان حول السور خندق عميق لا يمكن تجاوزه ولولاه لأُخذت المدينة. فأشار ضرغام على الخليفة أن يطمه بجلود الغنم المملوءة ترابًا ففعل، وعمل دبابات كبيرة تسع الواحدة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور فدحرجوا واحدة منها فلما صارت في نصف الخندق تعلَّقت بتلك الجلود فما تخلَّص مَنْ فيها إلا بعد جهد، وعمل سلالم ومنجنيقات. وكان ضرغام يلح على الخليفة أن يأذن للجند بالهجوم يريد سرعة الوصول إلى جهان والخليفة ضنين به. فلم يأذن له ولكنه أمرَ بالحرب، فكان أول من هجم أشناس بأصحابه. وكان المحل ضيقًا فلم يمكنهم من الحرب فيه، فأمدَّهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور فجمع بعضها إلى بعض فوق الثلمة. وفي اليوم الثاني أمر المعتصم أن يهجم الأفشين وأصحابه وأجادوا الحرب. وفي اليوم الثالث هجم هو ورجاله وفيهم المغاربة والأتراك وهجم ضرغام وعمل أعمالًا تعجز عنها الأبطال ووردان إلى جانبه وكان قد علم بأمر حماد. وجعل ضرغام وجهته قصر البطريق. وظلَّت الوقعة إلى الليل واحتدم سعيرها. وكان البطارقة قد اقتسموا أبراج السور فاختصموا وجاء بعضهم في الصباح وألقوا سلاحهم نكاية في الآخرين وساروا أمامهم إلى المدينة، ففشل الروم ودخلها المسلمون دخول الفاتحين وأمعنوا فيها نهبًا وقتلًا وسلبًا. ••• قصد ضرغام إلى قصر البطريق يطلب حبيبته ومعه وردان وحماد، ولم يصل إلى القصر إلا بعد التعب المضني لشدة ازدحام الأسواق بمن دخلها من المسلمين للنهب والسلب والسبي، ولما دخلوا القصر وجدوا أبوابه مفتحة ولم يبقَ فيه شيء من المال أو النساء، فطافوا غرفه يبحثون فيها فلم يقفوا لجهان ولا هيلانة على أثر، فارتاب ضرغام في قول حماد وأدرك هذا ارتيابه فأقسم له على صدق قوله وقال: «يلوح لي أن بعض الجند دخلوا القصر ونهبوه وأخذوا أهله.» فوقف ضرغام ووردان وقد سقط في أيديهما فقال وردان: «نبحث عنهما بين السبايا بعد انتهاء المعركة.» أمر الخليفة بعد أن تمَّ النصر للمسلمين بوقف القتال وجمع الغنائم في ساحة المدينة لتُباع، فأخذ الناس يتزايدون فلا يُنادى على السبي الواحد أكثر من ثلاثة أصوات الْتماسًا للسرعة فكانوا يبيعون الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة لكثرته، والمعتصم يستعجلهم، وأمر بهدم المدينة فهدموها وأحرقوها. أما وردان فإنه طاف بين السبايا أثناء البيع فلم يقف لامرأته ولا لجهان على خبر، فانقبضت نفسه وعزم على الرجوع إلى ضرغام لينظرا في الأمر. فمرَّ في طريقه على معسكر الأفشين فرأى فرس جهان الأدهم في جملة الغنائم وتحقَّق ذلك لما رأى سامان واقفًا إلى جانبه فتميز غيظًا لكرهه سامان وأمسك عن الفتك به إكرامًا لضرغام لعلمه أنه لا يريد ذلك. ثم أسرع إلى ضرغام وأخبره بما رأى فجاء ضرغام فرأى أدهم جهان وكان سامان قد ذهب. وما كاد ضرغام ينظر إلى وجه الأدهم ويرى صورة الأسد في جبهته حتى ثبت لديه أنه جواد جهان وغلب على اعتقاده أن جهان وهيلانة في جملة السبي الذي أخذه الأفشين، وهمَّ بأن يدخل عليه لساعته ليطلب منه جهان وهيلانة ثم تراجع خوفًا من إفساد نظام الجند وهو حريص على جمع كلمته، واعتزم أن يوسط الخليفة لإنقاذ جهان وهيلانة من يد الأفشين. وسأل عن الخليفة فعلم أنه في دار العامة وقد تقاطر القواد والخاصة لتهنئته بالنصر، فمكث حتى خلا المجلس من الناس ومضى معظم النهار فاستأذن فأذن له، فرحَّب به الخليفة وأدناه منه وهشَّ له متلطفًا، فدعا ضرغام له وهنأه. ولحظ الخليفة انقباضًا في وجهه فقال: «كأني أرى الصاحب مغضبًا؟» قال: «لا يغضب العبد بين يدي مولاه ولكنني قلق.» قال: «وما الذي أقلقك يا صاحبي؟» قال: «أقلقني أن الأفشين تعدَّى عليَّ.» قال: «بماذا؟ وعهدي بك حكيم لا تدع مجالًا لاختلاف.» قال: «ليس الخلاف على منصب أو مغنم ولكن ساقت الأقدار فتاة خطبتها إلى عمورية، فوقعت سبية في يد الأفشين وهو يعلم أمرها فأخذها لنفسه.» فاستغرب المعتصم كيف يكون له خطيبة في عمورية فقال: «زدني إيضاحًا.» قال: «يذكر مولاي، زاده الله نصرًا، أنه أكرمني في سامرا بياقوتة وأمرني أن أتزوجها فخالفت أمره ولم أفعل، كما ذكرت له بالأمس، ولم يسألني أمير المؤمنين ساعتئذ عن السبب، وهو أني كنت علقت بفتاة أخرى من فرغانة خطبتها وتعاهدنا على الزواج يوم ندبتني للذهاب إلى فرغانة لجلب الجواري. وتُوفي أبوها أثناء ذلك وأتاني أمر الخليفة أن أرجع فرجعت إلى سامرا وأجَّلت الزواج. وحدثت بعد ذلك أحداث يطول شرحها آلت إلى خطف الفتاة حتى وصلت إلى عمورية. وكانت سجينة في قصر ناطس بطريقها. فلما فتحنا المدينة طلبتها في القصر فلم أجدها. وبعد البحث علمت أنها عند الأفشين، وحدثتني نفسي أن أدخل عليه وأطالبه بها فخفت أن نختصم وتتفرق كلمة الجند ونحن أحوج إلى الاتحاد. فرجعت إلى مولاي أعرض عليه أمري ليرى رأيه.» فأطرق المعتصم لحظة ثم قال: «هذا أمر يسير، فلا أظن الأفشين يمسك عليك خطيبتك، والسبايا كثيرات وقد بِيعت الواحدة بدراهم معدودة.» وصفق فجاء أحد الغلمان فأمره أن يستقدم الأفشين. وبعد قليل جاء الأفشين فدخل وسلَّم فلما رأى ضرغامًا هناك أدرك سبب الدعوة ولكنه تجاهل وسكت، فقال له الخليفة: «دعوتك لأمر يهم الصاحب وأنت تعلم منزلته عندي.» فابتسم الأفشين وقال: «إن الصاحب عزيز عليَّ وهو لا يجهل ذلك.» قال المعتصم: «إن بين السبايا اللائي وقعن في حوزتك فتاة يريدها منك.» قال: «السبايا كثيرات وقد ابتعن بأثمان بخسة، وعندي منهم عشرات فإذا طلب خمسًا أعطيته عشرًا.» فأدرك ضرغام تمويهه فقال: «أعني سبية معينة أنت تعرفها.» قال: «أيهن؟» قال: «أعني جهان بنت المرزبان.» فأظهر دهشته وقال: «وهل هي بين السبايا؟» قال: «أظنها بينهن ومعها امرأة رومية اسمها هيلانة.» فالْتفت إلى الخليفة وقال: «إذا كانت جهان بين السبايا فإني أسأل أمير المؤمنين أن يعفيني من إعطائها.» فقال المعتصم: «الصاحب يقول إنها خطيبته وهو صادق.» قال: «نعم، ولكن هذه الفتاة بمنزلة ابنتي، وقد أقامني أبوها وصيًّا عليها، ولا أظن الصاحب ينكر ذلك.» فنظر المعتصم إلى ضرغام فرآه قد امتقع لونه وبان الغضب في وجهه. ولما شعر ضرغام بأن الخليفة ينظر إليه أمسك نفسه عن الغضب وقال: «سمعت بالوصية ولكن خطبتنا حدثت قبل كتابها.» قال الأفشين: «لو صحَّ ذلك لذكرها صاحب الوصية في وصيته وهو لم يفعل فأنا أعد الفتاة غير مخطوبة ولا يجوز أن تخطبها إلا بأمري تنفيذًا لوصية أبيها.» قال ذلك والْتفت إلى المعتصم كأنه يستشيره فاحتار الخليفة؛ لأنه يحب أن ينال ضرغام طلبه ولا يحب أن يرى شقاقًا في جيشه فقال: «هب أن أبا الفتاة لم يعلم بالخطبة أو لم يعترف بها وأنت ولي أمر الفتاة الآن فنحن نخطبها منك.» فأفحم الأفشين ووقع في مأزق بين أن يغضب الخليفة وبين ذهاب جهان من يده، فأطرق لحظة ثم قال: «إن أمر مولاي نافذ لا مرد له. وليكن بعد رجوعنا إلى سامرا إن شاء الله.» فالْتفت المعتصم إلى ضرغام ولسان حاله يقول: «هذا هو الرأي الصواب.» فعلم ضرغام أن الأفشين يماطل. وأنه ينوي ما يقول فقال محتدًّا: «إذا كان الأفشين قَبِل طلب أمير المؤمنين فليعقد الخطبة هنا.» فابتسم الأفشين وأذعن وقال: «إذا أمر أمير المؤمنين فلا اعتراض. ولكني لا أدري أين السبايا الآن وأظنهن حُملن إلى سامرا.» ففرح ضرغام لاعتقاده بأن جهان في المعسكر بعد أن رأى جوادها فيه. فقال: «إذا لم تكن الفتاة هنا أجَّلنا الخطبة إلى يوم عقدها في سامرا، فليأمر أمير المؤمنين بأن يأتوا بها إليه.» فنادى الغلامَ وأمره أن يذهب إلى معسكر الأفشين ويأتي بالفتاة السبية جهان. فاستمهله ضرغام وقال: «إن اسمها جلنار فهي معروفة بذلك في هذه الديار.» خرج الغلام ومكث ضرغام كأنه على نار وقد هاجت شجونه وخفق قلبه تطلعًا لرؤية حبيبته بعد الفراق الطويل، وتخيَّل كم تكون دهشتها لما يقع نظرها عليه بغتة وهي تحسبه في عالم الأموات. وقضى في ذلك دقائق حسبها ساعات حتى عاد الرسول وقال: «إن السبايا أُرسلن إلى سامرا هذا الصباح.» فوقع الخبر وقوع الصاعقة على رأس ضرغام، فسكت وقد عزم في سرِّه أن يكلف وردان بتدقيق البحث عن جهان فإذا كانت لا تزال في المعسكر أخذها عنوة. فلما أذن المعتصم لهما بالانصراف، ذهب توًّا إلى فسطاطه ليرى وردان فلم يجده فسأل العبيد عنه فقالوا إنهم لم يروه منذ الصباح ولا يعرفون مكانه. فخرج للبحث عنه في فسطاطه فلم يجده ولم يجد حمادًا، وكان يتوقع أن يراهما معًا، فقلق وهو في أشد الحاجة إلى وردان. فخرج بنفسه لتفقد جواد جهان حيثما كان في الصباح فلم يجده فأيقن أن الأفشين صدق وأنه لا يجرؤ على الكذب على الخليفة، فرجع إلى فسطاطه وكظم ما في نفسه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/21/
محاكمة الأفشين
كان الأفشين قد أمر بإخراج السبايا من المعسكر في صباح ذلك اليوم، وقد حسَّن له ذلك سامان، وهو الذي دلَّه على مقرِّ جهان في قصر البطريق وأشار عليه بسبيها، وكان يتتبع خطاها منذ كان في البذ فعرف بخروجها إلى بلاد الروم ونزولها عمورية، وكان يفعل ذلك طمعًا بما وعده به الأفشين من أمر الوصية. فلما فُتحت عمورية ذهب إلى أخته وأظهر لها أنه جاء لنجدتها وأن الأفشين جرَّد هذه الحملة لإنقاذها وأخذ يحسن لها الرضاء به وهي لا تجيبه فحملها رجال الأفشين إلى معسكره على فرسها قبل وصول ضرغام إلى القصر ومعها هيلانة، وكانت تعزية كبيرة لها وقد تحابتا وتآلفتا وكل منهما تحسب نفسها شريدة لا نصير لها. فلما صارتا في معسكر الأفشين شقَّ على جهان أسرها وحدَّثتها نفسها أن تطلب مقابلة المعتصم وتستجير به من الأفشين، فأتاها أخوها وحبَّب إليها السكوت، وذكر لها أنه سيأخذها إلى سامرا فتكون هناك كما تشاء. فلما ذكر سامرا تذكرت ضرغامًا وفي نفسها بقية أمل بوجوده أو معرفة حقيقة حاله من أمه إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فوافقته واشترطت أن تكون هيلانة معها فقبل. وكان غرض سامان أن يفرَّ بجهان قبل أن يعلم بها ضرغام، فلما رأى وردان في الصباح يبحث عنها أسرع إلى الأفشين وأشار عليه بأن يسرع بإرسالهما رأسًا إلى أشروسنة للاحتفاظ بهما هناك ففعل، ثم أسرع سامان وأعدَّ الأحمال وحامية تحرسهم في الطريق ورحل خلسة. ولما جاء رسول الخليفة بطلب جهان كان قد مضى على خروجهم بضع ساعات وهم على ظهور الخيل. أما ضرغام فأصبح لا يدري ما يفعل وقد أدهشه غياب وردان وحماد، وخاف أن يكونا قد أُصيبا بسوء، وظنَّ أن الأفشين أوقعهما في تهلكة. وبقي الجند في عمورية عدة أيام قضوا بعضها في بيع الغنائم والأسرى، وكانت كثيرة، ربح تجار اليهود منها ربحًا جزيلًا. وقضوا أيامًا بعد ذلك في هدم المدينة وإحراقها، وقتلوا من أهلها جمعًا كبيرًا وسلَّم ناطس نفسه. فلما فرغوا من ذلك أمر المعتصم بالرجوع إلى سامرا، وضرغام في قلق لا مزيد عليه، ورجع مع الراجعين وهو يرجو أن يرى طلبته في سامرا. واتفق له أثناء الرجوع أنه رأى في عرض الأفق فرسانًا لم يقع نظره على خيولهم حتى اختلج قلبه؛ لأنه رأى بينها جوادًا عرف أنه جواد وردان، فهمز جواده لملاقاة الركب ولما اقترب منهم عرف اثنين هما وردان وحماد فصاح: «وردان؟» فقال: «لبيك يا مولاي.» وفي صوته رنة السرور والظفر. فقال: «أين كنتما فقد قلقت عليكما؟» قال وردان: «كنا في سامرا.» قال: «لماذا؟» قال وهو يضحك: «أوصلنا العروسين إليها ورجعنا.» قال ضرغام «أي عروسين؟» قال: «جهان وهيلانة.» قال: «كيف ذلك؟! قُلْ، قل حالًا.» قال: «رأيتك تصانع الأفشين ولا تخاطبه إلا على يد الخليفة، ورأيته يخادعك ويبغي الفرار بهما إلى حيث لا تعلم. والعمر لا يتسع للتفتيش عليهما مرة ثانية. فخطر لي أن أعمد إلى القوة على غير علمك لئلا تشير عليَّ بأن أتجنب أسباب الشقاق. وكنت قد علمت أن الأفشين يحاول الفرار بهما وقد أمر سامان بذلك، فاتفقت مع حماد على أن نأخذهما بالقوة ونأخذه معهما، وقد فعلنا وأصلنا العروسين إلى بيت الصاحب في سامرا، وزججنا سامان في السجن حتى نعود.» ففرح ضرغام في قلبه ولكنه قال: «ألم يكن الأولى أن نبقي على عهد الأفشين، فقد وعدني بين يدي الخليفة أن يعقد لي على جهان حالما نرجع إلى سامرا.» قال: «وهل صدَّقت أنه ينوي إرسالها إلى سامرا؟» فالْتفت إلى حماد وقال: «وأنت أيها الصديق أرجو أن تكون قد سعدت برؤية ياقوتة، ولكن لماذا رجعت؟» قال: «رجعت لأكون في معيتك وأتمَّ خدمتي لك.» وكانت الحملة سائرة فرقًا وضرغام في فرقة المعتصم ليكون قريبًا منه. ولما أمسى المساء حُطَّت الأحمال ونزل الناس للراحة والرقاد. وقصَّ وردان على ضرغام حديث مكايد جديدة يكيدها القوم للمعتصم من قبيل ما كان أطلعه عليه وأن حياة الخليفة في خطر ولا بد من إبلاغ الخليفة الأمر. فقال حماد: «أنا أنقل الخبر إلى الخليفة وإنما أطلب من ضرغام أن يدخلني عليه في خلوة.» قال: «قم بنا الآن.» وكان الوقت عشاء، فلما وصلا إلى فسطاط الخليفة استأذن ضرغام في خلوة فأذن له، فدخل ومعه حماد فقال الخليفة: «ما وراءك يا صاحب؟» قال: «عند صديقي حماد عبد أمير المؤمنين مخبآت مهمة. إذا أذن له كشفها.» قال: «قل واحذر الانحراف عن الصواب.» فقصَّ عليه تواطؤ القواد على قتلة ومبايعة العباس، وسمِّى المتآمرين، وفيهم الشاه ابن إسماعيل الخراساني، والحارث السمرقندي، وعجيف بن عبسه، وغيرهم، فاهتمَّ المعتصم بالأمر واستقدم المتهمين واستجوبهم فاعترفوا، فقتلهم على أساليب مختلفة لا محل لذكرها. واحتفظ بالعباس حتى وصلوا إلى سامرا فساء اللعين وأخذ أولاد المأمون فحبسهم في داره حتى ماتوا، وعدَّ المعتصم هذه الخدمة جميلًا لضرغام وحماد معًا وأنعم عليهما. أما الأفشين فبلغه من بعض رجاله ما صنعه وردان وحماد. فصبر حتى وصل سامرا فيشكوهما ويشكو ضرغامًا إلى الخليفة. ولما دنت الحملة من سامرا أخذ قلب ضرغام في الخفقان لعلمه أنه سيلقى جهان بعد طول فراق. ••• كانت جهان بعد أن خطفها وردان وحماد قد عادت إليها آمالها. وكانت لما رأتهما هاجمين بمن معهما من الرجال لاختطافهما قد استعاذت بالله من توالي الإحن عليها وأرادت الدفاع، ثم سمعت صوت وردان وسمعته أيضًا هيلانة زوجته فانحازتا إليه، ولا تسل عن حال هيلانة لما سمعت صوت زوجها وهي تحسبه بين الأموات؛ فترامت عليه وتبادلا آيات الشوق والحب. فأمر الذين معه بالقبض على سامان قبل أن يفرَّ، فقبضوا عليه وشدوا وثاقه، وتقدَّم وردان إلى جهان فلما رأته قالت: «وردان؟» قال: «نعم يا سيدتي أبشري بالسلامة واللقاء.» فصاحت: «اللقاء … ضرغام … ضرغام … أين هو؟!» قال: «في سلامة وخير، وسيأتي بعد أيام قليلة. وأنا ذاهب بك إلى منزله في سامرا تمكثين مع أمه حتى يصل.» فظنَّت نفسها في حلم وتفرست ثانية في وردان وقالت: «وردان. أضرغام حيٌّ؟» وتذكرت أن سامان أول من أنبأها بموته فالْتفتت إليه وقد شُدَّ وثاقه إلى ظهر الفرس فرأته ينظر إليها بذلة واستعطاف إذ سمع ما دار بينها وبين وردان، فحوَّلت وجهها عنه ورأت صديقتها هيلانة ملتصقة بوردان يكادان أن يطيرا فرحًا فقالت لها: «هل تعرفين وردان قبل الآن؟» فقالت هيلانة: «هذا زوجي يا مولاتي!» قالت: «زوجك البطريق الذي قصصت عليَّ خبره؟!» قالت: «نعم، هو هو … الحمد لله على لقائه، ولك الهناء ببلوغك مقرِّ خطيبك.» وسألت جهان: «أين ضرغام؟» فقال وردان: «إنه في عمورية وإنهم سينتظرونه في سامرا.» ومشوا نحو سامرا وكلٌّ فرحٌ بما لديه. وقضوا مسافة الطريق يتحدثون بما مرَّ بهم من الغرائب. وقصَّ وردان على جهان ما حظي به ضرغام عند المعتصم وكيف سمَّاه الصاحب وأسباب ذلك، وأخبرها خبر حماد وخطيبته ياقوتة وما بينهما من الشبه العجيب. ولما وصلوا إلى سامرا بعث وردان بسامان إلى صاحب السجن، وقال له: «إن الصاحب يأمر بسجن هذا الجاسوس.» وبعث كذلك إلى آفتاب ينبئها بقدوم جهان فكان لالتقائهما دهشة يندر مثلها، وآفتاب لا تمل لمس جهان وضمها وتقبيلها. أما ياقوتة فكان فرحها بحماد عظيمًا، وكانت عالمة ببقائه حيًّا ولكنها دُهشت لما رأت جهان فظنت أنها ترى نفسها بمرآة لشدة المشابهة بينهما ولم تكن جهان أقل اندهاشًا منها. فلما أتمَّ وردان مهمته عزم على الرجوع إلى عمورية فرجع حماد معه. ومكث أهل الجوسق على مثل الجمر في انتظار ضرغام. وبعد بضعة عشر يومًا جاءت البشائر برجوع المعتصم وجنده ظافرًا، فزُيِّنت سامرا واصطفت المواكب والجنود ورُفعت الأعلام وضُربت الطبول وضجت المدينة فرحًا، وخرج النساء والرجال للفرجة، واشتغل الناس بهذا الاحتفال عن كل شيء. أما جهان فإنها لم تكن تسمع صوتًا ولا ترى شبحًا وإنما كانت عيناها شائعتين نحو باب الجوسق لعلها تشاهد ضرغامًا داخلًا في موكب الخليفة فلما دخل الخليفة لم ترَ أحدًا. وفيما هي في لهفتها سمعت سعالًا في الدار فارتعدت فرائصها؛ لأنه كان سعال ضرغام، فأرادت أن تجري للقائه فلم تسعفها قدماه واحمرَّ وجهها ثم علاه الاصفرار ولكنها تجلدت وتمالكت واستعادت رباطة جأشها ومشت. وكان ضرغام قد دخل الغرفة فرأى جهان تمشي مشية الجلال والوقار وعيناها تتكلمان كأنهما خطيب على منبر يدعو الناس إلى التعبد أو إلى التفاني في الحب. فانحنى مسلمًا وبوده أن يكون سلامه معانقة لولا العادة التي تحول دونه. ثم وقف ومدَّ يده إليها فمدت يدها وابتسما ابتسامة أغنت عن حديث طويل ثم قال: «مرحبًا بعروس فرغانة. لقد أطلْتِ علينا الغياب وطال بنا الطريق، مع أن طريق المحبين قصير على ما يقولون!» فضحكت وقالت: «طال الطريق لوعورته وكثرة عقباته. ولكن ماء السكر كلما زدته غليانًا زادك حلاوة.» قال: «لكني خشيت أن يجفَّ ماؤه فيحترق.» قالت: «أوشك أن يحترق لو لم أرطبه بدموعي!» قال ذلك وأبرقت عيناها وتلألأت فيهما دمعتان ونظرت إليه نظرة وقعت كالسهم في قلبه فقال لها وقد أخذ الهيام منه مأخذًا عظيمًا: «أبمثل هذه الدموع كنت تنفين الاحتراق؟» قالت: «نعم، ولكن شتان بين دموع الفرح، وأشكر الله على كل حال.» وكانت يدها لا تزال في يده، فضغط عليها وقادها إلى مقعدها هناك وهو يحدق في عينيها ويقول: «أراك تشكرين الله وعهدي بك تشكرين أورمزد، فمتى حدث التغيير؟» فقالت وهي تمشي معه حتى جلسا متحاذيين وقد نسيا الوجود: «حدث يوم تبدلت حالي وشغل فؤادي فأصبحت لا أملك شعوري ولا أرى هذا الوجود إلا كما يشاء ضرغام. ولا آسف إلا على زمن غلب فيه اليأس على قلبي، يوم بعثت أخي سامان وغيره للبحث عن ضرغام في سامرا فعادوا وقالوا: «غير موجود»، وزاد بعضهم أنه ليس على الأرض. تبًّا لتلك الساعة كم أحدثت وكم غيَّرت. ولكني نسيت كل ذلك الآن، لا أعلم إلا أني أسعد اليوم مما كنت بقربك في فرغانة. كنت يومئذ سعيدة عن جهل لأني لم أجرب الشقاء، وكنت أتلذذ بقربك مندفعة بتيار الحب وأنا لا أعرف اللقاء، وأما اليوم فقد عرفت أن السعادة يزيد مقدارها كلما زاد الشقاء في سبيل الحصول عليها. لو عرفت ذلك يوم اجتماعنا في فرغانة لفضلَّت أن أجاهد في سبيل حبك قبل الوصول إلى قربك.» قالت ذلك وقد غلب عليها الهيام ونسيت رباطة جأشها وكبر نفسها وهو ينظر إليها شغل بمعاني وجهها وسحر عينيها عن تفهم كلامها، ففرغت من حديثها وهو لا يزال يرنو إليها كأنها لا تزال تخاطبه. ثم انتبه لنفسه وخجل من سهوه ونسي ما كانا فيه فقال: «كم أحب أن أسمع ما قاسيته أثناء هذه الغيبة وقد سمعت بعضه ولكني ألتذ أن أسمعه من فيك. ولا ريب عندي أنك تحبين الاطلاع على خبري والحديثان طويلان سنتبادلهما في فرصة أخرى. ولو بقيتُ بجانبك الدهر كله لا أرتوي من النظر إليك يا جنتي وحياتي، وصدقت، إن الحب تزداد لذته كلما زاد التعب في سبيله، ولم أكن أحسب حبنا يقبل الزيادة وحاشا أن يقبلها، ولكنه يزداد بالتعب حلاوة وصفاء.» فوقفت وهي تقول: «صدقت، إن تلذذنا باللقاء لا نهاية له، فينبغي أن ننظر إلى الآخرين. هل رأيت أمك؟» قال: «لم أرها بعد.» قالت: «هنيئًا لك هذه الأم الحنون، وكم هي في شوق إلى لمسك وشمك.» وخرجت معه إلى الدار وفيها أمه فشعرت بها، فقبَّل ضرغام يدها وهمَّت هي به ضمًّا وتقبيلًا. وكانت ياقوتة واقفة هناك فقالت جهان لضرغام: «ألم تكن تستأنس برؤية ياقوتة أثناء غيابي؟» قال: «ربما استأنست حينًا وغصصت بريقي أحيانًا، وإن هذا الشبه بينكما دلَّني عليك، وسأقص عليك خبره.» قضوا في أمثال هذه الأحاديث ساعات. وأُعِدَّ الطعام فجلسوا إليه فقالت آفتاب لابنها: «قد آن يا ضرغام أن تعقد قرانك.» فقالت: «صدقت يا أماه، غدًا إن شاء الله.» وفيما هم في ذلك جاء أحد غلمان القصر يدعو ضرغامًا إلى مقابلة الخليفة، فلبس قلنسوته وسواده وخرج، فلما دنا من دار العامة رأى بالباب جماعة من الغلمان الأشروسنية فعلم أن الأفشين هناك، ثم دخل فرأى الخليفة جالسًا على سريره في صدر الإيوان والأفشين على كرسي بين يديه، ورأى وردان وحمادًا واقفين بجانب القاعة. فسلَّم، فأشار إليه المعتصم بأن يجلس فتباطأ وقال: «يأذن لي أمير المؤمنين بكلمة قبل أن أجلس؟» قال: «قل.» قال وهو يشير إلى وردان: «أقدِّم لأمير المؤمنين البطريق وردان أحد كبار بطارقة أرمينيا، وقد أبلى في جيشنا بلاءً حسنًا في البذ وعمورية.» فاستغرب المعتصم والأفشين كلامه وقال الخليفة: «أليس هذا خادمك وردان؟» قال: «كنت أظنه خادمًا وأنا لا أعرف أصله، فلما بلوته عرفت فيه الرجل الكريم، وقد كانت له عندي أيادٍ بيضاء عادت بالنفع على جند المسلمين، فإذا أمر أمير المؤمنين بجلوسه فعل وهو صاحب الأمر.» فقال: «ولكنه في مجلس القضاء وقد دعوتك لتؤدي الشهادة.» قال: «أفعل ذلك طوعًا لأمير المؤمنين.» وجلس وأصغى. فقال المعتصم: «يقول قائد جندنا الأفشين إن وردان وحمادًا اعتديا على رجاله واختطفا منهم امرأتين من سبيه بعد أن كنا قد أرجأنا النظر في ذلك حتى رجوعنا إلى سامرا.» قال ضرغام: «نعم فعلا يا أمير المؤمنين، وإذا رأى مولاي في هذا ذنبًا فأنا صاحبه؛ لأنهما فعلاه لأجلي وعليَّ تبعته، ومهما يكن من أمر فإن حماد هذا (وأشار إليه) قد شمله عفو أمير المؤمنين وقد جاء سامرا لينال ما وعده به مولانا فلا يؤخذ بجريرة سواه.» فحكَّ المعتصم جبينه كأنه يسترجع إلى ذهنه شيئًا نسيه وقال: «صدقت، إن حمادًا ذو فضل وسابقة وسنوليه ما هو أهل له فيخرج الآن إذا شاء.» فسلَّم حماد وخرج، وبقي وردان وضرغام والأفشين، فقال الخليفة: «إنك قلت عن وردان ما هو أهله، ولكنه خالف أمرًا أصدرناه بشأن السبيتين، فقد قلنا ونحن في عمورية أن يُترك أمرهما حتى رجوعنا إلى سامرا، فكان ينبغي أن يراعي هذا الأمر. فليؤتَ بالسبيتين الآن إلى هنا.» فقال ضرغام: «إن السبيتين هما خطيبتي وزوجته (وأشار إلى وردان). أما خطيبتي فقد سبق أمر الخليفة أن تكون زوجتي وهي في منزلي، وأما امرأة البطريق فهي عندي أيضًا ولا أظن الأفشين يهمه أمرهما.» فقال الأفشين وقد بدا الغضب في عينيه: «يهمني أولًا أن يُراعَى أمر أمير المؤمنين في الاثنتين. وأما جهان التي تقول إنها خطيبتك فلها شأن خاص؛ لأني ولي أمرها بوصية أبيها.» فعند ذلك تقدم وردان واستأذن في الكلام. ووجَّه خطابه إلى الخليفة وقال: «هل ثبت لأمير المؤمنين أنه وصي؟» فانتبه المعتصم لهذا الاعتراض والْتفت إلى الأفشين وقال: «أين كتاب الوصية؟» فقال الأفشين: «هو عندي، وهل أنا كاذب؟» فقال المعتصم: «الشرع يقضي بالاطلاع عليه قبل إصدار الحكم، وهل يهمك كتمانه؟» فظهرت الحيرة في وجه الأفشين فعمد إلى المغالطة، وتغاضب وقال: «إذا كان الأفشين الملك والقائد يكذب في مثل هذا ويصدق العلج فعلى الدنيا السلام!» فقال وردان «إني لا أنكر وصايته، ولكنني أرى أن يطلع عليها أمير المؤمنين على نصها ليعرف من هو صاحب أشروسنة.» فاستشاط الأفشين غضبًا وكأنه نسي موقفه فقال: «إن الأفشين قائد جند المسلمين لا يُخاطب بمثل هذا الكلام في حضرة أمير المؤمنين، وهبْ أن الوصية ضاعت أو سُرقت أو احترقت فهل يؤخذ ضياعها حجة عليَّ فأُعد كاذبًا؟! والرجل يقول إنه لا ينكر الوصاية فما الفائدة من نَصِّها؟» فقال وردان: «لا تغضب أيها القائد، إننا في موقف القضاء بحضرة أمير المؤمنين، والقضاء يطلب إليك أن تتلو نصَّ الوصية.» فازداد الأفشين غيظًا وقال: «قد ضاعت الوصية ولا أذكر نصها.» قال وردان: «أنا أذكره، هل أتلو بعضها على مسامع أمير المؤمنين؟» قال المعتصم: «اتلُ ما شئت.» فقال: «يكفي أمير المؤمنين أن الوصية مصدرة باسم أورمزد معبود المجوس من دون الله، تعالى، وقد شهد فيها الموبذ كاهن المجوس بدل القاضي الشرعي، أليس كذلك يا قائد جند المسلمين؟» فهاج غضب الأفشين وأدرك أن الرجل ينوي إذلاله وفضح أمره، وقدم على ما فرط من تعنته ولكنه تجلَّد وقال: «وأين هو وجه الطعن فيها؟ إن الموصي مجوسي فكتبها على ما يقتضيه دينه وعادات بلاده. كأنك تريد بذلك اتهامي بالمجوسية. إنها لوقاحة كبرى!» فوجَّه وردان كلامه إلى المعتصم وقال: «هل يأذن أمير المؤمنين أن أقول ما أعرفه؟» قال: «إنك في موقف الدفاع عن نفسه، قل ما بدا لك.» فقال للأفشين: «لا أتهمك بالمجوسية اتهامًا. ولكنني أقول إنك مجوسي تسجد لأورمزد حتى الآن. وأقول فوق ذلك إنك تتظاهر بالدفاع عن الإسلام وأنت إنما تفعل ذلك طمعًا في المال. ولو استطعتَ سحق دولة المسلمين لسحقتها، وهذا بيت النار في فرغانة شاهد على ذلك.» فلما قال وردان ذلك رأى الخليفة التهمة أوسع من أن يقضي فيها في تلك الجلسة فأحبَّ إرجاء نظرها فقال: «إن هذه التهمة خارجة عن موضوع هذا المجلس فإنما نبحث الآن في اختطاف السبيتين.» فقال ضرغام: «قلت لأمير المؤمنين إن الذنب في ذلك ذنبي أنا؛ لأن إحداهما خطيبتي وهي في منزلى الآن.» فقطع الخليفة كلامه وقال: «نحن لا نعترض على زواجك بها وإنما نؤاخذ وردان على اختطافها.» فقال وردان: «إنما اختطفتها لعلمي أن مولانا الأفشين أمر بإرسالها إلى بلده أشروسنة لتُضاف إلى خزائن الأموال التي يرسلها إلى هناك كل سنة من أموال المسلمين ليستعين بها على إسقاط دولتهم عند الحاجة!» فنظر المعتصم إلى الأفشين فرأى لحيته ترقص في صدره، ولو جسَّ يده لرآها باردة كالثلج ترتعش فقال له: «إن هذه التهم كبيرة. وأراك لا تدفعها.» فقال الأفشين: «كلها مفتريات كاذبة. وموعدنا غدًا فيظهر الحق من الباطل.» فقال وردان: «لا بأس من التأجيل إلى الغد أو بعده، ولكن من يضمن لمجلس القضاء أن المتهم يبقى في سامرا إلى الغد؟» فقال المعتصم: «يبقى هنا في الجوسق.» وأشار على صاحب حرسه أن يأخذ سلاح الأفشين وسواده، ويتولى حراسته. فنهض الأفشين وقد سقط في يده ولكنه ما زال يكابر ويغالط ويمشي مرحًا وهو يتوعد ويتهدد. وبعد خروج الأفشين أشار المعتصم فخرج وردان واستبقى الصاحب، فلما خلا إليه، تنهَّد وقال: «تبًّا لهؤلاء المجوس، إنهم يشاركوننا في ملكنا ويخدعوننا في أمرنا. ولكن الله أعاننا على الانتفاع بسيوفهم وردِّ كيدهم في نحورهم. ماذا رأيت يا صاحب؟» قال: «إن أمير المؤمنين يعرف ما انطوى عليه هؤلاء القوم، وكم شكا منهم ومن مكرِهم السيئ.» قال: «إن ما أشار إليه صاحبك وردان لم يخفَ علينا، فإن كتب عاملنا في خراسان كانت تأتينا وفيها الشكوى من كثرة الأموال التي يرسلها الأفشين إلى بلده ونحن صابرون. وقد رُفعت إلينا الكتب من كثيرين يتهمونه بالمجوسية وعبادة الأصنام وبالتواطؤ مع المازيار صاحب طبرستان وبابك على حربنا. وقد علم بذلك القاضي أحمد ووزيرنا محمد بن عبد الملك الزيات وغيرهما. وقد بعثنا نستقدم المازيار صاحب طبرستان الذي تواطأ معه على الغدر بنا. والمرزبان أحد ملوك السعد، وموبذًا مجوسيًّا، واثنين من المسلمين كان الأفشين قد عذَّبهما لأنهما بنيا مسجدًا في أشروسنة. وسأعقد مجلسًا يحضره هؤلاء نفتضح به ما استتر ونجزي كل فاعل بما فعل. أما أنت فلك عروسك تهنأ بها. ولا بأس على وردان فهو حرٌّ، وسنجعله من خاصتنا. وعلى الباغي تدور الدوائر.» فدعا له وخرج. عقد المعتصم في اليوم التالي مجلسًا حضره كلٌّ من القاضي أحمد بن دؤاد، والوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وغيرهما من الأعيان. ودعا الصاحب ووردان فحضرا. ثم أمر بالأفشين فأُخرج من محبسه وجيء به إلى المجلس، وتولَّى ابن الزيات اتهامه بعد أن أحضر الشهود المشار إليهم. فجيء أولًا بالرجلين المضرورين، وكُشف عن ظهريهما وهما عاريان من اللحم وقال للأفشين: «أتعرف هذين؟» قال: «نعم هذا مؤذِّنٌ وهذا إمامٌ بنيا مسجدًا بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط؛ لأن بيني وبين ملك السعد عهدًا بأن أترك كل قوم على دينهم. فوثب هذان على بيت نارٍ في أشروسنة كان فيه أصنام فأخرجاها وجعلا مكانها مسجدًا فضربتهما.» قال ابن الزيات: «ما كتاب عندك حليته بالذهب والجوهر وفيه الكفر؟» قال: «هو كتابٌ ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم وكفرهم، فكنت آخذ الأدب وأترك الكفر، ووجدته مُحَلَّى فأبقيته، وما أظن هذا يُخرج من الإسلام.» ثم تقدَّم الموبذ وقال وهو يشير إلى الأفشين: «إن هذا يأكل لحم المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنها أرطب من المذبوحة. وقال لي يومًا: «قد دخلت لهؤلاء القوم — المسلمين — في كل شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل غير أني إلى هذه الغاية لم أختتن».» فاعترض الأفشين على كلام الموبذ بأنه غير ثقة. فردَّ ابن الزيات عليه. ثم تقدم ابن الزيات وقال مخاطبًا الأفشين: «كيف يكتب أهل بلدك إليه؟» قال: «لا أقول.» قال: «ألا يكتبون إليك بلغتهم ما معناه إنك إله الآلهة؟» قال: «بلى.» فقال ابن الزيات: «إن المسلمين لا يطيقون هذا فما أبقيت لفرعون؟» قال: «هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي أيضًا قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد طاعتهم.» ثم تقدم المازيار: فقال ابن الزيات للأفشين: «هل كاتبت هذا؟» قال: «لا.» قال المازيار: «كتب أخوه لأخي باسمه أنه لم ينصر هذا الدين غير بابك، ولكن بابك قتل نفسه، وجهدت أن أصرف عنه الموت فأبى إلا أن أوقعه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة فإن وُجِّهت إليك لم يبقَ أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب أطرح له كسرة وأضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك ما هي إلا ساعة حتى تنفذ سهامهم ثم تجول الخيول عليهم فتأتي على آخرهم ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.» فقال الأفشين: «إنه يدعي أن أخي كتب إلى أخيه. فما ذنبي أنا؟» فتقدَّم وردان عند ذلك وقال: «تزعم أن أخاك كتب ولا تبعة عليك، فما قولك فيمن رآك رأي العين في بيت النار بفرغانة ومعك المازيار هذا ونائب عن بابك. وقد تواطأتم على محقِ دولة المسلمين وتعهَّدتَ أن تجمع المال الكافي لذلك العمل.» فأعرض الأفشين بوجهه عنه وقال: «هذا خصم يكذب تأييدًا لخصومته.» قال: «وإن أتيتك بالموبذ نفسه الذي شهد على كتاب الوصية وسمعته يقول مثل قولي؟» فقال المعتصم: «سنرسل في طلبه.» فقال وردان: «وإذا بعث أمير المؤمنين الآن من يدخل بيت الأفشين في سامرا وجد أحد التماثيل المجوسية.» فقال ابن الزيات: «قد أتينا بها بالأمس.» وأمر غلامًا أحضرها وإذا هي تمثال من خشب عليه حلية كثيرة الجوهر وفي أذنه حجران مشبكان عليها ذهب وأصنام أخرى وكتاب من كتب المجوس وغيره. فارتجَّ على الأفشين وسكت، فأمر المعتصم بإرجاعه إلى الحبس وأن يُقطع عنه الطعام والشراب فقطعوهما حتى مات سنة ٢٢٦ﻫ. وخلا ضرغام بالمعتصم بعد أيام وقصَّ عليه حقيقة وصاية الأفشين على جهان فأمر بإلغائها وردَّ المال إلى صاحبته. وبعث إلى فرغانة فأمر بهدم بيت النار كارشان شاه، وأمر أن يكون حماد ووردان من خاصته وأن يقيما في قصرين داخل الجوسق مثل ضرغام، وأمر بعقد كتاب ضرغام على جهان، وأعطاهم عطاءات شتى.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/36379464/
عـروس فرغانة
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «عروس فرغانة» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على وصف وقائع تاريخية مرت بها الدولة العباسية وعاصمتها «السامراء» في عهد الخليفة المعتصم، كما تصور الرواية طمع الفرس ومحاولاتهم لإرجاع دولتهم، ونهوض الروم واستعدادهم من أجل غزو واكتساح المملكة الإسلامية.
https://www.hindawi.org/books/36379464/22/
نسب ضرغام
بقي سامان في السجن لا يكترث له أحد إلا وردان، فقد كان يتردد عليه من حين إلى آخر ويسأله عن حاله تهكمًا وتشفيًا. وكان ضرغام في شاغل عنه حتى إذا فرغوا من أمر الأفشين أحبَّ أن يطلق سراح سامان كرمًا وفضلًا فقال وردان: «إذا أطلقته فكأنك سجنتني مكانه، ويهمني أن أسأله عن أشياء وأسمع جوابه عنها؛ لأني رأيت منه أمورًا لا تصدر عن البشر.» فقال: «نسأل جهان عن رأيها في ذلك.» قال: «افعل.» فذهب إلى جهان وسألها فقالت: «لا أدري. وليتك لم تسألني عنه؛ لأني أحب أن أنساه.» قال: «هو في السجن الآن فما الذي تريدين أن نفعل به؟» فأطرقت حينًا ثم قالت: «أحبُّ أن تطلق سراحه. ولكنني في شوق إلى سرٍّ لا يزال مكتومًا عني. أريد أن أعرف سبب غضب أبي عليه.» فتذكر سرًّا آخر قد طال اشتياقه إلى معرفته وهو حقيقةُ نسبِه، فعزم أن يسأل أمه عنه بعد الفراغ من سرِّ سامان. وأمر باستقدام سامان من السجن إلى منزله في جلسة كان فيها هو وأمه وجهان وياقوتة وحماد ووردان وهيلانة. ودخل سامان دخول غريب تنبحه الكلاب، ووقف وقوف مجرم يخاف العقاب، وقد شُوِّهت خِلقته كأنما طُبعت على صحيفتها نقائصه. وكان رثَّ السربال زاده الهزال ذلًّا، حتى إذا توسط الدار وقف محني العنق يجول ببصره في الجالسين فلما رأى ياقوتة دُهش وأخذته البغتة. فالْتفت إلى جهان وأجهش فسبقته إلى البكاء وقد عزَّ عليها أن تراه واقفًا هذا الموقف رغم ما ارتكبه معها من السيئات. ولم يبقَ أحد من الحاضرين إلا رقَّ له، إلا وردان فإنه لم يأخذه به شفقة وكان هو أول المتكلمين فقال: «لا تخف يا سامان لم نَدْعُكْ لنحاكمك على جريمة من جرائمك فإنها لا تفتقر إلى محاكمة ولا نعرف عقابًا يفي بها، ولكنني رأيت في سيرتك ما أدهشني من تقلبك في الإيذاء؛ فبينما أنت ناقم على الأفشين لأنه حرمك من الميراث إذا بك تستعين عليه بالصاحب ثم تستعين على هذا بذاك ثم بذاك على هذا. وأغرب شيء أنك غدرت بأختك هذه وهي كالملائكة خَلقًا وخُلقًا وأغريت بها أفسق أهل الأرض وهي مخطوبة وقد وثقت بك واتكلت عليك في الفرار إلى خطيبها. فرضيت أن تؤخذ غدرًا وتُحمل قسرًا على ذاك اللعين زعيم أهل الفحشاء. ولم تكن لتنال على عملك جزاء أفضل مما قد تناله لو جئت بها إلى سامرا. ومع ذلك لم تنل من بابك غير الخزي، وبعد أن كنت نصيره خنته وبحت بأسرار حصونه إلى عدوه، وواطأت الأفشين على أختك وعلى خطيبها. إني عرفت في الناس أشرارًا كثيرين يرتكبون أفظع مما ارتكبته في سبيل غرض يعرفونه ويعرفه الناس فما عرفنا لك غرضا.» وكان سامان يسمع قول وردان وهو يصطنع الإطراق وعيناه لا تتحولان عن ياقوتة وإن كان ذلك لم يظهر عليه لحَوَلِه. فلما أتمَّ وردان كلامه أجابه سامان قائلًا: «تسألني عن أسبابٍ لستُ أعلم بها منك. ارتكبت فظائع لم يعرف الناس عنها إلا طرفًا منها، ولو سُئِلت عن أسبابها، أو عن سبب إحداها، لم أستطع جوابًا، وإنما أعرف أني كنت أرتكب الخطأ ثم أبادر إلى إصلاحه بخطأ أفظع منه، فكانت أعمالي سلسلة هفوات والعبرة بالهفوة الأولى.» قال ذلك وتغيَّر وجهه وغصَّ بريقه وتململ فابتدره وردان قائلًا: «ما هي تلك الهفوة؟» فحوَّل بصره إلى ياقوتة وأطال النظر إليها وعيناه ترتعشان، ثم انتقلت الرعشة إلى أطرافه حتى اصطكَّت ركبتاه وكاد يسقط، فلحظ ضرغام ذلك فقال له: «أجلس يا سامان وتكلم.» وقد استغربوا تغيَّره وتحديقه في ياقوتة حتى تولَّاها الخجل وحوَّلت بصرها عنه. فجلس سامان جاثيًا وجعل رأسه بين كفيه وأخذ في البكاء بصوتٍ عالٍ يتخلله شهيق كثير حتى كاد يختنق، فأنكر القوم بكاءه لأول وهلة وظنوه يحتال، فصبروا عليه حتى فرغ من بكائه وهم ينظرون بعضهم إلى بعض. وإذا به ينهض بغتة وترامى عند قدمي ياقوتة وأجهش في البكاء فدهش القوم ولا سيما حماد ووثب إليه ليرجعه عن امرأته فلم يطعه فقال له: «ماذا اعتراك يا سامان؟ يسألونك عن جريمتك الأولى فلماذا لا تجيب؟» فصرخ قائلًا وهو يشير إلى ياقوتة: «هنا غلطتي الأولى. هذه هي!» وعاد إلى البكاء، فازداد الحاضرون دهشة وظنُّوه جُنَّ، ولا سيما جهان فقالت: «قل يا سامان فقد حيَّرتنا. ما خطبك؟ وما لك وياقوتة بك؟» قال: «هذه هي غلطتي نفسها. وما هي ياقوتة وإنما هي شهرزاد.» فلما قال ذلك صاحت آفتاب أم ضرغام: «شهرزاد؟! نعم هي شهرزاد.» وكانت جالسة بالقرب منها فضمَّتها إلى صدرها وقالت: «قد تنسمت ريحك منذ لمستك للمرة الأولى.» ثم صاحت: «جهان حبيبتي ألا تعرفين شهرزاد؟» فبغتت جهان وأعملت فكرتها وقالت: «لا أعرف فتاة بهذا الاسم إلا أختًا لي ماتت طفلة قبل أن أُولد.» فقالت آفتاب: «هذه هي أختك لم تمت بل كانت قد فُقدت. وإنما قالوا ذلك تلطفًا وتسترًا، ولم يكن يعرف هذا السر إلا أنا وأبوك وسامان هذا. وكن ضياعها على يده، فإنه كان قد خرج بشهرزاد إلى البساتين وهي طفلة لا تكاد تستطيع المشي. فلما عاد سأله أبوك عنها فبكا وزعم أن فرسًا من أفراس النخاسين اختطفها منه — لأن في تركستان جماعة يربون الخيل على النخاسة ويعوِّدونها خطف الأطفال بأسنانها فيلتقط الفرس الطفل بأسنانه ويطير به إلى منزل صاحبه — ولم يصدق والدك ما قاله سامان وغضب عليه من ذلك الحين وأشاعوا أنها ماتت!» وكانت آفتاب تتكلم والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير. فلما فرغت أكبَّت جهان على ياقوتة وضمَّتها وطفقت تقبلها وياقوتة أشد فرحًا من الجميع؛ لأنها كانت تحسب نفسها جارية فإذا هي بنت المرزبان. فقبَّلت أختها والدهشة لا تزال سائدة والكل يقولون: «لم تكن هذه المشابهة بين الأختين عن عبث.» وأخذوا يتساءلون وهم يحسبون أنفسهم في حلم فقالت جهان: «يا سامان. قل كيف أُخذت شهرزاد منك؟» فأجابها وهو يمسح دموعه: «انتبهت لوجودي وأنا في نحو العاشرة من العمر، وأختك هذه في نحو الرابعة، ورأيت أبوينا يحبانها كثيرًا ويدللانها ويهملانني فدبَّ الحسد في قلبي فصِرت أظهر الكره لأختي وهما يزيدانني حسدًا بتمييزها عني بالهدايا والنقود. وكنت إذا طلبت نقودًا من أبي لم يعطني وأنا أرى النقود مع أختي أو حاضنتها، وسمعت ذات يوم أناسًا يطوفون البلاد يشترون الأطفال فغافلت الحاضنة وأخذت شهرزاد إلى البساتين فرأيتهم مارِّين فبعتها لهم بدينارين وعدت وساروا هم في طريقهم. ولما سُئلت عنها قلت إنها خُطفت مني فلم يصدق أبي. وعرف بعد ذلك أني بعتها وبعث من يفتش ويبحث بلا فائدة. فكرهني من ذلك الحين وهدَّدني بالحرمان من ماله، فصرت أرى كل الناس أعدائي، وتوهَّمت أن كل حركة يأتونها إنما يريدون بها نكايتي أو أذيتي، فأصبحت ولا همَّ لي إلا كسب المال لأستعين به عليهم. وأول سعي بذلته في هذا السبيل أني حاولت منع أبي من كتابة الوصية ففشلت، فأردت إصلاح هذا الفشل فوقعت في فشل آخر. وهكذا كما تعلمون. ولم أدرك هذه الحقيقة إلا وأنا في السجن منذ يومين.» قال ذلك وتنفَّس الصعداء، ثم عاد إلى إتمام الحديث وقد زاد وجهه امتقاعًا وبدت الرعدة في أطرافه والاضطراب في عينيه وقال: «وقد تأخذكم الشفقة عليَّ بعد ما بسطته لكم، فاعلموا أني لا ألتمس عفوكم؛ لأن من كانت حياته سلسلة فظائع لا يجوز أن تنتهي بغير القتل.» قال ذلك واستلَّ من جيبه خنجرًا طعن به صدره فسقط يتخبط بدمه. فضجَّ الحضور وابتعد النساء عن هذا المنظر. وقد أسفوا على موت سامان بعد أن أيقنوا أنه تاب، فترحموا عليه وأمروا بدفنه وكانت جهان أكثرهم حزنًا عليه. أصبحت روابط القرابة والنسب الجديدة بين جهان وياقوتة حديث الناس، واقتسما ميراث أبيهما، وأصبح حماد وضرغام نسيبين وقد نالا حظوة في عيني المعتصم وتمَّ لهما ما يريدان. على أن ضرغامًا بقي في خاطره شيء يحب الاطلاع عليه فخلا إلى أمه يومًا وقال لها: «ألم يئن الوقت لكشف حقيقة نسبي؟ ما الذي تنتظرينه بعد الذي رأيته من نِعَم المولى عليَّ؟!» قالت: «لا أنتظر شيئًا ولكنك مع ذلك لم تنل ما أنت أهل له.» فقال: «تعنين أن أبي كان أعزَّ جانبًا وأرفع مقامًا مني؟» قالت: «نعم.» قال: «فهو إذن من كبار القواد أو الوزراء، وإذا صحَّ ذلك فلا يعقل أن يكون خبره مكتومًا عن الناس.» قالت: «إنه فوق ما ذكرت.» فبهت ثم قال: «لم يبقَ إلا أن يكون من أشراف قريش أو بني هاشم أو بني أبي طالب.» قالت: «إنه أخصُّ من ذلك كثيرًا.» فأطرق وفكَّر فيما تعنيه أمه فلم يبقَ إلا أن يكون أبوه الخليفة وهمَّ بأن يسألها عن ذلك فخجل وأمسك وظلَّ ساكتًا وهي تنتظر سؤاله فلما استبطأته قالت: «لماذا لا تتم أسئلتك يا ضرغام؟» قال: «يخجلني أن أقول ما في خاطري.» قالت: «لا تخجل أن تسأل إذا كان أبوك خليفة، فإنه كذلك!» فأجفل وقال: «أبي خليفة؟ كيف يمكن ذلك. إن المعتصم يضارعني سنًّا فلا يمكن أن يكون هو المراد، وكذلك المأمون والأمين.» قالت: «إن هؤلاء إخوتك.» فقال وقد أخذته الدهشة: «فأنا إذن ابن الرشيد؟!» قالت: «نعم يا بني، وهذه أول مرة نطقت بهذه الحقيقة بعد مرور الأعوام الطويلة.» قال: «أليس في الدنيا أحد سواك يعرفها؟» قالت: «كلا.» قال: «وما معنى كتمانها كل هذا الزمن والناس يفاخرون بالانتماء إلى أتباع الخلفاء فكيف بالخلفاء أنفسهم؟!» قالت: «لذلك سبب معقول هو أني كنت من جواري الرشيد في قصره ببغداد وكان يحبني، حتى كانت الليلة التي فتك فيها بأخته العباسة وبجعفر البرمكي وابنيهما الحسن والحسين. وقد بالغ في التكتم حتى قتل كل من استخدمه لذلك الغرض، فلم يكن أحد من أهل القصر يجسر على الخروج من حجرته مع أنهم مطلعون على كل شيء من بعيد، إلا أنا فقد حدثتني نفسي لصغر سني يومئذ أن أخرج لأرى وأسمع، فوقفت موقفًا ظننت نفسي مختبئة فيه لا يراني أحد، فسمعت حديث الرشيد، رحمه الله، مع زوجته زبيدة بشأن أخته وأشياء أخرى. وفيما أنا في ذلك رأيت زبيدة نفسها مقبلة نحوي وهي تقول: «يا هارون، إن جواريك يسمعن حديثنا!» فوقع الرعب في قلبي وأيقنت أني مقتولة لا محالة فلم تعد ركبتاي تحملانني من الرعشة ثم سمعت الرشيد يرعد بصوته من الغضب ويقول: «من هذا؟» وأمر مسرورًا فحملني إليه، فلما رآني أظهر الأسف عليَّ؛ لأن قتلي لا مناص منه. فلما رأى دموعي رفق بي، ولكنه كان شديدًا فأطرق لحظة ثم قال: «يا حبيبة — وهذا اسمي عنده — قد سعيت إلى حتفك بظلفك».» «فتراميت عند قدميه وبكيت وغسلت رجليه بدموعي، وكنت يومئذ حاملًا فقلت: «أشفق على صباي، بل أشفق على هذا الجنين».» «فوجم وتراجع ثم قال: «أعفو عن حياتك. ولكنني لا أقدر أن أراك ولا أسمع اسمك.» ونادى مسرورًا فأتى فأمره أن يجهزني بالمال ويدبر نقلي إلى البلد الذي أختاره، فاخترت فرغانة؛ لأني كنت أعرفها من قبل.» «وصرفني فخرجت مع مسرور في الليل الدامس إلى خارج بغداد وقد أعدَّ لي الأحمال وأوصى المكاري بي ودفع إليَّ مالًا وجواهر تكفيني أعوامًا وودَّعني. فقضيت في الطريق مدة طويلة ولدتك في أثنائها. وأخيرًا وصلت إلى فرغانة وعرفت المرزبان وعائلته، وطلبني أناس للزواج فأبيت وانقطعت لتربيتك وأنا كاتمة سرك، وأنت تطلب المجيء إلى العراق، وأنا أخالفك، ولما مات الرشيد، وماتت زبيدة هان عليَّ المجيء ورضيت بسفرك إلى العراق.» فلما فرغت آفتاب من كلامها قال لها ضرغام: «فأنا إذن أخو المعتصم؟» قالت: «نعم إنك أخوه، فإذا علم هو بذلك زادك تقريبًا.» فهزَّ رأسه هزة الإنكار وقال: «كلا، إن هذا السر يجب أن يبقى مكتومًا بيننا لئلا يطلع عليه المعتصم فتتحول محبته إلى حذر وكيد. يكفيني أني عرفت حقيقة نسبي. ولا أرى فائدة من كشفه؛ لأن الناس لا يصدقوننا. ونحمد الله أننا نلنا من النعم والرتب فوق ما كنا نتمناه.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/0.1/
شخصيات الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/0.2/
مراجع رواية عذراء قريش
معجم ياقوت. السيرة الحلبية. قاموس الإسلام. صفوة الاعتبار. أُسْد الغابة. الأغاني للأصفهاني. العقد الفريد. تاريخ الخميس. صحيح البخاري. مراصد الاطِّلاع. نهج البلاغة. كتب تاريخ: ابن الأثير – المسعودي – الدميري – أبو الفداء – ابن خلدون – ابن هشام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/1/
سر ذاهب إلى القبر
«قباء» قرية على بعد ميلين من المدينة المنورة «يثرب»، اشتُهِرت بعد الهجرة بنزول صاحب الشريعة الإسلامية بها في أثناء هجرته إلى المدينة وبنائه فيها مسجدًا هو أول مسجد في الإسلام. وكانت قباء قد اشتُهِر أمرها وعُرِفت بمكانة مسجدها في خلافة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبعد اتخاذ المدينة عاصمة، وقد عُنِي الخلفاء بتحسين ذلك المسجد وبخاصة الخليفة عثمان، إذ وسَّعه وزاد فيه وخصَّص نفرًا لخدمته. على أن ذلك لم يزد كثيرًا في سكان قباء نفسها. وكان لذلك المسجد في أواخر خلافة عثمان خادم طاعن في السن اسمه «عامر» شهد بناء المسجد، ورأى صاحب الشريعة يوم نزل هناك وأمر ببنائه، فأقام عامر بقباء هو وعياله، يقضي نهاره في خدمة المسجد وتنظيفه، فإذا فرغ من ذلك خرج بأولاده يرعى إبل أحد أغنياء المدينة في بعض الأودية الكثيرة في تلك المنطقة. ففي مساء يوم من أيام سنة ٣٥ من الهجرة خرج الشيخ لرعاية الإبل فأوغل في بعض الأودية حتى اقترب الغروب، فأسرع بالرجوع راكبًا ناقته وقد أرخى لها الخطام، وأخرج مسلة مغروسة في شعر رأسه المتلبِّد ووخز بها الناقة بين جنبيها استحثاثًا لها على المسير فطارت به. وكان أولاده يتبعونه على بقية النوق، وقد ركب أصغرهم ناقة عارية، ووضع آخر أمامه على ناقته أخشابًا جمعها من غصون الشجر المتساقطة ليوقدوا نارهم بها، وكانت النوق كلها مطلقة الزمام. والشيخ أعجل الجميع خشية أن تغيب الشمس ويحين وقت صلاة المغرب قبل وصوله، ورأى الشمس كأنها تسرع في الغروب فخُيِّل إليه أنها تسابقه فجعل يستحثُّ ناقته، غير عابئ بجمال الصحراء في تلك الساعة، إذ امتدت الظلال حتى اختلط بعضها ببعض فلم يفرق بين ظلال النخيل وظلال غيرها من الشجر وبين ظلال الآدميين. وكذلك غفل الشيخ لعجلته ولهفته عن الشذا المنبعث من نبات الصحراء، ولم يستوقف سمعه شدو الطيور ولا نقيق الضفادع. على أنه لم يكد يشرف على قباء حتى سمع رُغَاء الجمال وصهيل الخيل، ولما قارب المسجد رأى هناك ركبًا معهم الجمال والأحمال فلم يستغرب ذلك إذ تعوَّد أن يرى كثيرًا من أمثاله كل عام، لأن القوافل كانت تمر بقباء في طريقها إلى المدينة فتقف للراحة والاستقاء، فازداد رغبة في العجلة ليقوم بخدمة القادمين، والتفت خلفه ونادى أحد أولاده وقال له: «أسرع إلى البيت وعُدْ إليَّ بجَرَّة الماء لعل في الركب من يحتاجون إليه.» ••• وظل الشيخ مسرعًا، وكلما اقترب من المسجد وتوقع أن يتبين الوجوه حجبها عنه تكاثف الشفق، حتى وصل فإذا الركب بضعة رجال وفتاة ومعهم خيل وجمال، وقد تجمعوا بحنوٍّ ولهفة حول هودج عليه الأستار وفيه مريض يحاولون إخراجه إلى مقعد في خيمة نصبوها بالقرب منه. وما إن استخبرهم حتى علم أنهم قادمون من الشام إلى المدينة، فعجب لمرورهم بقباء وهي ليست في طريقهم إليها. ونظر إلى كبيرهم فإذا هو كهل عليه لباس عرب الشام من القباء والرداء والعمامة، وبجانبه شاب حسن البزة عليه عباءة من الصوف وسيفه مرصع، ووراءه خادم يحمل له الرمح والنبال، وعلى مقربة منهما فتاة غضة الشباب مشرقة ممتلئة صحة ونشاطًا على رأسها عقال، وزاد في إشراق وجهها ما اكتسبه من التورد على أثر التعب وركوب الجواد أيامًا في الصحراء. فلما رآها الشيخ استرعى انتباهه ما آنسه فيها من شدة الاهتمام بأمر المريض، ورآها ترشدهم كيف يحملونه وينقلونه ويعتنون به. فترجَّل الشيخ عن ناقته وصاح: «أهلًا بوجوه العرب»، ثم تقدم لمساعدتهم وتفرَّس في المريض فإذا هو امرأة في حدود الأربعين قد بلغت منتهى الضعف حتى يحسبها الناظر إليها ميتة. وأشارت إليه الفتاة ألا يدنو من المريضة لأنهم يريدون حملها بأنفسهم، فتنحى وأمر أولاده أن يساعدوا الخدم في نصب الخيام وإنزال الأحمال وسقي الجمال والخيل وغير ذلك، وسار هو إلى المسجد للأذان والصلاة. واستمر الرجال في نقل المريضة، وكانت الفتاة واسمها «أسماء» لا تني في إعداد كل وسائل الراحة لها، ولا عجب فالمريضة أمها وقد شبَّت على حبها. أما الكهل فزوج المريضة واسمه «يزيد»، وكان قليل العناية بأمرها إلا بما توحيه إليه الفتاة. وأما الشاب فاسمه «مروان»، وكان الزهو ظاهرًا في وجهه لقرابته من الخليفة عثمان بن عفان. ولما حملوا المريضة إلى فراشها، جلست أسماء بجانبها وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهها وهي غائبة عن الصواب، وكانت الدموع تملأ عينَي الفتاة ولكنها كانت تتجلد لئلا يغلبها البكاء فتسمعه أمها فيزداد تألمها، وكانت تمسح دموعها خلسة ونظرها لا يتحول عن وجه المريضة لحظة. ولما أرخى الليل سدوله جاءهم عامر بمصباح أدخلوه الخيمة، والفتاة لا تفتأ تنظر إلى أمها لعلها تفتح عينيها أو تحرك شفتيها أو تلتمس أمرًا فتقدمه لها، غير عابئة بالكهل زوج أمها ولا بذلك الشاب الذي قطع البراري والقفار في خدمتها عساه أن ينال حظوة في عينيها. وكان الشاب قد طلب الاقتران بها منذ كانوا في الشام، فلم ترضَ به هي ولا أمها وإن رضي به يزيد رغبة في الدنيا وطمعًا في منصب يناله، ولم يكن يعطف على الفتاة لأنها ليست ابنته ولا يعرف لها أبًا، إذ كانت أمها حين تزوجها سبية من سبايا مصر يوم فتحها عمرو بن العاص سنة ١٨ للهجرة، وكانت هي في الثانية من عمرها حينذاك، وبعد فتح الإسكندرية عاد بهما إلى الشام فأقام فيها مع ذوي قرباه من بني أمية. وكان يزيد كهلًا أشيب الشعر، قصير القامة، خفيف العضل، متجعِّد الوجه، غائر العينين، يحب المال حبًّا جمًّا، وكان إلى ذلك سيئ الخلق. واعتقد أهل الشام أن أسماء ابنته، وإن عجبوا لاختلافهما خَلقًا وخُلقًا، فقد كانت على جانب عظيم من المهابة والجمال، جمعت بين لطف النساء وحزم الرجال وشجاعتهم، وكان الناظر إليها لا يسعه إلا أن يحترمها، فإذا خاطبها آنس منها رقة وأنفة ودعة وأريحية. وكانت ربعة ممتلئة، حنطية اللون، سوداء العينين حادَّتهما، طويلة الأهداب، مقرونة الحاجبين، دقيقة الفم، سهلة الجبين، تغضي العيون مهابة التفرس في وجهها. اشتُهِرت بين أهل الشام بكل خلق حسن، وأحبها مروان وجعل يتقرب منها وهو يحسب تقربه منَّة وكرمًا، وأنها لا تلبث أن تطير فرحًا لأنها من عامة الناس وهو ابن عم الخليفة عثمان. وكان الخليفة يؤثر ذوي قرباه من بني أمية ويقدمهم في مناصب الدولة ويفتح لهم أبواب الرزق، الأمر الذي أدى إلى قيام المسلمين عليه حتى تحدثوا في عزله وكانت الفتنة المشهورة. وظل مروان يتردد على منزل يزيد وكلاهما من بني أمية، فيحتفل يزيد به ويود لو يتزوج أسماء فيحظى من الخليفة بمنصب، فلما خاطبه مروان في ذلك أكد له أنه نائل الفتاة لا محالة، اعتمادًا على أن القول قوله في أمر زواجها. ولكنه ما إن خاطب امرأته في الأمر حتى رأى منها إعراضًا وإباءً، وكلما ألح بشدة عليها راحت تماطله. وأدركت الفتاة ما بينهما من أجلها فاشتد نفورها من مروان، لأنها لم تكن تعتد بزخارف الدنيا ولكنها كانت تهوى الشهامة وكرم الأخلاق، فلم يقع مروان من نفسها موقع القبول. ولما ازداد إلحاح يزيد خشيت الأم أن يستعمل العنف في تنفيذ مأربه واستولى عليها القلق حتى نزل بها الداء ووهنت قواها فخافت الموت، وطلبت أن تُحمَل إلى المدينة على أن تجيب طلب مروان هناك. وسُرَّ بذلك مروان إذ حدثته نفسه بأنه إذا جاء المدينة كان بالقرب من ابن عمه الخليفة عثمان، فلا تعود الأم إلى التردد خشية غضبه. وكان السفر سببًا في اشتداد مرض الأم وأسماء لا تعلم سر ذلك الانتقال حتى خلت ذات يوم إلى أمها وعاتبتها على ما حملت نفسها من المشقة، فأسرَّت هذه إليها أنها تنوي الاستجارة بعلي بن أبي طالب لعله ينقذها لمَا اشتُهِر به من إغاثة المظلومين، ولمَا له من المكانة عند الخليفة والمسلمين. وما زال المرض يشتد بالأم يومًا بعد يوم، وزوجها ومروان يودان لو قضت نحبها قبل الوصول إلى المدينة لأنهما عرفا شيئًا عن حقيقة غرضها، فكانا يطيلان مدة السير ويقودان القافلة في طرق طويلة حتى مروا بقباء وهي في الجنوب الشرقي من المدينة. ••• كانت الأم المريضة — واسمها «مريم» — بيضاء، تحبو إلى الأربعين من عمرها، رومانية الملامح، كبيرة العينين، وقد زادهما الضعف جحوظًا، وكانت منذ نقلوها إلى الفراش في سبات عميق وأسماء بجانبها تمرضها ولا تأذن لأحد أن يأتي بحركة لئلا يزعجها. ولكنها لخوفها على أمها لم تكن تستطيع النظر إلى ذلك الوجه الممتقع وتينك العينين الغائرتين والعنق المستدق وقد غطاه من الجانبين شعر أسود يخالطه بعض الشيب بلَّلـه عرق الحمى فتجمَّع خُصَلًا متلاصقة. وأشد ما كان يخيفها أن صدر أمها كان غائرًا لفرط الضعف، وأن فمها اتسع واستطال حتى برز فكاه، فلم تكن أسماء تتأمل في ذلك المنظر حتى يختلج قلبها وتخاف الموت على والدتها في تلك البرِّيَّة. وكلما أمسكت بيدها لتعرف مدى حرارتها أحست العرق البارد يبلل أناملها، ومما زادها بلاء وشقاء أن يزيد ما برح منذ نزولهم معتكفًا في خيمة مروان، ولا يدخل خيمة امرأته إلا قليلًا، متظاهرًا بالاهتمام بها، بينما المكر والرياء ظاهران في وجهه. وأما مروان فكان إذا دخل الخيمة دخل متبخترًا لا يدنو من الفراش ولكنه ينظر إلى أسماء ويبتسم كأنه يداعبها، وهي لا تستطيع الابتسام ولا تطيق النظر إليه. فلما كان العشاء حركت النائمة رأسها وفتحت عينيها وحولت حدقتيها إلى أسماء وقد بهتتا من شدة الضعف، فهبت الفتاة واقفة وسألتها عما تريد، فأشارت تطلب الماء فأسرعت إلى القدح وأدنته من شفتيها فشربت منه قليلًا، وانبسطت لذلك أسارير أسماء وعاودها الأمل، ووقفت تنتظر ما تطلبه منها، فلما لم تقل شيئًا انحنت على جبينها وقبَّلته وأمسكت يدها بلطف وقالت لها: «هل تريدين شيئًا يا أماه؟» فأجابتها بصوت ضعيف وعيناها شاخصتان إليها: «لا، لا أريد شيئًا إلا سلامتك، ولكنني قد لا أستطيع الوصول إلى المدينة، ولا أظنني أعيش إلى الغد فقد شعرت بدنو الأجل.» قالت ذلك والدموع تتساقط من عينيها فتختلط بعرقها، فاقشعر بدن أسماء وخفق قلبها، ولكنها تجلدت وتظاهرت بالابتسام وقالت: «لا سمح الله بسوء يصيبك يا أماه! فإنك ستصبحين في خير فنركب معًا إلى المدينة بإذن الله.» فتبسمت الأم تبسمًا يمازجه البكاء، وقالت: «اسمعي يا بنيتي، ما أنا آسفة على هذه الدنيا، ولكن في نفسي أمر أود قضاءه قبل الوفاة.» قالت أسماء: «وما هو ذلك الأمر يا أماه؟» قالت: «هو أن ألتقي بعلي بن أبي طالب فأكلمه دقيقتين قبل الموت.» قالت: «غدًا نلتقي به في المدينة.» قالت: «قلت لك إنني لا آمل أن أرى صباح الغد يا بنيتي.» فهمت أسماء بتقبيلها وهي تحاول حبس الدمع، فضمتها مريم إلى صدرها بقوة لم تكن أسماء تعهدها فيها وعانقتها، فتساقطت دموع أسماء برغم إرادتها ثم أحست بدموع أمها تتساقط على عنقها سخينة تمازج ذلك العرق البارد، وأشفقت بعد ذلك عليها فنهضت وتجلدت وقالت: «لا بأس عليك يا أماه! فهل تطلبين عليًّا لتكلميه في شأني؟» قالت: «نعم، وفي شأن آخر هو سر حرصت على كتمانه أعوامًا، وقد آن لي أن أبوح به.» فقالت: «ما العمل إذن؟» قالت: «استقدموه إليَّ، قولوا له إن امرأة على فراش الموت تلتمس لقياك لتنبئك سرًّا وتشكو إليك أمرًا.» فخرجت أسماء إلى صحن الخيمة فرأت يزيد ومروان واقفين بإزاء نخلة كأنهما يتسارَّان، فلما رأياها أسرعا معًا وقالا: «كيف حال أمك؟ لعلها في خير»، قالت: «إنها أفاقت وطلبت أن ترى عليًّا بن أبي طالب.» قال يزيد: «وكيف تراه الآن وهو في المدينة؟» قالت: «لقد طلبت استقدامه إليها بإلحاح.» قال مروان: «استقدامه؟! ومن يستطيع ذلك؟!» قالت: «لا أراه يأبى المجيء إذا قيل له إن امرأة تُحتضَر تلتمس مقابلته، فإنه على خلق عظيم.» قال: «لا شك في عظم خلقه، ولكنه الآن في شغل شاغل بأمر المسلمين واختلافهم في شأن الخليفة!» ولما لاحظ استغرابها ما ذكره، أخذ في توضيح الأمر فقال: «سمعت قبل خروجنا من الشام أن أهل الأمصار ناقمون على عثمان إيثارَه ذوي قرابته فيولي العمال منهم ويعزل الذين ولَّاهم أسلافه، كما علمت أن أهل مصر خرجوا يلتمسون المدينة ليشكوا أمرهم إلى علي لعله يحكم فيما بينهم وبين عثمان، وكذلك أهل البصرة وأهل الكوفة. وأظنهم وصلوا إلى المدينة الآن، فلا يستطيع عليٌّ تركهم والمجيء إلى هنا.» قالت وقد ملَّت الجدل: «إن أمي تطلب عليًّا بإلحاح فما علينا إلا أن نبعث في طلبه.» قال: «سأرسل في ذلك أحد رجالي، ثم أذهب أنا في أثره أستعجله.» قال ذلك وأمر أحد الأتباع بالذهاب إلى المدينة، ثم ذهب هو على أثره. عادت أسماء إلى والدتها فإذا هي في غيبوبة، فمكثت ساعة في انتظار الرسول، ولما استبطأته خرجت من الخيمة وتوجهت بنظرها إلى المدينة والظلام حالك فلم ترَ أحدًا، فصعدت إلى مرتفع أشرفت منه على أبنية المدينة فلم ترَ منها إلا المسجد النبوي والأنوار تشعشع في بعض جوانبه. ولو أنها لم تصعد إلى ذلك المرتفع ما استطاعت رؤية المدينة، لأنها قائمة في منبسط من الأرض تحدق بها جبال تنحدر منها السيول على أثر الأمطار، فيصبح السهل المجاور لها مستنقعات وآبارًا تجتمع فيها المياه على مدار السنة، وتنمو حولها أشجار الصفصاف والبيلسان والنخيل وكثير من الأعشاب. فلما أطلت أسماء على المدينة راعها منظر ما بينها وبين قباء من المياه المتجمعة التي انعكست على سطحها أشعة الكواكب، غير أن ذلك لم يكن ليشغلها عن مرض والدتها فعادت مسرعة إلى الخيمة، فرأت أن يزيد قد توسد الأرض خارج الخيمة ونام، فأسفت لما رأت من فقده المروءة والشعور، ولكنها لم تستغرب ذلك لأن أمها كانت قد قالت لها غير مرة إن هذا الرجل ليس أباها، ولكنها كتمت عنها اسم أبيها وظلت تعدها بأن تنبئها به. فلما رأت ما بلغته والدتها من الضعف في تلك الليلة خافت إن أصابها سوء أن يبقى أبوها مجهولًا عندها، فدنت من فراشها وهي ما برحت غائبة، فأمسكت يدها الباردة ولمست جبينها المبلل بالعرق فاضطربت جوارحها وخافت على والدتها في ذلك القفر، واستنكفت أن تخاطب يزيد في الأمر احتقارًا له، فهمت بالخروج لاستقدام خادم المسجد لعلها تجد عنده امرأة تستأنس بها، فرأت أمها تحرك رأسها وترفع يدها كأنها تشير إليها أن تدنو منها، فدنت وهمَّت بها فقبلتها وقالت: «ماذا تريدين يا أماه؟» قالت: «ألم يأتِ عليٌّ؟» قالت: «لم يعد رسولنا بعد.» قالت: «أخاف ألا يعود وقد نفد صبري وخارت قواي، استقدموا عليًّا قبل فوات الفرصة.» فقالت: «لا يلبث عليٌّ أن يأتي. ألا تبوحين لي بما تريدين أن تقوليه له، ألم يأن لي أن أعرف من هو أبي؟» قالت: «ستعرفينه متى جاء عليٌّ» ثم تنهدت وقالت: «آه …!» ••• فلما سمعت أسماء ذلك اشتد حزنها وقلقها، ولا سيما أنها خشيت أن يكون ذهاب مروان في أثر الخادم سببًا في تأخير قدوم علي، فعزمت على المسير بنفسها وهي لم تكن قد دخلت المدينة قبل الآن، ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل مرضاة أمها ورغبتها في استطلاع ذلك السر. فشدت عقالها حول رأسها وتلثمت حتى لم يبقَ ظاهرًا من وجهها إلا عيناها، وتزمَّلت بالعباءة فوق ثيابها فأخفت رداءها النسائي، وركبت جوادها وكان لا يزال مسرجًا، وأيقظت يزيد وأوصته بوالدتها خيرًا. وهمت بالخروج فلم يطاوعها قلبها خوفًا على أمها فوقفت متحيرة، ثم تذكرت خادم الجامع فسارت إليه وكان قد فرغ من الصلاة، فسألته عن امرأته فقال: «هي في خدمتكم»، وناداها فجاءت فإذا هي عجوز ولكنها نشطة سمحة الوجه، فأوصتها بأن تساعد يزيد في السهر على أمها في أثناء غيابها. وخرجت ولم تخبر أمها لئلا تمنعها من الذهاب واتخذت أنوار المسجد النبوي قبلتها، وهمزت الجواد وكان من أصائل الخيل فجرى وهو تارة يغوص في منخفض وطورًا يصعد على أكمة، وهي لا ترى شيئًا لفرط قلقها واضطرابها إلا أشباح النخيل والبيلسان، حتى دنت من سور المدينة واهتدت إلى بابها فدخلت منه إلى أسواق ضيقة متعرجة لا يكاد يمر بها الجواد، ولكنها على ضيقها مزدحمة بالناس وأكثرهم من الغرباء، فعلمت أن ما قاله مروان صحيح. فسألت رجلًا يبيع التمر عن منزل عليٍّ فدلها عليه وهو يحسبها رجلًا، فهمزت الجواد وأسرعت فلم تبلغ باب المنزل حتى كبا جوادها فسقطت وكادت تلقى حتفها، ولكنها لم تبالِ بل نهضت وتلمست باب المنزل، ولم تكد تدركه حتى سمعت صريره فوقفت تنتظر فتحه، فخرج إليها شاب طويل القامة لم تتبين وجهه لشدة الظلام، وكان قد سمع كبوة الجواد فأسرع نحوه فرأى فارسه قد وقف وهو لا يزال ملثمًا، فاستقبله وسأل عن خبره وهو يظنه رجلًا. فقالت أسماء: «لعل مولانا عليًّا في المنزل؟» قال: «كلا، ليس هو هنا الآن، ماذا تبغي منه فإني أرى لهفتك وعجلتك؟» قالت: «نعم، جئت في أمر مهم، ولكنني لا أقوله إلا لعليٍّ نفسه.» قال: «إنه خرج في الغروب إلى المسجد، وقد مضت صلاة الغروب وصلاة العشاء ولم يعد، فهل تذهب معي للبحث عنه هناك؟» قالت: «نعم، هلمَّ بنا.» ثم انطلقا وكلٌّ منهما يريد الوصول إلى باب المسجد ليرى وجه صاحبه على الضوء لعله يعرفه، وكان الشاب أكثر رغبة في ذلك لأنه استغرب صوت أسماء ولم يتبين شيئًا من وجهها أو ثيابها. أما هي فمشت تقود جوادها وراءها حتى بلغا الجامع، فإذا هو مزدحم بالناس بين جاثٍ وواقف ولم يبقَ به موقف لطفل، وكلهم صامتون وقد تكاثفت أنفاسهم وانبعثت من باب الجامع حرارة ممتزجة بروائح أجسامهم وأثوابهم، حتى لقد يشعر المار بالازدحام وإن لم يرَ الناس. فلما وصل الرفيقان إلى الباب واستنارا بمصابيح الجامع نظر كل منهما إلى زميله، فرأت أسماء رفيقها رجلًا حسن اللباس يظهر من حاله أنه من الصحابة أو بعض أولادهم، أما هو فلم يرَ غير اللثام فاستغرب تلثمها ومنعه الحياء من التحري.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/2/
عثمان بن عفان
وهمت أسماء بالدخول إلى الجامع فامتنع عليها لكثرة الناس وهيبة الاجتماع، فوقفت بالباب وهي على مثل الجمر، ووقف صاحبها إلى جانبها فارتاحت لما آنسته من رقة شعوره، وعلمت أن الدخول إلى علي يستحيل إذ ذاك. فلما دعاها إلى الاستراحة على البطحاء، وهي مقاعد من الحجر أو الخشب أنشأها عمر بن الخطاب خارج الجامع يجلس عليها الناس للاستراحة أو المحادثة أو المناشدة؛ لم تستطع أسماء جلوسًا لعظم قلقها، ولكنها التمست مكانًا تربط فرسها فيه إذا اضطُرَّت لدخول الجامع، فأمر رفيقها غلامًا ممن يلتقطون النوى في أسواق المدينة وهم كثيرون أن يمسك الفرس، فأمسكه وسار به إلى مرابط الخيل بين الأشجار هناك. أما أسماء فنظرت إلى صدر المسجد، فرأت على منبره رجلًا ربعة ليس بالطويل ولا القصير، حسن الوجه لولا ما عليه من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، وقد خضبها بالحناء، أسمر اللون، أصلع الرأس، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، وكان واقفًا على المنبر وقد توكأ على سيف وأجال نظره في الحضور وهمَّ بالكلام. فنظرت أسماء إلى رفيقها مستفهمة، فقال: «هذا عثمان بن عفان يخطب في الناس.» فقالت: «لعل هذا الجمع من أهل المدينة؟» قال: «كلا، هم وفود أهل مصر والبصرة والكوفة، وقد جاءوا يشكون عثمان ويتذمرون من أعماله، وقد شكوه من قبل هذا إلى علي بن أبي طالب فأنَّبه عليٌّ، فدعاهم إلى المسجد ليخطب فيهم، وأظنه سيلتمس لنفسه عذرًا، فلنسمع ما يقوله.» فنظرت أسماء إلى الخليفة وعيناها لا تقفان عليه لتضعضع حواسها، فرأت بجانبه رجلًا عرفت أنه مروان فقالت في نفسها: «بئس الشاب هو! لقد جاء إلى ابن عمه ونسي المهمة التي جاء فيها.» وجالت بنظرها في الجمع متفرسة لعلها ترى عليًّا، غير أنها لم تكن تعرفه فقالت لرفيقها: «ألا ترى عليًّا بين الناس؟» قال: «أظنني رأيته، نعم، أراه جالسًا بقرب المنبر وقد أطرق يفكر.» فنظرت إليه فإذا هو فوق الربعة، ضخم العضل، جميل الخلقة، وقد خطَّه الشيب فلم يخضب شعره. وآنست منه على شدة هواجسه ابتسامًا ظاهرًا في وجهه، فشعرت عند رؤيته بارتياح واستأنست بطلعته وحدثتها نفسها أن تخترق الجماهير إليه فأوقفها الحياء، ولبثت تنتظر انتهاء الخطيب من خطابه وهي في قلق شديد. وانتصب عثمان ويمناه على السيف وهي ترتعش لعظم تأثره، ثم مسح لحيته بيساره ومشط شعرها بأصابعه والاضطراب ظاهر عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ثم قال: «يا أهل الأمصار، قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي، فإن صاحبَيَّ اللذين تولَّيا قبلي (يريد أبا بكر وعمر) قد ظلما أنفسهما، وإن رسول الله ﷺ كان يعطي قرابته. وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع. وأما ما تريدونه من الفتنة أو الخلع فإنكم قد أسرعتم فيما عزمتم، ووالله لئن فارقتكم لتتمنَّون أن لو كان عمري عليكم مكان كل يوم سنة! لما سترون من الدماء المسفوكة والإحن، والأثرة الظاهرة والأحكام المغيِّرة.» وكان عليٌّ في أثناء الخطاب مطرقًا مصغيًا لا يبدي حراكًا، حتى أتى عثمان على الفقرة الأخيرة فحرك عليٌّ حاجبيه وحنى رأسه تصويبًا لقوله: «لما سترون من الدماء المسفوكة … إلخ.» وأما أسماء فلا تسل عن قلقها ومللها، وكان رفيقها واقفًا إلى جانبها وقد شُغِل عنها بما ثار من عواطفه عند سماعه كلام عثمان، ومال إلى إفهام رفيقه الملثم جلية الخبر تشفيًا من عثمان. ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف من هو، ثم تنسم من لهجتها صوتًا نسائيًّا ولكنه استبعد أن يظهر في النساء مثل هذه الهمة، فصبر حتى انتهى عثمان من خطبته وقال لها: «أراك يا سيدي خالي الذهن من مغزى كلام الخليفة، ولكي تتفهمه أوضحه لك باختصار: إن خليفتنا هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة منذ بضع عشرة سنة، وحالما تولاها عزل الولاة الذين كانوا قبله ممن ولاهم الخليفة عمر، وولى مكانهم رجالًا من بني أمية أي من أقاربه، ووسَّع أبواب الرزق لأهله وضيَّقها على سواهم، فثار المسلمون في الأعمال (الولايات)، وهم أهل مصر والكوفة والبصرة. أما أهل الشام فإنهم على دعوة عثمان، لأن عاملهم هو معاوية بن أبي سفيان من أقرباء الخليفة، وأما أهل الأمصار الثلاثة الباقية فنقموا على هذا الرجل وجاءوا في رجالهم يطلبون خلعه وتولية غيره مكانه، ولا يليق بالخلافة بعده إلا علي بن أبي طالب فإنه ابن عم النبي ﷺ ووصيه. ولكن بين الذين يطمعون في الخلافة الآن اثنين من الصحابة هما طلحة والزبير. فالخلافة إذا خُلِع عثمان بين الثلاثة علي وطلحة والزبير، ووفد مصر يريدونها لعلي، ووفد الكوفة يريدونها للزبير، ووفد أهل البصرة يريدونها لطلحة، ولكنهم متفقون جميعًا على خلع عثمان. وأما علي فلا رغبة له في الخلافة، ولكنه يخاف الفتنة بين المسلمين بسبب ذلك الخصام.» وكانت أسماء تسمع كلام رفيقها وهي لا تفهم منه شيئًا لعظم اضطرابها، ولكنها لم ترَ بدًّا من الصبر لأنها رأت عثمان عاد يتكلم. وما أتم عثمان كلامه حتى ضج الناس فعلمت أنهم خارجون، فحمدت الله على فراغه، فتنحَّت ريثما يخرج الجمع وقد زاغت عيناها وهي تتفرس في الجماهير لعلها ترى عليًّا خارجًا معهم فخرج الكل ولم تره بينهم، فتحولت نحو الجامع وكان رفيقها قد سبقها إليه فوقفت تنتظره، فعاد وحده فلما استقبلها سألها: «هل رأيت عليًّا؟» فذكرت أنها لم تره، فجعل يبحث بين الناس ولكنه لم يجده. ••• عاد إلى الجامع وقد خلا من المصلين وأخذ الخدم في إطفاء المصابيح، فخافت أسماء أن يمنعوها من الدخول، ولكنهم لما رأوا رفيقها وسعوا لهما فعلمت أنه من كبار القوم. فدخلا إلى المسجد فرأت المكان خاليًا، ووقف الرجل ووقفت وجعلا يفكران، وبعد برهة قال الرجل: «أظنه دخل حجرة امرأته فاطمة بنت النبي ﷺ فإنها مدفونة في حجرة بإزاء هذا المسجد، وكثيرًا ما كنا نراه يدخلها لزيارة ذلك الأثر الشريف، فلا بد من الانتظار ريثما يخرج.» فقالت: «لا صبر لي يا مولاي على الانتظار، دعني أدخل إليه وأخاطبه فإن الأمر الذي جئت من أجله يقتضي العجلة، وهب أنني أسأت الأدب في استعجاله فإنه سيعذرني متى عرف السبب، دعني أدخل الحجرة.» قم يا رسول الله تعهَّد أمتك وانظر إلى ما آلت إليه حالها من بعدك، لقد بعثك الله نذيرًا للعالمين وأمينًا على التنزيل، وليس أحد من العرب يقرأ كتابًا ولا يدعي نبوة، وقد كانوا على شر دين في شر دار، يشربون الكدر ويأكلون العشب، ويعبدون الأصنام، ويسفكون الدماء، ويقطعون الأرحام. فسقت الناس حتى بوأتهم محلتهم، وبلغتهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم، وجعل الله الإسلام أمنًا لمن علقه، وسِلمًا لمن دخله، وبرهانًا لمن تكلم به، وشاهدًا لمن خاصم به، ونورًا لمن استضاء به، وفهمًا لمن عقل، ولبًّا لمن تدبر، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل. فقام بنصرته قوم دُعُوا إلى الإسلام فلبوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، قوم لا يُبَشَّرون بالأحياء ولا يُعَزَّوْن بالموتى. مُرْه العيون من البكاء، خُمْص البطون من الصيام، ذُبُل الشفاه من الدعاء، صُفْر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين. قد كنت يا رسول الله تأكل على الأرض، وتجلس جلسة العبيد، وتخصف نعلك بيدك، وترقع ثوبك بيدك، وتركب الحمار العاري. ولقد يكون الستر على بابك عليه التصاوير فتقول لإحدى أزواجك: «غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.» وكنت يا رسول الله إذا احمرَّ البأس وأحجم الناس، تقدم أهلك فتقي بهم أصحابك حتى قُتِل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقُتِل حمزة يوم أحد، وقُتِل جعفر يوم مؤتة. هذه هي سنتك وتلك هي قدوتك. فلما فارقتنا خلَفك شيخ (أبو بكر) حارب المرتدين، وأيد الدين القويم، وخلفه رجل فتح الأمصار ودوَّن الدواوين، وشاد للعدل منارًا، فاعتز به الإسلام، وامتدت رايته على العراق وفارس ومصر والشام، وفر من وجهه كسرى وقيصر، والناس يومئذٍ مجتمعون حول الدعوة آخذون بناصرها بقلب واحد. حتى تولاهم عثمان وهو شيخ صادق الإسلام، ولكنه استأثر بالسلطة وآثر أهله على سائر المسلمين، فقاموا عليه قومة رجل واحد، وتجمعوا على نبذ طاعته وأقروا على خلعه، لا ترهبهم خلافته ولا يخشون سطوته. كأن الناس إنما أذعنوا لأهل السابقة من الصحابة لما كانوا فيه من الذهول والدهشة لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتُنُوسِي الحال واستفحل الملك أنفت نفوس المسلمين من غير قريش وهان عليهم نبذ طاعة الصحابة حتى بلغ من جرأتهم التمرد على الخليفة. فعظمت الفتنة وخفتُ ما خوَّفتنيه يوم سألتك عن الفتنة فقلت لي: «يا علي، إن القوم سيُفتَنون بعدي بأموالهم ويمنُّون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون لسطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية.» آه يا رسول الله! لقد طالما نصحت لهذا الخليفة ألا يكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يُقتَل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمرها عليها ويثبت الفتن فيها. ولكنه انصاع إلى شاب من أهل قريته (مروان بن الحكم) يسوقه حيث شاء بعد جلال السنين وتقضِّي العمر. هذه هي حال أمتك يا رسول الله. فإني أشكو إليك قومًا افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فكلٌّ منهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، حتى أصبحت الأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. أما أنبأتك صفيتك (فاطمة) النازلة بجوارك بتضافر أمتك على هضمها؟ وإني أخاف أن ألحق بكما والحال على ما وصفت، فأستحيي أن أحمل إليك خبر هذه الفتنة التي أخافها أن تفرق كلمة الإسلام. فادع لنا ربك أن يجمع كلمتنا ويلم شعثنا ويأخذ بناصرنا فنعلم مكان الخلافة منا. والسلام عليك حتى نلتقي. وسمعت أسماء وصاحبها عليًّا وهو يقرأ الفاتحة فعلما أنه يتأهب للنهوض، فأسرعا في التقهقر حتى خرجا من الحجرة إلى المسجد وخرجا منه إلى البطحاء وقد خف الازدحام لتفرق الناس إلى منازلهم، فوقفا ينتظران عليًّا فقال الرجل: «أظنه لا يخرج من هذا الباب، فلنقف له بالباب الآخر.» فناديا الغلام قائد الفرس فتبعهما ومشيا وقد نفد صبر أسماء وأنهكها الملل، ولم يمشيا قليلًا حتى لقيا عليًّا خارجًا من باب الجامع ومنديله لا يزال في يده يمسح به عينيه، ثم جعل يصلح عمامته ويسرح لحيته بأنامله ويمشي الهوينى كأنه عائد من سفر طويل. فتقدم الرجل إليه وحياه فقال علي: «مرحبًا بابن أبي بكر، أهلًا بك يا محمد. ما الذي جاء بك؟» فعلمت أسماء أنه محمد بن أبي بكر وكانت تسمع به. قال: «لقد جئتك بقادم غريب قد أنهكه البحث.» قال: «لماذا لم تنزله في دار الأضياف؟ أين هو؟» فتقدمت أسماء وألقت التحية وهي لا تزال ملثمة وقد التفَّت بالعباءة، فنظر عليٌّ إليها فعلم أنها متنكرة لأمر ذي بال فقال لها: «ما غرضك يا أخا العرب؟» قالت: «لقد جئت أدعوك لغوث امرأة مريضة في خطر شديد، تلتمس أن تراك لتبث لك سرًّا ضنت به علينا جميعًا.» فقال: «ومن تكون هذه المرأة؟» قالت: «هي أمي، وأما زوجها فهو من بني أمية. وقد جئنا بها من دمشق فتحملت مشاق السفر والمرض على أمل أن تبلغ المدينة فتطلعك على ذلك السر، فاشتد عليها المرض حتى لم تعد تستطيع الوصول.» قال: «أين هي الآن؟» قالت: «هي في قباء على مقربة من هذا المكان.» قال: «هيا بنا إليها. هل ترافقنا يا محمد؟» قال: «إني في خدمتك حيثما سرت، وإذا رأيت أن أقوم بهذا الأمر دونك لما أنت فيه من المشاغل الكثيرة فعلتُ فتبقى أنت هنا.» قال: «لا بأس من ذلك، ولكنني أخشى أن يكون مجيئي إليها واجبًا وهي امرأة في مرض شديد تجب علينا إغاثتها.» قال ذلك ومشى نحو البيت يلتمس فرسه، ومشى الاثنان في أثره ومحمد ينظر إلى أسماء خلسة لعله يستطلع شيئًا من أمرها، وهي تطلب إلى الله أن يعجِّل عليٌّ في الخطى، ولكنه لم يمشِ قليلًا حتى لقيه رجل مهرول وعليه أمارات البغتة، فقال له: «ما وراءك يا غلام؟» قال: «لقد عاد المصريون إلينا بعد خروجهم.» فقال: «وكيف عادوا وقد عهدناهم راضين بما وعدهم به الخليفة من الإصلاح؟» قال: «لا أدري إلا أنهم عادوا إلينا غضابًا، وهم ينتظرونك في فناء دارك.» فقال علي: «لا حول ولا قوة إلا بالله!» وسار وهو يهز رأسه وينظر إلى محمد، وكان هذا في مثل حاله من العجب لما سمعه. فقال علي: «ما بال هؤلاء القوم لا يريحون لنا بالًا؟! إني أرى مشكلتهم هذه لا تنحل إلا بفتنة تئول إلى الفشل، فوالله إنهم ليرومون أمرًا عظيمًا أخشى منه اختلال الحال»، فقال محمد: «لا يخلو رجوعهم من أمر ذي بال.» وأسرعا حتى أتيا بيت علي فرأيا الناس عند بابه زرافات ووحدانًا بين فارس وراجل وقد علت ضوضاؤهم. فلما أشرف علي عليهم ترجل الراكبون وهرول الواقفون نحوه، وفي مقدمتهم رجل لا يزال بثياب السفر فحيَّا عليًّا فرد التحية وقال له: «ما الذي عاد بكم إلينا وكنا قد فضضنا بينكم وبين عثمان ووعدكم خيرًا؟» قال: «إنه لم يعدنا إلا خداعًا.» قال ذلك ومد يده فأخرج أنبوبة من الرصاص فتناولها علي ومشى إلى مصباح مضيء عند باب الدار، ونظر فرأى فيها صحيفة من جلد أخرجها وقرأ، فإذا كتاب من عثمان إلى عامله بمصر يأمره فيها بجلد زعماء المصريين الذين قدموا المدينة لمطالبته، وحبسهم وحلق لحاهم وصلب بعضهم، فبُغِت علي لذلك وتأمل الصحيفة فإذا في ذيلها خاتم عثمان وكان يختم كتبه بهذه العبارة: «لتصبرن أو لتندمن.» فتحقق أنه خاتمه فقال: «وما الذي أظفركم بهذا الكتاب؟» قال: «برحنا المدينة أمس على ما وعدنا هذا الرجل من الإصلاح وصدَعنا بأمرك، فلم نكد نخرج حتى لقينا غلام عثمان على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الأنبوبة وفيها هذه الصحيفة.» فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ما بالنا لا نكاد نرتق فتقًا حتى نرى غيره؟! ما الذي غيَّر عثمان وحمله على هذا العمل؟!» فقال محمد بن أبي بكر: «إنها فعال مروان بن الحكم ابن عمه، فقد كان غائبًا في الشام ولم يأتِ المدينة إلا في غروب هذا اليوم، ونظنه هو الذي أغرى عثمان بذلك.» فتأفف علي وقال: «تبًّا لهذا الشاب! إنه لا يدل إلا على الشر.» فلما سمعت أسماء ذكر مروان عرفت أنه هو طالبها ورفيق سفرتها، فازدادت كرهًا له وقالت في نفسها: «قبحه الله! إنه لا يزال عثرة في طريقنا»، وأيقنت أن ذلك سيكون سببًا في عدول علي عن المسير معها فخاطبت محمدًا في الأمر، فقال: «لا تخف يا صاح، إننا منجدوك.» وخاطب عليًّا في ذلك فقال له: «إني أخاف إذا برحت المدينة في هذا الليل أن يقع ما نندم عليه. سر يا محمد مع هذا النزيل وافعل ما تراه وقم عني في كل خير يرجونه، ثم عد إليَّ بالخبر.» فلم تعد تتجرأ أسماء على الإلحاح فقنعت بما وقع مخافة أن يقع ما هو شر منه، فالتفتت إلى فرسها فإذا بالغلام يقوده وراءها فتهيأت للركوب، وبعث محمد فاستقدم فرسه. وركب الاثنان ومحمد ينظر إليها وهي تركب لعله يرى بعض ثيابها تحت العباءة في أثناء الركوب، فلمح من ثوبها شيئًا أحمر اللون يشبه ثياب النساء، ولكنه ما زال مستبعدًا مثل هذه الجرأة من امرأة. وسار الاثنان يلتمسان قباء لا يكلم أحدهما الآخر، ولكن محمدًا كان شديد الميل إلى معرفة حقيقة رفيقه بعدما اشتبه فيه من أمره، فخرجا من المدينة والظلام حالك. وبعد هنيهة أشرفا على قباء، فلما أطلت أسماء على خيمة أمها عرفتها من النار المضيئة خارجها، فخفق قلبها مخافة أن يكون قد وقع في أثناء غيابها ما يوجب حزنًا، فهمزت الجواد فطار بها حتى سبق جواد محمد بثباتها على متنه. ولم يدركا الخيمة حتى خرجت امرأة خادم الجامع لاستقبالهما، فترجلت أسماء عند باب الخيمة وترجل محمد، ثم دخلت وهي تحل عقالها وتنزع العباءة عن كتفيها ودنت من سرير أمها، فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها ونظرت إلى أسماء بلهفة وعيناها تنظران إلى باب الخيمة كأنها كانت تتوقع دخول أحد، وقالت: «أين علي؟» فخافت أسماء إذا أخبرتها الحقيقة أن تحدث لها حدثًا فيزيد مرضها، فقالت لها: «إنه آتٍ يا أماه.» واغرورقت عيناها بالدموع. وذهب محمد في أثر أسماء يتفرس فيها على نور المصباح فلما نزعت عقالها رأى شعرها من الوراء طويلًا مسترسلًا، ثم نزعت العباءة فبان رداؤها الأرجواني اللامع وهو عبارة عن قفطان من الديباج عليه منطقة من جلد عريضة تعودت لبسها في السفر فتحقق أنها فتاة، فشعر بإعجاب غريب. ولم يبقَ بعد ذلك إلا أن ينظر إلى وجهها، فأسرع في أثرها حتى دنا من السرير فاعترضه منظر والدتها، وحالما وقع نظره عليها هاله نحولها وفرط سقمها وامتقاع لونها وشخوص عينيها، ولكنه التفت إلى أسماء فإذا فيها فضلًا عن الجمال هيبة وجلال كأنما هي ملكة وجبار معًا، فلم يتمالك عن الإعجاب بها والانعطاف إليها وأحس بإحساس غريب نحوها. ••• أما هي فقد كانت في شاغل عن حاله بما هي فيه من القلق على أمها، وكانت قد اطمأنت قليلًا لما رأتها منتبهة وقد ندمت على عودتها بغير علي، ولكنها أيقنت أن مجيئه لم يكن ممكنًا والناس في انتظاره عند منزله على تلك الصورة. ثم حولت وجهها نحو محمد وعيناها شاخصتان إليه لا تتحركان إلا تكلفًا فلم تتفرس فيه إلا قليلًا حتى تساقطت دموعها على خديها. فلما رآها محمد تبكي انفطر قلبه، فخاطب المريضة قائلًا: «كيف أنت يا خالة؟» فقالت: «ابن أبي بكر؟» فلما سمع قولها اقشعر جسمه، وابتدرها قائلًا: «أجل إني هو، ماذا تأمرين؟» قالت: «أين هو علي؟» قال: «قد بعثني لأنوب عنه لأنه في شاغل مهم، فَأْمُري بما تريدين.» قالت: «لا أريد أحدًا غير علي، أدركوني به. لا أريد أحدًا سواه.» قالت ذلك وظهر الكدر في وجهها. فعجبت أسماء لما سمعت أمها تقول «ابن أبي بكر»، وشعرت عندما سمعت اسمه من فمها بارتياح إليه، ولكنها تململت لإصرارها على استقدام علي فقالت لها: «ألا تزالين تطلبين عليًّا؟» قالت: «نعم لا أزال أطلبه، أدركوني به فإن في نفسي سرًّا لا أبوح به إلا له، أدركوني به قبل انقضاء أجلي.» فنظرت أسماء إلى محمد نظرة استحثاث أثرت فيه تأثيرًا غريبًا، وشعر كأن نظرها اخترق صدره حتى وقعت سهامه في قلبه فنهض للحال وقال لأسماء: «إذا لم يكن بدٌّ من استقدام علي فإني ذاهب لاستقدامه.» وخرج فامتطى جواده وهمزه نحو المدينة وعزم على ألا يعود إلا بعلي. وخرجت أسماء تنظره فسمعت وقع أقدام جواده يخترق السهل، وتذكرت يزيد فبحثت عنه فإذا هو نائم في خيمة أخرى لا يبالي شيئًا فلم تكترث له. وعادت إلى سرير والدتها وقلبها يخفق خوفًا عليها، فإذا هي قد غيرت وضعها فتحولت إلى جنبها الآخر وأطبقت أجفانها بعض الإطباق أو هي أرختها، وعيناها مفتوحتان على كيفية لم تعهدها فيها من قبل، ورأت حدقتيها قد جمدتا وشخصتا فخافت من منظرها ونادت العجوز وكانت قد خرجت لحاجة فقالت لها: «ما بال أمي قد غيرت وضعها؟ وما لي أرى عينيها شاخصتين جامدتين؟!» فبُغِتت العجوز وقد أيقنت أن المريضة في حالة النزع وبخاصة حين رأت كتفها يختلج وتنفسها يسرع، فامتُقِع لون العجوز وظهر الخوف عليها، فأدركت أسماء خوفها فصاحت بها: «ما بالك خائفة، لعل أمي في خطر؟!» فقالت: «عسى ألا يكون خطرٌ يا ابنتي، والاتكال على الله.» وخرجت مسرعة. فاضطربت الفتاة وأمسكت بيد والدتها فجستها فإذا هي باردة جافة، ونظرت إلى عينيها وقد غارتا في تجويفهما وذهب لمعانهما، فارتعدت فرائصها وخافت خوفًا شديدًا وأسرعت إلى باب الخيمة لتستقدم العجوز. وفيما هي تتحول شهقت أمها شهقة عنيفة، فأجفلت وعادت إلى السرير وهي تحسبها تتكلم فانحنت عليها وقبلتها في جبينها فإذا هو بارد جاف، فاقشعر جسمها وازداد خفقان قلبها واصطكت ركبتاها، ولم تكن رأت ميتًا قبل ذلك الحين، فنادت العجوز فأتت، فجعلت أسماء تنظر إليها وتتبين عواطفها فرأتها في وجل فازداد خوفها. فأعادت النظر إلى وجه والدتها فإذا هي فاتحة فاها وقد برز فكَّاها واتسع شدقها وسكن اختلاج صدرها وبرز أنفها واستطال واصفر لونها، فنظرت أسماء إلى العجوز فرأتها قد خرجت من الخيمة فتبعتها فإذا هي تنادي يزيد وصوتها مختنق، فتحققت وقوع القدر. فعادت إلى السرير وصاحت: «أماه! أماه!» ولا من مجيب، فدقت يدًا بيدٍ ولطمت فإذا بالعجوز عائدة وهي تلطم وتقول: «حلي شعرك يا ابنتي إن أمك ماتت! وا حسرتاه!» فحلت أسماء شعرها وأخذت تصيح وتلطم وجاءتها العجوز برماد لطخت به رأسها، وكان يزيد قد أفاق فجاء وأخذوا في العويل والنوح، فتجمع أهل القرية على صياحهم وعلا البكاء. ولم يفعل أحد منهم فعل أسماء فإنها كادت تقتل نفسها لفرط البكاء والندب واللطم، وعبثًا كانوا يخففون عنها فكم ألقت نفسها فوق والدتها وتوسدت جثتها وأخذت في تقبيلها وهي تقول: «لمن تركتني يا أماه؟! ولمن أشكو همي بعدك؟! ومن يخبر عليًّا عن السر؟! ومن يحمينا من غدر الخائنين؟! آه من الزمان! لعل أجلك قد ساقنا إلى هذه الصحراء لتُدفَني فيها، ما النفع من بقائي بعدك وقد أصبحت وحيدة يتيمة لا سند لي ولا معين؟!» وأما يزيد فكان يتظاهر بالبكاء ولا تُذْرَف له دمعة. وفيما هم في ذلك سمعتهم أسماء يقولون: «جاء علي»، فصاحت صيحة ارتج لها المكان وقالت: «لقد أبطأت يا أبا الحسن، إن أمي ماتت ومات سرها معها!» ثم نظرت إلى أمها وكانوا قد غطوها بالملاءة وقالت لها: «قومي يا أماه احسري نقابك فقد جاء علي، قومي إليه وأطلعيه على سرك، وقومي وأشفقي على ابنتك!» أما علي فترجَّل وقد شغله أمر الفتاة عن الالتفات إلى الميتة، وكانت أسماء قد توردت وجنتاها وذبلت عيناها وتكسرت أهدابهما لمَا انسكب منهما من الدموع. ومما زادها هيبة ووقارًا استرسال شعرها الأسود على ظهرها وصدرها وحول كتفيها وقد غطى معظم وجهها، ناهيك بانكسارها وذلها من الحزن واليأس فإنهما يزيدان الجمال جاذبية. وكان أكثر الناس تأثرًا من منظرها محمد بن أبي بكر، فإنه لم يتمالك نفسه عن البكاء لما لقيه من الفشل في مهمته، وقد أنهك جواده سوقًا واستحث عليًّا على القدوم رغم ما كان فيه من المشاغل ووعده بالاطلاع على سر عظيم، وظن نفسه قد عاد ظافرًا فرأى الفشل ينتظره. وحالما وقع نظر علي على أسماء شعر بانعطاف نحوها وتوسم في طلعتها ملامح ارتاح إلى التفرس فيها، فحمل ذلك الانعطاف على محمل الشفقة لما رآه من تعاسة تلك الفتاة، وندم ندمًا شديدًا لتقاعده عن المجيء معها وأحس بأن عليه مواساتها جهد طاقته، فوقف وقفة معتبر لمصير الإنسان ثم أجال بصره في الناس وهم سكوت يسمعون وقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن بصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته. انظروا إلى هذا الميت فقد قُبِض بصره كما قُبِض سمعه وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله لا يسعد باكيًا ولا يجيب داعيًا. اعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قضى قبلكم ممن كانوا أطول أعمارًا وأبعد آثارًا، فأصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وديارهم خالية وآثارهم فانية، وأقاموا بمنازل شِيدَت بالتراب، أهلها لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى؟!» وكان علي يتكلم والدموع تتساقط من عينيه هادئة تنحدر على لحيته، فأُعجِب محمد لما آنسه من ذلك البطل من الحنان، وأشد الحزن ما يبكي الرجال. أخذ علي يخفف عن أسماء وكانت جالسة الأُرْبُعاء فاقترب منها وأمسك بيدها وقال لها: «اصبري يا بنيتي، إن الحزن والبكاء لا يجديان، إن أمك قد سبقتنا إلى دار اللقاء الأخير. وأما ما تذكرينه من اليتم فلا تخافيه لأن الله كفيل باليتامى، واتخذيني لك أبًا وألقي همك بعد الله عليَّ، واصبري إن الله مع الصابرين.» فنهضت أسماء وقد سقط منديلها من يدها، فمسحت دموعها بكمها المسترسل من معصمها فعلقت أزراره بشعرها فانحسر بعضه عن وجهها فأطرقت خجلًا، وأجابت عليًّا وصوتها مختنق وقالت: «شكرًا لك يا رجل المسلمين ووصي خاتم النبيين على مواساتك، وسمعًا وطاعة في مرضاتك. وإن أمي هذه (قالت ذلك وأشارت إليها وقد خنقتها العبرات) فاضت روحها وهي تذكر عليًّا وتناديه وفي صدرها سرٌّ أبت أن تبوح به إلا له، فها قد ذهب سرها معها ويا ليتها باحت به، أو ليتني ألححت عليك بالقدوم! ولكن ما الحيلة وقد قُضِي الأمر؟!» قالت ذلك وعادت إلى البكاء متهيبة مجلس علي. أما محمد بن أبي بكر فلا تسل عما خالج قلبه، وما أحس به من الميل الشديد إلى أسماء، حتى شعر بأن المصيبة واقعة عليه، ولم يدر كيف يعزيها أو يخفف عنها، وتمنى لو بقي معها لمواساتها إلى ساعة الدفن. وإذا بعلي يناديه فلباه، وقال له علي بعد أن انتحى به ناحية: «لا أرى ثَمَّ ما يدعو إلى بقائي هنا وقد ماتت حاملة السر»، فقال: «أجل يا عماه، إنك مشغول بأمر الخليفة. وقد أسفت على مجيئك بلا فائدة»، فقال علي: «إني إذن ذاهب. وأوصيك بأهل هذه الميتة خيرًا، وانظر فيما يحتاجون إليه، فإذا تم الغسل والدفن فأوصل الفتاة وأباها ومن معها إلى مقرهم، وإذا رأيتهم في حاجة إلى الإنفاق فادفع إليهم ما يحتاجون إليه. على أني لا أرى أبا الفتاة حزينًا إلا بالانقياد!» فقال محمد: «سر في حراسة الله! إني فاعل كل ما تأمرني به، ولكنني آسف لضياع السر فإنه لا يخلو من أمر»، فقال علي: «إني أفكر في ذلك ولا أرى بابًا لحله.» ثم التفت إلى يزيد وناداه، فجاء ووقف بين يديه وهو لا يستطيع النظر إليه إلا خلسة، فلما رأى عليٌّ مسارقته النظر ورفرفة أجفانه وتردد بصره كأنه يرى ما يبهره تحقق أن الرجل مُراءٍ يضمر غير ما يظهر، لأن من سلمت سريرته وأخلص نيته كان بصره ثابتًا صافيًا مثل قلبه، وأما المرائي المخاتل فلا يستطيع تثبيت نظره في مخاطبه كأنه يفكر في حيلة يخترعها. ونظر عليٌّ إلى يزيد فعرف أنه أموي فقال له: «اصبر يا أخا أمية، إنك بُلِيت بما يُبلَى به كل ابن أنثى ولا حيلة إلا الصبر.» فتظاهر يزيد بالبكاء، فقال علي: «لقد أوصيت بكم محمدًا ليتولى قضاء حوائجكم ويواسيكم، وإذا نزلتم المدينة نزلتم في حمانا.» فشكر يزيد وأثنى وهمَّ بتقبيل يده. ثم تقدم علي إلى أسماء وهي تبكي فعزاها وقال لها: «إن محمدًا باقٍ لمواساتكم»، فأجهشت ولسان حالها يشكره. فخرج علي وهو يقول لمحمد: «إني لأعجب مما بين هذه الفتاة وأبيها من البون الشاسع فكأنها ليست ابنته!» ثم امتطى جواده وودع وسار قاصدًا المدينة. أما محمد فأمر خادم الجامع بإحضار من تقوم بالغسل والدفن، ثم افتقد يزيد فلم يجده بين الناس فعجب لغيابه، وظنه بادئ ذي بدء قد ذهب لحاجة له، فلما طال غيابه ارتاب في أمره حتى إذا انفلق الصبح رآه بين الناس، فلم يسأله عن سبب غيابه لئلا يكون في السؤال تطفل. ثم غسلوا الميتة وصلوا عليها ودفنوها، وأسماء لا تنفك عن البكاء والنحيب. ••• فلما عادوا من الدفن اقترب محمد بن أبي بكر من يزيد وسأله عما يحتاج إليه، فبالغ هذا في الثناء والشكر، فسأله محمد: «أتريدون الذهاب إلى المدينة فتنزلوا علينا، فإن عليًّا أوصانا بكم خيرًا؟» قال: «لقد تفضلتم علينا بما لا طاقة لنا على شكره، ولا نشك في كرم مولانا أبي الحسن وحُسْن وفادته، ولكن لنا أهلًا في المدينة لا بد من النزول عليهم، نخشى إذا نزلنا على غيرهم أن يعدوا ذلك منا امتهانًا لهم، ولكننا في حمى أبي الحسن أنى ذهبنا.» فعجب محمد لما آنسه من تلطفه، وكاد يحسن ظنه به فسأله: «وأين يقيم أهلكم يا عم؟» قال: «يقيمون بقرب الزوراء سوق المدينة.» وكانت أسماء أثناء الحديث جالسة تسمع ما يقولان وهي مطرقة حزنًا وانكسارًا وقد غطت رأسها بخمار أسود زادها هيبة وجمالًا، فلما ذكر أبوها محل إقامته قال محمد وهو ينظر إلى أسماء: «إذن عسى ألا تنسونا، ومهما يعنُّ لكم من الأمور فإني رهن إشارتكم لأن عليًّا حفظه الله أوصاني بكم خيرًا.» وتطلع إلى أسماء فرأى الدمع يقطر من بين أهدابها وينحدر وهي مطرقة، فازداد عطفًا عليها وحنوًّا. قال يزيد: «إننا أبدًا عبيد إحسانكم، فإذا أصابنا شر لجأنا إليكم ذاكرين حسن صنيعكم العمر كله.» فقال محمد: «ألا تحتاجون إلى دواب تحمل أمتعتكم؟» قال: «إن دوابنا ما زالت عندنا، وقد بعث إلينا أقرباؤنا خدمًا يساعدوننا في الحمل والنقل.» ثم نهض محمد فنهض يزيد وأسماء لتوديعه، وتذكرت أسماء أن أمها عرفته وذكرت اسمه على فراش الموت، فنظرت إليه والدمع يتلألأ في عينيها وقد ذبلتا وتكسرت أهدابهما وتنهدت ولم تجب، فحياها وتحول إلى جواده فركب وعاد إلى المدينة وقد علق ذهنه بأسماء واشتغل قلبه بها. أما ما ظهر في حديث يزيد من الرقة فقد اصطنعه تنفيذًا لتعاليم مروان، وكان قد ذهب إلى المدينة خلسة ليستشير مروان فيما يصنعه إذا طُلِب إليه النزول في جوار علي، وأبدى خشيته من أن يكون هذا عقبة في سبيل زواجه من أسماء بعد أن تُوفِّيت أمها التي كانت عونًا لها على رفض هذا الزواج. وقد لقي مروان في منزل الخليفة عثمان فأنبأه بوفاة مريم، واستشاره فأوصاه أن يحتال في التخلص من محمد، وعلَّمه كيف يشكر ويعتذر بالنزول عند أقاربه. وكانت أسماء خالية الذهن من كل ذلك لسلامة نيتها واشتغالها عن الدنيا بأحزانها، ولكنها شعرت بارتياح إلى علي ومحمد وبأنهما سند عظيم لها إذا آنست من مروان أو يزيد ما لا يرضيها. ولم يكد محمد يتوارى عن قباء حتى أمر يزيد عبيدًا كان مروان قد أرسلهم لخدمته فقوضوا الخيام وحملوا الأمتعة، وسار الركب إلى المدينة بعد أن ودعت أسماء قبر أمها وأكرمت خادم الجامع وامرأته فوق ما أكرمهما به محمد فودعاها وهما يبكيان. فلما أشرفوا على المسجد تذكرت أسماء لقاءها عليًّا هناك، وما كان من اضطرابها وقلقها في الليل الغابر، وتاهت في بحار التأمل، ولم يهمها شيء من ضوضاء أهل المدينة وتجمهرهم في أسواقها. وقبل وصولهم إلى المسجد مروا بأحجار الزيت، وهي موضع صلاة الاستسقاء بقرب الزوراء، فرأوا الناس هناك جماعات متكاتفين وهم أخلاط من أهل مصر والكوفة والبصرة، وفيهم الأمراء والفرسان والعبيد والخدم على اختلاف أزيائهم، وكل حزب في شاغل وحديث وجدال. وبلغوا دارًا وراء الجامع فناؤها واسع يحيط به سور منيع، ولها باب ضخم في وسطه باب صغير، وكان الباب مغلقًا والحراس واقفون به، فعلمت أنها دار عثمان. ولم يتجاوزوها حتى وصلوا إلى باب وقفوا عنده، فترجل يزيد هناك فعلمت أنه المنزل المقصود، فترجلت وقد أنهكها التعب والنعاس لما قاسته من المجاهدة والبكاء والحزن. ولكنها لم تكد تدخل المنزل حتى لقيها مروان، فلما رأته استعاذت بالله وندمت على مجيئها، على أنها لم ترَ بدًّا من النزول مع يزيد. فلما رآها مروان وقد تسربلت بالثوب الأسود وبدا تحته وجهها وقد زاده انكسار الحزن جمالًا وإشراقًا، ازداد تعلقه بها فتقدم نحوها مسلِّمًا ومعزيًا، فردت عليه ردًّا فاترًا، أما هو فبالغ في إكرامها وسار في خدمتها إلى داخل الدار، وكان بعض نساء المنزل قد جئن لاستقبالها فدخلن بها حجرة ويزيد معها، وهي لا تنطق بكلمة وإذا كلمها أحد لم يكن جوابها إلا البكاء. ولما خلت إلى يزيد سألته عن أهل ذلك المنزل فقال: «هؤلاء آل حزم.» ورأى مروان من الحكمة أن يتركها لتستريح فخرج يتدبر وسيلة لاسترضائها بالحسنى، فخطر له أن يوسط بينه وبينها نائلة بنت الفرافصة زوجة الخليفة، وكانت نائلة ذات مقام رفيع لزواجها بالخليفة، على أنها لم تكن من قريش بل قحطانية من بني كلب، وكان والدها من الفرافصة نصرانيًّا يقيم بالكوفة. وكانت عاقلة حسنة الخلق، ولم تكن ترتاح إلى مروان لنزقه وطيشه، وكثيرًا ما كانت تخالفه فيما يشير به على عثمان زوجها حتى انتهرته مرارًا ونصحت لزوجها بألا يصغي إليه، ولكنها لم تكن تبالغ في جفائه احترامًا لقرابته منه. فسار مروان إليها وكان في اضطراب عظيم لما أحاط بزوجها من الأخطار، فلما رأته قالت: «ما وراءك يا مروان؟» قال: «ما ورائي إلا الخير يا خالة، إني أراك في وجل من أمر هؤلاء الناس الذين يحاولون نزع الخلافة من أيدينا، ورأس ذي النورين عثمان إنهم لن ينالوا ذلك! فقد كتبنا إلى معاوية في الشام، وإلى عامر ورؤساء الأجناد من بني أمية نستقدمهم إلى نجدتنا، فإذا جاءوا لم يستطع المصريون أو الكوفيون أو البصريون مناوأتهم، فيتفرقوا أيدي سبا.» فتنهدت نائلة وقالت: «لا أظنهم يصلون إلينا يا مروان إلا بعد أن تنفد الحيلة، والتبعة كلها عليك فإنك وسعت الخرق بطيشك.» فضحك مروان وقال: «سوف ترين بعينك يا خالة مساعي مروان، وسوف تعلمين مدى فشل هؤلاء الأعداء المغرورين. فلا تجزعي ولا تخافي، إننا نحن الفائزون بإذن الله.» قالت: «دعنا من الهزل يا مروان، إن الأمر جلل.» قال: «بل هو أهون مما تظنين، وما أنا حاسب له حسابًا، ومما يدلل على ذلك أني بسبيل البناء بعروس جميلة جئت بها إلى هذا المكان.» قالت: «وأية عروس؟» قال «أسماء بنت يزيد الأموية، إنها على جانب عظيم من الجمال وقد كانت في دمشق، وكانت أمها راغبة عن تزويجها وقد ماتت في قباء. وجئت بالعروس وأبيها اليوم وأنزلتهما في دار بني حزم، وهي الآن نائمة تستريح من وعثاء السفر، فأرجو منك إذا جاءتك غدًا أن تقنعيها بأني كفء لها.» فقالت: «أين نحن من الزواج يا غلام؟» قال: «لا تقولي يا غلام وأنا شاب بطل كما تعلمين! وأستحلفك برأس أمير المؤمنين أن تسترضيها، وهي لا شك ستقتنع بكلامك، فإذا فعلت ذلك فديتك وفديت عمي الخليفة بروحي.» فسكتت نائلة وهي تعجب لنزق مروان، ولكن استخفافه بمناهضي الخليفة طمأنها وبرَّد قلبها. وما زال مروان بها حتى وعدته باسترضاء أسماء. فتركها وخرج إلى يزيد فأخبره بما عزم عليه، ففرح وقال: «حسنًا فعلت، وأرى أن آتي بها أنا إلى نائلة فيكون ذلك أقرب إلى نجاحنا.» فقال مروان: «وهب أنها لم تقنع باسترضاء نائلة لها، فإني أحمل الخليفة على تزويجي بها قسرًا، وما أنا براجع عن عزمي فإنها فتاة تعرف ما ينفعها وما ينفع أباها.» وقد أراد مروان بذلك أن يؤكد آمال يزيد بمنصب يناله بواسطة تلك المصاهرة. فأبرقت أسرة يزيد وقال: «طب نفسًا يا بني، فإني لن أجعلها إلا ما أريد.» فودعه مروان وخرج، وباتت أسماء تلك الليلة لا تدري بما بيتاه لها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/3/
نائلة بنت الفرافصة
وفي الصباح التالي أفاقت أسماء وقد رأت أمها في الحلم فبكت بكاء مرًّا، ولم تكد تجلس بفراشها حتى دخل يزيد وهم بتقبيلها والرياء ظاهر في وجهه، فلم تطاوعها نفسها على تقبيل يده فلبثت في الفراش صامتة كئيبة لا تبدي حراكًا. فقال لها يزيد: «انهضي يا ابنتي واغسلي وجهك وهيا بنا لتحية مولاتنا نائلة زوجة أمير المؤمنين، ولا ريب أنها ستعزيك في أحزانك.» فقالت: «دعني وحدي وأغلق الباب فليس في الدنيا ما يعزيني.» قال: «انهضي يا حبيبتي فإن الحزن يضنيك ولا خير فيه، وهبي أنها لا تستطيع تعزيتك فالذهاب إليها فرض لأننا في حماها»، وما زال بها حتى أنهضها. وفيما هي تتحفز للقيام دخل رجل فاستقبله يزيد قائلًا: «أهلًا بأبي الجراح»، فبُغِتت أسماء لرؤيته فابتدرها يزيد قائلًا: «إنه مولى مولاتنا أم حبيبة وأظنه جاء في طلبك»، فقال أبو الجراح: «إن مولاتنا تدعوك إليها وقد علمت بما أصابك وبنزولك عند آل حزم، فبعثتني وجارية حبشية لنأتي بك إليها.» فعجبت أسماء لهذه الحفاوة وشكرت تلك العناية ونهضت فلبست ثوبها وسرحت شعرها وعقصته وأرسلته إلى الوراء وأرخت الخمار على رأسها وتزملت بالرداء الأسود، وخرجت والجارية معها ودخلت من باب موصل بين الدارين حتى بلغت دار عثمان، فرأت فيها ما يليق ببيوت الخلفاء من الطنافس والأستار ونحوها، ولقيت في باحتها كثيرًا من الجواري والغلمان فمشت حتى أتت حجرة نائلة. فلما سمعت نائلة وقع أقدامها تحفزت للقائها، فلما دنت أسماء تنسمت رائحة الطيب، وسمعت وسوسة أساور نائلة ودمالجها وعقودها وهي تتهيأ للوقوف، فدخلت واستقبلتها نائلة وقد أُعجِبت بجمالها وهيئتها، فهمَّت بها وضمتها إلى صدرها وهي تقول: «أهلًا بضيفتنا، أهلًا بابنتنا العزيزة.» فلما سمعت أسماء ذلك غلب عليها البكاء ولكنها تجلدت وقبلت يدها وجلست إلى جانبها، وخرجت الجارية وبقيتا في الغرفة وحدهما وأسماء لا تتكلم. فهمَّت نائلة بمداعبتها فقالت: «أهلًا بابنتنا الجديدة، ومرحبًا بها.» فشرقت أسماء بدموعها وقالت: «دعيني يا مولاتي أبكي أمًّا حنونًا فقدتها وارفقي بحالي.» فأثر هذا الكلام في نائلة تأثيرًا عظيمًا وترقرقت الدموع في عينيها وقالت: «إني شريكتك في أحزانك يا حبيبتي، أما ترضينني بدلًا من أمك؟» فأجابت: «إن في هذا أكبر تعزية لي على مصابي.» وتأوهت نائلة لتأوهها وقالت: «اصبري يا بنيتي على مصابك، فالحزن لا يجديك.» ثم أمرت بالمائدة فمُدَّ السماط فاعتذرت أسماء عن الطعام، فألحَّت نائلة عليها فتناولت منه شيئًا، ثم أخذت نائلة تحادثها في شئون شتى حتى هدأ روعها، وجعلت تتأملها وتعجب لجمالها فإذا هي لا تشبه أباها في شيء وكانت قد رأته عندما جاء معها. وكانت أسماء في أثناء ذلك مطرقة غارقة في بحار الهواجس، فقالت نائلة: «ما بالك صامتة؟ تكلمي يا أسماء واشغلي نفسك عن الحزن لعلك تتعزين.» قالت: «لا أرى شيئًا يعزيني في هذه الدنيا يا مولاتي، ولا يحلو لي الكلام، وأحمد الله لما لقيته من مواساتك فقد استأنست بك كثيرًا وشعرت بحنوك حنو الأم على ولدها.» قالت ذلك وهي تمسح دموعها وتشهق بالبكاء. فتأثرت نائلة وأبقت الحديث في شأن مروان إلى فرصة أخرى، وأحبت أن تسليها عن الحزن فدعتها لمشاهدة ما في بيتها من الأثاث، وأكثره من الطنافس والسجاد والأواني مما غنمه القواد في فتح الشام والعراق من قصور الملوك والبطارقة وأغنياء الروم والفرس، وفيها أسلحة مرصعة وأعلام ودروع وآنية من الفضة والذهب من غنائم المدائن عاصمة الفرس على عهد عمر بن الخطاب، وبينها تاج كسرى مرصع بالجواهر، وثيابه ووشاحه وكلها من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجواهر، ودرع هرقل، ودرع خاقان ملك الترك، ودرع داهر ملك الهند، ودرع النعمان بن المنذر، وكثير من الأسياف المرصعة، وأدركت أسماء من تكومها بعضها على بعض بلا تنظيم أنها لم تُوضَع لأجل الزينة. ثم خرجت نائلة بها إلى غرفة صغيرة رأت فيها أريكة وعليها جواد من ذهب فوقه سرج من فضة، وعلى ثغره ولبَّاته الياقوت والزمرد وعلى الجواد فارس من فضة مكلل بالجواهر. وبالقرب من الجواد ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت وعليها رجل من ذهب. فانبهرت أسماء لتلك التحف التي لم ترَ مثلها ولكنها علمت لأول وهلة أنها ليست من صنع بلاد العرب. فقالت: «ومن أين هذه التحف يا سيدتي؟» قالت: «إنها من غنائم المسلمين مما فتحوه من بلاد الفرس، وهي من متاع بيت المال وإنما نقلناها إلى هنا لأمر اقتضى ذلك وسنعيدها إليه، فأحببت أن أريكِها لأنها من أبدع ما صُنِع ولا نظن الزمان يأتي بمثلها.» فقالت أسماء: «لقد عرفت فائدة التيجان والسيوف والدروع، ولكنني لم أفهم فائدة هذا الجواد والناقة؟» قالت نائلة: «أخبرني بعض من شهد فتح المدائن من أمرائنا أنهم لما فتحوها ودخلوا إيوان كسرى رأوا في صدر الإيوان الأريكة التي كان تاج هذا الملك قائمًا فوقها، وعلموا أنه كان مركَّزًا على أسطوانتين من المرمر المذهَّب وعلى قمة إحدى الأسطوانتين هذا الجواد وراكبه، وعلى قمة الأسطوانة الأخرى هذه الناقة وراكبها، وكان الفرس قد نزعوا هذه وحاولوا الفرار بها فظفر بهم المسلمون وأخذوها منهم.» فأُعجِبت أسماء بما رأت إعجابًا عظيمًا، وبينما هي تنظر إلى صحن الدار لمحت مروان مارًّا فأجفلت وانقبضت نفسها وأرادت أن تعود إلى حجرتها متظاهرة بالحاجة إلى الراحة، فودعت نائلة ورجعت فدخلت الغرفة وأغلقت الباب وتوسدت الفراش وغرقت في بحار الهواجس. أما مروان فكان قد علم بمجيء أسماء إلى نائلة، فأراد أن يعلم ما جرى بينهما فجاء متظاهرًا بالرغبة في لقاء الخليفة ثم تحول إلى غرفة نائلة فرآها وحدها، فسألها عما جرى فأخبرته أنها لم تفاتحها في شيء وأنها ستذهب إليها في الغد وترى ما يكون، فألح عليها أن تستطلع ضميرها وتقنعها، فوعدته بأنها ستدعوها في الغد إلى الإقامة عندها. ••• وفي صباح اليوم التالي بكَّرت نائلة إلى غرفة أسماء، فوجدت الباب مغلقًا ففتحته بلا استئذان، فرأت أسماء نائمة وقد أغمضت جفنيها وتوسدت إحدى ذراعيها، وجعلت الأخرى فوق رأسها فانحسر كمها عنها فبان زندها وبانت عروقه مخضرة كأنها خطوط متعرجة رسمها الجمال تحت تلك البشرة الناعمة الغضة، ونمت على كل زند عضلاته واستدارت حتى يخيل إلى ناظره أن الصحة تتدفق منه. وكانت الشمس قد أشرقت فأرسلت أشعتها من نافذة فوق رأس أسماء، فمرت الأشعة حتى اجتازتها ولم تقع عليها، ولكنها جعلت لزندها ظلًّا خفيفًا وقع على محيَّاها فأخفى ظل أهدابها الطويلة. فوقفت نائلة تتأمل ذلك الجمال المحلَّى بالصحة وهي تحاذر أن توقظها، فلمحت على معصمها وشمًا على شكل الصليب فاستغربت ذلك لعلمها أنها مسلمة ولا يتخذ ذلك الوشم غير المسيحيين، فتأملت فيه فإذا هو رسم صليب لا ريب فيه، ثم دنت من رأسها فرأت العرق قد كلل جبينها وزادها بهاءً وجمالًا. وكأن أسماء أحست بوقوف نائلة إلى جانبها، فغيرت وضعها ورفعت يدها عن جبينها واستلقت على ظهرها فانشقَّ صدر ثوبها، فبان من تحته قلادة من فضة تدلَّت منها تميمة صغيرة عليها رسوم مسيحية أيضًا، فازداد تعجب نائلة واشتد ميلها إلى استطلاع السر. وبينما هي في ذلك إذ رفعت أسماء يدها إلى عينيها فمسحتهما فرأت نائلة واقفة عند رأسها، فخجلت لنومها بين يديها ونهضت بعد أن أرسلت كمها فوق معصمها وأطبقت صدرها، فحيتها نائلة فردت التحية وهي تمسح عرقها وتهم بالوقوف، فأقعدتها وقالت: «استريحي يا ابنتي، إني لا أريد إزعاجك ولم آتِ إلا التماسًا لراحتك.» فأثنت أسماء على معروفها ودعتها إلى الجلوس، فجلست نائلة على جانب السرير وهي ممسكة يد أسماء تنظر إلى رسم الصليب فيها ثم قالت: «لقد استغربت هذا الرسم على معصمك وعهدي بك مسلمة، فهل رسمته على سبيل الزينة؟» قالت: «لا أعلم، ولا أذكر يوم وشمه لأني كنت طفلة، وقد سألت أمي عنه فلم تجبني.» قالت: «وما هذه التميمة التي في عنقك؟» فمدت أسماء يدها إلى التميمة فأخرجتها من بين ثوبها وقالت: «لا أدري من ألبسني هذه أيضًا»، قالت نائلة: «ولكنها تميمة مسيحية.» قالت: «لعلها كذلك، وقد لبستها طوعًا لأمر أمي فقد أوصتني أن أحتفظ بها منذ طفولتي.» فلم تعرف نائلة شيئًا، وازدادت رغبتها في البحث فقالت: «ألا أخبرتني يا أسماء كيف وصلت إليك هذه التميمة، وكيف رُسِم على يدك هذا الصليب! أخبريني ولا تخافي فإن النصارى أهل ذمة عندنا، ثم إني وُلِدت في بيت مسيحي أنا أيضًا وكان والدي نصرانيًّا، فأخبريني أمرك وأنا أعلم أن أباك يزيد مسلم أموي.» فتذكرت أسماء أمها وكتمانها اسم أبيها الحقيقي فتنهدت وصمتت، فعجبت نائلة لسكوتها وتسترها وقالت لها: «ما بالك صامتة؟! بوحي لي بسرك ولا تخافي فإنك بمنزلة ابنتي عندي.» قالت أسماء: «بماذا أبوح وأنا لا أعلم من هذا السر شيئًا؟ وأعترف أني كنت منذ حداثتي أرى هذا الصليب وهذه التميمة ولا أعلم من أمرهما شيئًا.» قالت: «كيف يكون ذلك؟» قالت أسماء: «هذا هو الواقع يا مولاتي، ولا أعلم من أمرهما و…» وصمتت. فقالت نائلة: «قولي يا أسماء ولا تخفي سرك عليَّ.» قالت: «ماذا أقول وأنا لا أعرف شيئًا غير ما ذكرت؟» قالت: «يظهر لي من ترددك أنك تخفين شيئًا آخر.» فتنهدت أسماء تنهدًا عميقًا ونظرت إلى نائلة والدموع ملء عينيها، وحاولت الكلام فخنقتها العبرات فسكتت. فضمتها نائلة إلى صدرها وقبلتها وهي تزداد إعجابًا بإشراق طلعتها وقالت: «قولي يا بنيتي، قولي ما في نفسك وثقي أني حافظة سرك عن كل إنسان.» فمسحت أسماء دموعها، وتنفست الصعداء وقالت: «ماذا أقول لك يا خالة؟ إن سؤالك جدَّد أحزاني وأذكرني أمي المسكينة!» قالت ذلك وعادت إلى البكاء. فمسحت نائلة دموعها وقالت: «رحم الله تلك الأم الحنون! فإنها قد خلَّفت لنا ملاكًا كريمًا. قولي ما هو سرك.» قالت: «إن سري يا سيدتي قد ذهب إلى القبر مع أمي.» قالت ذلك وأوغلت في البكاء. فقالت نائلة: «هل كانت أمك تخفي السر عليك وماتت قبل أن تبوح به؟» قالت: «نعم، ماتت وخلَّفت لنا حرقة فراقها، وزادت تلك الحرقة لوعة بكتمانها سرًّا ذهب معها إلى القبر، ولكنها …» قالت: «ولكنها ماذا؟» قالت: «ولكنها أخبرتني أن يزيد الذي يزعم أنه أبي ليس هو كذلك في الحقيقة.» فبُغِتت نائلة، وتذكرت أنها حدست ذلك مذ رأته فقالت: «لقد شككت فيه، فأخبريني عما تعلمينه من تاريخ حياتك لعلي أستنتج شيئًا.» فقالت: «لقد رُبِّيتُ في دمشق الشام منذ طفولتي، وقد كفلتني أمي المسكينة وزوجها يزيد هذا معها، وكنت أظنه أبي ثم علمت أنها تزوجته في مصر على أثر قدوم عمرو بن العاص إليها، وكان يزيد في جنده يوم الفتح، فكانت أمي نصيبه من الغنيمة، وكنت أنا يومئذٍ في العام الأول من عمري. هذا كل ما أعلمه، وقد ألححت على والدتي أن تصدقني الخبر فوعدتني ثم سبقها أجلها.» فبُهِتت نائلة وظلت صامتة برهة تفكر وأُغلِق الأمر عليها. وفيما هما في ذلك إذ سمعتا وقع أقدام مسرعة أمام الباب، فالتفتتا فإذا يزيد قد دخل مسرعًا وعلى وجهه أمارات البغتة، فلما رأى نائلة تأدب في وقوفه وحياها، فقالت: «ما وراءك يا أخا أمية؟» قال وعيناه لا تستقران وأجفانهما ترف: «ما ورائي إلا الخير يا مولاتي.» قالت: «قل ما وراءك؟» قال: «خرجت في هذا الصباح في شأن لمروان، وعدت الآن فلم أستطع الدخول إلى المنزل إلا خلسة!» فنهضت نائلة وقد خفق قلبها وحدثتها نفسها بسوء كانت تتوقعه وقالت: «ما الذي منعك من الدخول؟!» قال: «عصبة تجمهروا على منزل أمير المؤمنين بخيلهم ورَجِلهم وقد علا ضجيجهم، ولا أدري ما يبيتون.» فبُغِتت نائلة وقالت: «وماذا يبغون يا يزيد؟ قل»، قال: «لا أدري يا سيدتي، ولعلهم يضمرون الشر.» فخرجت نائلة مهرولة وبدنها يترجرج لضخامة فخذيها وأسماء في أثرها وقد نسيت حزنها واشتدت عزيمتها، حتى دخلتا دار عثمان وتحولتا إلى أول حجرة تشرف على الطريق، فأطلَّتا فرأتا الناس جماعات وقد تجمهروا بأسلحتهم وخيولهم وعلا صياحهم، فاضطربت نائلة وامتُقِع لونها وأخذ الخوف منها كل مأخذ. أما أسماء فبقيت رابطة الجأش وجعلت تشجعها وتقول لها: «لا تخافي يا سيدتي، فإنهم لا يستطيعون الدنو من الدار فهي محاطة بهذا السور العالي، وإذا هم هموا بتسلقه فإننا نرميهم بالنبال والحراب.» فعجبت نائلة من شجاعة أسماء ورباطة جأشها، وكأنما سرت إليها عدواها فأمسكتها وتوجهت تقصد غرفتها. وبينما هما في صحن الدار إذ سمعتا لغطًا ورأتا هناك نفرًا من المهاجرين يهمون بالدخول إلى الدار، وحالما وقعت عينا نائلة عليهم همست في أذن أسماء كلامًا يتخلله ارتعاش وقالت: «هؤلاء كبار الصحابة قد أتوا، ولا أدري غرضهم من أمير المؤمنين!» ونظرت أسماء إليهم فرأت عليًّا بينهم فحدثتها نفسها بأن تكلمه، فجذبتها نائلة وسارت بها إلى أقرب حجرة هناك التماسًا للحجاب، وأغلقت الباب فإذا هما في حجرة بينها وبين مجلس عثمان باب مقفل، ونائلة ممسكة بيد أسماء فأحست هذه بارتعاش أناملها فقالت لها: «ما الذي أخافك يا خالتي؟» قالت نائلة بصوت متهدِّج: «أخافني مجيء هؤلاء، فإنهم قلما جاءونا إلا لتأنيب أو تهديد»، قالت: «ومن هم؟» قالت: «علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وهم وجوه الصحابة ومن الطامعين في الخلافة وكلٌّ يريدها لنفسه، وما زلنا منذ تولاها أمير المؤمنين لا يهدأ لنا بال مما يتهمونه به من الأعمال. أرأيت إلى الناس المحيطين بمنزلنا الآن؟ هؤلاء أهل الكوفة والبصرة جاءوا يطالبون الخليفة بأمور ما أنزل الله بها من سلطان.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/4/
الفتنة وأسبابها
قالت أسماء «بماذا يتهمونه؟» فدنت نائلة من أذن أسماء وهمست: «يزعمون أنه استأثر بالأمر وآثر آله بمناصب الدولة فولاهم الأعمال دون سواهم، وأنه غنم الأموال الطائلة واقتنى المماليك، وأنه يختص ذوي قرباه بالمال. هذا ما يزعمونه، وما كانوا صادقين.» فنظرت إليها أسماء كأنها تستوضحها. قالت: «وما هي الحقيقة إذن؟» قالت نائلة: «أما استئثاره بالسلطة فذلك لأنه أمير المؤمنين له الإمامة والسلطان، وأما إيثاره أقاربه فله أسوة بالرسول فقد كان يعطي قرابته، وأما إحراز الأموال والتوسع في المعيشة فإنهما من مقومات هذا المنصب. ثم إن أمير المؤمنين يطعم الناس طعام الأمراء، وأما هو فوالله لقد رأيته يأكل الخل والزيت، أتعدين من يفعل ذلك طامعًا في الدنيا؟» قالت أسماء: «إذن فلماذا هذه الفتنة؟» فتنهدت نائلة وقالت: «إنهم فعلوا ذلك حسدًا، وإني أعرف من زعماء هذه الثورة قومًا عاشوا في نعم أمير المؤمنين أعوامًا ثم وسوس لهم الشيطان. وقد أخبرني ثقة أن الذي حرضهم على ذلك رجل يهودي اسمه عبد الله بن سبأ أسلم حديثًا وأخذ يتنقل في الحجاز والبصرة ثم الكوفة والشام، يريد إضلال الناس فلم يصغوا له وأخرجوه من الشام، فأتى مصر وأقام فيها فلقي هناك آذانًا صاغية، فجعل يقول لأهل مصر: «العجب ممن يصدِّق أن عيسى يرجع، ويكذِّب أن محمدًا يرجع!» فوضع لهم بدعة يسمونها «الرجعة» فقبلوا ذلك منه. وقال لهم: «كان لكل نبي وصي، وإن عليًّا وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله؟» وزعم أن أمير المؤمنين عثمان وثب على وصي الرسول وأخذ الخلافة بغير الحق فقال لهم: «انهضوا بهذا الأمير، ابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس.» وبث دعاته، وكاتب أشياعه في الأمصار وكاتبوه، وبثوا دعوتهم في الخفاء وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبًا يضعون فيها من أقدار ولاتهم، وتوسعوا في دعايتهم فبدأ الفساد من ذلك الحين، فثار المسلمون في كل الأنحاء إلا أهل الشام والمدينة فإنهم ثبتوا على الولاء للخليفة. هذا هو سر الأمر يا ابنتي.» فتأثرت أسماء واقتنعت بما قالته نائلة، ومالت كل الميل إلى نصرة عثمان. ومشت الاثنتان نحو الباب المقفل بينهما وبين مجلس الخليفة، فنظرت أسماء من شقٍّ فيه فرأت عثمان جالسًا في صدر المجلس على وسادة مزركشة وقد علته البغتة وامتُقِع لونه وآثار الجدري لا تزال ظاهرة فيه، وتأملته جيدًا فرأته مشرف الأنف عظيم الأرنبة، وقد أدار نظره نحو الدار ويده اليسرى على لحيته يمشطها بأصابعه يتشاغل بها عن قلقه، وخاتم الخلافة في إحدى أصابعه، وفي يده اليمنى قضيب الخلافة، وكان قد نزع عمامته فبانت صلعته. وسمعت في بعض جوانب الغرفة رجلًا يقرأ القرآن ولم تره، ورأت بين يدي الخليفة جماعة من أمية لم تعرفهم، ثم سمعت خفق نعال عند باب المجلس وإذا بعثمان يضع العمامة على رأسه ويقف تكريمًا للقادمين، وكان أول من دخل منهم علي بن أبي طالب فحيَّا عثمان بتحية الخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» ثم دخل بعده رجل ربعة أميل إلى القصر، رحب الصدر، عريض المنكبين، إذا التفت التفت جميعًا، ضخم القدمين، حسن الوجه أبيضه، مشرب بالحمرة، كثير الشعر ليس بالغزير ولا بالخفيف وقد شاب أكثره فلم يصبغه، فحيَّا وجلس إلى جانب علي. فالتفتت أسماء إلى نائلة وسألتها عنه فقالت: «هذا طلحة بن عبيد الله.» ثم دخل في أثرهما رجل أسمر اللون خفيف اللحية معتدل العضل، فقالت أسماء: «ومن هذا؟» قالت: «الزبير بن العوام.» ولما استتب بهم المقام قالت نائلة: «اجلسي يا ابنتي لنسمع ما يدور بينهم فعساهم أن يكونوا قد جاءوا لخير.» فجلستا تنظران وتسمعان ولا يراهما أحد. بدأ عليٌّ الكلام في المجلس قائلًا لعثمان: «أتدري لأي شيء جئناك يا أمير المؤمنين؟» قال عثمان: «الله أعلم»، قال: «يعلم الله أننا جئنا نريد بك خيرًا، إنك يا أمير المؤمنين ابن عم الرسول الأعلى، وقد تزوجت باثنتين من بناته، وتلك كرامة لم يَحُزْها أحد سواك. وأنت يا أبا عبد الله من السابقين الأولين، فقد صليت إلى القبلتين، وهاجرت الهجرتين، وأنت أول من هاجر إلى الحبشة، وتوليت الكتابة للرسول، وجمعت القرآن. فأنت يا أمير المؤمنين من خير الصحابة، وقد تُوفِّي رسول الله وهو عنك راضٍ وبشرك بالجنة، فلا نرضى أن تكون الأمة ناقمة عليك ولا أن يهموا بخلعك أو قتلك، ونحن نعلم أنهم إذا فعلوا كانت الفتنة نعوذ بالله منها! فتُقسَّم الأمة وتكون العاقبة وبالًا عليها.» وكان علي يتكلم وعثمان مطرق يقلب في صفحات مصحف بين يديه، فلما أتم كلامه رفع عثمان رأسه وقال: «إني عالم بكل ذلك يا أبا الحسن. بمَ يقتلونني وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسًا بغير حق»، وما فعلت شيئًا من هذا. وإني أتقدم إليكم أن تشيروا عليَّ.» فقال علي: «نرى أن تخاطب الناس فإنهم هاجوا وأحاطوا بدارك ناقمين، فقم إليهم وعدهم خيرًا.» قال عثمان: «لقد طالما وعدتهم وأمهلتهم فلم يقنعوا.» قال علي: «وعدتهم ثم أخلفت، ولا نعد ذلك إخلافًا منك ولكنك أصغيت لابن عمك مروان، وهو غلام لا يفقه شيئًا، فإذا نحن خرجنا من بين يديك جاءك وأعظم استرضاءك المسلمين وقد فاته أن في استرضائهم قطع دابر الفتنة، فقم إليهم وكلمهم.» وكانت أسماء تسمع فراقها انصياع عثمان واستبشرت خيرًا، ولكنها لما سمعت ذكر مروان اقشعر بدنها. أما عثمان فقال: «سأقوم وأخاطبهم ولا بأس من هذا، ولكن ما الذي حملهم على هذه الثورة؟ أخبروني إن كنت مخطئًا استغفرت لذنبي وأذعنت.» فابتدره الزبير قائلًا: «يقولون إنك استأثرت بالإمارة وجعلتها لنفع أقاربك، وجمع الأموال والاستكثار من الخدم والضياع، فإنك تملك نحو مائة وخمسين ألف دينار وألف ألف درهم نقودًا، ومثلها من الضِّياع، وقد اقتنيت الخيل والإبل، وقد كان الفاروق عمر بن الخطاب يرقع ثوبه بالجلد. وهذا ابن عم الرسول يقول: يا بيضاء ويا صفراء غيِّري غيري.» فالتفت عثمان إلى الزبير وقد نشط كأنه شعر بأن الحق في جانبه وقال: «أأنت تقول ذلك يا ابن العوام؟! أتحسبون حشد الأموال ذنبًا يستوجب القتل ونحن فيه سواء؟! ألم تستكثر أنت من الأموال؟! ألا تملك خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وألف أمة ما عدا الدور والضياع؟! وهذا طلحة أيضًا فإن غلته من العراق ألف دينار في اليوم وعنده ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وهذه داره في الكوفة وتسمى الكناس، وهذا زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما من الصحابة عندهم الأموال الوافرة. لعلكم ورثتموها عن آبائكم، أم هي مال حلال لنا جميعًا غنمناها في الجهاد بنعمة الإسلام؟» ثم توجه بقوله إلى الجميع وقال: «إننا نعرف بعضنا بعضًا في الجاهلية، وقد كنا نسكن أرضًا غير ذات زرع ولا ضرع، وكان فينا أناس يأكلون العقارب والخنافس ويفاخرون بأكل وبر الإبل يموِّهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه، حتى أنارنا الله بالإسلام واجتمعت عصبية العرب على الدين وطلبنا ما كتب الله لنا من الأرض بوعد الصدق، فابتززنا ملكهم واستبحنا دنياهم. أليس ذلك مالًا حلالًا لنا؟ فكيف نستحق القتل أو الخلع عليه؟! وأما إعالتي أقاربي فقد كان رسول الله يعطي قرابته. ولكني أراكم قد غرتكم مقالة ابن سبأ.» قال ذلك وقد أخذ منه الغضب مأخذًا عظيمًا حتى رقصت لحيته. فلما سمع علي مقالته أغفل الإشارة إلى ابن سبأ لأنها تتعلق به وقد تسبب نفورًا، ولكنه قال: «يُخيَّل إليَّ يا أبا عبد الله أن سبب هذه الفتنة إنما هو ما ذكرت من استكثار المال فإنه يفرق بين الأب وابنه، وهذا ما حملني على كرهه حتى قلت: «يا صفراء ويا بيضاء، غيِّري غيري»، فها إنها قد غرتكم. ولكن ما لنا ولهذا الجدال؟! فقد جئنا نطلب حسم الخلاف وهو لا يكون إلا بأن تخطب هؤلاء الناس المحيطين بالدار، ولا آمن أن يجيء ركب آخر من الكوفة والبصرة فتقول: «يا علي، اركب إليهم»، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك.» فقال عثمان: «إني أول من اتَّعظ ولا أحب أن يُهْرَق بسببي محجَّب من الدم.» قال ذلك ونهض وهو يصلح عمامته ويمكِّن برده على كتفيه والقضيب بيده، وخرج وتبعه علي ورفاقه. قالت أسماء: «بُورِك في علي! فإن به صلاح هذه الأمة. وكم أحب أن أسمع الخليفة يتكلم!» قالت نائلة: «اتبعيني فإن في حجرتي نافذة تطل على المكان الذي يقف فيه أمير المؤمنين.» فنهضتا ولبثتا برهة ريثما خرج الناس، ثم خرجتا إلى غرفة نائلة وأطلتا من النافذة بحيث تريان وتسمعان ولا يراهما أحد. فرأتا عثمان وقد أشرف على الجموع، فلما رآه الناس علا ضجيجهم ونظروا إليه فقال وصوته يتلجلج: «أيها الناس، إني أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فمثلي من نزع وتاب. فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا فيَّ رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبدًا لأستنُّ بسنة العبيد، ولأذلنَّ ذل العبد! وما عن الله مذهب إلا إليه، فوالله لأعطينَّكم الرضا، ولأنحِّينَّ مروان وذويه ولا أحتجب عنكم!» ولم يتم كلامه حتى اختنق صوته وترقرقت الدموع في عينيه، فبكى كل من سمعه. وكذلك بكت نائلة وأسماء، وبينما هما خارجتان سمعتا وقع أقدام آتية إلى الغرفة، ثم رأتا عثمان داخلًا وقد امتُقِع لونه واضطرب. فلما رأته أسماء همَّت بالخروج حياءً فدعتها نائلة للسلام عليه، فتقدمت إليه وهي مطرقة إجلالًا وهمت بتقبيل يديه فحياها وهو يتأمل جمالها وهيبتها، ثم نظر إلى نائلة مستفهمًا فقالت: «إنها ضيفة عندي يا أمير المؤمنين، وأحمد الله على أن قدومها كان خيرًا فقد قُضِي الأمر.» فتنهد وهو يبحث عن وسادة يجلس عليها، فلما جلس دعاهما للجلوس فجلستا وهو لا يزال يتفرس في أسماء وقد استغرب لباسها الأسود، وقال: «ما لي أراها في السواد؟» قالت: «لأنها فقدت أمها بالأمس وهي قادمة من الشام، فنزلت عند جيراننا بني حزم مع أبيها.» قال: «ومن هو أبوها؟» قالت: «يزيد الذي جاءنا منذ أيام.» فنظر إليها وابتسم ابتسامًا لم يغير شيئًا من مظاهر اضطرابه وقال: «لقد جئت أهلًا ووطئت سهلًا، عزاك الله على مصابك!» فقالت أسماء: «من كان في جوار أمير المؤمنين فهذا عزاؤه.» فأعجبه جوابها وقال: «وماذا يصنع أبوك؟» قالت: «لا شيء يا مولاي.» قال: «سننظر فيما ينفعه.» ولم يتم عثمان كلامه حتى دخل مروان فجأة بلا استئذان ومعه جماعة من شباب بني أمية، فلما رأته أسماء أجفلت وانقبضت وهمت بالخروج، ولكنها استحيت فانزوت في بعض جوانب الغرفة. أما مروان فإنه دخل متقلدًا سيفه وقد أرخى رداءه تيهًا وعجبًا، حتى إذا اقترب من الخليفة جلس إلى جانبه وحياه بتحية الخلافة ثم حياه رفاقه وجلسوا، وساد السكوت حتى لاحت من مروان التفاتة إلى جانب الغرفة فرأى أسماء فسُرَّ لتقربها من نائلة، وأحب أن يظهر لها نفوذه عند الخليفة لعله ينال حظوة في عينيها، فنظر إلى عثمان وقال: «يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟» فابتدرته نائلة قائلة: «لا بل اصمت، فإنهم والله قاتلوه ومؤتمرون به، إنه قد قال مقالة لا ينبغي أن ينزع عنها.» فحملق مروان فيها وقال: «ما أنت وذلك؟! فوالله قد مات أبوك وهو لا يحسن أن يتوضأ.» فقالت: «مهلًا يا مروان عن ذكر الآباء! تخبر عن أبي وهو غائب فتكذب عليه، وإن أباك لا يستطيع أن يدافع عن نفسه. أما والله لولا أنه عمه (عم الخليفة) وأنه يناله غمه، لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه فيه!» وكانت أسماء تسمع كلامها وهي تكاد تتميز غيظًا، ولكنها احترمت المقام وخافت أن يستهجنها عثمان، فصبرت لتسمع ماذا يريد أن يقول. أما مروان فأعرض عن نائلة مخافة أن تزيده تعنيفًا، ونظر إلى عثمان فقال: «يا أمير المؤمنين، أتكلم أم أسكت؟» قال: «تكلم». فقال: «بأبي أنت وأمي، والله لوددت أن مقالتك التي قلتها اليوم على مسمعٍ من المسلمين كانت وأنت ممتنع، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها! ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطُّبْيَين وبلغ السيل الزُّبى وحين أُعطِي الخطة الذليلة الذليل. ووالله لَإقامة على خطيئة ويُستغفَر منها أجمل من توبة يُخَوَّف عليها! وأنت إن شئت تقربت بالتوبة ولما تقربت بالخطيئة، وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس يريدون أن ينزعوا ملكنا من أيدينا.» وكان عثمان يسمع مقالة مروان وهو مطرق يفكر، وأسماء تراقب حركاته وتخاف أن يصغي عثمان له فيعود الأمر إلى أعظم مما كان، فوقفت بقامة تخجل البان وقد زادها العبوس مهابة وخاطبت الخليفة قائلة: «أيأذن أمير المؤمنين لأمَته في كلمة؟» فأُعجِب بشجاعتها، وتحولت إليها أنظار الحاضرين، وقال عثمان: «قولي يا بنية.» فقالت: «إن وقوفي بين يدَي أمير المؤمنين ودخولي في شئون إمارته لتطفل جريء، وعذري أنني أقولها كلمة خالصة لوجه الله والخليفة. إني يا أمير المؤمنين أرى ما يقوله ابن عمك إيقادًا للفتنة بعد أن نامت، ومدعاة للقتال وإثارة للحرب وشرًّا مستطيرًا.» فلما سمع مروان مقالها قهقه استخفافًا ولم يجبها، ولكنه حوَّل وجهه إلى الخليفة وقال: «كأن هذه الفتاة تريد أن يسمع أمير المؤمنين لمشورة النساء، وقد قيل إنهن ناقصات العقول.» قال ذلك وأغرب في الضحك. فحمي غضب أسماء وثارت الحمية في رأسها، وقالت: «إن النساء مهما يكن نقص عقولهن لَأكمل عقلًا ممن يرى العبرة ولا يعتبر، فقد كفاك تغريرًا بأمير المؤمنين، واعلم أن الذين أشاروا عليه بما عمله إنما هم نخبة المهاجرين وخير صحاب الرسول وليسوا ناقصي العقول.» وكانت نائلة تسمع كلام أسماء وقلبها يرقص طربًا، ولكنها خافت طيش مروان وتوقعت أن يغضب، فإذا به عاد إلى الضحك وقال: «لا أقول إنهم ناقصو العقل ولكنهم يريدون إذلالنا ونزع هذا الأمر من يدنا، وليس من شأنك أن تشيري على أمير المؤمنين.» قالت: «لم أقف في حضرته إلا بإذنه، وليس لك أن ترد ما أمر به.» فحمي غضب مروان فوقف ويده على قبضة حسامه وقال: «والله إني ضاربك بحد السيف فقاطعك نصفين!» فابتسمت مستخفة، ورفعت يدها وقد انحسر بعض كمها حتى بان معصمها وقالت وهي تشير إليه بسبَّابتها تهديدًا: «لا تظنني أخاف حسامك إذا جردته، فلولا حرمة أمير المؤمنين لقتلتك بسيفك، فاردد يدك عن قبضته فما أنا ممن يخاف السيوف. ولا يغرنك أني فتاة، وإذا أردت أن تعرف من أنا فعليك بالنزال في ساحة الوغى.» فعجب الحاضرون لهذه الحماسة وبُهِتوا لما سمعوه مما لم يكونوا يتوقعونه من الفتاة، أما مروان فخجل من تأنيبها وكظم غيظه وتظاهر بالاستخفاف وعاد إلى مجلسه ضاحكًا وهو يقول: «لولا حرمة أمير المؤمنين لعلمتك معنى النزال.» قالت: «كان يجب عليك أن تحترم مجلس الخليفة قبل أن تقبض على الحسام، وما رجوعك عن قحتك إلا جبن وخزي.» فهمَّ مروان بالوقوف ثانية وقد امتُقِع لونه وارتعشت أنامله، فأمسكه عثمان وأجلسه وهو معجب بجرأة أسماء، ثم وضع يده على كتف مروان وقال له: «لم أكن أتوقع منك إطالة الجدال، وكأني بك تجرد السيف أمامي إذا تركتك وشأنك!» فخجل مروان وسكت وفي نفسه حزازة ونقمة. وأشار عثمان إلى نائلة فنهضت وأخذت بيد أسماء وخرجتا والحاضرون يتبعون أسماء بأبصارهم، ويعجبون بما سمعوه وبما ينظرون من لين قوامها واسترسال شعرها وحسن خطاها. فلما دخلتا غرفة أخرى قبَّلتها نائلة وقالت والدموع ملء عينيها: «بُورِك فيك يا أسماء! والله إنك قد شفيت غليلي من هذا الغلام. ولكنني أرى أنه سيقنع الخليفة ويحمله على الرجوع.» قالت: «فلنقف هنا لعلنا نسمع ما يدور بينهما.» ثم وقفتا فسمعتا مروان يقول له: «ما لنا ولأقوال النساء؟ إن الأمر جلل ولا أدري إذا كنتَ قد قلت ما قلته مكرهًا.» قال عثمان: «ومن يُكرِهني؟!»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/5/
أسماء ومحمد ومروان
أغلقت أسماء الباب وجلست على السرير تفكر فيما مر بها من غرائب الأحداث، فتصورت أمها وحنوَّها وتذكرت كيف كانت تشكو إليها همها في مثل تلك الحال، فغلب الحزن عليها وبكت. وفيما هي في ذلك إذ سمعت وقع أقدام أمام بابها فأجفلت وافتقدت الخنجر وتحفزت للوقوف وقد نسيت حزنها، ولبثت هنيهة فلم تسمع صوتًا. ثم سمعت نقرًا على الباب فوثبت إليه وفتحته وقد تهيأت للقاء مروان فإذا بالباب محمد بن أبي بكر، فأجفلت وغلب عليها الحياء واختلط حياؤها بإجفالها فزاد وجهها مهابة وجلالًا. أما محمد فلما رآها في تلك الحال ابتدرها قائلًا: «ما بالك يا أسماء؟! ما الذي أخافك؟!» فغالطته وحيته ولم تجبه، فرد التحية ومد يده فسلم عليها وشعر عند لمس يدها ببرد أناملها وارتعاشها، فقال: «ما بالك ترتعشين وأنت وحدك؟!» قال ذلك وهو ينظر إلى جوانب الغرفة لعله يرى أحدًا هناك فازداد تعجبًا. أما هي فتجلدت وقالت: «لا شيء يخيفني يا محمد وأنا في حمى أبي الحسن.» قال: «لقد صدقت، ولكنني أراك في اضطراب وهياج كأنك كنت تخاصمين أحدًا، أم أنت ترتعدين لقدومي على غرة؟ وأنا إنما فعلت ذلك طوعًا لعليٍّ، فإنه أرسلني لأفتقدك وأنظر في حوائجك.» قالت: «بُورِك فيه وفيك! وأشكر لكما عنايتكما بي فإني بحمد الله في خير وعافية أدعو لسيدي أبي الحسن بطول البقاء.» قالت ذلك وجلست على السرير. أما هو فودَّ لو يمكث عندها، ولكنه خاف أن تستهجن ذلك منه لخلو المكان من الناس، فقال: «وأين أبوك؟» فتنهدت وقالت: «لا أدري أين هو الآن.» فقال: «ما بالك تتنهدين يا أسماء؟! إني أراك تكتمين أمرًا.» قالت: «لا أكتم شيئًا، ولكنني …» وسكتت. قال: «ولكنك ماذا؟ قولي.» قالت: «لا أدري ماذا أقول وأنا كلما نظرت إليك ذكرت أمي التي ذكرت اسمك وهي على فراش الموت!» وترقرقت الدموع في عينيها. فلما رأى محمد دموعها انفطر قلبه شفقة وأمسك بيدها وجوارحه تختلج وقال: «رحم الله تلك الأم! فإني ما برحت منذ رأيتها وأنا في شغل شاغل لا يهدأ لي بال قلقًا عليك، وقد كان عليَّ أن أفتقدك قبل الآن ولكن الأحداث التي نحن فيها حالت بيني وبين ما أريد، فأمر هذا الخليفة قد أقضَّ مضاجعنا فلا نكاد نرتق فتقًا حتى يتفتق غيره.» وكانا يتكلمان ومحمد واقف والباب مغلق إلى نصفه، فلم يتم محمد كلامه حتى رأى مروان داخلًا وملامح الغضب تلوح على وجهه وقد حمل سيفه، فلما رآه محمد لمح الغدر في عينيه فنظر إليه شزرًا ولم يعبأ به. أما مروان فقال وقد علاه الاصفرار والبغتة: «ما الذي جاء بك إلى هذا المكان يا ابن أبي بكر؟!» فقال محمد: «ما شأنك وما أنا في بيتك؟» قال: «إنك في دار الخليفة وقد دخلت على نسائنا بلا استئذان.» فاستغرب محمد قوله ونظر إلى أسماء كأنه يستفتيها، فقالت غير هيَّابة أو وجلة: «إن مروان يتكلم متطفلًا فيما لا تناله ذراعه ولو تطاول.» فابتسم مروان ابتسام المستهزئ وقد اشتد غيظه وقال: «سلي أباك إذا كانت ذراعي تنال أم لا.» قالت: «دع ذكر الآباء وارجع من حيث أتيت، وإلا أسمعتك ما لا يرضيك.» فضحك مروان وتوكأ بيده على سيفه، وقال ويده الأخرى على شاربيه: «أراك تغررين بنفسك كأنك نسيت ما نالك بين يدَي الخليفة، ألا تعلمين أنك إذا بقيت على غرورك ندمت حيث لا ينفع الندم.» فاستغرب محمد هذا الجدال، ولكنه أدرك ما في نفس مروان فاتقدت في قلبه نار الغيرة، وعظم عليه التطاول وهمَّ به يريد ضربه، فاعترضت أسماء بينهما وقالت: «دعه يا محمد لأرى ما هو فاعل.» قالت ذلك وتقدمت إلى مروان ويدها على خنجرها كأنها تهم باستلاله وقد قطَّبت حاجبيها وحمي غضبها، حتى كاد الشرر يتطاير من عينيها. فأُخِذ محمد بشجاعتها ولم يكن يعهد مثل هذا في النساء، فأراد أن يحول بينها وبين مروان فلم تمكِّنه من ذلك. أما مروان فلما رأى ما كان من أسماء وأدرك أن محمدًا منجدها خاف العاقبة، وكان قد قبض على حسامه فرفع يده وتظاهر بالضحك ومد يده يريد أن يمسك بيد أسماء ليكلمها، فجذبت يدها وقالت: «جرِّد حسامك وأرني شجاعتك، وهذا ابن أبي بكر شاهد على ما يكون.» فقال مروان: «أأجرد حسامي على فتاة؟! أما دواؤك يا أسماء فهو عندي.» قال ذلك وخرج متغاضبًا وهو إنما خرج خائفًا كاظمًا، وعزم على الفتك بأسماء غيلة. ونظر محمد إلى أسماء وقد علت وجهها مهابة الأبطال وذهب عنها ذل الحزن والضعف، فأُعجِب بما خصها به الخالق من الهيبة والأنفة، فأمسكها بيدها وأرجعها إلى غرفتها قائلًا: «بُورِك في شهامتك يا أسماء! ولكنني أراك قد اكترثت بهذا الشاب التافه فاتركيه وشأنه.» قالت وهي تحاول تخفيف غضبها: «إني لا أبالي بشقشقته، ووالله لو أنه حمل عليَّ بمائة مثله ما حسبت لهم حسابًا!» قال: «ما لك وللإقامة هنا؟ تعالي نذهب معًا إلى منزل عليٍّ فتقيمين ضيفة مكرمة.» فقالت: «أتريد أن أفر من هذا المكان؟ كلا، لا أبرح حتى أرى ما يكون من أمر هذا الغلام الغر.» قال: «أتحسبين ذلك فرارًا؟» قالت: «نعم، دعني هنا لأرى ما يكون من أمره.» قال: «وما يهمك؟ دعيه وشأنه.» قالت: «يهمني طيشه الذي وسَّع الخرق وأغضب المسلمين على الخليفة، ولولا حماقته لقُضِي الأمر ولأمن الناس الفتنة.» فتحير محمد ولم يدرِ كيف يقنعها بالخروج وأهمَّه بقاؤها هناك غيرةً عليها، فأحب أن يستطلع العلاقة بينها وبين مروان فقال: «وما الذي جعل له هذه الدالَّة عليك؟ هل تعرفينه من قبل؟» فتنهدت وعادت إليها ذكرى مصائبها وقالت: «إننا عرفناه في الشام وقد رافقنا في سفرتنا المشئومة إلى قباء ثم دخل المدينة قبلنا، وتسبب في موت أمي قبل وصول علي.» فعجب محمد وقال: «كيف كان ذلك؟» قالت: «إن حديث ذلك طويل يحتاج إلى شرح، ولكنني أقول بالاختصار إن هذا الشاب رافقنا من الشام لأَرَب في نفسه [بقصد أن] يناله، ولولا ضعف أبي وانحيازه إليه لما استطاع المسير معنا خطوة، ولكن …» فقال: «وأي أرب؟» فلم تجب كأن الضعف والحياء قد عادا إليها فأطرقت صامتة. ففهم محمد مرادها فازداد بغضًا لمروان وغيرةً على أسماء، ولم يعد يصبر على بقائها هناك وحدها. ونظرًا إلى ما يعلمه من نفوذ مروان لدى الخليفة، خاف أن يوسطه في إقناعها أو استرضائها فتقبله على كره منها، ولما تخيل هذا أحس بنيران هبت في بدنه، وصار إلى خلع عثمان أو قتله أميل. فصمت برهة يفكر ثم قال وهو يريد أن يزيدها كرهًا واحتقارًا لمروان: «إني أعرف من أمر هذا الغلام ما لا يعرفه سواي، فقد سمعت من أختي أم المؤمنين (عائشة زوجة النبي) أن النبي لعنه وهو في صلب أبيه، فقال لأبيه الحكم بن العاص: «ويل لأمتي من صلب هذا!» فما ترجين منه بعد ذلك؟ أصغي لقولي وتعالي معي إلى منزل علي.» قالت: «ربما ذهبت إليه في فرصة أخرى.» فبُهِت محمد وهو يود أن يبثها ما خالج قلبه من حبها ويستطلع ضميرها ولكن الحياء والهيبة منعاه من ذلك، فظل برهة صامتًا وهو لا يزال واقفًا بإزاء السرير وأسماء جالسة مطرقة وقد خالج ضميرها مثل ما خالج ضميره وهي أكثر حياءً منه، فظلت صامتة تنتظر أن يفتح هو الحديث. ••• قال محمد بن أبي بكر لأسماء: «إني لا أرى عارًا في خروجك من هنا إلى منزل علي وهو الذي اقترح هذا، ولا أخفي عليك أن الهياج قد اشتد على الخليفة فهو لن ينجو من الخلع أو القتل، وبخاصة إذا ظل مصغيًا لمشورة مروان، فهيا بنا.» فهمَّت بالجواب، ولكنها لم تكد تفعل حتى سمعا سعال يزيد ثم رأياه يدخل، فبُغِت محمد ونفر من رؤيته لأنه لم يكن يحسن الظن به. أما يزيد فحالما رأى محمدًا تقدم إليه وحياه وتظاهر بالترحيب به، وسأله عن علي قائلًا: «كيف مولانا أبو الحسن؟» فقال محمد: «في خير». قال: «ألا ينوي الخروج إلى الحج فقد آن أوانه وأرى الناس يتأهبون له؟» قال: «لا أظنه يستطيع ذلك هذا العام.» فقالت أسماء: «ولماذا؟» قال محمد: «إن في خروجه من المدينة الآن والناس في هرج ومرج مجازفة، وقد دعتني شقيقتي أم المؤمنين إلى أن أذهب معها إلى الحج، ولكن ما أظنني مستطيعًا.» قالت: «ولماذا؟» فلم يجب ولكن ملامح وجهه دلت على أنه لا يريد الخروج من المدينة وأسماء في ذلك المكان على تلك الحال. فأحست أسماء أنه يحبها ويغار عليها، فسكتت مخافة أن يلحظ يزيد شيئًا من ذلك. وعاد محمد فخاطب يزيد فقال: «أرسلني إليكم مولاي أبو الحسن لأدعوكما إلى النزول عنده، تجنبًا للنزول بالقرب من دار الخليفة والناس محيطون بها.» فقال يزيد: «لا أرى علينا بأسًا هنا، وقد فُضَّ الخلاف على ما سمعت.» فابتدرته أسماء قائلة: «كيف فُضَّ الخلاف ومروان بالمرصاد؟» قال: «وما الذي فعله؟» قالت: «إنه بعد أن استرضى الخليفة الثائرين وصرفهم بالحسنى عاد فحرضه عليهم فعاد الأمر إلى ما كان عليه، وأظن محمدًا أعلم منا بما ينوون لأنه قادم من بينهم.» فهز محمد رأسه وقال: «نعم، إن مروان في صباح هذا اليوم قد وسع الخرق حتى استفحل الخطب ولم يعد تلافيه ممكنًا، وهذا ما خوَّفني عليكما لقربكما من الخطر.» قال يزيد: «وماذا ينوون؟» قال: «إذا لم ينل هؤلاء الناس ما يرجونه فقد تسوء العاقبة، كفانا الله شر الفتنة!» قال يزيد والخبث والرياء باديان على وجهه: «أراهم تعصبوا عليه وتجنَّوْا، وهم إنما جاءوه يلتمسون الدنيا وفيهم من حقد عليه لمغنم فاته أو لحديث سمعه من واشٍ مبغض … وما إلى ذلك، ويدَّعون الغيرة على الإسلام رياء الناس.» قال محمد وقد ضاق بجوابه: «كلٌّ يعرف ما نواه.» وسكت. ثم سأل: «ألا تأتيان معي إلى منزل علي؟» قال يزيد: «لا نرى ما يدعو إلى هذا الآن.» فنهض محمد وودعهما وخرج غاضبًا ناقمًا على مروان، وحدثته نفسه بأن في بقاء عثمان خليفة عونًا لمروان على نيل أسماء. أما هي فلم يكد محمد يتوارى حتى ندمت على بقائها، فإن أنَفتها منعتها من الخروج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/6/
أسماء في دار الخليفة
أصبح يزيد بعد أن رأى اختلاء محمد بن أبي بكر بابنته يخشى أن يزداد ميلها إليه إذا جاءها مرة أخرى، فيفشل مسعاه لتزويجها مروان، وفكر في حيلة تنجيه من ذلك فاعتزم أن يبغِّضه إليها وقال لها: «أرى محمدًا من الناقمين على الخليفة، فهل تعلمين سبب نقمته؟» قالت: «وما ذلك؟» قال: «علمت أنه كان طامعًا في ولاية مصر بدلًا من عبد الله بن أبي سرح أخي الخليفة بالرضاع، فلما لم يؤثره الخليفة على عبد الله نقم عليه. وعلمت أيضًا أنه كان قد ولَّاه مصر ووجَّهه إليها ثم رجع عن عزمه وأرجعه فعاد ناقمًا. وقد أشرت إلى ذلك من طرف خفي فلم يجب.» فساء أسماء ظنه في محمد، وهي تشعر بعطف وميل شديدَين إليه، ولكنها سكتت. وفكر يزيد بعد ذلك فيما يأمن به خروج أسماء إلى عليٍّ فلم يرَ خيرًا من أن يدخلها دار الخليفة، فتركها وقصد نائلة زوجة عثمان وترامى على قدميها وبكى، فلما سألته عما يبكيه قال: «يبكيني يا سيدتي ما عليه ابنتي من الحزن على فقد أمها، وأخشى إذا بقيت مقيمة وحدها أن تصاب بجنون، وكثيرًا ما أراها تهم بالخروج إلى مدفن أمها في قباء فأمنعها بالحسنى فلا تمتنع، وهي كما تعلمين فتاة صغيرة لم تخبر الدنيا.» قال ذلك وشرق بدموعه مكرًا وخداعًا. فقالت نائلة: «وماذا ترى أن نصنع؟» قال: «أرى أن تكون عندك تحت جناحك.» فسُرَّت نائلة لأنها قد أنست بأسماء وارتاحت لحديثها وأُعجِبت بشهامتها، فقالت: «لك عليَّ ذلك، فَأْتِ بها إلينا.» قال: «أخاف إذا أنا حملتها على المجيء ألا تطيعني لفرط حزنها، ولأنها أصبحت تسيء الظن بي، فإذا رأيت أن تدعيها أنت كانت أطوع لك.» قالت: «أفعل ذلك حبًّا وكرامة.» وهمت بالنهوض والمسير إليها، فابتدرها يزيد قائلًا: «وأتقدم إليك يا مولاتي برجاء ألا تأذني لها في الخروج من منزلك، لأنها قد تحتال في الخروج لغرض تدَّعيه وقصدها الذهاب إلى قباء.» قالت: «لن ترى سبيلًا إلى الخروج.» فودعها يزيد وخرج. أما أسماء فلما خلت إلى نفسها تذكرت مصائبها وتسلط يزيد الغادر عليها فأخذت في البكاء، وبينما هي تبكي إذ دخلت عليها نائلة فلما رأتها على تلك الحال تحققت قول أبيها فأخذت تقبِّلها وتعزيها، وقالت لها: «ما بالك تبكين يا أسماء؟! فقد بالغت في الحزن وقد عهدتك رابطة الجأش، ولا خير يُرجَى من الحزن.» وزادت أسماء بكاء حتى هاجت أشجان نائلة وذكرت حال زوجها والخطر المحدق به فبكت معها. فلما رأتها أسماء تبكي شكرت مشاركتها لها في مصابها وشعرت بتعزية، وقالت: «ما الذي يبكيك يا سيدتي وأنت زوج أمير المؤمنين مالك رقاب المسلمين؟» قالت نائلة: «أما شهدت بعينك ما أحاط بنا من البلاء بطيش ذلك الشاب الغر؟» فانقبضت نفس أسماء عند الإشارة إلى مروان، وتنهدت تنهدًا عميقًا ولسان حالها يقول: «إنه سبب بلائي أنا أيضًا.» ومنعها الحياء. فلما سكن روع نائلة قالت: «أنت يا أسماء نِعْمَ العزاء لي في هذه المحنة! فإذا كنت تحبينني فتعالي نقيم معًا في دارنا.» فأثنت أسماء على غيرتها، وخُيِّل إليها أن حب نائلة قد يكون عونًا لها على النجاة من مروان إذا وسَّط الخليفة في تنفيذ مأربه فقالت: «إني طوع إرادتك يا سيدتي، فإن الإقامة في حماك شرف عظيم لمثلي.» فوقفت نائلة واستنهضت أسماء فنهضت، وسارتا معًا. قضت أسماء بقية اليوم تفكر تارة في مروان وطورًا في محمد وآونة في أمرها مع يزيد، وقد ندمت لأنها لم تذهب مع محمد إلى منزل علي، ولكنها استأنست بنائلة وارتاحت لمجالستها. وكذلك كان شأن نائلة إذ اتخذت من أسماء تسلية لها في ضيقها، لما آنسته فيها من سداد الرأي وثبات الجأش وحسن الخلق، مع نفور من مروان هما مشتركتان معًا فيه، ولولا قرابته من الخليفة لقرعت له العصا وأوقفته عند حده. ولما أقبل المساء تناولتا العشاء والخدم والجواري وقوف بين أيديهما، والاضطراب بادٍ على وجوههم على غير المعتاد. فلما فرغتا من الطعام وذهبتا إلى حجرة الرقاد، نادت نائلة قيِّم الدار فسألته عما لديه من الأخبار، فقال: «إن مولاي الخليفة لم يذق طعامًا في هذا المساء وهو في اضطراب وقلق شديدين، والناس حول الدار وعند الأبواب وقد حاصرونا ومنعوا الماء عنا.» فبُغِتت نائلة وقالت: «وكيف يمنعوننا الماء قبحهم الله؟!» قال: «لقد منعوه يا سيدتي ونحن إنما نستقي الآن مما بقي في الآنية من الأمس، ولا ندري كيف نستقي إذا ظل الحصار. وهذا ما دعا أمير المؤمنين إلى القلق.» فضربت نائلة كفًّا بكف وقالت: «ويلاه! كيف يمنعون الماء عن أمير المؤمنين؟» فقالت أسماء: «لا تحزني يا خالتي، إني كفيلة بالاستقاء مهما يبالغ القوم في الحصار.» قالت نائلة: «وكيف تستطيعين ذلك؟» قالت: «يُحمَل الماء إلى بيت جيرانكم آل حزم، ونحن ننقله سرًّا إلى هذه الدار.» فاطمأنت نائلة لهذا الرأي، ولكنها بقيت تخشى عاقبة الحصار فصرفت القيِّم وجلست وهي تتنهد وتتأوه وأسماء تهون عليها. ولم تكد تجلس حتى سمعت جلبة ووقع أقدام في الدار، فنهضت مسرعة ولم تكد تفتح الباب حتى لقيها مروان وقد تزمل بعباءته وتقلد سلاحه كأنه على سفر، فلما رآها سلَّم وتقدم إليها فاستعاذت بالله من رؤيته وقالت: «ما الذي جاء بك يا مروان؟» قال: «إني ذاهب في أمر ذي بال، وقد جئت لوداعك. وهل تلك الفتاة عندك؟» قالت: «هي عندي، وما غرضك منها؟ اذهب في مهمتك.» قال: «أريد أن أراها قبل سفري.» قال ذلك ودخل الغرفة، فلما رأته أسماء أجفلت ولكنها لبثت صامتة لا تتحرك، فقال لها وهو يضحك: «ألا تزالين على رغبتك في منازلتي يا أسماء؟» قالت وهي جالسة لا تعبأ بقوله: «لو كنت رجلًا حرًّا لنازلتني لمَّا دعوتك للنزال.» قال: «لو لم أكن على سفر لأدبتك وربيتك، وإن ابن أبي بكر لا يغني عنك شيئًا.» فلما ذكر محمدًا ثارت فيها الحمية وقالت: «أراك تذكر الرجل في غيبته، فإذا حضر سكتَّ!» فأغرب في الضحك وقال: «سوف ترين وتسمعين ما تندمين عليه حين لا ينفعك الندم، ولسوف يذوق هو مرارة الحرمان من منصب طالما طمح إليه، ونقم من أجله على أمير المؤمنين وأثار المسلمين وحرض على الفتنة.» فهمَّت أسماء بأن تجيبه، فأشارت إليها نائلة أن تكف وقالت لمروان: «اذهب يا ولدي لعل في السفر راحة لنا ولك، إننا لم نرَ في إقامتك خيرًا.» فضحك مروان وظنها تمزح، وأمسك بيدها حتى تواريا عن أسماء وهمس في أذنها قائلًا: «احتفظي بها فإني عائد قريبًا للزواج بها. وإنها والله لجميلة، وأراني أحبها وأغار عليها بالرغم مني، ولا أرى في بنات قريش أجمل منها ولا أكمل منها، ولكنها لا تزال صغيرة لا تعرف مقام الرجال.» فتركته نائلة وعادت إلى الغرفة وهي تعجب لطيشه ونزقه. فلما خلت بأسماء عادت إلى بلبالها وفيما هم فيه من الحصار، فلم ترَ وسيلة لملافاة الفتنة إلا أن يتوسط عليٌّ في ذلك، ثم تذكرت ما قاله بالأمس وتحذيره زوجها من إغراء مروان فرجح عندها أنه لن ينصره، فصبرت لترى ما يأتي به الغد. أما أسماء فسُرَّت لذهاب مروان من المدينة لعلها تتمكن في أثناء غيابه من وسيلة تصلح بها ما أفسده. ••• قضت أسماء في دار عثمان ردحًا من الزمن كانت فيه نعم السلوى لنائلة، فالدار محاطة بالرجال ليلًا ونهارًا وقد منعوا الماء عنها، ولولا ما أشارت به من الاستسقاء عن طريق آل حزم لمات أهل الدار عطشًا. أما نائلة فلم تعد تستطيع صبرًا على تلك الحال، فأصبحت ذات يوم بعد أن قضت ليلتها باكية لما تراكم عليها من الهموم وما آنسته من اضطراب زوجها وقلقه وخوفه، وأخذت تفكر عسى أن ترى مخرجًا فلم ترَ خيرًا من استنجاد عليٍّ، وأسرَّت ذلك إلى أسماء واستحثَّت حميتها. فاستسهلت أسماء كل صعب في سبيل إخماد الفتنة وإنقاذ عثمان من عاقبتها، فقالت لنائلة: «إني أرى رأيًا أرجو أن ينال منك قبولًا.» قالت: «وما هو؟» قالت: «أذهب أنا إلى علي ومروان غائب وأطلعه على جلية الأمر، لعله يسعى في إخماد الفتنة وهو رجل الخير وبه صلاح هذه الأمة.» قالت: «لقد أصبت، وإنك بذلك تقلدينني جميلًا لا أنساه.» قالت: «سأذهب هذا المساء إلى علي، والله ولي الأمر.» ولما كان الغروب تزمَّلت بلباس الرجال، وتقلدت الحسام تحت العباءة، وغطت رأسها بالعقال وخرجت من دار عثمان إلى بيت بني حزم، ثم خرجت من هناك تخترق الجموع وسارت تلتمس عليًّا. وكان علي في بيته بعد صلاة المغرب، وعنده طلحة والزبير وأمراء المسلمين القادمون من الأمصار نقمة على عثمان، وكلهم يحرضون عليه الناس. ولكنها لم تجد محمدًا بن أبي بكر بينهم، وشاهدت في فناء البيت الجموع من أهل مصر والكوفة والبصرة في ضجة وغوغاء. فوقفت في جملة الواقفين ولم ينتبه لها أحد، فسمعت الأمراء يلغطون ويضجون وكلهم يقولون بقتل عثمان أو خلعه، وعلي يخفف عنهم ويؤنبهم على ما يبغون من شر ويقول: «والله يا قوم لا أرى في مقتل الخليفة إلا تعاظم الفتنة، إنكم والله ستختلفون على من يلي الخلافة بعده، فأبقوه ذلك خير لكم.» فانشرح صدر أسماء لشهامة علي وحسن دفاعه، ولم تتمالك أن دخلت وهي في ذلك اللباس ودنت من علي فنظر إليها وقد عجب لجرأتها وهو يحسبها من بعض المتحمسين، فتفرس فيها مستفهمًا والتفت الأمراء إليها فكشفت عن وجهها، فلما رآها علي عرفها فاستغرب دخولها وأنكر كشف وجهها على تلك الصورة، ولكنه لم يسعه إلا أن رحب بها قائلًا: «أهلًا بفتاتنا ومرحبًا، ما الذي جاء بك؟» فاستغرب الحضور ترحيبه بها وهم لا يعرفونها، ولبثوا ينتظرون ما يبدو منها. أما هي فوقفت بين أيديهم غير هيابة أو وجلة وقالت: «هل تأذنون لفتاة بكلمة في خير المسلمين، تكشف لكم القناع عن كنه ما نحن فيه وقد خبرته بنفسي؟» قال علي: «تكلمي يا بنية»، قالت: «أغلقوا هذا الباب حتى لا يسمع من هم خارج الدار.» فأمر علي بإغلاق الباب، ودعاها إلى الجلوس فأبت إلا الوقوف بين يديه، ثم قالت: «يا معشر المهاجرين وخيرة أصحاب الرسول، إنكم — والله شاهد — إذا أردتم بأمير المؤمنين شرًّا لظالموه، وهو بريء لا يستوجب قتلًا أو خلعًا، وما أظنكم إذا قتلتموه أو خلعتموه إلا نادمين، ولا ينفع الندم.» فأصغى الجميع وهم معجبون لتلك الجرأة من فتاة صغيرة بين يدي كبار الصحابة، ولبثوا صامتين فاستأنفت حديثها وقالت: «أما إذا شئتم إخماد الفتنة فاقلعوا أصل الشر، اقتلوا مروان بن الحكم فإنه سبب ذلك البلاء العظيم. إن الخليفة أيها الأمراء بريء مما يتقوله الناس عليه، وهو كما تعلمون من خيرة الصحابة شفوق رءوف، وقد أذعن واعتذر جهارًا على مسمع من المسلمين، ولكن ابن عمه مروان ذلك الغلام الغر هو الذي يفعل ما يفعل من عند نفسه. فلا تقتلوا البريء بالمذنب، اقتلوا مروان بن الحكم فيستقيم الأمر، أما إذا أصاب الخليفة ضيم فستُسألون أمام الديَّان العظيم. قد كفاكم أنكم منعتم عنه الماء أربعين يومًا، ولا يعلم ما يقاسيه من جراء ذلك إلا الذين يعاشرونه.» فبُهِت الجميع لفصاحة أسماء ورباطة جأشها وجرأتها، ونظر بعضهم إلى بعض متسائلين فالتفت عليٌّ إليهم وقال: «هذا ما أراه يا أصحاب رسول الله، إن عثمان أذعن واستغفر، ولولا ابن عمه لنامت الفتنة. وأرى كلام هذه الفتاة صوتًا من أصوات أهل السماء.» فقال طلحة: «ولكننا لم نألُ جهدًا في نصحه ليرجع عن مشورة ابن عمه، وهو يصغي إليه ويعمل بقوله. أما سمعت ما قاله مروان على مشهد من المسلمين؟» فقال علي: «وما أدراكم أن كلامه لم يكن من عند نفسه؟ يكفينا تأنيبًا أن تقف البنات العذارى موقف الواعظين يحرضننا على العمل بسنة المسلمين! ومهما يكن من صبركم ونصحكم فإني أكثركم صبرًا عليه، ولقد نصحت له مرارًا وخرجت من مجلسه آخر مرة وقد عاهدت نفسي ألا أتوسط في أمره. ولكني لما علمت بمنع الماء عنه ركبت مغلِّسًا إلى محاصريه وهم وقوف ببابه وقلت لهم: «يا أيها الناس، إن هذا العمل لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين، وإنما الأسير عند فارس والروم يُطعَم ويُسقَى.» فلم ألقَ منهم مصغيًا.» ثم وجه كلامه إلى أسماء وقال: «والله إن كلًّا من هؤلاء الأصحاب قد دافع عن عثمان وسعى في حقن الدماء، حتى إن أم حبيبة زوج الرسول ﷺ ركبت إليه بغلتها وحملت عليها وعاءً فيه ماء، وادعت أنها تريد أن تكلمه عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: «لا والله». وضربوا بغلتها فنفرت وكادت تسقط عنها، فذهب بها الناس إلى بيتها. أما أنت فبُورِك فيك يا بنية! والله إنك إنما جئت لخير.» ثم نظر إلى من حوله ونادى الحسن والحسين ابنيه فقال: «اذهبا إلى بيت أمير المؤمنين وادفعا عنه وأرجعا الناس عن بابه. وأنت يا طلحة أرسل ابنك، وأنت يا زبير أرسل ابنك أيضًا.» فنادى كلٌّ منهما ابنه. ثم قال علي: «وأين محمد؟» فقالوا: «وأي محمد تعني؟» قال: «محمد بن أبي بكر، أين هو؟» فجعلوا يتساءلون عنه فلم يعثر عليه أحد، فتأفف وهز رأسه وقال: «والله إني خائف مما في نفس محمد على الخليفة!» فعلمت أسماء أن محمدًا حاقد على الخليفة انتقامًا من مروان، فلبثت تنتظر ما يقال عنه لعلها تعرف مقره. فلما لم يعثر عليه أحد قال علي لابنيه ولسائر أبناء الصحابة: «سيروا في حراسة الله، ولا تألوا جهدًا في الدفاع عن حياة أمير المؤمنين ورد الناس عن بابه. وإذا رأيتم ابن أبي بكر فأنفذوه إليَّ، إني والله خائف مما يضمره.» فقال طلحة: «أتظنه ينقم عليه عزله عن ولاية مصر؟» فنظر علي إلى طلحة ولم يجب. فسار أبناء الصحابة وقد هاج الناس وماجوا، وكلهم يلتفت إلى أسماء. أما هي فسارت بين الجموع وخرجت ولم يعد يراها أحد. ••• وعادت أسماء وهي تفكر في محمد وخافت أن تكون غيرته من مروان قد حملته على مناهضة عثمان، فأرادت أن تتحقق من نيته وهي في دار عثمان فإذا أراد سوءًا بعثمان حولته عن عزمه، لأنها أصبحت بعد سعيها في نجاة عثمان تضن بحياته كثيرًا. وكانت نائلة قد مكثت في البيت بعد ذهاب أسماء وهي على مثل الجمر والليل قد أسدل نقابه، فجلست تنتظر عودتها وهي تضمر لها كل خير إذا جاءتها بالفرج. وبينما هي في ذلك والغوغاء قد تكاثروا على الدار خطر لها أن تذهب إلى زوجها تستطلع حاله، فخرجت ودخلت عليه في حجرته فرأت مروان خارجًا من عنده فاستعاذت بالله من رؤيته. أما هو فاعترضها قائلًا: «لا تدخلي على الخليفة إنه في شغل شاغل عنده، فارجعي إلى بيتك.» قال ذلك وهو لا يكاد يخفي اضطرابه، فأذعنت لأنه كاتب الخليفة وحامل أختامه، فرجعت وهو يتبعها حتى وصلت إلى حجرتها، فدخل معها ونظر في جوانب الغرفة فلم يرَ أسماء فقال: «وأين أسماء؟» قالت: «ستأتي عما قليل.» قال: «هل خرجت من الدار؟» قالت: «لا، ولكنها مشغولة ولا تلبث أن تعود. فاصدقني خبر الخليفة، ما باله؟ وما الذي شغله الآن؟» قال: «لم يشغله شيء ولكنه يصلي والقرآن بين يديه.» فصدقته وصمتت. أما هو فأعاد السؤال عن أسماء فقالت: «قلت لك إنها لا تلبث أن تجيء.» فتركها. ولبثت هي تنتظر عودة أسماء بصبر نافد، مخافة أن يعلم مروان بخروجها فيصيبها من ذلك سوء. ولم تكد تجلس حتى سمعت ضجيجًا في صحن الدار، فأطلت فرأت جماعة داخلين وفيهم الحسن والحسين وأبناء الصحابة، فخافت أن يكون في قدومهم شر، ولكنها ما لبثت أن سمعت الحسن يكلم أهل المنزل ويهدئ من روعهم ويقول: «لا تخافوا، إننا جئنا للذبِّ عن الخليفة.» فأدركت أنهم إنما جاءوا بمسعى أسماء، وبعد هنيهة رأت أسماء قادمة وهي تخفي نفسها فاستقبلتها باسمة واستطلعتها الخبر، فطمأنتها وقالت: «إن الصحابة أرسلوا أبناءهم للدفاع عن الخليفة وإرجاع الناس عن بابه.» فسُرَّت نائلة وهدأ روعها وشعرت بفضل أسماء عليها واعتزمت أن تسعى في إنقاذها من مروان، فاحتالت في الدخول على الخليفة فإذا هو جالس والقرآن بين يديه يقرأ أو يصلي صائمًا ولا يلتفت يمينًا ولا يسارًا، فدنت منه بخفة فانتبه لها وقال: «ما الذي جاء بك يا نائلة؟» قالت: «إنما جئت أفتقد أمير المؤمنين وأبلغه أن في الدار الحسن والحسين وجميع أبناء الصحابة، وقد جاءوا بعدتهم يدفعون الناس عن بابنا.» فقال وهو لا يزال ينظر في صفحات القرآن: «لا حاجة بي إلى من يذب عني، ولا أريد أن يُهرَق من أجلي محجَّب من الدم.» قال ذلك وعاد إلى القراءة فعجبت نائلة لذلك، وأرادت أن تذكر أسماء لديه فلم ترَ سبيلًا إلى ذلك، فعادت إلى غرفتها وقضت تلك الليلة لم يغمض جفناها وأسماء تعزيها وتشجعها، ولولا ذلك لماتت قلقًا ورعبًا فقد كانت تسمع الغوغاء حول الدار عند بابها ولا تجرؤ أن تطل. أما أسماء فلما علمت بعودة مروان من سفره هرولت إلى حجرتها لئلا تراه. وبات أبناء الصحابة ليلتهم وهم يهددون الواقفين عند الباب طورًا وطورًا يتوعَّدونهم. وكل أهل الدار في اضطراب وقلق إلا عثمان فإنه قضى ليلته يقرأ القرآن ويصلي. وفي الصباح التالي استيقظت أسماء على صوت مروان في غرفتها ونائلة جالسة بجانبها، فجلست واستعاذت بالله. فقال لها مروان: «ما الذي خرج بك من هذه الدار؟» فقالت: «وما شأنك وخروجي أو دخولي؟» قال: «كيف لا وأنت امرأتي؟!» فأجفلت أسماء وصاحت: «خسئت يا نذل! لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك، دع عنك هذا الهذيان.» فمدَّ مروان يده إلى جيبه وأخرج رقًّا عليه كتابة، وقال: «هذا كتاب العقد وعليه خاتم الخليفة.» فنظرت أسماء ونائلة فرأتا الخاتم فبُهِتتا، ولكن أسماء تبسمت ولم تعبأ بتهديده وقالت: «قد عرفناك قبل اليوم تزوِّر الكتب على أمير المؤمنين. إن الخليفة بريء مما تعمل وقد أخطأ إذ جعلك كاتبه، أما كفاك ما أيقظت من الفتنة بتزوير الكتب، حتى جئت تفتعل كتاب العقد أيضًا؟ إن هذا البلاء الذي نحن فيه إنما هو من تزوير ذلك الكتاب على لسان الخليفة إلى والي مصر، وكان الناس قد عادوا إلى بلادهم فأرجعتهم وأعدت الفتنة، فأرجع هذا الكتاب إلى جيبك واخرج من هذه الغرفة قبل أن أذيقك الهوان.» قالت ذلك وهمت به وهي تخرج خنجرها من بين أثوابها وكان لا يفارق جنبها أبدًا، فهمَّت بها نائلة لتجلسها فأفلتت منها وهجمت على مروان تريد قتله ففرَّ أمامها، ثم عاد وقد جرد حسامه وهجم عليها ولكنه سمع ضجة عظيمة في صحن الدار، وصوتًا ينادي: «مروان! مروان!» فخرج مسرعًا والسيف في يده.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/7/
مقتل عثمان
لم يلبث من في دار عثمان أن رأوا الدخان يتصاعد من جهة بابها، فحسبوا أن قد شب فيها الحريق فهاجوا وماجوا واشتغل كل بنفسه، وصاحت نائلة: «ويلاه! قد أحرقونا!» وهرولت مسرعة إلى حجرة زوجها. وأطلت أسماء من نافذة على باب الدار، فرأت الناس قد تجمهروا وعددهم يزيد على ألف وجعلوا يرمون الدار بالنبال حتى أُصِيب كثيرون. ثم رأت بعضهم قد اقتحموا الدار عنوة، وأبناء الصحابة وفيهم الحسن والحسين يدفعونهم، ورأت آخرين قد أوقعوا النار في السقيفة فوق الباب ليحرقوها ويحرقوا الباب معًا. وسمعت جموعهم يصيحون: «ادفعوا إلينا مروان فنقتله وكفى!» فاضطربت أسماء وفتحت النافذة وخنجرها لا يزال في يدها، وسارت إلى غرفة عثمان لعلها تقنعه بتسليم مروان فينجو هو، فرأت الدار ملأى بالناس وقد دخل بعضهم من ناحية دار بني حزم، ورأت مروان وبيده السيف يريد أن يدفعهم فهجم عليه أحدهم وضربه بالسيف على عنقه فدار دورة ووقع، فصاحت أسماء: «بُورِك فيك يا من قتلته! فإنه أصل الشر كله.» ولكن الضربة لم تكن قاضية فقطعت أحد علياويه فعاش مروان بعد ذلك بينما حسبته أسماء قد مات، وسارت وسط الجماهير إلى حجرة الخليفة فرأته جالسًا والقرآن بين يديه وعنده نائلة واقفة والدموع ملء عينيها. ولم تكد تقف حتى دخل الحسن والحسين وأولاد الصحابة وفي أيديهم السيوف مسلولة، ورأت ثياب الحسن مصبوغة بالدم، وكان عثمان لما سمع بدفاعهم عند باب داره خاف عليهم فبعث يستقدمهم إليه ليردعهم عن ذلك قائلًا: «أغمدوا السيوف وارجعوا، فإن الله قد عهد إليَّ وأنا صابر عليه، وقد علمت أن الناس قد أحرقوا السقيفة فلم يحرقوها إلا وهم يطلبون ما هو أعظم.» ثم وجه خطابه إلى الحسن فقال له: «ارجع يا بني، إن أباك الآن في همٍّ عظيم من أمرك.» فلم يصغِ الحسن وأبناء الصحابة لقوله وعادوا يدفعون الناس، وظل هو على مقعده يقرأ ولا يبالي الغوغاء وعنده زوجته نائلة. وكانت أسماء منتبذة مكانًا بالقرب منها وقلبها يخفق خوفًا عليه، فما لبثت أن رأت رجلًا من قريش دخل عليه وقال له: «اخلعها وندعك» يعني الخلافة، فقال عثمان: «ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله ﷺ. ولست خالعًا قميصًا كسانيه الله تعالى حتى يكرم أهل السعادة ويهين أهل الشقاء.» فخرج الرجل. ثم رأت رجلًا عرفت بعد ذلك أنه عبد الله بن سلام قد وقف في الناس وقال: «يا قوم، لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة (السوط) فإن قتلتموه (أي الخليفة) لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه لتتركنَّها!» فصاحوا فيه: «ما أنت وهذا يا ابن اليهود؟!» فسكت. كل ذلك وأسماء واقفة مضطربة القلب لا تدري ماذا تعمل، وكانت قد اطمأنت إلى ما أصاب مروان لظنها أنه قُتِل، ثم ما لبثت أن رأت محمدًا بن أبي بكر دخل مسرعًا ووراءه جماعة حتى دنا من عثمان، فأوجست خيفة من قدومه لعلمها بما في نفسه، ثم سمعت عثمان يقول له: «ويلك! أعلى الله تغضب؟! هل لي إليك جرم إلا حقًّا أخذته منك؟» فأمسكه محمد بلحيته وقال: «قد أخزاك الله يا نعثل!» وكان «نعثل» لقبًا يلقبون به عثمان. فقال عثمان: «لست بنعثل، ولكنني عثمان وأمير المؤمنين.» قال محمد: «ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان!» فقال عثمان: «يا ابن أخي، فما كان أبوك ليقبض عليها» أي على لحيته، فقال محمد: «لو رأى أبي أعمالك لأنكرها عليك، والذي أريد بك أشد من قبضتي عليها.» فقال: «أستنصر الله عليك وأستعين به.» فلما رأت أسماء ما دار بينهما خافت أن يفتك محمد بالخليفة فيحيق به العار، فدنت منه ووقفت بحيث يراها وأشارت إليه أن يكف عما هو فيه وأن يتبعها، فلما رآها محمد ترك لحية عثمان وخرج ليعلم منها ما تريد، فانتحت به جانبًا وقالت: «من أين دخلت الدار؟» قال: «دخلت من دار بني حزم.» قالت: «وأنت أيضًا على عثمان؟! إنه بريء مما يفترون.» ثم سمعت صياح نائلة، فأسرعت إليها فإذا هي قد حلت شعرها ونشرته، وعثمان يقول لها: «خذي خمارك، فلعمري لدخولهم عليَّ أعظم من حرمة شعرك!» ثم رأت رجلًا ممن دخلوا مع محمد بن أبي بكر همَّ بعثمان وبيده حديدة ضربه بها على رأسه فسال دمه على المصحف، وتبعه آخر ليضربه بالسيف فأكبَّت نائلة عليه والتقت السيف بيدها فقطع أصابعها، فثارت الحمية في رأس أسماء فاستلت خنجرها تريد قتل الرجل فأمسكها محمد، ولم تمضِ لحظات حتى قُتِل عثمان وفرَّ قاتلوه. فلما رأته نائلة مجندلًا حملت يدها والدم يسيل منها وخرجت تبكي وتنادي الحسن والحسين، فدخلا فرأيا عثمان مذبوحًا يتخبط في دمائه فصاحا: «كيف يُقتَل عثمان ونحن في داره؟! وبماذا نجيب أبانا إذا سألنا في ذلك؟» أما أسماء فأجهشت بالبكاء، وجعلت تنظر يمنة ويسرة لعلها ترى القاتل فتنتقم منه فإذا هو قد فرَّ. وتهافت الناس على بيت عثمان ينهبون ويسلبون، وعلت الضوضاء واختلط الحابل بالنابل. ••• أما محمد فهمَّ بأسماء وأخذ بيدها وقال لها: «اتبعيني»، فتبعته حتى خرج بها من الدار وهي تود البقاء لترى ما حال نائلة ولكنها أطاعته طوعًا لقلبها، على أنها ما لبثت أن جذبت يدها من يده وقالت: «إلى أين نحن ذاهبان يا محمد؟» قال: «هل ترين لك مأربًا في دار عثمان بعد؟ لقد نصحت لك بأن تخرجي منها منذ أيام فلم تذعني حتى رأيته يُقتَل أمامك، وهذا ما كنت أخشاه عليك.» قالت: «إنكم ظلمتموه يا محمد، ولو استطعت إنقاذه من أيديكم لفعلت. تبًّا لمروان، إنه أصل هذا البلاء!» قالت ذلك واغرورقت عيناها بالدموع، فقال محمد: «دعينا من ذلك، لقد قُتِل عثمان ولم يعد بقاؤك في داره مستطاعًا والناس قد دخلوها ينهبون، فأفصحي الآن إن الوقت ضيق والأمر جلل ولا أستطيع البقاء معك إلا قليلًا.» قالت: «وماذا تريد مني؟» فابتسم وقال: «ألا تعلمين ما أريده؟» قالت: «نفسي تحدثني …» وسكتت حياءً، فقال: «أرجو أن يكون قلبك هو الذي يحدثك.» قالت: «يلوح لي أن مقتل عثمان لا يهمك، إني والله لا أستطيع استعادة رؤيته والدم يجري من عنقه!» فتنهد محمد وقال: «أتظنينني غير آسف لقتله؟» قالت: «لا أظنك آسفًا وأنت البادئ بالقتل، ووالله لو لم يسبق إلى قلبي سابق ما استطعت النظر إليك!» قال: «أراك تؤنبينني وما هذا وقته، ولو أطلعتك على أصل هذه الفتنة لطال بنا المقام ونحن في حال تدعو إلى المبادرة فلنجاوزها الآن، فإني مسرع إلى عليٍّ لأني أتوقع شقاقًا عظيمًا يقع بين الصحابة ولا بد لي من غشيان مجلسهم. وأما أنت فلا أرى أن تقيمي هنا والحال في اضطراب.» قالت: «سأصبر حتى أسمع عذرك في قتل خليفة الرسول، فإن لم أقتنع …» وأطرقت حياءً مما كاد لسانها أن ينطق به. فأُعجِب بصراحتها وسلامة مبدئها وازداد شغفًا بها، وقال: «إني واثق بتبرئتي نفسي من تبعة القتل فاصبري حتى نجتمع على سكينة، واذهبي الآن إلى مأمن.» قالت: «إلى أين أذهب وأمتعتي وجوادي في دار عثمان؟» قال: «لك عليَّ إحضارها. أما وجهتك فلا أدلك عليها قبل أن أعلم مرادك.» قالت: «وما مرادك أنت؟» قال: «إني صريع حبك، فهل تأذنين؟» فاحمرَّ وجهها خجلًا، وأرخت النقاب على وجهها ولم تجب. قال: «زيديني بهذا الخجل غرامًا بك! قد عزمت يا أسماء أن أريحك وأنجيك من أبيك أو الذي يدَّعي أنه أبوك، وقد تركك منذ أيام ولا أظنك تعلمين مقره. وأما مروان فلا فضل لي في إنقاذك منه، وقد نال نصيبه.» فلم يكد يذكر اسم مروان حتى تنهدت وقالت: «قبح الله مروان! إنه سبب هذا البلاء. وقد كنت أود قتله بيدي لأشفي غليلي منه.» قال: «لا أظنه قُتِل وقد تركته في الدار يعصب عنقه على أثر جرح أصابه، دعينا منه ومن اسمه. أما أبوك الشيخ الغر فلا أظنه يجرؤ على الظهور بعد مقتل عثمان، وأرجو منك ألا تدعيه أباك بعد الآن فإنه بعيد عن هذا بعد الأرض عن السماء. وها أنا ذا ذاهب إلى بيت علي، وأظنه سيلي الخلافة لأنه أحق بها وأولى، وإنما دونها شقاق عظيم، فلا آمن من شر يصيبك إذا كنت في منزله فأرى أن أذهب بك إلى مأمن تبقين به حتى تهدأ الأحوال فنعيش معًا بإذن الله، ألا ترين ذلك؟» فأطرقت أسماء وقد هاجت أشجانها وتذكرت أباها غير آسفة لفراقه، ولكنها أسفت لفراقها نائلة وهي على حزنها واضطرابها وزوجها ملقًى قتيلًا. على أن اتِّقاد الحب في قلبها أنساها كل شيء إلا محمدًا، وكانت أحبته من أول نظرة عندما ذكرت أمها اسمه، وأصبحت بعدما علمت منزلته من علي وأنه ابن أول الخلفاء شديدة الميل إليه. فظلت صامتة تهم بالكلام ويمنعها الحياء وقد تخلت عنها جرأتها، وانفثأت تلك الحمية التي كانت موضع إعجاب الرجال، وأحست بخفقان قلبها وهياج عواطفها، فأبرقت أسرتها وتلألأت عيناها كأن لسان حالها يقول: «إن الله يتَّمني ولكنه نظر إليَّ فحببني إلى خير أبناء الصحابة.» وشعر محمد أنها تكتم حبه فلم يزد، وقال لها: «ما رأيك في أن أذهب بك الآن إلى إحدى ذوات قرباي في بعض أطراف المدينة، تقيمين عندها حتى تنقضي الأزمة التي نحن فيها ويبايَع عليٌّ بالخلافة فيرجع الأمر إلينا، فنقيم في رغد وهناء بإذن الله؟» قال ذلك ومشى، ومشت في أثره حتى انتهى إلى منزل في طرف المدينة، وإذا بامرأة عجوز لم تكد ترى محمدًا حتى همت به وقبَّلته مرحبة. فقال لها: «جئتك بأعز شيء لديَّ فاحتفظي بها.» ثم التفت إلى أسماء وقال: «امكثي هنا يا أسماء ريثما أعود، ولا تضجري إذا طال غيابي.» فقالت: «لا تنذرني بطول الغياب فقد لا أستطيع صبرًا على البقاء.» قالت العجوز: «لعلك خشيت الإقامة بيننا، والله لأقومن على خدمتك أكثر من خدمتي ابني هذا!» وأشارت إلى محمد، وأخذتها بيدها ودخلت بها، فودعهما محمد ومضى. ••• أحست أسماء بالوحشة فدخلت غرفة تخلو بها إلى نفسها، ولم تكد تفعل حتى تمثل لها عثمان مطروحًا أرضًا، ونائلة واقفة فوق رأسه وقد حلَّت شعرها وأخذت تلطم خديها وتندب. وسرى الحزن في جوانبها واقشعر بدنها وندمت على تركها نائلة على تلك الحال. فقضت يومها وحيدة كئيبة، ولما أمسى المساء قصدت إلى الفراش تلتمس النوم فلم يغمض لها جفن، ولم تغب صورة عثمان وداره عن عينيها. فباتت ليلتها تتقلب على مثل الجمر، تفكر تارة في محمد وأخرى في يزيد وهي لا تعرف مقره، وآونة في عثمان ونائلة، حتى مضى هزيع من الليل فغلبها النعاس فنامت. وأصبحت في اليوم التالي وضميرها يبكتها على هجرها صديقتها نائلة في ساعة الضيق، وحدثتها نفسها أن تذهب إليها، وخافت أن يجيء محمد في أثناء غيابها فيغضب. وانقضى النهار ولم يأتِ محمد فاضطربت، على أنها التمست الفراش مبكرة عسى أن تنام فتنسى ما هي فيه، فطال ليلها ولم تنم إلا في فترات حتى بدأ الفجر، فأغمضت فرأت طيف نائلة في حالة يُرثَى لها وقد احمرَّت عيناها من البكاء وقطَّعت شعرها في الندب. فلما صحت وتذكرت الرؤيا غلبها الخجل على أمرها، وشعرت أن خيال نائلة يؤنبها على خروجها على تلك الحال، فأفاقت مذعورة وقد بلَّل الدمع وسادتها، ونظرت إلى السماء فرأت الشمس قد طلعت، فهمَّت بالمسير إلى دار عثمان تفتقد نائلة، ثم تذكرت أن محمدًا أوصى العجوز بالاحتفاظ بها فخافت أن تمنعها. فقضت نهارها قلقة مضطربة، تتردد بين الذهاب والبقاء حتى أمسى المساء وذهبت إلى فراشها، فجعلت تتقلب كأنها توسَّدت شوكًا، فانقضى نصف الليل وهي في أرقها وقلقها، حتى اشتد بها الأمر ولم تعد تستطيع صبرًا. فنهضت وارتدت بردائها وتقلدت خنجرها وانطلقت تطلب دار عثمان على عجل، وكان الوقت صيفًا فجعلت طريقها في أطراف المدينة لئلا يراها أحد، وأرخت نقابها على وجهها. وما كادت تسير بضع خطوات حتى رأت أشباحًا تفرست فيهم، فعرفت من قيافتهم أنهم من بني أمية يُهرَعون بين راكب وراجل فرارًا من المدينة كأنهم يُطارَدون، فسارت في حذاء الجدران مخافة أن يكون مروان فيهم فيعرفها حتى مروا. وطال بها المسير ولم تصل إلى دار عثمان لأنها كانت تجهل الطرق، فأرادت الرجوع إلى منزل العجوز فضلَّت الطريق إليها. وكان الفجر قد دنا فخُيِّل إليها أنها إذا أشرفت على المدينة من مرتفع هناك تمكنت من تعيين محل الجامع، فإذا عرفته عرفت منزل عثمان. فتحولت إلى سور المدينة في مكان خارج البقيع وهناك أرض مهجورة قلَّ من يمر بها، ولم تكد تدرك المكان حتى رأت بضعة عشر رجلًا مهرولين من بعيد، وفيهم أناس يحملون لوحًا عليه شيء، فحسبتهم من الهاربين يحملون أمتعتهم وأنهم إنما طلبوا الطريق البعيد خوفًا من العيون، فتنحَّت إلى زقاق ضيق واستترت بنخلة بحيث ترى المارة ولا يرونها. فلما دنوا منها عرفت منهم أناسًا منهم مروان وعبد الله بن الزبير وكانت قد رأته فيمن جاء للدفاع عن عثمان من أبناء الصحابة، فلما رأت مروان بالغت في الانزواء، وتفرست فيما يحملونه فإذا هو جثة مطروحة على باب وجمجمتها عارية تقرع الباب لإسراعهم في المسير من شدة الخوف، ورأت على الجمجمة لحية كبيرة غضة مضفرة عرفتها أنها لحية عثمان، ونظرت إلى الثياب فإذا هي ثيابه ولا يزال الدم عليها، فلم تشك أن الجثة جثته. فخفق قلبها، وارتعدت فرائصها لما لحق بهذا الخليفة العظيم بعد موته، وأدركت أنهم خرجوا به ليلًا ليدفنوه، ولبثت مستترة وراء النخلة تنظر إلى تلك الجنازة المحزنة، فلما وصلوا إلى حائط هناك يقال له «حش كوكب» حفروا له حفرة دفنوه فيها وهم يتلفتون يمينًا وشمالًا جزعًا. فصبرت حتى انتهوا وتفرقوا، فصعدت إلى مرتفع أطلت منه على المدينة فأشرفت على جامعها، فإذا هو بعيد عنها كثيرًا، فجعلته وجهتها ونزلت تخترق الأسواق فلم تجد فيها إلا نفرًا قليلًا، فخافت أن يلاقيها محمد وهي على تلك الحال، وما زالت حتى وصلت منزل عثمان والشمس تملأ الفضاء فرأته موصدًا، فالتمست باب بني حزم فرأته مغلقًا أيضًا، فتسمَّعت فلم تسمع صوتًا فوقفت برهة ثم همَّت بالباب فقرعته فلم يجبها أحد، فأعادت القرع فأطل رجل من كوة عرفت أنه من خدم عثمان فلما رأته أومأت إليه أن يفتح، فلما عرفها فتح لها فدخلت وسألته عن نائلة فأشار إليها ألا تتكلم وسار أمامها، فتبعته فدخل بها حجرة رأت فيها نسوة أحطن بنائلة وهي ما زالت محلولة الشعر كما رأتها في منامها بالأمس. ••• فلما وقع نظر نائلة عليها صاحت قائلة: «ما الذي جاء بك يا أسماء يا حبيبتي؟! هل أتيت لتري أمير المؤمنين؟! لقد فاتك ما لاقاه من إكرام المسلمين له بعد موته.» قالت ذلك وأجهشت في البكاء. أما أسماء فألقت نفسها على نائلة تبكي وتشهق وتقول: «إن خسارتك خسارة المسلمين كافة فقد فسد أمرهم بعد عثمان، لأنهم سفكوا دمًا بريئًا بجوار قبر الرسول.» فلطمت نائلة خديها بكفيها، فرأت أسماء إحدى يديها معصوبة فتذكرت أنها اليد التي أُصِيبت بالسيف فقُطِعت أناملها. وقالت نائلة: «يا ضيعة تعبك يا أسماء! ويا خيبة مسعاك! لقد خدعونا والله وغدروا بنا فأرسلوا أبناءهم يذبون عنه وبعثوا يقتلونه مع آخرين، ألم تري ابن أبي بكر يقبض على لحيته؟!» فلما سمعت اسم محمد حزنت على فعله، ولم تجد ما تدافع به عنه فسكتت وهي تفكر في عبارة تعزيها بها فلم يُفتَح عليها، فقالت: «اصبري إن الله مع الصابرين، فقد كنت بالأمس تعزينني وتواسينني وأنت اليوم أولى بالمواساة وبالعزاء.» فصاحت نائلة: «أواه يا أسماء! كيف أصبر وقد قتلوا عثمان شر قتلة؟! لقد طعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين ضربة أسرعت في العظم. والله لكأني أسمع صوته يرن في أذني وهو يقرأ القرآن ولا يبالي ما يفعلون، وأحسبك رأيتني وقد سقطت عليه أتقي عنه وهم يهمون به يريدون قطع رأسه حتى أتت هذه الفتاة بنت شيبة (وأشارت إلى فتاة بجانبها)، فألقت بنفسها عليه دفاعًا عن أمير المؤمنين.» ثم تنهدت تنهدًا عميقًا وقالت: «ولم يكتفوا بقتله في بيته وعلى فراشه، ولكنهم منعوا الناس أن يصلوا عليه وقالوا: «لا يُدفَن في مدافن المسلمين.» كأنه كفر أو كان من المشركين، جزاهم الله بما فعلوا! فظل في بيتنا ثلاثة أيام وجثته ملقاة بين أيدينا ونحن نبكيه ونبكي الإسلام من بعده، ولو لم نلقَ إخوانًا من أهل المروءة يحملونه خلسة في الليل لظل غير مدفون. وكم أحزنني ما أصاب الذين قُتِلوا معه، فقد جروهم بأرجلهم ولعلهم ألقوهم على التلال لتأكلهم الكلاب! ولا أدري إذا كان أبوك المسكين قد أصابه مثل مصابهم.» فلما سمعت أسماء ذكر أبيها ارتجفت وامتُقِع لونها وصاحت: «وماذا أصاب أبي؟!» قالت: «ألم تعلمي ما أصابه وقد كنت معنا في الدار؟» قالت: «لا، ماذا أصابه؟» قالت: «بُلِّغت أنه قُتِل مع الخليفة في بعض جوانب الدار.» فلطمت أسماء وجهها وصاحت: «ويلاه يا أبتاه!» وأوغلت في البكاء مذعورة وصاحت: «وأين هو الآن؟! أروني أين هو؟!» ولم تكن نائلة تتوقع من أسماء حزنًا شديدًا على أبيها لما تعلمه من حديثها عنه. أما أسماء فبكت وناحت والنساء يخففن عنها ويقلن: «اصبري فإن له أسوة بأمير المؤمنين وسوف يلقيان ربهما معًا، والله ينتقم من القوم الظالمين! وسوف يثأر له بنو أمية جميعًا، إنهم لم يدركوه حيًّا ليدفعوا عنه القتل، ولكنهم سوف يسرعون إلى الثأر إذا رأوا قميصه الملوث بالدم وأصابعي المبتورة، فقد أرسلت القميص والأصابع إلى معاوية في الشام، وأصبح الأمر لبني أمية وهم سواد قريش. ولقد ظن بنو هاشم أنهم إذا قتلوا عثمان ضعف شأن بني أمية، ووالله إنهم أكثر رجالًا وأوفر عدة وأصعب مراسًا! وسوف يلقى بنو هاشم عاقبة ما جنته أيديهم.» فلما سمعت تهديد نائلة وحكاية قميص عثمان وأناملها وما ذكرته من تفضيل بني أمية على بني هاشم؛ علمت أنها أرسلت الأصابع والقميص استحثاثًا لبني أمية على الثأر لدم عثمان، وتحققت أنها تضمر السوء لعلي، فلم تسكت عن الدفاع عنه وقالت: «لقد كان بنو هاشم أكثر الناس دفاعًا عنه، فإن عليًّا أرسل الحسن والحسين لرد الناس عن بابه، ولو أذن لهما أمير المؤمنين لجاهدا في الذب عنه إلى آخر نسمة من حياتهما. أمثل هؤلاء يطالَبون بدم عثمان أم يقال إنهم دافعوا عنه جاهدين؟» قالت: «دعك من هذا، فوالله لو أرادوا دفاعًا لما مات عثمان! إنما أخذوا الأمر بالتريث والمداورة وأظهروا العجز، وساء ما يضمرون! ولا يغرنك إرسالهم أولادهم.» قالت ذلك وحرقت أسنانها وسكتت، فعذرتها أسماء لما رأت من هياج عواطفها على مقتل زوجها ولم تجبها. ولكنها عادت إلى السؤال عن أبيها، فقالت لها إحدى النساء: «لا تتعبي يا أسماء، إن أباك قُتِل مع الذين قُتِلوا مع عثمان وهم اثنان هو ثالثهم، وقد حملوا جثثهم خلسة إلى حيث لا ندري. فتعزي وتأسي بمقتل أمير المؤمنين خليفة رسول الله.» وظلت أسماء تبكي مع الباكين حتى هدأ روعها وذكرت أن وفاة أبيها خير لها في مستقبل حياتها، فنظرت إلى نائلة وقالت: «وما الذي اعتزمته الآن؟» قالت: «لقد عزمت على الرحيل من هنا إلى حيث لا أرى هاشميًّا ولا أسمع بهاشمي، ولكنني لا أستطيع الخروج إلا خلسة وما مقامنا هنا إلا خفية، ولو عرف هؤلاء الظالمون مقامي لأدركوني وقتلوني، ولكن بني حزم أهل جوار فقد خبئوني، جزاهم الله خيرًا!» ثم تذكرت أسماء أنها تركت بيت العجوز على غرة، فخافت أن تقلق عليها إذا افتقدتها ولم ترها ولا سيما إذا عاد محمد ولم يجدها، وزد على ذلك أنها خافت أن يجيء مروان في حين أنها لا تريد أن ترى وجهه. فنهضت واستأذنت محتجة بالذهاب إلى بعض ذوي قرابتها في أطراف المدينة. فقالت نائلة: «لو كان لي بيت لدعوتك إليه يا ابنتي، ولكني أصبحت غريبة بين أهلي أتوقع الشر في كل لحظة. فاذهبي حرسك الله ووقاك! وإذا منَّ الله علينا باللقاء فعسى أن أكافئك على صنيعك.» قالت ذلك وضمتها إلى صدرها وودعتها وهي تبكي، وبكت أسماء أيضًا وقد انفطر قلبها لما سمعت من كلام نائلة، وشق عليها أن تراها هكذا وقد كانت بالأمس زوجة أمير المؤمنين وصاحبة الأمر والنهي. ••• خرجت أسماء تلتمس بيت العجوز وهي تحسب أنها تعرفه، لكنها تاهت لأن البيت صغير لا يُرَى عن بعد، ووصلت إليه بعد لَأْي وقد مالت الشمس إلى المغيب، فوجدت الباب مغلقًا فقرعته مرارًا فلم يجبها أحد. فوقفت تفكر فيما تفعله فلم ترَ خيرًا من الذهاب إلى بيت علي تفتقد محمدًا، فإذا لم تجده باتت تلك الليلة هناك فقد طالما دعاها للإقامة عنده، ولكنها خشيت إن هي سارت بلباس النساء أن تكون هدفًا للناس في الطريق أو في فناء الدار، لأن بيت علي كان يعج بالغادين والرائحين. فأخفت نفسها، وكانت ممنطقة بكوفية فحلتها ولفت بها رأسها كما يفعل الرجال في أسفارهم، وتزملت بعباءة كانت قد خرجت بها بالأمس، وسارت صوب بيت علي فلم تبلغه إلا عند العشاء، فرأت نفرًا قليلين في فناء الدار وكانت تتوقع أن ترى ازدحامًا، ثم علمت أن أهل البصرة والكوفة والمصريين الذين كانت تزدحم بهم المدينة قبل مقتل عثمان، ذهبوا إلى مضاربهم خارج المدينة للمبيت. فسألت عن علي فقيل لها إنه في خلوة مع بعض الأمراء لا يدخل عليه أحد، فوقفت تنظر في الأمر فحدثتها نفسها أن تدخل المنزل فتبيت عند بعض نساء علي، ولكنها هابت الدخول عليهن وهي لا تعرفهن من قبل. وبينما هي في ذلك رأت محمدًا بن أبي بكر خارجًا من الدار فتبعته، فلما رأى عباءتها ومشيتها عرفها فدنا منها وتفرس فيها، فقالت: «محمد؟» قال: «أسماء؟» قالت: «نعم، أين أنت؟» قال: «لقد قلقتُ لغيابك، أين كنت؟» قالت: «خرجت لحاجة سأقص عليك أمرها الآن. وأين هي عجوزك؟» قال: «أتتني في الصباح وهي قلقة لغيابك، وقد قضينا نهارنا كله في البحث عنك، فشُغِلنا به عما نحن فيه من عظائم الأمور. تعالي معي أدخلك إلى أمي.» قالت: «هي تقيم أمك في منزل علي؟» قال: «نعم، وهي زوجته بعد أبي، واسمها مثل اسمك، بُورِك في هذا الاسم!» فسُرَّت أسماء لمعرفة أمه ورأت بابًا للفرج بالإقامة عندها، فقالت: «وهل تزوجها علي من زمان طويل؟» قال: «تزوجها بعد موت أبي، وكنت أنا طفلًا فرُبِّيت في حجره، فأنا أعده بمنزلة الأب وهو يحبني كأحد أولاده.» قالت: «لقد آنست فيه هذا البر، فرحم الله والدًا ولدك، وعاش والد رباك!» قالت ذلك وقد أبرقت أسرتها إعجابًا ولكنها أظهرت فتورًا في كلامها لم يعهده فيها، فشعر هو بذلك فقال: «أراك قد تغيرت يا أسماء بعد خروجك اليوم من بيت العجوز.» قالت: «بل أنا باقية على ما تعلم، ولقد كنت سألتني عن سبب خروجي منه؟» قال: «نعم، وإلى أين كان ذهابك؟» قالت: «خرجت إلى تلك المسكينة التي قتلتم زوجها وتركتموها حزينة وحيدة، عسى أن أستطيع تعزيتها مثلما عزتني في أيام محنتي.» قال: «هل ذهبت إلى نائلة؟» قالت: «نعم، سرت إليها ورأيت دفن قتيلكم رحمه الله! فقد حملوه على باب وساروا به خلسة ليدفنوه خارج المدينة، وسمعت طعنًا فيك ساءني سماعه، كما ساءني ألا أستطيع دفعه، فإني رأيتك داخلًا متعمدًا قتل الخليفة.» قالت ذلك وفي رنة صوتها ما لا يصدر إلا عن سلطة الدالَّة وسلطان الدلال. فأدرك محمد أن اعتقادها هذا سيكون صفحة سوداء في كتاب حبها فساءه ذلك، ولكنه أُعجِب بأنفتها وصدق أدبها وأحب أن يبرئ نفسه في عينيها، فقال وهو يبتسم تأكيدًا لبراءة ساحته: «لقد قلت لك يا أسماء إن الرجل لم يُقتَل ظلمًا، على أني لو كنت أنا القاتل فلست بنادم، وسأبرر الأمر لديك عما قليل. أما الآن فهيا بنا أدخلك على أمي وهي تتولى تقديمك إلى علي.» ••• ولم يكد يدنو من الباب حتى سمع وقع أقدام في الدار ثم رأى الحسن بن علي يمر به ويسلم، فأجابه محمد: «وعليك السلام يا ابن أمير المؤمنين.» فقال الحسن: «أراك تبشرني بخلافة أنا خائف منها.» قال: «لا تخف يا ابن بنت الرسول، إنكم أولى الناس بها.» وكان الحسن يكلم محمدًا وينظر إلى أسماء ليعرف المتلثم، فابتدره محمد قائلًا: «إن صاحبي أموي جاء للمبيت عندكم فهل تقبلونه؟» قال: «أهلًا به أيًّا كان، فليدخل.» قال ذلك ودخل، فدخلا في أثره وأسماء لا تزال ملثمة والحسن ينظر إليها ويتوقع حسر اللثام. ولما وقع نظره عليها تذكر أنه رآها في منزل عثمان يوم الدار، فوقعت من نفسه موقعًا حسنًا وأُعجِب بها، فقال: «أهلًا بك يا أخية.» أما أسماء فتهيبت الموقف ونظرت إلى الحسن، فإذا هي أمام شاب أبيض اللون مشرب بالحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، ربع القامة، جعد الشعر، لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وكان أشبه الناس بالنبي. وغلب عليها الحياء فأطرقت وقالت: «بُورِك في بيت شرفه الله!» فقال محمد للحسن: «وأزيدك معرفة بها، فهذه أسماء بنت يزيد التي جاءت منذ بضعة أسابيع تدعو مولاي أبا الحسن إلى أمها على فراش الموت لتطلعه على سر، فقضت رحمها الله قبل وصوله وذهب السر معها إلى القبر.» قال الحسن وهو ينظر إلى أسماء: «إن أبي لا يزال يذكر ذلك ويأسف لضياع السر، ويعجب بما آنسه في هذه الفتاة من الهمة والأنفة.» قال ذلك وسار أمامهما فمشيا في أثره وقد اتقدت نار الحب والغيرة في قلب محمد وكأنه ندم على مجيئه بها، فسأل الحسن: «أين نحن ذاهبون؟» قال الحسن: «إلى خالتي أمامة أعرفها بأسماء فتبيت عندها الليلة.» فلم يرق الأمر لمحمد لأن الحجاب يمنعه من الدخول معهما إلى أمامة، فبقي خارجًا على مثل الجمر، ودخل الحسن إلى حجرة أمامة بلا استئذان. وكانت جالسة وحدها وقد لبست ثوبًا بسيطًا وفي عنقها قلادة من جزع كانت شديدة الاحتفاظ بها، فلما رأت الحسن داخلًا أرادت أن تسأله عن أمر الناس والخلافة فإذا هي بأسماء تتبعه، فلما رأتها أُعجِبت بطلعتها. فدنت أسماء تهم بتقبيل يدها فمنعتها وقبَّلتها، فابتدرها الحسن قائلًا: «هذه يا خالة أسماء، وأظنك تذكرين حديث أبي عن أمها وعن سرها الذي مات معها.» ثم التفت إلى أسماء وقال: «إنك بين يدي أمامة زوجة أبي، بنت زينب بنت الرسول، وكان جدي يحبها كثيرًا. وانظري إلى هذه القلادة في عنقها، فقد أهداها إليها رسول الله، وكانت أحب أهله إليه.» فازدادت أسماء إجلالًا لأمامة، وظلت واقفة حتى دعتها إلى الجلوس فجلست على وسادة بالقرب منها. فقال الحسن: «إني أوصيك بضيفتك، ولا سيما وقد علمت مكانتها عند أبي.» قال ذلك وخرج فرأى محمدًا في انتظاره على مثل الجمر، فقال له: «كيف عرفت هذه الفتاة يا محمد؟» قال: «عرفتها يوم جاءت تدعو مولاي أبا الحسن إلى أمها، وقد صحبتها إلى قباء وهي في زي الرجال ثم رأيتها مرة في دار عثمان، ورأيتها اليوم جاءت تبحث عن منزلكم فإنها غريبة، وكان أبوك قد دعاها إلى الإقامة عندكم تعزية لها على حزنها ويُتْمها.» فقال الحسن: «إنها والله ذات جمال ووقار، وليتها تبقى عندنا!»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/8/
مبايعة علي بالخلافة
أدرك محمد مدى إعجاب الحسن بأسماء فاتقدت نار الغيرة في صدره، ولكنها غيرة لم يشبها بغض لما يكنه للحسن وآل بيته من الحب. فانتقل بالحديث إلى سؤال الحسن عن أبيه، فقال الحسن: «تركته في مجلسه وقد اجتمع الأمراء حوله يريدون مبايعته، وهو يقول لهم: «لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتموه رضيت به.» وهم يلحون عليه في القبول ويقولون: لا نعرف أحدًا أحق بها منك، ولا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله.» فقال محمد: «وهل قبل؟» قال: «لا، وقد تركته يقول لهم: «لا تفعلوا، فلأن أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا.» وهم يقولون: ما نحن فاعلون حتى نبايعك.» فقال محمد: «إني لأعجب من رفضه أمرًا هو أولى به من سواه، ويجب والله ألا يليها غيره!» فقال الحسن: «وإني أشد تعجبًا منك.» قال محمد: «وماذا فعل طلحة والزبير، فإني إخالهما غير راضيين لأن كلًّا منهما يريد الخلافة لنفسه؟» فابتسم الحسن وقال: «سيبايعان كارهَين إن شاء الله، على أنهما يتظاهران بالقبول، وسنرى ما يكون منهما في الغد فقد ذهب إليهما بعض الناس يدعونهما إلى المبايعة.» وافترقا بعد هنيهة، فسار محمد إلى فراشه وقد أهمه أمر أسماء مثل ما أهمه أمر الخلافة لعلمه أن الحسن إذا وسَّط أباه في تزويجها به فسينالها لا محالة، فلم يبقَ لديه إلا أن يسعى في إبعادها عنه، وقضى ليلته يفكر في وسيلة ليخرج بأسماء من بيت علي حتى يخلو بها فيقنعها ببراءته من دم عثمان، ثم يتزوجها قبل أن يبدو من الحسن ما يشعر برغبته فيها. فبكر في الصباح التالي وجاء إلى حجرة الحسن فلم يجده، وقيل له: «إنه ذهب إلى حجرة أمامة»، فعلم أنه سيقابل أسماء هناك، وسارع إلى إرسال من يستقدمه، فجاء الحسن مشرق الوجه، بادي الابتهاج، فانقبضت نفس محمد، وكادت الغيرة أن تبين في وجهه ولكنه تجلد وحياه وقال: «كيف أصبحت فتاتنا اليوم؟» فقال الحسن: «هي في خير ولكنني أراها منقبضة النفس.» فسُرِّي عن محمد إذ رأى في ذلك دليلًا على بقائها على عهده، وقال: «أظنها حزينة على أبيها فإنه قُتِل في دار عثمان، وأرى أن نخرج بها لتحضر مجلس أبيك وحديث القوم في أمر البيعة لعلها تُشغَل بما تراه هناك عن أحزانها.» قال: «وكيف تجالس الرجال؟» قال: «أرى أن تذهب متنكرة.» وكان الحسن أشد ميلًا من محمد إلى اصطحابها، ولا يدري ما يخالج قلب محمد فقال: «لقد رأيت صوابًا.» وذهب لاستقدامها، وما لبث أن عاد وهي معه وقد تنكرت. فلما رآها محمد حياها وهو ينظر إلى وجهها نظرة لا يفقهها إلا من عانى الحب والغيرة، ولبث ينظر إلى ما يبدو منها فأبرقت أسرتها حالما وقع نظرها عليه، فسُرِّي عنه وقال لها: «أظنك تودين حضور مجلس مولاي أبي الحسن؟» قالت: «كيف لا وأنت تعلم ما يجول في خاطري؟!» فأدرك محمد أنها تشير إلى حبها، فوثق من أنها باقية على عهده فقال: «إذا فرغنا من هذا المجلس سلمت لك جوادك ومتاعك الذي كان لك في منزل عثمان، وقد وعدتك أن أحتفظ به.» فأثنت عليه، وأشارت بعينيها إشارة فهم محمد منها مرادها والحسن لا يشعر. ثم قال الحسن: «هلمَّ ندخل إلى أبي قبل حضور الناس عنده.» فدخل هو أولًا، ثم دخلت هي ومحمد. ••• وعندما دخلت أسماء وهي في لباس الرجال حسرت بعض اللثام وهمَّت بتقبيل يد علي، وكان جالسًا فوق وسادة وعليه إزار وطاق وعمامة خز وقد ازدادت هيبته، وأرسل عمامته إلى الوراء حتى ظهرت صلعته، ثم أخذ يمشط لحيته بأصابعه وعيناه الدعجاوان تتلألآن في وجهه والذكاء ينبعث منهما. فلما رأى أسماء مقبلة ابتسم وحياها وسألها عن حالها، فقالت: «إني بفضل مولاي في خير وعافية.» قال: «إن كلامك يا بنية ما زال يرن في أذني مذ جئتنا قبل مقتل عثمان — رحمه الله — فقد قلت: «إن في مقتل الخليفة إيقاظًا للفتنة.» وأراها استيقظت وأنك كنت على صواب.» قالت: «إن الفتنة لتستحيي من ابن عم رسول الله فتعود إلى نومها إذا هو قبض على زمام الخلافة.» فأعجبه أسلوبها وحدة ذهنها، ودعاها إلى الجلوس وهو يقول: «أراك خلعت زي النساء ولبست زي الرجال يا أسماء.» قالت: «لقد ارتديت هذا اللباس لأستطيع أن ألقى رجل هذه الأمة.» ولم تكد أسماء تجلس حتى جاء فتى يستأذن عليًّا في دخول بعض الصحابة فأذن، ودخل عليه جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم طلحة والزبير، وكانت أسماء تعرفهما من قبل. فجلسوا حتى غصت القاعة بهم، وتصدر طلحة والزبير القوم وعلا وجهيهما انقباض كأنهما يخفيان أمرًا، فأدركت أسماء أنهما جاءا مكرهَين. وما لبثوا حتى نهض واحد من أهل المدينة وخاطب عليًّا قائلًا: «لقد جئنا إلى علي بن أبي طالب نطلب منه أمرًا ونرجو ألا يردنا فيه خائبين.» فقال علي: «وماذا تريدون؟» قالوا: «جئنا نبايعك على الخلافة لأننا لا نرى أحدًا أحق بها منك.» قال وهو ينظر إليهم جملة: «ما زلت أرجو إعفائي من هذا الأمر، فإني أراه طريقًا وعرًا.» قال قائل منهم: «ومن تُرى أقدم منك سابقة وأقرب قرابة من رسول الله وقد صرح بأنه: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق؟» قال: «كلكم لها أكفاء، وسأبايع بها من تبايعون.» قالوا: «لا نرى غيرك أحق بها وقد قال رسول الله: عليٌّ مني وأنا من علي، وهو وليُّ كل مؤمن بعدي.» قال: «قلت لكم دعوني واطلبوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول.» فوقفوا وقد نفد صبرهم وقالوا: «نناشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟» فلما سمع علي تأنيبهم سكت وقد ضاق بهم ذرعًا وعظم عليه الأمر فأطرق يتململ، ثم نظر إليهم فإذا هم سكوت ينتظرون جوابه فقال لهم: «قد أجبتكم.» ولم يكد ينطق بها حتى ضج الناس استحسانًا وتهللت وجوههم فرحًا، إلا طلحة والزبير فإنهما ظلا صامتَين. فلما رأى علي حسن لقائهم برغم سكوت طلحة والزبير، نهض فنهض الناس وهم ينظرون إليه ليروا ما يقول فإذا هو يضطرب كأنه تنبأ بما يتوقعه من جلائل الأمور، ثم أشار إليهم وقال: «اعلموا أني إذا أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، فإنما أنا كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه.» فقالوا: «كلنا أطوع لك من بنانك، ومن ذا الذي لا يطيع ابن عم رسول الله وأخاه ووصيه ونصيره وربيبه وحبيبه وخليفته، والذي قال فيه: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه!» وقال: «عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى»؟ فكيف نبايع سواك؟» فقال: «إذا كنتم لا ترون بدًّا من المبايعة فلتكن في المسجد.» قالوا: «هلمَّ بنا إلى المسجد.» ••• فنهضوا ونهض علي بن أبي طالب، ومشى وهو يتكفَّأ وبيده قوس يتوكأ عليها، حتى أقبل على المسجد والناس بين يديه، وكان محمد وحسن وأسماء بالقرب منه. فلما دخلوا المسجد قرأ عليٌّ الفاتحة وصلى ثم وقف ووقف الناس، فنظرت أسماء إلى الجمع وقد هاجوا وماجوا فرأت طلحة وقد تقدم إليه قبل الجميع ومد يده فمدَّ عليٌّ يده فصافحه طلحة، وقال: «إنا نبايع سيدنا ومولانا الإمام، المفترَض الطاعة على جميع الأنام عليًّا بن أبي طالب، على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد أمير المؤمنين. ونسلم له النظر في أمورنا وأمور المسلمين لا ننازعه في شيء ونطيعه فيما يكلفنا به من الأمر على المنشط والمكره، وعلى ألا خليفة سواه.» وأدركت أسماء من هيئة طلحة وغنة صوته ومجمل حاله أنه إنما بايع مكرهًا. ثم سمعت رجلًا من الوقوف خلفها يقول لجاره همسًا: «إنا لله وإنا إليه راجعون! إن أول يد بايعت يد شلَّاء، لا يتم هذا الأمر!» فالتفتت أسماء إلى محمد كأنها تستفهمه مغزى ما يقوله الرجل، فدنا منها وقال لها: «إن في يد طلحة شللًا خفيفًا من يوم أحد، والذي سمعته يتكلم رجل من أهل العيافة تشاءم بتلك المبايعة.» قالت: «أرجو ألا تصدق عيافته.» وبعد أن بايع طلحة تنحَّى وتقدم الزبير فبايع، ثم بايع غيره من الأمراء جملةً وفرادى. إن الله تعالى أنزل كتابًا هاديًا بيَّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير وأصدفوا عن سمت الشر، أدوا إلى الله يؤدِّكم إلى الجنة. إن الله حرم حرمًا غير مجهول وأحلَّ حلالًا غير مدخول، وفضل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. إن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، واتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم. وأطيعوا الله ولا تعصوه. وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه، واذكروا أنكم قليلون مستضعفون في الأرض. وكان محمد قد خامر سروره قلق لما قام في ذهنه من ميل الحسن إلى أسماء، فلما انفض الجمع ورأى الحسن مع أبيه والناس حوله يهنئونه، أشار إلى أسماء فتبعته وقد أدركت ما في ضميره، وأحست ما في نفس الحسن وقد استملحته ولكنها بقيت على حب محمد وهو أول من طرق قلبها، فلما دعاها سارت في أثره وهي تتجاهل مراده حتى وصلا إلى بيت العجوز. فلما خلا بأسماء نظر إليها نظرة لم يخفَ مغزاها عليها، فابتدرته قائلة: «أرى المدينة غاصَّة بالناس وقد شُغِلوا بخليفتهم فلم يعد يطيب المقام فيها.» فأُعجِب محمد بحسن فراستها ورقة إحساسها، ولكنه خاف أن تكون مضمرة غير ما تظهر فقال: «وما الذي بغَّض إليك الإقامة بالمدينة؟» قالت: «بغَّضها إليَّ ما حبَّب محمد إليَّ.» قال: «وكيف تتركين عليًّا وأهله؟» قالت: «ما لي ولأهله؟» قال: «ألا ترين أن أمامة تفتقدك؟» قالت: «أظنها تفتقدني وقد يفتقدني غيرها، ولكنني لا أبالي أحدًا.» فأدرك أنها عرفت نيته فقال: «لقد تم الأمر لعلي فهو اليوم أمير المؤمنين، وقد استقام لنا الأمر وسأنظر ما يكون من تبديل عماله على الأمصار، ونتدبر ذلك في حينه. أما الآن فأرى أن تقيمي عند أختي عائشة أم المؤمنين.» وكانت أسماء قد علمت منه أنها سارت إلى مكة لقضاء مناسك الحج عندما كان عثمان محاصرًا ولم تسمع أنها عادت، فقالت: «هل عادت أم المؤمنين من مكة؟» قال: «لم تعد بعد، وقد قُتِل عثمان وتولى علي وهي غائبة، وقد تقيم هناك حقبة أخرى.» قال ذلك وهو يعلم أن مجيئها قريب، ولكنه خشي إن هو أعلم أسماء بذلك ألا تعود ثمة حاجة في خروجها من المدينة، فتضطر إلى أن تقيم ببيت علي وتأبى عليه غيرته ذلك. قالت أسماء: «هل أذهب إليها؟» قال: «أرى أن تذهبي فتقيمي عندها وتشاهدي بيت الله الحرام ومشاهدة مكة، فإذا عادت أختي عدت معها، وإذا أقامت طويلًا ذهبت أنا لاستقدامك ونكون قد عرفنا مصيرنا.» قالت: «إن في ذهابي إليها شرفًا عظيمًا، ولكن كيف أسير وحدي؟!» قال: «أرى أن تصحبك هذه الخالة (وأشار إلى العجوز) فإن لها دالَّة على أختي، وذهابها معك يغنيني عن الإيصاء بك، وسأرسل معكما من يوصلكما إليها. ويحسن بك أن تطلبي أنت الشخوص إليها.» قال ذلك ونظر إليها وهو يبتسم. ففهمت مراده وأدركت أنه يخاف أن يعلم علي أو الحسن أنه هو الذي حملها على الشخوص، فقالت: «نعم، فأنا الراغبة في المسير لأكون بجوار أم المؤمنين. أين جوادي وأمتعتي؟» قال: «هنا عند الخالة، فامكثي عندها إلى الغد فآتي إليك بمن يسير بك إلى مكة.» قال ذلك وهمَّ بالخروج. فقالت له أسماء: «ولا يبرح من ذهنك أني ما زلت أتوقع اليقين عن مقتل عثمان وتفصيل ما تبرئ به نفسك.» قال: «غدًا تلاقين أم المؤمنين فاسأليها عن عثمان وهل استحق القتل وهي تجيبك بما يغنيك عن سؤالي. ألا ترضين بها حَكَمًا؟» قالت: «أرضى». قال: «إنها من أول القائلين بقتله، ومن قولها: اقتلوا نعثلًا — لقب عثمان — فقد كفر.» وتركها محمد ومضى، فلما كان صباح الغد جاء وقد أعد جمالًا وهودجًا، فلما رأت أسماء الجمال قالت: «وما تلك؟» قال: «هي جمال ولا يصلح لركوب الصحراء غيرها، فإن بيننا وبين مكة بضع مراحل والطريق وعر.» قالت: «ولكنني أوثر الفرس، وكذلك فعلت في قدومي من الشام، وقد خوفوني ركوب الأفراس في الصحراء فأبيت إلا ركوبها.» قال: «لا يجمل بك أن تركبي فرسًا ورفيقتك هذه لا تستطيع ركوبه، فاركبي الجمل فإنه أصلح لهذا الطريق واتركي جوادك هنا فلا خوف عليه. وقد علمتُ أن رجلًا من أخوال أم المؤمنين من بني الليث واسمه عبيد بن أبي سلمة عاد إلى مكة، فعهدت إليه في أن تسيرا معه فيوصلكما إلى منزل أختي.» فعجبت أسماء لوصفه الرجل بأنه من أخوال أخته وحدها، فسألته عن ذلك فقال: «إن عائشة من أم غير أمي ولم تسنح لك الفرصة أن تريها بالأمس، فعسى أن تريها في فرصة أخرى.» قال ذلك وأمر العجوز فأخذت في إعداد ما يلزم للسفر وجعلت تجمع صررها؛ صرة فيها المشط، وصرة فيها السواك، وصرة للنعال … ونحو ذلك. ولم يمضِ ساعتان حتى تهيأ كل شيء. وجاء عبيد بن أبي سلمة فأوصاه بالعجوز والفتاة خيرًا وودعهما. فقالت له أسماء وهي تشد منطقتها حول خصرها وتتهيأ للدخول في الهودج: «متى أراك؟» قال: «أرجو أن أراك قريبًا في مكة أو أبعث في استقدامك متى استقام الأمر وهدأت الأحوال.» فودعته وسارت وقد تلثمت بلثام السفر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/9/
المطالبة بدم عثمان
لم تكد أسماء تخرج من المدينة حتى أشرفت على قباء فهاجت أشجانها وتذكرت أمها، فترجلت عند المسجد فلقيها خادمه الشيخ فدعا امرأته فرحبت بأسماء ومن معها، فطلبت أسماء أن تزور قبر أمها، فزارته وبكت بكاءً مرًّا حتى كاد يُغشَى عليها لو لم ينهضها الرفاق. ولما رآها ابن أبي سلمة على تلك الحال أسرع في الترحال فشدوا الأحمال وركبوا قاصدين إلى مكة، وكان قد تأثر لما رآه من حزن أسماء فأراد أن يواسيها، فلما شارف جبل أحد وهو على أربعة أميال من المدينة غربًا أحب أن يشغلها بالحديث فقال لها: «انظري إلى هذا الجبل فإنه أُحُد الذي وقعت عنده الوقعة بين المسلمين ومشركي قريش على عهد النبي ﷺ.» وقص عليها حديث الغزوة. وقضوا في سفرهم ثلاثة أيام حتى شارفوا جبال مكة عند قرية يقال لها «سرف» على ستة أميال من مكة، فرأوا ركبًا قد وصل وفيه ناقة عرف عبيد أنها ناقة عائشة لما رأى هودجها وعليه رداء أحمر يجلله كله، فترجل وترجلت أسماء والعجوز واشتغل العبيد في عقل النوق. وسُرَّت أسماء برجوع عائشة على عجل لعلها ترجع معها إلى المدينة فتلقى محمدًا، فقالت للعجوز: «وأين أم المؤمنين؟ ولمَ أسرعت في الرجوع من مناسكها؟» فالتفتت العجوز يمنة ويسرة حتى استقر بصرها على فسطاط كبير مبطَّن بالحرير الأحمر عند بابه بدويان واقفان، فقالت: «هذا هو فسطاطها، وقد وقف الخدم عند بابه.» فقالت: «وهل نذهب إليها الآن؟» قالت: «تمهلي لنرى ما يكون من ابن أبي سلمة.» ثم سارت العجوز إليه وكان يعقل ناقته ويصلح حاله قبل الدخول إلى الفسطاط، فازدادت أسماء تهيبًا من الدخول على أم المؤمنين وقالت للعجوز: «وهل تنوي الإقامة بهذا المكان؟» قالت: «يلوح لي أنها على سفر.» ثم دنت من قائد جملها فسألته عن سفر أم المؤمنين فقال: «إنها شاخصة إلى المدينة.» فقالت أسماء: «وما العمل الآن، هل نرجع معها أم نظل في طريقنا إلى مكة؟» قالت: «سنرى في ذلك متى التقينا بها، فإذا أمرتنا بالرجوع معها رجعنا وإذا أرادت أن ندخل مكة دخلنا.» قالت: «هل ننتظر رفيقنا لندخل معه أم نسبقه إليها؟» قالت: «أرى أن ندخل فسطاطها قبله، مخافة أن تكون هي مسرعة في القيام فلا نتمكن من التكلم معها.» قالت: «وهل تعرفينها من قبل؟» قالت: «أعرفها جيدًا وقد عشت في بيت أبيها — رحمه الله — وكثيرًا ما حملتها على عاتقي وهي طفلة، ولهذا أحن إليها حنين الوالدة.» قالت: «فلندخل عليها»، قالت: «هلم بنا». ومشت أمامها فتبعتها أسماء حتى دنت من الفسطاط، فاستأذنتا في الدخول فأُذِن لهما، فدخلتا وكلتاهما هائبة الوقوف بين يدَي زوج النبي. أما أسماء فكانت على شجاعتها وثبات جأشها قد شعرت عند دخولها الفسطاط باضطراب وازداد خفقان قلبها واحمرَّت وجنتاها، ثم امتُقِع لونها رهبة من لقاء أم المؤمنين. وكانت عائشة جالسة الأُربُعاء على وسادة من الخز في صدر الخيمة، فنظرت أسماء إليها فإذا هي ربعة ممتلئة الجسم تتلألأ الصحة والذكاء من عينيها، وفوقهما حاجبان متقاربان يشيران إلى ما أودعه الخالق فيها من الأنفة والمهابة، وقد تجلببت بجلباب من الحرير يغطي كل أثوابها فوقه نقاب يكسو رأسها فيزيدها جلالًا ووقارًا. فاستأنست أسماء برؤيتها لشدة ما أشبهت محمدًا حتى لا يشك الناظر إليها أنها أخته، وكانت قد علمت أنها قاربت الثالثة والأربعين من عمرها، فلما رأتها خُيِّل إليها أنها دون الثلاثين لما في وجهها من إشراق وصحة وشباب. فلما دخلتا حيَّتاها، وهمَّت العجوز بتقبيل يدها فمنعتها عائشة وقالت: «أهلًا بك يا خالة، أهلًا بك»، وأمرتها بالجلوس فجلست. وتقدمت أسماء في خَفَر واحتشام وقبَّلت يدها ووقفت متأدبة حتى أذنت لها في الجلوس، فجلست مطرقة لا تتكلم وقد ذهبت عنها جرأتها لتهيبها اللقاء. فنظرت عائشة إلى العجوز وابتسمت كأن في نفسها أمرًا تخشاه أو كأنها مشتغلة بأمرها، وقالت: «مرحبًا بك يا خالة، ما الذي جاء بك إلينا؟ كيف فارقت محمدًا؟» قالت: «فارقته في خير وعافية، وقد بعثني إليك بهذه الفتاة أودعها عندك لتكون في كنفك حتى يجيء.» قالت ذلك وتبسمت. فنظرت عائشة إلى أسماء فأعجبها ما فيها من الجمال والكمال، وأدركت مما علا وجهها من ظلال الحياء عند ذكر محمد أنها تحبه، فتبسمت ورنت إلى العجوز بعينيها مشيرة إشارة أثبتت ظنها. فقالت لأسماء: «أهلًا بالضيفة العزيزة وديعة أخي فأنت إذن أختي.» فتوردت وجنتا أسماء خجلًا ولم تجب. فقالت عائشة: «أظنكما جئتما لتقيما عندي بمكة؟» قالت العجوز: «نعم يا مولاتي.» قالت: «ولكنني شاخصة الآن إلى المدينة فاذهبا إلى بيتي بمكة حتى أعود، أو تعاليا معي إلى المدينة.» ثم التفتت إلى أسماء وقالت: «وما بالك لا تتكلمين؟» فرفعت أسماء رأسها وقالت: «تلعثم لساني بين يدَي أم المؤمنين زوج الرسول.» فابتدرتها عائشة قائلة: «ولكنك ستكونين من ذوات قربانا بإذن الله فلا تتهيبي. أهلًا بك ومرحبًا.» فقالت العجوز وهي تريد أن تداعب أسماء: «لتعلم مولاتي أن أسماء بنت يزيد من بني أمية، قدمت المدينة من قبل منذ بضعة أشهر فقط، وكانت مقيمة بالشام فلا تعرف عادة أهل الحجاز.» فقالت عائشة: «مهما يكن من أمرها فلن تلبث حتى تصير حجازية.» ••• وسكتت عائشة هنيهة وهي مقطبة الوجه، ثم استأنفت الحديث فقالت: «وهل جئتما في رفاق أم مع قافلة؟» قالت: «جئنا مع عبيد بن أبي سلمة أحد أخوالك.» فلما سمعت عائشة اسمه أجفلت وقالت: «وأين هو؟!» قالت: «آتٍ عما قليل.» فلم تصبر عائشة ونادت بعض من على بابها وأمرته أن يأتي به، وأرخت النقاب ولبثت صامتة، وهما صامتتان هائبتان، حتى دخل عبيد وهمَّ بتقبيل يد عائشة فمنعته، وقالت: «أهلًا بالخال، قل ما وراءك، كيف فارقت المدينة؟» قال: «فارقتها وقد قُتِل عثمان وبقي ثمانية.» فلما سمعت ذلك قطبت حاجبيها وظهر الغضب على وجهها، فتفرست في عبيد والشر يكاد يتطاير من حدقتيها، وأسماء تراقبها من خلال النقاب وقد ذُهِلت لما بدا منها. أما عائشة فلم تصبر حتى يتم حديثه، فقالت وكأنها تتحفز للنهوض: «ثم صنعوا ماذا؟» فلم يستغرب عبيد ما بدا منها، ولعله كان يتوقعه فقال: «أجمعوا على بيعة علي.» فهبت عائشة من مجلسها، ثم وقفت وأطرقت وقد أمسكت طرف نقابها كأنها تصلحه، ثم رفعت رأسها بغتة وأشارت بيدها إلى السماء ثم إلى الأرض وقالت: «ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك!» قالت ذلك وخرجت مسرعة وهي تقول: «ردوني، ردوني إلى مكة! قُتِل والله عثمان مظلومًا! والله لأطالبن بدمه!» فبُغِتت أسماء لما رأت من اهتمام عائشة بالأمر إلى هذا الحد، وساءها ما سمعته من التعريض بعلي، ولكن التهيب منعها من الكلام. أما عبيد فبقي رابط الجأش، وربما كان على بينة مما سيبدو من أم المؤمنين فأعد لكل خطاب جوابًا، فاستوقفها وقال لها: «ولمَ؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلًا فقد كفر! ألم تخرجي قميص رسول الله وشعره لما علمت بأعمال عثمان وتقولي: هذا قميصه وشعره لم يبلِ وقد بلي دينه …؟!» فلما سمعت عائشة قوله أدارت وجهها إليه وقالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقولي الأخير خير من قولي الأول.» قالت ذلك وأمرت رجالها أن يهيئوا الأحمال للرجوع إلى مكة. فنظر إليها عبيد وهي خارجة وأنشد: فلم تعبأ عائشة بقوله، فتركها وانصرف. أما أسماء فلبثت هي والعجوز وكأن على رأسيهما الطير لا يفقهان حديثًا، وكانت أسماء قد همت بأن تجيب عائشة ولكنها خافت غضبها، فرأت من الحكمة والتعقل أن تؤجل ذلك إلى فرصة أخرى. فلما تهيأت الأحمال بعثت عائشة إلى العجوز وأسماء فركبتا معها، وسار الجميع قاصدين البيت الحرام، وأسماء صامتة وقد أدهشها ما رأته من تغير عائشة بغتة لأمر لم تكن تتوقعه. على أنها مالت لمعرفة الدليل على صحة قولها في مقتل عثمان وهو الأمر الذي كان يقض مضجعها، وكانت من جهة أخرى تخشى أن يثبت قتله ظلمًا فيحدث ما يدعوها إلى البعد عن محمد وهذا ما لا تطيقه، فقضت مسافة الطريق هائمة الفكر حتى أطلت على مكة وأشرفت على الكعبة، وهي في وسطها كأنها ملك والأبنية حولها جنود. ولم يمضِ قليل حتى وصل ركبهم إلى الكعبة فترجلت عائشة وترجل الجميع، وسارت توًّا إلى الحجر فاستترت فيه، وهو مصطبة محوطة بحائط إلى ما دون الصدر، منه ما تركت قريش من الكعبة واقتصرت في بنيان الكعبة عنه، ويقال إن فيه قبر سارة. فلما رأتها أسماء تدخل الحجر دخلت في أثرها والعجوز معها، ولكنهما لم يتكلما لتهيبهما من غضبها. ••• ما كادت عائشة تدخل الحجر حتى اجتمع الناس حولها وفي مقدمتهم عبد الله بن عامر الحضرمي عامل عثمان على مكة، ورأت أسماء بينهم جماعة من بني أمية ممن غادروا المدينة بعد مقتل عثمان ولم يكن مروان معهم. ولم يكد يستقر بالناس المقام حتى وقفت فيهم عائشة وقالت وهم سكوت يصغون إليها، وكانت جَهْوَرِيَّة الصوت: «أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلمًا ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم من كان قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذرًا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، ولو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه!» فما أتمت كلامها حتى هاج الناس وماجوا، ثم تصدى عبد الله بن عامر الحضرمي وقال والناس يسمعون: «ها أنا ذا أول طالب.» وكان هو أول من أجاب الدعوة إلى المطالبة بدم عثمان. وكانت أسماء تزداد حيرتها ولا تفقه لهذا الأمر سببًا معقولًا، فالتفتت إلى العجوز فرأتها صامتة مطرقة وقد امتُقِع لونها وارتجفت شفتاها. فأدركت أن في الأمر سرًّا لا تستطيع أن تبوح به. وأذنت الشمس بالمغيب فأشارت عائشة إلى الناس أن ينصرفوا فتفرقوا، وخرجت هي إلى منزلها وأسماء في أثرها وقد هالها ما رأته في يومها من المدهشات. وجاء القوم إلى منزل عائشة في العشاء فأُطعِمُوا، ولم تجرؤ العجوز ولا أسماء أن يجلسا معها تلك الليلة، فباتتا وأسماء تنتظر الغد لترى عائشة وتستطلعها الخبر اليقين. فلما أقبل الصباح نهضت أسماء والعجوز، وقالت أسماء: «لقد أدهشني أمر لم يبقَ لي صبر على السكوت عنه، وليس لي من يفرج كربتي سواك.» قالت: «سلي ما تريدين؟» قالت: «لقد سمعت من أم المؤمنين ما جهرت به في شأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو كما تعلمين ابن عم الرسول وهي زوجه، فما بالها تعمل عليه وكان أولى بها أن تكون معه؟!» ففهمت العجوز وجالت بعينيها ونهضت كأنها تقول: «لا يعنيني هذا ولا أريد البحث فيه.» وكانت ملامح وجهها تنم عن تكتمها، فتوسلت إليها وألحت عليها فقالت: «إن في الأمر سرًّا قلَّ من يعرفه سواي، ولكنني أخاف أن أبوح به.» فازدادت أسماء شوقًا لسماع السر، وجرَّت نفسها على البساط حتى التصقت بها وقالت: «بالله عليك فرجي كربتي بكلمة، ولن أبوح بشيء مما تقولين!» فالتفتت العجوز يمنة ويسرة تحاذر أن يسمعها أحد وأدنت شفتيها من أذن أسماء وهمَّت بالكلام، ثم أجفلت بغتة وابتعدت عنها وأصغت فإذا بوقع أقدام خفيفة ثم بقارع يقرع الباب وجارية تناديها، فنهضت وفتحت الباب فدخلت جارية حبشية حيَّتها وقالت: «إن مولاتي أم المؤمنين تدعوكما إليها.» ••• فسُرَّت أسماء لهذه الدعوة على أمل أن تتمكن من الاطِّلاع على شيء مما ترومه، ودخلتا على عائشة فإذا هي جالسة على طنفسة من السجاد الثمين وقد خلعت الجلباب فبانت أثوابها الزاهية، وبان معصماها وعنقها، وعليها الدمالج والأساور والعقود مما زادها مهابةً وجمالًا. فلما دخلتا قبَّلتا يديها وجلستا على وسائد من الدِّمَقْس الملون بالقرب منها، فلبثت برهة لا تتكلم ثم وجهت خطابها إلى العجوز وقالت: «كيف قتلوا عثمان يا خالة؟» قالت: «دخلوا عليه عنوة وقتلوه في داره بعد أن أحرقوا الباب والسقيفة.» قالت: «من قتله؟ وكيف كان ذلك؟» فسكتت العجوز برهة ثم قالت: «لا أظنني أستطيع وصف الحادثة كما تصفها أسماء فقد شهدتها بنفسها وكانت في داره ساعة مقتله.» فالتفتت عائشة إلى أسماء وقالت: «هل كنت في الدار ساعة القتل؟» قالت: «نعم يا مولاتي.» قالت: «وكيف كان ذلك؟» فشَقَّ على أسماء أن تقص الواقعة كما جرت لأنها تمس محمدًا، ولكنها لم ترَ بدًّا من الجواب فقالت: «يطول الحديث لو أردت بسطه، ولكني أوجزه فأقول: إنهم استتابوه فتاب ثم رجع، ولقد نصح له علي بأن يصم أذنيه عن سماع مشورة كاتبه وابن عمه مروان فلم يصغِ، وعاد إلى ما كان عليه. وعلم الثائرون ذلك فطلبوا إليه أن يسلمهم مروان فيعودوا، فلما أبى دخلوا منزله عنوة وقتلوه.» قالت: «ومن قتله؟» قالت: «اثنان لا أعرفهما ولكنهما من صعاليك العرب، وليسا من الصحابة ولا من أبنائهم.» فتأوهت عائشة وحرقت أسنانها وقالت: «كيف يقوى الصعاليك على قتل الخليفة وكبار الصحابة ينظرون ولا يدفعون عنه بسيف أو لسان؟!» فقالت أسماء: «إنهم دافعوا عنه جهدهم، إن عليًّا أرسل ابنيه الحسن والحسين إلى الدار، وكذلك فعل الصحابة. رأيتهم هناك يدفعون الناس عن بابه حتى تلطخ وجه الحسن بالدم. ولكن عثمان — رحمه الله — منعهم.» فتبسمت عائشة ابتسامًا إنكاريًّا، وقالت: «أتصدقين أن عليًّا أراد أن يدفع الناس عن عثمان فلم يستطع؟!» وسكتت كأنها ضاقت ذرعًا بالخوص في تفاصيل الموضوع، وكادت تهم باستئناف الحديث فابتدرتها قائلة: «اسمحي لي يا مولاتي أن أؤدي شهادة لا أستحي أن أصرح بها أمام الديَّان العظيم: إن عليًّا بريء من دم عثمان، بل هو أول ناقم على هذه الفتنة ويراها مضعضعة الإسلام لا سمح الله!» قالت: «أراك يا بنية تنظرين إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، أيُعقَل أن عليًّا وهو صاحب الكلمة التي لا تُرَد في أهل المدينة قصد إلى الدفاع عن عثمان وأنه غُلِب على أمره؟!» قالت: «عرفت يقينًا أنه أول غاضب على القائمين بهذه الفتنة، ولقد سمعته اتفاقًا ذات ليلة وهو يناجي رسول الله عند قبره، يشكو إليه ما أصاب أمته من التشتت بعده، فسمعت كلامًا يتفتت له الصخر يتخلله البكاء حزنًا على الإسلام. إن عليًّا يا مولاتي مخلص في قوله وفعله ولا لوم عليه، ولعلك إن وجهت اللوم إلى القاتلين أو المحرضين وجدت القول ذا سعة، وأما إلى علي فلا.» قالت ذلك وهي ما زالت تتهيب موقفها بين يدي أم المؤمنين، فما أتمت كلامها حتى تصبب العرق من جبينها. فتحركت عائشة في مجلسها وقالت وقد أخذ منها الغضب مأخذًا عظيمًا: «إن أولئك القتلة قد اقترفوا إثمًا عظيمًا وأكثرهم لا يشعرون، وإنما حرضهم على هذا المنكر شيوخهم ورؤساؤهم، فإنك تجهلين أمورًا أعلمها ولا أجهل شيئًا تعلمينه!» وسكتت برهة وأسماء مطرقة وقد تحيرت كيف تجيب. فاستأنفت عائشة الحديث وقالت: «لقد وقع إليَّ أن أخي محمدًا كان في عداد المغرورين»، ثم خفضت صوتها وقالت وهي تلقي يدها على الوسادة لتتكئ عليها: «ولكنه غير ملوم.» فلما سمعت أسماء ذلك ثارت ثائرة حبها محمدًا وهمت بأن تدرأ عنه التهمة، وخشيت أن يؤدي بها الدفاع إلى الكذب فلبثت صامتة، ونظرت إلى العجوز فرأتها ترتعش خوفًا ورهبة. وظل الجميع برهة لا تفوه إحداهن بكلمة حتى عادت عائشة إلى الكلام، فنظرت إلى أسماء وقالت وهي تحاول إخفاء غضبها: «لا أنكر أن عثمان أخطأ في تصريفه أمور الخلافة، ولكنه خطأ لا يدعو إلى القتل.» فأحبت أسماء أن تسمع رأي عائشة فيما ارتكبه عثمان من الخطأ فقالت: «هذا ما سمعته من أخيك محمد، ولكنه يرى أن خطأه أعظم من أن يُغتفَر.» قالت وقد عاودها غضبها: «إن محمدًا لا يعرف ما أعرفه، ولو جاءني الآن لجادلته وأقنعته بضلاله!» ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت إحدى الجواري تقول: «إن بعض الأمراء بالباب.» فلما سمعت أسماء ذلك نظرت إلى عائشة فرأتها توقفت عن صرف الجارية، فأدركت أنها راغبة في مقابلة القادمين فنهضت واستأذنت في الانصراف إلى حجرتها فأذنت لها، فخرجت والعجوز في أثرها وكلتاهما صامتة تفكر فيما سمعته. ••• وأحست أسماء عقب خروجها بقشعريرة شديدة، فأوت إلى الفراش والبرداء تعمل في أحشائها، فتبعتها العجوز وجلست إلى جانبها وجست يدها فإذا هي باردة كالثلج، فدثَّرتها وأكثرت في غطائها وهي تنتفض بردًا. فقلقت العجوز وسألتها عما بها فقالت: «أحس بارتخاء في أعضائي ورعدة في أحشائي.» قالت ذلك وأسنانها تصطك، فأرادت العجوز أن تخفف عنها فقالت لها: «لا بأس عليك، إن ما أُصِبت به من أثر التعب الذي قاسيناه في الطريق.» وظلت العجوز تخفف عنها حتى خفت البرداء واحمرَّ وجهها احمرارًا شديدًا، فجستها العجوز فإذا هي محمومة فخففت من دثارها وخرجت تستشير أهل الدار في علاجها، فأشارت عليها بعض النساء بعسل تشربه ممزوجًا بالماء، فجاءتها بقدح من مزيجه فلم تتناول منه شيئًا. فتقدمت إليها وقبَّلتها وتوسلت إليها أن تشرب العسل فلم تجبها، ثم ما لبثت أن رأت دموعها تهمي وهي تحاول إمساكها، فألحت عليها أن تشرب فازدادت أسماء بكاءً وشهيقًا وقد احمرَّت عيناها وذبلت أجفانها، واشتدت عليها الحمى اشتدادًا عظيمًا. فحارت العجوز في أمرها وحدثتها نفسها أن تنبئ أم المؤمنين بما حدث فتذكرت اشتغالها بمن قدم إليها من الأمراء، فلبثت بجانب الفراش تنظر إلى أسماء ولا تتكلم. ثم سكتت أسماء وأغمضت عينيها كأن النعاس غلب عليها ففرحت العجوز لنومها، فتركتها وخرجت لعلها تلقى من تستشيره في علاجها، ولم تكد تخرج حتى سمعت أسماء تتكلم فظنتها تدعوها فأسرعت إليها، فإذا هي تهذي وقد انكشف الغطاء عنها وانحسر درعها وقميصها عن صدرها وانكمشت أكمامها لفرط تقلبها. فهمَّت العجوز بأن تغطيها وتصلح أثوابها فخافت أن توقظها، فدنت من الفراش لترفع الغطاء إلى صدرها فرأت الحجاب في عنقها ورسم الصليب على معصمها، فبُغِتت وتأملت في وجهها فراعها أن رأت لمحة من غير ملامح العرب الغرباء، وتفرست في رسم معصمها فإذا هو رسم الصليب وتحققت أن الحجاب من أحجبة النصارى فاستغربت الأمر، ثم تذكرت أن أسماء قلَّما كانت تبالي التحجب في حديثها مع محمد أو غيره، فقالت في نفسها: «لعلها كانت نصرانية ورُبِّيَت بين النصارى في الشام.» وكانت أسماء ساكنة استغرقت في النوم وقد أطبق جفناها وتورَّدت وجنتاها وأسرع تنفسها من الحمى، فكانت تلهث وفمها مفتوح فأزاحت العجوز الغطاء إلى صدرها خوف البرد، فسمعتها تهذي فأصغت لهذيانها فإذا هي تقول: «أماه! يا أماه! يا مريم! آه يا علي يا أبا الحسن، كيف ضاع السر؟! تعالَ يا حبيبي يا محمد! لا، لا، إذا كنت قد قتلت عثمان فابعد عني! لا، لا، بل تعالَ يا منيتي ورجائي! إن اسمك كان آخر ما نطقت به أمي! آه يا أماه! من هو أبي؟! أخبريني، قولي، أحيٌّ هو أم سبقك إلى العالم الآخر؟!» ثم خفضت صوتها وتلجلج لسانها فلم تعد تفهم العجوز شيئًا منه، ثم سكتت سكوتًا تامًّا واستغرقت في النوم، فجلست العجوز بالقرب من الفراش وهي تهم بأن تجسها لتتحقق الحمى، وخافت أن توقظها فعاذت بالصمت تفكر فيما سمعت منها وتعجب لجهلها أباها. وفيما هي في ذلك إذ جاءتها جارية تسعى وتقول: «إن أم الفضل جاءتك زائرة.» فلما سمعت اسم أم الفضل تحفزت لملاقاتها وقد سُرَّت بقدومها، وبعد هنيهة أقبلت أم الفضل تمشي لا يُسمَع لمشيها صوت، وكانت في نحو الستين من عمرها. فهمَّت العجوز بها وحيتها وقبَّلتها ودخلت بها إلى حجرة أسماء ودعتها للجلوس على البساط. فقالت أم الفضل وهي لم تنظر أسماء بعد: «إني أشم في هذه الحجرة رائحة الحمى»، والتفتت إلى الفراش وقالت: «من هو المريض عندك؟» قالت: «لقد جئتني في ساعة حرجة فعسى أن تخففي عني.» قالت: «إنما جئت لأسألك عن قتل الخليفة — رحمه الله — وما آل إليه الأمر بعده، فقد أهمني أمره كثيرًا، وسمعت بقدومك فأسرعت إليك، فأخبريني أولًا من هذا المريض عندك؟» قالت: «هي فتاة جئت بها من المدينة بإيعاز من ابن أختك محمد بن أبي بكر، لتقيم بضعة أيام عند أم المؤمنين حتى نرى ما يكون.» قالت: «وما شأن ابن أختي وشأنها؟» فالتفتت العجوز إلى فراش أسماء حذر أن تستيقظ فتسمعها، ودنت من أم الفضل وهمست في أذنها فقالت: «إنه ينوي أن يعقد قرانه بها.» وأرادت أم الفضل أن تسأل العجوز عن تفصيل مقتل عثمان، فإذا بأسماء تتأوه وأدارت رأسها نحوها وفتحت عينيها، فنهضت العجوز وجست يدها فإذا هي مبللة بالعرق وقد خفت الحمى قليلًا فقالت لها: «كيف أنت الآن يا بنيتي؟» فأشارت برأسها وعينيها أنها في راحة، ثم رأت أم الفضل فاستحيت منها وهمت بالجلوس، فنهضت أم الفضل إليها ودنت منها وهي تقول: «لا تزعجي نفسك يا ابنتي.» فتوسطتهما العجوز وقالت: «أظنك تستأنسين بلقاء أم الفضل لبابة خالة محمد بن أبي بكر أخت أمه، وأزيدك علمًا بأنها أول من أسلم بعد خديجة، وهي أيضًا زوج العباس عم النبي، وأخت ميمونة زوج النبي. ومن ولدها عبد الله بن العباس من خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل هو ابن عمه وابن عم الرسول، وأظنك رأيته غير مرة في مجلس علي، أو لعلك رأيته في دار عثمان فقد كان يتردد إليه وهو محاصَر حتى انتدبه ليحج بالناس.» فلما سمعت أسماء أن أم الفضل خالة محمد استأنست بها، ولما علمت أنها زوج عم النبي وأم عبد الله بن العباس زاد احترامها لها، فجلست وهي تمسح العرق عن جبينها ورحبت بها، فأسرعت أم الفضل وقبَّلتها وقالت: «أهلًا وسهلًا بك، كيف فارقت محمدًا؟» فتعجبت أسماء لسؤالها عن محمد وهي لا تحسبها تعرف علاقتها به، فلما رأت العجوز استغرابها ضحكت وقالت: «لا تستغربي يا أسماء، فإنها عالمة بكل شيء ولا يلبث المسك أن يضوع.» فأطرقت أسماء خجلًا ولم تجب. فجلست أم الفضل إلى جانب العجوز بالقرب من الفراش وقالت لها بصوت منخفض كأنها تحاذر أن يسمعها أحد: «هل اجتمعت بأم المؤمنين؟ وكيف وجدتها؟» قالت: «وجدتها ناقمة على قتلة عثمان، ولا أدري ما هي عازمة عليه.» قالت: «علمت أنها يوم وصولها إلى مكة دعت الناس إلى المطالبة بدم عثمان، وكان أول من أجابها منهم عامل هذه المدينة.» قالت: «نعم، وقد سمعت كلامها وكلامه ومعي أسماء، ولكنني لا أظنها تقرن القول بالفعل.» فابتسمت أم الفضل استغرابًا وقالت: «وما الذي حملك على هذا الظن؟!» والتفتت إلى أسماء فرأتها تلتحف وقد أحست بقشعريرة على أثر جلوسها، فأدنت أم الفضل فمها من أذن العجوز وخفضت صوتها وقالت: «هل تجهلين ما في نفسها على أمير المؤمنين؟» فعضت العجوز شفتها وأشارت بعينيها كأنها لا تريد الخوض في هذا الأمر أمام أسماء، وقالت: «إذن تظنينها مقدمة على الأمر؟» فتطاولت أم الفضل بعنقها نحو الباب حتى أطلت على الدار مخافة أن يسمعها أحد وقالت: «لا بد لها من ذلك فإن أهل مكة يد واحدة في هذا الأمر، وفيهم بنو أمية الذين هربوا من المدينة. وقد وقع إليَّ أن الزبير وطلحة قادمان أيضًا وكلٌّ منهما يريد الخلافة. وقد سار قوم لاستنصار أهل البصرة، وآخرون للكوفة، وغيرهم لتحريض أهل اليمن، وآخرون إلى الشام.» فابتدرتها العجوز قائلة: «أما أهل الشام فليسوا في حاجة إلى من يحرضهم، وفيهم معاوية ابن عم عثمان، وقد حملوا إليه قميص عثمان الملطخ بالدم وأصابع نائلة ليهيجوا أهل الشام على القاتلين.» فتنهدت أم الفضل وتأوهت وقد عظم عليها ما تتخوفه من تفاقم الفتنة حتى تناثر الدمع من عينيها وسكتت. ••• كانت أسماء تسمع حديث أم الفضل والعجوز وهي مضطربة لا تقوى على جواب، فلما رأت أم الفضل تبكي تذكرت بكاء عليٍّ عند قبر النبي في الليلة التي رأت فيها محمدًا لأول مرة، فانتقل ذهنها إلى محمد وما يعترض آمالها فيه من أمر اتهامه بقتل عثمان، وكانت لمَّا سمعت من قبل كلام عائشة انقلبت على محمد وكادت تتحقق ما سمعته لو لم يقم في قلبها برهان حبه، على أنها لم تزل على رغبتها في سماع دفاعه أو دفاع من يقول بقوله ويرى قتل عثمان. فلما رأت سعة علم أم الفضل وقد رافقت الإسلام في كل أطواره، كلمتها بصوت مختنق من تأثير الحمى فقالت: «إن في نفسي شيئًا لا صبر لي عليه.» قالت: «ما هو؟» قالت: «لقد شهدت مقتل عثمان — رحمه الله — وسمعت دعوى الناس عليه، ولكنني تحققت مما وقع من حوادث كثيرة أنهم ظلموه، وأن الذنب ليس ذنبه ولكنه ذنب مروان ابن عمه فقد كان يصرف شئونه كيف يشاء. لكن ابن أختك (تريد محمدًا) يزعم أنه يستوجب القتل، وقد جادلته في الأمر فوعد بأن يقنعني ويجيئني بالبرهان.» وهناك أمور أخرى نسبوها إليه كمخالفة الجماعة في إتمام الصلاة بمنى، وانفراده بأقوال شاذة ونحو ذلك. ولكن لأصحابه حججًا يدفعون بها عنه، وهي طويلة لو أردت ذكرها لطال بنا الكلام. وكانت أم الفضل تتكلم بصوت منخفض، وأسماء تمد عنقها وكلها آذان مصغية فاطمأن قلبها لأنها وجدت لمحمد عذرًا وافق هواها، كأنها ألقت عن ظهرها حملًا ثقيلًا، وكان الإعياء قد بلغ منها مبلغه فاستلقت ونامت. وخرجت العجوز وأم الفضل إلى بستان فيه نخلات متقاربة فجلستا تتبادلان الحديث وأسماء نائمة، وأم المؤمنين في شاغل عنهما بمن عندها من الأمراء. وأخيرًا قالت أم الفضل: «رحم الله عثمان، وأيَّد عليًّا! فإني لا أرى خيرًا منه للقيام بأمر المسلمين لقرابته وعلمه وفضله وشجاعته وسبقه إلى الإسلام. على أن ابني عبد الله (عبد الله بن عباس) يرى أنه ضعيف الرأي ولكنه يؤثره على كل من سواه، وقد رأيته فرحًا بخلافته عندما لقيته بالأمس.» قالت: «أوَلَا يزال هنا منذ أن جاء للحج؟» قالت: «حينما حاصروا عثمان أمره أن يحج بالناس، فلما جاءه نبأ قتل عثمان وولاية علي أسرع ليكون بين يديه.» وتذكرت العجوز حال أسماء فقالت: «ماذا ترين أن أفعل بأسماء ومرضها؟» قالت: «أظنها تشفى غدًا، اسقيها العسل.» فقالت: «سأحمل أم المؤمنين على أن تسقيها إياه.» وبينما هما في الحديث رأتا الغلمان في حركة وهم يهيئون الخيل ويعدون الجمال للركوب، فعلمتا أن الأمراء أوشكوا على الخروج من عند أم المؤمنين، فنهضت أم الفضل وودعت العجوز وانصرفت. وسمعت العجوز جلبة، ثم رأت جماعة خارجين من الدار معظمهم من بني أمية وعلى وجوههم سمات الظفر، ولم تجد بينهم أحدًا تعرفه فانزوت حتى انصرفوا، ودخلت حجرة أسماء وهي في قلق لئلا تكون قد أفاقت في أثناء غيابها فوجدت الحجرة مفتوحة وعند بابها خف عرفت أنه خف أم المؤمنين، فعلمت أنها جاءت تتفقد أسماء فأسرعت فرأتها واقفة عند رأس أسماء، فأشارت أم المؤمنين إليها بأناملها وشفتيها أن تمشي الهوينى وألا تخاف. فأبطأت في خطاها حتى دنت من أسماء فوجدتها نائمة وقد كلل العرق جبينها، فسألتها عائشة عن حالها فقالت: «إنها شعرت بالبرداء عندما خرجنا من عندك ثم أصابتها الحمى.» قالت: «اسقيها العسل». قالت: «جئت إليها بقدح منه فلم تشرب.» قالت: «إليَّ به، أنا أسقيها فإنه فيه شفاء.» والتفتت إلى أسماء فرأتها تحركت وأخذت تمسح العرق عن وجهها بكفيها فدنت من فراشها، ففتحت أسماء عينيها ولما رأت أم المؤمنين أجفلت ونهضت وقد توردت وجنتاها، فقالت لها عائشة: «لا تزعجي نفسك يا بنية.» وجست يدها فإذا هي لا تزال حارة وقد ذبلت عيناها واحمرَّتا من شدة الحمى. فقالت لها عائشة: «ألم تشربي العسل يا أسماء؟» فقالت: «لا أشتهي طعامًا يا مولاتي ولا حلواء.» قالت: «إنما هو دواء فيه شفاء للناس وقد سمعت رسول الله يقول: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنهى أمتي عن الكي»، وكان يحب الحلواء والعسل.» قالت ذلك ودفعت القدح إلى أسماء فأخذته وشربته، ولم يمضِ قليل حتى أحست برطوبة حلقها، وأوصتها عائشة بأن تشرب شيئًا من لبن الإبل فأطاعت. وبعد شرب اللبن انتعشت فجلست في الفراش، ورجت من أم المؤمنين أن تمكث عندها لأنها استبشرت بها خيرًا. فقالت عائشة: «بل أرى أن ننزل إلى البستان بالعريش لأني مللت الخباء، وقد تزاحم الناس عليَّ اليوم.» فنهضن هن الثلاث ومشين حتى وصلن إلى البستان وهو محاط بسور من سعف النخل وفي وسطه عريش مصنوع من الجريد يُستظَل به وقد نصبوا فيه مقاعد من الجريد والخشب، فدخلنه وجلسن فيه وأم المؤمنين صامتة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/10/
طلحة والزبير
لم يكد يستتب بهن الجلوس حتى سمعن جعجعة وصهيلًا وجلبة، فقطَّبت عائشة حاجبيها تطلعًا لما يأتيها من أخبار القادمين، وما عتم الخادم أن دخل فقالت: «ما وراءك يا غلام؟» قال: «إن ركبًا قادمين من المدينة وفيهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام يستأذنون.» فلما سمعت أسماء ذلك أجفلت وتحفزت للنهوض للعود إلى البيت، لتخلو أم المؤمنين بالقادمين. فقالت عائشة: «لا أرى ما يدعو إلى دخولك البيت الآن، وإذا رأيتما ألا تحضرا مجلسنا فكونا وراء هذا العريش.» فنهضتا إلى مقعد وراء العريش جلستا عليه. وقد سُرَّت أسماء ببقائها لعلمها أن طلحة والزبير قادمان من المدينة بعدها ولا بد من خبر جديد جاءا به، أو أنهما جاءا في أمر يهمها الاطلاع عليه لعلاقته بالإمام علي وهي تعلم أنهما بايعا عليًّا مكرهَين. فلبثت مستترة بجانب العريش وأصاخت بسمعها وهي تنظر من خلال الجريد إلى من يدخل العريش. فأذنت عائشة لطلحة والزبير وأرخت نقابها، فدخلا وهما ما زالا بثياب السفر وقد علاهما الغبار، ومعهما رجال آخرون. دخل أولًا طلحة بصدره العريض ولحيته البيضاء الكثيفة، وكان قصيرًا، وقد ازداد وجهه احمرارًا من طول السفر وأثر الشمس، وكانت أسماء قد رأته غير مرة في المدينة فلم تستغربه. ثم دخل الزبير وهو يمتاز عن طلحة بخفة عضله وقلة شعر لحيته. ودخل في أثرهما ابناهما. فقالوا: «السلام عليك يا أم المؤمنين.» قالت: «وعليكم السلام يا أصحاب الرسول ونخبة المهاجرين وحماة الإسلام.» وأذنت لهم بالجلوس فجلسوا مطرقين لا ينظرون إليها إجلالًا لحرمتها. فخاطبت طلحة والزبير قائلة: «من أين أتيتما؟» فأجابها طلحة: «جئنا من المدينة.» قالت: «وكيف فارقتماها؟» قال: «إنا تحملنا هربًا من غوغاء وأعراب، وفارقنا قومًا حيارى لا يعرفون حقًّا ولا ينكرون باطلًا ولا يمنعون أنفسهم.» قال ذلك وعلائم الغضب تبدو من خلال حديثه، والزبير يهم بالكلام كأنه لم يكتفِ بما قاله طلحة. فقالت: «كيف يُقتَل عثمان وأنتم تنظرون؟!» قال الزبير: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد دافعنا عنه بأولادنا وأنفسنا! ولكن الغوغاء غلبت علينا فلم نمنع قدرًا واقعًا.» قالت: «ثم بايعتم وأنتم راضون!» قالا بصوت واحد: «لم نبايع إلا والسيف على أعناقنا، وما نحن راضون بهذه المبايعة.» قالت: «انهضوا إذن إلى هذه الغوغاء وطالبوا بدم ذلك الرجل المقتول.» قالا: «إنما جئنا لذلك.» فقالت: «وقد جاءنا أيضًا عبد الله بن عامر ابن خال عثمان وعامله على البصرة ولما سمع بمقتله حمل ما في بيت المال وجاء إلينا، وكذلك يعلى بن منية جاء من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وقد أناخ في الأبطح. وقد كانا عندي اليوم.» ••• ولم تتم كلامها حتى جاءها غلام ينبئها بقدوم ابن عامر وابن منية فقالت: «ليدخلا.» فدخل أولًا ابن عامر وهو شاب في الثلاثين من عمره وعليه جبة حمراء، ثم دخل يعلى بن منية وهو يمشي عرجًا وقد كُسِرت فخذه في طريقه من اليمن، وكان قد سمع بمقتل عثمان فأقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه. فجاء برجاله وماله. فلما دخل ابن عامر وابن منية سلما على طلحة والزبير، فقال طلحة لابن منية: «ما لي أراك تمشي عرجًا؟!» قال: «كُسِرت رجلي وأنا قادم لنصرة عثمان. ولكن معي المال والرجال، قوموا بنا للأخذ بالثأر.» فقال الزبير: «هلمَّ بنا إلى الشام.» فاعترضه ابن عامر قائلًا: «ما لنا وللشام وفيها معاوية وهو يكفيكموها؟ ولكني أرى أن تأتوا البصرة فإن لي بها صنائع ولهم في طلحة هوى وهم ميَّالون لمبايعته.» فقالوا: «قبحك الله! إنك تريد الفتنة. ولكن دعنا من ذلك ولنسر إلى البصرة.» فتم الرأي على أن يسيروا إلى البصرة، يدعون من بها للطلب بدم عثمان وينهضونهم كما أنهضوا أهل مكة. ••• وكانت أسماء تسمع حديثهم من وراء العريش، فلما علمت بما تم إجماعهم عليه عظم عليها الأمر وتحققت أن الفتنة واقعة لا ريب فيها فأثر ذلك في نفسها، فاضطربت وخفق قلبها وثارت الحمية في رأسها حتى كادت تهم بالنهوض والدخول على الجمع. فأدركت العجوز اضطرابها فأمسكت بيدها فإذا هي ترتعش، فأخذت تهدئ من روعها خوفًا عليها، ولكن هذه قالت لها: «لا صبر لي على ما أسمع، وهم إنما يريدون الانتقاض على الإمام علي بعد أن رأيتهم بعيني يبايعونه ويقسمون على الطاعة!» وما لبثت أن سمعت صوتًا ارتعدت له جوارحها، وكان صوت مروان وقد أقبل ودخل العريش. وقبل أن يلقي التحية خاطب طلحة والزبير ضاحكًا يقول: «على أيكما أسلم بالإمارة وأؤذن للصلاة؟!» يلمح إلى أن أحدهما سيكون أمير المؤمنين. فأجابه عبد الله بن الزبير: «على أبي». فاعترضه محمد بن طلحة وقال: «بل على أبي.» فضحك مروان وقال: «بل اجعلوا الخلافة في ولد عثمان لأنكم إنما خرجتم تطالبون بدمه»، فقال طلحة: «كيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟!» فأجاب وهو يتمتم: «لا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف.» فابتدرته أم المؤمنين قائلة: «أتريد أن تفرق أمرنا يا مروان؟ ليصلِّ بالناس ابن أختي.» تعني عبد الله بن الزبير. فلما سمعت أسماء كلام مروان لم تعد تستطيع صبرًا، ولا سيما بعد أن رأت عائشة تنتهره، فنهضت وأسرعت إلى العريش واخترقت الجمع وهي ترتجف وقد امتُقِع لونها فلما رآها الناس بُغِتوا، وكان طلحة والزبير يعرفانها. فوقفت غير هيَّابة ولا وجلة ونظرت إلى مروان وقالت: «أما كفاك يا مروان ما أيقظت من الفتنة في المدينة؟! أما كفى أنك السبب في مقتل الخليفة حتى جئت تلقي الشقاق بين بقية الصحابة؟! والله لولا حرمة أم المؤمنين لأرقت دمك بين يديها! فلا أراك براجع عن غيك حتى تفتن المسلمين وتغري بعضهم ببعض!» والتفتت إلى أم المؤمنين لترى ما يبدو منها. فلما سمع القوم كلامها لاذوا بالصمت وهي ترتجف وتتجلد، فأجابها مروان وهو يضحك وقال: «تذكرين أني قتلت الخليفة، في حين لم يقتله إلا صاحبك محمد ربيب علي، وسوف يلقى كلٌّ منهما جزاء ما قدمت يداه.» فقالت: «لا تنطق باسم ابن أبي بكر شقيق أم المؤمنين، ولا تلفظ اسم ابن أبي طالب أمير المؤمنين، ووالله لو أنه بيننا لتلعثم لسانك وما نجوت!» فهمَّ مروان بأن يجيبها فأسكتته أم المؤمنين قائلة: «أتذكر أخي محمدًا يا مروان؟! اسكت. وأنت يا أسماء خففي عنك وأنت مريضة، اذهبي إلى فراشك.» وكانت العجوز واقفة بجانبها فأمسكتها وخرجت بها من العريش وهي تكاد تقع لفرط اضطرابها، فلما خرجتا من البستان صاحت أسماء بالعجوز قائلة: «اخرجي بي من هنا، إني لا أستطيع البقاء!» قالت: «وإلى أين يا ابنتي؟» قالت: «إلى يثرب.» قالت: «كيف نذهب؟ وماذا نفعل إذا افتقدتك أم المؤمنين فلم تجدك؟» قالت: «لا أدري ما العمل، ولكنني لا أستطيع البقاء هنا ولا بد لي من الذهاب إلى المدينة.» قالت: «لا أستطيع الذهاب إليها الآن.» قالت: «اذهبي بي إلى منزل آخر غير هذا المنزل.» قالت: «أتذهبين إلى أم الفضل؟» قالت: «هيا بنا إليها.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها غيظًا. فسارت بها العجوز إلى منزل أم الفضل، فلما دخلتا عليها رحبت بهما، وقد استغربت مجيئهما رغم مرض أسماء. أما أسماء فلم تكد تصل إلى المنزل حتى عاودتها الحمى وأصابها الدوار، فهمَّت بالاستلقاء على المصطبة أمام البيت، ولكن أم الفضل دعتها إلى حجرتها فأبت وقالت وقد توردت وجنتاها من شدة الحمى: «خذوني إلى المدينة، احملوني إلى الإمام علي لأطلعه على ما يكيدون، إنهم تواطئوا على الطلب بدم عثمان. ولو طلبوه من قاتله لعذرناهم ولكنهم يريدون عليًّا وأنا أعلم الناس ببراءته.» قالت ذلك وبكت. فعجبت أم الفضل لقولها، وشق عليها أمرها وخافت عليها العاقبة، وتاقت لسماع الخبر فقالت: «ما الذي حدث بعد مجيئي؟» فقصت العجوز عليها ما جرى في العريش، فأجفلت وصاحت: «ويلاه! لقد تقدمت الفتنة، ليت عبد الله ابني هنا! إذن لحمَّلته الخبر إلى علي.» فصاحت أسماء: «دعوني أذهب بالخبر! دعوني أسر إلى الجهاد دفاعًا عن المتهم زورًا! إن عليًّا يا قوم بريء من دم عثمان فكيف يطلبونه منه؟!» فقالت أم الفضل: «دعي هذا إليَّ، فإني مرسلة رسولًا إلى علي بكل ما وقع.» قالت ذلك ودعت خادمًا فجاءها برجل من جهينة يُدعَى ظفر، فاستأجرته على أن يحمل كتابها إلى عليٍّ بالخبر، فركب الرجل هجينه وسار، وأسماء تشيعه بنظرها وتود أن تكون على رحله. فلندعها ولنرجع إلى المدينة لنرى ماذا جرى لمحمد. ودع محمد أسماء عند ركوبها إلى مكة، وعاد وفي نفسه شيء أقلقه لا يدري ما هو، وكان قد خامره شيء من الخوف على أسماء أن تميل عنه إلى الحسن بن علي، ولكنه كان يحبه كثيرًا وقد رُبِّيا معًا في حجر علي. فقضى مسافة الطريق غارقًا في لجة الهواجس، ومما زاده قلقًا إرساله أسماء على هذه الصورة وقد شغلته الغيرة قبل سفرها عن تقدير الأمر حق قدره، فوقع في حيرة لا يدري ما يجيب به الحسن إذا سأله عنها، وكيف يعتذر أو ينتحل سببًا لسفرها. وشعر لساعته بوطأة الحب وشدة سلطانه، فأجال نظره في الطريق الذي سلكته أسماء وتلفت قلبه، فحدثته نفسه أن يعرج على مكان يقضي فيه نهاره قبل الذهاب إلى دار علي، مخافة أن ينم ظاهره عند لقاء الحسن عما في باطنه. ولكنه لم يجد عذرًا لتخلفه يومئذ والناس يتألبون جماعات ووحدانًا من كل صوب، ويؤمون منزل الإمام علي وهم بين آمل وخائف وناصر وناقم، وقد علم محمد أن بعض الناس قد بايع عليًّا وهم يضمرون السوء. فقضى برهة تتقاذفه الهموم وهو يمشي فلم يشعر إلا وهو بباب علي، ورأى الناس قد تكاثفوا حوله والخيل في بستانه والجمال معقولة إلى جذوع النخل والخدم والعبيد وقوف بينها. فذكر هول ما يشغل عليًّا وبنيه في ذلك الحين من مهام الخلافة، وأحب أن يشارك الحسن في حمل بعض العبء إلى أن تنتهي الأزمة. فدخل الدار ومشى إلى حيث تقيم أمه وقد عزم على كشف سره لها لعلها تواسيه، فدخل فرآها جالسة وحدها والهمُّ بادٍ على وجهها فهشَّت له فحياها، ورأت في وجهه انقباضًا فابتدرته قائلة: «ما لي أراك مشرَّد الذهن يا محمد؟!» قال يغالطها: «ليس في نفسي شيء غير ما نحن فيه.» قالت: «أخائف أنت على مصير هذه الخلافة؟» قال: «لست بخائف، ولكنني أرى المركب خشنًا، فإن طلحة والزبير لم يبايعا إلا كرهًا والكوفيين والبصريين على رأيهما، فأخشى أن يدعوا الناس إلى نقض البيعة.» قالت: «لا تخف فقد تم الأمر لأبي الحسن، وحوله نخبة من الصحابة يشدون أزره فإذا أحسنوا الرأي استقام له الأمر بإذن الله.» قال: «لا تغرنك كثرتهم، وفيهم من يضمر غير ما يظهر. ليت عبد الله هنا (عبد الله بن عباس)! فإن له رأيًا سديدًا، وهو ابن عم أمير المؤمنين.» قالت: «لعله لا يزال في مكة منذ أن ذهب بالحجيج إليها»، قال: «نعم». قالت: «ولكن لنا في المغيرة بن شعبة خير مشير، وقد وقع إليَّ أنه دخل على أمير المؤمنين في الصباح وما يزالان مختليَين.» فقال: «إن المغيرة يا أماه من خيرة الصحابة أصحاب الرأي والدهاء، ولا يخفى عليك أنه أحد دهاة العرب الأربعة.» فقالت: «ومن هم الثلاثة الآخرون؟» قال: «معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبيه.» وما أتم محمد كلامه حتى سمع وقع أقدام عرف أنها خطوات الحسن، فبُغِت وقال: «هذا أخي الحسن، فلعله يخبرنا بما دار بين الإمام علي والمغيرة.» قالت: «ادعه». فخرج محمد ليدعوه فإذا هو قادم فابتدره محمد بالسلام، فرد الحسن تحيته ولم يزد عليها. فخشي محمد أن يكون في نفسه شيء فقال: «أهلًا بأخي ابن أمير المؤمنين، لقد كنا في حديث الخلافة، وترانا في شوق لمعرفة ما دار بين مولاي أبي الحسن والمغيرة.» فجلس الحسن على وسادة بالقرب من الباب، وتشاغل بإصلاح عمامته ولم ذيل ردائه وهز رأسه ولم يجب. فازداد قلق محمد وظهر الاضطراب على وجهه فتقدم إليه وألح عليه أن يطلعه على جلية الخبر، وهو يحاذر أن يسمع منه لومًا أو عتابًا بشأن أسماء، فإذا به قد زفر زفرة وقال: «تسألني عن المغيرة؟! إن حديثه لذو شجون!» قال محمد: «وماذا عسى أن يكون؟» قال: «إن المغيرة صاحب رأي وحزم، ولكن أبي لم يرضَ أن يعمل بما أشار به. وقد سمعت ما قال وأعجبني رأيه، ولكن أمير المؤمنين رأى غير ما رآه.» فقال محمد وقد اطمأن من ناحية أسماء: «وما هو الرأي الذي رآه؟» قال: «أنت تعلم أن بعض الناس بايعونا على دَخَل (يريد طلحة والزبير)، وإن أخشى ما نخشاه ليس من أهل المدينة ولا من أهل مكة، وإنما من عمال الأمصار في مصر والشام والكوفة والبصرة، وأشد هؤلاء دهاءً وأكثرهم عداوة معاوية بن أبي سفيان في الشام وهو كما تعلم ابن عم عثمان، وكذلك ابن عامر في البصرة وهو ابن خال عثمان.» قال محمد: «نعم، ولكن بماذا أشار المغيرة؟» قال: «أشار على أبي بأن يبقي عمال عثمان هؤلاء على أعمالهم ليأمن ثورتهم، ولنرَ ما يكون بعد أن يستقيم لنا الأمر. فلما أصر أبي على رأيه قال له: اعزل من شئت واترك معاوية فإن فيه جرأة وهو في أهل الشام ولك حجة في إثباته. (وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام قبل عثمان.) فأقسم أبي لا يستعملن معاوية يومين، فخرج المغيرة ولم يزد حرفًا.» فقال محمد: «أترى المغيرة مصيبًا؟» قال: «نعم، إنه رأي الصواب، لأن سكوتنا عن معاوية ورفاقه يهدئهم حتى نرى ما تئول إليه الحال.» فقالت أسماء أم محمد: «تمهل ريثما يأتي ابن أختي عبد الله بن عباس من مكة، فإن الإمام يقدِّر رأيه حق قدره.» قال الحسن: «لا أظن أبي يلين فقد آنست منه إصرارًا شديدًا، فلنصبر عسى أن يحدث ابن عباس أمرًا!» قال ذلك وسكت هنيهة يفكر ثم انبسطت أسرته فجأة كأنه تذكر أمرًا سرَّه وتبسم وقال: «إن شئون الخلافة شغلتني عن أمر آخر كنت قد ذكرته لك تلميحًا، وكنت قد عزمت على ذكره لأبي اليوم فأمسكني عن ذلك اشتغاله بالمغيرة وحديثه.» فأدرك محمد أنه يريد خطبة أسماء فكادت البغتة أن تظهر على وجهه، ولكنه تجلد وقال: «وماذا عسى أن يكون ذلك الأمر؟» قال: «لا أظنك تجهل ما في نفسي نحو أسماء، تلك الفتاة الأموية التي نزلت ضيفة علينا.» ثم حول وجهه إلى أم محمد وقال: «إنها يا خالتي بارعة الجمال وفي وجهها مهابة يندر مثلها في النساء.» فارتبك محمد في أمره ولم يدرِ بماذا يجيب، ولكنه تجلد وقال: «لماذا لم تبدِ رغبتك قبل سفرها؟» فبُغِت الحسن وقال: «أين سافرت؟» قال: «إلى مكة في صباح هذا اليوم.» قال: «وكيف ذلك؟! وما الذي حملها على السفر؟! ومن سافر بها وهي وحيدة؟» قال: «سافرت مع عجوز من قرابتي ورجل من بني الليث من أخوال أختي أم المؤمنين.» فقطَّب الحسن وجهه وقال: «وما الذي حملها على السفر؟» قالت: «سمعتها تذكر أنها تؤثر البعد عن المدينة في أثناء هذا الاضطراب، وطالما أرادت التعرف إلى أم المؤمنين فأظنها ذهبت لتقضي عندها بضعة أيام ثم تعود.» فأطرق الحسن يفكر، ثم قال: «لا بأس من ذهابها الآن، وسأنتهز فرصة يخلو فيها وجه [ابن] أبي طالب فأطلب منه أن يخطبها لي، فإذا لم تكن قد عادت نبعث في استقدامها.» قال ذلك وخرج. فبُغِت محمد وامتُقِع لونه، ولحظت أمه ذلك فيه فقالت: «لقد أهمك حديث الحسن؟» فتنهد ولم يجب. فقالت: «ما لك لا تجيب؟» فتردد بين أن يكشف لها سره وبين أن يظل على كتمانه، ولكنه لم يعد يستطيع صبرًا فقال: «لقد أهمني الأمر أكثر مما تظنين بكثير.» قالت: «ولماذا؟» قال: «إن الفتاة التي أشار إليها الحسن مخطوبة.» قالت: «ولمن؟» قال: «لي». قالت: «ماذا تقول؟» قال: «هذا هو الصدق.» قالت: «وكيف يطلبها هو لنفسه؟» قال: «لأنه لا يدري من الأمر شيئًا.» قالت: «ولماذا لم تطلعني على هذا من قبل؟» قال: «كنت قد عزمت على ذلك وجئت بها إليك فلم أجدك.» قالت: «وما العمل الآن؟» قال: «لا أدري، وسأصبر.» قال ذلك وحرق أسنانه. قالت: «أتغضب أخاك الحسن من أجلها؟» قال: «معاذ الله! فأنت تعلمين حبي له، ولكنني سأرى ما يأتي به القدر.» ثم خرج وقد أخذ القلق منه مأخذًا عظيمًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/11/
عبد الله بن عباس
مرت أيام والحسن يترقب فرصة يخاطب فيها أباه في شأن أسماء، فلم يتسنَّ له ذلك لاشتغالهم جميعًا في إيفاد العمال وتقلب الأحوال، فإن الإمام عليًّا لم يهدأ له بال منذ ولي الخلافة. وكان أكثر عمال الأمصار ناقمين عليه، ولعله لو أطاع المغيرة لخفف شيئًا من نقمتهم، ولكنه أصر على أن يستبدل بهم عمالًا من رجاله وموضع ثقته. وكان الحسن متهيبًا مفاتحة أبيه في أمر الخطبة لئلا يُخيَّل إليه أنه اشتغل بالحب عن الخلافة، فبدا له أن ينتظر مجيء عبد الله بن عباس فيوسطه في الأمر لما يعلم من دالَّته على أبيه، وذكر ذلك لمحمد بن أبي بكر فلم يجبه ولكنه قلق واشتدت غيرته. فلما سمع محمد بمجيء عبد الله بن عباس أراد أن يشغله بحديث الخلافة عن السعي في الخطبة، فأسرع إليه قبل أن يعلم الحسن بمجيئه وأنبأه بما كان من حديث المغيرة بن شعبة وما أشار به على الإمام علي، إلى أن قال: «قد كنا في انتظار مجيئك لعلك تثني الإمام عن عزمه، فقد أصر على خلع عمال عثمان وهم ناقمون ولهم أنصار ومن بينهم معاوية.» فقال عبد الله: «أصاب المغيرة والله! ونعم الرأي رأيه!» قال محمد: «وهذا ما نراه نحن جميعًا، فما العمل؟» قال: «ها أنا ذا ذاهب إليه الساعة.» قال ذلك ونهض وقد أهمه الأمر كثيرًا لغيرته على الإسلام ولقرابته من الرسول ومن علي. وكان ابن عباس يناهز الأربعين من العمر، جميل الوجه، أبيض اللون مشربًا صفرة، جسيمًا فصيح اللسان. وكان أعلم الناس بالحديث والشعر وكلام العرب، سديد الرأي، عالمًا بتفسير القرآن وبكل علم من علوم تلك الأيام، لم يدرك أحد من أهل زمانه ما أدركه. فلما سمع كلام محمد أسرع إلى عمامته وجبته وهُرِع إلى منزل الإمام علي ومحمد يتبعه. ولما وصلا إلى الدار رأيا المغيرة بن شعبة واقفًا بباب حجرة الإمام علي يشد نعاله فأدركا أنه كان عنده، فقال عبد الله لمحمد: «أتُرَاه جاءه ثانية أم لعلها الزيارة التي ذكرت؟» قال: «هذه غيرها، ولا أدري ما جاء به.» وبينما هما في ذلك مر بهما الحسن، فلما رأى عبد الله بُغِت ووقف وسلم عليه ودعاه إلى حجرته وهو يريد أن يذكر له أمر الخطبة، فرآه في شاغل آخر وقد أسرع إلى حجرة علي، فدخل معه ومحمد في أثرهما. ••• فلما أقبل عبد الله على الإمام حياه بتحية الخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، وكانت أول مرة رآه فيها بعد خلافته. وكان علي جاثيًا وبين يديه مصحف فلما سمع تحية عبد الله أحسن ردها ورحب به وقال: «وعليك السلام يا ابن عم الرسول.» قال ذلك والانقباض ظاهر على وجهه كأنه كان في جدال عنيف. فمشى عبد الله حتى جلس بجانبه، وجلس الحسن ومحمد في بعض جوانب الحجرة. فلما استقر بهم المقام قال ابن عباس: «رأيت المغيرة خارجًا من عندك وعهدي به ذو دهاء وسداد رأي، فهل أحدث حدثًا؟» قال علي: «والله لقد أخلف ظني فقد أشار عليَّ منذ أيام بأن أقر معاوية وسائر عمال عثمان على أعمالهم، وأنهم هم الذين بعثوها فتنة أودت بعثمان وأخذوا يؤلبون الناس علينا. فخالفته فيما ذهب إليه وأبيت إلا عزلهم، فتقدم إليَّ بأن أبقي معاوية على الشام فأقسمت لا أستعملنه يومين، فخرج وهو يرى أن ستبدي الأيام صحة ما رآه. ثم عاد اليوم فقال: «إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيتُ بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان.» فحمدت له رجوعه إلى الصواب.» قال ابن عباس: «يا ابن عم، أترى المغيرة قد صدقك اليوم؟ أما أنا فما أظنه والله إلا قد نصحك في الأولى وخدعك في الثانية. إن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون أخذ هذا الأمر بغير شورى عثمان، ويؤلبون عليك فتنتقض عليك الشام وأهل العراق. وإني لا آمن طلحة والزبير أن يَكُرَّا عليك، ولهذا أشير بأن تثبت معاوية فإذا بايع فعليَّ أن أقلعه من منزله.» وكان ابن عباس يتكلم وعليٌّ مطرق مقطِّب الوجه، وقد أقلقه الأمر كثيرًا، وأما الحسن ومحمد فكانا يسمعان كلام ابن عباس ويودان لو يقتنع الإمام فيقر معاوية تجنبًا للحرب. فلما فرغ ابن عباس من كلامه لبثا ينتظران ما يقوله علي، فإذا هو لا يزال مطرقًا عابسًا، والسكوت يسود الحجرة ولا ينبس أحد ببنت شفة. ثم رفع علي رأسه ونظر إلى ابن عباس ويده على سيفه وقال: «والله لا أعطيه إلا السيف!» ثم رد يده إلى لحيته وقال: فلما سمع ابن عباس قوله ورأى ما بدا على وجهه من أمارات الغضب، شق عليه الأمر كأنه رأى بأم رأسه المركب الخشن الذي همَّ علي بركوبه وما يتوقعه من سوء العقبى، وكانت له دالَّة ووجاهة عنده فقال له: «أنت رجل شجاع لست صاحب سياسة ولا رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الحرب خدعة»؟ أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك!» وما فرغ من كلامه حتى أندى العرق جبينه حمية وغيرة، ولكنه لم يكد يفرغ حتى ابتدره علي قائلًا: «يا ابن عباس، لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء.» قال ابن عباس: «أطعني وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله إن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غدًا!» وكان ابن عباس يتكلم ولا تلوح على حركاته إشارة الرضا، فلما فرغ من كلامه قال له علي: «تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني.» فقال ابن عباس: «أفعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة.» فقال علي: «تسير إلى الشام فقد وليتكها.» قال ابن عباس: «ما هذا برأي، فإن معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقي نقمة لعثمان، وإن أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علَيَّ لقرابتي منك، وإن كل ما حمل عليك حمل علَيَّ. ولكن اكتب إلى معاوية فمَنِّه وعِدْه …» فقطع علي كلامه قائلًا: «لا والله لا كان هذا أبدًا!» فسكت ابن عباس ولبث برهة ثم استأذن وخرج، وخرج في أثره الحسن ومحمد وكأن على رءوسهم الطير. أما عليٌّ فأمر في إنفاذ عماله إلى الأمصار؛ فبعث عثمان بن شهاب إلى الكوفة، وعبيد الله بن عباس (أخا عبد الله) على اليمن، وقيسًا بن سعد إلى مصر، وسهلًا بن حنيف إلى الشام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/12/
الفتنة والحرب
وقضى علي في ذلك أيامًا لا يخلو مجلسه من الأمراء يخوضون في شئون الخلافة، فلم يرَ الحسن سبيلًا إلى مفاتحته في شأن أسماء، وكان هو نفسه في شاغل بتلك الشئون. فلما فرغ علي من تنصيب العمال وقلَّ ورود الناس على بابه، رأى الحسن أن يخاطبه في الأمر، وكان يطلع محمدًا على ما ينويه وهو لا يعلم ما في نفسه من أمر أسماء. وكان محمد إذا خاطبه الحسن في هذا حدثته نفسه أن يطلعه على ما يكنه لها في قلبه ثم يمسك، فقضى أيامًا لا يدري ما يعمل، وكان إذا ذكر له الحسن أنه عزم على مخاطبة أبيه في الأمر سكت أو نقل الحديث إلى شيء آخر. فلقي الحسن محمدًا ذات يوم قاصدًا إلى المسجد وقال له: «أرى أمير المؤمنين قد فرغ من إرسال العمال إلى الأمصار، ولا أرى أمير المؤمنين أصلح من هذه الساعة لأكلمه في شأن أسماء، فأرجو منك أن تكون عونًا لي في هذا.» فحار محمد في أمره لا يدري بمَ يجيبه، فقد كان يتنازعه عاملان: حب أسماء، وصداقة الحسن، فلبث لا يبدي ولا يعيد، ثم حانت منه التفاتة إلى ما بعد سور المدينة، فأخذ يحدق كأنه يرى شبحًا قادمًا لم يتبينه. ونظر الحسن ليرى هدف محمد في تحديقه، فتراءى له هجَّان مقبل من بعيد. قال محمد: «كأني به رسول.» فقال: «ممن يكون يا تُرَى؟» قال محمد وقد سُرَّ لتبديل الحديث: «إني والله ما رأيت رسولًا مقبلًا إلا تشاءمت خيفة أن يأتينا بما يسوء.» فقال الحسن: «ومن أين ترى الرسول قادمًا؟» قال: «يظهر لي أنه من الشام، فلعله رسول معاوية.» قال الحسن: «هيا نستقبله وسنرى ما هناك.» قال محمد: «هلم بنا فإنه إن كان رسول معاوية فما جاء إلا لحرب لا سلم، لأن أمير المؤمنين كتب إليه منذ ثلاثة أشهر ولم يجب بعد.» ثم انطلقا. وكان الرسول قد دخل باب المدينة، فلما دنا منهما تفرسا فإذا هو رجل من بني عبس وعليه قيافة أهل الشام، وقد التف بالعباءة وتلثم وعلاه غبار السفر. فلما دخل المدينة أخرج من جيبه صحيفة مختومة قبض عليها من أسفلها ورفعها والناس وراءه ينظرون إليها، فاستوقفه محمد وقال له: «ممن أنت؟» قال الرسول: «من معاوية بن أبي سفيان.» قال: «إلى من؟» قال: «إلى علي بن أبي طالب.» قال الحسن: «وماذا تحمل إليه؟» قال: «هذا الكتاب.» فقال: «اذهب إلى أمير المؤمنين إنه في داره.» فانطلق الرسول وهما في أثره وقد شُغِلا بما عسى أن يكون في ذلك الكتاب، ولولا حرمة أمير المؤمنين لفضَّا الختم تلهفًا على علم ما فيه. ووصل الرسول إلى دار علي فترجل واشتغل بعقل جمله، فسبقه محمد والحسن إلى الخليفة وكان متكئًا في حجرته، فأعلماه بقدوم الرسول فأمر بإدخاله إليه. فدخل وعليٌّ جالس ومحمد والحسن وغيرهما من الصحابة بين يديه، فتقدم الرسول في غير تهيب ورفع الكتاب بيده، فهمَّ بعض الحاضرين بأن يتناوله منه ولكنه أبى أن يسلمه لغير الإمام علي. فمد عليٌّ يده وتناول الكتاب فقرأ على ظاهره: «من معاوية إلى علي»، ثم فضه والناس كأن على رءوسهم الطير، فلم يجد فيه شيئًا فبُغِت وغضب، والتفت إلى الرسول وقال: «ما وراءك؟!» قال: «آمنٌ أنا؟» قال: «نعم، إن الرسول آمن.» قال: «تركت ورائي قومًا لا يرضون إلا بالقَوَد.» قال علي: «ممن؟» قال: «من خيط رقبتك. وتركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد جعلوه على منبر دمشق.» فنظر علي إليه وقال: «أمني يطلبون دم عثمان؟! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، قد نجا والله قتلة عثمان إلا من يشاء الله.» قال ذلك وأدار وجهه عن الرسول كأنه لم يعد يستطيع أن يراه، وأشار إليه أن يخرج. قال: «أأخرج وأنا آمن؟» قال: «وأنت آمن.» فمشى الرجل يريد الخروج فاعترضه بعض رجال علي وهموا بقتله فصاح فيهم عليٌّ ومنعهم، فنجا العبسي وهو لا يكاد يصدق. وأشار الإمام إلى الناس فخرجوا، وخلا إلى خاصته وفيهم أولاده ومحمد بن أبي بكر، وبعث إلى عبد الله بن عباس، وقال لهم: «قد سمعتم ما قاله معاوية، فلم يبقَ ثمة بدٌّ من القتال فتهيئوا.» فقالوا بصوت واحد: «إنا معك أنَّى سرت، وما تنتدبنا إليه فإنا طوع أمرك.» فجنَّد جندًا عقد لواءه لابنه محمد بن الحنفية، وجعل على ميمنته عبد الله بن عباس وعلى ميسرته عمرو بن سلمة. وتثاقل أهل المدينة في بادئ الأمر ولكنهم أطاعوا أخيرًا. وقضى عليٌّ أيامًا يعُد الجيش ويجند الجند، ومحمد والحسن في مقدمة العاملين معه. ولكنه لم يندب محمدًا للقتال فصغرت نفسه في عينه لعلمه أنه أولى بالمسير إلى الحرب، وكان يذكر أسماء فيود لو يبقى ليعلم ما يئول إليه أمرها، ثم ترجع إليه حماسته ليقوم على خدمة علي ويحمل معه عبء القتال. ذهب محمد بن أبي بكر إلى علي فرآه وحده في غرفته، ورأى في يده رقعة يقرؤها ويعيد تلاوتها وقد أخذ القلق منه مأخذًا عظيمًا، فتهيب الدخول عليه وظل واقفًا عند الباب مترددًا. فلمحه علي فناداه فدخل وحيَّا، فرد علي التحية وهو مقطِّب الوجه فلم يجرؤ محمد أن يبدأه بالكلام وتربص عساه أن يسمع منه خبرًا جديدًا. وظل علي يذرع الحجرة حتى وقف إلى نافذة من نوافذها وأجال نظره إلى الأفق وهو غارق في بحار التفكير، ثم تحول إلى محمد بغتة وقال: «أين الحسن؟» قال: «لعله في المسجد، فهل من أمر أقوم به؟» قال: «سأطلعك على ما حدث عما قليل. وبماذا جئت أنت، إني أرى في وجهك خبرًا؟» قال: «إنما جئت ألتمس من أبي الحسن أن يساويني بأهل الثقة من رجاله.» قال: «وماذا تعني؟» قال: «أعني أنك استنفرت الناس وأمرت من أمرت للجهاد، وتركتني وأنا أولى منهم به.» فتبسم الإمام علي تبسمًا يشوبه قلق وقال: «بُورِك فيك يا ابن أول الخلفاء! لأنت عندي بمنزلة ولدي، ولكنني أمرت سميك محمدًا ابن الحنفية في هذه الحملة واستبقيتك أنت لأخرى.» قال: «إني طوع بنانك، وأراني مكلفًا بعبء هذه الحرب قبل سواي.» قال: «لا تستعجل الأمر يا بني، فلن تعدم طريقًا تسير فيه إلى حرب أخرى فقد كثرت إليها الطرق.» فلمح محمد من وراء ذلك أمرًا مكتومًا فقال: «وماذا يعني مولاي بالحرب الأخرى؟ وهل حدث ما يدعو إلى حرب؟» فألقى علي الرقعة إليه وقال: «اقرأ هذه فقد أتتني الآن بالخبر اليقين.» فتناولها محمد ونظر فيها فإذا هي كتاب أم الفضل من مكة تنبئ الإمام عليًّا باجتماع طلحة والزبير وأم المؤمنين على الطلب بدم عثمان، وأنهم تهيئوا للسير إلى البصرة. فبُغِت محمد وتلا الرقعة مثنى وثلاث. وتحوَّل عليٌّ إلى مصحف على منضدة أمامه فتناوله وجعل يقلب صفحاته. وهمَّ محمد أن يتكلم فرآه يقلب صفحات القرآن، فلبث صامتًا وقد هاله ما أحاط بهذا الخليفة من البلاء، وتذكر أخته وأسماء عندها. ورفع علي رأسه ونظر إلى محمد وقال له: «أرأيت ما فعلت بنا أختك؟» فقال محمد: «إني أعجب من عملها، ولا أكاد أصدق أنها تقدم على هذا! فما الذي حملهم جميعًا على الانتقاض؟!» قال علي: «أتسألني يا محمد عن السبب وقد أنبأتكم بهذه الأحداث قبل وقوعها؟! كم قلت لكم: دعوا عثمان وشأنه لا تقتلوه، لأن قتله سيؤدي إلى الفتنة لطمع بعضهم في الخلافة! فلو ظل عثمان حيًّا لم يكن ثمة ما يبعث على هذه الحروب، وقد بايعوني وأنا أعلم أنهم يضمرون غير ما يظهرون، فإن طلحة والزبير يريدها كلٌّ منهما لنفسه دون سواه فهما في انقسام عليها، وسترى إذا كُتِب لهما النصر أن الحرب ستقوم بينهما حتى يفني أحدهما الآخر ويُقتَل الألوف من المسلمين. ولو تيقنت أن خلعي من الخلافة يخمد الفتنة لتنازلت عنها اليوم، ولكنها تصبح بعدي فوضى كلٌّ منهم يتطلبها لنفسه. ناهيك بمعاوية في الشام وما يجول في خاطره من الطمع فيها، ولا يغرنك ما يدعيه من الثأر لدم عثمان لأنه لو أهمه لنصره قبل أن يُقتَل، ولكنه اتخذها ذريعة إلى التماس الخلافة لنفسه على علمه أني أولى الناس بها. فالغيرة على الإسلام تدعوني إلى الدفاع عن خلافتي لعلهم يجمعون على بيعتي فترقد الفتنة، وأما خروجها من يدي طوعًا أو كرهًا فإنه يدعو إلى فتنة عظمى أخشى أن تقضي على الإسلام والعياذ بالله!» وكان يتكلم والعرق يقطر من جبينه وخديه على لحيته وقد احمرَّت عيناه واغرورقتا بالدمع، وتجلت في وجهه ملامح تشف عما قام في نفسه من الغيرة على الإسلام، فازداد مهابة حتى لم يعد محمد يستطيع النظر إليه تهيبًا من غضبه وخجلًا من نفسه لأنه كان في جملة الذين رأوا قتل عثمان، فارتُجَّ عليه ولبث صامتًا. وكأنه أراد أن يعتذر لأخته فقال: «يلوح لي يا مولاي أن أختي لم تقم للأمر إلا بتحريض طلحة والزبير وقد خرجا من المدينة غاضبَين، وإني لأرجو إن لقيتها أن أحولها عن عزمها. ولكنني لم أرَ وجه الحكمة في مسيرهم إلى البصرة دون سواها.» قال: «أظنهم رأوا أهل المدينة بايعوني فاستنهضوا أهل مكة على نقض البيعة، وساروا يفعلون مثل ذلك في البصرة والكوفة.» قال محمد: «وهل سألت الرسول عن تفصيل الأمر؟» قال: «لم أسأله إلا قليلًا.» فقال: «أتأذن لي أن أستقصي منه؟» قال: «لا أراه يعلم شيئًا كثيرًا، وأرى أن تسير إلى مكة لتستطلع سر الأمر بنفسك، وأنت أجدر الناس بذلك وأختك أم المؤمنين في جملة القائمين به.» فسُرَّ محمد بهذه المهمة سرورًا عظيمًا، لأنه يخدم بها الإسلام ويُرضِي الإمام ويستطلع حال أسماء. فأجاب قائلًا: «لبيك يا مولاي، وعلى خيرة الله. وأرجو أن أحول أختي عن عزمها، فقد يكون طلحة والزبير هما اللذان حرضاها عليه. وهل أكتم مسيري؟» قال: «لا أرى أن يعلم به أحد.» قال: «هل تأذن لي أن أرى الرسول الذي حمل الكتاب إليك لأسأله شيئًا؟» قال: «إنه في دار الأضياف.» فخرج محمد وسار إلى دار الأضياف، فلقي الرسول فعرفه فسأله عن «عجوة» هل لقيها في مكة، فأجاب بأنه رآها يوم سفره عند أم الفضل ومعها فتاة مريضة. فقال محمد: «وهل تعرف الفتاة؟» قال: «لا أعرفها فإنها غريبة الدار، ولكنني علمت أنها جاءت مع العجوز عند أم المؤمنين ثم انتقلت إلى بيت أم الفضل، ورأيتها تشكو من حمى شديدة.» فأحس محمد بنار تلك الحمى في أحشائه وخاف أن تكون أسماء قد أُصِيبت بسوء، فأصبح يدفعه إلى الإسراع في الرحيل دافعان: خدمة أمير المؤمنين، والبحث عن أسماء. فودع عليًّا وخرج لساعته وركب هجينًا واصطحب خادمًا من السبئية، وركب قاصدًا إلى مكة يود لو يطير إليها على أجنحة النسيم. فبات ليلته في قباء فتذكر أول مرة رأى فيها أسماء تندب أمها، وأصبح قبل الفجر على هجينه يطوي السهل والوعر وهو لا يصدق أنه يصل إلى مكة ويرى أسماء على قيد الحياة. وكان كلما اقترب من مكة تعاظم الأمر لديه، وثارت فيه الحمية الإسلامية والغيرة على الإمام علي وهان عليه أمر الحب وعوامله، فلم يخلُ باله من هذه الهواجس لحظة. وتذكر نصح أسماء وما تنبأت به من عواقب الفتنة، وكم أشارت على الناس بالكف عن عثمان منادية ببراءة ساحته! فعظمت في عينيه وازداد إعجابًا بتعقلها ودقة نظرها، وأيقن أنهم لو انصاعوا إلى رأيها لكانوا تجنبوا هذه الحروب. قضى طريقه كله في مثل هذه الخواطر، وكان يستحث جمله لا يلتفت يمنة ولا يسرة مخافة أن يضيع عليه الوقت، فأمسى وهو على بضعة أميال من مكة فشق عليه المبيت خارجها وصمم على مواصلة السير حتى يدخلها ولو ليلًا. فأشار عليه خادمه أن يستريح هنيهة ويريح الجمل ريثما يطلع القمر فيسيران على نوره، فاستحسن الرأي ونزلا بمكان رأيا فيه بيتًا عند بابه شيخ توسد حصيرًا من سعف النخل وأمامه جِرار وأكواب من الخشب يسقي بها من يستسقيه في تلك الصحراء. فسلم على الشيخ وحيَّاه، فرحب به ونادى ابنة له وعيالًا ليقدموا لضيفهم ما يحتاج إليه من الماء أو العلف للجمال. فصعد محمد إلى رابية خلا فيها إلى نفسه وقد غابت الشمس، فأجال نظره إلى مغيبها في الأفق وكان الجو صافيًا وقد ظهر الشفق بألوانه من خلال أغصان الأشجار المبعثرة على الآكام، وكان الجو قد هدأ فلم يعد النسيم يهب إلَّا عليلًا، وأوت الطيور إلى أعشاشها إلا الخفاش فإنه خرج يطير. فاتكأ محمد على بساط فرشه له خادمه وعيناه شاخصتان إلى الأفق يراقب تلونه، فما زالت ألوانه تتحول من الزهو إلى الكمود حتى خيم الظلام، فأوقد الشيخ نارًا يهتدي بها المارة إلى ذلك المستقى. وظل محمد غارقًا في هواجسه حتى غاب وجدانه فنبهه ضب مر عند قدميه، فوقف وقد لفت نظره من الأفق أشباح تتراءى بينه وبين السماء، فتفرس فيها فإذا هي بضعة جمال على أحدها هودج وعلى سائرها أناس قد حجب البعد هيئتهم، وأسرعوا في المسير فخُيِّل إليه أنهم خارجون من مكة يريدون المدينة، فلما تواروا عن بصره ولم يرَ أحدًا في أثرهم علم أنهم ليسوا من الطلائع. ولكنه عجب من خروجهم من مكة في ذلك الليل وإسراعهم بالسير في غير الطريق العام كأنهم سائرون خلسة، وتمنى أن يعلم أمرهم ولكن الظلام حجبهم عنه فعاد إلى هواجسه. ولم تمضِ هنيهة حتى طلع القمر من وراء تلك الأكمة كأنه رقيب أطل للكشف عن لصوص في الظلام، فلما رأوا وجهه بادروا إلى الفرار إلا من كان منهم قريبًا ولم يستطع فرارًا فاختبأ وراء التلال وفي أعماق الأودية ثم لحق برفاقه وتلاشى. وكان القمر ساعتئذٍ دون البدر وقد ابيضَّ وجهه وسطع نوره فحرك ما في نفس محمد من الشجون، فنادى خادمه فهيأ الهجن وودع الشيخ وركب قاصدًا مكة. ••• ولم يسر ساعة حتى أشرف على مكة، وهي في منبسط من الأرض تحدق بها جبال من كل ناحية، فصعد إلى أكمة وأطل منها على ضوء القمر، فكانت الكعبة أول ما لفت نظره، وكان يتوقع أن يرى مضارب أو جنودًا في مكة أو حولها فلم يرَ شيئًا. فواصل السير يريد منزل أخته أم المؤمنين، فمر بالأسواق فلم يجد ما كان ينتظره من الجلبة والازدحام، حتى بلغ دار أخته فترجل عند بابها وقرعه، فأطل عليه عبد حبشي عرف من صوته أنه من عبيد أم المؤمنين فناداه باسمه، ففتح له الباب فدخل فرأى المنزل خاليًا فسأله عن أم المؤمنين فقال: «إنها خرجت من مكة بالأمس.» قال: «وإلى أين؟» قال: «ألم تسمع بما أجمعوا عليه؟» قال: «هل ساروا إلى البصرة؟» قال: «نعم». فسأله عمن سار معها فأنبأه، فاستعاذ بالله وتكدر لوصوله بعد سفرهم. وأراد العبد أن يحل جمله ويهيئ له الطعام، فقال: «لا تفعل إني خارج، وقد أعود.» وأمر خادمه أن يمكث هناك حتى يرجع، وخرج وهو بلباس السفر قاصدًا إلى بيت أم الفضل وهو يكاد يتعثر بأذياله مسرعة مشيته، فوصل إلى منزلها فرآه مغلقًا وقد أُطفِئت مصابيحه، فظن أهله نيامًا فتردد في أن يوقظهم أو يصبر إلى الغد، ولكن شوقه إلى رؤية أسماء هوَّن عليه إيقاظهم. فدنا من الباب وأمسك بحلقته وشدها فرأى الباب موصدًا فقرعه قرعًا شديدًا فأجابه البستاني فقال: «افتح»، فلما فتح سأله عن أم الفضل فقال: «إنها ذهبت إلى فراشها وأظنها لم تنم.» قال: «قل لها إن ابن أختك محمدًا بالباب.» فلما علم البستاني أنه ابن أبي بكر هرول إلى مصباح أناره ودعا محمدًا إلى الجلوس على المصطبة، ودخل إلى أم الفضل فأخبرها فأسرعت إليه وقد علتها البغتة وصاحت قبل أن يحييها: «ما الذي جاء بك يا محمد؟! وأين كنت؟!» فعجب للهفتها وقال: «إني قادم من المدينة. أين أسماء؟» قالت: «كيف تسألني عنها وقد بعثت في استقدامها؟!» قال: «إلى أين؟!» قالت: «ألم تبعث إليها كتابًا تستقدمها به؟» فقال: «ومن قال لك ذلك؟» قالت: «رأيت رسولك بأم عيني ومعه كتابك دفعه إليها عند العصر، وكانت لا تزال ضعيفة لا تقوى على السفر فلم تصبر إلى الغد وشدت رحلها وسافرت.» قال: «ماذا تقولين؟! هل سافرت أسماء؟! لقد زوَّروا الكتاب على لساني! من جرؤ أن يفعل ذلك؟! من هو النذل الذي أقدم على هذه الجريمة؟!» فضربت أم الفضل يدًا بيد وصاحت: «ماذا تقول يا محمد؟!» فأُخِذ محمد ولم يجب ثم قال: «في أي الطرق سارت؟» قالت: «سارت في هذا الطريق المؤدي إلى المدينة.» فتذكر محمد الأشباح التي رآها خارج مكة، وقال: «لقد لقيتها والله في طريقي، يا ليتني اعترضت ذلك الركب وهي معهم! ولو كانت في عافيتها لما خفت عليها بأسًا ولكنها مريضة فأخشى إن أحرجوها أن تموت غيظًا! لا حول ولا قوة إلا بالله!» وصمت برهة يفكر فلم يستطع إدراك سر الأمر، ثم هبَّ من مكانه وقال: «أستودعك الله»، وخرج. قالت: «تمهل يا محمد.» قال: «إن الوقت ثمين، دعيني أتعقب الركب الذين رأيتهم في طريقي لعلي أظفر بها معهم.» ولم يكد يخرج من الباب حتى وقف بغتة كأن شيئًا اعترضه، فعاد إلى أم الفضل وسألها عن الحملة ووجهة مسيرها، فقصت عليه خبرها فوعى ذلك في ذهنه وخرج مسرعًا يلتمس الطريق الذي رأى الركب سائرين فيه. فمر بخادمه في منزل أخته فرآه غارقًا في نومه من شدة التعب وقد أرسل الجمال إلى المربط للشرب والعلف، فأيقظه وأمره أن يتهيأ للرجوع فنهض وعيناه لا تنفتحان من النعاس. وعلم أهل المنزل بمجيء محمد فجاءه قيم الدار يدعوه إلى الطعام فاعتذر بأنه لا يستطيع المكث، ولما ألح عليه قيم الدار وأظهر له أن الجمال تحتاج إلى الراحة اقتنع وأكل قليلًا مما أعدوه وهو يحث الخادم للتأهب للمسير. وما لبث أن ركب وسار على أسرع ما يكون، وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو فالتمس الطريق الذي ظن أن الركب ساروا فيه، فقضى برهة لا يتكلم ولا يسمع صوتًا إلا جعجعة الجمال. وانتصف الليل والخادم يتوقع أن يأمره بالنزول للمبيت فلم يرَ إلا حثًّا على الإسراع، ثم رآه يسلك طريقًا غير الذي جاءوا فيه فنبهه إلى ذلك مخافة أن يكون قد ضل السبيل، فأجابه بأنه يعرف الطرق ولا يحتاج إلى تنبيه، فسكت وظل سائرًا حتى بلغا مكانًا يتشعب فيه الطريق إلى شعبتين؛ إحداهما تتصل بطريق المدينة والأخرى تنتهي إلى طريق البصرة، فوقفا هناك صامتَين. ••• لم يجرؤ الخادم أن يستفهم من محمد عما يريد وإن كان قد رابه قلقه وغضبه، فلما وقفا في مفترق الطرق وكان الرجل من النباهة والذكاء على جانب عظيم عارفًا بالأسفار خبيرًا بمسالك البر حاذقًا في قيافة الأثر؛ تشجع وسأله: «هل من خدمة أقدمها لمولاي؟» وكأن محمدًا أفاق من سبات، فانتبه وتذكر مهارة خادمه في قص الأثر فقال في نفسه: «لعله ينفعنا». وكان الخادم كهلًا عركه الدهر، قضى معظم أيامه في الأسفار وتحمل مشاقها، وكان طويل القامة سريع الحركة لا يبالي بالتعب ولا يخاف الموت، فقال له محمد: «هل لك في قيافة الأثر يا مسعود؟» قال: «إني من أمهر القائفين يا مولاي.» قال: «أترى على الرمل أثرًا لمشاة أو فرسان؟ وهل تستطيع تحقق ذلك على ضوء القمر؟» قال: «نعم يا مولاي.» ونزل عن راحلته وجعل يتفرس في رمال الطريق كأنه يقرأ كتابًا ومحمد بالقرب منه يراقب حركاته، فرآه يتنقل بخفة ولباقة فلا يضع قدمه إلا حيث يرى أنها لا تفسد أثرًا سابقًا، وما زال يروح ويجيء وهو يتفرس ويعد ويحسب ويقيس بأشباره وأصابعه ويراقب جهة الأقدام أو الخفاف أو الحوافر، ومحمد يعجب لما يبدو من خفته وحذقه حتى كاد يمل الانتظار، وأدرك مسعود قلقه فقال وهو لا يزال يتفرس في الرمال: «لا تضجر يا مولاي من طول الانتظار، فإني أرى ارتباكًا في الركب الذين مروا من هذا المكان وكأنهم وقفوا فيه برهة يروحون ويجيئون وربما تضاربوا وتقاتلوا، فاصبر قليلًا إن الله مع الصابرين.» وعاد مسعود إلى عمله وهو يجلس القرفصاء ويحني رأسه يتفرس في الرمال حتى يكاد يلامس وجهه الأرض، وقضى في ذلك ساعة ومحمد كأنه واقف على الجمر، وربما خُيِّل إليه لعظم قلقه أن الليل قد انقضى. وفيما هو في ذلك رأى مسعودًا وقد انتصب بغتة وتحدَّب وتمطَّى كأنه تعب من القرفصاء والانحناء ومشى إليه، فتقدم محمد نحوه وقال: «ماذا رأيت يا صاح؟» قال: «إن الآثار تشابهت عليَّ لاختلاطها، ومع هذا علمت أنها آثار قافلة صغيرة مؤلَّفة من بضعة جمال بينها جملان يسيران متواليَين كأنهما يحملان هودجًا، ومعهما مشاة من الرجال أكثرهم يحملون رماحًا لأني أرى آثار كعابها بجانب الأقدام، ويظهر أن القوم وقفوا هنا وترددوا في المسير واختل نظامهم. وقد يكونون تخاصموا أو تقاتلوا، يدلك على ذلك ما في آثار أقدامهم من الارتباك مع كثرة الأبعار المتجمعة، ثم بدا لي أنهم اتفقوا أخيرًا على سلوك هذا الطريق.» قال محمد: «وإلى أين يؤدي؟» قال: «يؤدي إلى البصرة أو الكوفة.» فسكت محمد وقد رجح لديه أنهم هم الركب الذين رآهم في ذلك الليل عن بعد، فأعمل فكره وحدثته نفسه أن يتبع الآثار ولكنه خاف أن يشغله ذلك عن المهمة التي جاء بها إلى مكة، فوقف صامتًا يتردد بين أن يطلع مسعودًا على سر الأمر وبين أن يظل على كتمانه، فتحير في أمره ثم سأله بغتة: «وما ظنك يا مسعود بالزمن الذي مر على مسيرهم؟» قال: «أظنهم مروا في أوائل الليل منذ أربع ساعات أو خمس، وهم سائرون على عجل.» فقال: «وهل تظننا ندركهم إذا اقتفينا أثرهم؟» قال: «إذا ظلوا هم على مسيرهم لا إخالنا ندركهم قبل يومين أو ثلاثة.» قال ذلك وقد مل من تكتم محمد الغرض من هذا البحث، فأراد استطلاع السر فقال: «هل يرى مولاي أن يطلعني على ما أهمه من هذا الركب لعلِّي أستطيع أن أحسن خدمته؟» قال: «يهمني يا مسعود من هذا الركب أمر كبير، هل تعرف خادمتنا العجوز التي كانت في المدينة؟» قال: «نعم أعرفها». قال: «إنها جاءت مع فتاة أموية إلى مكة وأقامت عند أختي أم المؤمنين، فلما أجمع أهل مكة على المسير إلى البصرة جاءهما أناس بكتاب مزوَّر على لساني يدعونهما إلى المدينة فسارتا معهم في غروب هذا اليوم، ولا أدري من تجرأ على هذا الفعل، ولا إلى أين ساروا بهما، ولكن يظهر مما بينته قيافتك أنهم هم الركب الذين مروا بهذا المكان.» فقال مسعود: «هل ترى أن أقتفي آثارهم وآتيك بالخبر وإذا استطعت إنقاذهما فعلت؟» فاستحسن محمد رأيه وأثنى على غيرته وأوصاه بأن يحتاط لنفسه وحثه على الإسراع وودعه، وركب هجينه ويمَّم شطر المدينة. ••• أما الإمام علي فإنه خلا إلى نفسه بعد خروج محمد من عنده وفكر فيما هم فيه، فرأى من الحزم أن يحول عزمه عن الشام إلى البصرة، فاستشار ابن عباس وغيره من كبار الصحابة فوافقوه على ذلك، فدعا وجوه أهل المدينة وخطب فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح أمركم.» ولكنه رأى تثاقلًا منهم وقد كان يتوقع تلبية ونهضة، فلم يقلل ذلك شيئًا من عزيمته. على أن جماعة من الصحابة تقدموا لنصرته واستحثوا الناس فعادوا إلى نصرته، فعبَّأ التعبئة التي أعدها لأهل الشام آخر ربيع الثاني سنة ست وثلاثين، وانضم إليه من نشط من الكوفيين. وبينما هو في تأهبه إذ أقبل محمد بن أبي بكر وأنبأه بما كان من خروج عائشة وطلحة والزبير ومن معهم إلى البصرة، فعجَّل بالمسير. وكان الناس يتوقعون أن يرسل الحملة ويبقى هو في المدينة حفظًا لمكانته فيها، فلما رأوه ركب في مقدمة الحملة تقدم إليه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله إن خرجت منها لن يعود إليها سلطان المسلمين!» فقال: «لا بد من خروجي.» فتكاملت الحملة واجتمعت في الربذة على ثلاثة أميال من المدينة، وتأهبوا للخروج ومحمد والحسن معهم. وكان الحسن لانهماكه بمهام الخلافة ربما مرت أسماء في ذهنه فيصبر نفسه إلى ما بعد ما هو فيه. واستبطأ محمد خادمه وهو لا يدري ما صار إليه، فقلق عليه ولكنه سُرَّ لمسيره هو في الحملة لعله يعلم شيئًا عن أسماء. ولما اجتمع جند عليٍّ في الربذة جاءه رجال من طيٍّ وأسد وانضموا إلى جنده فاشتد أزره. على أن الحسن لم يكن راضيًا عن خروج أبيه في تلك الحملة، فلما رآه عازمًا على ذلك قال له: «لقد نصحتك فعصيتني، فستُقتَل غدًا ولا ناصر لك.» فقال له علي: «إنك لا تزال تحن حنين الجارية. وما الذي نصحتني فعصيتك؟» قال: «نصحتك يوم أُحِيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيُقتَل ولستَ بها، ثم نصحتك يوم قُتِل ألا تبايَع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل مصر فإنهم لن يقطعوا أمرًا دونك فأبيت علَيَّ. ونصحتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يد غيرك … فعصيتني في ذلك كله.» فقال: «أي بني، أما قولك: «لو خرجتَ من المدينة حين أُحِيط بعثمان»، فوالله لقد أُحِيط بنا كما أُحِيط به. وأما قولك: «لا تبايَع حتى يبايع أهل الأمصار»، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر. ولقد مات رسول الله ﷺ وما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته. ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر مني، فجعلني سهمًا من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته. ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين. فأنا مقاتل كل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني؟ أو من تريدني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال: ليست ها هنا حتى يُحَلَّ عرقوباها؟ وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكفَّ عنك يا بني.» وفي الربذة أعد علي بن أبي طالب حملته، فجعل ابنه محمدًا بن الحنفية صاحب الراية، كما كان الشأن عند عزمهم على غزو الشام، وأعدوا لعلي ناقة حمراء يركبها وفرسًا كُمَيْتًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/13/
أسماء في الأسر
وكان محمد بن أبي بكر في شغل شاغل من أمر الحرب والاستعداد لها، ولكنه كلما خلا إلى نفسه لحظة ذكر أسماء، وكلما رأى قادمًا من سفر ظنه مسعودًا، فلما أبطأ مسعود في القدوم خاف أن تكون أسماء أُصِيبت بسوء، وكلما تصور ذلك زاد قلقه واقشعر بدنه، وودَّ لو أنه يذهب في مهمة إلى البصرة أو الكوفة لعله يلقاها أو يسمع بخبرها فيطمئن قلبه. فبات ذات ليلة في خيمته وقد تسلط عليه القلق لما هم فيه من النصرة للإمام علي وما يتوقعونه من البلاء، فعظم عليه الأمر وأرق ورأى أن يلتمس الذهاب بنفسه إلى البصرة يستنهض أهلها لنصرة الإمام، وعزم على أن يبكر في الصباح لمخاطبة الإمام في ذلك. وإنه لفي هذا إذ سمع صوتًا خارج الخيمة يشبه صوت مسعود فهب من فراشه وناداه، فجاءه ودخل عليه في ثياب السفر، ودخلت في أثره امرأة لم يعرفها محمد في بادئ الأمر لضعف نور المصباح، ولكنه ما لبث أن تبين أنها العجوز فبُغِت وتذكر أسماء فقال: «ما وراءك يا خالة؟! أين أسماء؟!» قالت: «أظنها الآن في البصرة أو في الكوفة، أو لا أدري أين هي.» قال: «وكيف تركتِها وجئت وحدك؟!» قالت: «هي أمرتني أن أجيء، وسأقص عليك نبأها بعد أن أستريح.» قالت ذلك وتنهدت وقد أضناها التعب، فسأل محمد مسعودًا: «أين لقيتها؟ وما الذي دعا إلى هذه الغيبة؟» قال: «طال عليَّ الأمد في البحث عن الركب، وكأنهم غيروا طريقهم وتعرجوا في مسيرهم، فتشابهت عليَّ سبلهم فقضيت أيامًا أستقصي حتى كدت أدرك البصرة، ورأيت جيش أم المؤمنين عن بعد. ثم تحولت إلى طريق آخر فعثرت على هذه الخالة سائرة وحدها فسُرِرت بلقياها، وسألتها عن أسماء ومكانها فقالت إن الركب ساروا بها إلى حيث لا تدري، وإن أسماء بعثتها إليك برسالة لا أدري ما فيها. وكنتُ عازمًا على مواصلة البحث عنها فمنعتني، فجئت بها إليك.» فعجب محمد لذلك، والتفت إلى العجوز وقال: «قصي علينا الخبر يا خالة من أوله إلى آخره.» فجلست وأخذت في سرد الحديث فقالت: «هل أقص خبرنا منذ ودعتنا في المدينة وسرنا نحن إلى مكة؟» قال: «سمعت هذا من خالتي أم الفضل، ولكنني أريد أن أعلم كيف خرجتم من مكة؟» قالت: «كانت أسماء مريضة عند أم الفضل وهي على مثل الجمر في انتظار إشارة منك للانتقال إلى المدينة، لأنها أصبحت بعد ما رأت من عزم أهل مكة على طلب دم عثمان لا تستطيع الإقامة بها. وكانت مع ضعفها كلما ذكرت عليًّا والحرب والانتصار له تتشدد وتتقوى، حتى خُيِّل إليَّ أنها كانت تشتاق النزول إلى ساحة الوغى دفاعًا عن الإمام علي لقوة إيمانها ببراءته من دم عثمان، وكانت كلما ذكرت ذلك تبكي وتحرق أسنانها غيظًا لقعودنا في مكة بالرغم منها. وعظم الأمر لديها يوم خرجت أختك ورجالها من مكة يريدون البصرة لطلب دم عثمان، فإنها أصبحت في ذلك اليوم على أشدها لفرط ما هاج من عواطفها رغبةً في المسير إلى المدينة، وإنما كان يقعدها قولك لها يوم وداعها أنكَ ستبعث إليها من يستقدمها. فبعد سفر أم المؤمنين بيوم أو يومين جاءنا رسول بكتاب زعم أنه منك، ولم تكد أسماء تتم قراءته حتى هبَّت من فراشها وقد أشرق وجهها وأبرقت أسرتها وقالت: هيا بنا يا خالة إلى المدينة، فإن محمدًا بعث من يحملنا إليه. فنظرت إلى الرسول فلم أذكر أني أعرفه، فقلت له: أين الجمال والأحمال؟ قال: هي خارج المدينة وقد سرَّحناها للراحة. فلم يرق لي كلامه لأني لا أعرفه، وكانت خالتك أم الفضل جالسة فسألتها فقالت إنها لا تعرفه أيضًا، فخلوت بأسماء وحذرتها من المسير مع قوم لا تعرفهم، فأبت إلا الركوب وقالت إنها لا تبالي من كانوا فإنما غرضها الخروج من ذلك السجن، فأطعتها وخرجنا والرجل يسير أمامنا وأسماء لا تزال ضعيفة من عقبى الحمى. وكنتُ قبل خروجنا من البيت قد عرضت عليها أن يذهب الرسول فيأتينا بالجمال إلى البيت فنركب من هناك، ولكنها لم تستطع صبرًا وأبت إلا المسير حالًا. فوصلنا إلى المكان الذي أشار إليه الرسول، فرأينا هودجًا على جملين وجمالًا أخرى وبضعة رجال لم أعرف أحدًا منهم، فخامرني الريب ونبهت أسماء إلى ذلك فلم تنتبه كأن رغبتها في المسير إليك أسكرتها وأعمت بصيرتها. فركبنا والخدم في ركابنا حتى أتينا مكانًا تتشعب فيه الطريق إلى شعبتين، وهناك رأينا أناسًا مسلحين ينتظروننا وفيهم شاب بلباس ثمين كأنه سيدهم، فلما وصلنا إلى المفرق وقفت جمالنا ودنا الرجال برماحهم فتحققنا وقوع الخيانة. وكان الليل قد أسدل نقابه فلم نعرف أحدًا من هؤلاء، فلما رأيناهم تحولوا عن طريق المدينة إلى طريق البصرة قلت: «إلى أين أنتم ذاهبون بنا؟!» فقالوا: «إلى حيث نشاء.» فهالني جفاء الجواب، ونظرت إلى أسماء على ضوء القمر فإذا هي ثابتة الجأش على ضعفها. وقد كنا في الهودج معًا، فحالما تحولنا إلى ذلك الطريق أنزلوني من الهودج وحملوه على جمل واحد، وأركبوني الجمل الآخر فأطعت مرغمة.» وكانت العجوز تتكلم ومحمد مصغٍ يتطاول بعنقه لسماع تتمة الحديث وقد ظهر القلق على وجهه، فاستأنفت العجوز حديثها وقالت: «وما زلنا سائرين مسرعين طول الليل حتى أصبحنا وتبينت الوجوه وتفرست جيدًا، فرأيت بينهم رجلًا تذكرت أني رأيته في خدم بيت أختك أم المؤمنين، وتأملت الشاب ذا اللباس الفاخر فإذا هو ذو جمال وقيافة فظننته سيدهم، ولم أعرف من هو ولكنني عرفت أن اسمه سعيد، ويلوح عليه أنه من أهل البصرة. ولم تكد جمالنا تستريح حتى دنا الرجل من هودج أسماء وأنا أنظر إليه من بعيد وأسمع شيئًا مما يقول، ففهمت أنه يسألها عن حالها وهل لا تزال تفضل المدينة وأهلها، ورأيت منه احتفاءً عظيمًا بها إذ أمر بطعام فاخر قدمه لها وجعل كل رجاله في خدمتها …» فقاطعها محمد قائلًا: «وهل أكلت من طعامه وأجابته على كلامه؟» فقالت: «والله يا بني إني لم أشاهد في حياتي كلها لا في الجاهلية ولا في الإسلام فتاة ولا شابًّا أثبت جأشًا من أسماء ولا أصبر على المكاره منها، فقد كانت مع ضعفها وعلمها بالخطر الذي وقعت فيه مطمئنة لا يبدو على وجهها شيء من دلائل الخوف والاضطراب. وقد لحظت لما كان ذلك الشاب يكلمها أنها كانت تجيبه بكلام لم أسمعه، ولكنني رأيت أثره في وجه الشاب تهيبًا وخوفًا منها وكأن الخطر قد زاد أسماء هيبة وجلالًا كما زادها الضعف حسنًا وجمالًا. وأما أنا فكنت خافقة القلب مضطربة الحواس لا أكاد أستطيع الوقوف لشدة الارتعاش، وهي جالسة في هودجها والقوم ولا سيما سعيد وقوف على خدمتها لتلبية كل إشارة منها.» فقال محمد: «لم تجيبيني يا خالة عن سؤالي، هل أكلت من طعامهم؟» قالت: «لا يا سيدي، لم أرها تأكل، ولكنني لا أظنها استطاعت البقاء بلا طعام.» قال: «ثم ماذا؟» قالت: «ولم نسترح إلا قليلًا، ثم نهض الركب وسرنا نطوي البيداء ووجهتنا العراق، وأنا لا أدري ماذا أعمل. ولو رأت أسماء فائدة من المقاومة لفعلت، ولكنها وجدت نفسها عزلاء وحولها رجال مدججون بالحراب والسيوف والرماح. ولكني أُعجِبت بشجاعتها وسكينتها، وكانت طول الطريق ساكتة تتأمل كأنها تفكر في طريقة للنجاة. وأما سعيد أصل البلاء ورأس الخطيئة فلا ريب أنه أقدم على فعلته وأسماء طِلْبته ولكنه كان متهيبًا، وربما همَّ بأن يكلمها بشيء في نفسه فإذا دنا من هودجها ارتُجَّ عليه فتظاهر بأمر آخر. وقضيت اليوم الثاني وأنا أحاول الدنو من أسماء لعلنا نتعاون على سبيل للنجاة فلم أستطع، لأنهم كانوا يفرقون بيننا عنوة. فبتنا ثم أصبحنا وقد مللت هذه الحال، فلاح لي أخيرًا أن أتظاهر بالتعب والمرض لعلهم يسمحون لي أن أراها وأرى ما يكون، فشكوت ألمًا وعجزًا عن الركوب فقال سيد القوم: «اتركوها في الطريق وسيروا»، فصحت: «دعوني أنظر ابنتي، دعوني أودعها!» وأخذت في البكاء فسمعتني أسماء وطلبت أن تراني فحملوني إليها، فأجلستني في هودجها وأرخت ستائره ومشى الركب بنا، فلما خلونا سألتها عما في نفسها فتنهدت وقالت: «إني لم أقع عمري في مثل ذلك، وأنا أعلم الناس بما يحدق بي من الخطر، ولكنني لا أرى الخوف يجديني نفعًا، ولا أنا أستطيع دفاعًا فأنا عزلاء وهم عشرة مسلحين. ويلوح لي أنهم سائرون بنا إلى معسكر أم المؤمنين، وأن هذا الشاب المغرور من رجالها، وأظنه طامع فيَّ فليطمع ما شاء، ولعلي أجد سبيلًا للنجاة. ولكني أريد أن أبلغ محمدًا خبرًا مهمًّا، فكيف العمل؟!» فقلت لها: «أنا أبلغه إياه فإن هؤلاء الرجال يريدون التخلص مني، فإذا أنا تظاهرت بحب التخلف عنهم خلفوني وساروا، فقولي ما تريدين»، قالت: «سأكتب ذلك في كتاب توصلينه إليه.» وسرنا هنيهة ثم وقف الركب وجاء ذلك الشاب فرفع الستر عن الهودج وقال: «انزلي من هذا الهودج إن الجمل لا يستطيع حملك»، فشكوت له التعب والمرض، فقال: «لا يعنيني»، فقالت له أسماء: «تمهل ريثما نصل إلى مكان نستريح فيه جميعًا، فإذا لم تقدر على الركوب معنا تركناها أو أوصلناها إلى قافلة تسير بها.» وكانت أسماء تتكلم والشاب ينظر إليها وقد هام بها ولم تزده أنفتها إلا حبًّا، وكأنها سحرته فأصابه خبل، فقال: «حسنًا». فوصلنا في المساء إلى مكان فيه آبار وشجر فنزلنا جميعًا ونصبوا الخيام، فطلبت أسماء الخلوة فتركوها ووقفوا خارج خلوتها لئلا يدهمها أحد فقضت هناك ساعة حتى قلقت عليها، ثم خرجت إليَّ وقد احمرَّت عيناها وتبلَّلتا وبيدها منديل قطعته من قميصها دفعته إليَّ وقالت: «احتفظي بهذا الكتاب وادفعيه إلى محمد»، فتناولته وخبَّأته بين أثوابي وأنا أحاذر أن يراني أحد، وقالت أسماء: «أسرعي في المسير إلى محمد ما استطعت.» وكانت هناك قافلة قادمة نحونا فعلمت أن ركبنا سيرحل قبل وصولها، فتظاهرت بعجزي عن الركوب والمشي، فلما رأى أصحابنا القافلة آتية تهيئوا للرحيل وطلبوا إليَّ أن أركب أو أمشي، فلما اعتذرت هموا بتركي. وطلبت أن أودع أسماء فأذنوا لي في ذلك، وقد بكت حين ضممتها وقبَّلتها مرارًا، ولكنها أسمعتني كلامًا عزاني على فراقها وطمأن قلبي عليها فقالت: «لا تخافي عليَّ يا خالتي، فإني أرجو أن يكون هذا ذريعة إلى خدمة عظيمة أقوم بها للإمام علي ومحمد، وعلى الله اتِّكالي»، ولم أكد أجيبها حتى أقلع جملها وسار وهي تلتفت إليَّ وتبتسم وأنا أبكي. فظللت وحدي أنتظر وصول القافلة، فإذا وجهتها غير ما ظننت وطريقها غير طريقي، فنهضت أسعى في أثرها فسبقتني، وما زلت أسير تارة وحدي وطورًا أصطحب راعيًا أو ماشيًا حتى لقيت مسعودًا على ما قصه عليك.» ••• أكتب إليك هذا بمداد من دمي، إذ لا سبيل على غيره وأنا في صحراء قاحلة وحولي أناس لا أدري غرضهم من أسري، على أنهم لن ينالوا مني وطرًا. وقد علمت أنهم سائرون بي إلى معسكر أم المؤمنين بالبصرة، وأظنهم من رجال تلك الحملة. لا تجزع يا محمد ولا تخف على أسماء، فإنها بحول الله لا تخشى بأسًا. وقد كتبت هذا إليك لأنبئك بحالي وأدعوك إلى عهد بيننا نجعله نذرًا علينا، هو أن تكون أعمالنا وحواسنا وقوانا مكرسة لخدمة أمير المؤمنين ابن عم رسول الله ﷺ، فقد اتهموه ظلمًا بدم عثمان وأنا وأنت أعلم الناس ببراءته، فعلينا القيام بنصرته. حتى إذا انتهينا واستقام الأمر نظرنا في أنفسنا وأجبنا داعي القلب. هذا ما أدعوك إليه، وأرجو أن تعاهدني عليه ولا أظنك تخالفني فيه، وأنا منذ الآن ساعية في هذا السبيل وأرجو أن يكون أسري عونًا على هذه الخدمة. فأنت تعمل من جهة وأنا من جهة أخرى أعمل لإقناع أم المؤمنين حين ألقاها ببراءة الإمام. آه! يا ليتها كانت معنا ليلة وجدناه يبكي عند قبر الرسول! آه من تلك الليلة! كم لقيت فيها من الأهوال! على أني سأذكر لها ذلك، وأننا سمعناه يندب الإسلام ويتخوف وقوع الفتنة، ولعلها تؤمن ببراءته. أقول هذا على أمل تذليل العقبة الوعرة التي أراها في سبيلي. فإذا مت فإني أموت شهيدة العفاف والغيرة على الإسلام والنصرة للإمام رجل هذه الأمة … ومرة أخرى أدعوك إلى العهد على نصرة الإمام علي والتفاني في ذلك، فإذا فرغنا منه على خير فكرنا في أنفسنا. والسلام. ولم يفرغ محمد من تلاوة الكتاب حتى امتلأ قلبه حمية وطفح إعجابًا بأسماء وعجب لتوارد الخواطر بينها وبينه فقبَّل كتابها وأثنى على غيرتها، ولكنه ما زال خائفًا عليها من غائمة ذلك الأسر، فقضى ليلته مضطربًا وقد مال إلى الذهاب في مهمته إلى العراق لعله يلقى أسماء فينقذها. ••• خرج محمد في صباح اليوم التالي قاصدًا فسطاط الإمام علي لعله يسمع خبرًا جديدًا، فلما دخل عليه رأى في مجلسه جماعة من الصحابة يتحدثون فيما هم فيه من الأحوال ويتشاورون، والإمام مقطِّب الوجه يفكر فيما قام من الفتنة. وفيما هم في ذلك دخل غلام مبغوتًا فسأله علي: «ما وراءك؟» قال: «إن في الباب ركبًا قادمين من البصرة وفيهم رجل ملثم.» قال: «فليدخل كبيرهم». فدخل رجل ملثم الوجه، حيَّا الإمام عليًّا وكشف عن وجهه فإذا هو أحلط الوجه أملط لا شعر له في لحيته ولا شاربيه ولا حاجبيه ولا أشفار عينيه، فأنكره علي وتأمله وقال له: «من الرجل؟!» قال: «أنا عثمان بن منيف عاملك على البصرة.» فبُغِت الإمام وقال: «ما الذي أصابك؟!» قال: «بعثتني بلحية فجئت أمرد!» قال علي: «أصبت أجرًا وخيرًا. احك لنا خبرك وما دعا إلى نتف شعر وجهك على ما نرى!» قال: «بعثتني يا مولاي عاملًا على البصرة فلقيني الناس وسُرُّوا بخلافة الإمام علي، ثم ما لبثت أن سمعت أهل البصرة يتحدثون بأمر حدث، وأن كتبًا وردت على بعضهم من أم المؤمنين تدعوهم فيها إلى الأخذ بثأر عثمان، وأنها قدمت من مكة وأقامت في الحفير على بضع ليال من البصرة تنتظر الجواب، فأهمني الأمر كثيرًا فبعثت رجلين؛ أحدهما رجل عامة والآخر رجل خاصة، يسألانها عما تريده. فعادا وأخبراني أن أم المؤمنين وطلحة والزبير مصرون على طلبهم دم عثمان منك، وأن الآخرَيْن لم يبايعاك إلا كرهًا، فشاورت رجالي فقال بعضهم: «ننصرهم»، وقال آخرون: «نردهم»، ورأيت لهم نصراء في البصرة فخفت اتساع الخرق. ثم علمت أن عائشة جاءت المربد (وهو السوق خارج البصرة) ومعها رجالها، فخرجت إليها بنفسي ومعي بعض أهل البصرة ممن يرون رأيي. فلما انتهينا إلى المعسكر سألناهم عن غرضهم، فوقف طلحة وتكلم بفضائل الخليفة عثمان وحث على الأخذ بثأره ثم قام الزبير بمثل ذلك، وأيدهما من معهما من الرجال. فقلت لهما: «بايعتما عليًّا وجئتما تقولان ما تقولان!» فوقفت أم المؤمنين وألقت كلامًا حرضت فيه الناس على طلب دم عثمان، وقالت قولًا كثيرًا وكان لكلامها تأثير شديد على كل من سمعها، حتى إن جماعة كبيرة من رجالي مالوا إليها. ثم اشتد اللجاج بين الرجال ونشبت الحرب فقُتِل من رجالي جماعة كبيرة، فتنادينا إلى الصلح وتواعدنا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة والزبير أُكرِها على البيعة سلمت إليهما الأمر وإلَّا فإنهما يرجعان، فبعثت إليكم وفدًا في ذلك.» فقال علي: «وقد أجابهم أهل المدينة أنهما بايعا طائعَين.» قال عثمان: «نعم يا مولاي، جاءهم الوفد بذلك فأنكروه وبعثوا إليَّ، وكانت ليلة ذات رياح ومطر ساروا فيها إلى المسجد وقت صلاة العشاء، فأرسلت بعض رجالي لأرى ماذا يريدون فقتلوهم، ثم جاءوا إليَّ وأخرجوني ونتفوا لحيتي وشعر حاجبَيَّ وأشفار عينَيَّ كما ترى، فجئت بالخبر كما وقع.» فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! وكيف أهل البصرة الآن؟» قال: «إن سوادهم مع أم المؤمنين.» فأطرق عليٌّ، وكل من في مجلسه سكوت ينتظرون ما يبدو منه فظل ساكتًا، حتى شعر الناس أنه يريد أن يخلو بخاصته، فخرجوا جميعًا وفي جملتهم محمد بن أبي بكر وقد ساءه تعاظم الأمر إلى هذا الحد. ولم يكد يدرك خيمته حتى جاءه رسول يستقدمه إلى علي فأسرع إليه فلم يرَ عنده إلا محمدًا بن جعفر، فدخل وحياه وهو يتوقع أن يسمع منه أمرًا جديدًا، فلم يكلمه حتى جلس على وسادة بجانب محمد بن جعفر، فقال له والاهتمام ظاهر في وجهه: «أتدري لماذا دعوتك؟» قال: «خير إن شاء الله.» قال: «أسمعت ما فعلت أختك وطلحة والزبير في البصرة؟ لقد أساءوا إلى عاملنا وحضوا الناس على حربنا لأننا على زعمهم قتلنا عثمان، وأنت تعلم أن أهل الكوفة حزب كبير يهمنا استنفارهم ليكونوا معنا في هذه الحرب إذا كان لا بد منها، وقد انتدبتك أنت وابن أخي هذا لتسيرا إلى أبي موسى الأشعري عاملنا على الكوفة تستنفران الناس لنصرة الحق.» فوقف محمد وقد ثارت حميته وقال: «إننا طوع أمرك، وإن الدفاع عن الحق ونصرة أمير المؤمنين فرض واجب علينا.» قال علي: «تأهبا واخرجا إلى أبي موسى، واقرأا هذا الكتاب على الناس وادعواهم إلى الإصلاح فإننا لا نريد سواه، وأنا لاحق بكما. وأستعين الله في نصرة الحق وكبح جماح الباطل!» فخرجا يتأهبان للرحيل. فلنتركهما سائرَيْن في هذه المهمة ولنعد للبحث عن أسماء. ••• أما أسماء فقد كان السبب في أسرها أن أحد كبراء البصرة، ممن جاءوا مع ابن عامر إلى مكة، شاهدها ساعة وقوفها في العريش ومخاطبتها مروان بتلك الشجاعة مع ما كان يتجلى في محياها من المهابة والجمال، فوقعت من نفسه موقعًا عظيمًا وعلق قلبه بها، وكان من أهل اليسار والبذخ. فلما انفض المجلس سأل عنها فأخبره بعض الذين اطلعوا على حديثها سرًّا من خدم أم المؤمنين أنها مخطوبة لمحمد بن أبي بكر، وأنها باقية في مكة تنتظر أمره بالذهاب إلى المدينة. فحدثته نفسه أن يخطفها ويغريها بحبه ويتزوجها، وهو يعتقد أنها لا تلبث أن ترى جماله وتعلم بجاهه وغناه حتى تهواه وتفضله على محمد، فيحظى بها وينتقم من محمد لنقمته على عثمان. فاصطنع ذلك الكتاب على لسان محمد وبعث به مع بعض رجاله فجاءت معه، فسار بها كما تقدم وهو تارة يستعطفها وطورًا يعدها بالسعادة عندما يصل بها إلى البصرة. وخُيِّل إليه في بادئ الرأي أنها مالت إليه لما آنسه من سكوتها وتصبرها، ولم يعلم أنها فعلت ذلك حزمًا وتعقلًا. وكان يود التخلص من العجوز فتيسر له ذلك على أهون سبيل كما رأيت. فقضى أيامًا في مسيره وهو يعرج في الطريق روحة وجيئة يلتمس رضاها قبل الوصول إلى البصرة، فلما دنا من البصرة عرج على طريق ينتهي بالكوفة وكان له فيها منازل وصنائع. وكانت هي تفكر في طريقة للنجاة، وكثيرًا ما حدثتها نفسها أن تجافيه وتظهر احتقارها له، ولكنها كانت تعود فتصبر مخافة أن يفتكوا بها. فلما صاروا على مقربة من الكوفة لم يرَ بدًّا من استجلاء أمرها، فصبر حتى أسدل الليل نقابه وجاءها وهي مستلقية في الهودج التماسًا للراحة، وكان بجانب الهودج نار أوقدوها للاستضاءة، فرفع ستائر الهودج فانتبهت أسماء وجلست، ولما رأت سعيدًا استعاذت بالله، أما هو فحياها بلطف وقال لها: «ألا تظنين البصرة خيرًا من المدينة يا أسماء؟» فأطرقت ولم تجب، فجثا أمامها ومد يده محاولًا أن يمس معصمها بينما أخذ ينظر إلى وجهها وقد انعكست عليه أشعة لهيب النار، فلم يكد يمس يدها حتى أجفلت وجذبتها من بين أنامله وبالغت في الإطراق. فقال لها: «ما بالك يا مليحة؟ ألا تزالين تجافينني وأنت تعلمين أني أسير هواك؟ فهل تخشين ألا تلاقي في منزل محبك الإكرام الذي يليق بك؟ إنك لا تلبثين أن تنزلي في بيتك بالبصرة أو في الكوفة حتى تشعري بالسعادة التي تنتظرك هناك مما لا يتأتى لأحد سواي أن يهبك إياه؛ فهناك تجدين الخدم والحشم، والدور والمنازل، والخيل والماشية، والملابس الفاخرة، وكل أسباب الراحة. ألا تمنين عليَّ بنظرة تدل على رضاك؟» وكان سعيد يتكلم وعينا أسماء شاخصتان إلى تلك النار الموقدة بجانب هودجها، لا يحاكيها في ذلك الليل الهادئ إلا نيران قلبها المتقدة حبًّا لمحمد وغيرةً على الإسلام، وقد ازدادت اتِّقادًا وحدة لما سمعته من كلام ذلك الشاب وأرادت أن توبخه وتردعه، ولكنها علمت أنها إذا فعلت ذلك عرَّضت نفسها للخطر فتنهدت وظلت صامتة. أما هو فظن تنهدها دليلًا على أثر كلامه فيها، فابتسم ومضى نحوها جاثيًا ومد يده ليمسك أناملها وهمَّ بالتكلم فجذبت يدها منه، ونظرت إليه والشرر يكاد يتطاير من عينيها ثم أعرضت عنه وهي تحرق أسنانها، فابتسم هو وهَشَّ وقال بنغمة المحب الولهان: «بالله ألا رحمت قلبًا قيدته بسلاسل هواك، ورمقته بلفتة أو بكلمة! قولي يا أسماء، قولي إنك راضية بي عبدًا رقًّا وأنا أكرس حياتي لخدمتك، والله إني لم أقل هذا لأحد قبلك! تعطفي بالله وارفقي، كفى سكوتًا وإعراضًا! اعلمي يا مليحة أنني إنما أريد سعادتك وأن الله ساقني إليك لحسن حظك وحظي، وأن ابن أبي بكر ليس أهلًا لك ولا هو يستحقك، ولسوف ترين ما يحل به إذا احتدم القتال.» ولم تعد أسماء تستطيع صبرًا على ذلك بعد أن سمعت التعريض بمحمد، فحدثتها نفسها أن تصفعه على وجهه ولكنها كظمت غيظها بالرغم منها، وعمدت إلى توبيخه فقالت بنغم ضعيف وصوت رخيم: «إني لا أراك أهلًا للنزال.» فسُرَّ سعيد لكلامها وإن يكن توبيخًا له، لأنه رجا أن يصل بالحديث معها إلى استرضائها، فقال: «وما أدراك يا فاتنتي أني غير أهل لذلك؟» قالت وهي تنظر إليه نظرة التأنيب: «لأن الرجل الذي يقطع الفيافي والقفار طلبًا للثأر أو نصرة للحق على ما تزعمون لا يرتكب جريمة التزوير، ومن كان حرًّا صادقًا يلقى الرجل في حومة الوغى لا يكلم فتاة يعلم أنها تحب سواه.» فأحنى الرجل رأسه عند كلامها وقال: «لقد صدقت أيتها العذراء، ولكني إنما زورت التماسًا لقربك إذ لم يبقَ لي إليه غير هذا السبيل، فأنا أستغفر لذنبي لديك.» قالت: «إنك إنما أذنبت إلى غيري، فإذا كنت رجلًا فالقَ محمدًا واستغفره، فإما أن يغفر لك وإما أن ينازعك فنرى من هو الرجل.» فجلس سعيد ودنا منها حتى كاد يلامسها ومد يده فقبض بواحدة على زندها وجعل الأخرى على نقابها وأراد أن ينزعه، فجذبت يدها منه ووقفت وقد أخذ الغضب منها مأخذًا عظيمًا وقالت: «ابتعد عني ولا يغرنك سكوتي ومرضي، والله إن تمدد يدك لأكسرنها!» فضحك سعيد وقال: «لا تغضبي يا حبيبتي، فإني لم أفعل شيئًا يغضبك ولكنني أسترضيك وأستعطفك، فأفيقي من غفلتك ولا ترفضي نعمة أنعم الله بها عليك.» قالت وهي تتحفز للخروج من الهودج: «إذا كنت تزعم أنك تريد رضاي فاعلم أنك تطلب عبثًا، وإذا حدثتك نفسك بوطر تبغيه فاعلم أنها تحدثك باطلًا وأن احتراقي في هذه النار أيسر مما تدعوني إليه.» فقال وقد حار في أمره وهو يكظم غيظه ولا يزال يرجو رضاها: «تمهَّلي يا حبيبتي وتبصري فيما أقوله لك، ولا ترفسي النعمة التي أعرضها عليك باسم الحب.» فقالت بنغمة جافية: «لا تنطق بالحب فإنك تتكلم باطلًا، ولا تستعظم قوتك وتستكثر رجالك فإن ذلك لا يرهبني.» ••• ولما رأى سعيد من أسماء هذا الإصرار، وقف على قدميه بغتة وصاح فيها صيحة دوَّت في ذلك الليل الهادئ وانتهرها قائلًا: «أراك قد بالغت في القِحَة، واستخففت بي وإنك تعلمين أنك أسيرة بين يدَيَّ!» قال ذلك وأمسك بيديها، فانتفضت من بين يديه ورفسته برجلها فألقته على الأرض وأعرضت بوجهها عنه. فهبَّ من وقعته وصاح برجاله فتجمهروا حول أسماء وقبض بعضهم على يديها وبعضهم الآخر على كتفيها، فتملصت من بين أيديهم وصاحت فيهم قائلة: «عار عليكم وأنتم رجال مسلحون أن تتجمهروا على فتاة عزلاء!» فصاح سعيد فيهم: «قيدوا هذه الخائنة وشدوا ساعديها!» فقالت: «ما الخائن إلَّا أنت يا نذل، أتظن أن القيود تقيد شيئًا من حريتي؟» وهمَّت بعصا من عصي الهودج استلتها في وجوه الرجال فتفرقوا أمامها تهيبًا من منظرها ورفقًا بها، فوبَّخهم سعيد وحثَّهم فعادوا وتكاثروا عليها وهي تحاول دفعهم، فعثرت رجلها بعقال الجمل فوقعت على الأرض فأسرعوا إليها وشدوا وثاقها، وهي لا تبالي بما يفعلون وسعيد واقف ينتفض غيظًا، وأمرهم أن يلقوها في الهودج ويربطوها به ففعلوا. فلما أيقنت بالخطر القريب ترقرقت الدموع في عينيها وصاحت: «آه يا محمد! أين أنت؟! يا ويل الأنذال اللئام الذين لا ذمة لهم ولا ذمام!» فلما سمعها سعيد تنادي محمدًا ضحك ضحكة تخالطها رعدة الغضب وقال: «لا تذكري محمدًا ولا ترجي نجاة من هذا الأسر!» ثم أمر رجاله فتفرقوا، ودنا منها وعاد إلى الملاينة فقال: «كيف أنت الآن؟ ألا ترجعين عن غيك؟ إنك أسيرة بين يدَيَّ وحياتك رهن إشارتي إلا إذا أجبت طلبي فتصيرين أنت الآمرة الناهية، قولي إنك رضيت بي، قولي إنك تحبينني وكفى.» فصاحت به قائلة: «لا، لا، لا أحبك، اذهب عني يا شيطان ولا ترني وجهك!» قال: «أعنادٌ وروحك في قبضة يدي؟» قالت: «لا تهددني بالموت فإنه خير مما أتوقعه، واقتلني وأرحني من هذه الحياة.» قال: «لا أقتلك بل أذيقك العذاب، لا بل أعيد النصح وأدعوك إلى حبي.» ومد يده إلى شعرها ولم يكد يلمسه حتى اقشعر جسمها وانتفضت وكان الوثاق محلولًا من بعض أطرافه فتملصت يدها وأخرجت ذراعها ودفعت يده بعنف، فجرد حسامه وهجم عليها به ليخوفها لعلها تطيعه، فوقفت وذراعها الأخرى مشدودة إلى جسدها ومدت يدها إلى سيفه فأخذته من يده وهو لا يمنعها منه، فقطعت بقية الحبال وأغارت عليه والسيف مشهر بيدها ففر أمامها، فأسرع رجاله إليها فأصابت أحدهم بضربة على عنقه فخرَّ قتيلًا، وهمَّت بالباقين فتكاثروا وتهافتوا عليها بالرماح والحراب والسيوف فأصابها رمح في زندها، فسقط السيف من يدها ووقعت مغشيًّا عليها من شدة الألم، فأسرعوا وشدوا وثاقها وهي لا تعي. فلما رآها سعيد مغمى عليها أمر بالماء فرشوها به حتى أفاقت فقال: «اتركوها لتستريح»، وحسب أنها ستذعن لأمره فجلس بالقرب منها يعلل نفسه برضائها بعد ما أصابها من الضنك. وأما هي فازداد نفورها منه ويأسها من الحياة، ولما رأت ما هي فيه من الخطر الأكيد عظم عليها الأمر فلم تتمالك من البكاء والشهيق. فدنا سعيد منها وقال بنغمة الظافر: «والآن يا أسماء كيف ترين نفسك؟» قالت: «لا أراني أزداد إلا نفورًا منك! اذهب من أمامي.» قال: «يا للعجب! أبعد هذا ترجين خلاصًا؟!» قالت: «لا، لا أرجو ولا أطلب غير الموت فإنه غاية ما أرجوه، ولكن آه!» وعادت إلى البكاء وهي تقول: «أين أنت يا محمد؟! أرني وجهك قبل الممات ولو لحظة!» فلما سمعها تذكر محمدًا اتقدت الغيرة في قلبه وصمم على الفتك بها، فجرد حسامه ووقف فوق رأسها فنظرت إلى السيف وضوء اللهيب ينعكس عليه فيلمع، فأيقنت أنه قاتلها لا محالة فصاحت: «أين أنت يا محمد يا ابن أبي بكر؟! زودني بنظرة منك قبل الممات!» فقال سعيد: «أتظنين أني أقتلك الآن؟ لا، لا تعلقي نفسك بهذه الأمنية، فإنني سأميتك صلبًا.» وأشار إلى بعض الوقوف من رجاله فرفعوها عن الأرض وأوقفوها إلى شجرة من السنط وألصقوا ظهرها بها وشدوها إليها شدًّا وثيقًا بحبال مجدولة من ألياف النخيل، وكان في جذع الشجرة نتوءات وأشواك أصابت بدنها فآلمتها. لكنها لم تبالِ في جانب ما شعرت به من الشوق لرؤية محمد في آخر ساعة من ساعات الدنيا، وحزنت على فراقها الحياة دون التزود بنظرة منه. وكانت تفكر في ذلك وهي ترسل نظرها إلى الظلام من حولها، فلا تتبين غير تلك النار الموقدة بين يديها. أما سعيد فتركها مشدودة إلى الشجرة وذهب هو ورجاله يلتمسون الراحة أو النوم، وظلت هي مصلوبة تنظر تارة إلى الأفق وطورًا إلى السماء وآونة إلى النار أمامها وهي غارقة في بحار الهواجس، وحدثتها نفسها أن تلين لسعيد وتعده خيرًا ريثما ترى ما يجيء به القدر، ولكنها علمت أنه لا يكتفي من رضاها بالكلام فقط، فعادت إلى اضطرابها وهي تنظر إلى النار فرأتها قد أخذت في الخمود فخافت أن تنطفئ فلا يبقى ما يؤانسها. على أن خمودها جعل الأفق أكثر ظهورًا فقد كانت لا ترى فيه إلا ظلامًا دامسًا، فلما خمدت النار ظهر في أطراف الأفق بعض الأشباح من الشجر أو التلال، وكانت لفرط قلقها تحسب الأشباح أناسًا قادمين لإنقاذها. ••• وفيما هي تحدق في الأفق رأت أشباحًا تتحرك، فتفرست جيدًا فإذا هي هجن وأفراس عليها رجال فاستأنست بهم وهمت بأن تستنجدهم فمنعتها الأَنَفة وعزة النفس، فقالت في نفسها: «إذا كان لي نصيب في الحياة أتى أولئك الركب لإنقاذي بإلهام من الله.» وظل سعيد ساهرًا يتوقع أن تسترضيه أسماء فرأى الأشباح عند الأفق وعلم أن ناره ستهديهم إليه فأمر بإطفائها، فلما رأت أسماء الرجال يهمون بإطفاء النار أيقنت أنهم خائفون، فقالت في نفسها: «عسى أن تقع عاقبة خوفهم على رءوسهم»، واستبشرت. على أنها لم تكد تفعل حتى رأت سعيدًا قادمًا نحوها والحسام مجرد في يده، وصاح وهو يحسبها لا ترى أحدًا قادمًا وقال: «هل لان قلبك الآن أم ماذا؟!» فلم تجب، فقال: «قولي، أجيبي، إن حياتك بين شفتيك فإما أن تعيشي سعيدة وإما أن يجري دمك على جذع هذه الشجرة!» فحارت في أمرها ولم تدرِ بمَ تجيبه وهي تعلم أنها إذا أجابت بالرفض ضربها بالحسام وهي مشدودة الوثاق، فرأت المماطلة خير ذريعة لنجاتها ريثما يصل أولئك الركب عساهم أن ينجدوها، فلم تجب. فأدرك سعيد قصدها وخاف إن هو انتظر جوابها أن يصل الركب، فشرع الحسام بيده وصاح بها: «قولي حالًا، فإما أن أسمع صوت قبولك وإما أن تسمعي صوت حسامي على عنقك!» فعظم عليها هذا التهديد وهجرها التعقل، فقالت: «لا، لا، لا أرضى! فاضرب عنقي والله يجزي الظالمين!» ثم صاحت: «آه يا محمد يا ابن أبي بكر! أين أنت؟! آه! لو تعلم مصير أسماء!» فلما سمع سعيد قولها نزل بالسيف على عنقها وهو لا يريد قتلها لأنه لا يزال يرجو رضاءها، فاضطرب السيف في يده فوقع على جذع الشجرة فوق كتفها فأصاب وثاق أسماء فانحل، فلما رأت وثاقها محلولًا ظنت نفسها في حلم وأدركت أنه أخطأ الضرب، فانطلقت مسرعة نحوه وهي تتميز غيظًا. ورأى هجومها عليه فصاح برجاله فتكاثفوا حولها بحرابهم وسيوفهم، فصاحت فيهم: «أما فيكم من يرعى الذمام ويخاف الله؟!» قالت ذلك ولاحت منها التفاتة فرأت الركب قد أصبحوا منها قاب قوسين أو أدنى، وسمعت صوتًا كالرعد القاصف وقع في أذنها وقوع الماء على قلب الظمآن، ألا وهو صوت محمد بن أبي بكر يقول: «لبيك يا أسماء! لقد جاءك الفرج، اخسئوا يا أنذال!» أما هؤلاء فما كادوا يسمعون صوت محمد ويرون معه رجاله حتى حملوا ما استطاعوا حمله من متاعهم وولوا الأدبار، وما لبثوا أن تواروا عن الأبصار تاركين بعض جمالهم والهودج. ولا تسل عن أسماء وما حلَّ بها لمَّا سمعت صوت محمد، فإنها أُخِذت ولبثت صامتة تحسب نفسها في منام حتى دنا وناداها باسمها، فقالت: «محمد؟! أين كنت يا حبيبي؟! هل بعثك الله لتنجيني؟! أفي يقظة أنا أم منام؟!» قال: «بل في يقظة. ما الذي أصابك؟! هل من بأس عليك؟!» قالت: «لا بأس بي غير جرح خفيف في زندي أصابني وأنا أدفع هؤلاء اللئام، ولولاه لقتلتهم جميعًا ولكن السيف سقط من يدي وعثرت بعقال الجمل فشدوا وثاقي.» ونظرت فرأت مع محمد رجلًا آخر لم تعرفه فخجلت لما أبدته من دلائل الحب، فأدرك محمد ما بها فقال: «لا تجزعي، هذا محمد بن جعفر ابن أخي أمير المؤمنين، وهؤلاء خدم سائرون في ركابنا إلى الكوفة وقد جئنا بمهمة في خدمة أمير المؤمنين، فاجلسي الآن واستريحي وقُصِّي علينا خبرك.» فجلست ومحمد بن جعفر يُعجَب بما يبدو من همة تلك الفتاة، وكان قد سمع من محمد حديثها وأُعجِب بغيرتها على الإمام وعلى الإسلام، فأحبها بالسماع. فلما رأى فيها تلك الحمية رغب في سماع حديثها، فجلسا وقصت أسماء ما جرى لها وهما شاخصان يزدادان إعجابًا. وقص محمد ما حدث له بعد مجيء كتابها، وقضوا الليل في الأحاديث وقبل الفجر أغمضت أجفانهم ساعة فاستراحوا. فلما انبلج الصبح وأفاقوا نظروا إلى ما حولهم فإذا ببقايا الهاربين، وفيها كثير من الزاد والآنية وجثة ملقاة عن بعد، فنظر محمد إليها وسأل أسماء عنها فقالت: «إنه أحد أولئك الطغام أدركته بضربة ذهبت بحياته.» قال: «بُورِك فيك! نحن الآن ذاهبون إلى الكوفة وهي على مقربة منا، فهلمَّ بنا إليها لنقضي مهمتنا ثم نذهب بك إلى المدينة تقيمين بها حتى تنقضي الحرب.» فقالت وهي تنظر إليه نظر العاتب: «لعل كتابي لم يصل إليك؟!» قال: «لقد وصل»، قالت: «فكيف تدعوني إلى الإقامة بالمدينة وقد آليت لأنصرن الإمام عليًّا ما استطعت إلى ذلك سبيلًا؟!» قال: «لقد جاهدتِ وسعك، وأنت مريضة الآن.» قالت: «لا بأس عليَّ بإذن الله.» قال: «فلنذهب معًا إلى الكوفة ثم نرى ما يكون.» قالت: «لا أرى في ذهابي إليها فائدة.» قال: «وماذا إذن؟» قالت: «أنت تسير في مهمتك، وأما أنا فأذهب إلى أختك أم المؤمنين بالبصرة عسى أن أُوفَّق إلى إقناعها ببراءة الإمام عليٍّ، فتكفَّ عن الحرب حقنًا لدماء المسلمين. إن الأمر لأعظم مما تتصوره يا محمد، وقد آليت على نفسي أن أضحي بكل شيء في سبيل دفع هذه الفتنة.» فأُعجِب بحميتها وقال لها: «ولكنني لا أرى سعيك إلا ذاهبًا عبثًا.» قالت: «علَيَّ السعي وعلى الله التوفيق. وكيف الطريق إلى البصرة؟» قال: «إذا كان لا بد من ذهابك إليها فإني أزودك بخبير من رجالي يسير في خدمتك حيث تشائين.» قال ذلك ونادى مسعودًا وكان في جملة صحبه في هذا السفر، فجاء مسرعًا فقال محمد: «هذه أسماء التي حملتَ إليَّ كتابها، وهي تريد البصرة فأوصلها إلى معسكر أم المؤمنين وعد إليَّ في الكوفة.» فنهضت أسماء وأمرت مسعودًا أن يهيئ الجمل، فقال: «ألا تركبين الهودج؟» قالت: «لا، ليس ذا وقت التنعم، أركبني جملًا خفيفًا.» ونظرت إلى محمد وقالت: «إن الوقت ثمين يا محمد، فلنسر في مهمتنا عسانا أن نُوفَّق إلى تلافي الفتنة.» فنهض محمد وركبوا جميعًا. فسارت أسماء ومسعود نحو البصرة، ومضى الباقون نحو الكوفة وهم يعجبون بما آنسوه من بسالة أسماء وحميتها وغيرتها. سارت أسماء تستحث جملها ومسعود على جمله أمامها ليهديها إلى الطريق، فمضى معظم النهار لم يستريحا ولا تناولا طعامًا، فلما كان الغروب سألته أسماء عن البصرة فقال: «إنها على بضع ساعات منا، فأرى أن نبيت هنا الليلة لندخل المدينة صباحًا.» قالت: «لا صبر لي على الانتظار، هلمَّ بنا ولا بأس من وصولنا إلى البصرة ليلًا فنقيم في المربد.» قال: «إن جيش أم المؤمنين مخيم هناك.» قالت: «سر بنا على خيرة الله، فإني إنما أقصد معسكرها.» فلم يستطع مسعود مخالفتها، وظل سائرًا يتلمس الطريق تلمسًا لأن الظلام كان حالكًا. واتفق أن هبت الريح وتلبَّدت الغيوم، فلم يعد يرى الطريق أمامه ولا النجوم حتى يهتدي بها، ولكنه رأى نورًا بعيدًا فعلم أنه نور دير لبعض النساطرة كان قد زاره في بعض سفراته في تلك الأنحاء، فجعل ذلك النور وجهته وأسماء سائرة في أثره وهما صامتان لا يسمعان إلا وقع أخفاف الجمال. ••• وكان مسعود قلقًا لمسيرهما في هذا الظلام وخاف أن يعترضهما وحش أو يهويا في هوة، وقد عجب لشجاعة أسماء وتحملها مشقة السفر. على أنه ما عتم أن سمع طنين سهم في الجو مر أمام عينيه فجفل وصاح: «من ذا هناك؟!» ولم يتم كلامه حتى سمع صوت أسماء تقول: «آه! قتلتني قتلك الله!» فعلم أن السهم أصابها فتحول إليها وقال: «ما بالك يا سيدتي؟! ما الذي أصابك؟!» قالت: «أصابني سهم في جنبي وأظنه قاتلي!» فترجل وأناخ جملها فإذا هي تسند جنبها بيدها والسهم ما زال مغروسًا فيه فنزعه بخفة، فصاحت صيحة دلت على شدة تألمها، فتحير في أمره وخاف أن تموت أسماء بين يديه في ذلك القفر المظلم، فوضع يده على جرحها وضغطه بكفه وهو يرتعش خوفًا، ثم سألها عن حالها فقالت: «إني مقتولة لا محالة!» فلم يرَ مسعود خيرًا من أن يحملها على جمله ويسرع إلى ذلك الدير، فأردفها وساق جمله وقاد جملها وراءه وأسرع إلى الدير، ولما وصله وجده مقفلًا وسوره عاليًا لا يمكن اجتيازه، ثم تذكر أن القوم يعلقون على الأديار أجراسًا يدقها من يجيء طارقًا، وبحث عن حبل الجرس حتى وجده فدق الجرس ولكن لم يجبه أحد، فكرر الدق فسمع صوتًا جهوريًّا يقول: «من الطارق؟» فأجاب مسعود قائلًا: «افتح ناشدتك الله وأسرع إلى إغاثتنا!» فقال: «من أنت؟» قال: «إننا غرباء في ضنك شديد، افتح رعاك الله!» قال ذلك وصبر فلم يعد يسمع صوتًا، ونظر إلى أسماء وهي مطروحة عند الباب تئن أنينًا عميقًا، فأمسكها بيدها ويده ترتجف خوفًا عليها فرآها باردة، فجس جرحها فغاصت أنامله في الدم وكان قد تخثَّر وملأ ثوبها، فحاول أن يجلسها ليتحقق حالها فإذا هي تشخر وقد ارتخت مفاصلها فزاد اضطرابه وهمَّ بأن يصيح ببواب الدير، فرأى رأسًا عاريًا قد وَخَطَه الشيب قد أطل من الكوة والمصباح في يده ينعكس نوره على لحيته البيضاء ويقول: «اصدقنا أيها الطارق من أنت؟» فصاح مسعود قائلًا: «إننا غرباء ومعي مريض يشرف على الموت، أنجدنا جزاك الله خيرًا!» ولم يتم مسعود كلامه حتى سمع صوت مزلاج الباب كأنه شُدَّ بحبل، فانفتحت خوخة صغيرة في وسط الباب المصفَّح بالحديد، فرأى مسعود أنه لا يستطيع الدخول من الخوخة وأسماء على تلك الحال، فسأل الراهب أن يفتح الباب كله وأشار إلى أسماء وهي بين يديه. فأسرع الراهب خفيفًا برغم شيخوخته وجر عُضَادة ضخمة من خشب كان الباب موصدًا بها ففتحه، وساعد مسعودًا في نقل أسماء إلى أقرب غرفة هناك وأجلساها على الفراش، وخف الراهب إلى رئيس الدير ليخبره الخبر. وما لبثوا حتى جاء الرئيس وهو شيخ هرم قد رَقَّ بدنه وتجعَّد جلده واشتعل رأسه شيبًا، وعيناه تشعان قوة وصحة وقامته مستوية تدل على نشاط وهمة، فتقدم إلى الفتاة وهي ملقاة على الفراش وسأل مسعودًا عما بها فقص عليه الخبر. فأدارها على جنبها الصحيح وأخذ في كشف الجرح، فحول مسعود وجهه عنها حياءً واحتشامًا، واشتغل الرئيس وراهبه بغسل الجرح وتضميده، وأمر بلبن فغسله به، ثم صب عليه ماءً مقدسًا يحتفظون به لمثل هذه الحال وربطه، وأمر بملاءة من نسيج الصوف فغطاها بها لتدفئتها، ورش وجهها بالماء المقدس ودهنه بزيت من مصباح الدير المضيء أمام صورة المسيح وهو يدعو الله أن يقرب الشفاء. وأفاقت أسماء لحظة ولكنها لم تقل شيئًا ثم عادت إلى الأنين، وكان رئيس الدير وهو يغسل وجهها يتفرس في ملامحها كأنه تذكر شخصًا يشبهها. وأخذ يعتذر لمسعود من الإبطاء في فتح الباب لتخوفهم من الطارقين الذين كثروا يومئذٍ على أثر قدوم أهل مكة إلى البصرة، ووقوع بعض الوقائع الحربية. فلما فرغ من تضميد الجرح تحول إلى مسعود فسأله: «من الفتاة؟» قال: «إنها فتاة لبعض كبار الصحابة.» ولم يزد. فأعاد الرئيس نظره إليها وأدنى المصباح من وجهها وكان قد امتُقِع ونَحَل وهي مغمضة العينين كأنها في سبات، وقال: «فهي إذن مسلمة؟» قال: «نعم». فلمح الرئيس في صدرها حجابًا اعتاد النصارى جعله على صدورهم، وكان زندها مكشوفًا فرأى عليه رسم الصليب فالتفت إلى مسعود وقال: «ولكنني أرى عليها بعض شارات النصرانية!» فضجر مسعود من تدقيقه وهو لا يهمه ساعتئذٍ إلا شفاؤها فقال: «لا أدري يا سيدي سوى أنها مسلمة، فلعل لتلك الإشارة سببًا لا أعلمه.» فسكت الرئيس وجلس على مقعد بالقرب من فراش المريضة، وهو تارة ينظر إلى وجهها وطورًا يطرق متأملًا كأنه يبحث في ذاكرته عن شخص يشبهها. ثم نظر إلى مسعود وقال له: «امضِ يا بني إلى غرفة الأضياف إذا أردت طعامًا، ثم اذهب إلى رقادك مطمئنًّا فلا يمضي على هذه الفتاة قليل حتى تصحو وتتحسن صحتها بقوة الله وبركة صاحب هذا الدير.» فقال مسعود: «إني لا أشعر بالجوع ولا أنا في حاجة إلى الرقاد، وأوثر أن أبقى هنا لأرى ما يصيبها.» قال: «لا خير في بقائك، ولا بأس عليها لأننا ما مسحنا جريحًا أو مريضًا بهذا الماء المقدس إلا شفاه الله. اذهب إلى فراشك وإذا شئت البقاء خارج الحجرة فلا بأس.» فاستحيى مسعود من تكرار الاعتذار، فخرج وجلس على حصير وراء الغرفة. أما الرئيس فخلا إلى الراهب وأخذا يتسارَّان ويتخاطبان بلسان نصارى العراق الكلداني ويشيران إلى أسماء. وكان مسعود لقلقه لا يغفل عن حركة تحدث فقلق لهذه المسارَّة، وأصاخ بسمعه فلم يفهم من كلامهما شيئًا، فجعل يرصد ما يبدو منهما فإذا بالرئيس قد أمر الراهب فخرج ثم عاد وبيده كتاب ضخم ففتحه فقرأ وتمتم ثم ركع الاثنان، فعلم أنهما يصليان فصبر حتى فرغا من الصلاة وقاما، فرأى الرئيس دنا من أسماء وهو يمسح الماء عن جبينها ويتأملها، ثم جلس إلى جانبها ولبث ينتظر ما يبدو منها. وبعد قليل تحركت كأنها تتقلب من جنب إلى الآخر، وما كادت تفعل حتى صاحت من الألم، فسُرَّ مسعود لصياحها لعلمه أنه يدل على اليقظة، فدخل الغرفة فرأى أسماء قد فتحت عينيها ونظرت إلى ما حولها، فوقف بصرها عند وجه الرئيس وحاولت التفرس فيه ولكن الضعف غلب عليها فذبلت أجفانها وأطبقت عينيها وعادت إلى الرقاد. فأومأ الرئيس إلى مسعود بيده وابتسم كأنه يقول: «أبشر! إنها قد أفاقت»، ففرح مسعود وظهر البشر عليه وتوسل إلى الله أن يتم شفاءها. وقضت أسماء ليلتها راقدة وتنفسها هادئ. ••• وفي الصباح جاء مسعود إلى غرفتها فرأى الراهب الشيخ إلى جانبها يهتم بالكشف عن الجرح وتبديل رباطه فخرج، حتى إذا فرغ الراهب من عمله نادى مسعودًا فدخل ونظر إلى وجه أسماء فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها فحمد الله ودنا منها، فلما رأته قالت له: «آه من النذل الذي عجز عن لقائي وجهًا لوجه فأراد قتلي غدرًا!» وحرقت أسنانها. فقال مسعود: «لا بأس عليك يا سيدتي، ولا تعبئي بما فعله ذلك الغادر. على أننا لا ندري من هو.» قالت: «لا ريب عندي في أنه ذلك الجبان الذي حاول اختطافي، فليس في هذه الديار من يعرفني سواه، قبحه الله!» قال: «هل أذهب إلى مولاي محمد لأروي له ما وقع؟» فقطعت عليه الكلام قائلة: «لا، لا تفعل، فإن أخشى ما أخشاه أن يسرع إليَّ إذا علم بما حدث ويهمل مهمته التي أنفذه فيها أمير المؤمنين وهي تمس المسلمين عامة، فلا يليق أن نشتغل عنها بحياة فرد من أفرادهم، فضلًا عن أني بحمد الله في عافية، ولا إخالني إلا راكبة جملًا أو جوادًا إلى معسكر أم المؤمنين عما قليل لأؤدي المهمة التي ندبت نفسي لها.» ثم صعَّدت بصرها وأشارت بيدها كأنها تقول: «فقدر لي الله أن أستأخر هنا إلى حين.» وشفعت إشارتها بدمعتين كبيرتين انحدرتا على خديها، ثم التفتت إلى أيقونة معلقة أمامها شغلت نفسها بالنظر إليها. وكان الراهب في أثناء ذلك مشتغلًا بقراءة درج (رق) في يده، فيه فرض من فروض الصلاة. ولما سمع مسعود كلام أسماء وشاهد الدمع ينحدر من عينيها تأثر من منظرها واستعظم كتمانها حالها عن محمد، فقال لها: «كيف أكتم عنه حالك وقد عهد إليَّ في العناية بك؟!» قالت: «افعل ما أقول لك، اتركني هنا واذهب إليه لعله يحتاج إليك في شيء، وأنا لا بأس عليَّ في هذا الدير فإن أصحابه أهل ضيافة ورعاية. وقد صرت على مقربة من معسكر أم المؤمنين، وبعد أيام أنقه من جرحي فأذهب إليها، والاتكال على الله.» فتركها ومضى إلى غرفة الرئيس فرآه خارجًا، فسأله عن رأيه في جرح أسماء فطمأنه بألا خوف منه، وبأنه سيتولى العناية بها حتى تشفى. وبات مسعود هناك، وفي الصباح خف إلى رؤية أسماء فسُرَّ لتحسن حالها، ثم ودعها ومضى وهي تلح عليه في أن يطمئن محمدًا عنها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/14/
عود إلى السر
قضى رئيس الدير نهاره وليله ينظر إلى أسماء ويجهد فكره لعله يتذكر عنها شيئًا فلم يُفتَح عليه، ثم خرج لوداع مسعود وعاد إليها وكانت قد تعبت من الرقاد وجلست في الفراش، فلما دخل نظرت إليه وتأملت وجهه فتذكرت أنها رأته مرة قبل ذلك في دمشق يوم سفرها منها مع أمها إلى المدينة، وكانت قد لحظت تفرسه فيها. فلما عاد من وداع مسعود جلس على طنفسة بقرب فراشها فنظرت إليه وقالت: «ألا تذكر يا حضرة الأب المحترم أنك رأيتني قبل الآن؟» قال: «هذا ما شغل بالي منذ أتيتنا أمس، ولكنني لا أذكر أين رأيتك.» قالت: «أظنك رأيتني في دمشق في العام الماضي.» فلما سمع قولها انبسطت أسارير وجهه وتفرس في وجهها وقال: «نعم، نعم، رأيتك مع أمك وقد جئتما إلى كنيسة مار يوحنا في دمشق لزيارة القسيس مرقس الشيخ البار، نعم أذكر ذلك. أين أمك؟» فلما سمعت أسماء ذكر أمها ترقرقت الدموع في عينيها، فبادرت إلى مسحهما بطرف كمها وسكتت. فأدرك الرئيس أن هناك أمرًا محزنًا دعاها إلى البكاء فسكت قليلًا ثم قال: «هل أصابها سوء؟» فقالت وهي تبكي: «نعم يا سيدي، إنها ماتت وا أسفاه عليها! ولولا مماتها …» وشرقت بدموعها. فأطرق الرئيس ونظر إلى الراهب وكان ما زال جالسًا، وأشار إليه أن يخرج من الغرفة ففعل. فلما خلا الرئيس إلى أسماء جعل يخفف عنها ويعزيها حتى هدأ روعها، ثم قال لها: «هل عرفت أباك؟» فلما سمعت سؤاله آنست من ورائه نورًا لعلها تهتدي به إلى استطلاع ذلك السر الذي كانت تظنه دُفِن مع أمها، فقالت: «لا يا سيدي، لم أعرفه. وهل تعرفه أنت؟» فسكت ثم قال: «لا يا ابنتي، لست أعرفه، ولكن …» وسكت. فقالت: «ولكن ماذا؟ قل يا سيدي، إن معرفته تهمني كثيرًا. وقد كنت أحسب أمر أبي مكتومًا عن كل بشر سوى أمي، ولما تُوفِّيت حسبته ضاع ودُفِن معها، فكيف عرفت أنت أن أبي مجهول، وقد كان ذلك سرًّا مكتومًا عن كل إنسان على ما أعلم؟! فاطلاعك عليه يستلزم معرفتك حقيقته، فهل تعرف شيئًا عنه؟» قالت ذلك بلهفة. فلبث الرئيس الشيخ صامتًا يجيل أصابعه في لحيته كأنه يكتم أمرًا ودَّ لو أنه ظل كذلك، ولكنه لما رآها متلهفة قال لها: «صدقيني يا ابنتي إني لا أعرف من هو أبوك، ولكنني أعلم أن الذي كان مع أمك يوم رأيتك في كنيسة مار يوحنا بدمشق ليس أباك.» قالت وهي تخفض صوتها احترامًا لمقام الرئيس وشيخوخته: «وكيف عرفت ذلك يا سيدي؟ ربما لا يهمك أمر هذا السر مطلقًا ولكنه يهمني كثيرًا، لأنني علمت كذلك أن يزيد الذي كان مع أمي — رحمة الله عليها — ليس أبي، وأن لي أبًا غيره كانت أمي قد وعدتني بذكره فقضى الله بموتها قبل وصولنا، وا حسرتاه عليها! فظللت مجهولة النسب. وأظن أن الله قد أراد كشف هذا الذل عني على يدك.» قالت ذلك وهمَّت بتقبيل يده وهي تقول: «أتوسل إليك أن تطلعني على ما تعرفه في هذا الشأن!» وكانت تتكلم والرئيس مطرق، فلما انتهت من كلامها رفع نظره إليها وقال: «قلت لك يا ابنتي إني لا أعرف من هو أبوك. وأما كيف عرفتُ أن لك أبًا غير يزيد فلهذا قصة لا بأس بأن أرويها لك لعلها تفيدك.» فاعتدلت أسماء في مجلسها ويدها على جنبها المجروح تضغطه تخفيفًا للألم، وأصغت لما يقوله الرئيس. فقال: «أتذكرين يوم جاءت أمك إلى كنيسة مار يوحنا في دمشق وكنت أنت معها فتركتك مع زوجها خارجًا، ودخلت هي لوداع القسيس الشيخ مرقس قسيس الكنيسة ثم خرج بعد ذلك لوداعك؟» قالت: «نعم يا سيدي، أذكر ذلك الشيخ الهرم وخروجه لوداعنا.» قال الرئيس: «قد كنت أنا يومئذٍ ضيفًا عنده، فلما عاد رأيت على وجهه آثار القلق فقلت له: «ما بالك؟!» فقال: «إن لهذه المرأة سرًّا عهدت به إليَّ منذ بضع وعشرين سنة، وهي الآن شاخصة إلى المدينة لتبوح به هناك، وأخشى لضعفها ومرضها أن تموت قبل وصولها، فإذا حدث ذلك ظل الأمر مكتومًا عندي وحدي، وأراني قد شخت وربما دنا أجلي فيذهب السر ضياعًا وهو يهم ابنتها التي كانت معها.» فقلت له: «أهو سر اعتراف؟» قال: «نعم». فقلت: «لا سبيل إذن إلى كشفه لي، ولكنني أود أن أعرف موضوعه بحيث لا يكون في ذلك ما يعد إباحة.» فتردد كثيرًا قبل أن يجيبني ثم قال: «إن الفتاة التي رأيتها مع هذه المرأة هي ابنتها، وأهل دمشق يظنون هذا الرجل أباها ولكنه ليس كذلك.» فقلت: «ومن هو أبوها إذن؟» قال: «لا أستطيع كشف هذا السر الآن، ولكنه سيظهر بعد قليل لأن المرأة منطلقة بنفسها لكشف أمرها لأصحاب الشأن في يثرب — المدينة — لأن أبا الفتاة الصحيح أحد كبار المسلمين هناك.» …» فبُغِتت أسماء وخفق قلبها، فصعد الدم إلى وجهها فتورد بالرغم من ضعفها، وتطاولت بعنقها لسماع الحديث. فلما وقف الرئيس عند هذا الحد قالت بلهفة: «وما هو اسمه؟!» قال: «لا أعلم يا ابنتي، ولم أسأل القسيس عنه لعلمي أنه لا يبوح به حفظًا لسر الاعتراف.» فبُهِتت وقد عاد إليها اصفرارها للهفتها وتأثرها وقالت: «وكيف يكون ذلك وأنا لا أعرف يثرب قبل هذه المرة ولم أسمع أمي تذكرها؟!» قال: «علمت يا ابنتي أن أمك كانت تبالغ في إخفاء هذا الأمر عن كل إنسان، لأنها رومانية الأصل حملها بعض قواد المسلمين الذين فتحوا الشام في جملة السبايا وأهداها إلى أبيك فمكثت عنده بضع ليالٍ. ثم قدم عليها أخوها خلسة وحرضها على الفرار ففرت إلى دمشق، ولم تستطع الظهور خوفًا من العيون فيممت مصر فظهر حملها هناك، وقبل أن تضعك طلبت القسيس مرقس وكان في كنيسة المعلقة، وكانت تعرفه من الشام واعترفت له بسرها وذكرت له اسم أبيك. ثم كانت الحرب بمصر ففتحها العرب، وقُتِل خالك ووقعت أمك بين السبايا ثانية وأنت طفلة، فتزوجها يزيد الذي تعرفينه وأقام بها بدمشق وأنت معها. فلا تعجبي لإغفالها ذكر أبيك لأنها كانت تعد نفسها مجرمة، وتخشى إذا عُرِف مكانها أن يُقتَص منها.» ولم يتم الرئيس كلامه حتى استولت البغتة على أسماء وعرتها الدهشة، ولبثت صامتة وهي تأمل أن يكون الرئيس عارفًا اسم أبيها فتوسلت إليه أن يخبرها به، فأكد لها أنه لا يعرفه ثم قال: «إذا لقيت القسيس مرقس في دمشق فإنه يطلعك عليه، وربما أطلعك على أمور كثيرة. فأسرعي إليه حال شفائك قبل أن يقضي أجله لأنه شيخ طاعن في السن، انظري إلى شيخوختي واعلمي أني إذا قيست الأعمار بالسنين كنت أصغر من أولاده.» وكانت أسماء قد تعبت من الجلوس، فلما يئست من معرفة اسم أبيها من الرئيس غلبها التعب على أمرها، فألقت بنفسها على الفراش وتنهدت تنهدًا عميقًا وهي صامتة تفكر فيما سمعته، واشتاقت نفسها إلى المسير إلى دمشق لعلها تلقى القسيس فيقص عليها الخبر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/15/
وقعة الجمل
قضت أسماء في الدير أيامًا تتقلب على فراش الوجع والقلق، ولا تدري إذا هي شُفِيت هل تسير إلى دمشق لمقابلة القسيس أم إلى أم المؤمنين لأداء مهمتها. وكانت تتململ لانحباسها في الدير فلم تستطع الوقوف والخروج إلى فناء الدير إلا لتتمرن على المشي. وصعدت ذات يوم إلى سطح الدير فأطلت منه على سهل واسع رأت في آخره مما يلي البصرة معسكرًا فيه الخيام والأعلام وحوله الجمال ترعى في بعض المغارس ومعها العبيد، فعلمت أنه معسكر أم المؤمنين في ضاحية البصرة. وكان الوقت أصيلًا فجعلت تفكر فيما تنويه من مخاطبة أم المؤمنين، وما تتوقع أن تسمعه من دفاعها وتهيئ الرد عليه. وبقيت غارقة في تصوراتها حتى مالت الشمس إلى المغيب، فنظرت إليها وقد كبر جرمها وتكوَّرت ومالت إلى الاحمرار، فاشتغلت بالنظر إلى الأفق والتمتع بذلك المنظر البديع، ولم تكد تغيب الشمس حتى أحست بالبرد فدخلت تلتمس الدفء في الفراش، فباتت تلك الليلة وهي تتوقع أن تصبح ناقهة فتنظر هل تسير إلى معسكر أم المؤمنين أم إلى الشام. فلما أصبحت شعرت بنشاط، ولكنها لم تأنس من نفسها القدرة على ركوب الجمل أو الجواد، فلم ترَ بدًّا من الاصطبار حتى يتم التئام الجرح وتتقوى، فالتمست من رئيس الدير أن يأذن لها في الخروج للرياضة في بساتين الدير، فأذن لها فخرجت وحدها إلى البستان تمشي الهوينى، فابتعدت عن الدير مسافة طويلة وهي لا تدري، فانكشف لها من الأفق قسم كان مستترًا وراء التلال، فرأت فيه خيامًا وأعلامًا وجمالًا وعبيدًا. وما كادت تتفرس في ذلك الحشد العظيم حتى علمت أنه معسكر الإمام علي فخفق قلبها، ومشت قليلًا حتى دنت من أكمة صعدت إليها وجعلت تتأمله ونفسها تحدثها بالذهاب إليه لعلها ترى محمدًا فيه أو تسمع شيئًا عنه. على أنها تشاءمت من قدوم جيش الإمام لأنه نذير الحرب. وبينما هي هكذا إذ سمعت صوت رجل يزجر جملًا على مقربة منها، فالتفتت فإذا ببعير سائب يعدو ورجل يركض في أثره يستنجد الناس ليعينوه على القبض عليه، فلم يسع أسماء السكوت مع ضعفها فاعترضت الجمل ليرجع، وكان قد جمح ولكنه ظل مسرعًا في سبيله فركضت نحوه وتعلقت بعنقه لأنه لم يكن له رسن، فظل راكضًا وأسماء ممسكة عنقه بذراعيها كأنها تحاول الصعود إلى ظهره، ولكنها ما لبثت أن شعرت بخور قواها وأحست كأن شيئًا تمزق في مكان الجرح، واشتد بها الألم حتى لم تعد تستطيع صبرًا عليه. وكان البعير في أثناء ذلك قد قلَّل سرعته فأدركه صاحبه وأمسك بعنقه حتى أناخه، فسقطت أسماء إلى الأرض لا تعي شيئًا من شدة الألم. وكان صاحب البعير شابًّا من عبد القيس إحدى القبائل التي أنجدت عليًّا وجاءت معه للحرب، فلما رأى أسماء ساعدته في القبض على بعيره ثم رأى ما ألمَّ بها من التعب حتى سقطت خائرة القوى، شعر بأنه السبب فيما أصابها فدنا منها وأجلسها وقد بهره جمالها وأعجبته هيئتها فكلمها فأفاقت ويدها على جنبها تتقي الألم. ولما رأت ذلك الغريب بجانبها علمت أنه صاحب البعير، أما هو فحالما نظرت إليه هابها ولم يسعه إلا الاعتذار عما أصابها بسببه. أما هي فتجلدت وضغطت جنبها بيدها واغتنمتها فرصة لاستطلاع أمر ذلك الجند، فقالت له: «ممن أنت؟» قال: «من عبد قيس.» قالت: «ومن هؤلاء الجند الذين أمامنا؟» قال: «أما سمعت بما قام بين الإمام علي وأم المؤمنين؟» قالت: «سمعت وعلمت، وهل هذا الجند هو جند الإمام علي؟» قال: «نعم، ونحن في نجدته لاعتقادنا فضله على سائر الناس.» قالت: «وكم عدد رجاله؟» قال: «عشرون ألفًا بين راجل وفارس.» قالت: «أتعلم عدد جند أم المؤمنين؟» قال: «أظنهم ثلاثين ألفًا.» فبُهِتت وهي تفكر في الفرق بين الجيشين، والألم يمنعها من مواصلة الكلام، على أنها تشددت وقالت: «ولمن ترى الغلبة؟» فابتسم الشاب وقال: «لقد قُضِي الأمر أمس.» قالت: «ماذا تعني؟» قال: «لقد تم الصلح وانصرف العداء.» فبُغِتت أسماء ولم تصدق مقاله فقالت: «وكيف ذلك؟! اصدقني الخبر.» وشعرت مذ سمعت خبر الصلح بنشاط ساعدها على النهوض، فمشت وهي تخاطب الرجل حتى جلست على حجر تحت شجرة، وأسندت ظهرها إليها وضغطت الجرح بكفها فوق أثوابها. فأراد الرجل أن يشرح لها أصل العداء لظنه أنها خالية الذهن منه، فابتدرته قائلة: «لا تشرح القصة فإني أعلمها، ولكن أخبرني كيف تداعوا إلى الصلح.» فعجب الرجل لعلم أسماء وود لو يعرف من هي، ولكنه أجابها عن سؤالها قائلًا: «وصل جيشنا إلى هنا أمس، فلما تقابل الجيشان خرج من جيش أم المؤمنين طلحة والزبير على فرسيهما يطلبان المبارزة، فخرج إليهما الإمام علي حتى اختلفت أعناق دوابهم ونحن ننتظر عاقبة ذلك الملتقى، لأنه سيكون قاضيًا إما علينا وإما لنا، فتجاولوا مدة ونحن ننظر إليهم لنرى ما يبدو منهم، فإذا هم وقوف يتخاطبون. وعلمنا بعد رجوع الإمام أنه لما لقيهما قال لهما: «لعمري قد أعددتما سلاحًا وخيلًا ورجالًا! إن كنتما أعددتما عند الله عذرًا فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. ألم أكن أخاكما في دينكما تحرِّمان دمي وأحرِّم دمكما؟ فهل من حدَث أحل لكما دمي؟» فقال طلحة: «ألَّبْتَ على عثمان.» قال علي: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ يا طلحة، تطلب دم عثمان فلعن الله قتَلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعِرْس رسول الله ﷺ تقاتل بها وخبَّأت عِرْسك في البيت؟! أما بايعتني؟!» قال: «بايعتك والسيف على عنقي.» قال عليٌّ للزبير: «ما أخرجك؟» قال: «أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلًا ولا أولى به منا.» فقال له علي: «ألستُ له أهلًا؟! قد كنا نعُدُّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنُك ابنُ السُّوء ففرق بيننا.» وذكَّره أشياء وقال له: «أتذكر يوم مررت مع رسول الله ﷺ في بني غَنْم فنظر إليَّ فضحك وضحكتُ إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوَه. فقال لك رسول الله ﷺ: ليس بمُزْهٍ، لتقاتلنه وأنت ظالم له؟» فقال الزبير: «اللهم نعم، ولو ذكرتُ ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدًا!» وهكذا عاد الإمام إلينا بالخبر، وتوسمنا خيرًا من ندم أولئك على عملهم. ثم علمنا أن الزبير لما رجع من ساحة المبارزة سار توًّا إلى أم المؤمنين فقال لها: «ما كنت في موطن منذ عقلتُ إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا!» فقالت له: «ما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أدعهم وأذهب.» فوبَّخه ابنه عبد الله وقال: «جمعتَ بين هاتين الفئتين، حتى إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! ولكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد، وأن تحتها الموت الأحمر، فخفتَ!» فاعتذر الزبير بأنه حلف ألا يقاتل عليًّا. ثم تفاوضوا بعد ذلك مع طلحة وغيره فتم الاتفاق على الصلح، وبتنا ليلتنا البارحة والقلوب هادئة وكلٌّ فرح بما حقن من دماء المسلمين.» فلما سمعت أسماء كلام الرجل أشرق وجهها وأبرقت أسرتها ونسيت ألمها وضعفها، وقالت: «بشرك الله بالخير يا أخا عبد القيس!» وأرادت الاستفهام عن محمد ومقامه فقالت: «وهل جاء أهل الكوفة لنصرة الإمام؟» قال: «لقد جاءوا بعد أن ترددوا كثيرًا!» قالت: «كيف يترددون في نجدة أمير المؤمنين؟!» قال: «ذهب إليهم أولًا محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فلقيا أبا موسى الأشعري عامل الكوفة فكلماه ففضل القعود على المسير، فعادا بذلك إلى الإمام فأرسل الأشتر وابن عباس، فعادا ولم ينالا وطرًا. فأرسل ابنه الحسن وعمارًا بن ياسر فجاءا الكوفة، وكانت عائشة قد أرسلت رسلها تدعو الناس إلى نجدتها، وظل أبو موسى يحرض الكوفيين على القعود فلا يسيرون مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فجادلهم الحسن حتى أقنعهم بأن يقوموا لنصرة أمير المؤمنين فجاء منهم تسعة آلاف.» فأدركت أسماء من حديثه أن محمدًا في معسكر الإمام علي، وكانت قد تعبت من الجلوس على الحجر فنهضت تلتمس الدير لمداواة الجرح لأنها شعرت وهي قابضة عليه أن الدم يسيل منه. فأحس الرجل بمرادها فأراد مساعدتها في المشي فأبت فرافقها حتى دنت من الدير، فودعها وعاد بجمله يطلب المعسكر. أما هي فالتمست حجرتها فلقيها الرئيس عند الباب فسألها عن حالها فقصت عليه حديث الجمل ووقوعها، فهم بالجرح فأعاد تضميده وبشرها بألا خوف منه. فلبثت تفكر فيما سمعته وكانت كلما تمثَّل لها وقوع الصلح يكاد قلبها أن يطير فرحًا لنجاتها من مصائب كثيرة وحقن دماء الناس. على أنها وهي في وسط هذه المسرات تذكرت ما سمعته من الرئيس عن أبيها، فانقبضت نفسها مخافة أن يضيع خبره، فصممت عزمها على أن تسافر إلى دمشق حالما تستطيع الركوب لتقابل القسيس الشيخ وتعرف منه من يكون أبوها. ••• قضت أسماء أيامًا وهي تتوقع في كل يوم أن ترى محمدًا آتيًا إلى الدير لمشاهدتها، لعلمها أن مسعودًا قد أطلعه على ما أصابها، فلا بد من مجيئه ولا سيما أنه على مقربة منها، فلما مضت أيام ولم يأتِ أيقنت أن مسعودًا لم يره بعد ذهابه من الدير. وكان الجرح قد التأم فلم ترَ بدًّا من لقاء محمد لتخبره بعزمها على المسير إلى دمشق، وتسأله دابة تركبها وخادمًا يسير في ركابها. ولكنها تذكرت الحسن وما لحظت منه يوم كانت في المدينة، فخافت ألا يرضى محمد بذهابها إلى المعسكر، فعزمت على استقدامه إليها فكتبت ورقة بذلك واستأذنت رئيس الدير في إرسال أحد خدمه بها، فجاءها ببعضهم فاختارت أحدهم وأفهمته كيف يسير وإلى من يسلم الورقة ودلَّته على الجهة التي يلقى فيها جيش الإمام علي. فخرج وجلست هي في فراشها تنتظر رجوعه ومحمد معه، وكلما تصورت لقاءها محمدًا اختلج قلبها في صدرها وأعدت عبارات تخاطبه بها تسفر عما في نفسها. وقد أهمها من الصلح انقضاء تأجيل الزواج فأخذت تعد نفسها بالسعادة المستقبلة، ولا سيما إذا تمكنت من معرفة اسم أبيها الصحيح. قضت ساعة وبعض الساعة في مثل هذه الهواجس، وهي كلما سمعت سعال رجل أو وقع أقدام أو جعجعة بعير أو صهيل فرس ظنت رسولها عائدًا ومعه محمد، ولم تعد تستطيع صبرًا على الانتظار فصعدت إلى سطح الدير تستطلع قدومه عن بعد. ولم تكد تخطو خطوتين فوق السطح حتى رأت رسولها راجعًا يعدو ويلتفت وراءه فاضطربت ولبثت تنتظر وصوله، فما عتم أن وصل وهو يلهث من شدة الجري فقالت: «ما وراءك؟!» قال: «خرجت من الدير إلى الجهة التي رسمتِها لي، فما وصلت إلى المكان حتى رأيت النبال تتطاير في الجو، فلما أشرفت على المعسكر رأيت الحرب محتدمة …» فبُغِتت أسماء وقطعت كلامه قائلة: «الحرب؟! بين من ومن؟!» قال: «سألت بعض العبيد ممن كانوا يلتقطون النبال المتساقطة خارج المعسكر، فأخبرني أن قد نشب القتال بين الإمام علي وعائشة، وكانوا قد أبرموا صلحًا فنقضوه.» قالت: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ومن نقضه؟!» قال: «لا أدري، ولكن العبد أخبرني أنهم باتوا على الصلح، فأصبحوا فإذا بجيش عائشة على الحرب.» فقالت: «ألم تلقَ محمدًا؟» قال: «وكيف ألقاه وأنا لم أستطع الدنو من المعركة مخافة أن تصيبني النبال فأموت ولا يبقى من يرجع إليك بالخبر؟» فثارت الحمية في رأس أسماء ولم ترَ بدًّا من العدول عن دمشق إلى معسكر أم المؤمنين، لتكلمها في الرجوع إلى الصلح قبل أن يتفاقم الخطب. فسألت رئيس الدير عن دابة تركبها، فقال: «إن خادمك الأول ترك هنا جملك الذي جئت عليه.» قالت: «أين هو؟» فأمر الرئيس بإعداده للركوب، وذهبت أسماء إلى حجرتها وجعلت ثيابها على شكل مشابهٍ ثياب الرجال، وشدت وسطها بمنطقة عريضة والتفَّت بعباءة وغطَّت رأسها بكوفية، وتقلدت حسامًا كان قد أعطاها إياه محمد يوم سفرها مع مسعود. وركبت الجمل وولت وجهها نحو معسكر أم المؤمنين، وكان الوقت ضحى وهي للهفتها لم تودع الرئيس، حتى إذا بعدت عن الدير تذكرت ذلك فالتفتت إليه وأشارت بالسلام بيدها ورأسها. ولم تبعد عن الدير قليلًا حتى أطلت على المعركة، فرأت السهام تتطاير من كل جانب حتى كادت تحجب أشعة الشمس بدلًا من الغبار، لأن الجو كان قد أمطر في ذلك الصباح فتماسك التراب. ووقفت هنيهة ريثما تعرف الطريق الذي يؤدي إلى أم المؤمنين، فرأت الرجال يُهرَعون يمينًا وشمالًا وفيهم المشاة والفرسان، وسمعت النساء من وراء الجمع يحرضن الرجال على الثبات، وكان الجو صافيًا لا غبار فيه فجعلت تتفرس في الرجال عساها أن ترى محمدًا فلم تره، ولكنها أدركت أن النصر للإمام علي لأنها رأت رجاله يتقدمون والآخرين يفرون أمامهم، ويعثر بعضهم بجثث جرحاهم وقتلاهم. فأجالت بصرها لعلها ترى فسطاط عائشة لتسرع إليها وتخاطبها في الكف عن القتال، فلمحت مروان بن الحكم على فرسه يتعقب فارسًا آخر علمت أنه طلحة وقد رماه مروان بسهم في رجله فشكَّها في صفحة الفرس، ثم رأت طلحة حوَّل عنان جواده نحو البصرة وترك الجيشين يقتتلان، فعلمت أنه إنما ذهب إليها لجرح بليغ أصابه، فتأكدت فشل جند مكة. ولكنها عجبت لما فعله مروان بطلحة وهما من جند واحد، على أنها أوَّلت فعله بطمعه في الخلافة لبني أمية وعلمه بأنها إذا خرجت من يد الإمام علي فلن تكون لغير طلحة أو الزبير، فإذا قُتِل هذان فلا يبقى من يتنافس فيها [مع] بني أمية. ••• وبينما هي تتأمل حركات الجيش وتسمع ضجيج الناس ومقارعة السيوف والرماح وصهيل الخيل، رأت في معسكر أم المؤمنين فسطاطًا كبيرًا علمت أنه فسطاطها، ولكنها لم ترَ ازدحامًا فارتابت في أمره، ثم لمحت جمعًا متكاثفًا حول هودج فوق بعير فعلمت من لون الهودج وشكله أنه هودج أم المؤمنين، فساقت جملها إليه ولكنه لم يسعفها. ثم رأت فرسًا تائهًا خارج المعركة فأسرعت إليه وركبته وسارت تلتمس الهودج، ولم تكد تصل إلى وسط المعركة حتى رأت فارسًا خارجًا منها يطلب عرض البر لا يلتفت وراءه، فعرفت أنه الزبير وتذكرت أنه أقسم ألا يحارب عليًّا فقالت في نفسها: «قد فرَّ الزعيمان ولا إخال أم المؤمنين إذا علمت ذلك إلا آمرة بالكف عن القتال.» فاخترقت المعركة لا تبالي ما يتساقط عليها من النبال أو يعترض فرسها من جثث القتلى والجرحى، ولم تدنُ من الهودج حتى سمعت أم المؤمنين تصيح بصوتها الجهوري وتنادي أحد رجالها، وقد مدت يدها من الهودج وفيها المصحف وهي تقول: «إليك يا كعب، ادع الناس إلى هذا المصحف!» فلم يكد الرجل يتناوله حتى أُصِيب بنبل فقُتِل. وكانت أسماء قد وصلت إلى الهودج فرأت الرجال حائمين حوله وعائشة تقول: «أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!» فترجلت أسماء وأقبلت إلى الجمل فرأت الهودج قد أصبح كالقنفذ لكثرة ما غُرِس فيه من السهام المتساقطة، وأرادت التسلق على الجمل لتلقى عائشة في الهودج فاعترضها بعض الرجال، فأزاحت لثامها ونادت أم المؤمنين فعرفت صوتها فأذنت لها، فقال قائل من الوقوف: «هبي أننا أذنَّا لك بالصعود على الجمل تسلقًا فهل تستطيعين ذلك؟» فتذكرت ما أصابها من تسلق جمل الأمس، فعادت إلى فرسها واتصلت منه بالهودج وأم المؤمنين تعجب لوجودها هناك. أما أسماء فترامت على قدمَي أم المؤمنين وهي تقول والدمع ملء عينيها: «أشفقي يا أماه على أولادك! احقني دماءهم! ارحمي أبطالًا يوحدون الله! لقد كفى ما أصابهم من البلاء فمري بالكف عن القتال، إن السلام بين شفتيك وأنت أم المؤمنين وزوج رسول رب العالمين. ثم إن طلحة والزبير اللذين أضرما نار الفتنة قد فرَّا من المعركة، فانهضي وأطلي على الجندَيْن وانظري القتلى من الفريقين!» وكانت أسماء تتكلم بخشوع وتذلل وهي جاثية عند قدمي عائشة، وكانت عائشة في إبان اضطرابها لا تملك وقتًا للنظر في الأمر والناس حول هودجها يتلقون ما يتساقط عليه من السهام، حتى قُتِل عند خطام الجمل أكثر من أربعين رجلًا. فنظرت إلى أسماء وقد أثَّر فيها كلامها مع ما توسمته من فشل جندها، وقالت: «لقد كنا على موعد للصلح، فلا ندري ما حملهم على نقضه!» فقالت أسماء: «إنهم يقولون بأنكم الناقضون.» قالت: «كلا، لقد بتنا مصالحين فأصبحنا وإذا هم يقاتلوننا.» قالت أسماء: «إن في الأمر دسيسة، فلعل بعض الأعداء سعى فسادًا فأوقع الشقاق بينكم، وعلى كل حال إن الصلح قريب وتكفي كلمة منك لحقن الدماء.» قالت أم المؤمنين: «لقد قُضِي الأمر ولم يعد الرجوع مستطاعًا، فلا تلتمسي ذلك مني.» قالت ذلك وفي لهجتها وملامحها ما يزجر أسماء عن الكلام فصمتت، وعادت عائشة إلى استنهاض القبائل حتى أصبح كل من بقي من رجالها يدافع عن جملها. وهمَّت أسماء بالنزول من الهودج ولكنها لم تجسر تهيبًا من عائشة، ثم سمعت صوت علي يقول: «اعقروا الجمل، فإنه إن عُقِر تفرقوا.» ولم يكد يتم أمره حتى أحست أسماء بسقوط الجمل وهو يهدر من الألم، فعلمت أنهم عقروه فهمت بالخروج من الهودج، ولكنها أطلت قبل ذلك فرأت كل من حوله من الرجال تفرقوا وعليًّا يقول لرجاله: «أرسلوا من ينادي في الناس ألَّا يتَّبعوا مدبرًا ولا يجهزوا على جريح ولا يدخلوا الدور.» ثم قال: «احملوا هذا الهودج من بين القتلى»، فحملوه وهي ما زالت فيه مع أم المؤمنين وهذه غافلة عنها لعظم ما ألمَّ بها، وكانت أسماء تنظر إليها وهي متهيبة خشية أن تنتهرها وربما لا تستطيع جوابًا. ثم سمعت عليًّا يقول: «يا محمد يا ابن أبي بكر، اضرب على أختك قبة، وانظر هل وصل إليها شيء من جراحة.» فلما سمعت ذكر محمد وما أمره به علي، لبثت تنتظر أن تراه مطلًّا من الهودج وقلبها يخفق، أما هو فلما أدخل رأسه في الهودج ورأى أسماء مع أخته ذُهِل، ولكنه تجلد ولم يكد يتكلم حتى سمع أخته تقول: «من أنت؟» قال: «أخوك». قالت: «الحمد لله الذي عافاك!» وأشار محمد إلى أسماء أن تخرج، فخرجت ونظرت إلى ما حولها فرأت الأرض قد خلت من الناس غير من قُتِل أو جُرِح جرحًا بليغًا فلا يستطيع المسير، وسمعت أنين الجرحى ورأت الدم جاريًا قنوات، والخيل والنوق سارحة بعضها يعرج وبعضها يهدر من الجراح، ورأت في بعض تلك الدواب سهامًا لا تزال مغروسة في رقابها أو أعجازها. وكان المنظر رهيبًا محزنًا مؤثِّرًا. وفيما هي تنظر في ذلك إذ رأت عليًّا دنا من هودج أم المؤمنين وقال: «كيف أنت يا أماه؟» قالت: «بخير.» قال: «يغفر الله لك!» قالت: «ولك!» ثم أمر أخاها أن يدخل بها البصرة لتستريح. وفيما هو يتكلم رأى أسماء واقفة فعرفها، فلما رأته ينظر إليها همَّت بيده فقبلتها وقد علتها البغتة واحمرَّت وجنتاها خجلًا، فقال: «أين كنت يا أسماء؟» ثم سمع صوت أم المؤمنين تقول من داخل الهودج: «أكرموا هذه الفتاة، فوالله إني ما رأيت أكثر غيرة منها على الإسلام ولا أصدق لهجة في الدفاع عن الحق! وهي إنما خاطرت بحياتها وأتتني تحت النبال المتساقطة تلتمس الكف عن القتال.» فخجلت أسماء لهذا الإطراء وأطرقت، فقال لها علي: «بُورِك فيك يا بنية! إني توسمت فيك هذا الخير منذ رأيتك للمرة الأولى. تعالي.» ثم سار وسارت في أثره وهي مطرقة، وهو في شاغل بأمر الجرحى والأمر بدفن القتلى. ثم علم أن طلحة والزبير قُتِلا، فأخبرته أسماء بما رأته من مروان فقال: «لا تعجبي ممن كان سبب هذه الفتنة أن يفعل مثل ذلك.» وظلوا سائرين إلى البصرة حتى دخلوها، فنزل عليٌّ في دار العامل بقرب المسجد، وتواردت الناس لمبايعته وقد سلم الأمر له وخلا له الجو. ونزلت أسماء في تلك الدار مع بعض النسوة ممن جئن مع الإمام، وكانت عرفتهن أثناء إقامتها بالمدينة. وظلت أيامًا تحاول أن ترى محمدًا دون أن تستطيع ذلك، إذ شغله الإمام علي بأمر العناية بأخته أم المؤمنين فلم يكن يستطيع التخلي عنها، فرأت أن تسير هي إليه بحجة زيارة أم المؤمنين. فلما التقيا سألته عما أقعده عن زيارتها مع علمه أنها كانت جريحة في الدير، فاستغرب قولها وأكد لها أنه لم يعرف عنها شيئًا، لأن مسعودًا لم يعد إليه وهو لا يعرف مقره، ثم قال: «ها قد انقضت الحرب وانتصر الإمام والحمد لله، وآن لنا السكون والاجتماع.» فسكتت أسماء وقد أدركت أنه يشير إلى الزواج، ثم قالت: «ولكنني على أهبة السفر إلى الشام.» قال: «ولماذا؟» قالت: «لأعرف اسم أبي.» قال: «وكيف ذلك؟ ومن يخبرك عنه؟» فقصت عليه خبر رئيس الدير، فعجب وأصبح أكثر منها اشتياقًا لمعرفة أبيها، وارتفع مقامها في عينيه لمَّا علم أنها ابنة أحد كبار الصحابة في المدينة، فقال لها: «لا يبعد أن تكون بيننا قرابة قبل القرابة التي نسعى فيها اليوم.» فعاودها الخجل، وغيرت مجرى الحديث فقالت: «وكيف أم المؤمنين؟» قال: «هي في خير، وقد أمرني الإمام بإعداد ما يلزم لسفرها إلى مكة. وها إني أعد ذلك، وقد جهزت لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات ليسرن معها، فإذا سافرت …» ولم يتم كلامه حتى رأى الناس في هرج يصيحون: «جاء أمير المؤمنين.» ثم وصل عليٌّ، وكانت عائشة قد تهيأت للسفر وأُعِد لها الهودج، وجاء الناس لوداعها فخرجت لوداعهم. فلما رأت عليًّا قالت وهي تنظر إلى الناس: «يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبيت أحمائها! وإنه على مَعْتَبي لمن الأخيار.» فقال عليٌّ: «صدقت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.» ثم قال لمحمد: «سر يا محمد مع أختك إلى مكة.» فلما سمعت أسماء هذا الأمر اضطرب قلبها ونظرت إلى محمد ونظر هو إليها، ففهم كل منهما ما في ذهن الآخر. ••• وكان الحسن قد جاء مع أبيه لوداع أم المؤمنين، فرأى أسماء وقد علم بما أظهرته من الغيرة على الإسلام فازداد حبه لها وصمم على خطبتها وهو لا يعلم ما بينها وبين محمد. ثم علم أن أباه عازم على السير إلى الكوفة لأخذ البيعة كما أخذها في البصرة. وكانت أسماء لما ودعت محمدًا عادت إلى عزمها على التوجه إلى الشام لملاقاة القسيس مرقس وسؤاله عن أبيها، وقد أصبح هذا الأمر شغلها الشاغل، فأتت عليًّا بعد سفر محمد لتودعه وتخبره بعزمها وتسأله رفيقًا ودابة فلم تستطع مقابلته لكثرة المبايعين، فصبرت حتى سار ومن معه إلى الكوفة فسارت مع السائرين. وقضت في الكوفة أيامًا كأنها على جمر الغضا، حتى أصبحت يومًا وقد ملت الانتظار فصممت على الاستئذان في السفر، فسألت عن علي فقيل لها إنه في مجلسه وحده، فاستأذنت في الدخول عليه فأذن لها. فدخلت فإذا هو جالس في قاعة واسعة ليس فيها أحد سواه، فلما رآها هشَّ لها ورحب بها، فهمت بتقبيل يديه وهي تقول: «نحمد الله على ما أولانا من نعمة في إحقاق الحق، ونشكره على ما أولاك من النصر.» فتنهد وقال: «كنت أود أن تنتهي الفتنة ولا يُسفَك فيها دم، ولكنها أبت أن تنام إلا على فراش من الدماء.» قال ذلك وسكت، ثم قال: «وكنت عازمًا على استقدامك إليَّ لأشكرك على سعيك في هذا الأمر، فقد سعيت فيه سعيًا حميدًا.» فأطرقت ولم تجب. فقال لها: «ولنا فوق ذلك اقتراح نقترحه عليك عساه أن ينال موافقتك.» فقالت: «إني أَمة إذا أمرت أطعت.» قال: «إننا نود استبقاءك عندنا فتكونين بمنزلة ولدنا.» فأدركت أسماء ما وراء ذلك فأجفلت، مخافة أن يتحقق ظنها لعلمها ما في نفس الحسن، ولكنها لم تستطع غير إظهار الاستحسان فقالت: «إني أحقر من أن أحظى بهذا الشرف العظيم.» قال: «لا، بل أنت أهل لأفضل منه، ولا أخفي عليك أن ولدي الحسن راغب فيك لما آنسه من غيرتك على الإسلام ورغبتك في إعلاء كلمته، فهل ترضين به خاطبًا؟» فلم تستطع إخفاء عواطفها بما ظهر على وجهها من الاحمرار السريع، ولكنها تجلدت وقالت وهي تشكر: «إني لا أستحق هذا الإكرام يا مولاي، لأنه فوق ما تتوقعه فتاة يتيمة غريبة مثلي، كيف لا وفيه التقرب من أعظم رجال هذه الأمة وابن عم النبي؟ ولكنني جئت إلى مولاي الإمام الآن في أمر أهمني كثيرًا، وهو يدعوني إلى سفر قريب لا أرى منه بدًّا، فجئت أستأذن أمير المؤمنين في شأنه.» قال: «وما ذلك؟» قالت: «لا أظن مولاي أبا الحسن يجهل أمر أمي يوم قدومها المدينة، وما ظننا أننا فقدناه من السر بوفاتها.» قال: «لا أجهله»، قالت: «ولعلك تعلم يا سيدي أن يزيد الذي كان معنا في ذلك اليوم المشئوم ليس أبي.» قال: «ظننت ذلك به منذ رأيته، ثم سمعت أنه ليس أباك.» قالت: «وكنت أنا أيضًا أعلم هذا فقد أخبرتني به أمي، ووعدتني أن تذكر لي أبي الصحيح عند وصولنا إلى المدينة، فقضى الله بوفاتها قبل وصولنا، وظننت أن سر أبي ذهب معها إلى القبر فأسفت وبكيت، ولكن المقادير ساقتني بالأمس إلى دير بجوار البصرة بعد جرح أصابني في أثناء سفري، فأقمت به أيامًا أعالج الجرح. وهناك رأيت راهبًا عرفته، وكنت قد رأيته في كنيسة دمشق قبل سفري، فأخبرني خبرًا أعاد إليَّ آمالي.» فقال علي: «وهل ذكر لك اسم أبيك؟» قالت: «لا، ولكنه أخبرني أن قسيس كنيسة دمشق يعرفه، لأن أمي اعترفت له به دون سواه.» ثم قصت أسماء ما أخبرها به رئيس الدير، ولم تكد تتم كلامها حتى ظهرت الدهشة على وجه الإمام لما سمع من أن والدها من كبار المسلمين في المدينة، وأن أمها جاءت المدينة للبحث عنه، فعاد يسألها: «ألم يخبرك عن اسمه؟» قالت: «إنه لا يعرف اسمه، وهذا ما حملني على الإسراع إلى دمشق لأستطلع الخبر.» فأمر لها بجواد وخادم أمين وقال لها: «تنتظرين قافلة سائرة من الكوفة إلى الشام تذهبين معها، لأنه يعسر سلوك الطريق على شخصين منفردين.» فشكرت، وودعته وخرجت وهي تود أن تطير إلى دمشق لمقابلة القسيس، وصممت على الإسراع ما استطاعت دون أن تنتظر قافلة ولا ركبًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/16/
معاوية وعمرو بن العاص
كان معاوية في الشام مناوئًا لعلي في خلافته ناقمًا عليه، وقد حرض أهل الشام على مطالبته بدم عثمان، فجعل قميص عثمان وأصابع نائلة امرأته على المنبر بدمشق ينظرهما الناس. فثار أهل الشام وأنكروا مبايعة علي، وبعث معاوية إلى علي بالطومار كما تقدم وهو عازم على مقاومته ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وحدثته نفسه بأن يطلب الخلافة لنفسه ولكنه ما زال يرى ذلك بعيدًا، حتى سمع بنقض طلحة والزبير بيعة علي ومسيرهما في أهل مكة إلى البصرة، فقال: «لأصبرن حتى أرى ما يكون من عاقبة تلك الحرب.» ثم سمع بخروج علي من المدينة ووقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير، فعلم أن ليس ثمة من يطالب بالخلافة غيره. وكان عمرو بن العاص فاتح مصر في أوائل الهجرة ومُخرِجها من أيدي الروم (سنة ٢٠ﻫ) على عهد الإمام عمر بن الخطاب؛ قد تولاها وأصلح شئونها. فلما أفضت الخلافة إلى عثمان بن عفان، وكان عثمان على ما سلف من إيثاره ذوي قرباه في ولاية الأعمال، عزل ابن العاص عن مصر وعهد في ولايتها إلى أخيه في الرضاع عبد الله بن سعد، فخرج عمرو ناقمًا على عثمان، وكان من دهاة العرب المعروفين. فلما كانت الفتنة وثار الناس على عثمان وجاء أهل الأمصار إلى المدينة كان هو في جملة الناقمين، ولكنه غادر المدينة قبل الحصار وسار إلى فلسطين وأقام بها ينتظر ما يكون، فلما علم بمقتله قال: «إني قتلته وأنا في وادي السباع.» وجعل يفكر فيمن يلي الخلافة بعده وقال في نفسه: «إن يَلِ هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب، وإن يَلِه ابن أبي طالب فهو أكره من يليه إليَّ.» فلما بلغته بيعة علي اشتد عليه الأمر ولبث ينتظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير أم المؤمنين وطلحة والزبير إلى البصرة فلبث ينتظر ما يكون من أمرهم، فجاءه الخبر بوقعة الجمل وانتصار الإمام علي فارتُجَّ عليه ووقع في حيرة. ثم بلغه أن معاوية في الشام لا يبايع عليًّا وأنه يعظم شأن عثمان، وكان معاوية أحب إليه من علي لأنه داهية مثله، فأخذ ابنيه محمدًا وعبد الله وسار إلى دمشق، واتفق مع معاوية على المطالبة بدم عثمان، ونفس عمرو طامحة إلى مصر يحن إليها لأنه فاتحها. وكانت مصر يومئذٍ على دعوة علي، وعمرو يعلم أن عليًّا لا يوليه إياها فلم يرَ خيرًا من الانتماء إلى معاوية، فجعل يحرض أهل الشام على طلب دم عثمان ويقول لهم: «أنتم على الحق، اطلبوا دم الخليفة المظلوم.» ••• قضت أسماء أيامًا في مسيرها من الكوفة إلى دمشق، فلما أشرفت على غوطتها المشهورة بالخصب ونظرت إلى دمشق عن بعد، رأتها في منبسط من الأرض تحف به الحدائق الغنَّاء والبساتين الفيحاء، وفيها أغراس المشمش واللوز والسفرجل والخوخ والليمون والفاكهة على اختلاف أنواعها وفيها الأعشاب والرياحين، وكلها يانعة تجري بينها جداول من الماء القراح. وكانت أسماء ملتفَّة بالعباءة و«الكوفية» فوق جواد يسابق الريح ومعها الخادم على جواده، فأقبلت على المدينة في الصباح وقد تعطر نسيمها بشذا الأزهار تتخلله نغمات الأطيار، فلم يشغلها ذلك كله عما قام في خاطرها من الشوق للاطِّلاع على أصلها. فدخلت المدينة من باب الجابية بعد أن ترجلت وأمرت الخادم أن يسير في أثرها بالجوادين، وسارت ملثَّمة تلتمس كنيسة مار يوحنا من أقرب الطرق وهي تعرف دمشق معرفة جيدة، محاذرةً أن يراها أحد من أهلها أو جيرانها فيعرفها فيشغلها عما هي ساعية في طلبه. وخوفًا من أن ينتبه الناس لها إذا مشت والخادم والجوادان في أثرها أمرت الخادم أن ينتظر في خان دلَّته عليه وقالت له: «امكث هناك حتى أعود إليك»، فأطاعها. وظلت هي سائرة حتى دنت من الكنيسة فتذكرت أن هذه الكنيسة العظيمة، المعروفة باسم القديس ماري يوحنا، قد أخذ المسلمون حين فتحوا الشام نصفها الشرقي وجعلوا فيه مسجدًا يصلون فيه، وتركوا النصف الآخر وهو الغربي للنصارى وفصلوا بين القسمين بحاجز. فالتمست الباب المؤدي إلى القسم الغربي وهي بلباس السفر، فاستقبلها خادم الكنيسة واستغرب مجيئها بعد الفراغ من الصلاة فكلمها باللسان الرومي، وكانت قد تعلمته من أمها، فسألها عن غرضها فذكرت أنها تريد القسيس مرقس فدعاها إلى الاستراحة على مقعد من رخام في صحن الكنيسة وسار للسؤال عن القسيس، فلبثت في انتظاره وهي تلهي نفسها بما هناك من فخامة البناء كالأعمدة الضخمة الشاهقة والنقش البديع من الفسيفساء وغيرها، فضلًا عن الصور على الجدران والسقف في أشكال غريبة وألوان زاهية. ولم تكن تلك أول مرة دخلت هذه الكنيسة، ولكن غرابة ذلك البناء وفخامته يلفتان النظر ويشغلان الخاطر في كل آن. فما لبث الخادم أن عاد يدعوها إلى غرفة الاستقبال لتقابل الشمَّاس وتطلب منه ما تريد، فخرجت من الكنيسة إلى دار في وسطها بركة من الرخام يتدفق منها كسائر دور الشام، واتصلت من الدار بقاعة فخمة استقبلها فيها شماس لم تكد تراه حتى تذكرت أنها رأته يوم زارت الكنيسة مع أمها قبل سفرها إلى المدينة، فاستأنست به وسألته عن القسيس مرقس فدعاها إلى الجلوس على بساط من السجاد، وبين يديهما بركة أخرى أصغر من بركة الدار والماء يسيل من جوانبها إلى قناة تحيط بها ويُصرَف منها، فلما جلست قال لها: «إن القسيس مرقس سافر منذ بضعة أشهر.» فأجفلت وقالت: «إلى أين؟!» قال: «إلى بيت المقدس.» قالت: «ومتى يعود؟» قال: «لا أدري متى يعود لأن سفره لم يكن لشأن خاص بالدير، ولكنه خرج فرارًا مما أقلق راحته من أصوات البكاء والعويل التي ترن في آذاننا كل يوم في القسم الآخر من هذه الكنيسة.» قالت: «وما هو هذا العويل وعلى من؟» قال: «ربما سمعتِ بمقتل الخليفة عثمان في يثرب، فإن بعض رجال حاكمنا معاوية جاء بقميصه الملطخ بالدم وأصابع امرأته التي قُطِعت وهي تدفع بيدها عنه، ووضعوها على المنبر الذي يخطبون فوقه. وكلما اجتمعوا للصلاة وذكروا مقتل الخليفة صاح الناس رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا، يبكون ويولولون حتى تكاد تتفتت القلوب. وكان أبونا القسيس في أثناء ذلك مريضًا مرض الشيخوخة فزاده ذلك الحال ضعفًا، فأشار عليه طبيبه أن يسافر إلى القدس يقيم بها حتى تتغير الحال، فسار ونحن في انتظاره وقد بلغنا أنه ما زال مريضًا.» فعادت تسأله: «ألا تدري متى يعود؟» قال: «لا، ولكن إذا كنت تريدين خدمة فإننا نؤديها بالنيابة عنه.» قالت: «إنما أمري منوط به وحده.» وفكرت فيما تصنع هل تقيم هناك ريثما يعود أم تخرج إلى الخان، وفيما هي صامتة تفكر ابتدرها الشماس قائلًا: «إذا شئت أن تقيمي ضيفة في هذه الدار حتى يعود أبونا القسيس فعلى الرحب والسعة، فإن عندنا نساء يقمن بخدمتك.» ثم صفق فجاء الخادم فأمره أن يدل أسماء على غرفة القسيسة، فصعد بها إلى قاعة علوية فيها امرأة طاعنة في السن بلباس أسود وعليها هيئة الكمال والوقار، فنهضت لها واستقبلتها وأجلستها إلى نافذة تطل على بعض أبنية دمشق، وأمرت لها بما تحتاج إليه من طعام فاعتذرت من تناول الطعام. وجلست أسماء وقد استأنست بتلك المرأة ولكنها ما زالت منقبضة النفس من عرقلة مساعيها لغياب القسيس وتصورت أن نحس طالعها قد عرقل أمورها، وخُيِّل لها أن القسيس مرقس سيموت في القدس لضعفه وشيخوخته فيضيع السر وتذهب آمالها أدراج الرياح، فخطر لها أن تذهب إليه وتستطلع السر، وكانت تفكر في ذلك والقسيسة تبالغ في ملاطفتها وتدعوها إلى نزع العباءة والكوفية وهي تمتنع. ••• ودنا وقت الظهر فخرجت القسيسة للصلاة كالعادة، وظلت أسماء منفردة فأطلت من النافذة فوقع نظرها على صحن الكنيسة كله وفيه القسم الذي جعله المسلمون مسجدًا، فرأت في أرضه الأبسطة والطنافس وقد تعلقت بسقفه المصابيح، وشاهدت على جدرانه رسومًا مسيحية في جملتها صور صلبان وقديسين ما زالت كما كانت قبل الفتح. وفيما هي تتأمل في جدران المسجد ومفروشاته سمعت المؤذن يدعو الناس إلى صلاة الظهر، وما كاد يفرغ من أذانه حتى رأت الناس يتقاطرون إلى صحن المسجد زرافات ووحدانًا وفيهم الرجال والنساء شيوخًا وشبانًا وأطفالًا فشُغِلت بالنظر إليهم، وفيهم جماعة عرفت أنهم من الجيران الذين كانوا يزورون أباها. ثم رأت الناس يموجون موج البحر يتقهقر بعضهم شمالًا والبعض الآخر يمينًا، حتى فتحوا طريقًا واسعًا فأدركت أن أحد الكبراء داخل فصبرت، وإذا برجل جميل الخلقة أبيض البشرة ذي هيبة ووقار عليه ثياب سود موشَّاة تتألق كبير العمامة، فعرفت أنه معاوية بن أبي سفيان والي الشام، ورأت إلى جانبه رجلًا قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عيناه تكادان تتقدان حدةً، فمشيا وهما ينظران إلى الجمع والناس سكوت إجلالًا لهما، فلم تعرف أسماء رفيق معاوية ولكنها سمعت واحدًا من الحضور يقول بصوت عالٍ: «أنت لها يا ابن العاص، أنت نصير الخليفة المظلوم.» فعلمت أنه عمرو بن العاص. فوقفت تنتظر ما يبدو منهما، فرأت معاوية ظل سائرًا حتى بلغ دكة عليها قميص ملطخ بالدم، وعلمت أن الدكة هي المنبر وأن القميص قميص عثمان، فتذكرت مقتل ذلك الخليفة على مشهد منها وتذكرت نائلة المسكينة وقالت في نفسها: «أين هي الآن يا تُرَى؟» وكانت تفكر في ذلك وهي تنظر إلى معاوية فرأته صلى ركعتين وصعد المنبر فسكت الناس وأصغوا، فوقف وحمد الله وأثنى عليه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. ثم سكت لحظة وهو يجيل أصابعه في لحيته وعيناه تنتقلان في الناس واحدًا بعد واحد، ثم تناول من المنبر هنات كانت معلقة بالقميص جعل يقلبها بين يديه وينظر إلى الناس ويقول: «أتعلمون ما بين يدي؟ إنها أصابع نائلة زوج الخليفة المظلوم، قُطِعت بسيوف القتلة وهي تدافع عنه.» فتأملت أسماء في الأصابع فإذا هي إصبعان وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصلهما ونصف الإبهام. ثم أمسك معاوية القميص بيده وقال: «أتعلمون قميص من هذا؟ إنه قميص الخليفة المظلوم! إنه قميص عثمان المقتول ظلمًا!» ولم يكد يتم كلامه حتى ضج الناس من جوانب المسجد بصوت واحد: «قُتِل عثمان مظلومًا! قُتِل مظلومًا!» وسمعت بعضهم يقول بصوت عالٍ: «أقسم بالله ورسوله وخليفته ألا يمسني ماء إلا للغسل من الجنابة، وألا أنام على الفراش حتى أقتل قتلة عثمان ومن قام دونهم!» وما أتم الرجل حديثه حتى ضج النساء والأطفال بالبكاء والعويل، وتهافتوا على المنبر ليبكوا على القميص والأصابع، فزجرهم معاوية فعادوا إلى أماكنهم، وعاد هو إلى كلامه وأسماء تتميز غيظًا لما سمعته من التعريض بعلي ومحمد وما آنسته من التهديد، فثارت الحمية في رأسها ولكنها صبرت لعلمها أن موقفها خطر، فسمعت معاوية عاد إلى كلامه بين تحريض وتعريض حتى سمعته يقول: «إن عليًّا قتل عثمان وآوى قتلته.» فلما سمعت ذلك لم تعد تستطيع صبرًا فتحولت من النافذة بأسرع من لمح البصر وهرولت إلى باب الجامع بعباءتها وكوفيتها. وبينما الناس يسمعون خطاب معاوية إذا بفتاة وقفت فيهم وعيناها تتقدان غيظًا وحنقًا والمهابة تتجلى في محياها، فلفتت انتباههم فشُغِلوا بالنظر إليها عن سماع الخطاب. ثم صعدت إلى دكة من رخام وولت وجهها شطر الناس وظهرها إلى معاوية، وقالت وصوتها يرتعش وركبتاها تصطكَّان: «أيها الناس، أراكم تسمعون وتغضبون لأمر لم تشاهدوه ولا أنتم على بينة منه، لأنكم لم تكونوا في المدينة ولا شاهدتم مقتل الخليفة. يقولون لكم إنه قُتِل مظلومًا وإن عليًّا قتله وآوى قتلته، وهذا افتراء لأن عليًّا أول من دافع عنه بلسانه وسيفه وأولاده. قُتِل عثمان أيها الناس والحسن والحسين في داره وقد تلطخ وجه الحسن بالدم، ولو لم يأمرهما عثمان بالكف عن الدفاع لبذلا النفس عنه، على أنهما لم ينجوَا مع ذلك من تأنيب الإمام وقد شهدت ذلك بنفسي ورأيته رأي العين. فاتهام علي بمقتله افتراء وفتنة لا يصيب القائم بها إلا ما أصاب أصحاب الجمل في البصرة. تزعمون أنه قُتِل مظلومًا، وربما كان زعمكم صحيحًا، ولكن عليًّا لم يرد قتله بل هو أول من قال باستبقائه خوفًا من الفتنة، فكيف تقولون إنه قتله؟!» وما أتمت أسماء كلامها حتى صاح معاوية: «من ذا الذي يتكلم؟! من أنت يا رجل؟!» فالتفتت إليه أسماء وقالت: «إنني فتاة يا معاوية ولست رجلًا.» فعجب لهذه الجرأة من فتاة في مثل سنها وتأثر من هيبتها وجمالها وأنفتها، ومع كل غيظه وحنقه لم يأمر بالقبض عليها ولا المُثْلة بها، ولكنه دعاها إليه والناس شاخصون ينظرون كأنه يريد مجادلتها في الأمر، فأشار إليه عمرو إشارة فهم منها أنه لا يليق أن يجادلها أمام الناس لأن الجدال ينقص من برهانه، فأعجبه دهاء عمرو. فلما صارت أسماء بين يديه أمر بالقبض عليها، فتكاثف بضعة عشر من رجاله لشد وثاقها فصاحت فيهم: «تتجمهرون على فتاة وأنتم رجال! ولا حاجة إلى شد الوثاق فإني لا أفر من بين أيديكم! أليس عارًا عليكم أن تدفعوا الحق بالقيود والأغلال وهو إنما يُدفَع بالبرهان والجدال؟!» فأشار معاوية أن يسيروا بها إلى السجن حتى ينظر في أمرها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/17/
أسماء في السجن
ولا تسل عن حال أسماء لما وجدت نفسها في حجرة لا يدخل إليها النور إلا من كوة في أعلى البناء، وليس فيها إلا حصير بالٍ. فأخذت تفكر فيما آلت إليه أمورها وما تتوقعه من العذاب، فندمت على ما أبدته من الجرأة في الدفاع عن علي، ولكنها شعرت أنها أقدمت على ذلك بالرغم منها، فقد كانت كلما سمعت اسم علي طربت واستعزت أو خافت وتهيبت وهي لا تقدر على كبح إحساسها. فلما خلت إلى نفسها تمثَّلت لها حالها كما هي، فتذكرت ما مر بها من الأهوال منذ حداثتها وما قاسته من البلاء في أسفارها وجهادها وما كان من وفاة أمها قبل وصولها إلى المدينة وضياع سرها، ولما وصل ذهنها إلى هنا اعترض ظلمة كدرها نور ضعيف من الأمل في كشف السر على يد القسيس مرقس. ثم تصورت مروان وما سامها من العذاب في بيت الخليفة عثمان، وتذكرت أنه كان البيت الذي كاشفت فيه محمدًا بالحب فطربت لذلك، ثم تذكرت سفرها إلى مكة وما لاقته من المرض والتعب وما عقب ذلك من أسرها ومسيرها في الصحراء مهددة بالموت وبالعار، حتى قضى الله بنجاتها فعادت إلى خطر آخر ونجت منه، وكيف بُشِّرت بالكشف عن نسبها ثم شهدت وقعة الجمل … وتتابعت عليها الذكريات حتى وصلت إلى ما هي فيه من السجن، فعظم الأمر عليها واشتد الأسف بها حتى أجهشت بالبكاء، فحاولت التجلد لئلا يقال إنها بكت من اليأس أو الخوف، وهي إنما بكت لنكد حظها وسوء طالعها وما يقف في سبيلها من العقبات التي لم تكن تخطر لها ببال. فالتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدًا وتطاولت بعنقها إلى باب السجن فرأت السجان في غفلة عنها، فأطلقت لنفسها عنان البكاء وأخذت تناجي نفسها تارة تذكر أمها وطورًا حبيبها وآونة عليًّا وأخرى تندب حظها، واستغرقت في ذلك حتى نسيت نفسها وغاب رشدها كأنها أُصِيبت بنوبة عصبية، فلم يعد في إمكانها إمساك عواطفها عن البكاء والنحيب. وما زالت في ذلك حتى تعبت فغلب عليها النعاس فنامت على ذلك الحصير، فرأت فيما يرى النائم أمها تمشي إليها على بساط من الورد المنثور وعليها حلة أرجوانية طويلة الذيل مزركشة بالذهب تجرها وراءها وعلى رأسها تاج من زهر الرمان، ورأتها تمشي الهويناء وهي تتلمس الخطى كأنها تحاذر مرور النسيم. فبُغِتت أسماء لرؤية خيال أمها ولا سيما لما رأتها في عافية تامة وقد ارتد إليها لونها وتوردت وجنتاها وأشرق وجهها، وظلت أسماء في دهشة شاخصة إلى ذلك الخيال وكأنها سمعته يقول بصوت رخيم: «هل عرفت أباك يا أسماء؟» فأسرعت أسماء إليها وألقت نفسها على صدرها تستنشق حنان الأمومة، فانتعشت وجعلت تقبلها وتقول: «لا، لا يا أماه لم أعرفه بعد. قولي لي، قولي فقد نفد صبري.» فضمتها والدتها إلى صدرها، وهمست في أذنها: «اخفضي صوتك لئلا يسمعك الإمام.» فأطاعتها وقالت بصوت خافت: «قولي لي يا أماه من هو أبي.» قالت: «إنما جئت إليك الآن لأخبرك بذلك، فاعلمي أن أباك هو …» وسكتت لحظة وهي تتلفت يمينًا وشمالًا وعيناها تلمعان كأن الماء يغشاهما، وأسماء شاخصة إليها وقلبها يكاد يتفطر وسمعها مرهف لسماع اسم أبيها، ولكنها ما لبثت أن رأت أمها ترتعد وقد أخذ لونها في الامتقاع وهي تنظر إلى شبح قادم إليها، ثم رأتها أجفلت وحاولت الفرار فتشبثت أسماء بها وهي تقول: «امكثي بالله لا تذهبي، انطقي باسم أبي!» فلم تلتفت إليها وحاولت التملص منها وأسماء ممسكة بها. وفجأة أفاقت مذعورة فرأت نفسها في تلك الحجرة المظلمة على ذلك الحصير القذر، وسمعت صوتًا لم تكد تموجاته تدرك أذنها حتى ارتعدت فرائصها لمشابهته صوت مروان بن الحكم عدوها القديم، فقالت في نفسها: «أعوذ بالله من حظي على يد هذا الرجل! ما زال ذكره شؤمًا عليَّ حتى في أحلامي، كنت في ألذ الأحلام فأيقظني بصوته.» فما كادت تفتح عينيها حتى رأت مروان واقفًا أمامها وقد تقلد حسامه وأتقن هندامه، فلما رأته استعاذت بالله ولم تلتفت إليه. فتقدم مروان إليها وهو يقول: «لقد صفحنا عما مضى يا أسماء، كنت ترجعين عن غيك وتعلمين أن محمدًا وعليًّا لا يغنيان عنك فتيلًا. أنت الآن في دمشق مسقط رأسك ومقر آبائك، ما لك وللمدينة والكوفة؟ أصغي لنصحي وارجعي عن عنادك، واعلمي أنك إذا أطعتني هذه المرة صفحت عما مضى وكنت أسعد فتاة وإلا فإنك مقتولة لا محالة، لأنك في قبضة يدي أفعل بك ما أشاء. واعلمي أن معاوية سيبعث إليك ليحقق معك في شأن ما فهت به في المسجد مما لا يأتيه إلا كل مختل الشعور، فإذا شئت البقاء حية فاعتذري مما فرط منك وحالفي القوي، ولا يغرنك انتصار علي في البصرة فإنه سيلقى منا سيوفًا لا تُفَل ورجالًا لا تُرَد وقلوبًا كالحجر الصلد، وستخرج الخلافة من يديه فيخضع لنا هو وأولاده وكل من يلوذ به.» وكان مروان يتكلم وأسماء ترتعد وجلًا وقلبها يكاد يفر من صدرها وصعد الدم إلى وجهها فتوردت وجنتاها واحمرَّت عيناها، وهي مع كل ذلك مطرقة تفكر وقد أيقنت أن حياتها بين يديه ويدي معاوية، فحدثتها نفسها بادئ الأمر بأن تعمل بما توحيه عواطفها فتنتهر مروان وتوبخه، ولكنها تذكرت ما جرته عليها جرأتها في المسجد فأمسكت وتجلدت وهي تكظم الغيظ ولم تحر جوابًا. فظن سكوتها لينًا أو رضاءً فدنا منها وبالغ في التودد إليها فقال: «لعلك تذكرين ما عاملتني به من الجفاء، وأنا أعذرك وآمل أن تكوني قد ارعويت، لأنك إنما كنت مدفوعة إلى ذلك بطيش الشبيبة، وكنت تحسبين محمدًا أهلًا لك، وقد رأيت كيف انقلب أمرهم جميعًا، وكيف قام المسلمون عليهم يطالبون بدم الخليفة عثمان. ولا أظنك تجهلين ما فعله محمد وقد كنت شاهدة مقتل عثمان، ألم تريه وقد دخل عليه وأمسك بلحيته وهمَّ بقتله فوبَّخه الخليفة وذكَّره فرجع؟ أتعدين ذلك دفاعًا؟ وهل تزعمين بعد ذلك أن محمدًا خير من مروان؟» فثقل كلام مروان على أسماء ثقل الجبال حتى كادت تحرج باحتقارها إياه فتبوح له، ولكنها كظمت الغيظ وسكتت فطفحت عواطفها دموعًا وهي مطرقة لا تنظر إليه. ففرح مروان وتحقق ندمها، وهمَّ بالدنو منها ليستأنف الحديث، وإذا بالسجان دخل وقال لمروان: «إن الأمير بعث يستقدم السجينة إليه.» ثم تقدم السجان ودعا أسماء إلى المثول بين يدي معاوية، فوقفت ومسحت عينيها وخرجت فرأت خارج السجن بضعة رجال بالسيوف والحراب، فقال لهم مروان: «لا حاجة إليكم فإنها تسير غير محروسة إلى مجلس الأمير.» ••• وسارت أسماء بقدم ثابتة وقلب جريء، ومروان وراءها مبتهج القلب بما تجدد عنده من أمل في الحصول عليها، فقد كان مسحورًا بجمالها وهيبتها طامعًا في نيلها، ليفخر بأن قد نالها دون محمد بن أبي بكر. وما عتموا أن وصلوا إلى قصر منيع من بناء الرومان، كان في الأصل قصرًا لحاكم الشام من الروم، وعند بابه الحراس بالسيوف والحراب. فدخلت في دار رحبة ومروان أمامها يدلها على قاعة المجلس، فعرج بها حول البركة حتى دخل قاعة كبيرة فيها الوسائد والطنافس على الجانبين، وفي صدرها معاوية على مقعد وإلى جانبه عمرو بن العاص وولداه محمد وعبد الله، وبين أيديهم جماعة من الأمراء لم تعرفهم. فدخلت ووقفت ونظرت إلى الحضور نظرة فاحص بسكينة وجلال ثم وجهت نظرها إلى معاوية غير متهيبة، فنظر إليها وتأمل فيما يتجلى في وجهها من المهابة، وكانت ما زالت غاضبة وقد قطَّبت أسرتها وازدادت وقارًا فأُعجِب بهيبتها وجمالها، وكان قد أُعجِب من قبل بشجاعتها وإقدامها. فلما وقفت بين يديه قال لها: «ما الذي حملك على الجرأة التي ظهرت منك في المسجد اليوم؟» قالت: «إنما حملني على ذلك الحق والصدق، فقد سمعت تعريضًا برجل اتهموه وهو بريء.» قال معاوية: «وما أدراك أنه بريء وأنت فتاة قاعدة في بيتك؟» قالت: «إني أعلم من الأمر فوق ما يعلم كل واحد منكم، وقد تحققت يقينًا أن عليًّا أمير المؤمنين بريء مما يتهمونه به.» فاعترضها عمرو بن العاص قائلًا: «لا تقولي أمير المؤمنين، فإننا لم نبايعه.» فقالت: «إن لم تبايعوه أنتم فقد بايعه سواد المسلمين في المدينة والبصرة ومصر وسائر الحجاز، وهو ابن عم الرسول وأحق الناس بهذا الأمر.» فقال عمرو: «أراك تحكمين في أمور تجهلينها، فلو أجمع الناس على بيعته ما اضطُرَّ إلى الحرب وسفك الدماء. يكفيه أنه كان السبب في قتل الخليفة عثمان الذي أصبح دمه طليعة ما سُفِك وسيُسفَك من الدماء.» فنظرت أسماء إلى عمرو وقالت: «ألست ابن العاص؟» قال: «نعم». قالت: «ألم تكن أول ناقم على ذلك الخليفة المقتول لأنه عزلك عن مصر وولاها أخاه عبد الله؟ ألم تفرح بقتله؟ ولكن الدهاء أبعدك والناس يعرفون القاتل أو الساعي في القتل.» قالت ذلك وقد ظهر التأثر في وجهها مما بدا عليه من الامتقاع. فعظم جوابها على عمرو وخاف أن تتمادى فقال لها: «ممن أنت يا فتاة؟» قالت: «من هذا المكان.» قال: «إني أسألك عن أبيك.» فسكتت ولم تجب، فتقدم مروان وهو يأمل أن يخفف غضب معاوية وعمرو على أسماء، طمعًا في رضائها واستبقائها وقال: «إنها أموية، وقد قُتِل يزيد أبوها فيمن قُتِلوا مع عثمان.» فقال معاوية: «أأموية أنت؟» فلم تجب. فقال: «كيف تكونين أموية وتقولين ما لا يقوله بنو أمية؟! أليسوا مجمعين على أن عثمان قُتِل ظلمًا وقد نهضوا للأخذ بثأره؟» فقالت: «لا يهمني أموية كنت أم غير أموية ولكنني أشهد بما أعلم، فأنا لا أرى أحدًا مظلومًا في هذه الفتنة غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وإني أقول هذا رضيتم أم غضبتم. ولعلكم تتهددونني بالقتل أو السجن، فلا أبالي التهديد ولا الوعيد. هذا قولي فافعلوا ما تشاءون.» وكان مروان في أثناء كلامها يفكر فيما يرجوه من رضائها، وعيناه شاخصتان إلى الحضور لئلا ينظر إليها أحد نظر الراغب فيها، وود لو أنهم يقطعون الحديث لئلا تقول قولًا يثير غضب معاوية فيأمر بقتلها. أما عمرو فرأى بحسن فراسته ودهائه أن يظهر الاستخفاف بكلام أسماء ويبدى الرفق بها، لأنه رآها لا ترضخ للعنف وخاف أن تتمادى في كشف ما كان ساعيًا فيه ضد عثمان قبل قتله، فقال لها: «أراك يا بنية مغرورة، ومن العبث أن نجادلك ولا سيما أن النبي ﷺ أوصانا بالنساء رفقًا لأنهن ضعيفات، ثم إنك أموية من لحمنا ودمنا، فارفقي بنفسك وارجعي عن غيك وامكثي عندنا في أمن وأقلعي عما أنت فيه.» فقالت: «لا تستضعفوني، ولا تأملوا رجوعي، ولا تحسبوني أموية ولا هاشمية، فافعلوا ما تشاءون، وقد قلت لكم إني لا أهاب الموت.» فتقدم مروان إلى معاوية وهمس في أذنه قائلًا: «أرى الكف عن جدالها، فاتركوا أمر إقناعها إليَّ لأني أعرفها من قبل ذهابها إلى المدينة فقد كانت مقيمة بدمشق وأعرف أبويها، وأنا أضمن إقناعها طوعًا أو كرهًا إذ لا يليق بنا استبقاؤها على هذا العناد، فإما أن ترجع عن غيها أو نقتلها والقتل أمر مستدرك فأرى أن نقنعها بالحسنى.» ثم التفت إلى عمرو وقال بحيث يسمعه الاثنان ولا تسمعه أسماء: «ولا يخفى عليكما أننا إذا أخذناها في حزبنا فإنها تطلعنا على كل دخائل عليٍّ ورجاله، لأنها عالمة بكل أسرارهم. فاتركا هذا الأمر إليَّ.» ثم تنحى جانبًا وأسماء خائفة مما بدا منه. فقال معاوية: «خذوها الآن إلى منزل مروان وسننظر في أمرها.» فقطعت الحديث قائلة: «لعل منزله السجن.» قال: «كلا». قالت: «بل خذوني إلى السجن حيث كنت في هذا الصباح.» فخاف مروان إذا أصروا على إرسالها معه أن تصرح بشيء ضده فقال: «خذوها إلى السجن.» واعتزم أن يكلمها هناك. ••• أشار معاوية إلى الحراس فساروا وأسماء معهم غير هيَّابة ولا وجلة. وأما مروان فإنه أسر إلى كبير الحراس أن يجعلها في غرفة من غرف السجن وحدها، وأن يضيقوا عليها لعلها تشعر بحاجة إلى النجدة. ولم يدركوا السجن إلا بعد الغروب فدخلوا بها من باب كبير إلى دار رحبة اتصلوا منها بممر مظلم، انتهوا منه إلى بضع درجات نزلوا عليها إلى دار صغيرة تستطرق إلى غرف عديدة دخلوا في إحداها، واتصلوا من هذه بحجرة أخرى واطئة السقف مظلمة تتصاعد منها رائحة الرطوبة والعفونة وقد نبتت الطحالب على جدرانها وتحلَّب الماء عنها، فأقعدوها على حصير بالٍ ورجعوا وظل السجان وحده، فلما خلا المكان إلا منهما نظر إليها وكأنه أشفق على شبابها وتوسم فيها مهابة ووقارًا، ولكنه لم يخاطبها فتركها على ذلك الحصير وعاد وهو يرجو أن تخاطبه هي وتلتمس نجدته متى أحست بالوحدة أو شعرت بالجوع والخوف. أما هي فلما رأت نفسها في تلك الحجرة وقد خلا المكان من الناس واستولى السكوت على تلك الجدران العفنة، لبثت تفكر في حالها وما صدر منها في حضرة معاوية من الأقوال مخافة أن تكون قد فاهت بما يدل على عجز أو خوف، فرأت أنها أدت الأمانة حق أدائها، ولكنها مع ذلك أسفت لأنها لم يُتَح لها إتمام قولها. وقضت ساعات وهي جالسة لا تبالي الظلمة ولا الجوع ولم يزرها النوم لعظم اضطرابها، ثم انتبهت إلى ما هي فيه من الخطر إن لم يكن من معاوية ورجاله فمن مروان وآماله، وأيقنت أنه آتٍ إليها تلك الليلة طمعًا في رضائها عنه، والموت عندها خير من إجابة طلبه. فالتفتت إلى ما حولها وهي لا تكاد ترى جدران الغرفة لشدة الظلام، فأنصتت لعلها تسمع مشيًا أو كلامًا فإذا كل شيء هادئ ساكن لا يكدر سكونه إلا طنين البعوض حول وجهها ونقيق الضفادع نقيقًا ضعيفًا، يدل من اتجاهه على أن السجن قائم على ضفة نهر بَرَدَى الذي يتشعب في دمشق فيسقي أهلها بأنابيب من الحجارة أو الخزف متفرقة في كل منازلها، فاستأنست بذلك النقيق ولكنها استوحشت من الظلمة الدامسة مخافة أن تلسعها عقرب أو يلدغها ثعبان على غرة. وبينما هي تفكر في حالها وقد شغلتها الوحشة عن التفكير في الخطر المحدق بها، إذ سمعت خطوات بطيئة تدل على تلصص صاحبها في مشيته، فجمد الدم في عروقها وخافت أن يكون ذلك القادم مروان، فأشاحت بوجهها نحو الخطى وقلبها يخفق حتى كادت تعد دقاته. وإذا بذلك الصوت يقترب نحوها فأجفلت ونهضت وتهيأت للدفاع إذا مست الحاجة، ولبثت تنتظر ما يكون. فإذا بالخطوات تبتعد وتضعف حتى لم تعد تسمعها، فعلمت أن أحدًا كان قادمًا نحوها ثم رجع، فازدادت قلقًا وظلت واقفة ترتعد لعظم التأثر، وودت لو أن ذلك القادم وصل إليها لتعلم من هو وما غرضه فإن رجوعه زاد بلبالها. وصممت أن تتفانى في سبيل الدفاع وأن تصرح لمروان، إذا كان هو القادم، بما في ضميرها ولو أدى ذلك إلى قتلها. ولبثت برهة لم تعد تسمع في أثنائها صوتًا، ولكنها ما برحت مضطربة شاخصة بعينيها إلى الجهة التي سمعت الصوت منها، وطال انتباهها حتى لم تعد تستطيع إطباق أجفانها ونسيت موقفها. وفيما هي كذلك لمحت نورًا ضعيفًا في دار السجن الصغرى، فاستأنست به وتذكرت مروان فخافت أن يكون قادمًا إليها، على أنها تشجعت وقالت في نفسها: «فليأتِ فإما أقتله أو يقتلني فأستريح من هذا الموقف.» ولم تكد تفكر في ذلك حتى رأت النور يتعاظم ويقترب، ثم بان المصباح يحمله رجل عرفت من لباسه وقيافته أنه السجان فهدأ روعها، ونظرت إليه فإذا هو يحمل المصباح في إحدى يديه ويحمل بالأخرى قصعة، فلما دنا من غرفتها تأكدت أنه هو، فلبثت تنتظر ما يبدو منه فإذا هو يقول: «سامحيني يا سيدتي لأني تركتك إلى الآن بلا طعام ولا نور! فإني لم أكن أعرف أنك تنتمين إلى الأمير مروان.» فلما سمعت ذلك الاسم ارتعدت فرائصها ولكنها لم تجب. وأما السجان فدخل الغرفة ووضع المصباح على الأرض وقدم القصعة وفيها خبز ولحم وهو يقول: «هذا طعام بعث به إليك الأمير مروان، وكلفني أن أنبئك بأنك لن تبيتي في هذا المكان إلا الليلة، وفي الغد ينقلك إلى منزله.» فنفرت منه وقالت: «لا حاجة بي إلى طعام، فارجع من حيث أتيت.» قال: «لقد قضيت نهارك بلا طعام، ألا تأكلين شيئًا؟» قالت: «لست جائعة. عد بالطعام.» فعجب السجان لقولها وقد كان يتوقع ارتياحها لعطف مروان عليها، فقال لها: «ولماذا هذا يا سيدتي؟! تناولي لقمة لتسدي جوعك.» قالت: «خذ الطعام، إني لست جائعة.» قالت ذلك وحوَّلت وجهها عنه. فقال: «دعي القصعة والمصباح هنا وافعلي بهما ما تشائين، وها أنا ذا عائد.» قال ذلك ورجع. فلما خلت إلى نفسها ظل بصرها على المصباح تتأمل حركاته والبعوض يحوم حوله وفكرها تائه، وقلبها يخفق كلما تصورت مروان قادمًا نحوها. وأرادت أن تسند ظهرها إلى الحائط فأحست برطوبته فابتعدت. ••• وعاد السكون إلى المكان مدة طويلة وأسماء في إبان اضطرابها حتى كأنها نسيت وجودها، ثم انتبهت على صوت أقدام تمشي في الغرفة الخارجية بهدوء، فأجفلت وتأكدت أن مروان قادم فخفق قلبها وصعد الدم إلى رأسها وتهيأت للفتك به. وحولت نظرها إلى الخارج فرأت شبحًا قادمًا يخطو خطو السارق المتلصص وقد التف بعباءة، فخافت ولكنها تجلدت لترى ما يبدو منه، فلما دنا من باب الغرفة همت بأن تخاطبه فإذا هو يقول بصوت ضعيف: «لا تخافي يا سيدتي إني جئتك بالفرج، لا تخافي.» فلما سمعت كلامه ارتعدت فرائصها وذكرت أنها تعرف الصوت فقالت: «من أنت؟!» قال: «إني عبدك مسعود، لا تخافي. وقد جئت لإنقاذك.» قالت: «من أين أتيت؟! ومن أرسلك؟! هل هبطت من السماء أم خرجت من جوف الأرض؟!» قال: «لم يرسلني أحد ولكنني كنت سجينًا في هذا المكان منذ فارقتك في دير البصرة، لأني خرجت من الدير وفيما أنا عائد إلى الكوفة ظفر بي جماعة من بني أمية كانوا قادمين بمهمة من معاوية، فقبضوا عليَّ وساقوني إلى هذا السجن لأني من صنائع ابن أبي بكر. وأشكر الله الآن على وجودي هنا لعلي أستطيع إنقاذك من أيدي هؤلاء الظالمين.» فاطمأن بالها ولكنها حسبت نفسها في منام مثل منام الأمس، فقالت: «وكيف عرفت أني هنا؟!» قال: «رأيتك مع الحراس لما أتوا بك عند الغروب، ولبثت أنتظر فرصة آتي بها إليك، وقد جئت حتى كدت أقترب منك فسمعت خطوات السجان فهرولت راجعًا. وأما الآن فلا خوف علينا من السجان، تعالي معي.» قالت: «وأين السجان؟» قال: «ذهب إلى بيت مروان.» قالت: «وكيف ذلك؟! أخشى أن يكون هنا!» قال: «لا تخافي، لأني حرضته على المسير إلى مروان ليخبره برفضك طعامه، وليحثه على المجيء للانتقام منك، وأطمعته بمال يناله منه إذا فعل ذلك، وعزمت على الخروج في أثناء غيابه.» قالت: «والباب؟» قال: «لقد ظن السجان المسكين أنه أقفله ولكنه ما زال مفتوحًا. تعالي قبل أن يعود السجان أو يأتي مروان.» فترددت برهة وقد أكبرت أمر الفرار، فأدرك مسعود ترددها فقال: «أتحسبين خروجك من هذا السجن فرارًا، وما بقاؤك فيه غير الموت والعار؟ تعالي، وأسرعي أناشدك الله!» ومشى فمشت هي في أثره، ثم عاد إلى المصباح وقال: «أرى أن نطفئ هذا المصباح لئلا يدل علينا.» وأطفأه فأظلم المكان ولم تعد أسماء تعرف الطريق، فأمسك بيدها ومشيا وهي ترتعد، حتى خرجا من الغرفة الثانية إلى الدار الصغرى وأطلا على البيت، وما صعدا الدرجات حتى سمعا كلامًا في طرفه الآخر مما يلي الدار الكبرى، فوقفا ينصتان فإذا بمروان والسجان يتحدثان ومروان يقول: «لا بد لي من قتلها إذا ظلت على عنادها، وقد كنت أتوقع هذا العناد منها ولذلك فإني أرسلتك بالطعام وسرت في أثرك.» فجمد الدم في عروق مسعود وأسماء وأيقنا بالهلاك، وشق ذلك على مسعود لأنه عرض أسماء للخطر. أما هي فهدأت روعها وضغطت يد مسعود وجرته إلى ما وراء باب الممر حيث انزويا وقلباهما يخفقان، ولبثا ينتظران دخول مروان والسجان فسمعا مروان يقول: «هات المصباح وتعال.» فقال السجان: «في حجرتها مصباح تركته عندها.» ودخلا الممر وصدى خطواتهما يتعاظم رويدًا رويدًا حتى بلغا الباب الثاني الذي اختبأ مسعود وأسماء وراءه، فلما رأى مروان المكان مظلمًا وقف وقال للسجان: «أين هو المصباح، إني أرى السجن مظلمًا؟» فقال السجان: «إني وضعته في حجرتها ولعلها أطفأته كيدًا وقحة، هلمَّ لنرى.» فقال مروان: «إني لا أرى الطريق لشدة الظلام، هات مصباحًا آخر.» قال: «هلم ندخل ثم آتيك بالمصباح. انزل هذه الدرجات على مهل، ها إني أخطوها أمامك، تمسك بمصراع الباب من عندك.» ونزلا ومروان يتوكأ بإحدى يديه على السجان وبالأخرى على الباب، حتى وصلا أرض الدار الصغرى فمشيا حتى دخلا الغرفة وهما يتلمسان الأرض. ولا تسل عن حال مسعود وأسماء في تلك اللحظة، فقد كانت عندهما أطول من شهر. فحالما علما بدخول مروان والسجان إلى الغرفة أشار مسعود إلى أسماء أن تخلع نعليها وكان هو بلا نعل، ففعلت وتحول كلاهما من وراء الباب إلى الممر بخفة وسرعة، ومنه إلى الدار الكبرى فالباب الكبير وكان ما زال مفتوحًا، وأسرعا إلى الشارع وهما لا يصدقان أن قد ظفرا بالنجاة. وكانت أسماء تعرف طرق الشام معرفة جيدة، فلما بعدا عن السجن وقفا برهة يتدبران المكان الذي وصلا إليه، فعرفته أسماء وسارت قاصدة كنيسة ماري يوحنا. وقبل أن تصل إلى الكنيسة تذكرت خادمها والجوادين في الخان، فوقفت تتردد بين أن تسير إلى الكنيسة أولًا أو إلى الخان، فسألها مسعود عن سبب ترددها. فقالت: «أتردد بين أن أذهب إلى كنيسة ماري يوحنا فأقيم بها، وبين أن أسير إلى الخان حيث يقيم الخادم ومعه الدواب.» فتعجب مسعود لترددها وهو لا يرى حاجة إلى الكنيسة لأنه لا يعلم بما أنبأها به الراهب في دير البصرة، فقال: «ما لنا وللكنائس؟! هيا بنا إلى الخان ومنه إلى الكوفة فقد علمت أن الإمام عليًّا وسائر الصحابة هناك.» فتنهدت وقالت: «نعم، إنهم جميعًا هناك ولكن لي في هذه الكنيسة غرضًا يهمني، وإنما جئت دمشق من أجله ولا بد لي من إتمامه، ولكني أرى ذهابي إلى الكنيسة في آخر هذا الليل مما يوجب شبهة أو تساؤلًا، والكنيسة والمسجد متلاصقان أو هما بناء واحد، فأرى أن أمضي بقية هذا الليل في الخان لأرى الخادم وأدبر أموره ثم أسير إلى الكنيسة.» ثم مشت ومسعود إلى جانبها فسألته: «هل أنت عازم على الذهاب إلى الكوفة؟» قال: «نعم، إن شاء الله.» قالت: «إذا لم يكن بدٌّ من ذلك، فأوصيك بأن تبلغ الإمام ورجاله ما فيه أهل الشام من النقمة لعثمان والمطالبة بدمه.» وقصت عليه ما رأته في المسجد من التحريض والتهديد بالأصابع والقميص، إلى أن قالت: «واذكر لهم أني باقية هنا بضعة أيام ريثما تتم مهمتي.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/18/
موقعة صفين
رأى الإمام علي بعد أن انتصر في وقعة الجمل ونزل البصرة فبايعه أهلها، أن يستعمل عليها عبد الله بن عباس، ثم سار إلى الكوفة فنزلها. وانتظم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان وبايعه أهلوها، ولم يبقَ خارجًا عليه إلا الشام وفيها معاوية وأهل الشام مطيعون له في المطالبة بدم عثمان. وكان عليٌّ قد ولَّى على مصر قيسًا بن سعد بن عبادة وهو من خيرة [الأنصار] ودهاة العرب، وكان في مصر جماعة ﺑ «خربتا» يرون غير رأيه ويطالبونه بدم عثمان ولكنهم معتزلون لا يتحركون لحرب، فرأى قيس من السياسة والدهاء أن يكف الحرب عنهم ويداهنهم لئلا ينضموا إلى معاوية. وكان معاوية قد كتب إلى قيس يستميله ويبذل له الوعود الخلَّابة فلم يجبه، فاصطنع معاوية على لسان قيس كتابًا قرأه على الناس في الشام يوهمهم أن قيسًا معه وأنه لذلك لم يقاتل المعتزلين في خربتا، فبلغ ذلك عليًّا فصدَّق الوشاية في قيس وعزله عن مصر وولى محمدًا بن أبي بكر. ولم يكن لعلي شاغل يشغله بعد وقعة الجمل إلا معاوية وجنود الشام، فرأى أن يبعث إليه يطلب بيعته فبعث إليه جريرًا بن عبد الله البجلي ليطلب منه الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار، فسار جرير إلى الشام فماطله معاوية مدة ريثما أراه حال أهل الشام وما يقاسونه من البكاء والعويل عند قميص عثمان وأصابع نائلة، فرجع جرير بالخبر إلى علي فعلم أن لا بد من الحرب، فسار من الكوفة إلى الشام في جيش عظيم، وقد علم بما تحالف عليه معاوية وعمرو. وسار معاوية وعمرو من الشام يطلبان عليًّا ولكنهما أبطأا السير حتى التقى الجيشان في «صفين»، ودخلت سنة ٣٧ﻫ والجمعان في صفين. وصفين هذه موضع بقرب «الرقة» على شاطئ الفرات الغربي، أمام «الرقة» على الضفة الشرقية. وبين صفين والكوفة نحو ثلاثمائة ميل أو أكثر. هناك نزل الجيشان العظيمان يقودهما أعظم رجال الإسلام ونخبة المهاجرين والأنصار، وفي ذلك السهل الواسع جرت وقعة صفين المشهورة التي قُتِل فيها عشرات الألوف من الرجال، وقد نال فيها علي بن أبي طالب ما ناله في وقعة الجمل من النصر والغلبة. ولكن هل انتظم له الأمر بعدها؟ كلا، فإنها كانت خاتمة انتصاراته على مناظريه في الخلافة وبداية دسائسهم عليه، ولم يكن ذلك لضعف عزيمته ولكنها حيلة دبرها عمرو بن العاص فنفذت فيه، وفشل رجاله وانقسموا فيما بينهم. ••• لبثت أسماء أيامًا وأسابيع عند القسيسة تنتظر عودة القسيس من بيت المقدس فلم يرجع، فحسبت لإبطائه ألف حساب واضطرب بالها ولم ترَ خيرًا من أن تسير هي إليه بنفسها، واستشارت القسيسة في الأمر فاستغربت هذه قلقها وتعجلها رؤية القسيس فقالت لها: «هل تحتاجين إلى القسيس في أمر يدعو إلى كل هذا؟» فتأوهت الفتاة وسكتت وبدت كأنها تريد مكاشفتها بما في ضميرها لعلها تفرج كربتها. فقالت لها القسيسة: «قولي يا ابنتي ما الذي أوجب تنهدك عسى أن أنفعك» قالت: «إني أحتاج إلى القسيس في سر عنده عن أمي لا يعرفه أحد سواه، وقد كانت تعرفه وحدها وباحت به للقسيس، وأما الآن فلم يبقَ غيره عارفًا به.» فأدركت القسيسة أن أمها ماتت فلم تشأ أن تذكرها بها، ولكنها أحبت أن تعرف ما هو موضوع ذلك السر فقالت: «هل يجوز أن أعرف موضوع ذلك السر؟» قالت: «أعترف لك يا سيدتي أني رُبِّيت في دمشق في حجر أمي ورجلٍ كنت أحسبه أبي، فأخبرتني أمي ذات يوم أن الرجل ليس أبي فسألتها عن أبي الصحيح فوعدتني بإطلاعي عليه في فرصة أخرى.» وقصت عليها أسماء قصتها من أولها إلى آخرها. وكانت تتكلم والقسيسة تنظر إليها وتتأمل في ملامحها، فلما فرغت من كلامها تبسمت القسيسة وهشت لها وضمتها وقالت: «لعلك ابنة مريم؟» قالت: «نعم يا سيدتي.» واستأنست بحنوها ومعرفتها اسم أمها فقالت: «وهل تعرفينها؟» قالت: «مسكينة أمك! إني أعرفها جيدًا قبل أن تتزوج، وكانت كثيرًا ما تأتي الكنيسة للصلاة، وكنت أنا يومئذٍ شابة وهي صبية، وكنت أحبها كثيرًا فلا يمضي عيد من أعيادنا الكبرى كالفصح والشعانين والميلاد وغيرها إلا دُعِيت أنا والقسيس إلى مائدة جدَّيْك رحمهما الله! وأذكر أنه كان لأمك أخ جميل الصورة حاد الذهن، كان يأتي معها وأبويهما للصلاة. وظللنا على ذلك حتى جاءنا العرب منذ بضع وعشرين سنة ففتحوا المدينة واستولوا عليها فتفرق شملنا، وكانت أمك قد أصبحت شابة، وهي في مثل حالك جمالًا وذكاءً، ولم أعد أرى جديك، ولكنني سمعت أنهما قُتِلا. أما أمك فأخذوها سبية ولم أعد أراها، إلى أن جاءت في العام الماضي إلى القسيس، وأذكر أني رأيتها وهي داخلة فمكثت عنده برهة وأنا أحسبني أعرفها، ولما خرجت سألت القسيس عنها وقلت: «أليست هذه مريم بنت قسطنطين — وهو اسم جدك؟» قال: «بلى». ولكنني رأيت على وجهه بعد خروجها من عنده أثر الانقباض ورأيت الدمع في آماقه، فاضطربتُ ولم أسأله عن السبب مخافة أن يكون سؤالي تطفلًا لعلمي أن القسيس مستودَع أسرار كثيرين، وقلت في نفسي: «لو كان خبر مريم مما يجوز ذكره لما تأخر عن ذكره.» أما هو فكأنه أدرك قلقي وتشوقي لمعرفة خبر أمك لما يعلمه من رابطة المودة بيننا، فلما جلسنا على المائدة في المساء أخبرني عن قصتها وسبب غيابها عنه كل هذه المدة، وفهمت من خلال كلامه أن الرجل الذي كان معها يومئذٍ ليس أباك وأن أباك رجل آخر.» فقالت أسماء بلهفة: «ألم تعرفي اسم أبي؟» قالت: «كلا، لأني لم أسأله.» فاستأنست أسماء بالقسيسة وازدادت ميلًا إليها، فقالت لها: «بماذا تشيرين عليَّ الآن؟ أأنتظر رجوع القسيس أم أسير إلى القدس فأستطلعه السر؟» فصمتت القسيسة كأنها تفكر في أمر، ثم تغير لونها بغتة وانقبض وجهها ونظرت إلى أسماء والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «أرى أن تذهبي إلى بيت المقدس لأن القسيس أصبح شيخًا هرمًا.» قالت ذلك وغصت بريقها. فأدركت أسماء أنها تخاف انقضاء أجله عاجلًا، فتجاهلت ما بدا من عواطفها وقالت: «ها أنا ذا ذاهبة، والاتكال على الله.» ونهضت فودعت القسيسة وخرجت تلتمس الخان وفيه خادمها والجوادان فأمرت الخادم بالاستعداد، وفي صباح اليوم التالي ركبت وسارت قاصدة إلى بيت المقدس. ••• وكان القسيس مرقس يعرف جدَّيْ أسماء وأسرتها قبل الفتح ويعطف عليها بالتخصيص، فلما تسلَّم السر من أمها شاركها مصابها وازداد عطفًا عليها وود لو استطاع أن يفرج كربتها. فلما جاءته في المرة الأخيرة قبل سفرها إلى المدينة وأخبرته أنها عازمة على كشف أمرها لذوي الشأن هناك، سره هذا ولكنه رآها ضئيلة مريضة فتشاءم وتوقع قرب انقضاء أجلها، فأوصاها بأن تبعث إليه بما يحدث لها، وهو إنما يريد بذلك أن يتحقق من وصولها إلى مأمنها حية. فلما انقضى العام ولم يأته منها نبأ قلق عليها، وكان كلما سمع اسم يثرب (المدينة) يتجدد بلباله ويود لو يرى أسماء ليطلعها على اسم أبيها، ولكنه لم يكن يعرف مقرها. فلبث وهذا شأنه حتى جاء الأمويون بقميص عثمان وأصابع نائلة، وكان ما كان من بكائهم وعويلهم، وعلم ما حدث من الفتنة في المدينة فازداد قلقه وأثر ذلك في صحته، فاضطُرَّ مع كبره وضعفه إلى أن يبرح دمشق إلى مكان يستقر فيه ريثما تهدأ الأحوال. فخطر له الذهاب إلى بيت المقدس لأن له فيها أهلًا يرتاح إلى مجاورتهم، فركب إليها قبل وصول أسماء إلى دمشق، ومكث هناك مدة وهو يزداد ضعفًا، ولم يُجْدِه ترحيب أهله واحتفاؤهم به نفعًا، وأحس بقرب الأجل. فخطر له الشخوص إلى أنطاكية حيث الكرسي البطريركي الذي سِيم فيه قسيسًا، فيرى البطريرك الأنطاكي ويتزود بالأسرار المقدسة على يده قبل الوفاة. واتفق أن سفينة إمبراطورية كانت راسية في مياه عسقلان أنفذها الإمبراطور قونسطانس الثاني ليحمل البطريرك الأورشليمي إلى أنطاكية للبحث مع بطريركها في بعض الشئون الدينية التي كان الخلاف قائمًا عليها في تلك الأيام، وكأن البطريرك الأورشليمي قد علم بعزم القسيس على الذهاب إلى أنطاكية، فدعاه ليسافر معه بحرًا لأن الفصل صيف ولا خوف من الأنواء، والطريق في البر شاقٌّ لما يقتضيه من ركوب الدواب وقطع الجبال والأودية، فسُرَّ القسيس بتلك الدعوة وسار في حاشية البطريرك إلى عسقلان، على أن يسيرا منها إلى أنطاكية في السفينة الإمبراطورية. واتفق وصول أسماء إلى القدس بعد خروج القسيس منها ببضعة أيام، ولما أخبروها أنه قصد أنطاكية استعاذت بالله مما ابتلاها به من النحس في أسفارها، وباتت ليلة وصولها مسهَّدة حزينة لم يجف دمعها لفرط ما تولاها من القنوط، فأصبحت شديدة الاعتقاد بسوء طالعها. على أنها أصبحت في اليوم التالي وقد هدأ روعها وعادت إليها رباطة جأشها، فقالت في نفسها: «لأذهبن إلى أنطاكية على عجل قبل أن يخرج القسيس منها. والاتكال على الله.» فركبت جوادها وسارت والخادم في رفقتها يقوم لها بما تحتاج إليه من الخدمة في السفر، وكانت حيثما توجهت تتنكر بلباس الرجال مخافة أن يعلم مروان بها، ولا ينجيها منه شيء إلا القتل. وكان المسافر من القدس إلى أنطاكية يغلب أن يمر بدمشق، ولكنها جعلت طريقها لبنان. وبعد مسيرة أيام وليالٍ أشرفت على أنطاكية. وكان وصولها قبل طلوع الشمس، والشمس لا تطلع على أنطاكية إلا متأخرة لاحتجابها بجبلها الشرقي. وأشرفت أسماء على تلك المدينة العظيمة أم مدن الشام ومقر بطاركتها، بل هي ثالثة مدائن تلك الأيام (رومية والإسكندرية وأنطاكية)، فأطلت عليها من مرتفع مشرف فإذا هي مستطيلة الشكل على ضفة نهر «العاصي» الجنوبية، وتحدق بها البساتين الغناء وفيها الثمار والفاكهة من كل الأنواع. فدُهِشت أسماء لعظمة تلك المدينة وما فيها من الأبنية الشاهقة، وأكثرها من الكنائس فوقها القباب المزخرفة وفيها الطرق التي لا تكاد تشرق الشمس حتى تغص بالناس. وأذهلها بنوع خاص سورها العظيم وما عليه من الأبراج التي يبلغ عددها ٣٦٠، وله خمسة أبواب. وتتبعت ذلك السور الواسع بنظرها لعلها تحيط بسعة المدينة فرأت أنها تحاول عبثًا، لأن السور يصعد مع الجبل إلى أعلاه ثم ينزل من الجهة الأخرى بحيث يحيط بالمدينة ومزارعها جميعًا، بما تزيد مساحته على بضعة عشر ميلًا مربعًا، فبُهِتت أسماء لتلك المناظر الفخمة. وكان بحر الروم يتراءى لها عن بعد في الأفق كأنه هلال مستطيل. وبعد أن وقفت هناك برهة تتأمل عظمة هذه المدينة تحولت إلى باب من أبواب السور في الشرق، واتصلت منه بالطريق الأعظم الذي يقطع المدينة في طولها من الشرق إلى الغرب، وطوله أربعة أميال وعليه من الجانبين أربعة صفوف من الأعمدة الرخامية تعلوها أقواس جميلة، وفي الوسط طريق واسع مكشوف مرصَّف بالجرانيت، تحدُّه من الجانبين مقاعد من الرخام المنقوش، وهو كله على استقامة واحدة تتفرع منه طرق صغرى من الجانبين، فذُهِلت أسماء لما شاهدته من العظمة والبذخ في أنطاكية مما لم ترَ مثله قبلًا. ومما زاد ذهولها ودهشتها أنها رأت تيجان الأعمدة في ذلك الطريق الطويل محلَّاة بالذهب الخالص، مما يندر مثله في أعظم مدائن الأرض. على أن ذلك المنظر الجميل كان ممزوجًا بما يدعو إلى الأسف الشديد، لما توالى على هذه المدينة من الزلازل التي دكت معظم أبنيتها فشوهت وجهها وغيرت مجرى نهرها، على أن العظمة مع ذلك ما زالت تتجلى فيها. وظلت أسماء سائرة تلتمس دار البطريرك لعلها ترى القسيس هناك، فوصلت إلى بناء شاهق يدخلون إليه من باب عظيم قائم على أعمدة من الرخام، عتبته العليا من الجرانيت الأحمر الجميل وعليها نقوش باليونانية لم تستطع قراءتها، فأطلت من ذلك الباب إلى فناء واسع رُصِّف بالفسيفساء ينتهي إلى سلم عريض يصعدون منه إلى دار رحبة، رأت فيها جماعة من القسيسين والشمامسة وغيرهم يخطرون في مشيهم، وكل اثنين أو ثلاثة منهم في شاغل بالحديث، فقالت في نفسها: «أأدخل؟ ولكن إذا كان القسيس ليس هنا فما الذي يدخلني؟» ثم سألت بعض الوقوف عند الباب عن القسيس مرقس فقال: «لا أعرفه». فتذكرت أنه قادم على سفينة البطريرك الأورشليمي وأنهما يصلان معًا، فسألت عن البطريرك فقالوا: «إنه لم يصل بعد، ولا يُعلَم زمن وصوله لأن السفر في البحر رهين بحالة الجو والريح. وقد يصل بعد يومين أو بعد أسابيع.» وما علمت أسماء ذلك حتى قالت: «لا بد لي إذن من التربص حتى تصل السفينة»، وأمرت الخادم أن يسير بها إلى خان تقيم به. ••• قضت أسماء في الخان أيامًا وهي على مثل الجمر تصعد أحيانًا إلى الجبل للنظر منه إلى البحر لعلها ترى السفينة قادمة، ولكن بُعد البحر من أنطاكية كان كثيرًا ما يحول دون رؤيتها شيئًا، فإذا ملَّت الاصطبار أرسلت خادمها إلى البطريركية يسأل عن القادمين، حتى لم يبقَ لها صبر على البقاء هناك، وشكت سوء طالعها وقالت في نفسها: «لا يبعد أن تكون السفينة قد غرقت بمن فيها لشقائي!» وكانت غرفتها تشرف على الطريق الأعظم، فاستيقظت ذات يوم على ضجيج الغوغاء وجلبتهم، فأطلت من النافذة فرأت جماعات من العرب بالعدة والسلاح سائرين على غير نظام يحمل بعضهم الأعلام وفيهم الفرسان والمشاة، تتقدمهم بعض النساء بالدفوف بين مربع ومستدير يضربن عليها وينشدن الأشعار الحماسية يحرضن بها الرجال وينهضن هممهم. فعلمت أسماء أنهم من جند أنطاكية ولكنها لم تفهم معنى جلبتهم، فنادت الخادم فلم يجبها لأنه كان قد انخرط في سلك المارة يحادثهم ويستفهم عما هم فيه. وبعد قليل عاد مسرعًا والبغتة بادية على وجهه، فقالت: «ما وراءك؟ من هؤلاء؟» قال: «جماعة من جند أنطاكية سائرون لنجدة جند الشام في صفين.» فقالت: «على من؟» قال: «على جند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.» فقالت بلهفة: «وهل هم في حرب هناك؟!» قال: «نعم يا سيدتي، إنهم هناك من زمن بعيد، وبعض الذين حدثتهم يزعم أنه شهد معركة حامية هناك انكسر فيها جيش الإمام.» ولم يتم كلامه حتى اقشعر بدن أسماء وصعد الدم إلى وجنتيها غيرة وحمية، وقالت: «أين هي صفين؟» قال: «على بضع مراحل من هذا المكان شرقًا.» فلبثت في حيرة بين أن تظل في أنطاكية حتى يصل القسيس، وبين أن تسير إلى صفين وترى ما وقع لجند الإمام، فظلت صامتة برهة فتركها الخادم وخرج، أما هي فقالت في نفسها: «إن انتظاري سفينة قادمة في هذا البحر قد يطول كثيرًا لأن سفر البحر لا حدود له، وقد ينتهي انتظاري بالفشل إما بغرق المركب وإما بموت القسيس قبل وصوله.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها حزنًا على حالها وغيظًا مما أحدق بها من سوء الطالع فبكت، ثم عادت إلى تفكيرها فقالت: «وأما الحرب في صفين فإن عليها تتوقف سعادة المسلمين أو شقاؤهم، وما أنا خير من أحدهم ولا بد لي من الإسراع إلى هناك عسى أن أؤدي خدمة لعلي، أو أُقتَل في ساحة الوغى فأنجو من البلاء.» ثم نادت الخادم وقالت: «أسرع إلى دار البطريرك واسأل عن القسيس مرقس، فإن علمت أنه لم يأتِ فعد حالًا وأسرج الجوادين وأعد معدات السفر.» فخرج الخادم، وبعد قليل عاد ومعه بعض الزاد مما لا غنى عنه في الطريق، وأخبرها أن السفينة لم تصل ولا يُعلَم زمن وصولها، وأنه أعد ما تحتاج إليه في الطريق. فقالت: «نذهب إلى صفين، حتى إذا انقضت الحرب وظللنا على قيد الحياة عدنا إلى أنطاكية، وإلا فعلى الدنيا السلام.» ولم تمضِ ساعة حتى ركبت أسماء وركب خادمها في أثرها، وخرجا من المدينة فالتقيا بالنجدة سائرة أمامهما. ففكرت أسماء فيما تستطيع أن تخدم به الإمام علي وهي يد واحدة لا تفيد في القتال فائدة تُذكَر، فلاح لها أن تخدمه في استطلاع حال العدو وكشف عوراته ومخبآته، ولا يتم لها ذلك إلا إذا اختلطت بجند الشام، وذلك لا يكون إلا إذا تنكرت وانخرطت في سلكه. وقضت مسافة الطريق وهي تفكر في الأمر، وسبقت نجدة أنطاكية فأطلت في صباح الخميس بعد بضعة أيام على سهل صفين من جبل عالٍ، فهالها ما شاهدته في ذلك السهل من الخيام والأعلام والجند والخيل والجمال، ولم يكن في ذلك الحين قتال. فرأت هناك معسكرين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب وبينهما ساحة خالية، فعلمت أنهما معسكرا علي ومعاوية في هدنة، وشاهدت الجمال سارحة في المرعى وراء الخيام ومعها العبيد ترعاها. وتأملت معسكر الشام لأنه أقرب إلى موقفها من ذاك، فرأت في وسطه قبة كبيرة حولها الرجال والخيول فعلمت أنها قبة معاوية أمير تلك الحملة. وما كادت تتأمل في المعسكرين برهة حتى رأت فيهما حركة وقد تهيئوا جميعًا للقتال، والتحم الجيشان وتطايرت النبال وصهلت الخيول وخفقت الأعلام وصاح الفرسان من الجانبين، فلم ترَ بدًّا من العمل فقالت لخادمها: «أعطني ثيابك وخذ ثيابي، وابقَ أنت هنا بالجوادين.» ارتدت أسماء ثياب خادمها فأصبحت تشبه رجال حملة أنطاكية، ثم انتظرت حتى وصل جنود النجدة فانخرطت في سلكهم وسارت مع المشاة لا ينتبه إليها أحد، حتى دخلت معسكر معاوية والحرب محتدمة وكل لاهٍ بنفسه. وما زالت تخترق صفوف المقاتلين وهي تتظاهر بالقتال معهم، حتى وصلت إلى قبة معاوية فرأت خمسة صفوف من الرجال قد عقلوا أنفسهم بالعمائم حولها للدفاع عن معاوية بحيث لا يستطيع أحد أن يفر وحده. فعلمت أنهم متفانون في سبيل نصرته أو يُقتَلون في الدفاع عنه، وتفرست من خلال الصفوف فرأت معاوية وإلى جانبه عمرو بن العاص، وكلاهما في وجل وعيونهما تكاد تطير شعاعًا تطلعًا لما سيكون من عاقبة تلك الوقعة، وهما يحثان الرجال على الدفاع ويحرضانهم على الثبات، والنبال تتطاير كأنها الجراد في السحاب. فاحتالت أسماء في الدخول إلى قبة معاوية، فرأت فارسًا جاء مسرعًا ودخل من شق بين تلك الصفوف، فدخلت في أثره ودخل غيرها أيضًا فلم ينتبه لها أحد، فسمعت معاوية يسأل الفارس عما به، فقال: «إن وطأة العدو شديدة، ولكننا سنغلبهم بإذن الله.» ونظرت أسماء إلى وجه عمرو بن العاص فإذا هو ممتقع، وقد بان الخوف فيه وفي وجوه معاوية ومن معهما من الأمراء. ثم رأت ابن العاص خرج مسرعًا فركب فرسه وسار يخترق الصفوف يحث الرجال ويحرضهم، فظلت واقفة في جملة الوقوف وقد سُرَّت بما رأته من شعور معاوية بقوة رجال علي. وبعد هنيهة عاد عمرو واختلى بمعاوية فلم تسمع أسماء ما دار بينهما، ثم عادا إلى فرسيهما يشرفان على المعركة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/19/
الهدنة والتحكيم
وأصبحوا يوم الجمعة والقتال على أشده، وقد تقهقر جند معاوية حتى وصل رجال علي إلى الصفوف المعقولة حول القبة، فالتفت معاوية إلى عمرو وقال: «ما الحيلة يا عمرو؟» قال: «ارفعوا المصاحف على الرماح وقولوا: «كتاب الله بيننا وبينكم»، فإن قبلوا ذلك جميعًا ارتفع القتال عنا، وإذا قبل بعضهم دون البعض الآخر تفرقوا وانقسموا على أنفسهم، فيكون لنا بانقسامهم فرج.» فلما سمعت أسماء ذلك خافت أن يُخدَع رجال علي، فهرولت مسرعة تخترق الصفوف وقلبها يخفق فرحًا لأنها تمكنت من القيام بهذه المهمة، لأنها واثقة من فشل جند معاوية وأن النصر لعلي إذا ظل على القتال، أما إذا صدق حيلة عمرو فإنه يضيع الفرصة السانحة. أما علي فكان قد قاتل ببسالة طوال نهاره وليله وقد تحقق فوز جنده، وظل يطوف في صفوفهم يحثهم على الثبات ويدعو لهم بالنصر إلى أن عاد في الصباح إلى فسطاطه، فجاءه مخبر بأن أهل الشام رفعوا المصاحف على الرماح وهم يقولون: «هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم. من لثغور الشام بعد أهله؟ ومن لثغور العراق بعد أهله؟» فلما سمع علي كلامهم قال: «لا نجيبهم إلى ذلك فهي حيلة لا تنطلي علينا.» فجاءه نفر من رجاله وقالوا: «بل نجيبهم إلى كتاب الله.» فوقف علي وقد خاف الفتنة وقال: «عباد الله، امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيبًا وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالًا ثم رجالًا فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم! والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنًا ومكيدة!» فقالوا: «لا يسعنا أن نُدعَى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.» فقال: «فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه.» فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصبة من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: «يا علي، أجب إلى كتاب الله — عز وجل — إذا دُعِيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان.» قال: «فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.» قال ذلك وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا، وفيما هو في هذا انشق الجمع وخرج من بينهم جندي لم يكن سوى أسماء، وقد وصلت وسمعت الناس يحاجُّون عليًّا، فهرولت حتى وقفت بينهم وبين علي وثارت الحمية في رأسها وعلى وجهها احمرار التعب من شدة العدو، فضلًا عما قام في نفسها من الأسف لتلك الحال، فأسفرت وحيَّت الإمام بتحية الخلافة والتفتت إلى الوقوف هناك وقالت لهم: «اعلموا أني قادمة من معسكر معاوية، وقد سمعت حديثهم عن الحيلة بأذني، وإنما جئت مسرعة مخافة أن تنطلي الحيلة عليكم وتكفوا عن القتال. إنها والله خديعة اخترعها ابن العاص ليلقي الشقاق بينكم! وأخشى أن تنفذ حيلته فيكم، فأطيعوا أمير المؤمنين وأنتم الغانمون.» فضحكوا من كلامها وقالوا: «كيف نُدعَى إلى كتاب الله ولا نجيب؟! هذا لا يكون أبدًا!» ثم وجهوا كلامهم إلى علي وقالوا: «ابعث إلى الأشتر فليأتك.» وكان الأشتر النخعي من أشجع قواد تلك الحملة وقد أبلى في تلك الحرب بلاءً حسنًا، وكان لا يزال يحارب، وهم إنما طلبوا استقدامه ليكف عن الحرب. فبعث إليه فلم يأتِ لأنه رأى الفوز بين يديه، فإذا تحول عن موقفه فسدت أعماله. فلما أبطأ قال أولئك الناس لعلي: «نظنك أمرته بالحرب، فابعث إليه وإلا والله اعتزلناك»، فبعث إليه ثانية فجاء وهو يقول: «أظنكم تدعونني إلى الكف عن القتال بعد رفع المصاحف؟!» ثم أقبل وهو يقول: «يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين غلبتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أُنزِلت عليه؟! فأمهلوني فُوَاقًا فإني أحسست بالفتح!» ولكنهم لم يمهلوه. قال: «أمهلوني عَدْو الفرس فإني قد طمعت في النصر!» قالوا: «إذن ندخل معك في خطيئتك.» قال: «فخبروني عنكم متى كنتم محقين، أحين تقاتِلون وخياركم يُقتَلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلِون. أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم منكم في النار.» قالوا: «دعنا منك يا أشتر، قد قاتلناهم لله وندع قتالهم لله.» قال: «خُدِعْتم وانخدعتم، ودُعِيتم إلى وضع الحرب فأجبتم! يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زَهادة في الدنيا وشوقًا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا قبحًا! يا أشباه النِّيب الجلَّالة، ما أنتم برائين بعدها عزًّا أبدًا، فابعدوا كما بَعُد القوم الظالمون!» فسبُّوه وسبَّهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه. فصاح به وبهم علي: «كفُّوا!» وقال الناس: «قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حَكَمًا.» وطال الأخذ والرد بينهم، وأسماء واقفة وقلبها يكاد ينفطر جزعًا من عناد أولئك المخالفين، فلما سمعت قبولهم إجابة الدعوة تناثرت الدموع من عينيها، والتفتت إلى علي فإذا هو مطرق وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا كأنه يرى عاقبة ذلك بعينه، فتعاظم غيظها وأرادت تأنيب المستخلفين ثم أحجمت ولبثت ترقب ما يكون. ••• وتقدم رجل من خاصة علي، فقال: «نرى الناس قد قبلوا ما دُعُوا إليه من حكم القرآن، فهل تأذن في أن نسمع ما يدعونا معاوية إليه من هذا الأمر؟» قال علي: «سر إليه واسأله.» فذهب ثم عاد وهو يقول: «سألت معاوية عما حمله على رفع المصاحف، فقال: «الرجوع إلى ما أمر به الله في كتابه، فابعثوا رجلًا ترضون به ونبعث نحن رجلًا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يتعديانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه.» فقال علي: «قبلنا، فأي رجل اختاروا؟» قال: «اختاروا أن ينوب عنهم عمرو بن العاص.» فالتفت علي إلى من حوله وقال: «ومن تختارون أنتم؟» قالوا: «نختار أبا موسى الأشعري.» فأجفل علي وقال: «لا! لا! إنكم لم تصيبوا، وقد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن. لا أرى أبا موسى كفئًا لابن العاص، وهو مع ذلك ليس بثقة، فقد فارقني وخذَّل الناس عني، ثم هرب مني حتى أمَّنته بعد أشهر. فكيف نركن إليه في هذا التحكيم؟! هذا ابن عباس أوليه ذلك.» فصاحوا بصوت واحد: «والله لا نريد إلا رجلًا هو منك ومن معاوية سواء!» قال علي: «فإني أجعل الأشتر.» قالوا: «وهل سَعَّر الأرض غير الأشتر؟» قال: «قد أبيتم إلا أبا موسى؟» قالوا: «نعم». قال: «افعلوا ما أردتم!» وكانت أسماء تسمع الجدال وهي تتميز غيظًا، ولكنها لا تجرؤ على الكلام تهيبًا من علي. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضَى عليٌّ على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضَى معاوية على أهل الشام ومن معهم؛ أننا ننزل عند حكم الله وكتابه وألا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، عملا به. وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المُفَرَّقة.» وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على نفسيهما وأهليهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يردانها في حرب ولا فرقة حتى يُعصَيا. وأُجِّل القضاء إلى شهر رمضان، وإن أحبَّا أن يؤخرا ذلك أخراه. وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام. وقد كُتِب هذا العقد في ١٣ صفر سنة ٣٧ﻫ. ولما تمت الكتابة تُلِي العقد على الناس، وانفض المجلس ولجأ الجنود إلى الهدنة ريثما يحل الأجل المضروب لمجلس التحكيم. وتراجع الناس عن صفين وهمَّ عليٌّ بالنزوع إلى الكوفة، فجاءته أسماء في ساعة كان فيها مختليًا، وقبَّلت يده فسألها عن حالها وما تم لها بعد سفرها، فقصت عليه خبرها وما حملها على القدوم قبل مقابلة القسيس، فأثنى على غيرتها ودعاها إلى الذهاب معه إلى الكوفة. فقالت: «حبذا الأمر! ولكنني أقرب الآن إلى أنطاكية مني إلى الكوفة، فأْذَن لي بالذهاب إليها فقد آن لي أن أعرف نسبي.» فأطرق علي برهة يتأمل، فخافت أن يكون في شاغل آخر فودعته وخرجت على أن تعود يوم التحكيم لتسمع حكم الحكمين. وكان المسلمون في انتظار ذلك اليوم لأنه سيكون عظيمًا، ولم تفتقد محمدًا لأنها علمت أنه في مصر يتولى أمورها. ••• عادت أسماء إلى الجبل حيث تركت جوادها وخادمها وخلعت ثيابها وركبت إلى أنطاكية لا تستريح ليلًا ولا نهارًا. فأشرفت عليها من جبلها الشرقي، وأطلت على البحر فلمحت شيئًا كأنه سفينة حجبها البعد عنها، فخفق قلبها سرورًا وهبطت من الجبل، حتى إذا دنت من المدينة سمعت دق الأجراس دقًّا بطيئًا متقطعًا، فقالت في نفسها: «لعلهم يحتفلون بقدوم البطريرك.» ولكنها لم تكد تسير في الطريق الكبير حتى رأت الناس محتشدين يتقدمهم رهط من الأكليروس بالمباخر، فعلمت أنه احتفال بجنازة. ولا تسل عن حالها لما علمت أنها جنازة القسيس مرقس، وقد مات بعد وصوله إلى أنطاكية بيومين، فإنها لطمت وجهها وندبت سوء حظها، وذهبت توًّا إلى الخان وأقفلت باب غرفتها وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجعلت تعدد ما أصابها من الإحن منذ ولادتها، وكم قاست من المصائب! وكم عانت من الأخطار! حتى إذا دنا وقت سعادتها وآن لها أن تعرف أباها داهمها القدر بالفشل الذريع. وتذكرت مروان وما قاست من البلاء بسببه، وتذكرت عذابها في الصحراء بين مكة والبصرة، وما قاسته على أثر ذلك. وغرقت في تيار هواجسها، وتحققت سوء حظها، وتمنت أن تموت فتخلص من العذاب. ولما تمنت ذلك أجفلت وندمت لأنها تصورت محمدًا وحبه لها وما ترجوه من السعادة بقربه، فقالت: «لا، لا أموت بل أحيا لأجل حبيبي وأقصى مرادي، وهو تعزيتي الوحيدة في هذا العالم. فإذا خسرت الدنيا كلها وفاتني كل نعيمها وحصلت على محمد بن أبي بكر، فذلك يكفيني.» وبعثت خادمها يستطلع مكان التحكيم وزمانه، فأنبأها أنه سيكون في «أذرح» في أطراف الشام من أعمال السراة بنواحي البلقاء وعمان في زمن معلوم، فلما دنا الأجل تنكرت وسارت تلتمس أذرح والخادم معها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/20/
حكم الحَكَمَيْن
ولما جاء الأجل المعين لتلاوة حكم الحكمين بعث عليٌّ أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل ومعهم عبد الله بن عباس، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، والتقوا بأذرُح. وكان عمرو بن العاص قد استعان بكل دهائه في إقناع أبي موسى بأن يوافقه على خلع علي وتولية معاوية لأنه المطالب بدم عثمان، فلما لم يفلح ذكر له تولية أحد أبناء الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير. وبعد جدال عنيف اتفقا على خلع عليٍّ ومعاوية، وأن يختار المسلمون واحدًا غيرهما بالشورى. وكان من دهاء عمرو أنه ما زال يدافع أبا موسى في الكلام، حتى طلب هذا خلع الاثنين فأصبح هو البادئ في الكلام عند إصدار الحكم. فلما جاء اليوم المعين واجتمع الناس من الأقطار، وصلت أسماء أيضًا في ذلك اليوم. فوقفت بين الناس بحيث لا يعرفها أحد، فرأت أبا موسى وابن العاص في مجلس علي، وبقية الناس في جانب آخر كأن على رءوسهم الطير ينتظرون ما يكون من الحكم. فوقف أولًا أبو موسى فأصغى الناس لمقاله، فقال بصوت عالٍ يسمعه الحاضرون: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نرَ أصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية ويولي الناس من أمرهم من أحبوا. وإني قد خلعت عليًّا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتموه أهلًا.» وكان لقوله وقع عظيم ولبث الناس ينتظرون قول عمرو، فإذا هو قد وقف وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه (عليًّا)، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والمطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.» فلما سمع أصحاب علي قوله علموا أنها حيلة من عمرو وغفلة من أبي موسى ووبَّخوا أبا موسى وأنَّبوه، فقال: «ما العمل فقد غدر بي؟!» وأما أسماء فلما سمعت القولين علمت أن معاوية قد اشتد ساعده، وأن رجال علي لا بد أن ينقسموا بين من يقبل الحكم ومن لا يقبله، فلم تستطع صبرًا على البقاء هناك فخرجت من بين الجمع لا تلوي على شيء وقد صغرت نفسها. وما زالت سائرة والخادم معها حتى أتت شجرة منفردة في الصحراء فاستظلت بها وشغلت الخادم بتدبير الجوادين، وخلت إلى نفسها وجعلت تفكر في حالها وما أصابها من الفشل المتوالي من كل صوب وحدب، ولا سيما موت القسيس وضياع اسم أبيها وفشل رجال علي وخروج الخلافة من يده بحكم الحكمين. فغلب عليها اليأس فلم ترَ لها فرجًا إلا بالبكاء والنحيب، فنظرت إلى ما حولها فإذا هي منفردة وليس من يسمع بكاءها، فأطلقت لدموعها العنان حتى كاد يُغْمَى عليها. وما زالت تشهق وتزداد شهيقًا كلما ذكرت عليًّا أو أمها أو محمدًا حتى تعبت وجف دمعها فألقت رأسها على حجر ونامت، ولكنها لم تستغرق في النوم إذ تراءى لها طيف محمد، فأفاقت مذعورة وهي تقول: «أهلًا بحبيبي، لا تعزية لي إلا به. إنه في مصر الآن، هل من يعلمه بما حل بأمر الخلافة، وأن ابن العاص قد كاد فيها كيدًا عظيمًا؟! آه يا محمد! هل من حيلة تخدم بها عليًّا رجل هذه الأمة؟! لا أظن الأمر بعد الآن إلا صائرًا إلى معاوية. أما أنا المسكينة اليتيمة المجهولة النسب والتعسة الحظ، فربما كنت أنا وحدي سبب هذا البلاء، وربما كان سوء طالعي هو الذي جر كل هذه المصائب!» وسكتت هنيهة ثم انتبهت بغتة وهي تقول: «محمد! محمد! أنت تعزيني في أحزاني ومصائبي، هلمَّ بي إليك لأعيش بقربك فأنت الأب والأخ.» وفيما هي تخاطب نفسها لمحت الخادم عائدًا بالجوادين وهو يسرع نحوها، فقالت: «ما وراءك؟» قال: «التقيت وأنا أسرج الجوادين بشرذمة من رجال الشام ركبوا مسرعين وفيهم عمرو بن العاص وكلهم فرحون بما نالوه، وسمعت ابن العاص يقول: «لقد استقام لنا الأمر، ولم يبقَ إلا أن أفتح مصر فإذا دانت لي عدتُ إلى ولايتها، ولا يبقى في يد علي إلا العراق والحجاز فنجرد عليهما ونفتحهما.» فلما سمعت ذكر مصر وفتحها اضطربت وتذكرت محمدًا فيها، فقالت في نفسها: «أذهب إلى مصر الآن وأرى ما يئول إليه أمرها.» ثم التفتت إلى الخادم وقالت: «وما ظنك في مسيرهم إلى مصر؟» قال: «لا أدري متى يسيرون، فلا بد لهم من الشخوص إلى الشام وتدبير أمورهم ثم يحملون على مصر.» فلبثت مدة تتردد ولا تدري هل تسير إلى مصر لترى محمدًا أم تسير إلى الكوفة لترى عليًّا وما آل إليه أمر خلافته. ولم ترَ بدًّا من المسير إلى مصر، فأسرعت إلى جوادها فركبته وقد يئست مما أصابها من الفشل، وسارت تعلل نفسها بلقاء محمد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/21/
عمرو يعود إلى القاهرة
مر بنا ما كان من اجتماع دعاة عثمان في مصر وعزل قيس بن سعد عنها بما دبره معاوية من الحيلة حتى أفسد ما بينه وبين علي، ثم ما كان من تولية محمد بن أبي بكر، فلما تولاها محمد بعث رجلًا من خاصته لحرب أهل خربتا القائمين بدعوة عثمان، فقتلوه وتعاظم أمرهم وفسدت مصر كلها على محمد. فبلغ ذلك عليًّا فقال: «ما لمصر إلا أحد الرجلين.» يعني قيسًا أو الأشتر، وكان قد عزل قيسًا فلم يرجع إليه، فبعث إلى الأشتر وكان قد عاد بعد صفين إلى عمله في الجزيرة، فلما جاءه أخبره خبر مصر وقال: «ليس لها غيرك فاخرج إليها، فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك.» فخرج الأشتر شاخصًا إلى مصر، وأتت عيون معاوية إليه بذلك فعظم الأمر عليه، وكان قد طمع في مصر لكثرة خيراتها ليستعين بها على أعماله وحروبه، وعلم أن الأشتر إن قدمها فسيكون أشد عليه من محمد بن أبي بكر. وكان على حدود مصر يومئذٍ بلدة اسمها القلزم بالقرب من مكان السويس، يغلب أن يمر بها القادم من الشام إلى مصر، وكانت القلزم هذه في حوزة معاوية. فبعث معاوية إلى صاحب خراجه في القلزم يخبره بمسير الأشتر إلى مصر، وقال له: «فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيتُ وبقيتَ.» فلما مر الأشتر بالقلزم استقبله صاحب خراج معاوية فعرض عليه النزول فنزل عنده، وأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سمًّا فلما شربها مات، فظلت مصر بإمرة ابن أبي بكر. فازداد طمع معاوية فيها وهو يرجو منها خيرًا، فاستشار ابن العاص فقال: «عليَّ بها، إني فاتحها الأول، ومن أولى بها مني؟» وجرد جيشًا كبيرًا وسار قاصدًا مصر، فلما علم محمد بحملته بعث إلى الإمام يستنجده، وعلمت أسماء بذلك فسارت إليها كما تقدم. وكان محمد لم يرَ أسماء منذ افترقا في البصرة يوم خرج مع أخته أم المؤمنين إلى مكة، على أنه علم بما دار بينها وبين الإمام علي على أثر وقعة الجمل في شأن خطبتها للحسن، إذ أخبره الحسن نفسه بذلك وهو لا يدري أنه مناظره عليها. وقد سُرَّ محمد مما قاله الإمام علي من أن غموض نسبها يمنع الحسن من زواجه بها، كما سره تحققه من بقاء أسماء على عهده، وأخبره الحسن أيضًا أنها سارت إلى بيت المقدس لمعرفة اسم أبيها. ولكنه نظرًا إلى اشتغاله بإمارة مصر وما أحاط بها من المشكلات وما قام فيها من الثورات المتوالية، التي أضرم نارها دعاة عثمان في خربتا وغيرها؛ لم يتمكن من مكاتبتها. ولكنه كان يسأل عنها ويتحسس أخبارها، فكان تارة يعرف مقرها وطورًا لا يعرفه، وآخر ما علمه أنها كانت في مجلس الإمام علي يوم خالفه أصحابه في قبول التحكيم، وسمع ما أظهرته هناك من الحمية، فتذكر حديثها وتصورها أمامه تشير بيدها وتتكلم وتتهدد، فارتاح لتلك الذكرى واشتاقت نفسه للقياها. على أنه عاد فتذكر ما رآه الإمام علي من حيلولة غموض نسبها دون اقتران الحسن بها، فقال في نفسه: «إذا عرفت أباها كان أمرها إشكالًا فإن الحسن لا يتخلى عنها، وإذا أرادها الحسن وطلبها له أبوه فكيف أطلبها أنا؟» فلما تخيل ذلك عظم عليه الأمر، وتمنى لو بقيت على جهلها نسبها فتكون أقرب إليه، وصورت له الغيرة أن حرمانهما معًا منها خير من أن يأخذها أحد غيره. وما زال يردد هذه التصورات في ذهنه حتى جاءه كتاب منها بموت القسيس وضياع السر، وقد أشارت فيه إلى رغبتها في المعيشة معه بوصفها أختًا أو صديقة، فتحقق صدق مودتها وبقاءها على العهد فسُرَّ سرورًا عظيمًا، ولبث ينتظر عودتها وهو يكرر تلاوة الكتاب وقد استأنس به لأنه هاج أشجانه بعد أن طال زمن الفراق، وكان كلما تلا الكتاب تصور أسماء واقفة بين يديه تخاطبه ويخاطبها. ولكن استئناسه بوجودها لم يطل لاشتغاله بمهام الحرب، فبينما هو ذات يوم في الفسطاط عاصمة الديار المصرية في ذلك الحين إذ جاءته عيونه بخبر أهل الشام، وأنهم حاملون عليه بقيادة عمرو بن العاص. وكان عمرو قد كاتب محمدًا يطلب إليه التسليم، فأرسل محمد الكتاب إلى علي يستنجده فكتب إليه علي أن يجمع شيعته ويندبهم للقتال ووعده بإنفاذ الجيوش لنجدته. فأخذ محمد في التأهب بمن عنده من الرجال، فجهز كنانة بن بشر في ألفين وسار هو في أثره بألفين. أما عمرو فإنه دخل مصر من الشرقية وجعل يسرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة وكنانة يلقى كتائبه ويفرقها، حتى كاد الفشل يحيط بجنود الشام لو لم تأتهم نجدة قوية بقيادة معاوية بن حديج فاشتد أزرهم. أما جند مصر فلم تأتهم نجدة لتقاعد العراق عما دعاهم إليه علي، ولكنهم حاربوا حربًا شديدة دافعوا فيها دفاع الأبطال، ونزل كنانة عن فرسه وما زال يقاتل حتى قُتِل. ••• سارت أسماء من الكوفة وكانت كلما تقدمت نحو مصر ازداد قلقها على محمد، وكانت قادمة وحدها على جوادها فاضطرها ذلك إلى المسير بجوار المدن استئناسًا بالناس ومخافة العطش، فسارت على ضفاف الفرات ثم تحولت إلى الشام حتى وصلت إلى دمشق، فسمعت هناك بمسير حملة عمرو فسألت عما حدث بعد ذلك، فعلمت أنه بعث يستنجد معاوية وأن جيش مصر غالب فسُرَّت، ولم تمكث في دمشق إلا ريثما استراحت وركبت تطوي الصحراء إلى مصر. ولما دنت من العريش وقيل لها إنها على حدود مصر، تذكرت ما قاله رئيس دير البصرة عن أمها وأنها ولدتها في مصر حيث عرفت يزيد هناك، فهاجت أحزانها ولكن تفكيرها في محمد شغلها عن كل ذلك. ولما دخلت مصر مرت أولًا بالفرما، وهي مدينة كانت فيما يجاور بورسعيد الآن، وما كادت تصل إليها حتى أخذت تسأل عن أمر الحرب بين محمد وعمرو، فأخبروها أن ابن العاص جاءته النجدة بعد أن كاد يفشل. ولحظت من خلال حديث القوم أنهم على دعوة عمرو وأنهم ميالون إلى معاوية، فانقبضت نفسها وخرجت من الفرما لا تلوي على شيء، وبحثت عن مكان القتال فقالوا إنه في ضواحي الفسطاط فجدَّت في السير. وكانت في كل سفرها لا تنام في الليل إلا قليلًا حتى وصلت إلى بلبيس، فرأت أهلها في هرج ورأت جماعة من الناس يدخلونها وفيهم من ربط يده أو شد زنده أو عصب رأسه، فعلمت أنهم عائدون من القتال فاضطربت وسألت في ذلك فقالوا: «إن جنود الشام تكاثروا بمن انضم إليهم من أهل مصر الذين هم على دعوة عثمان وقد بايعوا معاوية وهو بعيد، وإن كنانة بن بشر قُتِل وتشتت جند مصر.» فسألت عن محمد فلم ينبئها بخبره مخبر، فاختلج قلبها في صدرها وقالت: «ومتى كان ذلك؟!» قالوا: «كانت الوقعة أول من أمس، وقد دخل عمرو الفسطاط.» وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلم تستطع صبرًا، فركبت وقصدت إلى مكان الوقعة وعيناها تحدقان فيما أمامها لا تبالي ما يهددها من الخطر. وسدل الليل نقابه فلم تعد تستطيع النظر إلى بعيد، وخافت أن تضل الطريق ففكرت في الأمر وهي سائرة الهوينى وقد تهيأت للدفاع بسلاحها إذا اعترضها عدو، فلما لبثت أن رأت القمر قد بزغ فتلقته بالترحيب وأحست عند رؤيته بانفراج الأزمة، ولكنها رأت بعضه ناقصًا وهو قبيل ربعه الأخير، فخُيِّل إليها لفرط انشغالها بأمر الحرب أنه خارج من المعمعة وقد شطب وجهه بالسيف. ولما طلع القمر استنارت وجَدَّت في السير تلتمس الفسطاط، وكانت لما خرجت من بلبيس ترى بعض المارة قادمين إليها أفرادًا وأزواجًا، ولكنها لم تكد تبعد عنها حتى خلت الطريق من الناس، فظنت نفسها سائرة في طريق لا تؤدي إلى الفسطاط، فوقفت وتبينت الجهات جيدًا فرأت أنها أخطأت الجهة والتفتت فلم ترَ أمامها إلا صحراء قاحلة، فرجعت يمينًا حتى أصبحت في أرض زراعية وسارت نحو الجنوب، والقمر إلى يسارها يعلو رويدًا رويدًا حتى أصبح يريها الأشباح عن بعد، ووادي النيل أرض منبسطة لا جبال فيها ولا أودية. ومضى معظم الليل وهي جادة في سيرها حتى تعبت وجاعت وأحست بالبرد يقرسها، وهو شديد في مصر بعد منتصف الليل حتى في إبان الصيف. فترجلت ومشت لتدفأ، وقادت جوادها والجو هادئ والأرض خالية من الناس لا تسمع غير وقع حوافر جوادها وصهيله. وبينما هي ماشية تفكر في شأنها إذ سمعت جوادها يصهل وقد أجفل، فالتفتت إلى ما أجفله فرأت شبحًا منطرحًا أرضًا وشمت رائحة منتنة، فدنت من الشبح فإذا هو جثة قتيل جائفة فخفق قلبها وعلمت أنها على مقربة من مكان الوقعة، فتجلدت وقد شعرت منذ رأت تلك الجثة بارتعاش نسبته إلى البرد، وما هو في الحقيقة إلا نتيجة ما طرق ذهنها من التصورات المرعبة عن محمد. ومشت والجواد وراءها والروائح تتعاظم، ثم رأت جوادها أجفل ثانية إجفالًا عظيمًا من جيفة جواد وراءها جيف كثيرة تطايرت عنها الكواسر، وقد حلَّقت في الجو وصفَّقت في طيرانها تصفيقًا زاد الفرس إجفالًا، فارتبكت في أمرها. وهي تود البحث بين الجيف مخافة أن يكون محمد بينها والجواد يمنعها بإجفاله وصهيله، فعمدت إلى شجرة ربطته إليها وعادت وقلبها يخفق وركبتاها ترتعدان وعيناها تحدقان في تلك الساحة وفيها الجثث مبعثرة هنا وهناك، وبين القتلى من استلقى على ظهره وبسط ذراعيه كأنه يستقبل شيئًا يستغيث به وقد جعله البلى جلدًا على عظم وأكلت بعضه النسور، ومنهم من انبطح على بطنه وقد قبض بإحدى يديه على رمح وبالأخرى على التراب، ورأت هناك رءوسًا مدحرجة وجثثًا بلا رءوس تراكم بعضها فوق بعض. وواصلت سيرها وهي تجر نفسها جرًّا بين تلك الجيف، وتحاذر أن تدوس على يد أو رجل أو رأس وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا تكاد تسمعه، ولو تأتَّى لها أن تنظر إلى وجهها في مرآة لرأته أشد امتقاعًا من تلك الجثث. وتعبت من التفرس في الوجوه والثياب وأثَّرت تلك الرائحة الكريهة في رأسها مع ما كانت فيه من التعب والجوع، فأصابها دوار وخافت أن تسقط فوق القتلى فتداركت نفسها وتنحَّت إلى الشجرة التي ربطت جوادها إليها، وجلست هناك وأسندت رأسها إلى جذعها تلتمس الراحة، ولكن أفكارها ظلت تائهة ولم تبرح صورة محمد مخيلتها. ولم تكد تلقي رأسها حتى غلب عليها النعاس فأغمضت جفنيها، فتمثل لها محمد مقتولًا فارتعدت فرائصها ونهضت مذعورة. وبينما هي تنهض رأت الفرس يمد رأسه إلى الأرض فالتفتت فرأته لفظ شيئًا مضغه بين أسنانه، فسمعت له صوتًا كصوت القصبة إذا كُسِرت بين الأضراس، ثم ما لبثت أن رأت الفرس يلفظ تلك الهناة فلمحت فيها شيئًا أبيض، فتناولته فإذا هو قصبة فيها رق فتبينته فإذا هو كتابها إلى محمد ما زال في قصبته كما أرسلته إليه. فهاجت شجونها وتحققت أن محمدًا كان في الوقعة والقصبة معه فسقطت من ثيابه في أثناء القتال، وساءلت نفسها: «أين هو؟!» وكانت قد يئست من وجوده هناك، وفي ذلك اليأس فرج لأنها تحققت نجاته من تلك الوقعة، فلما وجدت كتابها خافت أن يكون محمد قد قُتِل هناك فعادت إلى الجثث تبحث فيها. وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو وظهر ما أمامها جليًّا واضحًا كأنها تنظر إليه في رابعة النهار، وكانت لا تحتاج في بحثها عن محمد إلى إمعان نظر، فلو لمحت طرف ثوبه أو بعض عمامته عن بعد لعرفته لأن صورته نصب عينيها، ولكن الأثواب والعمائم تتشابه فلا تسل عن خفقان قلبها كلما رأت شبحًا يشبهه. ••• وما زالت على تلك الحال حتى لاح الفجر وتبينت الوجوه فدارت بين القتلى تجدد البحث، فطلع الفجر وهي تجول وتتفرس فلم ترَ أثرًا لمحمد فتحققت أنه لم يُقتَل في تلك المعركة. فلما سكن روعها أحست بالتعب والنعاس والجوع فالتفتت إلى ما حولها، فرأت بيوتًا تكاد تتوارى لبعدها فعلمت أنها منازل أهل القرى، فاتجهت إليها تلتمس طعامًا وعلفًا لجوادها فوصلت إلى أحدها وحيَّت أهله. فرأت امرأة معها صبيان عراة يحومون حولها وهي تحلب لهم لبنًا من نعجة، فلما رأى الصبيان أسماء قادمة على فرسها صاحوا بأمهم ففزعت وفزعوا جميعًا، فتركوا النعجة ودخلوا الكوخ فنادتهم أسماء وطيَّبت خاطرهم فعادوا، فقالت لهم: «عندكم علف لهذا الجواد؟» قالوا «نعم» واعتذروا من خوفهم بأنهم قاسوا أهوالًا كثيرة من المحاربين. وأكرموا وفادة أسماء وجاءوها باللبن وللجواد بالعلف، والتمست حصيرًا تتكئ عليه فنهض صاحب الدار فأخذ الفرس وشده إلى وتد، وجاء بحصير كان قد خبأه تحت فراشه أعوامًا حرصًا عليه، فاتكأت أسماء على ذلك الحصير في ظل الكوخ ونامت نومًا عميقًا لم تُفِق منه إلا قبيل الغروب. ولم تفتح عينيها حتى رأت رسولها الذي أنفذته بكتابها إلى محمد واقفًا عند رأسها، فصاحت فيه: «أين كنت؟! وأين هو محمد؟!» فعض على شفته وأشار بعينيه أن تسكت مخافة أن يسمعها أحد من أهل البيت، فنهضت ونفحت أهل الكوخ بما تيسر لها وسلمت الفرس إلى الرجل ومشت إلى جانبه، وسألته عما يعلمه عن محمد ومكانه وما الذي جاء به إلى ذلك المكان. فقال: «أبشري يا مولاتي إن محمدًا قد نجا من هذه الوقعة.» فقالت: «وأين هو؟! وماذا تم له؟! أخبرني!» قال: «إني فارقت محمدًا منذ جئته بكتابك، وقد آنست فيه عطفًا عليَّ لا أدري سببه، وحيثما توجه سرت في ركابه إما راجلًا أو راكبًا. ولما كانت الوقعة منذ يومين في هذا السهل وقُتِل كنانة بن بشر قائد مقدمته، تفرق رجاله حتى أصبح وحيدًا فألححت عليه أن يخرج من المعمعة خيرًا من أن يُقتَل.» فلما وصل الرسول إلى هذا الحد امتُقِع لون أسماء وشخصت ببصرها لسماع تتمة الحديث، فقال: «وأما هو فعزم على البقاء في ساحة القتال إلى الموت، ولكني ألححت عليه في الخروج فأطاعني، فمشينا حتى انتهينا إلى خربة جنب الطريق بالقرب من هذا الجبل (وأشار إلى المقطم) فأوينا إليها وقضينا يومين بلا طعام ولا ماء، فلما رأيت ظمأ سيدي استأذنته في الخروج لآتيه ببعض الماء والطعام، فأوصاني بأن أبحث عن كتابك فقد كان معه في أثناء المعركة وفُقِد منه.» فقالت: «أما الكتاب فقد وجدته بل وجده هذا الجواد. وأين محمد الآن؟ هلمَّ بنا إليه ومعنا الماء.» فقال: «إنه حيث قلت لك على مسافة قصيرة من هنا.» قالت: «احمل له الطعام والماء وهلمَّ بنا.» قال: «أمَا من خوف علينا؟» قالت: «إن الشمس لا تلبث أن تغيب ويخيم الظلام فلا يرانا أحد، وأرى أن نبقي هذا الجواد هنا لئلا يدل علينا.» فأخذ الرجل الجواد وعاد إلى الكوخ، وبعد قليل رجع بقربة مملوءة ماء وبأرغفة وشيء من الجبن. وسارت أسماء ورسولها وقد خيم الظلام، وكان يمشي أمامها يدلها على الطريق وهي تكاد تتعثر بأذيالها للهفتها وسرعتها، وقضت مسافة الطريق لا تتكلم لشدة اضطرابها لما تتوقعه من الانفعال عند لقيا محمد. وقضيا ساعة سائرَيْن لا يكادان يميزان الطريق لو لم يكن جبل المقطم ظاهرًا أمامهما في الأفق، فجعلاه وجهتهما ظنًّا بأن محمدًا مختبئ بالقرب منه. وكانا يمران تارة بين خيام وآونة بأعشاش وأكواخ صغيرة، حتى وصلا إلى جانب المقطم فتقدم الرجل وسارت أسماء في أثره، ومشى هو يلتمس الطريق بين أنقاض الخرائب وهي تتبعه وقلبها يدق توقعًا للبغتة التي ستصيبها عند اللقاء بعد طول الغيبة. وبعد هنيهة اختفى الدليل في ظلمة مدلهمة هناك، فنادته بصوت منخفض فقال: «لقد وصلنا»، فدخلت في أثره إلى بيت خرب لم يبقَ منه إلا الجدران وبعض السقف، ولم تكد تدخل حتى سمعت الرجل يقول: «أين أنت يا مولاي؟» فلم يجبه أحد، فقالت أسماء: «لعله كان هنا»، قال: «نعم، تركته في هذه الخربة.» قالت: «فلنبحث عنه في غيرها فقد تشابهت الخرائب عليك.» وأخذا يفتشان كل الأماكن المجاورة فلم يقفا له على أثر حتى تعبا وملَّا التفتيش، فقالت أسماء: «ما قولك في غيابه؟» قال: «لا أدري، وأخشى أن يكون عمرو قد عرف مكانه فبعث من قبض عليه وهو أعزل.» فلما سمعت ذلك رجف بدنها وقالت: «وكيف العمل الآن؟!» قال: «إني طوع أمرك»، قالت: «عد بنا إلى حيث كنا، نلبث هناك إلى الصباح ثم نسير نستأنف البحث عنه.» وعادا حتى أتيا الكوخ وعرفاه من صوت الجواد، فإنه حالما اشتم رائحة القادمَين صهل ورفس الأرض بحافره، وباتت أسماء عند ضاحية الكوخ. وبكر الرجل في الصباح للبحث عن محمد ومكثت هي في انتظاره.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92527518/
عذراء قريش
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.تدخل رواية «عذراء قريش» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتحكي الرواية قصة شابة مسلمة جميلة اسمها اسماء، تحمل في رقبتها تميمة مسيحية، ومنقوش علي زندها وشم صليبي، فلماذا تحمل المسلمة وشما صليبيا؟! هذا ما ستبينه أحداث الرواية، التي تشتمل أيضا علي وقائع مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافة الإمام علي كرم الله وجهه، وما نجم بعد ذلك من فتنة أفضت بالمسلمين إلي وواقعتي الجمل وصفين، وخروج مصر من خلافة الإمام علي.
https://www.hindawi.org/books/92527518/22/
مقتل محمد بن أبي بكر
طال انتظار أسماء عودة رسولها، فقلقت وندمت لأنها لم تخرج معه للبحث عن محمد، وأضحت الشمس ولم يرجع فازداد قلقها ولم يعد يطيب لها مقام، فمشت بين تلك الأكواخ إلى الجهة التي تتوقع أن يكون رسولها قادمًا منها حتى بعدت مسافة. وبينما هي تتطلع إلى آخر الطريق إذ رأت شبحًا مسرعًا نحوها عرفت من قيافته أنه رسولها، فاختلج قلبها وحدقت لترى ما يبدو منه، فإذا هو يسرع حتى وصل إليها من شدة التعب وقد احمرَّت عيناه وكلل العرق جبينه. فصاحت فيه: «ما وراءك؟! قل! ما خبرك؟! هل وجدت محمدًا؟!» قالت ذلك وقلبها يزداد خفقانًا. فقال وهو يلهث لهثًا شديدًا: «آه يا مولاتي! نعم وجدته، ولكنه، ولكنه في خطر من القتل …» فصاحت: «وكيف ذلك؟! ومن يقتله؟!» قال: «إنهم علموا بمكانه في الخربة قبل وصولنا إليها أمس … آه! ضاق صدري من التعب، أمهليني أستنشق الهواء … دلَّهم عليه بعض المارة، فحملوه وهو أعزل إلى الفسطاط …» فقالت: «وبعد ذلك ماذا جرى؟!» قال: «لما خرجت في هذا الصباح قصدت إلى الفسطاط رأسًا، لأني أعلم أنه لا يبرح مكانه إذا لم يقبضوا عليه، ودخلت الجامع وتظاهرت بالصلاة فرأيت ابن العاص وعبد الرحمن بن أبي بكر أخا سيدي محمد، وسمعت عبد الرحمن يقول لعمرو: «أتقتل أخي صبرًا؟! ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه.» فعلمت أن معاوية بن حديج هو الذي قبض عليه ويريد قتله. فطار صوابي ووددت أن أعرف أين هو ابن حديج لأذهب إليه، فسمعت عمرًا يقول لأحد رجاله: «اذهبوا إلى ابن حديج وقولوا له أن يكف عن قتل محمد ويأتيني به.» فخرجت في أثر ذلك الرسول حتى وصلت إلى مكان بين الخربة والفسطاط، فرأيت فيه جمعًا متكاثفًا بينهم ابن حديج ومعه رجاله وقد أحاطوا بمولاي محمد، وقد رق جسمه من العطش والجوع. وتقدم رسول عمرو إلى ابن حديج وأبلغه أمر عمرو فقال: «قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمدًا؟! هيهات، هيهات!» ولا تسل عن أسماء عند سماعها هذا النبأ وكيف كان وجهها يتلون، فتطاولت بعنقها وحدقت ببصرها لترى ما تم بعد ذلك وهي تقول: «جزاهم الله شرًّا على هذا القول! لا، لا، لا أظنه يقتله رغم أمر عمرو، ولكنه أساء الأدب.» فقال الرجل: «ولو اقتصرت إساءته على ذلك لكان خيرًا، ولكنه منع عن سيدي الماء فقد سمعته بأذني يطلب منهم أن يسقوه، فقال له ابن حديج بقحة واستخفاف: «لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدًا! إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم الغساق!» …» فلما سمعت أسماء ذلك قالت: «خسئ النذل!» وأصاخت بسمعها فأتم الرجل كلامه وقال: «فأجابه سيدي محمد: «يا ابن اليهودية النساجة، ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك. أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا!» …» فلم تعد أسماء تستطيع صبرًا على سماع تتمة الحديث وقالت: «وماذا جرى؟!» قال: «سمعت ابن حديج يقول له: «أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار» …» فصاحت أسماء والدمع يتساقط من عينيها وهي تتشدد وتتجلد: «خسئ ابن اليهودية! إنه لا يجسر على ذلك.» فقال الرجل: «فلما سمعت قول ابن حديج أسرعت إليك بالخبر، لأني رأيت الشر باديًا على وجوه القوم.» فالتفتت أسماء وراءها فرأت الكوخ بعيدًا ولا سبيل لها إلى الرجوع إليه لتمتطي جوادها، ولم تعد تطيق الصبر عن المبادرة إلى محمد فسألت: «هل يبعد المكان من هنا؟!» قال: «إنه قريب». فقالت: «هلم بنا إليه!» ومشت وهي لا تدري كيف تنقل قدميها لعجلتها ولهفتها، والرجل لا يستطيع اللحاق بها لأنه كان لا يزال تعبًا وليس في قلبه ما في قلبها من نار تتعجل خطواتها. ومضت ساعة وهما سائران دون أن تدرك المكان، فندمت لمجيئها ماشية وقد كانت تظن المسافة أقصر من ذلك. ثم أشرفا على ساحة فقال الرجل: «كانوا في هذه الساحة، ويلوح لي أنهم ساروا إلى الفسطاط»، فمشت حتى أتت المكان الذي كانوا فيه فرأت آثار دم وكأن شيئًا قد جروه جرًّا، فارتعدت فرائصها وجمد الدم في عروقها وصاحت: «ويلاه! إنهم قتلوه! نعم قتلوه! آه يا محمد يا حبيبي!» فقال لها الرجل: «وكيف عرفت ذلك؟!» قالت: «أما ترى الدم وآثار جر الجثة؟!» ثم لطمت وانحدر الدمع على خديها، ومشت تتبع آثار الجر وعيناها لا تريان الطريق لما يغشاهما من الدمع، فلم تمشِ قليلًا حتى اشتمت رائحة شواء فمسحت عينيها وتطلعت فرأت دخانًا يتصاعد من خربة، فأيقنت أنهم قتلوه وأحرقوه في جوف الحمار كما قالوا. فهرولت إلى الخربة لا تلوي على شيء، فرأت هناك جيفة حمار حولها النار موقدة وجوفها مشقوق فتفرست في ذلك الشق فرأت من خلال اللهيب رأس محمد مغمض العينين كأنه في سبات عميق، فصاحت: «محمد! آه يا حبيبي! لقد صح قولهم وفعلوا ما أرادوا، قتلهم الله!» وهمَّت بأن تلقي نفسها في النار فأمسكها الرجل من ثوبها. فلطمت وحلت شعرها وأخذت في الندب والعويل وهي تمسح عينيها كل لحظة وتنظر إلى جثة محمد من خلال اللهيب، فتراه لا يزال نائمًا فتناديه فلا يجيب، فتهم بأن تلقي نفسها فوقه والرجل يمسكها. فضاقت بها الحيل فجعلت تدور حوله وتندبه وتندب نفسها وتقول: «يا لشقائي! آه يا حبيبي يا محمد! إنك لم تلقَ حتفك إلا من سوء طالعي، فلو لم أحبك لم تمت! ويلاه! ويلاه! ماذا أعد من النحوس المحدقة بي؟! لا ريب أني وُلِدت شؤمًا على نفسي وعلى كل من هم حولي. نعم، عاكسني الدهر ولكنه لم يصب مني مقتلًا لأن آمالي كانت عالقة بحبيبي محمد، وقد صبرت في مصائبي أملًا في لقائه، ورضيت من الدنيا أن أكون بقربه. ولكن آه! آه! لولا هذه الآمال لم تُقتَل يا محمد! لقد قُتِلت ليتم شقائي، فأنا سبب القتل! ولكن كيف تموت هكذا؟! كيف يختلط جسدك بالتراب؟! بل كيف تموت هذه الميتة وأبقى أنا حية؟! كلا ثم كلا!» قالت ذلك وألقت نفسها في اللهيب كأنها تعانق محمدًا ووجهها فوق وجهه، فأسرع الرجل إلى انتشالها فإذا هي تختلج اختلاج الموت. فبكى الخادم بكاءً مرًّا وصبر حتى خمدت النار، فجمع رفات الحبيبَيْن ووضعه في قبر واحد وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون!»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/59620314/
الشعر
إبراهيم عبد القادر المازني
يُعَدُّ إبراهيم عبد القادر المازني أحد أعمدة الأدب الحديث، فقد أسَّس إلى جانب عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري مدرسة الديوان، تلك المدرسة التي دعت إلى التجديد في الشعر عبر التجديد في الموضوعات، والاستفادة من الأدب الغربي، بالاطلاع على الشعر القديم، والاستعانة بمدارس التحليل النفسي، والاتجاه إلى الشعر الوجداني. وقد ناهضت مدرسة الديوان الشعرية النسق الكلاسيكي المتمثِّل في مدرسة الإحياء والبعث التي كان يتزعمها محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وعلي الجارم وأحمد محرم، وعابت عليها الالتزام بالوزن والقافية، واستعمال اللغة التراثية، ومحاكاة القدماء في الأغراض والمعاني. لذلك يُعَدُّ هذا الكتاب تعبيرًا عن أحد ألوان الطيف الشعري والنقدي في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن المازني اشتهر بين الناس بترجمته وكتابته المقال والقصص والروايات إلا أنه خاض تجربة لا يستهان بها في الشعر نظمًا ونقدًا.
https://www.hindawi.org/books/59620314/1/
الشعر
ما أظنُ بك — أيها القارئ — إلا أنك تقول مع القائلين إنَّ الشعر أضغاث أحلام ووساوسُ أطماع، هَبْهُ كذلك، أليستْ الحياةُ نفسها حُلمًا تنسج خيوطَه الأمانيُّ والأوجالُ، وتسرِّجه الظنونُ والآمالُ؟ أليستْ هذه الأحلام مسرحَ خواطرك في سواد الظَّلام، وعزمَك الذي تَصولُ به في وضح النَّهار؟ أم تحسب أنك تستطيع أن تُخلي العالَم من هؤلاء النفر «الحالمين» كما أخلى «أفلاطون» جمهوريتَه منهم ونفاهم عنها؛ مخافة أن يُفسِد عليه وصفُهم الإنسانَ «الطبيعيَّ» إنسانَه «الحسابيَّ» الذي خلقه خِلْوًا من العواطفِ بريئًا من الانفعالات، لا يضحكُ ولا يبكي ولا يحزنُ ولا يغضبُ، ولا تغالي به خُدَع الآمال ولا يُهبط به صادقُ اليأس إلى آخر ما ألزمه من الشمائل الحلوة، والمناقب الجميلة التي أحالته تمثالًا لا يتمثَّلُ إلا في خاطر فيلسوفٍ مثله؟ على أنَّ جمهورية أفلاطون (الفيلسوف) لمَّا تنسخْ عالَم هومر (الحالم)! وَهَبِ الشِّعرَ أحلامًا، أهي شيء من اختراع الشاعر يخدع به العقولَ ويضلِّل النفوسَ؟ أم نتيجة ما ركَّب فيه مبدعُ الكائنات؟ فلا متقدم له ولا متأخر عن هذه الأحلام، إنْ صحَّ أنها أحلام؟ أليس الحُب والبغض والخوف والرجاء واليأس والاحتقار والغَيرة والندم والإعجاب والرحمة مادةَ الحياة؟ فأي غرابة في أن تكون مادةَ الشعرِ أيضًا؟ لَصَدَقَ مَن قال إن الإنسان حيوان شِعري وإن لم يُلقَّن قواعدَ النظم وأصوله! فالطفل الذي يستمع إلى أساطير العجائز شاعر، والقرويُّ الذي يرى قوس الغمام فيجعله قيدَ عِيانه شاعر، والحضريُّ الذي يخرج ليرى موكبَ الأمير شاعرٌ، والبخيل الذي يقبض كفَّه على الدرهم شاعر، والرجل الذي يتندَّى على إخوانه ويتسخَّى على أصحابه شاعر، وصاحب المُلك الذي ينوط آماله بابتسامة، والمتوحش الذي ينقش معبوده بالدم، والرقيق الذي يَعْبد سيدَه، والظالم الذي يَحسَب نفسَه إلهًا، والمزهو والطامح والشجاع والجبان والسائل والسلطان والغني والفقير والشاب والشيخ وسائر مَن خلقَ الله، ما منهم إلا من يعيش في عالم من نسج الخيال وسرج الأوهام! ليس الشعراءُ … مُحدثي اللغات ومبتدعي فنون الموسيقى والرقص والحفر والتصوير فقط، بل هم أيضًا واضعوا الشرائع ومؤسسو المدنيات ومبتكرو فنون الحياة. وهم الأساتذة الذين يصلون ما بين الجمال والحق وبين عوامل هذا العالم المستتر الذي يدعوه الناسُ الدِّينَ … ولقد كان الشعراء في العصور الأولى التي مرَّت بهذه الدنيا يُسمَّوْن تارةً مشرِّعين وطورًا أنبياء حسب العصور التي ظهروا فيها والأمم التي نبغوا منها. صدقَ الأولون، فإن الشاعر جامعٌ أبدًا بين هذين في نفسه؛ لأنه لا يقتصر على رؤية الحاضر كما هو، ولا يجتزئ باستطلاع القوانين والأنظمة التي ينبغي أن تنزل على حكمها أموره، بل يستشف المستقبل من وراء الحاضر، فليست خواطره إلا بذرة الزهرة التي يجنيها الزمن الأخير ونُوَّارته، وما الشعر إلا موقظُ الأممِ وباعث الشعوب، ورسول الانقلابات في الآراء والتقاليد … والشعراء هم قساوسة التنزيل الإلهي ورسل الوحي القدسي وشُرَّاح الحكمة الربانية … وهم المرايا التي تتراءى في صقالها أظلالُ المستقبل الضخمة الكثيفة الملقاة على الحاضر … وهم اللفظ الناطق بما لا يفهمون، المعبِّر عما لا يُدرِكون … وهم قبلُ وبعدُ المشرِّعون الذين لا يعترف بهم الناسُ. على أنه من الثابت الذي لا سبيل إلى دفعه، أن مرتبة الحيوان كائنًا ما كان رهنٌ بحالة جهازه العصبي، وأنه كلما ارتقى اكتسب جهازُه العصبيُّ منزلةً جليلة وصفةً خطيرة تبعًا لهذا الرقي، والجماعات كالأفراد في نشوئها وارتقائها، فكلما زادت حياتها تعقيدًا صار للفكر فيها مثلُ منزلة الجهاز العصبي في الفرد، وصار الأدب بمعناه الأوسع ومدلوله الأشمل عنوانًا دقيقًا على نشوئها الاجتماعي. ومن أجل ذلك كانت الحياة الأدبية في الجماعات المستوحشة غَضة ضئيلة، ولكنها في الشعوب الراقية المتحضرة نامية متفرِّعة متهدِّلة الأغصان مورقة الأفنان. وإذا كان هذا كذلك، وكان الشعر عنوانًا على رقي الجماعات ودليلًا على حياتها، وكان مَجنَى ثمار العقول والألباب ومجتمِعَ فرقِ الآداب، فإن حقيقًا بنا أن ننظر فيه علَّنا نهتدي إلى وصف حقيقته ونقف على وسائله وغايته. بَيْد أني لا أرى للتعاريف غِناءً فيما نتكلف ولا بلاغًا إلى ما نتطلَّب، وعلى أنه إن كان لا بدَّ منها فإن حقَّها — ولا شك — التأخيرُ لا التقديمُ؛ إذ فيها تتلخص حدود المسائل في أوجز لفظ وأخصر عبارة. ولقد نظرتُ فلم أجد واحدًا ممَّن بحثوا في الشعر جاء بتعريف فيه للنفس مقنعٌ؛ إذ ليس يكفي في تعريفه مثلًا أن يُقال إنه الكلام الموزون المقفَّى. فإن هذا خليقٌ أن يُدخِل فيه ما ليس منه ولا قُلامة ظُفر، وإنما نظرَ القائل إلى الشعر من جهة الوزن وحدها وأغفل ما عداها. ولا يغني في تعريفه كذلك أن نقول مع «شلجل» إنه مرآة الخواطر الأبدية الصادقة، فإن هذا — فضلًا عن غموضه الشديد — خطأ صريح ليس فيه شعاع من نور الحق؛ وذلك لأن الشعر لا يمكن أن يكون — كما زعم شلجل — مرآةَ الخواطر الأبدية الصادقة، وليس هو إلا مرآة الحقائق العصرية؛ لأن الشاعر لا قِبلَ له بالخلاص من عصره والفكاك من زمنه، ولا قدرة له على النظر إلى أبعد مما وراء ذلك بكثير. فحكمته حكمة عصره، وروحه روح عصره، على أنه ما هو الحق؟ وكيف يُوصف بأنه أبدي؟ وما هو مقياسه؟ ألا ترى أن يقين اليوم قد يصير شكَّ الغد؟ فأنَّى للشاعر أن يصل إلى هذه الحقائق الأبدية؟ إنه لا أبديَّ — فيما نعلم — إلى عواطف الإنسان، وما يُدرينا لعل هذه أيضًا يعتورها الشكُّ ويأتيها الريب من هذا الجانب أو ذاك، ولكنه لا أبدي إلا هذه. ألستَ ترى أن أغاني المستوحشين التي يمتدحون فيها الحرب والشر والقساوة والحب والدهاء والخديعة هي غاية العقل عندهم، وقصارى ما يبلغهم الحزم والكياسة وإن استكَّت منها أسماع المتحضرين لهذا العهد، وبرئت إلى الله منها نفوسُهم؟ ولكنها شِعر لا ريب فيه! ولقد كان من عادة العرب أن يتغنوا في شعرهم بذكْر أبطالهم ورجالاتهم. ولعمري، لا شيء أنفعُ من ذلك ولا أعود ولا أشد ابتعاثًا للذهن وإيقاظًا للنفس ودفعًا لها على ورود المكاره واستثارةً لنخوتها وحَميَّتها. وليس الشعر كما وصفه الشيخ الذي زعم الجاحظ أنه ذهب إلى أنه صياغة وضرب من التصوير، وكما سمَّاه أرسططاليس «فنًّا تصويريًّا»؛ لأن الأصلَ في الشعر «الإحلالُ والاقتراحُ» لا التصويرُ — إحلالُ اللفظ محلَّ الصور واقتراح العاطفة أو الخاطر على القارئ — وعلى أنه لو جاز أن نسمي الشعر فنًّا تصويريًّا أو ضربًا من التصوير لبقي علينا أن نعرف أيُّ شيء يُصوَّر؟ آلحقائقُ أم المرئياتُ أم الإحساسُ؟ قال بيرك: إن مَن يتدبَّر حسنات الشعراء وبراعاتهم يجد أنها لا تستولي على النفس من أجل ما تُحدِثه في الذهن من الصور، بل لأنها تُوقِظ في النفس عاطفةً تشبه العاطفةَ التي ينبِّهها الشيء الذي هو موضوع الكلام. ا.ﻫ. نقولُ: وهذا صحيح حتى في الشعر الوصفي الذي هو بطبيعته وغايته ألصقُ بالتصوير مما عَدَاه من فنون الشعر وأبوابه؛ وذلك لأن الشاعر لا يصوِّر الشيء كما هو، ولكن كما يبدو له، ولا يرسم منه هيكله العُريان، بل يخلع عليه من حُلَل الخيال بعد أن يحرِّكه الإحساسُ، وأنت قد تعلم أن الحواس هي مصدر عِرفاننا ومستقَى علْمنا بما تتناوله من الأشياء وتفضي إليه من صفاتها وصلاتها وحركاتها وغير ذلك، ولكنه من الواضح الذي لا شك فيه أنه إذا لم تكن ثَم وسيلة إلى العلم بالأشياء والاطلاع عليها غير الحواس، لما أفاد الإنسان إلا قليلًا، ولما دخل في علمه إلا النزرُ اليسير؛ لأن المعرفة شيء تتعلق به المدارك ويلج في الارتسام بصفحة الذهن، وهذه اللجاجة أو هذا الشبث الذي يجده كل امرئ بأهداب الخاطر، أو إن شئت فقلْ هذا «الصدى» الذي تتركه المحسوسات هو شرحُ خاصية الذهن التي نسميها الحفظ، وهي عادةٌ يصحبها «صورة عقلية»؛ وهذه الصورة قلَّ أن تبلغ من الوضوح والجلاء مبلغ المشخَّصات التي تَبرز لمشهد الحواس. ومَن ذا الذي ذكر صاحبًا له فتمثلت لذهنه صورتُه كما كانت تتمثل لعينه. إلا أن الأمر على خلاف ذلك، فقد أثبتت أبحاث علماء النفس أنه قلَّ مَن يستطيع أن يستحضر في ذهنه صورة مفصلة غير مجملة، واضحة غير مبهمة لشيء مألوف كمائدة الإفطار. على أنه ليس يخفى أن قدرة الذهن على إحداث الصور تختلف باختلاف الناس، كما ليس يخفى أنه وإن كان الناس في الغالب لا ترتسم في أذهانهم إلا صور المرئيات إلا أن فيهم أيضًا مَن هم أقدر بطبعهم على استحضار صور المسموعات والحركات. على أنَّ حقيقًا بنا أن نتمهَّل هنا قليلًا، فما في ذلك من بأس. فإن مما هو جدير بالتأمل والنظر فيه بعقب ما ذكرنا أن العقل قد يستغني في كثير من الأحيان عن «الصور» ويعتاض منها «الرموز». ولعل هذا هو السبب في كثير من خطئه وصوابه أيضًا، وذلك أن الألفاظ ليست في الحقيقة إلا رموزًا لما تأخذه العين من الأشياء، وهي حسبنا وفيها كفايتنا ليتهيأ لنا ما نزاول من التفكير، وحسْبُ القارئَ أن يُوقِظ رأيَه لما يدور في ذهنه ليستيقن أن كثيرًا من الصور التي ترتسم في صفحة ذهنه غامضة في أغلب الأحيان لا نصيب لها من الجلاء. قال بيرك أيضًا: «إذا قال أحدنا سأذهب إلى إيطاليا في الصيف المقبل، فهِمه السامع من غير أن يكدَّ ذهنه، على أني على يقين جازم من أنه لم ترتسم في ذهنه صورة القائل، يطوي الأرض تارة ويركب البحر أخرى — أنا على ظهر جوادٍ وآونة في مركبة إلى آخر تفاصيل هذه الرحلة — بل لا أظن السامع قد «تصوَّر» إيطاليا — تلك البلاد التي عزم القائل أن يسافر إليها — ولا أحْسَب الخيال قد رسم له صورةَ مزارعها السندسية، وفواكهها الطيبة الشهية، وحرارة هوائها وانتقاله إلى هذا الجو من جوٍّ آخر — وهي صورٌ أشار إليها القائل بلفظ الصيف وجعله رمزًا لها — وهل تظن قوله: «المقبل» أحدثَ صورةً ما؟» ا.ﻫ. وقال «لوك» في رسالة له عن العقل: «إن الطفل في كثير من الأحيان يحمل عنَّا عددًا وافرًا من الألفاظ ذات المعاني العامة، مثل الفضيلة والرذيلة والخير والشر، قبل أن يعرف ما هذا وما ذاك، ثم هو يَقْتاس بنا في حُب الواحد ومقت الآخر، ولو أنك سألته ما الفضيلة لقال: هي شيء يحبه أبي أو أمي أو معلمي؛ وذلك لأن عقل الطفل من اللين بحيث تستطيع بما تُظهِر من الاستياء أو الارتياح لشيء ما، أن تحمله على الاقتداء بك في بُغض هذا الشيء أو حبه.» ا.ﻫ. على أن الشيخ الكبير كالطفل الصغير، كلاهما إن ذاكرته حديثَ الفضيلة أو الرذيلة أو غير ذلك مما يجري مجراهما كالشرف والنباهة والطاعة، أدرك المعنى المراد وإن لم ترتسم في ذهنه «صورة» لشيء من ذلك. كل لفظ من هذه الألفاظ كان موضوعًا للدلالة على فعل بعينه، ثم انتقل بعد ذلك بكثرة الاستعمال من هذه الخصوصية إلى العمومية، حتى تجرَّد في آخر الأمر صوتًا أو صدًى، وكذلك الشأن في سائر الألفاظ، فإنها لا تلبث بعد طول الاستعمال أن تصير أصداء تدوِّي في جوانب النفس ونواحي الفؤاد، فتترك أثرها ولا تُجشِّم الخيالَ تصويرها. فإن شككت في ذلك فتأمَّل لفظة «الشيء»، هل ترى لها «صورة» في قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: فإن لها رُوحًا وخِفةً وإيناسًا وبهجةً، وهي بعدُ لا تبلغ أن تكون منها صورة، أو في قول أبي الطيب المتنبي: فإنك تجدها من الضآلة والغموض بحيث يعييك أن تصوِّرها لنفسك وإن كان لا عسر عليك في فَهْمها ولا عناء. وقد كان بشار بن برد الذي يقول: كان المستر سوندرسن هذا من صدور العلماء وفحول الأعلام في الفلسفة وعلم الهيئة وسائر ما لا بدَّ فيه من الحَذْق الرياضي، فلم يرعني شيء كإلقائه دروسًا في «الضوء» و«الألوان»، فكان يلقنهم عِلمَ ما يرون وما لا يرى. فهذا يدلك دلالةً لا يعترضها الشك على صحة ما أردنا أن نبيِّنه لك من أن «الألفاظ ليست إلا رموزًا مجردة تمُر بالسمع فيكتفي العقل منها بلمحة دالة تغنيه عن الصورة» — إلا أن تريد ذلك فيكون ما أردتَ — ولكنَّ فرقًا بين أن تكره الخيال على التصوير وبين أن يجيء ذلك منه عفوًا لا إكراه فيه ولا إجبار، على أنه قلَّ أن تستطيع تصوُّرَ الشيء على حقيقته وأصله كما أسلفنا. ومما يَلبَس على الناظر على هذا الباب ويغلِّطه أنه يستبعد أن يكون الكلام مفهومًا فهمًا صحيحًا من غير أن تكون له صورة ماثلة في الذهن. والحقيقة أنه ليس في ذلك شيء من الغرابة أو البعد؛ لأن العادة تذلِّل هذه الصعوبة — والعادة أعرق طباع النفس، وهي مصدر قوتها وعلة خَوَرِها وضعفها — ألا ترى كيف أن اللفظ الجديد يكون مدخلُه على النفس في بادئ الأمر صعبًا ثم هو لا يلبث أن تلوكه الألسنة وتناقله الأفواه ويتداوله الناس حتى يسهل وروده على النفس، ويُوَطَّأ له حجابُ السمع. واعلم «أن مَثَلَ واضع الكلام مَثَلُ مَن يأخذ قطعًا من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدةً» يلتهمها العقل جملةً، ولو نحن كلَّفناه أن يُحلِّل هذه القطعة أو أن يصوِّر كل لفظة ويرسم كل حرف لكان ذلك ضربًا من التعسف وبابًا من أبواب العنت، ولَتَراخت من جرَّاء ذلك حركةُ الفَهم وأبطأ سيرُ الذهن، والكلام لا يقبل هذا التقسيم ولا يحتمل هذا التجزيء. على أنني لا أرى أبلغ في إثبات ذلك وإقامة الحجة عليه من أن ننظر في أنواع الألفاظ ونتأملها، ونحن نرجو بعد هذا البسط أن تنتسخ آية الشك وتنجلي ظلمة الشبهة، ولسنا نشير إلى تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف، فإن هذا التقسيم إنما يُراد به بيان تعلق الكلم بعضًا ببعض، وشرح وجوه تعلقِها التي هي معاني النحو وأحكامه، وإنما نريد تقسيمها حسب معانيها وصفاتها ونشأتها ووضعها. فأول هذه الأنواع وأوضحها وأشفُّها عن معناها هذه الألفاظ الجامعة، مثل رجل وشجرة وجواد وما إليها، وكلها ألفاظ موضوعة للدلالة على ما هو واقع تحت الحس. وثانيها الألفاظ الموضوعة لوصف هذه الأشياء المحسوسة كأحمر وأخضر، وكقام وقعد (والأفعال صفات في معانيها) وما إليها. وهذان النوعان أول ما عرف الإنسان من أنواع الكلم، وإنَّ بين ظهرانينا اليوم من الهمج شعوبًا ليس في لغاتها غيرُ هذين النوعين؛ ولما اتسع الناس في الدنيا اتسعت المعاني كذلك، فنشأت طائفة من الألفاظ وُضعت للجمع بين النوعين المتقدمين وللدلالة على صلاتهما، مثل الشرف والفضيلة والحرية وما إلى ذلك. لا خلاف في أنه يمكن تقسيم الألفاظ إلى غير ذلك من الأقسام، ولكن هذا التقسيم طبيعي تاريخي، وعلى هذا النحو والنظام أيضًا يتعلم الطفل اللغةَ ويحفظ ألفاظَها، وما المرء إلا صورةٌ مصغرةٌ للنوع الإنساني. هذه الأنواع الثلاثة إذا أنت تدبَّرتها وجدت الأول منها (رجل وشجرة) رموزًا لصورة بسيطة غير مركبة يدركها الذهن على غير كلفة أو مشقة. فإذا انتقلت إلى ألفاظ النوع الثاني وجدت أنها رموز لأشياء مركبة، أو هي رموزٌ موضوعة لوصف حالات بعينها لا بد للذهن في تصورها من جمع شتيت أجزائها. فأما ألفاظ النوع الثالث فأعوصُ الجميعِ وأشدُّها إعناتًا للذهن إذا هو تكلَّف تفصيل مجملها وبسط موجزها. وما لفظ الشرف إن تأملته إلا عبارة «مختزلة» لو عمدتَ إلى بسطها وتحليلها لما وجدتَ مندوحة من ردِّها إلى النوع الثاني، ثم إلى الأول، قبل أن تستطيع الكشف عن دقائقها وفتح مقفلها، فإنه مما لا شبهة فيه أن أولَ مَن قال من الناس «أُحِب الشرفَ» إنما كان يعني «أُحِب الرجلَ الشريفَ». وثَم طائفة من الألفاظ كانت في أول أمرها داخلة (بطبيعتها) في عِداد ألفاظ النوع الثالث وما زالت إلى اليوم (بصورتها) مثل النهار والليل، والربيع والشتاء، والفجر والسحر، والريح والرعد، فإنك لو سألت أحدًا: ماذا تعني بالنهار والليل أو الربيع والشتاء؟ لقال لك: أعني فصلًا أو جزءًا من الزمن. وما هو الزمن وأي شيء هو؟ أهو شيء مادي؟ إنْ هو إلا صفةٌ تجرَّدت اسمًا وأصارتها اللغةُ مادةً، فإن أحدنا إذ يقول طلع الفجر، أو زحف الليل، ليعزو إلى الفجر والليل فعلًا ما أعجزهما عنه وأبرأهما منه. وما زلنا إلى اليوم نعزو إلى «قوى» الطبيعة صفات «المادة»، ونجسِّم المجرَّد حتى يكاد يُحسُّ ويُمسُّ وتقع عليه الأيدي وتأخذه الأعين. انظر إلى قول ابن الرومي: وقول أبي تمام: أو قول مسلم بن الوليد: أو قول البحتري: أو قول ابن الرومي: أو قول الآخر: ولو أردنا أن نستقصي لاحتجنا أن ننقل كل بيت في اللغة، وإنما نحن أردنا أن نورد لك أمثلة على ما ذهبنا إليه، وهذا مذهب الشعراء في إسناد الفعل إلى غير فاعله، بل هو في كل لغة بطبيعة الحال، وهل اللغة — إن تدبرتَ — إلا شعر جفَّ فعاد كالأسماك المتحجرة؟ أو الألفاظ إلا قصائد تاريخية وخواطر شعرية؟ أَوَتحسَب أنه لم يكن قبلَ «هومر» شاعر؟ لقد كانت هذه الألفاظ الخامدة المبتذلة في أول ابتداعها وبدء تكوينها متلهبة تحرِّك النفس وتستفز الجنان، وكان محدثوها شعراء مبتكرين، «وهل الشعر إلا خاطر لا يزال يجيش في الصدر حتى يجد مخرجًا ويصيب متنفسًا؟» ولمَّا كان الكلام مركبًا من جميع هذه الأنواع وكان تأثيره ليس رهنًا بما يحدِثه من الصور وحسب، بل إن للصوت أيضًا دخلًا، فإنه من الخرف والسخافة أن نظن أن العقل يتكلف تحليل كل كلمة تَقرَع السمع أو تقع عليها العين، قبل أن يخلص معناها إلى نور البيان، فإن في ذلك من بُعد الشُّقة والتواء المسالك ووعورته ما لا يخفى عن أحد من الناس. قرأتُ هذا الوصف البديع فتمثلتْ لذهني صورٌ شتَّى لهذا الكوخ لا تشبه صورةٌ منها أختَها. ولعلي كنتُ أكونُ أقدرَ على تصوُّره لو علمتُ كم عدد نوافذه، وأين بابه من الجهات الأربع، وكم عدد الأشجار التي تحفُّ به، وما إلى ذلك من التفاصيل التي لا يُعنى بها الشعراء، غير أني مع هذا أقول عن يقين إن هذه الأبيات وقعتْ من نفسي، ومن نفوس الناس جميعًا — فيما أظن — موقعًا لا مثيل له ولا نظير. وأنت فتأمل أبياتَ ابن حمديس يصف بِركةً في قصر عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعُها المياه: … إلخ. هذه أبيات من عيون الشعر ومحكَمه، إذا تأملتَها جملةً أو استقريتَها واحدًا واحدًا ونظرتَ إلى موقعها في نفسك وإلى ما تجده من اللطف والظرف، ولم تجد لها مع ذلك صورة واضحة في الذهن، وإنما كان هذا كذلك؛ لأنها وإن كانت غاية في دقة الوصف وبراعة السبك ولطف التخيل، إلا أن في كل بيت صورة مبهمة. فهي مجموعة صور بعضها من بعض أدق وألطف، ثم ألا ترى كيف أن الشاعر لا يزال يحوم على الشيء، فلا يقع، ويَسف فلا يَلمس، حتى إذا عناه تصويره قال لك كأنما هو كذا وكذا لقصور اللغة وعجزها كما أسلفنا لك، وأي لغة تبلُغ أن تصور لك الشيء كآلة التصوير الشمسي؟ ليس بنا إلى ذلك حاجة؛ لأن ضيق حظيرة اللغات مَدعاة لِسعة مجال الخيال، وقصر آلاتها سببٌ في طول متعة الذهن ولذة الفكر. ولنضرب لذلك مثلًا، فإني رأيتُ سوقَ الأمثال أبلغَ في تصوير المسائل في النفس وتقريرها عند العقل، وهي بعدُ آمن لي ولك من الشك وأصح لليقين وأحرى أن تبلغنا جميعًا قاصية التبيين؛ لأنه موضع يدق فيه الكلام، ولا يُؤمن معه الغموض والاستبهام. قال كثير عزة: هذان بيتان ليس فيهما معنى رائع ولا فكر دقيق، ولكنهما يصفان حال قائلهما أبلغ وصف، ويتغلغلان إلى النفس تغلغل الماء إلى كبد الملتاح. وإنما يرجع الفضل في ذلك إلى قوة الخيال. وشرحُ ذلك أن الشاعر لم يتجاوز الإشارة في بيته إلى التبيين والتلميح إلى التصريح، فذكر الدِّلَّ ولم يذكر كيف دِلها، وإن يكن مثَّل لك فعلَه وتأثيرَه، وقال وخلَّفتْ ما خلَّفتْ بين جوانح ولم يقل ماذا خلَّفتْ، فتركَ بذلك مُضطربًا واسعًا للخيال ليتصوَّر لطفَ دِلِّها وسحره وفتنته، وصبابة الشاعر وشغفه وحرقته، وسائر ما ينطوي تحت قوله وخلفت ما خلفت، فجاءا بيتين كلما زدتهما نظرًا وترديدًا زاداك جمالًا وحسنًا، ولو أن الشاعر أراد الإحاطة بجميع ما خلفتْ لكلَّف نفسه أمرًا شديدًا إذا لانت له جوانبه كان استيعابه هذا قيدًا للخيال وحملًا ثقيلًا يرزَح تحته وينوء به، «لأن الشِّعر يلذُّ قارئه إذا كان للمعاني التي يثيرها في ذهن القارئ في كل ساعة تجديدٌ، وفي كل لحظةٍ توليدٌ.» فأما ما يأخذ على الخيال مَذهبه ولا يترك له مجالًا فهذا هو الغث الذي لا خير فيه؛ لأن حالات النفس درجات، فإذا أنت صوَّرت أقصى درجاتها لم تُبقِ للخيال من عمل إلا أن يَسِفَّ إلى ما هو أحط وأدنى، ولذة الخيال في تحليقه، ومن ههنا قالوا في تعريف الشِّعر إنه لمحةٌ دالةٌ ورمزٌ لحقائقَ مستترةٍ، يعنون بذلك أن الشاعر لَيَقذفُ بالكلمة فتأخذها الأسماع وتعيها النفوس ويستوعب معانيها الخيال. قال «سنت بيف» من مقال له عن لامارتين: «إذا تحركتْ عاطفة حادة شاملةٌ نحو مخلوق خيالي، ألا يكون خيرًا من أن نحاول تقريبه بالوصف الدقيق أن نعتمد على قوة الخيال في سد النقص، وملء الفراغ وإتمام الصورة على خير مما نستطيع أن نتمها؟» وقال في موضع آخر من المقال عينه: «إن الشِّعر خلاصة كل شيء وجوهره. فحذارِ أن نغمر هذه القطرة النفيسة في بحرٍ من الماء أو طوفان من الأصباغ والألوان. ليس الأصل في الشعر الاستقصاء في الشرح والإحاطة في التبيين، ولكن الأصل فيه أن نترك كل شيء للخيال.» ا.ﻫ. إنما نحن ألاعيبُ في أيدي الزمن والمخاوف، تمضي علينا الأيام ثم تمضي بنا، ولكنا على هذا نعيش — أبغض ما تكون إلينا الحياة، وأخوف ما نكون نحن من الموت — على رقابنا هذا المَشنوء، هذا الحِمل الحيوي الذي ينوء به الفؤاد المضطرب الذي يُغرقه الأسى ويُتلفه الألم أو اللذة التي تنتهي بالألم والخَوَر — في كل أيام الحياة، ماضيها ومقبلها، (إذ ليس للحياة حاضر) ما أقلها ساعات تكِفُّ فيها النفس عن النزوع إلى الموت، وترانا على هذا نفُرُّ منه فَرارَنا من الغدير الصرْد في الشتاء! على أنه بُردُ بُرهة! إلخ. أقول لما بلغتُ قوله هذا تضاءلت في عيني مناجاة هملت لنفسه، وأحسستُ كأن الهواء قد آض معانيَ وإحساساتٍ ليس أحلى منها في القلب ولا أملأ للصدر، وكأن ما ارتفع من أنفاس الورد ليس رَيَّاه ونفحتُه ولكن معناه وَصِفَته. وكنت كلما قرأتُ سطرًا شعرتْ بما يشعر به الواقف على ساحل البحر، ينظر إلى عُبابه الطموح وموْجه الجَموح، ورأيت المعاني تضيء في نفسي، غامضةً، كما يضيء الفجر، والخواطر تزخر في صدري كما يزخر البحر، وما زلتُ إلى اليوم كلما عدتُ إلى هذه القصيدة جَلَت عليَّ ألفاظُها من المعاني مثلما تجلو أشعة الشمس المسيطرة في الأفق من مشاهد هذا الوجود ومناظره، إن قيمة الشعر ليست فيما حوتْ أبياتُه، واشتملتْ عليه شطراته فقط، «ولكنَّ قيمته رهنٌ أيضًا بما يختلج في نفسك ويقوم في ذهنك عند قراءته»، فإن الشعر الجيد كالبحر لا يقف عنده الفكر جامدًا، وهو كشعاع النور يضيء لك ما في نفسك ويجلو عليك ما في ذهنك. وأنت فإذا استقريْتَ أطوار عقلك زادت هذه المسألة وضوحًا عندك وجلاءً، فإن أحدنا ليرى الخَاتم أو الشَّنْف أو غيرهما من أصناف الحُلي فيستحسنه، وهو لو راقب نفسه لرأى خياله قد انتزع هذا الخَاتم أو ذلك الشَّنْف من مكانه ووضعه في خنصر مليحٍ أو قرَّط به أذن حسناءٍ بينما يقلبه في كفيه وينظر إليه باديًا من قريب ومن بعيد؛ لأن الخيالَ لا يجمَد أمام كلمةٍ تَردُ على السَّمعِ أو منظر تكتحل به العين، إنما يتوخى دائبًا أن يسدَّ كل نقصٍ ويملأ كل فراغٍ. ولكن الناس ليسوا جميعًا سواء في قوة التصور وحِدة التخيل، فإن بعضهم ليرى «صورًا» صريحةً حيث لا يبصر غيرُهم إلا رموزًا مجرَّدةً. وهذا من أسباب قوة العقل، ولكنها قوة قد تنتهي بصاحبها إلى ضعف، فإن حِدة الخيال في مسائل الفلسفة النظرية وأمور الحياة اليومية قد تكون مَدعاة لتشرُّد الذهن وتمزُّق شمل قواه. وبعد، فإن الشعر مجاله العواطف لا العقل، والإحساس لا الفكر، وإنما يُعنى بالفكر على قدر ارتباطه بالإحساس. ولا غنى للشعر عن الفكر، بل لا بدَّ أن يتدفق الجيد الرصين منه بفيض القرائح، ويتخفى بنتاج العقول وجني الأذهان. ولكنَّ سبيل الشاعر أن لا يُعنى بالفكر لذاته ولسداده ورزانته، بل من أجل الإحساس الذي نبَّهه أو العاطفة التي أثارته، فربما كان الفكرُ أصلًا فُروعه الإحساسُ وثماره العواطف، وربما كان فرعًا أصلُه الإحساسُ. فالفِكرُ من أجل الإحساس شعر، والإحساس شعر، أما الفكر لذاته فذلك هو العلم، وعلى هذا أكثر مَن كتبوا في الشعر من فحول العلماء والشعراء. خُذ مثلًا لذلك بيت ابن الطثرية: قد لا يكون البيتُ خيرَ ما يُتَمَثَّلُ به، ولكنه حسْبنا في الإبانة عما نريد. فإن ابن الطثرية، لم يقصد إلى سرد هذه الأخبار عليك، ولو أنَّ رجلًا ساقها إليك نثرًا ما تحركت لها النفسُ ولا نَزا لها القلبُ، وهل هي في ذاتها خارجةٌ عما تدور عليه أكثر الأحاديث إذا انتظمت بالإخوان عقودُ المجالس؟ ولكنك ترى البيت برغم ذلك يمتزج بأجزاء نفسك ويتصل بفؤادك؛ لأن الشاعر بثَّك فيه كَمَدَه الباطن وحسرته الدخيلة، ونزع فيه بالآمال فانتقل إحساسه منه إليك وتغلغل من نفسه إلى نفسك. وكذلك لا بدَّ في الشعر من عاطفة يُفضي بها إليك الشاعر ويستريح، أو يحرِّكها في نفسك ويستثيرها، وإذا كان هذا هكذا فقد خرج من الشعر كل ما هو «نثري» في تأثيره، أو ما كان في جملته وتفصيله عبارة عن «قائمة» ليس فيها عاطفةٌ، ولا هو مما يُوقظ عواطف القارئ ويحرِّك نفسه ويستفزها، مثل شعر الحوادث اليومية الذي وَلِع به حافظ وأشباهه ممَّن لا يفهمون الشَّعر ولا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يرمون به إلى غير الكسب ومجاراة العامة من القراء والكتاب ومن الأميين أيضًا، ومثل شعر المديح كلِّه الذي اكتظَّت به دواوين شعراء العرب، ومثل مزدوجة أبي فراسٍ الطردية التي يقول في أولها: إلى آخر هذا الهراء السخيف. فإن هذا الكلام ليس من الشعر في شيء وإن كان موزونًا مقفًّى. وإن عُدَّ هذا الهذر من الشعر ليثير سُخط مَن لا يعرف العرب عليهم وعلى ذوقهم. وأي فرقٍ بالله بين هذا الكلام وبين أن يقول لك صاحب إني ساكنٌ بيتًا له سلالم وفيه أربع غرفٍ في كل غرفة نافذةٌ أو اثنتان، وأنا أنام فيه وآكل وأشرب؟ إنْ كان هذا شعرًا فذلك شعرٌ. وأُقسم ما كان للأرنب اثنان ولا أُفردت خمسة للغزلان إلا من أجل الوزن والقافية، وعلى أن هذه المزدوجة قد خلت من الفكاهة أيضًا فهي مرذولة مقبوحة لا جد فيها يُطبي الأهواء ولا هزل تستروح به النفوس. قال سُلجز: «هذه بديهيات الشعر: ينبغي أن يكون كل شيء فيه جائشًا بالعمل أو العواطف. ومن هنا كان الشعر الوصفي البحت مستحيلًا إذا هو اقتصر على الموضوع وخلا من العمل أو العواطف. قال، إنك لا تجد في شعر «هومر» شيئًا من الوصف إلا كان العمل محتويًا له.» نقول ولا في شعر غيره من الفحول. وقد علَّل هِجل ذلك بقوله: «ليست الأشياء ووجودها مادة الشعر، ولكن مادته الصور والرموز الخيالية.» لا شك في أن العاطفة في الشعر هي الأصل في هذه المحسنات التي يخلعها عليه قائلوه، ومبعث هذا البديع الذي جُنَّ به الناس وافتُتنوا ببهجته في الزمن الأخير، وذلك لأنه لما كان الشاعر لا يسوق لك الشيء من أجل أنه حقيقة وحسب، بل كما تراه وتحسه رُوحُه فقد صار لا بد له من لغة حارة مستعارة يترجم بها عنه. «وقد يستعمل هذه المحسنات طائفةُ النظَّامين والمقلِّدين، ولكنك تراها في كلامهم نافرة مرذولة ثقيلة الورود على النفس، ممجوجة في السماع من أجل أنها محسنات أتى بها صاحبها لبريقها ورونقها لا لأنها عالقة بالعاطفة، وإنما تراهم يستكثرون من البديع والاستعارات والمجازات في كلامهم ليخفي وميضَها قِدمُ المعاني وقبحُها وفسادُها، كما تستكثر العجوز الشمطاء من الحُلي لتخفي هَرَمها وما صنع الدهر بها، وتتعهد نفسها بالطيب لتذهَبَ نَتَنَ ريحها وتدهِنُ بالأصباغ لتخفي غُضون وجهها وصفرته ودمامته، أما الشاعر المطبوع الذي يؤثِّر خيالُه في إحساسه أو إحساسه في خياله، فليست به حاجة إلى الكد والتعمُّل، وإنما يجيء ذلك منه عفوًا على غير جهد، فلا تكاد تحس أن هنا شيئًا من البديع.» وإذ قد عرفتَ ما تقدم، فهذه مسألة رَكِب الناسَ فيها جهلٌ عظيمٌ ودخلَ عليهم منها خطأٌ فاحشٌ، وهي هل يُمكن أن يكون النثر شعرًا؟ فقد ترى أكثر الناس في هذا البلد المنحوس على أن الوزنَ ليس ضروريًّا في الشعر، وأن من الكلام ما هو شعرٌ وليس موزونًا. حتى لقد دفعت السخافة والحَمَق بعضَهم إلى معالجة هذا الباب الجديد من الشعر وهم يحسبون أنهم جاءوا بشيءٍ حسنٍ وابتكروا فنًّا جديدًا، ولولا إشفاقي على القراء لأوردت لهم أمثلةً من ذلك. والأصل في هذا الخطأ الذي دخل عليهم هو فيما أظن وأعلم، أن النَّظم شيء يستطيعه كل الناس إذا هم عالجوه، ولكن الشعر مَلَكةٌ لا يُؤتاها إلا القليل، وأن كثيرًا من الكلام المنثور يشبه الشعرَ في تأثيره، انظر ما يقول سيد كتَّاب مصر (سابقًا) المويلحي في هذا المعنى: «ويوجد الشعر في المنثور كما يوجد في المنظوم إذا أحدث تأثيرًا في النفس، ومثلُ ذلك ما تراه في كلام الأعرابي وقد سُئل عن مقدار غرامه بصاحبته فقال: «إني لأرى القمر على جدارها أحسنَ منه على جدران الناس»، وكقول الآخر: «ما زلتُ أُريها القمر حتى إذا غاب أَرَتْنِيهِ.»» ا.ﻫ. وقد فاته هو وأضرابه أن النثر قد يكون شعريًّا — أي شبيهًا بالشعر في تأثيره — ولكنه ليس بشعرٍ، وأنه قد تغلب عليه الروح الخيالية ولكن يُعوِزه الجسم الموسيقي، وأنه كما لا تصوير من غير ألوان، كذلك لا شعر إلا بالوزن. وليس مَن ينكر أن الشعر فنٌّ، فإن صحَّ هذا فما هي آلاته وأدواته؟ وهل النثر فنٌّ آخر أم الاثنان فنٌّ واحد؟ ليس لهذه الأسئلة إلا جوابٌ واحد. قال هِجل: «الوزن أول ما يستوجبه الشعر ولعله ألزم مما عداه.» ا.ﻫ. وتعليل ذلك فيما نعلم أن كل عاطفة تستولي على النفس وتتدفق تدفقًا مستويًا لا تزال تتلمس لغةً مستوية مثلها في تدفقها؛ فإما وُفقت إليها واطمأنَّت، وإلا أحستْ بحاجةٍ ونقصٍ قد يعوقان تدفقها الطبيعي، وربما دفعاها إلى مجرى غير طبيعي، فيضر ذلك بالجسم والنفس جميعًا، كالحامل لا تزال تتمخض حتى تلد. وهذا هو السبب فيما يجده الشاعر من الروح والخفة بعد أن ينظم إحساسه شعرًا، ولم تزل العواطف العميقة الطويلة الأجل — مذ كان الإنسان — تبغي لها مخرجًا وتتطلب لغةً موزونة، وكلما كان الإحساس أعمق كان الوزن أظهر وأوضح وأوقع، ولكنه لا بدَّ لذلك من أن يجمع الإحساس بين العمق وطول البقاء فإن بادرة الغضب على حِدَّتها ليس لها علاقة طبيعية بالوزن ولا بالموسيقى. إذن فالوزن ضروري في الشعر وليس هو بالشيء المصطلح عليه، ولكنه جوهري لا بدَّ منه، وإن شئتَ فقُل هو جثمان الشعر، وليس يكفي أن تدعوه ثوبًا يخلعه الشاعر على معانيه فتشير بذلك إلى أنه شيء منفصل عن الشعر؛ لأن الإنسان لم يخترع الوزن — لا ولا القافية — ولكنهما نشآ منه، ولا شعر إلا بهما أو بالوزن على الأقل. قال بيتهوفن: «النغم حياة الشعر «الحسية»، ألا ترى كيف أن ما تحتويه القصيدة من معاني الروح يصير شعورًا حسيًّا بالنغم؟» ا.ﻫ. فليس الشعر — كما يقول وردزورث — نقيضَ النثر، كلا! كذلك ليس الحيوان نقيضَ النبات، ولكنَّ بينهما على ذلك فرقًا عضويًّا لا سبيل إلى إغفاله. وليس النظم مرادفًا للشعر، ولكن الوزن على هذا جُثمانُه الذي لا بدَّ منه ولا غنى عنه. وقد يكون النثر شعريًّا جائشًا بالعواطف ولكنه ليس شعرًا. ولا بدَّ من تفهم ذلك؛ لأن فيه الحد بين الشعر وبين غيره من فنون الكلام. ••• إن عالم الفنون يجب أن يكون أسمى العوالم وأبهاها؛ حيث يحوِّر كل ألم إلى لذة مضاعفة؛ وحيث يشبه الواقف على قمة شامخٍ من الجبال تنفجر العاصفة على العالم تحته ولا يصيبه منها إلا نسيم برود … فكل قصيدة غيرُ شعرية إذا كان ختامها غير موسيقي. ا.ﻫ. ولَعمري إنه عالم آخر يتراءى فيه عالمنا ولا يُراق في معاركه من الدماء إلا مثل ما يريقه الإله المجروح من دمه المعسول، وأظهر ما يكون ذلك، في الموسيقى «الصارخة كالإله الموجع» — كما يقول كيتس — حيث ترى الألحان التي تحيِّر الدموع في الجفون لا تزال تُلطف منها روح الجمال السائدة عليها، وإن في ذهن كل شاعر للحنًا يخفِّف من ألم خواطره. وأظهر ما يكون الشاعر، في هذا اللحن، وليس تُعيِيه قيودُ الوزن ولا تبرح به أغلال القافية — فإنه لا يشقى بالوزن — لا ولا بالقافية — إلا العقلُ الأسير المكبول. وإذا كان امتياز الشعر بالتأثير فليس لشاعر على شاعر فضل في مذهبنا إلا بسهولة مدخل كلامه على النفس وسرعة استيلائه على هواها، ونيله الحظَ الأوفر من ميلها، وإنما يلائم الشاعر بين أطراف كلامه، ويساوق بين أغراضه، ويبني بعضها على بعض، ويجعل هذا بسبب من ذاك؛ لتكون عبارته أفعلَ باللُّب، وأملكَ للسمع والقلب، وأبلغَ في التأثير. والشاعر في ذلك كصانع الديباج، يوشيه بمختلف التصاوير … ومتناسبها ليكونَ أملأ للعين، وأوقع في النفس، وأعلقَ بالقلب، وليست المزية كما يتوهم مَن لا يتدبرون الكلام، في أن هذا أكثر تأنقًا من ذاك، وأحسن تحبيرًا، بل المزية في أن أحدهما أقدر على إيلاج المعنى ذهنَ القارئ، وذلك هو الأصل في جميع فنون الكتابة. قد يكون عمق الفكرة مانعًا من فَهْمها، ولكن الغموض على أية حال عيبٌ في الشاعر أو الكاتب؛ لأن الكلام مجعول للإبانة عن الأغراض التي في النفوس، وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد، وأوضح في الإبانة عن المعنى المطلوب، ولم يكن مستكرَه المطلعِ على الأذن، مستنكَر المورد على النفس، حتى يتأبَّى بغرابته في اللفظ عن الإفهام أو يمتنع بتعويص معناه عن التبيين. فما كان أقرب في تصوير المعاني وأظهر في كشفها للفَهم، وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن المراد وأشد تحقيقًا في الإيضاح عن الطلب، وأعجب في وضعه، وأرشق في تصرفه، وأبرع في نظمه، كان أولى وأحقَ بأن يكون «مؤثرًا»، وليس معنى هذا أن «التأثير» لا يتأتَّى إلا ببراعة اللفظ ورشاقة العبارة، فقد يكون الكلام حسنًا «مؤثرًا»، ويتفق له ذلك من غير رشاقة ولا نضارة، «وإنما الألفاظ أوعية للمعاني، فأحسنها أشفها وأشرقها دلالة على ما فيها.» فقد تبلغ بالعبارة العارية العاطلةِ ما لا تبلغُه بالكلام المفوَّف، بل قد يكون التأنق إذا أسرف فيه الشاعر أو الكاتب أو جهلَ مواضعه، وأخطأ مواقعه، أو تكلَّف له غير حاجة إليه، حائلًا بينه وبين ما يريد من نفس القارئ. ألا ترى كيف جنى «أبو تمام» على نفسه بحبه لتطريز الكلام، ومبالغته في تدبيجه، وإسرافه في استعمال الخشن النافر من الألفاظ، وإكثاره من الاستعارات والتكلف لها اغترارًا بما سبق من مثل ذلك في كلام القدماء، حتى كثر في شعره الرث الفاسد، والغامض الذي ينبو عنه الفَهم، وحتى صار أصبر الناس لا يقوى على إتمام قصيدة من شعره من غير تحاملٍ على نفسه، وإرهاق لذهنه، وحتى جاء شعره غير مستوٍ، لكثرة اعتسافه ومزجه الغرر بالعرر، والمأنوس بالوحشي الكدر. انظر إلى قوله يصف قصيدةً له: فجعل كما ترى للقصائد مزامرَ إلا أنها لا تُنفخ ولا تُزمر، ثم تأمل قوله وما أحسنه وألطفه: قد تراه يخلط الحسنَ بالقبيح والجيد بالرديء والحلو بالمر، وذلك لا ريب نتيجة التكلف، ولو أنه أطلق نفسه على سجيتها ما اختلف شعره هذا الاختلاف، ولا عظُم الفرق بين جيِّده ورديئه، وإنما رأى أبو تمام أشياء يسيرة من بعيد الاستعارات متفرقةً في أشعار القدماء — وإن كانت لا تنتهي في البعد إلى هذه المنزلة — فاحتذاها وأحب الإبداع في إيراد أمثالها فاحتطب واستكثر منها … وقد وقع في هذا العيب كثيرٌ من كتَّاب العرب وشعرائهم. على أني لست أُنكِر أن الاستعارات المصيبة وما يجري مجراها من أنواع البديع قد تُبرِز المعنى في أحسن معرضٍ، مثل قوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، فإن ذلك أدلُّ على اللصوق وشدة المماسة، ومثل قول الشاعر: ومثل قول البحتري في وصف البِركة: وقول أبي تمام: وهو كثير في كلام العرب وشعرهم وخطبهم وأمثالهم، وليس بنا إلى استقصاء ذلك حاجة، ولكنَّ للجمال العاطل أيضًا روعةً وجلالًا، ونضرة وملاحةً، وموقعًا حسنًا، ومستمعًا طيبًا. وعليه فِرَند لا يكون على غيره مما عَسُر بروزُه واستكره خروجُه، وتأثير العبارة لا يكون بحسن تأليفها، وجودة تركيبها، وجمال وصفها، فإن ذلك وحده — على شدة الحاجة إليه — غير كافٍ، بل لا بدَّ للشاعر كما أسلفنا أن تكون نواحي نفسه جائشةً بما يحاول أن ينسجه من خيوط الألفاظ، ولهذا كان المديح ثقيلًا على النفس ممجوجًا في الأذن إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة، فليست فضيلة التأثير براجعةٍ إلى ارتباط الكلم بعضها ببعض، وتناتج ما بينها، ولا إلى خصائص يصادفها القارئ في سياق اللفظ، وبدائع تروعه من مبادئ الكلام ومقاطعه، ومجاري الفِقَر ومواقعها، وفي مضرب الأمثال ومساق الأخبار، ولا إلى أنك لا تجد كلمة ينبو بها مكانها، أو لفظة يُنكر شأنها؟ بل فضيلة التأثير راجعةٌ أيضًا وفي الغالب إلى شعورٍ جمٍّ وإحساسٍ قويٍّ بما يجري في الخاطر ويجيش في الصدر وإلى القدرة على إبراز ذلك في أحسن حلاه. انظر إلى أبيات البحتري في وصف الإيوان (إيوان كسرى). ألستَ تحس وأنت تقرأها كأنك شاهد الإيوان وحاضر أمره في حالتي نعيمه وبؤسه؟ وهل كان هذا كذلك لأن الشاعر طابق بين المأتم والعرس، والبيان واللبس والمصبح والممسي، والجن والإنس، واللقاء والفراق وجعل المشتري كوكب نحس وقديمًا كان يطلع بالسعد، ومزج لك الشك باليقين، وجمع بين المؤتلف والمختلف، وقدَّم وأخَّر، وعرَّف ونكَّر، وحذف وأضمر، وأعاد وكرَّر؟ كلا! فإن في شعره ما هو أحفل من هذه الأبيات بأنواع البديع ولا يبلغ مع هذا مبلغها في التغلغل إلى النفس والولوج إلى القلب، بل الفضيلة كل الفضيلة في أن الشاعر كان ملآن الجوانح، مفعم القلب من إحساسٍ مستغرقٍ آخذ بكليتيه، ولهذا ترى روحه مراقة على كل بيتٍ، وأنفاسه مرتفعة من كل لفظٍ، وهل الشعر إلا مرآة القلب، وإلا مظهر من مظاهر النفس، وإلا صورة ما ارتسم على لوح الصدر وانتقش في صحيفة الذهن، وإلا مثال ما ظهر لعالَم الحس وبرز لمشهد الشاعر؟ نعم إن الإحساس الجمَّ والشعور المُلحَّ لا يكفيان، بل لا بدَّ من قوة التأدية وعلو اللسان للترجمة عنهما، ولكنك إن عوَّلتَ على ملاحة الديباجة وجمال الأسلوب وحسن السبك لم تَعْدُ أن تكون صَنِعًا حاذقًا بصيرًا بصرف الكلام، مُتصرِّفًا في رقيقه وجزله، مجوِّدًا في مُرسله ومُسجعه، يتخرج عليك طلبة الكتابة وينسج على منوالك روام الإنشاء نسجهم على منوال الجاحظ والصابئ. ألا ترى ما في كلامهما من الفتور — فتور الصنعة لا الطبع، فتور القدرة لا العبقرية — على اختلاف بينهما في الأساليب، وتباين في مذاهب الكتابة؟ أترى الجملة من كلام أحدهما تستفزك كما تحركك الكلمة من خطب الإمام علي؟ كلا! وإنما كان هذا كذلك؛ لأن الجاحظ والصابئ — وإن تباينت مذاهبهما — كتَّاب صنعة، والإمام علي لم تكن به حاجة إلى الصنعة، لمجيئه في شباب اللغة، والألسنة طليقة، واللهجة بطبعها أنيقة، والترسل وتطريز الكلام على نحو ما ترى في كلام المتأخرين ليسا معروفين. هذا إلى أن أيامه كانت حافلةً بما يحرِّك الخاطر ويبسط اللسان، فأما الجاحظ مثلًا فقد كان من أدباء العلماء، ولهذا ترى في كلامه فتور العلم، والعلم ليس من شأنه أن يستثير العواطف أو يهيِّج الإحساس، وسبيل الجاحظ إذا قال أن يمط الكلام مطًّا ويطيل مسافة ما بين أوله وآخره، وهذا أيضًا من دواعي الفتور وبواعث الضعف، وإن أردت دليلًا آخر على أن أشد الكلام تأثيرًا ما خرج من القلب فليس أقطع من أن تأثير الشعر أبلغ من تأثير النثر، وأن النسيب والرثاء وما يجري مجراهما من فنون الشعر أبلغُ تأثيرًا من المدح والحِكم وأَملكُ لأعنة القلوب. تأمل قول المجنون: إلى آخر الأبيات، وقول جليلة بنت مرَّة ترثي زوجها كليبًا حين قتله أخوها جساس: إلى آخر ما قالت. ثم انظر إلى قول الشماخ في المدح: أو قول زهير: وقل أي هذه الأبيات أشجى وأشد إثارة للنفس وتحريكًا للقلب؟ أأبيات زهيرٍ والشماخ وهي من أحسن الشعر وأجوده وأرصنه؟ أم شعر جليلة وليست من طبقتهما ولا لها دقة معانيهما وشرف أسلوبهما وجودة حبكهما؟ أم أبيات المجنون المستوحِش في جنبات الحي منفردًا عاريًا لا يلبس الثوب إلا خرقةً، ويهذي ويخطط في الأرض، ويلعب بالتراب والحجارة، وينفر من الناس ويأنس بالوحش؟ أليس لبيتيه نَوطةٌ في القلب وعُلوق بالنفس لا تجدهما في أبيات الشماخ وزهير وهما من فحولة الشعراء المعدودين وزعماء القول المتقدمين؟ «ولكنه ليس يكفي المرء أن يكون صائب الفكر صحيح النظر، ولا أن يجعل صدره رائدًا لقلمه، وقلبه صورةً للسانه، بل لا بدَّ له إذا ملك أعناق المعاني أن يحسن تسخير الألفاظ لها»، فإنه كما لا تكون الفضة أو الذهب خاتمًا أو سوارًا أو غيرهما من أصناف الحُلي بأنفسهما، ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تخلص المعاني من أكدار الشبهات ولا يتم استيلاؤها على هوى النفس، إلا بما يحدث فيها من النظم، وإذا كان لا معنى إلا باللفظ، فما أحراه أن يكون مشرقًا محكم الأداء؟ والشعر يُعد فنًّا، ولا بدَّ في كل فن من الإحسان والتجويد، وإلا بار على أهله. وأنت فبأي شيء تُفضِّل قول أبي تمام: على قول المتنبي: أو قول البحتري: على قول أبي تمام: أو قول أبي تمام: على قول المتنبي: نقول بأي شيء تُفضِّل البيتَ على أخيه وهما في المعنى سواء إن لم يكن بإحكام السبك والبراءة من وصمات التعقيد والقلق والضعف؟ قد يكون الرجل غَمَرَ القريحة صادقَ النظر «لو حلَّ خاطره في مقعد لعدا»، ثم تراه يعجز عن إبراز هذه الخواطر التي تتدفق بها بديهتُه، وتهضب بها قريحتُه، في أحسن حُلاها، بل ربما أفرغها في قالب تتعاوره الركاكة، ويتجاذبه التعقيد فلا يكون من ورائه محصول، على أنه لا ريب في أن فن إبراز المعاني رهنٌ أيضًا بصحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة، ولكنه أيضًا فوق هذا وذاك، وليس يستطيعه إلا مَن أعدتُه له طبيعته، وهيأت له أسبابَه فطرتُه، فهو على أنه فن، يحتاج إلى مواهب وملكات، كالتصوير والموسيقى، وليس ثَم شك في أن كل متعلم يستطيع الكتابة — كما لا شك في أن كل مَن درس أصول الرسم وقواعد التصوير لا يعجز عنهما — ولكن الإجادة والإحسان في كلٍّ من ذلك، مَلَكة لا تحصل بالدرس ولا تتهيأ بالمعاناة والطلب؛ لأن القدرة على استشفاف الصلات بين الأشياء وإدراكها ليست في كل حالٍ مقرونة بالقدرة على اختيار أفضل «الرموز» اللفظية لإبراز هذه الصلات وتوضيحها، هذه قدرة الكاتب، وتلك قدرة المفكر. قال «دي كوينسي»: «للأسلوبِ عملان: إيضاح المعنى المستغلَق على الأذهان، وإحياء قوة المعنى وتأثيره بإيقاظ الذهن له.» نقول ولا بدَّ لذلك من حافظةٍ قويةٍ بعيدة النسيان ينتقي منها الكاتب أو الشاعر خير «الرموز» وأكفلها بإحداث الصور المطلوبة في ذهن القارئ، وذوق سليم يحور إليه المرء في اختيار هذه «الرموز»؛ ليكون حسنُ الاختيار واتساقُ النظام مُعينَين للذهن على قبول ما يُراد نقله إليه. ولتعلم أن قدرة الذهن على استظهار الألفاظ — كقدرته على إدراك الحقائق ووعيها — ليست إلا مصدرًا واحدًا من مصادر القوة العقلية، إذا لم يؤازرها الذوق السليم والسليقة صارت قوةً تنتهي بصاحبها إلى ضعفٍ. فعلى قدر نصيب المرء من سلامة الذوق ولطف السليقة يكون انتفاعه بمحفوظه، فقد يستطيع قليلُ المحفوظ — بما رُزق من الذوق ووُهب من مَلَكة الاختيار — أن يفرغ خواطره في قوالب منتقاة مُلئت جمالًا وقوةً، يعيي القويَّ الذاكرةِ مكانُ ندِّها، كما يستطيع نَزرُ العلم — بما مُنح من حدة الفؤاد وصفاء الذهن — أن يستخلص لك من الصلات الخفية الدقيقة ما يعمى عنه أولو البسطة وذوو العرفان الشامل المحيط. وإن من الخطأ الفاحش أن يظن المرء أن الألفاظ — وهي أدوات الكتابة وآلاتها — هي كل ما يحتاجه ليكون منه كاتب أو شاعر، كما أنه من أفحش الغلط أن يَحسِب حاسبٌ أن الأصباغ والألوان — وهي مادة التصوير ووسائطه — حسب المرء ليكون مصورًا. فالمحفوظ المثير من أسباب قوة الكاتب أو الشاعر، ولكنه قد يكون أيضًا من بواعث ضعفه وتخلفه، ولقد صدق بعضُهم إذ قال: «إن الناس يستعملون كثيرًا من الصفات والنعوت والمترادفات لعل بعضها يصيب إذا طاش أكثرها، هذا دأب السباعي ووكده، وهو من أكبر أسباب ضعفه وفتوره وفيما يجده قراؤه من الثقل والملال، ولكن المطبوع يعلم ماذا يأخذ وماذا يطرح، وإنما يتسرب الضعف إلى الكتابة من ناحيتين: التساهل في العبارة وقلة العناية والتدقيق في استعمال الألفاظ، والمبالغة في التحبير والتزويق.» فإذا صحَّ ما نذهب إليه من الرأي استوجب ذلك أن لا تكون لغة الشاعر كلغة الناس، بل لغة تصلح لهذه الأفواه السماوية التي تخرج منها وتند عنها، ولا يتهيأ ذلك بالمجاز والاستعارة وما إلى ذلك فقط، بل إغفال كل لفظٍ وضيعٍ مضحكٍ، ونعني باللفظ الوضيع ما تحوم حوله ذكر وضيعة، فإن كل لفظٍ لو تفطنت مبعث طائفةٍ من الذكر بعضها وضيعٌ وبعضها جليلٌ، ولا مَسمح للشاعر عن التنبُّه إلى ذلك، وإلا أساء إلى نفسه وإلى جلالة خواطره وإحساساته وخيالاته، وكثيرًا ما يسيء الشعراء من هذه الناحية عن قصد وعن غير قصد، فيخلطون الغثَّ بالسمين ويطوون المضحك في ثنايا الجليل، أترى لو كان كافورُ نبيًّا أتعبأ به شيئًا أو يكون له قدر في نفسك وجلال في صدرك بعد هجاء المتنبي له وسخريته به، والتهكم عليه؟ فإذا شبَّه أحد الشعراء مَلِكًا به على سبيل المدح فماذا يكون قولك؟ ألا تستخف التشبيه وتظن الشاعر قصد إلى الهجاء لا المدح؟ وما يُقال في الأعلام يُقال في غيرها من الأسماء والصفات إلخ؛ لأن لكل لفظٍ تاريخًا وقد ينحط اللفظ في زمن من الأزمان أو يرقى حسب ظروفه، شأن كل شيء في هذه الدنيا التي لا يبقى فيها شيء على حال. قد نَبَغ الشعراء من كل أمة كائنةٍ ما كانت، وظهروا في كل شعب، كل على قدر مبلغه من الرقي الفكري، أفلا يستشف المرء من ذلك شيئًا؟ وهل ليس للشعر غاية إلا ما يعزونها إليه من إدخال اللذة على القلوب والسلوان على النفوس؟ أم هل صحيح ما يزعمون من أن الفنون تنشأ من أميال الإنسان الطبيعية وتملأ فراغ الرجل المستوحش والمتمدين المترف سواء بسواءٍ، إن هذا الرأي الذي لا يخرج إلا من رأس منطيقي جافٍ يسفل بالشعر إلى منزلة الألاعيب ويا سَوءها منزلة، ولكن هذا المنطق مكذوب لحسن الحظ. وذلك أن السرور واللذة الحاصلين من الشعر إحدى غاياته ولا ريب؛ لأنه إذا لم تحدث المتعة فقد ضاع فعله وصار كأنه لم يكن، ولكنها ليست الغاية القصوى، وإنما نتج هذا الغلط من الجهل وعجز الذهن عن التفكير الصحيح. ألا ترى أن المرء يأكل ولا ترى مع هذا أحدًا يقول إن اللذة المستفادة من الطعام هي غاية الحاجة إليه، بل الناس جميعًا يعلمون أن الغاية من الطعام الصحة والقوة والقدرة على استخدام قوى الجسم، فكأنما أرادت الطبيعة أن تجعل من اللذة المكتسبة من الطعام شاحذًا لشهوته حتى يتم لها ما تريد منه ويستيسر ما قصدت إليه. إن مَن يتدبر تاريخ الشعر لا يسعه إلا التفطن إلى عنصر مكوِّن له في كل دورٍ من أدواره، وصفة غالبةٍ عليه في كل طورٍ من أطواره، وهي ما أسميه «الفكرة الدينية»، فإن كل شاعرٍ في كل عصرٍ نبيُّه وطفله معًا. ومهما تكن أغانيه مصبوغةً بألوان عواطفه وإحساساته وخيالاته فإنه لا يزال لها هذه الغاية: السمو بقومه إلى درجةٍ من الفكر أعلى ومستوًى من التصور أرقى، قال سكوت: «إن آلهة الشعر يقيدن في ما يوحين تاريخ المستوحشين وشرائعهم ودياناتهم؛ ولذلك لا تكاد تجد شعبًا مهما بلغ من استيحاشه وعنجهيته لا يصغي إلى أغاني شعرائه وما تضمنت من أخبار آبائه وأجداده وشرائعهم ومبادئهم وأخلاقهم ومدح آلهتهم.» وليس في الأرض مَن ينكر فعل الشعر وتأثيره الأخلاقي، ولكن هذا التأثير إذا حلَّلتَه صار ماذا؟ أليس هو «الفكرة الدينية»؟ ولسنا نعني بالفكرة الدينية هذه الأديان التي جاء بها محمد وعيسى وموسى وغيرهم، وإنما نعني أن كل «فكرة» عليها مسحة من الصبغة الدينية التي هي قاعدة كل حقيقةٍ تدفع إلى تدبر اللانهاية تدبرًا جديدًا، أو إلى مظاهر جديدة في صلاتنا الاجتماعية. فالحرية والمساواة والأخوة (وتلك شعار القرن المنصرم) ليست قوانين في شريعة العصر، ولكنها لما كانت غايتها النهوض بغرض اجتماعي فلسنا نرى ما يمنع من أن نسميها دينية. وليحذر القارئ من تضييق الخناق على مدلول ألفاظنا ولا يتعجل في تطبيقها؛ إذ لا ريب أن الشاعر لا يسوق لك هذه «الفكرة» عريانة الهيكل وقد لا يحسها أو يدركها، ذلك سبيل الفيلسوف. وعلى أنَّا وإنْ كنا نستعمل لفظة «الفكرة» بأوسع معانيها العامة، وكنا نعني بها روح العصر جملة، إلا أنه لا تخفى عنا عناصرها المتضادة التي تتألف منها ولا يغيب عنا أنه قد لا تحتوي القصيدة إلا بعضَ هذه العناصر، ولكن ندع شرح ذلك وتبيينه لما نحن موردوه عليك بعدُ. ليس أظهرَ في تاريخ الشعر ولا ألفتَ للنظر من علاقته بالدين، ولقد كان عماد الشعر القديم وقوامه الأناشيدُ الدينية والأساطير المقدسة والآمال الحارة، قال الدكتور أولريكي في كلامه عن شاكسبير: «الأصل في الشعر وفي الدين واحد، وفي هذا دلالة على أنه إلهي وأنه إلهام ثانٍ.» ا.ﻫ. وأنهما لكذلك في جوهرهما أيضًا، وليس جنوح الشعر في عصور المدنية عن وظيفته المقدسة إلا في الظاهر؛ لأن غاية الدين وغاية الشعر كانتا ولا تزالان واحدةً. وغاية الدين فيما نعلم ليست العقيدة النظرية؛ بل النتيجة العملية، أي السمو بالناس إلى منزلةٍ لا تبلغهم إياها غرائزهم الساذجة وعواطفهم الطليقة. وتلك لعمري غاية الشعر أيضًا ولكن من طريق الجمال. فالفرق بينهما ليس في الغاية ولكن في الوسيلة؛ لأن الشعر يطهِّر الروح من طريق العواطف والإحساسات لا بالصوم والصلاة وغيرهما من مراسم العبادة. وقد يستعين الدين بالعواطف، ولكنه أبدًا يستعين بالعقل ويخاطبه أكثر مما يخاطب العواطف. وغاية الشعر أن يدخل في متناول الحس العواطف والمدركات وكل ما له وجود في العقل، وأن يوقظ الحواس الخامدة والمشاعر الراكدة، وأن يملأ القلب ويُشعر النفي كل ما تستطيع الطبيعة البشرية احتماله، وكل ما له قدرة على تحريكها وابتعاثها، وأن يُدرَّب المرء على الاستماع بتدبر عظمة الجلال والأبد والحق، وأن يُمثِّل ذلك للإحساس ويُحضِره للذهن، وأن يكشف لنا عن وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم، وأن يعين القلب على تعرف الهول والفزع والسرور واللذة، وأن يخفق بالوهم على جناح الخيال ويفتنه بسحر عواطفه وخواطره، وأن يسد النقص في تجاريب المرء، وأن يثير فيه تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكًا له وتجعله أشد استعدادًا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها؛ لأنه ليس بالإنسان حاجة إلى التجريب الشخصي لتتحرك فيه هذه العواطف، بل حسْبه «ظاهر» التجريب الذي يهيئه له الشعر، وإنما يستطيع الشعر أن يقوم مقام التجربة الشخصية الواقعة بما يمثل للمرء؛ لأن كل حقيقة واقعةٍ يجب أن تمثَّل في الرأي قبل أن يتعرَّفها الذهن أو تؤثر فيها الإرادة. ومن أجل ذلك كان سواءً على المرء أن تؤثر فيه الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريقٍ آخر كالصور والرموز التي تمثل صفات هذه الحقيقة، فإن في طاقة الإنسان أن يُصور لنفسه ما ليس له وجود حتى يعود وكأن له جسمًا يحس ويلمس، فسيان عند الإنسان أن يؤثر فيه الشيء نفسه أو مثاله؛ لأنه يحرك فيه عوامل الفرح والحزن على كل حال. وسواء أكان الشيء حاضرًا أم ماثلًا في الخيال بصورته، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يحس حركات الغضب والبغض والرحمة والقلق والفزع والحب والإجلال والعجب والشرف والشهرة، فكأنَّ هذه الرموزَ الشعريةَ اللسانُ المترجِمُ (كما يقول هوريس) عن الحقائق. قال هِجل: «حتى الدموع على الأحزان أعوانٌ، وحتى رموزها فيها للشجي سلونٌ؛ لأن الإنسان إذا كظَّه الحزن تلمَّس مظهرًا لذلك الألم الباطن، ولكن العبارة عن هذه الإحساسات بالألفاظ والصور والألحان أوقع في القلب وألطف في النفس وأروح للصدر. ولقد فطن القدماء إلى نفع ذلك فكانوا يقيمون المآتم فيتأمل الحزن مظهره ويرى الحزينُ غيره ينطق بلسان كمده، ويحمله كثرة ما يسمع وترديد ذكر ما يفجع على التفكير فيه، فيُروِّح عنه ذلك ويمسح أعشار قلبه بيد السلوان، ولذلك كانت غزارة الدمع ووفرة النطق خير وسيلة لاطراح أعباء الهموم عن عاتق الشجي والترفيه عن القلب المثقل بالأوجاع.» ولا يجهلن أحد فيحسَب أن الدين والفلسفة والشعر شيء واحدٌ. فإنها على اتصال ما بينها وإحكام رابطتها، لكل منها مظاهر خاصة، ولكنها جميعًا على اختلاف مظاهرها ومناهجها تمثل «وجوه الفكرة» في كل عصر. قال ريتر: «لو كان للدين دقة العلم لما عاد دينًا ولصار فلسفة. الأصل في الدين الوحيُ والإلهام لا التدقيق والتقرير، أما الفلسفة فإنها تستقي عقائدها من موارد العقل المحاذر … إلخ.» وقال كوزان: «كل عصر من عصور المدنية تغلب عليه «فكرة» حيوية عميقة غامضة، ولكنها أبدًا تحاول أن تتكشف للناس في مظاهر حياتهم وفي قوانينهم وآدابهم وديانتهم. وتلك هي وسائطها المترجمة عنها.» وقال جوفروي في الفرق بين الشعر والفلسفة: «الشاعر يترجِم في الأغاني عن عواطف العصر وإحساسه بالخير والجمال والحق، وهو يعبر عما يجيش بصدور الجماعة من الخواطر الغامضة، ولكنه لا يستطيع أن يوضحها؛ لأنه أحسُّ منهم ولكنه ليس أقدر على تفهمها، وما يتفهم هذه الخواطر الغامضة إلا الفلاسفة، ولو أن الشاعر استطاع أن يقف عليها ويكشف عنها لصار فيلسوفًا لا شاعرًا.» وبعدُ، فإذا كان رأينا غير صحيح، وليس ثمة «فكرة» ينطق بها الشاعر ويترجم عنها، ولم يكن الشعر إلا عبارة عن الإحساس من أجل أنه إحساس، فما تأويل أن كل العصور لا تنتج الشعراء على السواء؟ ولماذا يظهر الشعراء في عصرٍ من العصور ثم ينام بأمثالهم الزمن قرونًا؟ لا أرى «الصدفة» تكفي في شرح ذلك وتعليله؛ لأن الذي يقلب تاريخ الأمم لا يسعه إلا نبذ هذا الرأي؛ إذ كان الشعراء لا ينبغون في عصور الترف والخمول والسلم السمين، بل في عصور النزاع والقلق والاضطراب؛ تأمل أثينا بلاد القلق والاضطراب، وإيطاليا أيام دانتي وبترارك حين كان يتنازعها الأحزاب وتفُت في عضدها الحروب، وإنجلترة في عهد إليزابت وجيمس وبعد الثورة الفرنسوية، والعرب في جاهليتهم وفي عصور النزاع والاضطراب التي تلت الإسلام. وفي غير هذه فإنك حيثما قلبتَ طرْفك لا بدَّ واجدٌ مصداق قولنا، وإنما كان هذا هكذا؛ لأن كل ثورةٍ أو انقلاب إيذان بمولد فكرة أو مذهب يحسه الناس جميعًا، فينشأ الشعراء ليعبروا عن هذه الفكرة أو المذهب وليشرحوا للناس آمالهم في الحياة في المستقبل. ولكن الشاعر كما أسلفنا القول لا يعطيك من هذه «الفكرة» جُثمانها العريان، ولعله لا يفهم هذه الفكرة كل الفهم، ولا يحسها كل الإحساس ولا يتناول إلا وجوهًا منها، ومن هنا نشأت الحاجة إلى أكثر من شاعرٍ واحدٍ ليتم إيضاح الفكرة من جميع جهاتها وعلى كل وجوهها. وهذا أيضًا هو السر في كثرة المقلِّدين الذين يتعقبون آثار الشاعر؛ لأنهم يجدون خواطرهم وإحساساتهم مترجِمة لهم في كلامه فيشايعونه ويجرون وراءه رافعين أصواتهم بمثل ندائه وشبه آماله ومخاوفه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/0.2/
مراجع رواية غادة كربلاء
مراصد الاطلاع. قاموس الإسلام. الإنسكلوبيديا البريطانية. حياة الحيوان. الآداب السلطانية للفخري. كتاب الإرشاد. نهج البلاغة. الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. المستطرف في كل فن مستظرف. العقد الفريد. طبقات الأطباء. مروج الذهب للمسعودي. حكاية عاشوراء. كتب تاريخ: ابن الأثير — أبي الفداء — الدميري.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/1/
فذلكة تاريخية
قريش قبيلة من عرب الحجاز، تتفرَّع عنها عدَّة بطون، أشهرها بطن عبد مناف، وهو فخذان: بنو أمية، وبنو هاشم، وكانت الرياسة في قريش لهذه الفخذين لا ينازعهما فيها منازع، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عددًا، وكانت لهم الزعامة في الحرب، حتى إذا ما جاء الإسلام — والنبي من بني هاشم — اعتز به الهاشميون، وذهل الناس بأمر النبوة عن العصبية، لا سيما أن الإسلام نهاهم عنها، وقال نبيه: «إن الله أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها؛ لأننا وأنتم بنو آدم، وآدم من تراب.» وبقي العز لبني هاشم في مكة حتى مات أبو طالب عم النبي، وهاجر بنوه مع من هاجروا من الصحابة إلى المدينة، وفيهم أخواه حمزة والعباس وكثيرون غيرهما من بني عبد المطلب وجميع بني هاشم، فخلا الجو في مكة لبني أمية، وصارت الرياسة إليهم أثناء محاربتهم للمسلمين في بدر وغيرها، ورئيسهم يومئذٍ أبو سفيان والد معاوية مؤسس الدولة الأموية. فلما انتصر المسلمون في غزواتهم، وهمُّوا بفتح مكة في السنة السابعة من الهجرة، كان أبو سفيان كبير قريش فيها، وقد تحقق يومئذٍ أن المسلمين فاتحوها لا محالة، فجاءهم وأسلم، ثم أسلم أولاده كذلك. ولما تولَّى أبو بكر الخلافة لم يكن بنو أمية وأهل قريش كلهم ينالون من المناصب إلا بعض ما يناله المهاجرون الأولون، فشكوا ذلك إليه فقال لهم: «أدركوا إخوانكم في الجهاد»، وأنفذهم في حروب الردة فأحسنوا الجهاد وقوَّموا الأعراب، ثم تولَّى عمر فبعث بهم إلى حرب الروم في الشام فافتتحوها، وظل معظمهم فيها، فولي عليها منهم يزيد بن أبي سفيان حتى مات في طاعون عمواس، فخلفه أخوه معاوية، ولما تولَّى الخلافة عثمان أقره عليها، فاتصلت رياسة بني أمية على قريش في الإسلام كما كانت قبله، واشتغل بنو هاشم بأمر النبوة ونبذوا الدنيا. فلما قُتل عثمان واختلف الناس في أمر من يبايعونه بعده، كان دعاة علي أكثر عددًا، ولكنهم كانوا خليطًا من قبائل عربية شتَّى، وبعكس ذلك كانت أحزاب معاوية كلها من قريش، أهل البأس والشدة، وهم جند الشام إلى ذلك الحين، فكانت عصبية معاوية أشد وأمضى، ثم ظهر الخوارج من رجال علي، فانكسرت شوكته، حتى إذا قُتل سنة ٤٠ﻫ اضطر ابنه الحسن أن يخلع نفسه، فاتفق الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة ٤١ﻫ، وكان الناس قد رجعوا إلى أمر العصبية فدانوا للأقوى مالًا وجاهًا، وبذلك غلب معاوية واستقلَّ بالخلافة، وساعده على ذلك دهاؤه وحسن سياسته؛ فإنه كان يصانع رءوس العرب من بني هاشم بالإغضاء والاحتمال والصبر على الأذى والمكروه، وكانت غايته في الحلم لا تدرك، ولكنه كان من ناحية أخرى يبالغ في الحطِّ من قدر بني هاشم وبخاصَّة أهل البيت منهم، وأبناء الإمام علي، حتى كان يفرض على من يعترف بطاعته أن يلعن عليًّا جهارًا، فإذا لم يفعل عاقبه، وله في ذلك حوادث كثيرة أشهرها مقتل حُجْر بن عدي الكندي أحد أشراف بني كندة في السنة الحادية والخمسين للهجرة؛ فقد قتلوه لأنه أبى أن يلعن عليًّا. ••• وأقام معاوية خليفةً في الشام عشرين سنة (من سنة ٤١ حتى سنة ٦٠ﻫ) والمسلمون في الحجاز والكوفة ينتظرون موته ليبايعوا الحسين بن علي؛ لقربه من الرسول، على أساس أن الخلافة شورى يولُّونها من أرادوا بالانتخاب كما كان شأنها إلى ذلك الحين، لكن معاوية سبقهم قبل موته إلى بدعة أحدثها؛ إذ أوصى بولاية العهد لابنه يزيد، فجعلها بالإرث، فلما تُوفي تولَّى يزيد الخلافة وسنُّه بضع وثلاثون سنة، فبايعه الناس بين راضٍ ومكره.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/2/
غوطة دمشق
غوطة دمشق في بلاد الشام مشهورة بخصبها، وهي مربعة الشكل يبلغ طول ضلعها خمسة أميال، وتحيط بها جبال عالية، وتجري فيها أنهار تسقي بساتينها ثم تصب فضلاتها في بحيرة هناك، وفي هذه الغوطة عمرت دمشق منذ بضعة آلاف من السنين، وفيها عدا دمشق قرى صغيرة متفرقة، بينها المغارس والحدائق من أشجار الفاكهة، تجري بينها الجداول والأنهار. وكان على مسافة ميل من الباب الشرقي من دمشق وعلى مقربة من برج العذراء دير قديم يقال له دير خالد، نسبة إلى خالد بن الوليد الذي جاء لفتح الشام في أوائل الإسلام فنزل فيه، وكان اسمه قبل ذلك دير صليبا، وهو على مقربة من برج العذراء في بستان تكاثفت فيه الأشجار من كل فاكهة زوجان. وإذا نظرت إلى ذلك الدير من خارجه تخيلته قلعة منيعة، وكان بناؤه مربعًا، تكاد زواياه تستدير، ويكسو جدرانه من الخارج بلاط صقيل، وقد مالت هذه الجدران في صعودها نحو الداخل بحيث أصبحت قاعدة البناء أوسع من سطحه قليلًا، وله مدخل ضيق قصير لا يكاد يدخله الرجل إلا منحنيًا، وله باب من الخشب المصفح بالحديد قد كساه من الصدأ غشاء كثيف، وليس للدير مدخل سواه، ينفذ منه إلى طرقة طولها بضع أذرع كأنها ممر، تنتهي بباب آخر يؤدي إلى ساحة الدير وحولها الغرف طبقة واحدة، إلا عُلِّيَّة منفردة يقيم فيها رئيس الدير في الصيف والخريف، وللدير نوافذ في أعلى الجدران لا يدركها كفُّ الواقف ولو تطاول إليها ذراعه، وهي كُوًى صغيرة فيها شبك من الحديد، ولا يكاد المتأمل يقف هنيهة حتى يدرك الغرض من بناء تلك الأديرة على هذه الصورة؛ لأنهم كثيرًا ما كانوا يتخذونها معاقل وحصونًا عند الحاجة، على أنهم لم يكونوا يستغنون عن إصطبل أو حظيرة يحبسون فيها مواشيهم ودوابهم. وكانت للدير حظيرة هي بقعة مربعة من الأرض طول ضلعها خمسون ذراعًا، يحيط بها سور من أعواد غليظة مغروسة في الأرض متحاذية، ثُبِّتت في أطرافها العليا عوارض من الخشب شُدَّت إليها بأمراس من قشور الأغصان، ولها باب مصنوع من هذه الأعواد كذلك، يدور على مصراع في طرف أحد جدران السور مما يلي جدران الدير التي تلاصقها، ويغلَق بعارضة ضخمة تدخل في هذا الجدار. ويغطي نصف الحظيرة سَقيفة قائمة على أعمدة غليظة، تأوي إليها الماشية والدواب في أيام الشتاء، ويحيط بالدير والحظيرة والبستان جميعًا سور كبير من العليق المتكاثف، علوه قامة وبعض القامة، وبابه من الخشب أيضًا لكنه أضخم كثيرًا، وقد علقوا عنده ناقوسًا إذا جاء طارقٌ دقه فيسمعه أهل الدير فيفتحون له. تلك حالة دير خالد في السنة الستين للهجرة، وهي السنة التي تُوفي فيها معاوية بن أبي سفيان وخلفه ابنه يزيد على الخلافة الإسلامية في دمشق، وكان رئيس الدير يومئذٍ شيخًا طاعنًا في السن رومي الأصل، قضى فيه ما ينيف على نصف قرن، تدرج خلاله من مراتب الرهبنة حتى صار رئيسًا. ولما نزل خالد هناك كان هذا الرئيس راهبًا صغيرًا فشهد فتح دمشق، ولم يكن يعرف العربية ولكنه أتقنها بعد ذلك، وكان لقدم عهده ودماثة أخلاقه قد حاز منزلة رفيعة لدى الرهبان، وكان معاوية يحترمه، وكثيرًا ما كان يجالسه إذا خرج للرياضة في الغوطة، وربما مازحه، ولما تولَّى يزيد الخلافة ظل على احترامه وإكرامه. ••• في يوم من أيام الخريف من تلك السنة، أصبح أهل الدير وقد جاءهم الفلاحون بأحمال الفاكهة من بساتين الدير، وفيها سلال العنب والسفرجل والتفاح والرمان والكمثرى والخوخ وغيرها، وكان الرهبان يتوقعون قدومهم كل صباح من أيام الخريف، فنزل بعضهم لمساعدتهم في إدخالها إلى باحة الدير، وهي بقعة مكشوفة تحيط بها الغرف وتظلل معظمها صفصافة كبيرة في وسطها، وبقرب الصفصافة بئر يستقي منها أهل الدير عند الحاجة. فأدخلوا السلال أزواجًا وأفرادًا، والرئيس لا يزال في عُلِّيَّته وقد عاد إليها بعد صلاة الفجر واشتغل بالصلاة الانفرادية، فلما انتبه للضوضاء خرج من العُلِّيَّة حتى وقف على قمة سلَّم من الحجر ينتهي إلى الباحة، وقد تزمل بعباءته فوق المسوح، فرأى الرهبان يحملون الأحمال، فقال لهم: ما لي أراكم تدخلون السلال وأنتم تعلمون أنه لا بدَّ من حمل بعضها إلى دار الخليفة لتفرق في أمرائه ورئيس شرطته كالعادة؟ قال ذلك واتجه إلى جانب من السطح أشرف منه على معظم الغوطة، وكانت الشمس قد أطلَّت من وراء الجبال عن بعد، فأرسلت أشعتها على تلك المغارس الواسعة، ففزعت أطيارها، وتناثرت عن الأغصان أسرابًا تتسابق إلى الخلاء البعيد، وقد اتجه معظمها نحو الشرق كأنها تتلمس الشمس وهي تحيِّيها وترحب بها بالزقزقة والتغريد. ونظر رئيس الرهبان إلى ما بين يديه من البساتين فإذا هي تشرح الصدر وتُذهب الغم بروائحها العطرية المنبعثة عن أنجم الريحان المتكاثف في أشكال مختلفة، وأكثره قائم أسوارًا تفصل بين البساتين أو بينها وبين الدروب ومجاري الماء، ناهيك بالرياحين الأخرى تظللها الأشجار على اختلاف أشكالها وأقدارها، وقد اعتاض أكثرها عن أوراقه الخضراء بالثمار المختلفة الألوان، وفيها الرمان الأحمر، والسفرجل الأصفر، والآس الأبيض، والخوخ البنفسجي، والتفاح الوردي، وفي بعض جوانب الغوطة كروم العنب المختلفة تتدلى منها العناقيد، وفيها الأبيض الشمعي، والأحمر الوردي، والأسود الفحمي، يتخلل ذلك أعشاب تكسو الأرض قميصًا جميلًا، وقد اختلفت ألوانها باختلاف أعمارها، ففيها الأخضر الحاني، والأصفر الفاقع، والأبيض اليَقَق، والأحمر الزاهي، يزيِّنها ما ينحدر بينها من مجاري الماء فوق الحصباء فيختلط خريره بتغريد العصافير وحفيف الأوراق، كأن الغوطة جنة تجري من تحتها الأنهار، والشمس من وراء ذلك ترسل أشعتها فتتكسر على تلك المجاري متلألئة، ويستوقف النظر انكسارها على سطوح البحيرات في بعض المستنقعات. وكان الرئيس منذ إقامته هناك لا يكاد يفوته صباح لا يقف فيه مثل ذلك الموقف، يسرح بصره في تلك المناظر البهجة، فيشغل بها عمَّا قام من ضوضاء الرهبان والفلاحين وهم يشتغلون بترتيب الفاكهة وحمل الأحمال، وما يخالط ذلك من رغاء الشياه وخوار الثيران ونهيق الحمير في الحظيرة، فوقف يتأمل في صنع الخالق العظيم ثم أرسل بصره إلى أطراف الغوطة من جهة مطلع الشمس فرأى آثار الدروب عن بعد، فإذا هي أشبه شيء بآثار الجداول إذا جف ماؤها. وفيما هو ينظر إليها بصُر بقافلة رجَّح أنها قادمة من العراق أو الحجاز، وفيها النياق والحمير يقطر بعضها بعضًا، فطاب له استشراف تلك القافلة؛ لعله يعرفها أو يتبين جهتها، فحال البعد بينه وبين ما يريد، وكان قبل شيخوخته حادَّ النظر لا تعجزه معرفة الصور من مثل هذا البعد، فلما أعجزه ذلك الآن وقد كلَّ بصره تذكر شيخوخته، وأسف لانقضاء معظم العمر، وتحوَّل نحو ساحة الدير، وعاد إلى مخاطبة الرهبان والإشراف عليهم، حتى إذا فرغ من ذلك نزل إلى الكنيسة فأقام صلاة الصبح ثم عاد إلى غرفته العليا. ••• صعد رئيس الرهبان على السلم الحجري داخل الدير، وفي يده دَرْج يقرأ فيه، حتى دخل عُلِّيَّته فاتكأ واستغرق في القراءة، إلى أن انتبه لجعجعة جمال تدنو من الدير، فنادى قيِّم الدير — وكيله — وكان كهلًا قوي البنية ممتلئ الجسم جاء الدير من عهد قريب، فلما وقف بين يديه قال له: إني أسمع جعجعة، فأشرف على الطريق واستطلع خبر القادمين، فأطل القيِّم من بعض جوانب السطح ثم عاد وهو يقول: رأيت جمالًا محمَّلة، وأناسًا يظهر من لباسهم أنهم من العراق. فقال: أظنهم من القافلة التي تبصَّرتها عن بعد في هذا الصباح، وقد جاءوا إلينا فلا بد لنا من القيام بضيافتهم. قال القيم: وما الذي يدعونا إلى ذلك وهم غرباء لا نعرفهم؟! أما كفانا ما نقدمه من غلَّاتنا وثمارنا لرجال الحكومة؟! إذا نزلوا عندنا أنزلناهم ساعة ريثما يستريحون ثم ينصرفون. قال: إذا أرادوا الانصراف انصرفوا ولا حرج عليهم، وأما إذا آثروا البقاء فلا مندوحة عن القيام بضيافتهم، عملًا بالعهد الذي بيننا وبين خلفائهم. ولم يكن القيِّم قد سمع بذلك العهد، فقال: وما هو هذا العهد؟ قال: هو عهد أُخذ على النصارى منذ الفتح يقضي عليهم بأمور كثيرة منها أن يقوموا بضيافة المسلمين ثلاثة أيام، يخدمونهم ويقدمون لهم كل ما يحتاجون إليه، وهبْ أنه لم يكن هناك عهد، أيليق بنا إذا نزل عندنا ضيف إلا أن نكرمه حتى يرحل، ولو أقام سنة؟ فخجل القيِّم وأراد أن يعتذر، فسمع صوت الناقوس، فقال الرئيس: لقد صدق ظنِّي فاستقبل الضيوف ورحِّب بهم، وعُد إليَّ بعد أن تئويهم في أماكنهم. فبعث القيِّم أحد الرهبان الصغار ليفتح له باب البستان، ووقف هو بباب الدير ينظر إليهم وهم مقبلون، فإذا هم ثلاثة قد تزمَّل كل منهم بعباءة، وعلى رأسه الكوفية مشدودة بالعقال تغطي وجهه، ومعهم بضعة جمال تحمل أجربة مملوءة تمرًا جافًّا، ويدل ظاهرهم على أنهم من تجار العراق، ولعلهم جاءوا بهذه الأحمال ليبيعوها في دمشق، ولما دنوا من باب الدير تبين الوكيل مما بدا من وجوههم أن بينهم فتاة في مقتبل العمر فاشتبه في أمرهم، وقال في نفسه: لو كانوا قادمين للاتِّجار لما كان ثمَّة داعٍ لمجيء تلك الفتاة معهم، فلما بلغوا الباب خفَّ لاستقبالهم، وخاطب بعض الخدم باليونانية أن يأخذوا الجمال إلى الحظيرة للعلف، واستقبل الضيوف مرحِّبًا بهم بلغة عربية مستعجمة لحداثة عهده بالشام، فدخلوا جميعًا وهو يتقدمهم، وكان أحدهم طويلًا فلم يستطع الدخول من باب الدير إلا مطأطئًا رأسه، فمروا في الطرقة الضيقة حتى انتهوا إلى الباب الآخر ومنه إلى ساحة الدير حيث الصفصافة والبئر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/3/
غادة كربلاء
وأنبئ الرئيس بدخولهم، فنزل لملاقاتهم ورحَّب بهم ودعاهم للجلوس، فأنسوا بفصاحة لسانه العربي وإن تكن العجمة ما زالت بادية فيه، وجلس على مقعد تحت الصفصافة وكل منهم في شاغل من نفسه، فتفرس الرئيس فيهم فرأى أحدهم كهلًا في نحو الخمسين من عمره، طويل القامة، عريض الأكتاف، خفيف العضل، واسع العينين أسودهما، خفيف العارضين واللحية، رقيق الوجه، فتذكر أنه رآه غير مرة، وكان الثاني شابًّا لا يتجاوز بضعًا وعشرين سنة، ولكن من يراه يحسبه ابن ثلاثين؛ لخصب جسمه ونمو عارضيه ولحيته، وكان مشرق الوجه تكاد الصحة تتدفق من وجنتيه. وأما الفتاة، فلم يتمالك الرئيس عند النظر إليها من الإعجاب بجمالها؛ إذ لم يسبق له أن رأى فتاة مثلها في عمره الطويل الذي قضاه في دمشق وضواحيها، على كثرة ما شاهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود، ولم تقع عينه من قبل على فتاة في وجهها من الجمال والهيبة ما في وجه هذه الفتاة، وقد أدهشه منها بنوع خاص جمال عينيها وإن لم تكونا كبيرتين كعيني رفيقها الشاب، ولكنهما كانتا حادَّتين ينبعث النور من أهدابهما، جذَّابتين لا يستطيع من يراهما غير الاستسلام لهما والرضوخ لسلطانهما، وقد زادهما تأثيرًا في القلوب أنهما كانتا في وجه ناضر، وقد توردت وجنتاه حتى كاد الدم يقطر منهما. والتفت الرئيس إلى بساطة ثوبها فخُيِّل إليه أنها من الفقراء، وقال في نفسه: إذا كان أبوها فقيرًا بالمال فإنه غني بهذه الفتاة. إنها لو حسرت أكمامها وأزاحت لثامها لعلم أنها ليست من الفقر في شيء؛ لما بأذنيها من أقراط اللؤلؤ، وما في معصميها من الأساور والدمالج من الذهب والفضة والعاج، ناهيك بما يراه حينئذٍ من جمال فمها وما فيه من المعاني السالبة للقلوب مما يقصر دونه القلم ويكلُّ عن وصفه اللسان. والجمال الذي يعبر عنه باللسان أو القلم ليس جمالًا، وإنما هو صورة يصنعها الكاتب أو المتكلم ألفاظًا، وأما الجمال فما أعجزك عن وصفه، وخانتك القريحة في التعبير عنه. ذلك هو جمال سلمى عروس روايتنا؛ فقد كان في محيَّاها شيء لا يعبَّر عنه إلا بالسحر، فلا يراها أحد إلا شعر بميل إليها، ولا يكلمها حتى يقع تحت سلطانها فلا يقوى على جدالها، فضلًا عمَّا يبدو عليها من مخايل الذكاء وحدَّة الذهن وأصالة الرأي، مع ما يتجلى في وجهها من عزة النفس والأنفة. وكان الرئيس لما رأى أولئك الضيوف قد ظنَّهم لأول وهلة أبًا وولديه، ولكنه ما لبث أن تبين من تباين الملامح أنه ليس أباهما، وإن تكن المشابهة قريبة بين الشاب والشابة. فافتتح الرئيس الحديث قائلًا: يظهر أنكم قادمون من مكان بعيد، لعلكم من العراق؟ فأجاب الكهل قائلًا: نعم يا سيدي، إننا قادمون من الكوفة بأحمال التمر إلى أسواق دمشق. ولم يكد يتكلم كلامه حتى كان الرئيس قد تذكره وعرف اسمه فابتدره قائلًا: ألست عامرًا الكندي؟ فابتسم عامر وقال: نعم، أنا هو يا سيدي، وقد كتمت أمري لأرى هل تذكر ضيفك القديم؟ فتنهد الرئيس وقال: وكيف لا أذكره وقد شاهدت من أيام ضيافته يومًا هائلًا؟! إني لا أزال أذكر تلك الساعة الرهيبة تحت الجوزة. فأشار عامر بملامح وجهه إشارة تنمُّ عن أنه لا يحب تلك الذكرى المؤلمة، وأراد استئناف الحديث فسبقه الرئيس إلى السؤال قائلًا: لعل هذا الشاب ابنك وهذه الفتاة ابنتك، ما اسماهما؟ فتوقف عامر لحظة وهو يحكُّ طرف ذقنه بسبابته ثم قال: نعم إنهما ولداي: عبد الرحمن وسلمى. فاكتفى الرئيس بذلك وقد لحظ أن في نفس عامر شيئًا يريد كتمانه، فتشاغل بحصى كانت في جيبه جعل يعدُّها بين أصابعه في داخل الجيب، وكانت هذه الحصى تقوم مقام السبحة عند الرهبان في تلك الأيام؛ لأنهم كانوا يفرضون على أنفسهم صلوات معدودة في اليوم فيضعون في جيوبهم من الحصى بقدر ذلك العدد، وكلما فرغوا من صلاة رموا حصاة حتى يفرغ الجيب، فيكون هذا دليل إتمام الفرض، ولم تُتَّخذ السبحات في النصرانية إلا في القرن الثالث عشر للميلاد، فتشاغل الرئيس بتلك الحصى وحوَّل الحديث إلى موضوع آخر فسأل: في كم يوم قطعتم الطريق من الكوفة إلى هنا؟ قال عامر: قطعناها في عشرين يومًا مع القافلة. فقال الرئيس: وهل تكبدتم هذا السفر الطويل للاتجار بهذه الثمار؟! إنها لا تباع بما يساوي تعبكم في حملها. فاشتمَّ عامر من سؤال الرئيس رائحة الارتياب ولم يرَ بدًّا من إزالة كل شك في نفسه فقال: صدقت يا مولاي، ولو كان الأمر لبيع هذه البضاعة فقط ما تكبَّدنا المشقة من أجلها، ولكننا نبيعها ونبيع الجمال أيضًا، وهي تباع بثمن غالٍ وأرباحها أضعاف أرباح التمر، وفي عودتنا نتجر في تجارة أخرى نحملها من دمشق إلى العراق، ثم تذكر أن مجيء سلمى معه غير عاديٍّ، فراح يبرِّره بقوله: أما سلمى فأرادت أن تأتي معنا للتفرج على دمشق ومعالمها، فرأينا ذلك أولى لها من البقاء في الكوفة وحدها في أثناء غيابنا. ••• وكان عامر والرئيس يتحدثان وسلمى تنظر إلى شيخ متكئ في زاوية الباحة وبجانبه كلب كبير الهامة أسود اللون قوي البنية أقعى على مؤخَّره، وقد نصب يديه واعتمد عليهما كأنه أسد رابض، واتجه إلى سلمى كأنه يتأمل وجهها وعيناه تتلألآن كالمصباح. وأما الشيخ المتكئ فإنه استلفت انتباه سلمى بنوع خاص لغرابة هيئته وخشونة لباسه، ولم تكن قد رأت مثل ذلك الرجل قط ولا سمعت بمثله؛ إذ كان من الشيخوخة بحيث لم يبقَ في رأسه ووجهه شعرة سوداء حتى يُخيَّل إلى الناظر إلى رأسه عن بعد أنه عمامة بيضاء قد برز منها أنف وعينان سوداوان غائرتان أحدق بحدقتيهما قوس الشيخوخة، يعلوهما جبين متجعد، ومما يزيد منظره رهبة أنه لم يمشط شعره ولا غسل وجهه منذ أعوام، فأصبح الشعر ملبَّدًا لا يسلك فيه مشط، وكان ساعة رأته سلمى يحكُّ لحيته ورأسه، يحاول تمشيطهما بأظافر مستطيلة كالمناجل! وأغرب من ذلك أنها لم ترَ عليه من اللباس إلا ثوبًا من نسيج الشعر كالمُسُوح التي يلبسها النُّسَّاك، أو هي عباءة أصبحت لقِدم عهدها لا يُعرف لها لون. وكان الشيخ متكئًا بجانب الكلب وقد غلبه النعاس، فكان يغمض جفنيه فينام وهو لا يريد أن ينام، وكلبه بالقرب منه، وكلاهما مستأنس برفيقه. وكان عبد الرحمن أيضًا مأخوذًا بذلك الشيخ الهرِم وبكلبه، ينظر إليهما مفكرًا، فلما ذكر عامر اسم سلمى انتبهت والتفتت إليه والدهشة ظاهرة في وجهها، وأشارت إلى ذلك الشيخ وهي تقول: أدهشني أمر هذا الشيخ، وأرى عبد الرحمن قد استغربه مثلي. فسمع عبد الرحمن اسمه فالتفت لفتةً تدل على تعجُّبه مثلها، فأشار الرئيس إليهم بإصبعه وعض شفته، ودنا منهم فتطاولوا إليه بأعناقهم فقال لهم همسًا: إن هذا الشيخ أشبه الناس بالنُّسَّاك والمتعبدين، ولكنه يخالفهم في أمور كثيرة وكأن به خبلًا! جاءنا منذ أعوام فأقام عندنا، وهذا الكلب الأسود قلَّما يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ولم نرَه مرة غسل وجهه أو قلَّم أظافره أو غيَّر ثوبه، ومن غريب أمره أنه لا يأوي إلى غرفة ينام فيها؛ فهو يتوسد يومًا هذه الزاوية، ويومًا تلك، وآونة يبيت في الغوطة على بعض الأشجار أو تحت بعضها، ومن أغرب ما فيه أنه لا يذوق اللحم ولا الخبز، ولا يأكل شيئًا غير الفاكهة، فيطوف البساتين يقطف الثمار بيده ويتسلق الأشجار لهذه الغاية لا يعترضه معترض منَّا رحمة به وشفقة على حاله، والفاكهة هنا كثيرة. فقال عامر: لا بدَّ أن يكون ذا كرامة؛ لأن أمثال هذا الرجل يُعدُّون عندنا من أصحاب الكرامات. وبينما هم يتهامسون إذ سمعوا قرع الناقوس، فخفَّ أحد الرهبان ليستقبل القادم، فطال وقوفه خارجًا ولم يعُد، فنهض الرئيس في أثره. ••• وكانت سلمى قد مدَّت يدها نحو الكلب وأشارت إليه تدعوه، فهرول إليها مسرعًا، فناولته ثمرة كانت في جيبها، فاستأنس بالفتاة وجعل يحكُّ رأسه بثوبها، وهي تمسُّ جبينه بأناملها فيبالغ في الدنوِّ منها وهو يحرك ذنَبه، فلما سمع قرع الناقوس انتصب بغتة ورفع ذنَبه والتفت إلى باب الدير وحدَّق بعينيه ونشر أذنيه كأنه يتوقَّع أن يرى أحدًا وقد تأهب للوثوب عليه. فلما طال وقوف الرئيس خارجًا نبح الكلب نبحة قوية ذُعر لها الجالسون وبخاصَّة الشيخ الناسك، وكان نائمًا فأفاق والتفت إلى ما حوله فرأى كلبه بعيدًا عنه فناداه: شيبوب! فدنا الكلب منه وجعل يلحس أنامله وذراعه والشيخ يقول: أهلًا برفيقي الصديق، ما ظنُّك بهذا القادم، يظهر لي من عوائك أنك أسأت الظن به. فلما سمع عامر صوت الشيخ يتكلم العربية الفصحى وقد سمَّى كلبه باسم عربي جاهلي قال في نفسه: يظهر أن الرجل عربي أيضًا، فمن هو يا ترى وما هو شأنه. أما الرئيس فكان قد لحق براهبه فرأى بالباب رجلًا في لباس يشبه لباس عامر ورفيقيه، ولكنه أجفل لما رآه في وجهه من البرص الشديد إلى درجة البياض الناصع، على أنه ظنه لأول وهلة رفيقًا لعامر وقد تخلَّف في الطريق فرحب به وقال له: ادخل إن رفاقك هنا منذ ساعتين. فأومأ إليه الرجل أن يسكت واجتذبه بيده إلى منعطف وراء الباب حيث لا يراهما أحد وقال له: احذر أن تذكر أمر مجيئي لأحد، وبخاصَّة أولئك الثلاثة الذين ظننتهم رفاقي، فإن في الأمر سرًّا عظيمًا سأطلعك عليه فيما بعدُ، وأما الآن فأرجو منك أن تدخلني غرفة لا يراني فيها أحد ولا يعلم أحد بوجودي هنا، وأقول لك مرة أخرى: احذر جيدًا، فالأمر يتعلق بمولانا أمير المؤمنين. فأجفل الرئيس وأجاب على الفور قائلًا: إني فاعل ما تريد، وإذا شئت أن أخرج هؤلاء الأضياف من الدير في هذه الساعة فعلت. قال: لا تخرجهم، بل استبقِهم كما يشاءون، ولكنني أوصيك بأن تكتم خبر مجيئي. قال: سمعًا وطاعة، وأدخله من باب في تلك الطرقة يؤدي إلى ممر يستطرق إلى حجرات يقيم بها الرهبان الذين يشتغلون بالصناعات، وفيهم الحائك والخياط والنجار وصانع النعال أو السلال وغيرهم، في حين لم يكتم الضيف الأبرص دهشته مما يراه وكأنه في بعض أسواق الكوفة، على أنه لم يستغرب ملابسهم؛ لأنه كان قد رأى رهبان العراق في مثلها، وهي مسوح من نسيج الشعر أو القطن فوقه جلد أبيض من جلود الماعز لا يفارق أجساد الرهبان ليلًا ولا نهارًا إلا وقت تناول الأسرار المقدسة. ومشى الرئيس حتى انتهى إلى غرفة بجانب الكنيسة، فأدخله إليها وهو يردد في ذهنه ما سمعه منه، ثم عاد إلى ضيوفه في ساحة الدير واختصر في مجالستهم ومحادثتهم، فأمر بعض الرهبان أن يعدَّ لهم مكانًا يقيمون به، فأدخلهم غرفة ليس فيها إلا حصير، وعاد، فأغلقوا الباب وجلسوا يتهامسون. وكان أول من تكلم منهم عبد الرحمن، فخاطب عامرًا قائلًا: ألم أقل لك إنك أخطأت بمجيئك في أثري إلى هذه الديار؟ ولو أتيت وحدك لكان خيرًا، ولكنك اصطحبت سلمى فأوجبت إساءة الظن بنا، حتى سمعت من رئيس هذا الدير ما سمعته من التلميح والتعريض. فقال عامر: قلت لك يا بني، إنني إنما جئت بدافع مما أخذته على عاتقي من أمر حراستك؛ فإنك بمنزلة ولدي، وقد مات أبوك وأوصاني بكفالتك، ورأيتك تورطت في عمل خطير لم يقدِم عليه أحد قبلك، وأردت أن تأتيه منفردًا في بلاد غريبة، فكيف لا أتبعك؟ وأما سلمى فإنها أشد قلقًا مني عليك. فقال: أتخطئني في عمل أنتقم به لآل الرسول ﷺ وأنجي به المسلمين؟ فقطعت سلمى عليه الكلام بصوت هادئ والرزانة بادية في وجهها وقالت: لا ريب في أن ما جئت لأجله أمر مقدس، وإذا أنت لم تقم به فأنا أتولَّاه، ولعلِّي أولى به منك؛ فإن الرجل الذي تريد قتله وإراحة الناس منه قد أساء إليَّ، وبيني وبينه ثأر عظيم، فإنك تعلم أن أباه قتل أبي شرَّ قتلة. قتله وأنا لم أرَه ولا عرفت له صورة، قتل «حُجْرًا الكندي» سيد قومه ووجيههم، وقد قتله لأنه أبى أن يطيعه ويلعن الإمام عليًّا ابن عم رسول الله ﷺ، والله لقد حق القتل على يزيد، إن لم يكن انتقامًا للإمام علي فانتقامًا لحُجْر بن عدي، وإن لم يكن لهذا أو ذاك فإنقاذًا للعباد من سلطانٍ شغل عن مصالح الخلافة بتربية الكلاب والقرود والفهود، ومجالسة النساء، والصيد والقنص، والشعر وضرب الطنابير والشراب، ناهيك بتهاونه في أمور الدين. فالإقدام على قتله فضيلة، ولكنه عمل خطير محفوف بالمخاطر؛ أنَّى لك أن توفق إلى ذلك وأنت فرد ويزيد خليفة، يحيط به الأعوان والأنصار في الليل والنهار؟! إني أخاف عليك مما أصاب ابن ملجم الذي تجرأ على قتل الإمام علي وسط المسجد ولم ينجُ من القتل، فهل تعرِّض نفسك لمثل ذلك الخطر؟ وكان عبد الرحمن جالسًا وسلمى تتكلم، فلما بلغت هذا الحدَّ وقف وجعل يخطر في الغرفة ذهابًا وإيابًا، وعليه مظاهر الاهتمام، ثم قال: سامحك الله يا سلمى، إذا كنت وأنت فتاة تتطوعين لقتل هذا الرجل، وترين ذلك فريضة وفضيلة، فكيف ترضين لي أن أحجم عن ذلك، وإن ضحيت في سبيله بحياتي؟ فقطعت كلامه قائلة: لا تضحِّ حياتك حماك الله من كل شرٍّ. هذا هو الأمر الذي دفعني إلى اللحاق بك مع عمي هذا. خرجت من الكوفة تريد قتل يزيد في دمشق الشام، ومن هو يزيد؟ أليس خليفة المسلمين الآن وفي يده الحل والعقد، وحوله الجند والأعوان؟! فخفنا أن تقع بين يديه أو يصيبك شر، فلحقنا بك لنكون بقربك نبذل لك العون، إذ لا صبر لنا على بعدك. أما يزيد فأنا لا أرى راحة إلا بقتله، وما كان أغنانا عن ارتكاب هذه الجريمة لو أن أباه ترك الخلافة بعده شورى للمسلمين، وإذن ما كان ليتولاها إلا حبيبنا وسيد شباب المسلمين الإمام الحسين؛ لأنه أحق الناس بها، ولكن معاوية أبى إلا أن يوصي بها لابنه هذا بالرغم من كل مسلم، فكيف نسكت على ذلك؟ وزد على هذا أن معاوية قتل أبا حُجْر شرَّ قتلة، فإذا كنت أنت ناقمًا لقتل حُجْر لأنه عمك، فإنه أبي، وقد قتل ولم أرَه، ثم إنكم لم تنبئوني بمصيره إلا من عهد قريب، فقد رُبِّيت في البادية صغيرة لا أعرف غير اللعب والمرح وأنا أحسب أبي حيًّا في الكوفة، والناس إذا ذكروه أطنبوا في مدح مروءته وشهامته، وكنت أتوقع إذا شببت أن آتي إليه فأراه وأفاخر به الناس، فما لبثت حتى علمت بقتله. قالت ذلك وغصَّت بريقها وتوقفت عن الكلام هنيهة ثم قالت لعامر: وأنت يا عماه ألا تخبرني كيف كان قتل أبي؟ إنك قد وعدتني بذلك حين نصل إلى قبره، وها نحن وصلنا، فأين ما وعدتني به؟ فتنهد عامر وقال: نعم يا بنيتي إني أعرف مدفنه، وأظن رئيس هذا الدير يعرفه أيضًا. ألم تسمعي إشارته إلى ذلك العمل الفظيع؟ قالت: سمعت ولم أُظهر شيئًا؛ لأننا نريد كتمان أمرنا عن كل إنسان لنرى ما ينتهي إليه حالنا. وكان عبد الرحمن ما يزال يخطر في الغرفة وقد حلَّ عقاله وأرخى الكوفية على أكتافه وراح يردد بصره في سلمى وهي تتكلم معجبًا بحميَّتها، فلما قالت ذلك أجابها: اعلمي يا سلمى يا بنت عمي وخطيبتي ويا أملي ويا منتهى أربي، اعلمي رعاك الله أني لا يهنأ لي عيش حتى أنتقم لأبيك المدفون في هذا المرج، مرج عذراء، فإذا وُفِّقت إلى ذلك فقد حق لي أن أكون لك وتكوني لي كما أوصى أبوانا وهما من الأحياء، وإذا لم أوفق فلا آسف على حياتي. فصاحت وقد كاد الحياء يغلبها وهي تحاذر أن ترفع صوتها خوف الرقباء: حياتك أعزُّ حياة عندي، وما معنى بقائي إذا أنت أصبت بسوء! فكيف تلومني إذا لحقت بك؟ وأما عمنا عامر فإنه لنا بمنزلة الأب وقد انقطع عن العالم من أجلنا، وهو رفيقنا في السراء والضراء. وكان عامر مع شدة إعظامه الأمر لا يمل النظر إلى سلمى متتبعًا كل حركاتها وسكناتها وهي تتكلم، ثم ينظر إلى عبد الرحمن، ويعجب بما أودعه الخالق فيها من الخلال النادرة. ••• وأدرك القارئ من خلال الحديث أن سلمى هي ابنة حُجْر بن عدي قتيل مرج عذراء، وأن عبد الرحمن ابن عمها وخطيبها، وعامرًا كفيلهما. وتفصيل ذلك أن سلمى وُلدت في الكوفة قبل مقتل أبيها بثمان سنوات، فعهد في أمرها إلى امرأة عامر ترضعها عند زوجها في البادية، وكانت تلك عادة المتحضرين من العرب، إذا وُلد لهم مولود عهدوا في رضاعته إلى بعض نساء البادية، فيربَّى في الخلاء حيث الهواء الطلق والعيش الرغيد، فيشبُّ أولادهم أصحَّاء البنية أشدَّاء، فرُبِّيت سلمى في حُجْر عامر ثماني سنين لم ترَ فيها أباها. فلما سيق إلى مرج عذراء سنة ٥١ للهجرة مع آخرين كانت أمها قد ماتت، وكان آخر ما قاله حُجْر أن أوصى عامرًا بالعناية بها وأن يتخذها ولدًا له، وأن يزوجها بعبد الرحمن، ولكن بعد موت معاوية بن أبي سفيان، فظلَّت في حجره حتى شبَّت، وكان عامر كثير التردد على الشام للتجارة منذ صباه، وبنو كندة ما زالوا على النصرانية، فكان إذا جاء الشام أقام بها حينًا يتردد الأديار والكنائس يجالس أهل المعرفة فيقصُّون عليه شذرات من تاريخ اليونان وما يتعلق به من تواريخ الشام وغيرها، وكان يحفظ كل ذلك ويتفهمه حتى عُدَّ بين رهطه من أحسنهم معرفة وأوسعهم اطلاعًا على التاريخ، وآنس عامر في سلمى ذكاء ورغبة في استطلاع أقاصيص الأولين، فكان يقص عليها كل ما اتصل به من أخبار الفرس والروم وما بينهما. وكانت كثيرًا ما تسأله عن أبيها فيكتم عنها خبر مقتله، حتى اتفق منذ عامين أن ذكر الناس خبره وهي تسمع، فاستطلعته الحقيقة فباح لها بها، فثارت حميَّتها، وهاجت عواطفها، وعزمت بينها وبين نفسها على الانتقام. وأما عبد الرحمن ابن عمها فقد رُبِّي معها في تلك البادية منذ كانا طفلين على أن تكون زوجة له، وقد مات أبوه وهو طفل فكفله عامر، فلما بلغ أشده وسمع بمقتل عمه حُجْر وما أعظمه الناس من أمره عزم على أن يثأر له، وكان كسائر بني كندة وغيرهم من دعاة أهل البيت لا يرون لمعاوية حقًّا في الخلافة، فشبَّ هو وابنة عمه على كره الأمويين والتشيع لآل البيت، وكان معاوية ما زال حيًّا والناس يتوقعون موته ليبايعوا الإمام الحسين، فصبر على ما في نفسه، وقد نزل هو وعامر الحجاز ومعهما سلمى وأقاموا بالمدينة في منزل الإمام الحسين زمنًا ينتظرون ما يأتي به القدر. وقضت عليهم الأحوال قبيل وفاة معاوية أن يعودوا إلى الكوفة، فبلغوها وقد مات معاوية، وجاء الخبر بمبايعة يزيد فعظُم ذلك على عبد الرحمن، وأقسم لا يفرحنَّ حتى يقتل يزيد، ووافقته سلمى على ذلك، وعامر لا يبدي اعتراضًا، ولكنه لم يكن يحسب أن عبد الرحمن سيقدِم على ذلك لتوِّه. فأصبح عبد الرحمن ذات يوم فودَّع سلمى وعامرًا، وأخبرهما أنه عازم على السفر إلى دمشق ليبرَّ بقسمه، فاستمهلاه وهو لا يصغي، وأخيرًا ودَّعهما وخرج يريد دمشق، وفي مساء يوم سفره تعاظم بلبال سلمى، فلم يهدأ لها بال حتى لحقت به هي وعامر بحجة الاتِّجار بالتمر، فالتقيا به في القافلة قبل الغوطة بقليل، فساءه ذلك ولامهما على مجيئهما، ولكنه لم يرَ حيلة في إرجاعهما، فجاءوا معًا إلى الدير كما مرَّ، وبعد أن دار ما دار بينهما من الحديث قالت سلمى: لا بدَّ لنا من تدبر الأمر بالحكمة؛ أما قتل يزيد بين رجاله وجنوده فتهوُّر لا نرضاه لك ولا هو مستطاع. فهل من رأي صائب رأيته في الوصول إلى الغاية؟ فلما سمع عبد الرحمن كلامها رجع إلى صوابه، وجلس وهو يصلح وضع كوفيته على رأسه وقال: إنك تنطقين بالحكمة، ولا تظنيني من الجهل بحيث أقتحم هذا الأمر بجهالة، ولكنني رأيت رأيًا سأعرضه عليكما وأظنكما توافقانني عليه. قال عامر: وما هو؟ قال: إنه لا يمضي أسبوع لا يخرج فيه يزيد للصيد؛ لأن له ولعًا شديدًا، فيخرج بحاشية كبيرة بين فارس وراجل إلى هذه الغوطة؛ لكثرة ما فيها من الطير والظباء. وأعرف قرية على مقربة من هنا يقال لها: «جرود»، يكثر فيها حمار الوحش، وهو مولع بصيده، فإذا أوغل في الصيد خرجت متنكرًا أراقب انفراده خلف طريدة فأرميه بنبل أو أطعنه بخنجر، فإذا لم أتمكن في المرة الأولى حاولت ذلك في الثانية أو الثالثة حتى أظفر به وأكفي الناس شرَّه. فلما سمعت سلمى قوله ابتسمت وأبرقت عيناها سرورًا بصواب رأيه وقالت: أنت رأي حسن، ولكن علينا أن نراقب خروجه للصيد. قال عامر: ذلك عليَّ، فإذا أصبحنا غدًا دخلت دمشق بأحمالي وتجارتي واستطلعت خبر الصيد. فقالت سلمى: على الله التوفيق، ولكنني أرجو منك يا عماه أن تدلنا على قبر أبي فنزوره وأكحِّل عيني بترابه، وأسمع منك خبر مقتله بالتفصيل. قال: إن القبر يا ابنتي على مسافة ربع ساعة من هذا الدير، تحت شجرة من الجوز كبيرة تظهر للرائي عن بعد، ولكننا لا نستطيع الذهاب إليها إلا ليلًا لئلَّا يرانا الرئيس أو غيره ممن يعرفون المكان فيشتبه فينا. وقضوا بقية ذلك اليوم في الاستراحة من وعثاء السفر وهم يتأهبون للخروج في الليل إلى قبر حُجْر. ••• ولما غربت الشمس صعدوا إلى سطح الدير وهم يتظاهرون برغبتهم في تفقد منظر الغوطة ليلًا، فلقيهم رئيس الدير وكان جالسًا في أحد جوانب السطح يصلي على انفراد، فتغافلوا عنه وجعلوا يتحادثون، حتى إذا فرغ من صلاته نهض واقترب منهم، وكان القمر بدرًا كاملًا، فما أزف الغروب حتى أطل من وراء الأفق، كأنه يتطلع إلى الشمس يبغي وداعها وهي تتجاهل غرضه، وظلت سائرة في سبيلها لا تلتفت إليه ولسان حالها يقول: إذا كنت تبغي لقائي فاتبعني. وكأنه شعر بحاجته إلى نورها فجرى في أثرها يتبع خطاها ويسترق من أشعتها حبالًا يرسلها على تلك الغوطة الواسعة الأطراف، وفيها من الفاكهة أزواج، ومن المياه أقنية وبحيرات، ينعكس النور على أسطحها متلألئًا كالمصابيح، ولم تمضِ ساعة حتى علا البدر فأنار تلك الحدائق الغنَّاء فأصبحت بحرًا كثير الألوان، ينوب فيه عن هدير الأمواج حفيف الورق وخرير المياه وزقزقة الطيور وهي عائدة إلى أوكارها أسرابًا متكاثفة، تسبِّح الخلاق العظيم. وشُغل عامر بالحديث مع الرئيس، أما سلمى وعبد الرحمن فإنهما لبثا واقفين يتأملان في ذلك المنظر البديع، وسلمى قلقة تفكر فيما يهدد عبد الرحمن من الخطر المقبل، وتحاول أن تلهي نفسها بالنظر إلى ما أمامها من الأشجار الباسقة والينابيع الجارية والأشعة المتلألئة، وما يتخلل ذلك من تغريد العصافير وأصوات الماشية في الحظيرة من معاء الماعز وخوار الثيران وجعجعة الجمال، على أن هذا كله لم يُلهِها عن مقتل أبيها وما تتوقعه من سماع حديث عامر تلك الليلة. وأما عبد الرحمن فقد كان همُّه تدبير الحيلة لبلوغ أربه من يزيد، لا يعير الغوطة ولا مناظرها التفاتًا، ثم حانت منه لفتة إلى سلمى وهى تنظر إلى الغوطة وقد أطل عليها البدر ووقع ضوءُه على وجهها، فكأنهما قمران تلاقيا على موعد، فثار فيه ثائر الحب، وأعجب بما في ابنة عمه من جمال المعاني، وتذكر إعجاب الشعراء بجمال البدر فقال في نفسه: أين تلك الصفحة المستديرة الصماء من هذا الملاك الناطق الذي ينبعث نور الحياة من محيَّاه! وكأن لسان حاله يقول: وكان عامر يحدِّث الرئيس في شئون شتَّى لا علاقة لها بما في نفسه من أمر حُجْر وعزمهم على زيارة قبره تلك الليلة، وكان نظره متجهًا إلى الجوزة التي يعرف أنها تظلل ذلك القبر، وهو يغافل الرئيس في ذلك لئلَّا يلحظ تطلُّعه، حتى إذا وقع نظره على تلك الجوزة عرفها عن بعد من كبرها وانبساط أغصانها، فتنهَّد عميقًا وجعل يتفرس في الطريق المؤدي إليها، ثم التفت إلى الرئيس فقال له: سبحان الخالق العظيم! ما أجمل هذه الليلة المقمرة، وما ألطف هذه المناظر البديعة. قال الرئيس: إن هذا يدلُّنا يا ولدي على قدرة الباري سبحانه وتعالى. إني أقف هذا الموقف فيدفعني جماله إلى شكر العناية العظمى التي أعدَّت للإنسان كل ما يحتاج إليه في هذه الحياة الدنيا. فقال عامر: سبحانه جل سلطانه، ما أجمل صنعه! وما أبدع مخلوقاته! إن في العراق كثيرًا من البساتين الغضة ولكن أكثر أشجارها من النخيل. أما أصناف الفاكهة التي أراها في هذه الغوطة فإنها خاصَّة ببلاد الشام، وتحدثني نفسي أن أخرج في هذا الليل أستمتع بشذا الرياحين وأجول بين الأشجار، فهل ما يمنع من ذلك؟ قال: لا أرى مانعًا يمنعكم، غير أني أفضِّل النظر إليها من فوق هذا السطح؛ فإنه أوسع أفقًا، وبخاصَّة في ضوء القمر. قال: الحق ما قلت، ولكنني سمعت ابنتي هذه تتشوق إلى الخروج فوعدتها بأن أرافقها فنمشي هنيهة ثم نعود. قال: لا مانع من خروجكم، وإذا شئتم أرسلت معكم بعض الرهبان يرشدكم ويسير في خدمتكم. قال: إني أعرف الطريق جيدًا فلا حاجة بنا إلى دليل. قال: افعلوا ما بدا لكم. فاتجه عامر إلى عبد الرحمن وسلمى وقال لهما: هلمَّ بنا إلى الغوطة نتمشى بين أشجارها، فقد أذن لنا الرئيس بذلك. فنهضا، وتحولوا جميعًا فنزلوا إلى ساحة الدير وأطلوا منها على الحجرة التي كانوا مقيمين بها أثناء النهار، فرأوا بابها مفتوحًا، فأسرع عامر وأغلقه، وبينما هو عائد رأى كلب الناسك نائمًا بالقرب من الباب ولم يرَ شيخه معه، فعجب لذلك؛ لأنه كان قد سمع أن الشيخ الهرم قلَّما يفارق كلبه ليلًا أو نهارًا. وكان عبد الرحمن وسلمى قد سبقاه إلى باب الدير، فخرج في أثرهما وهو يقول: لقد رأيت شيبوب نائمًا وحده بقرب حجرتنا فأذكرني ذلك الشيخ الجليل، ومما أدهشني من أمره أنه يتكلم العربية الفصحى وفي لهجته ما يقارب لغة العراق، ووالله لقد تمنيت أن أخلو به لأسأله عن أصله. قالت سلمى: أين هو من العراق? وما الذي يأتي به إلى هذه الديار؟ إني أراه رجلًا له، ولكنني استأنست بشيبوب، ليتنا نصطحب هذا الكلب؛ فإنه قد يدفع عنا أذى الدبابات أو ينبهنا إلى لص قادم. فقال عبد الرحمن: دعونا من هذا الرفيق، فإننا في حاجة إلى التستُّر. وكانوا قد وصلوا إلى باب البستان ففتحوه وخرجوا إلى الغوطة وهم يتظاهرون في بادئ الأمر بأنهم يريدون التنزُّه مشيًا. حتى إذا تواروا عن الدير أوغلوا بين الأشجار المتكاثفة، وعامر يسير أمامهما، وسلمى وعبد الرحمن يتبعانه، تارة يطلعون وطورًا ينزلون، وهم يتحسسون الطرق على ضوء القمر المنبعث من خلال الأغصان. وما زالوا يقطعون قناة هنا، أو يعبرون جسرًا هناك، وهم سكوت، وقلب سلمى يخفق تطلُّعًا إلى قبر أبيها، وعبد الرحمن يفكر فيما عزم عليه من قتل يزيد، حتى أشرفوا على مرتفع بسيط تعلوه شجرة جوز منبسطة الأغصان، تظل بقية خالية من النبات وفيها مرتفعات من الأتربة على غير نظام. فلما صاروا تحت الجوزة وقف عامر ثم التفت إلى سلمى وأشار إلى أكمة صغيرة بجانب ساق الجوزة وقال: هذا هو يا سلمى قبر أبيك. وما أتم كلامه حتى ترامت على ذلك التراب تقبله وهي تبكي وتصيح: وا أبتاه! هذا هو ترابك، فأين أنت! أين أنت يا حُجْر بن عدي سيد كندة! وأوغلت في البكاء. أما عبد الرحمن فتقدم حتى وقف بجانب سلمى وقد أنكر صياحها وخشي افتضاح أمرهم بسببه، فوقف إلى ساق الجوزة وقال لسلمى: لا تبكي يا سلمى فإن البكاء لا يليق على ميت سننتقم له في الغد، والتفت إلى عامر وهو يقول: اقصص علينا يا عماه تفصيل مقتل صاحب هذا القبر. فقال عامر: اجلسا يا ولديَّ لأقص عليكما الخبر كما عرفته، ثم قال بصوت ضعيف: اعلما أننا في أرض العدو فينبغي أن نتستَّر ما استطعنا. فسكتوا برهة وهم ينظرون إلى ما حولهم، فإذا بالمكان قفر خالٍ، لا يسمع فيه غير خرير السواقي عن بعد ونقيق الضفادع، وقد وقعت ظلال تلك الجوزة على ما حولهم فأووا إلى الظل بجانب القبر، وجلسوا على التراب وسلمى جاثية وعيناها تدمعان، وهي صامتة تتطاول بعنقها وتنتظر ما سيقوله عامر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/4/
مقتل حُجْر بن عدي
جالس عامر جاثيًا أمام قبر حُجْر، وبدأ بتلاوة الفاتحة واستغفر الله ثم افتتح الحديث قائلًا: اعلمي يا سلمى أن أباك صاحب هذا القبر كان من أقوى أنصار الإمام علي، وقد حارب معه حروبًا كثيرة وجاهد معه بسيفه ولسانه جهادًا حسنًا إلى آخر نسمة من حياته، فلما قُتل الإمام علي وصار أمر الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان في دمشق ظل أبوك وغيره من العلويين على مبدئهم بين مجاهر ومستتر، وكان أبوك يقيم بالكوفة مع قومه ينادي بحبه عليًّا على رءوس الأشهاد، ولكن سلطان معاوية ما لبث أن استفحل، وكان كما تعلمين قد جعل ديدنه الحط من كرامة علي وجميع أهل البيت، فكان يأمر الناس أن يلعنوه، فمنهم من يطيع خائفًا ومنهم من لم يكن يفعل، وفي مقدمة هؤلاء أبوك حُجْر وبعض رفاقه. حتى إذا كان سنة ٥١ للهجرة بعث معاوية إلى الكوفة عاملًا اسمه المغيرة بن شعبة وأوصاه حين بعثه قائلًا: «أما بعد، فإن لذي الحلم قبل اليوم تقرع العصا، وقد يجزئ عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة أنا تاركها اعتمادًا على بصرك، ولست تاركًا إيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمَّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم.» فقال له المغيرة: «قد خرجت وجربت وعملت قبلك لغيرك فلم يذمني، وستبلو فتحمد أو تذم.» فقال معاوية: «بل نحمد إن شاء الله.» فأقام المغيرة عاملًا على الكوفة وهو لا يدفع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فكان أبوك إذا سمع ذلك قال: «بل إياكم من دم علي ولعنه!» ثم يقول: «أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تشكرون أولى بالذم.» فيقول له المغيرة: «يا حُجْر، اتقِ هذا السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان يهلك أمثالك.» ثم يكف عنه ويصفح، فلما كان آخر إمارة المغيرة قال في علي وعثمان ما كان يقوله فقام أبوك وصاح فيه صيحة سمعها كل من في المسجد وقال: «مُرْ لنا أيها الإنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعًا بذم أمير المؤمنين.» فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: «صدق حُجْر وبرَّ، مُرْ لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعًا.» وأكثروا من هذا القول وأمثاله، فنزل المغيرة فدخل عليه قومه وقالوا: «علامَ تترك هذا الرجل يجترئ عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيسخط عليك أمير المؤمنين معاوية؟» فقال لهم: «إني قد فتنته؛ سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي، فيصنع به ما ترونه يصنع بي، فيأخذه ويقتله. إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار هذا المصر فيسعدون وأشقى، ويعز في الدنيا معاوية ويشقي في الآخرة المغيرة.» ثم تُوفي المغيرة، وولي الكوفة زياد ابن أبيه المشهور بدهائه ومكره، فقام في الناس فخطبهم عند قدومه، ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه، فقام أبوك ففعل كما كان يفعل بالمغيرة، فكظم زياد، حتى إذا عزم على الفتك به دخل المسجد وصعد المنبر يومًا فحمد الله وأثنى عليه، وأبوك جالس، ثم قال: «أما بعد، فإن غبَّ البغي والغيِّ وخيم، إن هؤلاء جمعوا فأثْرَوا، وأمِنوني فاجترءوا على الله، لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حُجْر وأجعله نكالًا لمن بعده، ويل لك يا حُجْر، سقط العشاء بك على سرحان.» ثم أرسل إلى أبيك يدعوه وهو بالمسجد، فلما أتاه رسول زياد قال لأصحابه: «لا نأتيه ولا كرامة له.» فرجع الرسول فأخبر زيادًا فأمر صاحب شرطته، وهو شداد بن الهيثم الهلالي، أن يبعث إليه جماعة ففعل، فسبَّهم أصحاب أبيك، فرجعوا وأخبروا زيادًا. فلما رأى زياد امتناع أبيك بأهله وأصحابه احتال بشتى الحيل حتى تمكن من القبض عليه خدعة. وذلك أن بعض أصحاب أبيك استأمنوا زيادًا على أن يرسله إلى معاوية في الشام، فأمنه زياد، وأرسلوا إلى أبيك فجاء زيادًا، فلما رآه قال: «مرحبًا بك أبا عبد الرحمن، أحرب أيام الحرب؟ وحرب وقد سالم الناس؟! على أهلها تجني براقش.» فقال أبوك: «ما خلعت الطاعة، ولا فارقت جماعة، وإني على بيعتي.» فأمر به إلى السجن، فلما ذهب قال زياد: «والله لأحرصن على قطع رقبته.» ثم جد زياد في طلب أصحاب أبيك فهربوا، فأخذ كل من قدر عليه منهم، وجاء بعض الوشاة إلى زياد فقالوا له: إن رجلًا هنا يقال له صيفي من رءوس أصحاب حُجْر، فبعث زياد فأتى به وقال له: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. فقال: ما أعرفك به! أتعرف علي بن أبي طالب؟ قال: نعم. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين. فقال له: صاحب الشرطة يقول هو أبو تراب وتقول لا؟! فقال: أفإن كذب الأمير أكذب أنا، وأشهد على باطل كما شهد؟ فقال له زياد: وهذا أيضًا؟ عليَّ بالعصا، فجاءوا بها، فقال: ما تقول في علي؟ قال: أحسن قول. قال: اضربوه! فضربوه حتى لصق بالأرض، ثم قال: أقلعوا عنه. ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي ما قلت فيه إلا ما سمعت مني. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال: لا أفعل. فأوثقوه حديدًا وحبسوه، وإني والله لم أرَ أشجع منه إلا أبوك، رحمهما الله. ثم جمع زياد اثنى عشر رجلًا اتهمهم بالدعوة لعلي، وأشهد شهودًا أن حُجْرًا جمع إليه الجموع وأظهر شتم الخليفة معاوية ودعا إلى حربه، وأنه قال: «إن هذا الأمر لا يصلح إلا في أبناء أبي طالب.» وأنه وثب بالمصر، وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه والبراءة من عدوه، وأن هؤلاء الاثني عشر معه هم أصحابه على رأيه، ثم دفع زياد أباك وأصحابه إلى اثنين من خاصته وسلمهما تلك الشهادات وأمرهما أن يسيرا بهم إلى الشام. فساقاهم من العراق حتى انتهيا بهم إلى هذا المكان، وهو مرج عذراء، فأبقياهم وسارا إلى دمشق، فدخلا على معاوية وعرضا عليه الكتب التي كانت معهما، واتفق أن كان في مجلس معاوية أناس استوهبوه ستة من رفاق أبيك فوهبهم إياهم، وبعث أناسًا إلى هذا المرج فوصوا إليه في المساء في مثل هذا الوقت. ••• وكنت قد صحبت الجماعة من الكوفة ومكثت عن بعد أنتظر ما سيكون، فلما رأيت القادمين من دمشق ومعهم الأسلحة والأنطاع، علمت أنهم قادمون ليقتلوه وأصحابه، ولم أكن أعلم أن معاوية وهب ستة منهم، فدنوت عند ذلك من أبيك فلما بصُر بي دعاني إليه وقال لي قولًا لا أنساه عمري، وكأني به قد تحقق دنو الأجل فقال: إني أوصيك يا عامر بوليدتي سلمى، احتفظ بها ما استطعت، ولا تزوجها إلا بابن عمها عبد الرحمن، ولكن لا تفعل ذلك إلا بعد موت معاوية هذا، فإذا مات وعاد أمر الخلافة شورى للمسلمين، فإنهم يولون الحسين لا محالة، فإذا وليها فهو ينتقم لنا إن شاء الله، ولم يكد أبوك — وا أسفي عليه — يتم كلامه حتى وصل القادمون من عند معاوية، فاستقدموا أباك وستة من رفاقه وقالوا لهم قبل القتل: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، فقالوا: لسنا فاعلي ذلك. فأمروا فحُفرت القبور وأحضرت الأكفان، وقام أبوك وأصحابه يصلُّون عامَّة الليل، فلما كان الغد قدَّموهم ليقتلوهم، فقال لهم أبوك: «اتركوني لأتوضأ وأصلي، فإني ما توضأت ولا صليت.» فتركوه فصلى، ثم قال: «والله ما صليت صلاة قطُّ أخفَّ منها، ولولا أن تظنوا فيَّ جزعًا من الموت لاستكثرت منها.» ثم قال: «اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، والله لئن قتلتموني بها فإني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها.» ثم مشى أحدهم إليه بالسيف فارتعد رحمه الله، فقالوا له: زعمت أنك لا تجزع من الموت، فابرأ من صاحبك وندعك، فقال: «وما لي لا أجزع وأنا أرى قبرًا محفورًا وكفنًا منشورًا وسيفًا مشهورًا؟! وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب.» فقتلوه — وا لهفي عليه — وقتلوا ستة من رفاقه، ثم صلوا عليهم ودفنوهم في هذا المكان، وهذا هو قبر أبيك رحمة الله عليه، وخرجت أنا إلى الكوفة ثم قمت بكفالتك وربيتك أنت وعبد الرحمن. وكان عامر يتكلم وسلمى وعبد الرحمن شاخصان إليه بأبصارهما، وقلباهما يكادان يشتعلان، فلما بلغ هذا الحد لم تتمالك سلمى نفسها وقالت: ويل لقساة القلوب قتلة الأبرياء! ألأنه لم يلعن الإمام عليًّا قتلوه؟! إن الله منتقم من القوم الظالمين. فوقف عبد الرحمن واستلَّ خنجرًا أبرق فِرِنْده في ضوء القمر، وقال وهو ينظر إلى القبر: أيها الراقد بلا حراك، يا عماه، يا حُجْر بن عدي، إني لا أخاطب ترابًا ولكنني أخاطب روحًا طاهرة لا أظنها تفارق هذا المكان، اعلم رحمك الله أني سأنتقم لك قريبًا بحدِّ هذا الخنجر إن شاء الله. واستولى عليهم السكوت تحت تلك الشجرة هنيهة لم يكن يسمع فيها إلا طنين البعوض وخرير الماء، وكان كل من هؤلاء الثلاثة يفكر في شيء واحد مرجعه الانتقام، ثم هبَّت سلمى من مكانها بغتة وجثت على قبر أبيها وتناولت حفنة من ترابه بيدها وقالت وهي تنظر إلى السماء من خلال الأغصان: أنت تعلم أيها الواحد القهار أن أبي هذا قد مات مظلومًا، وأنت وحدك نصير المظلومين. إنه قتل في سبيل نصرة بيت نبيك ﷺ. إنه قتل في سبيل نصرة الإمام علي، وصيِّ النبي وصهره وابن عمه. ولم تتم سلمى كلامها حتى سمعوا صوتًا عميقًا كأنه خارج من أعماق القبر، أو كأن هاتفًا من عالم الأرواح يقول بصوت ضعيف وقع همسًا في أذن كل منهم على حدة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلما سمعوا الصوت اقشعرَّت أبدانهم، ووقفت شعور رءوسهم، وتولتهم الدهشة، وظلوا صامتين هنيهة وكل منهم يحسب نفسه قد انفرد بسماع الآية، وتطلع بعضهم إلى بعض والبغتة ظاهرة على وجوههم، ثم ازدادت دهشتهم حين تبينوا أنهم سمعوا الآية جميعًا على السواء، وخُيِّل إليهم أن روح حُجْر تنطق من عالم الغيب، أو أن روحًا من الأرواح العلوية تخاطبهم بما تنطوي عليه إرادة الخلاق العظيم، فخشعوا واستولت عليهم الرهبة وكلهم ساكنون لا يُبدون حراكًا، وتصوروا المكان مسكونًا بعد أن كانوا يحسبونه مهجورًا. وكانت سلمى لا تزال قابضة على التراب بيدها، وعبد الرحمن واقف والخنجر مشرع في يده، وبدأ عامر بالكلام فاستعاذ بالله وقرأ الفاتحة، ولم يكد يتم تلاوتها حتى ابتدره عبد الرحمن وهو يغمد خنجره وقال وصوته مختنق من عظم الدهشة: أرأيت يا عماه كيف أن الله معنا؟ وهل بعد ذلك الهاتف من شك في نجاح المهمة التي ندبت نفسي لأجلها؟! فسكتت سلمى وقد اقتنعت في سرها بأن عزم عبد الرحمن إلهام من الله، ولكنها لم تحرضه على تنفيذ عزمه خوفًا عليه من الخطر، وتركت الأمر يجري مجراه الطبيعي. ونفضت سلمى يدها أيضًا وتوجهوا جميعًا إلى الدير والقمر في كبد السماء، والسكوت ساعتئذٍ أرهب مما عهدوه وهم قادمون؛ لشدة ما آثر في نفوسهم من حديث عامر وهتاف الهاتف، وأصبحوا إذا وقعت أقدامهم على العشب أو التراب أثناء مشيهم سمعوا لوقوعها دويًّا، وإذا دبت دابة أو نقَّت ضفدع وقع ذلك في آذانهم وقعًا شديدًا، فمشوا معظم الطريق وكأن على رءوسهم الطير، وعامر يفكر في دخول الدير ومن يفتح لهم بابه بعد أن انتصف الليل، وخاف أن يوجب غيابهم شبهة فغيَّر الطريق التي جاءوا منها، حتى إذا أشرفوا على مدخل البستان شاهدوا شبحًا قادمًا نحوه من الجانب الآخر، فظنوه لأول وهلة ضيفًا طارقًا وعجبوا لقدومه في أواسط الليل، وفيما هم يتفرسون فيه قالت سلمى: هذا هو الشيخ الناسك بعينه. ألا ترون الجلد على ظهره، ورأسه لشدة بياضه كأنه قطعة من ثلج؟ ولم يكونوا قد رأوه ماشيًا قبل ذلك، فعجبوا من نشاطه وخفته، وقال عبد الرحمن: كنت قد حسبته لأول وهلة شيخنا الناسك، ولكنني اشتبهت في أمره لما عاينت من نشاطه وسرعة جريه، فإني لا أرى قامته محدودبة كما كنت أتوقع أن تكون بعد أن رأيناه في ساحة الدير. فقال عامر: لا أظن سبب هذا النشاط إلا اقتصاره على أكل الفاكهة والخضر دون اللحوم، على أنني أستغرب خروجه في هذا الليل، وأخشى أن يكون قد رآنا تحت الجوزة، أو لعله سمع كلامنا أو اطلع على شيء من أمرنا. قالت سلمى: لو كان قد مر بنا لرأيناه أو سمعنا خطواته، فقد كان السكوت سائدًا وضوء القمر ساطعًا، ولكنني أظنه كان يجول في الغوطة يتناول الثمار كما حكى لنا الرئيس عن غرابة أخلاقه وبداوة معيشته. وفيما هم يتهامسون كان الشيخ قد أدرك باب البستان وعالجه بأداة في يده حتى انفتح، فدخل ووقف ينتظر وصولهم، فاستغربوا غايته من ذلك، ولم يفهموا السبب الذي حمله على هذا العمل، وحملوه على غرابة أخلاقه، وبخاصَّة بعد أن دخلوا الباب وحيَّوه فلم يرد التحية، بل أسرع إلى باب الدير فقرعه حتى أفاق أحد الرهبان ففتح له، فدخل ودخلوا هم في أثره، ثم اختفى ولم يعودوا يشاهدونه كأنه كان ظلًّا وزال. وأما هم فأسرعوا إلى غرفتهم يلتمسون المنام بعد المشقة والسهر الطويل، ولكنهم بالرغم من تعبهم لم تغمض أجفانهم إلا قبيل الفجر لما ثار في خواطرهم تلك الليلة. ••• على أنهم لم يكادوا ينامون حتى أفاقوا على ضوضاء الرهبان في ساحة الدير، فنهضوا مذعورين، وخرج عامر للبحث عن السبب ثم عاد وأمارات الدهشة بادية عليه، فابتدرته سلمى بالسؤال عن سبب دهشته، فقال بصوت خافت: إن أهل الدير يستعدون لاستقبال يزيد بن معاوية. فبُغت عبد الرحمن وقال: يزيد؟! وكيف يستقبلونه؟! ولماذا؟ قال: لأنه ذاهب إلى الصيد في هذا الصباح، ومن عاداته إذا مر بهذا الدير أن يستريح ساعة ثم ينصرف. ولم يتم عامر كلامه حتى اختلج قلب عبد الرحمن بفعل البغتة، دون أن يداخله شيء من الخوف. وأما سلمى فقد كان أثر هذه المفاجأة فيها أكبر منه في عبد الرحمن، بنسبة ما بين الرجل والمرأة من دقة الشعور، ثم قال عبد الرحمن: هل أنت واثق يا عماه مما تقول؟ وهل نرى يزيد في هذا الدير اليوم؟ قال: ليس نزوله هنا أمرًا محتومًا، لكنه خارج إلى الصيد لا محالة، وسيمر من طريق بقرب هذا الدير، ويغلب على الظن أنه يعرج عليه هنيهة؛ لأنه يعرف رئيس الدير ويحترمه، والرئيس يعد مائدة من الفاكهة والأشربة، فإذا شاء أقام أو ظل سائرًا في طريقه. قالت سلمى: أرجو أن ينزل هنا لكي أراه؛ لأني لم أرَ وجهه بعد. فقال عبد الرحمن: ولكنك لا تقدرين على ذلك إلا إذا جلست في مكان ترين منه موكبه دون أن يراكِ. قال عامر: وأنا لا أريد أن يرى وجهي، فالأجدر بنا أن نتخذ مقامًا في خلوة تشرف على ساحة الدير، وإذا استطعنا أن نُشرف على بستان الدير كان حظنا أوفر؛ لأن يزيد إذا أراد الصيد خرج في حاشية كبيرة وفيها البازيارية والعقَّابون وساسة الفهود والقرود والكلاب، وحملة الزاد والخدم والأعوان، وغير هؤلاء ممن يحتاج إليهم أثناء الصيد. فقال عبد الرحمن: وهل يقيمون في الصيد طويلًا؟ قال: ربما أقاموا أسبوعًا أو شهرًا أو بضعة أسابيع، وهم في مضاربهم ومعهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب والكساء. كذلك كان يفعل ملوك العراق عندنا من عهد الفرس، فقد كان الملك منهم إذا خرج للصيد بنوا له حائطًا طوله فرسخ يبتدئ من دجلة مثلًا أو من الفرات على هيئة زاوية، ثم يخرج الملك أو الأمير ومعه الرجال والأعوان على الخيول والبغال والحمير يطاردون الغزلان وحمر الوحش وغيرهما من الطرائد نحو الحائط والنهر، ويمنعونها من الرجوع، فلا تفر منهم، ويستدرجونها حتى يدخلوها وراء ذلك الحائط، فتنحصر بينه وبين النهر، فإذا انحصرت هناك دخل الملك ومن معه من خاصته وتأنَّقوا في القتل، فيقتلون ما يقتلون ويطلقون الباقي، وما أظن يزيد إلا فاعلًا في هذه الغوطة مثل ذلك. فقال عبد الرحمن: وما السبيل إلى مكان نستتر فيه؟ قال عامر: دعوا ذلك لي، وخرج إلى رئيس الدير، وكان الصبح قد انبلج والرئيس على السطح يراقب تنفيذ أوامره في تنظيف الدير وضواحيه، وفرش الطنافس وإعداد المجالس وترتيب الفاكهة في الآنية واستحضار المياه الباردة المحلاة بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة، فصعد عامر إليه وحيَّاه فرحب به الرئيس، فتجاهل عامر وسأله عن سبب ذلك الاهتمام فقال: إن أمير المؤمنين مارٌّ بنا هذا الصباح في طريقه إلى الصيد، ومن عادته إذا خرج للصيد أن يجعل هذا الدير أول محطة يقف فيها. فأظهر عامر ارتياحه لذلك وقال: وقد بلغني أن مولانا الخليفة يجلُّكم ويحترمكم لقِدم عهدكم في هذا المنصب. قال: ربما فعل ذلك تفضلًا منه، ولا غَرْوَ؛ فإني أعرف أباه من قبله، وكثيرًا ما كان يجالسني وأجالسه، وكان خليفتنا هذا يومئذٍ صبيًّا يخرج أحيانًا إلى هذه الغوطة ومعه معلم يلقنه حركات النجوم وأنساب العرب اسمه دغفل، وكان إذا أتاني أنس بي فأكرمه، فلما تولَّى الخلافة ظل ذاكرًا الصحبة. فقال عامر: إن منظر أمير المؤمنين بحاشيته وخدمه مما ينشرح له الصدر، وأراني كثير الشوق إلى مشاهدة ذلك المشهد، وابنتي أشوق مني إليه، ولكنني لا أدري كيف أستطيع أن أريها إياه من غير أن يراها أحد؛ لأن عادتنا تقضي بالتحجب. فقال الرئيس: هذا أمر سهل يا بني، فإني أقدم لكم غرفتي تجلسون فيها أثناء تلك الزيارة. فأثنى عامر على حسن ضيافته وقال: بورك فيك يا مولاي، ثم ذهب ليدعو سلمى وعبد الرحمن. وعندئذ تذكر الرئيس ما سمعه بالأمس من الضيف الأبرص المتنكر من أن لهؤلاء حكاية تتصل بأمير المؤمنين، ولكنه لم يعد يستطيع الرجوع في قوله. وبعد قليل عاد عامر ومعه رفيقاه فصعدوا جميعًا إلى عُلِّيَّة الرئيس، فاستقبلهم وأوصاهم بالتستُّر ما استطاعوا، فلم يفقهوا لوصيته معنًى غير مجاراتهم في مقتضيات الحجاب، وكان للعُلِّيَّة نافذتان تطل إحداهما على ساحة الدير والأخرى على بستانه، فأطلوا على البستان والغوطة من ورائه يستطلعون موكب الخليفة قبل وصوله، وكانت الشمس قد أرسلت أشعتها على تلك المروج الخضراء تتخللها الجداول والبحيرات، وتطايرت العصافير وغنت البلابل، كما علت أصوات الماشية والحمير والجمال في الحظيرة، فشاقتهم تلك المناظر البديعة بما يخالطها من ألوان الفاكهة والرياحين والأزهار، ولم يكادوا يقفون قليلًا حتى لاحت لهم من بين الأشجار خيول قادمة من جهة دمشق، وهي في هيئة موكب يتقدمه فارس بلباس زاهٍ، وعلى رأسه عمامة صغيرة، وتجلل ثيابه جبة أرجوانية موشَّاة، وإلى جنبه سيف مرصع انكسرت أشعة الشمس على أحجاره الكريمة فأضاء كالمصباح، ووراء الفارس بضعة عشر من الفرسان، أقربهم إليه في مثل هيئته وزيِّه، فعلم عامر لأول وهلة أن الفارس الأول يزيد بن معاوية، ولكنه لم يتبين وجهه لبعد المسافة، ولم يعرف رفيقه، وإن كان قد رجح أنه من كبار خاصته. وسألته سلمى: من هو هذا الفارس الأول يا عماه؟ لعله الخليفة المزعوم؟ قال: يظهر أنه هو. قالت: ومن هو رفيقه الفارس الذي يليه؟ يظهر لي أنه من أخصَّائه. قال: أظنه كذلك، فإذا اقترب تفرَّسته وأنبأتك بحقيقة حاله. وظلت أبصارهم شاخصة إلى هذين الفارسين ولا يلتفتون إلى ما وراءهما حتى اقتربا من سور البستان، بينما كان رئيس الدير قد خرج برهبانه لاستقبال الضيف العظيم. وترجَّل الفرسان، ودخل الخليفة أولًا وإلى جانبه رفيقه، ثم دخل وراءهما بقية الحاشية، فمشوا في البستان وعامر يتفرس فيهم وسلمى وعبد الرحمن ينظران إلى عامر فرأيا سحنته قد تغيرت، والتفت إلى سلمى فسألته: ما بالك يا عماه؟ ماذا رأيت؟ فتنهد وقال: يا للعجب! سبحان جامع الأشباه والنظائر! أتعلمين من هما هذان؟ قالت: لا، ومن عسى أن يكونا؟ قال: أما الأول صاحب الحلة الأرجوانية الذي تريان وجهه شديد الأدمة وعليه أثر الجدري، فهو يزيد بن معاوية، الذي يسميه أتباعه أمير المؤمنين خليفة رب العالمين، والخلافة بريئة منه، وهو كما تريانه فتًى حسن الصورة لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، ولم يغير الجدري شيئًا من جماله، ولكن الخلافة لا تحتاج إلى الجمال، وبخاصَّة إذا كان صاحبها منغمسًا في الملاهي. أما رفيقه الذي يسير بجانبه مختالًا، فهو عبيد الله بن زياد، ومتى اقترب منَّا فستشمَّان رائحة المسك تفوح من ثيابه. فلما ذكر اسمه ارتعدت سلمى وقالت: أليس أباه الذي سعى في قتل أبي؟ قال: هو بعينه. فقال عبد الرحمن: يا للغرابة! قد اجتمع القاتلان، وسيُقتل كلاهما إن شاء الله. قال ذلك وحرَّق أسنانه، فنظر عامر إليه شزرًا كأنه يؤنبه على ذلك التصريح؛ لأنهم محاطون بالرقباء والأعداء. ولم يكد يزيد ورفقاؤه يقتربون من الدير حتى وصل أتباعهم ودخلوا البستان زُرافات ووحدانًا، وفيهم الراكبون على البغال والحمير، وفيهم المشاة وهم الأكثرون، ولكنهم على أشكال شتَّى في ملابسهم وأزيائهم، فبينهم أصحاب الملابس القصيرة والطويلة على اختلاف ألوانها، وبينهم حملة الحراب والنبال، وبعضهم يقودون فهودًا، وآخرون يسوسون قرودًا، وغيرهم يجرون كلابًا في أرجلها أساور من الذهب وعلى ظهورها الجِلال المنسوجة بالذهب، ومن حولها عبيد اختص كل منهم بخدمة كلب، فيقوم بكل ما يحتاج إليه من الطعام والنظافة، وشاهدوا في جملة تلك الحاشية أناسًا يحملون طيورًا جارحة كالباز والصقر والعقاب. وانتشر هذا الجمع في البستان؛ لأن ساحة الدير لا تسعهم جميعًا، وقد أحدثوا جلبة شديدة لكثرة عددهم واختلاط أصواتهم بأصوات الحيوانات والطير، من صهيل الخيل ونهيق الحمير وشحيج البغال وصياح الثعالب ونباح الكلاب وضحك القرود وصرصرة البُزاة وحفيف الأجنحة. وأخذت سلمى تسأل عامرًا عن ذلك الجمع المحتشد، وما يحملونه أو يسوقونه من أنواع الحيوان، فأجابها عامر قائلًا: إننا يا سلمى في مشهد بديع يندر أن يتفق لمثلك أن تراه؛ ولذا فإني أقص عليك خلاصته، فاعلمي أن الخليفة خارج للصيد، وربما أوغل في الغوطة واستغرقت سفرته أسابيع عدة، وهو مولع بالصيد حتى لقد شغله عن مهامِّ الخلافة، ولا يقتصر في صيده على نوع من أنواع الحيوان، بل يصطاد الطيور والظباء والأرانب وحمر الوحش وغيرها، وهذا هو السبب في كثرة هذه الحاشية؛ فإن منهم حفظة الفهود وقد أركبوها على الخيل، ويزيد هذا أول من أركبها عليها، أما أول من اصطاد الفهود فهو كليب بن وائل الشهير في حروب الجاهلية، وهي تصطاد له الغزلان وحمر الوحش ونحوها، وترين في هذا الجمع عبيدًا يسوسون الكلاب وعليها الألبسة الفاخرة والأساور الذهبية، وعند يزيد عدد كبير منها، وهي تصطاد له الغزلان والأرانب. وأما الطيور التي ترينها في أيدي حامليها، فمنها الباز ويسمى حامله «البازيار»، والباز كما تعلمين من الجوارح التي تفترس الطيور الضعيفة كالدراج والحُبارى والورشان والعصافير، فيحمل الصيادون الباز من الجبال ويعلمونه الطيران والرجوع إلى مكانه، فإذا خرجوا به للصيد أطعموه قليلًا وقبض البازيار عليه من رجليه ومشى به بعد أن يكسو كفه بقفاز من جلد، فإذا اشتمَّ الباز رائحة دراج أو حُبارى رفرف وحاول الإفلات، فيفلته البازيار فيطير حتى يقع على طريدته فيقتلها، والبازيار يركض في أثره، وقد يهمُّ الباز بأكل الطريدة فيدركه البازيار ويخرجها من فمه، وقد لا يهمُّ بذلك، وهكذا يفعل العقاب، ويقال لحامله «عقَّاب»، وكذلك الصقر والشاهين وغيرهما من الجوارح ولكنها لا تصطاد إلا الطيور الضعيفة. فاعترضه عبد الرحمن قائلًا: ولكنني سمعت أن الباز قد يصطاد الغزال أيضًا. قال عامر: ربما اصطاده، ولكنه لا يستطيع ذلك وحده، فإن بعض البزاة إذا أطلقتها على غزال رفرفت على وجهه واعترضت مسيره فتعوقه عن الفرار السريع ريثما يدركه الكلب أو الفهد فيرديه. أما حمار الوحش فإن الفهد يصطاده، وقد يصطادونه بالنبال، وحمار الوحش كثير في «جرود»، وهي قرية في هذه الغوطة. وكانت سلمى مصغية تسمع حكاية الصيد وهي تعرف شيئًا منه، ولكنها لم تكن تعرف هذا التفنن فيه، فلما وصل عامر إلى هذا الحد ظهر من رنة صوته أنه يهمُّ بإنهاء الحديث فقالت سلمى: ولكنني أرى جماعة من هؤلاء الغلمان يسوسون قرودًا منها قرد عليه قباء من حرير أحمر وأصفر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بديعة، وقد ركب أتانًا وحشية عليها سرج من الحرير الأحمر منقوش بألوان جميلة، وبين يديه خادم يسوسه ويطعمه الفاكهة من يده، فما هو شأن هذا القرد؟ فضحك عامر وقال: هذا هو «أبو القيس»، وقد ربَّاه يزيد وسمَّاه بهذا الاسم، فإذا جلس للشراب مع منادميه طرح له مقعدًا معهم، وهو قرد خبيث كثيرًا ما يركب هذا الأتان ويخرج لمسابقة الخيل في أيام السباق، وقد يحوز قصب السبق عليها كلها. ••• اشمأزت سلمى مما سمعته عن يزيد، وقالت: أإلي هذا الحد بلغت حال الخلافة! أين هذا من عصر الخلفاء الراشدين، وقد كانت أثوابهم من الكرباس الغليظ، ونعالهم وحمائل سيوفهم من الليف، وكانوا يمشون في الأسواق كبعض الرعية! هكذا كان أبو بكر، وكان عمر بن الخطاب، وهكذا كان علي بن أبي طالب! أين الزهد والتقوى! أين العدل والقسط! أين الحزم والعزم! أين العلم والفضل! وا أسفاه على الإسلام والمسلمين. فابتدرها عبد الرحمن وقال: رويدك يا سلمى، إن وقت النجاة قريب، ولا أظنك بعد ما سمعت ورأيت تترددين في إطلاق حريتي فيما عزمت عليه، وإن غدًا لناظره قريب. فتنهدت سلمى وأطرقت وكأن قلبها قد دلها على خطر يهدد حبيبها، ولكنها ظلت صامتة، وبينما هم في ذلك إذ علا نباح الكلاب في باحة الدير، فتحولوا إلى النافذة المطلة على تلك الباحة ليروا ما هناك، فإذا الخليفة ورجاله قد جلسوا على طنافس فرشت لهم تحت الصفصافة، وبين أيديهم مختلف ألوان الفاكهة، والرهبان وقوف بأقداح الماء المحلى بالسكر وأنواع الأشربة الحلوة التي يستخرجها الرهبان من الثمار، وفيها أصناف الخمور المختلفة، المستخرجة من العنب والتفاح والبلح، وكان الرئيس جالسًا باحترام بين يدي يزيد، وبيده قدح من الفضة يقدمه له ليشرب، ولكن الصفصافة حجبت كثيرًا من ملامح الجالسين، فلم يكن يبدو إلا بعضها من خلال الأغصان، كما أن عواء الكلاب كاد يصمُّ آذانهم ويشغلهم عن تتبع ما يجري في ذلك المجلس الطريف. وكان سبب ذلك العواء أن كلاب يزيد حينما تبعته إلى باحة الدير وعليها الألبسة والأساور كما تقدم، كان شيبوب وصاحبه نائمين على دكة في بعض جوانب الباحة، فلما شعر الشيخ بمجيء يزيد ارتعدت فرائصه ولم يعد يستطيع البقاء، فهرول وانزوى في مستتَر من الدير ولم يدعُ شيبوب لمرافقته، فظل الكلب متكئًا حتى دخل يزيد وانتشرت كلابه تحت الصفصافة، واشتمَّ شيبوب رائحتها فكان أشد نفرة ورعدة من صاحبه، فأخذ في النباح وكذلك فعلت كلاب يزيد. فلما طال النباح، أمر الرئيس بعض الرهبان أن يطرد شيبوب من ذلك المكان، فقام الراهب بذلك، وركض شيبوب إلى السلم فصعد إلى السطح، وكان لعُلِّيَّة الرئيس كوَّة واطئة تشرف على السطح فأدخل الكلب رأسه منها، فرأى سلمى ورفيقيها فحمحم مستأنسًا بهم، ثم وثب إلى الداخل ودنا من سلمى وقد أرخى أذنيه وهز زيله، فاستأنست هي به وجعلت تمسح رأسه بيدها وهو يدنو منها ويحك جنبه بثوبها، على أنها خافت أن تشتغل به عن مشاهدة مجلس يزيد، فشغلته بثمرات جافة كانت في جيبها، وكان شيبوب قد ألِف أكل الفاكهة مثل صاحبه وإن لم يكن هذا طبعه، ثم عادت سلمى إلى التطلع من النافذة، وأهل الباحة مشتغلون عنها بخدمة يزيد وإكرام وفادته، وكلابهم لا تزال تنبح، فلم يكن من شيبوب إلا أن أجابها بنبحة ارتجعت لها العُلِّيَّة واستلفتت انتباه الجالسين تحت الصفصافة، فالتفت بعضهم إلى جهة الصوت وفي جملتهم عبيد بن زياد رفيق الخليفة وصديقه، فوقع بصره على وجه سلمى فلم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، وشعر بجاذب جذب قلبه إليها وامتلك عواطفه. أما هي فلحظت انتباه الناس لنباح شيبوب والتفات بعضهم إلى العُلِّيَّة ووقع نظر ابن زياد عليها، فهرعت إلى الداخل وقد غلب عليها الحياء وتبدلت هيئتها. كان عامر وعبد الرحمن مشتغلين عن ذلك بالحديث، فلما عوى شيبوب وتحولت سلمى عن النافذة التفتا إليها فإذا هي قد احمر وجهها وظهر عليها الاضطراب، فابتدرها عبد الرحمن بالسؤال عن سبب ذلك، فأظهرت أنها لا تبالي، وقالت: إن نباح هذا الكلب قد استلفت أنظار بعض الجالسين بين يدي الخليفة فتطلعوا إلى النافذة. فقال عبد الرحمن: وما الذي تخافينه؟ فقطع عليه عامر الكلام قائلًا: لم تخف وإنما الحياء غلب عليها. ••• كان عبيد الله بن زياد قد افتتن بسلمى للنظرة الأولى، ولم يبقَ له صبر على معرفة أمرها، ولكنه لم يجرؤ على ذلك والخليفة معه، فعزم بينه وبين نفسه على الإسراع في العودة وحده من الصيد بحيلة يخترعها ليزيد، لكي يعرج على الدير وحده ويبحث عن تلك الغادة الفتانة. على أنه لم يتمالك عن سؤال الرئيس خلسة عن سكان تلك العُلِّيَّة، ولا تسل عن حال الرئيس عند ذلك السؤال بعد الذي سمعه من ضيفه الأبرص من أمر أولئك الضيوف وعلاقة ذلك بالخليفة، فلما سمع ابن زياد يسأله عنهم أوجس في نفسه خيفة، ولكنه تجلَّد وأجاب بسذاجة قائلًا: إنهم يا مولاي رجل وابنته، وهم من أهل العراق نزلوا ضيوفًا علينا، ثم فطن لعذرٍ ظنَّه يُرضي الخليفة فقال: ولا يخفى على مولاي أننا مكلَّفون باستضافتهم؛ لأنهم مسلمون، فأنزلناهم وقمنا بخدمتهم عملًا بعهد الخليفة عمر بن الخطاب، وهو يقضي علينا بضيافة من ينزل علينا من المسلمين ثلاثة أيام. فقال عبيد الله: حسنًا فعلت، واطمأن قلبه إذ علم أنهم من المسلمين، ورجح أن تلك الحسناء عزبة، ولكي يتأكد من ذلك قال مغالطًا: ألم تقل إن الثلاثة رجل وامرأته وابنه؟ قال: لا يا مولاي، إنهم رجل وابنه وابنته، والابنة عذراء. فازداد اطمئنان عبيد الله، ولكنه خاف إذا طال غيابه أن تخرج سلمى من الدير فلا يعود يظفر بها فقال للرئيس: وهل تطول إقامتهم في هذا الدير؟ قال: لا أدري، ولكني أظنهم مسافرين قريبًا إلى دمشق؛ لأنهم آتون في تجارة. قال: أوصيك باستبقائهم ريثما أعود، فقال: سمعًا وطاعة. ثم خرج يزيد بحاشيته من الدير والرئيس والرهبان يشيعونهم إلى البستان، حتى ركبوا وهم يدعون لهم بالسلامة. أما عبيد الله فخرج وقلبه مشتغل بسلمى، وهو يعد نفسه بالرجوع إليها عاجلًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/5/
الحب والانتقام
نزلت سلمى ورفيقاها بعد انصراف الأضياف حتى دخلوا غرفتهم، وعبد الرحمن ساكت لا يتكلم، وقد أدرك عامر وسلمى ما جاش في خاطره من أمر الانتقام، فلما وصولوا إلى الغرفة هموا بالجلوس إلا عبد الرحمن فإنه ظل واقفًا والقلق ظاهر على وجهه، فتجاهلت سلمى حاله، ودعته إلى الجلوس فقال: أتدعينني إلى الجلوس وقد أزفت الساعة التي نحن في انتظارها منذ أعوام؟! ففهمت مراده ولكنها تجاهلت، وقالت: وأي ساعة تعني؟ قال: أراك تتجاهلين حين لا ينفع التجاهل؛ فقد قضي الأمر وآن أوان الانتقام. فاختلج قلبها في صدرها خوفًا عليه من الخطر الشديد بعد أن شاهدت كثرة تلك الحاشية وما معهم من العدة والسلاح، وقالت: دعنا الآن من الانتقام يا عبد الرحمن، فإن الساعة لم تأتِ بعد. قال: وكيف ذلك وهذا يزيد خارج للصيد بكلابه وفهوده وجوارحه؟ قالت: ذلك هو الأمر الذي أخافه عليك. بالله لا تلقِ بيدك إلى التهلكة؛ فإن المركب خشن والطريق وعر. قال: لقد عزمت وتوكلت على الله. قال ذلك وهو يبحث عن خنجره ويصلح ثيابه ويتأهب للخروج. فأمست سلمى بذيل ثوبه، وقد توردت وجنتاها وغلب عليها الحب والحياء معًا وقالت: بالله لا تذهب؛ إني خائفة عليك من هذا الأمر العظيم؛ إنك واحد وهم جماعة. فقال: دعيني، لا أبالي مهما يكن من كثرتهم، وقد صممت على الانتقام، وهذا وقته فلا تثني من عزمي. فقالت وهي تكاد تشرق بدموعها: لا، لم يئن وقت الانتقام، فلا تذهب الآن. قال: إني لا أرى فرصة أنسب من هذه، فدعيني يا سلمى، دعيني أقتل هذا الرجل وأنقذ المسلمين من شره، وأنتقم لحُجْر بن عدي، وأشفِ غليلي منه. فقالت: إذا لم يكن بدٌّ من الذهاب فدعني أذهب معك، فإما أن نُقتل معًا، وإما أن ننجو معًا. قال: أليس عارًا عليَّ وأنا رجل أن أصطحبك في مهمة كهذه؟ دعيني يا سلمى. وحاول التخلص منها فإذا هي ممسكة ثوبه بيدها، فغضب وأراد أن يتخلص بالعنف، ثم نظر إلى وجهها فرأى الدموع تتساقط من عينيها، فسكن غضبه ووقف وهو ينظر إليها بعين المحب المفتون وقال لها: ما هذا يا سلمى؟ ما الذي تفعلينه؟ إنك تضعفين عزيمتي وتحملينني على الجبن. ما الذي يدعوك إلى ذلك، وعهدي بك أشد حنقًا مني وأكثر رغبة في الانتقام؟ فقالت وهي تجهش بالبكاء وصوتها يتلجلج: ألا تدري ما الذي يدعوني إلى ذلك؟ هو الحب يا عبد الرحمن. إن الحب يحملني على هذا الخوف! ثم قالت بصوت ضعيف متقطع وهي تنظر إلى الأرض: نعم، إن الحب حلو شهي لذيذ. فابتسم إعجابًا وابتدرها وهو يتجلَّد مخافة أن تغلب عواطفه على ما في نفسه وقال: صدقت يا حبيبتي، إن الحب حلو، ما أحلاه! ولكن الانتقام يا سلمى أحلى منه. ليس في العالم ألذ من الانتقام ولا أحلى. دعيني أخرج إلى هذا الرجل الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين فأقتله بهذا الخنجر، وأنتقم لك ولي وأنقذ المسلمين منه، أو أموت في نصرة الحق و… فقطعت كلامه وقالت: لا تذكر الموت يا عبد الرحمن، إن ذكره يؤلمني ويؤذيني، حماك الله من شره. قال: أيؤلمك ذكره، وقد ذاقه قبلي من هو أكرم عند الله مني؟ لقد ذاقه الإمام علي، وذاقه أبوك حُجْر بن عدي، وذاقه كثيرون غيرهما في سبيل نصرة الحق، فما أنا خير منهم، وقد آن وقت الانتقام. وهمَّت سلمى بأن تجيبه فوقف عامر وقد أثر في نفسه ذلك الجدال، ووقع في حيرة لا يدري لأيهما ينتصر؟ ولكنه خاطب عبد الرحمن مترفقًا وقال: تمهَّل يا بني وارفق بنا، واعلم أنك سالك طريقًا وعرًا لا نرضى أن تسلكه وحدك. دعني أسرْ معك، لعلي أنفعك في جهادك، أو أكون بين يديك فيصيبني ما يصيبك. فالتفت عبد الرحمن إلى عامر وقال: وأنت أيضًا يا عماه تثبط عزيمتي؟ ألم نسمع كلام الهاتف معًا؟ ألم يقل الهاتف فوق قبر حُجْر: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، أترى بعد ذلك مجالًا لقائل. إنه لا بد لي من الذهاب، إن لم يكن إجابة لدعوة الهاتف فانتقامًا لحُجْر بن عدي الراقد تحت الجوزة، وانتقامًا لصهر النبي ﷺ وابن عمه ووصيِّه الإمام علي، وإن لم يكن لهذا ولا لذاك فانتصارًا للحق وإنقاذًا للإسلام والمسلمين من سلطان شُغل عن رعاية الأمة برعاية الجوارح والكلاب والفهود والمنادمة على الشراب. فأراد عامر أن يجيبه ليثنيه عن عزمه إشفاقًا على سلمى فقال له: لا أنكر عليك نبالة الغرض الذي ترمي إليه، ولكنني أظن الوقت لم يحن بعد. ••• ملَّ عبد الرحمن الجدال فقال: لقد ضيَّقتما عليَّ السبل، ولست أرى وقتًا أنسب من هذا للوفاء بعهدي، ثم التفت إلى سلمى وقد هاجت أشجانه فوق هياج غضبه، وكأنه تحقق عِظم الخطر الذي يتهدده في طريقه فقال: ويكفي يا سلمى أن يكون تأجيل قتل هذا الرجل باعثًا على تأجيل زواجنا، ألم أجعل قتله يا منتهى أملي شرطًا لعقد زفافنا؟ إنك تبتغين البعد وأنا أسعى في القرب وأشتريه بحياتي؟ ألم أعاهد نفسي على ذلك؟ آه يا سلمى! إني عالم بما يهددني، ولا أجهل خطر الطريق، ولكنني مضطر لركوب هذا المركب، فاتركيني وادعي لي، فإن دعاءك من دعاء الملائكة لأنك ملاك في صورة إنسان. قال ذلك واختنق صوته، فسكت وراح ينظر إلى سلمى وعيناه تلمعان بما غشاهما من الدمع، وقد هاجت شجونه وتلَّوت عواطفه وهو يغالبها بشهامته وبسالته، وسلمى لا تزال ممسكة بطرف ثوبه، والحب والحياء يتنازعانها، فلما سمعت كلامه أطرقت والدمع يسيل على خديها وهي تحاول إخفاءه بسكوتها، وعامر ينظر إلى ذينك الحبيبين وقلبه معهما، ولكنه لا يدري لأيهما ينتصر. ظلوا صامتين وعبد الرحمن يغالب عواطفه ويخاف أن تغلبه، ولكنه تجلَّد وأعاد الكرَّة وقال بصوت هادئ: لا أجهل يا سلمى أني سائر في مهمة ذات خطر عظيم، ولكنك تعلمين أننا إنما قطعنا البراري والقفار وجئنا هذه الديار من أجل الانتقام، وقد أردت المجيء وحدي فأبيتما إلا اللحاق بي، وهذا ما كنت أخشاه منذ بادئ الأمر، فلا تكوني عثرة في سبيلي وسبيل الحق. إنني إنما جئت إلى هذه الديار لقتل هذا الرجل. أما صدَّقتما ما ادَّعيناه من أننا جئنا للاتِّجار بالتمر والجمال؟! إننا ما جئنا إلا للانتقام، فهل يليق بنا بعد أن استخرنا الله وعزمنا، أن نرجع إلى الوراء؟! أليس من الغلو أن يكون ابن ملجم الباغي أكثر ثباتًا مني، وهو إنما ثبت على قتل نفس بريئة، وأنا أسعى في استئصال شجرة فاسدة؟! إني أسعى في إنقاذ الإسلام من فساد تولَّاه، ولا علاج له غير قتل يزيد، لكي تعود الخلافة إلى حبيبنا سيد شباب المسلمين الإمام الحسين ابن بنت الرسول ﷺ فاتركاني أذهب في سبيلي، فقد اتكلت على الله في أمري، وما الموت الذي تخافانه عليَّ إلا سنة الله في خلقه، فإذا حكم عليَّ به فلي أسوة بغيري من القوم الصالحين، وأكون قد توسدت الثرى قرير العين، ألقى وجه ربي باشًّا مطمئنًّا تشهد كل ذرة من ترابي بحسن جهادي، وإذا فزت وحييت فإني إنما أحيا سعيدًا وسلمى زوجتي، والحسين مولاي وخليفة المسلمين. هذا هو القول الفصل، وكفانا ترددًا. فلم يبقَ ثمَّة مجال للدفاع، فقال عامر: دعيه يا سلمى، إن الله قد دعاه إلى عمل صالح اختاره له، فعسى أن يوفقه فيه، دعيه وألقي أمرك إلى الله. فتركت سلمى ثوب عبد الرحمن ولكنها ظلت صامتة، فأتم عامر كلامه قائلًا: والآن إذا أنت خرجت في أثر هذا الركب فما الذي تفعله، وكيف نطَّلع على خبرك؟ ألا ترى أن أسير أنا معك؟ قال: أقسم بتربة عمي الثاوي في هذا الجوار لا يذهبن أحد معي. أما خبري فسأحمله إليكما بنفسي وإلا … وسكت. فعادت سلمى إلى القلق وقالت: وإلا ماذا؟ قل! قال: إني ذاهب الآن في أثر هذه الحملة إلى حيث ينزلون لصيدهم، وسأختبئ في مكان ما حتى أنفرد بيزيد فأقتله، أما أنتما فامكثا هنا في انتظاري بقية هذا النهار وطول ليله، فإذا جاء مساء الغد ولم أعد إليكما فلا تطلباني، فلا أدري أين أكون. فقال عامر: سر واتكل على الله، ونحن في انتظارك إلى غروب الغد، فإذا غابت الشمس ولم تعد إلينا، ﻓ … فقطع عبد الرحمن كلام عامر قائلًا: لا أظنني بعد قتل يزيد إلا مضطرًّا للاختفاء فلا أستطيع دخول هذا الدير، وسكت برهة يفكر ثم قال: ولكنني أرسل إليكم علامة. قال: وما هي علامتك وكيف ترسلها؟ قال: أرمي إليكم بسهم أكتب بين ريشتيه اسم المكان الذي نلتقي فيه فتوافيانني إليه، فإذا جاء غروب الغد فانتظرا سهمي على سطح هذا الدير، ولن أذكر لكما بين الريشتين غير اسم المكان فلا خوف منه إذا وقع في أيدي الرهبان. فأعجب عامر بفطنته وقال: إنها لنعم العلامة. وتقلد عبد الرحمن قوسًا صغيرًا وأسهمًا، كما تقلد الخنجر، ولبس ثوبًا أصبح فيه يشبه أتباع يزيد، وتزمَّل برداء فوق ثوبه، وكانت سلمى في أثناء ذلك تنظر إليه وقلبها لا يطاوعها على مفارقته، فلما أتم الاستعداد وهمَّ بوداعها خفق قلبها وندمت على قبولها ذهابه، وأرادت أن تعود إلى منعه، فلم يتح لها فرصة، بل أسرع ففتح الباب وخرج، فلم تعد تستطيع اللحاق به مخافة أن يشتبه الرهبان في أمرهم، فتظاهرت بالسكينة، وتبعته بنظرها فإذا هو قد أدرك باب الدير وخرج منه، فاصطحبت عامرًا والتمست سطح الدير لكي تشيِّعه ببصرها وهو سائر في الغوطة، فصعدا السلم وهما يتظاهران بالتفرُّج، فلما أشرفا على السطح رأيا عبد الرحمن قد قطع البستان حتى خرج من بابه وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ثم أوغل بين الأشجار. وفيما هما ينظران إليه من خلال الأشجار، رأيا رجلًا ملثمًا خرج من الدير وسار في أثره، فلم يعرفاه ولا اشتبها فيه لخلوِّ ذهنهما من وجود رقيب يراقبهما هناك، ولو علما من هو ذلك الملثم وما نصبه من الشراك لعبد الرحمن لتعقَّباه وأوديا به، أو لأرجعا عبد الرحمن عن عزمه. وما كان ذلك الملثم إلا الضيف الأبرص الذي جاء الدير بالأمس واختبأ في إحدى غرفه، وكان قد رافقهم خلسة منذ خروجهم من الكوفة لحاجة في نفسه لو عرفتها سلمى لارتعدت فرائصها ولما صبرت إلى غروب الغد تنتظر رجوع حبيبها. وظلت سلمى واقفة تتطاول بعنقها وتحدِّق بعينيها بين الأشجار حتى غاب عبد الرحمن عن بصرها، فلما توارى أحست كأن قلبها انخلع من مكانه، ولم تعد تتمالك عن البكاء؛ لما غلب عليها من الخوف على حياة حبيبها، وندمت على تركه يذهب وحده، ثم عادت إلى غرفتها حزينة كئيبة لا تخاطب عامرًا ولا تنظر إليه. ولم يكن عامر أقل ندمًا على ذلك، فظل صامتًا، ونزل في أثرها، والرهبان في شاغل عنهما برفع الآنية والأبسطة التي كانوا قد أعدُّوها للخليفة. ••• دخلت سلمى غرفتها وقد أظلمت الدنيا في عينيها وضاقت بها السبل فأطلقت لعينيها عنان الدموع واستغرقت في البكاء كأنها أُشعرت بما سيلقاه عبد الرحمن من الخطر، وودت لو تتبعه عسى أن تكون له عونًا، ولكنها لم تكن تعرف الجهة التي مضى إليها، ولا التي سار إليها موكب الخليفة، فظلت تتردد بين اليأس والرجاء، وعامر جالس منقبض الصدر وفي نفسه هواجس أمسك عن إظهارها إشفاقًا على سلمى، ثم تجلَّد فاقترب منها وجعل يخفف عنها ويطمئنها وهي لا تصغي إليه. على أنها عادت تعلل نفسها بنيل المنى، فتصورت فوز حبيبها بقتل يزيد وما يترتب على ذلك مما تتوق إليه نفسها ونفس كل مسلم من دعاة أهل البيت، فضلًا عن شفاء غليلها بالانتقام لأبيها، فسكن روعها وخف بكاؤها، فاغتنم عامر الفرصة وقال لها: خففي عنك يا بنيتي واتكلي على الله، فإنه ولي التوفيق وهو على كل شيء قدير، وما قتل هذا الخليفة بالأمر العسير، ولا سيما أن عبد الرحمن لن يقدِم على قتله وهو بين رجاله، ولكنه سيتربص به حتى يراه وحده، ولا شك في أنهما إذا تبارزا فستكون الغلبة لعبد الرحمن. فنزل كلام عامر عليها بردًا وسلامًا، فكفَّت عن بكائها، ونهضت تتشاغل بترتيب فرش الحجرة وأثاثها، ثم استلقت وقد غلبها التعب وأدركها النعاس، وأدرك عامر ذلك فتركها وخرج ليخلو بنفسه. وظلت سلمى نائمة إلى العصر وعامر يتردد إلى الحجرة يتفقَّدها، فإذا رآها ما زالت نائمة عاد إلى السطح وتشاغل بالتأمل في مشاهد الكنيسة، أو محادثة بعض الرهبان. وفيما هو عائد ذات مرة رأى شيبوب تحت الصفصافة، فتذكر الشيخ الناسك، وخطر له أن يذهب إليه لعله يسمع منه كلامًا يطمئنه على عبد الرحمن، وكان يعتقد الكرامة في مثل هذا الناسك، ثم بدا له أن يصطحب سلمى لتشاركه اطمئنانه، فلما ذهب إلى غرفتها وجدها قد استيقظت وجلست مضطربة حزينة النفس فقال لها: ما بالك يا بنية؟ ما لي أراك مضطربة؟ قالت والدمع ملء عينيها: آه يا عماه، تسألني عن شيء أنت تعلمه! ولقد زاد في همي ما انتابني من الأحلام أثناء نومي. فابتدرها الشيخ قائلًا: دعينا من الأحلام والأوهام، وهلمِّي بنا إلى الشيخ الناسك لنجلس إليه عسانا نسمع منه ما يسرُّ، فإني والله أعتقد الكرامة في أمثاله. فارتاحت سلمى لهذا الاقتراح، ووقفت وقد انبسط وجهها وزالت عبوسته وقالت: نعم الرأي يا عماه، فهيا بنا إليه، أين هو؟ قال: أظنه في بعض جوانب الدير فقد رأيت كلبه الساعة تحت الصفصافة، فلا يبعد أن يكون في زاوية من زوايا الدير، أو في بعض غرفه. ••• خرج عامر وسلمى في أثره، فلما أطلَّا على الباحة رآهما الكلب فهرول إلى سلمى وهوى يحرك ذيله ويغمغم استئناسًا بها، وذهب عامر للبحث عن الناسك، ثم عاد وهو يقول: سألت في كل أطراف الدير فلم أقف له على أثر، وقد أخبرني الرئيس بأنه خرج عندما كان الخليفة هنا ولم يعد. قالت: هل تظنه في بعض جوانب البستان؟ قال: ربما، هلمَّ نبحث عنه هناك. فمشيا حتى خرجا من باب الدير، والحظيرة إلى يمينهما وفيها الماشية والدواب، فوقفا ينظران في جوانب البستان، وكان الكلب قد خرج في أثرهما، ثم رأياه يجري إلى اليسار مسرعًا، فقالت سلمى: يظهر أن شيبوب اشتمَّ رائحة صاحبه فأسرع إليه، فلنذهب في أثره. وتبعاه فإذا هو قد انتهى إلى جميزة قديمة العهد، في أسفل ساقها كهف يشبه غرفة صغيرة أوى إليه الناسك، ورأياه عن بعد جالسًا الأربعاء ويداه متقاطعتان على ركبتيه، وقد أطرق كأنه يفكر في معضلة يبتغي حلَّها، فلما وصل الكلب إليه وجعل يلحس يديه ويتحكك به انتبه الشيخ من غفلته فرفع عينيه وشعر حاجبيه يغطيهما، وأمسك لحيته وثناها إلى فيه وأطبق شفتيه عليها، فوقعت عينه على سلمى وعامر، فجعل يتفرس فيهما وهما قادمان إليه يفكران فيما يبدآن به الحديث، ولم يكادا يدركانه حتى سمعاه يقول بصوت جهوري اخترق نطاق قلبيهما: أين عبد الرحمن؟ فلما سمعت سلمى اسم حبيبها خفق قلبها وارتعدت فرائصها، ولم يكن عامر أقل بغتة منها، وأُرْتِجَ عليهما فلم يعلما بماذا يجيبانه. ولم يكادا يقتربان منه حتى انتصب واقفًا كأنه شاب في عنفوان الشباب وصاح فيهما: أين عبد الرحمن؟ أين ذهب؟ فاقشعرَّ بدن سلمى، وهمَّت بالجواب فأُرْتِجَ عليها فأجابه عامر قائلًا: وأي عبد الرحمن؟ قال: أتسألني يا عامر عن عبد الرحمن وأنت كفيله؟! قل أين ذهب، وقد كان معكما بالأمس؟ فلم يشك عامر في أنه بين يدي ولي من أولياء الله، المرفوع عنهم الحجاب، فقال: إنه سار في مهمة، لعلك عرفتها من تلقاء نفسك. قال: أظنه ذهب وراء يزيد بن معاوية الذي يدعونه خليفة. فخاف عامر وسلمى أن يسمع أحد كلامه، فالتفتا فإذا هما في معزل عن الناس، فقال عامر: نعم يا سيدي. فضرب الناسك يدًا بيد، ونظر إلى السماء وقال: حماك الله يا عبد الرحمن من ذلك الخائن المنافق، كيف تركتماه يذهب في هذا الخطر العظيم؟ فلما سمعت سلمى كلامه ترامت على قدميه وصاحت: قل يا سيدي! قل لي بالله عليك، هل من خطر على عبد الرحمن؟ قال: الخطر عليه من ذلك الأبرص الذي خرج في أثره. قال عامر: وأي أبرص يا مولاي؟ قل بالله؟ أفصح فقد أقلقتنا. فأطرق الشيخ وظل هنيهة ساكنًا، وهو يقبض على لحيته ثم يتركها ويداه ترتعشان تأثرًا، فلم تعد سلمى تستطيع صبرًا على سكوته فقالت: قل بالله يا سيدي. ماذا ينتظر عبد الرحمن في رحلته هذه؟ ومن هو ذلك الأبرص؟ فرفع الناسك طرف ثوبه، وغطى به رأسه وقال: ألا تعرفان ذلك الأبرص؟ ألا تعرفان شمر بن ذي الجوشن؟ فقالا بصوت واحد: بلى نعرفه، وأين هو؟ قال: إنه خرج في هذا الصباح من الدير ملثمًا بعد خروج يزيد، وأظنه رأى عبد الرحمن خارجًا فاقتفى أثره ليوقع به. فالتفتت سلمى إلى عامر والشيخ لا يزال ساترًا رأسه بثوبه وقالت: تبًّا له من خائن، أظنه اقتفى أثرنا من الكوفة وقد علم بالغرض الذي جئنا من أجله إلى الشام. تبًّا لك يا شمر! ثم التفتت إلى الشيخ وقالت: وماذا نعمل الآن يا سيدي؟ وما الذي تخشاه على عبد الرحمن؟ قل لنا ماذا نعمل، فإنا نراك من المحسنين. قالت ذلك وخفق قلبها وقد اصطكَّت ركبتاها ولم تعد تستطيع الوقوف وكأنها في حلم، وعامر ينظر إلى الناسك مستغربًا لا يدري كيف يفسر فراسته، ولكنه شُغل بأمر الخطر المحدق بعبد الرحمن عن التفكير في الفراسة وكرامات الأولياء، وأحب أن يغالط الشيخ فقال له: إنك تخاطبنا يا سيدي بالرموز والألغاز، فما هو خبر عبد الرحمن؟ وما الشأن الذي ذهب فيه؟ ولم يتم عامر كلامه حتى قهقه الشيخ، ثم توقف بغتة وقال: أتجرِّبني يا عامر وتتجاهل؟ لعل لك عذرًا، ولكن الأمر الذي جئتم له لا يخفى على هذه الأحجار ولا على هذه الأشجار، وإذا لم تصدقاني فاسألا الهاتف الذي كلمكم من الجوزة ألم يقل لكم: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلا تسل عن حال عامر وسلمى عند سماعهما ذلك الكلام، فهم عامر بيد الشيخ ليقبلها لا يبالي برائحة قذارتها وقذارة ذلك الثوب، فلما أحس الشيخ بيد عامر ابتعد عنه وانزوى في الكهف والغطاء لا يزال على رأسه، فقال له عامر: بالله أيها الشيخ الجليل ألا كشفت عن وجهك وأظهرت نفسك؟ فزجره الشيخ وقال: الزم الأدب يا عامر، ولا تتطاول إلى ما لا يعنيك، واعلم أنني لن أخاطبك بعد الآن إلا مستترًا، ويكفيك ما علمته من أمر ابن ذي الجوشن الأبرص، وما يبغيه من اللحاق بعبد الرحمن. فخافت سلمى أن يغضب الناسك إذا هما أكثرا من السؤال فقالت: لا تغضب يا سيدي ولا يسؤك سؤالنا وأنت تعلم حالنا بعد ما ظهر من اطلاعك على أمرنا، إنا سائلوك سؤالًا واحدًا لا نزيد عليه شيئًا، فهل تجيبنا؟ فلم يزد على قوله: هم هم. ولكنها فهمت أنه موافق فقالت: هل ترى من بأس على عبد الرحمن في مهمته هذه؟ وماذا نصنع لإنقاذه مما عساه أن يحيق به من الأخطار؟ فأطرق الشيخ برهة ثم قال: أرجو ألا يكون عليه بأس، فإنه عرض نفسه في سبيل خدمة المسلمين. وهذا كل ما أقوله لكما فلا تزيدا. قال ذلك وهرول مسرعًا نحو الغوطة والكلب يجري في أثره مخلفًا سلمى وعامرًا على أحرِّ من الجمر، وقد جمد الدم في عروقهما وهما لا يكادان يمسكان النفس مما اعتراهما. فلما توارى الشيخ وكلبه عنهما ظلَّا برهة صامتين ثم قالت سلمى: ما قولك يا عماه في هذا الشيخ وما سمعناه من كلامه؟ قال: إني والله في عجب عجاب من أمره، وقد كنا نسمع بالأولياء وكراماتهم، فالآن قد رأينا أحدهم رأي العين. فقالت: إني أحسبني في منام. وفركت عينيها، وتلفتت إلى ما حواليها كأنما تريد أن تستوثق من يقظتها. وأدرك عامر استغرابها وحيرتها فقال: لا تستغربي يا سلمى مما شاهدته من أمر هذا الشيخ مع ما يظهر من بلاهته، فإن الله يعطي من يشاء بغير حساب، ثم إنه قد توافرت فيه شروط الولاية من الزهد والتقشف، وقد قيل في أهل الولاية إنهم جواسيس القلوب، فلا أرى غرابة في معرفته حقيقة حالنا، ويلوح لي أنه على مذهبنا، فلا خوف منه على سرنا. فقالت سلمى: ولكن من عسى أني يكون هذا الرجل؟ فأجابها عامر: إن أمره حيرني؛ لأن حاله ولباسه يدلان على تنسكه وانقطاعه عن الدنيا، ولكن كلامه عن يزيد يدل على اهتمامه بأمر المسلمين، ويظهر أنه عربي، وكأن لهجته عراقية. فقالت سلمى: ليتنا سألناه عن بلده، وطلبنا إليه أن ينتسب. فقال: ومن يتجرأ على هذا السؤال وقد رأيت مبالغته في التستُّر حتى غطى وجهه، ولما طال الحديث بيننا توارى؟ فلعله من بعض الذين بُلوا بمثل بلوانا فلجأ إلى هذا الدير للاختفاء. قالت: أظنه مصابًا بعقله؛ لأنه شاذ الأطوار. ألم تسمع من رئيس الدير عن معيشته وكيف يقضي نهاره بين الأشجار يقتات بثمارها، ولا أنيس له غير هذا الكلب؟ قال: مهما يكن من أمره فإنه ذو كرامة، وعساه أن ينفعنا بكرامته. قالت: وما العمل الآن؟ إني لم أزدد من حديثه إلا قلقًا، وسكتت برهة ثم قالت: وما قولك في شمر اللعين؟ قال: هذا الذي شغل بالي، قبحه الله! لقد طالما شككت في هذا الأبرص وخفت غدره، ويلوح لي أنه علم بسفرنا إلى الشام واطَّلع على غرضنا، فاقتفى أثرنا ليَشي بنا، ولولا ما قاله الناسك مما يدعو إلى الاطمئنان على عبد الرحمن لأسرعت في البحث عن وإرجاعه عن عزمه، ولكن هبي أني لم أطمئن فليس لي سبيل إليه؛ لأني لا أعرف الجهة التي سار فيها، وأخاف إذا أنا لحقت به أن أضل الطريق، وتبقي أنت وحدك، ولعل هذا الخائن قد نصب لك أحبولة أخرى. قالت: أذهب معك أنا أيضًا. قال: ولكننا وعدنا عبد الرحمن أن ننتظره هنا، فقد يجيء الليلة ونحن غائبون فيرمي سهمه، وقد يكون فيما يكتبه عليه ما يبعث على ذهابنا لموافاته إلى مكان ما، فيقع السهم بين يدي أحد الرهبان ولا نطلع عليه. دعينا نمكث هنا، ونكل أمرنا إلى الله فهو نعم الكفيل. قال ذلك ومشيا حتى اقتربا من الدير وهما كأنهما في حلم، فأراد عامر أن يشغل وقته في شيء يبعد الشبهة عنهما فقال لسلمى: تعالي معي إلى الحظيرة نتفقد جمالنا وأحمالنا. قالت: دعنا من الجمال والأحمال، وحسبنا التفكير فيما نحن فيه. قال: هذا ما أشعر به أنا أيضًا، ولكن لا بدَّ لنا من الانتظار إلى مساء الليلة أو صباح الغد أو مسائه، فكيف نقضي الوقت ووقت الانتظار طويل؟ فأطاعته وتحولا إلى الحظيرة، فرأيا الخدم قد بذلوا العناية في خدمة الجمال وأما أحمال التمر فلم يجدوها، فبُغت عامر لأول وهلة، ثم تذكر أنهم حملوها إلى داخل الدير. وقضيا هناك بعض الوقت، وسلمى في شغل شاغل عمَّا حولها لا تنتبه لشيء لعظم ما ثار في خاطرها من القلق على حبيبها، ولا سيما بعد ما سمعته من الشيخ الناسك، ولم يكن عامر أقل قلقًا منها ولكنه أراد تشجيعها وتحويل ذهنها، فلما لم يفلح في ذلك، أجاب رغبتها في العودة إلى الدير، وسارا توًّا إلى حجرتهما، ومكثا برهة بين كلام وتفكير.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/6/
الوقوع في الفخ
وحين مالت الشمس إلى المغيب علقت آمال سلمى بسهم عبد الرحمن، وخُيِّل إليها من فرط قلقها أنها لا تكاد تصل إلى السطح حتى ترى السهم ساقطًا أمامها، فحثَّت عامرًا على الصعود معها، فأطاعها وقلبه لا يدله على خير، فوقفا على السطح ينظران إلى الأفق وقد تملكتهما الهواجس، وسلمى كلما لاح لها طائر ظنته سهمًا من حبيبها حتى تعبت عيناها من طول التحديق، وعامر يراقب حركاتها ساكتًا، حتى آذنت الشمس بالزوال ولم يأتِ السهم ولا سُمع له همس. وكان رئيس الدير مشغولًا في ذلك اليوم بصلوات خاصَّة لم يفرغ منها إلا نحو الغروب، فخرج من عُلِّيَّته وتمشى على السطح، فرأى عامرًا وسلمى جالسين ينظران إلى الغوطة، وقرأ آيات القلق على وجهيهما فلم يشأ أن يزعجهما بالسؤال، بل ظل بعيدًا وفي نفسه أنهما إذا أحبَّا مجالسته دعواه إليهما. فغابت الشمس وهما على السطح ولم يحدث شيء، فاشتد قلقهما وعامر يحاول عبثًا طمأنة سلمى بحديث أو رأي، وشاع بصرها بعد الغروب نحو الغوطة في الطريق الذي سار فيه عبد الرحمن لعلها ترى قادمًا تستأنس به فلم ترَ شيئًا، وأخيرًا نهض عامر وهو يقول: إن موعدنا غدًا حتى الغروب، ومن العبث بقاؤنا هنا الليلة على السطح فضلًا عن أنه يوجب الشبهة. قال ذلك ومشى فمشت في أثره، وعيناها لا تكادان تستقرَّان. باتا تلك الليلة وهما يفكران في عبد الرحمن، وقد عزمت سلمى، بينها وبين نفسها، على أنها إذا غربت شمس الغد ولم يأتِها خبر من عبد الرحمن تسارع إلى التنكر في زي الرجال، ثم تذهب للبحث عنه، ولم يكن عامر أقل قلقًا منها أو رغبة في البحث عن عبد الرحمن، ولكنه كان يخشى إذا تركها في الدير وحدها أن يكون عليها بأس، وأخيرًا اعتزم إذا لم يعد عبد الرحمن أن يذهب هو وسلمى معًا للبحث عنه. وأما رئيس الدير، فقد لاحظ بقاء عامر وسلمى على السطح، كما لاحظ أن عبد الرحمن ليس معهما، ولكنه حسبه في بعض جوانب الدير، ولم يداخله ريب في أمره. ونهضت سلمى والفجر لم يبدُ بعد فأيقظت عامرًا وحرَّضته على الصعود إلى السطح عسى أن يكون سهم عبد الرحمن قد وقع في أثناء الليل، فصعد ولم يرَ شيئًا فرجع، فحثته بعد هنيهة على الصعود وهو لا يحتاج إلى من يحثه، وما صدق أن أشرقت الشمس حتى دعاها إلى الصعود معه، وفيما هما صاعدان على السلم شاهدا طائرًا يحلِّق في الجو ولا يحرك جناحيه، فتطيَّرا به، وكان من عادة العرب، إذا رأوا طيرًا يحلِّق على تلك الصورة تشاءموا منه! وأدرك عامر تشاؤم سلمى فابتدرها قائلًا: أراك تطيَّرت بمنظر هذا الطائر، وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك بقوله: «من عرض له من هذه الطِّيَرة شيء فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.» وكذلك قال ﷺ: «إذا تطيرت فلا ترجع.» فانزعي من بالك هذا الوهم وكِلي أمرك إلى الله، فسكتت وخاطرها لم يطمئن ولكنها سايرته وصعدت معه. ولما طال انتظارهما واشتد بهما القلق، تذكَّرا الشيخ الناسك ولم يكونا قد رأياه منذ فرَّ من بين أيديهما بالأمس ولا رأيا كلبه في الدير. ولم يكن أطول من ذلك النهار على سلمى، فلما دنا الأصيل ولم يطمئن بالها أخذت تلوم نفسها وتقرِّع عامرًا على التقاعد عن اللحاق بعبد الرحمن، وهي إلى الحين لم تذق طعامًا، فخارت قواها، ولكنها لم تشعر بالجوع لشدة قلقها. وبينما هي غارقة في هواجسها إذ لمحت فارسًا يركض فرسه بين الأشجار بالقرب من باب البستان، فخفق قلبها والتفتت إلى عامر فإذا هو ينظر أيضًا إلى ذلك الفارس وقد علته البغتة، ورأت رئيس الدير قد خرج من عُلِّيَّته مسرعًا وهو يُصلح عباءته وينظر إلى باب البستان، ثم نادى القيِّم وقال له: ابعث راهبًا ليفتح الباب؛ لأني أرى عبيد الله بن زياد قادمًا، لعله جاء لينبئنا بقدوم الخليفة. فلما سمعت سلمى اسم ابن زياد ارتعدت فرائصها، ونظرت فإذا هو قد وقف بالباب، ثم هرول بعض الرهبان ففتحوا له، وهمَّت بمخاطبة عامر فإذا هو يقول لها: انزلي يا سلمى إلى غرفتك واستتري هناك وأنا أبقى هنا لنرى ما يكون من الأمر، فأرادت أن تستمهله فألحَّ عليها بالنزول ووعدها بأن يبقى هو في انتظار رسالة عبد الرحمن، فنزلت مسرعة واختبأت في غرفتها وظل عامر على السطح. وكان الرئيس قد نزل إلى الباب واستقبل ابن زياد، ووقف معه برهة وهما يتكلمان همسًا، ثم صعدا إلى السطح، وقبل أن يصلا فاحت رائحة المسك، فعلم عامر أنها رائحة عبيد الله بن زياد؛ لأنه كان مشهورًا برائحته الطيبة، ولبث عامر جالسًا وقد ندم على بقائه هناك، ثم ما عتَّم أن رأى الرئيس مقبلًا نحوه وعبيد الله إلى جانبه، فوقف له وحيَّاه، فرد عبيد الله التحية هاشًّا والرئيس يبتسم كأن في نفسه قولًا يهمُّ به، فتجاهل عامر وتأدَّب في موقفه، فدعاه ابن زياد إلى الجلوس، وأمر الرئيس بطنفسة فُرشت لهم على حصير فجلسوا عليها، وعامر يعجب بما يبدو من مظاهر الترحاب، ونفسه تحدِّثه بظنون كثيرة حتى لم يبقَ له صبر على استطلاع السبب، وهو يخاف أن يكون فيما سيسمعه بأس على عبد الرحمن. فلما استتبَّ بهم المجلس، جيء إليهم بالفاكهة وكئوس الأشربة فأكلوا شربوا، ثم بدأ الرئيس الكلام قائلًا: لعل مولانا الخليفة قادم إلينا فنتأهب لاستقباله. فضحك عبيد الله وهو يصلح حمائل سيفه وقال: لا أظن مولانا يمرُّ بكم اليوم. قال الرئيس: أعائد هو إلى دمشق؟ قال: نعم إنه عائد الليلة. قال: ولماذا عجَّل بالرجوع من صيده، وقد كنت أحسبه لا يعود قبل أسبوع؟ قال: إنه تشاءم من سفرته هذه فآثر الرجوع سريعًا. فارتاب عامر في أمر عودة يزيد، وهمَّ بالاستفهام، فإذا بابن زياد يستأنف الحديث قائلًا: وقد نجا أمير المؤمنين من خطر عظيم. فلما سمع عامر قوله توسَّم الوصول إلى ما يتوقعه، لكنه خاف أن يكون ثمَّة ما يسيئه، فبدت البغتة على وجهه وتطاول بعنقه لسماع بقية الكلام. فأتم عبيد الله حديث قائلًا: وكانت نجاته من الخطر بسرٍّ عجيب يرجع الفضل فيه إلى كلبه وإلى رجل من خاصَّتنا. فقال الرئيس: وكيف ذلك؟ قال: خرجنا من عندكم بالأمس، وبتنا في قرية على بضعة أميال من هذا الدير، فجاءني مساء أمس رجل أعرفه من أهل الكوفة، ونبَّهني إلى وجود غريب متنكِّر يعتزم الفتك بأمير المؤمنين في أثناء صيده، فشكرت مسعاه ووعدته خيرًا على جميله، وأصبحنا وأنا لم أُطلع الخليفة على ذلك لئلَّا أزعجه، فخرجنا إلى الصيد وكلما أراد الخليفة الانفراد في الغوطة لحقت به مخافة أن يكون ذلك المتنكِّر متربصًا في بعض الأماكن، وأوصيت جماعة من رجالنا الأشداء أن يقتفوا أثرنا ويتأهَّبوا للوثوب عند أول إشارة، وكان معنا كلب من كلاب الصيد يمتاز بسرعة عدوه وذكائه، وقد أحبه الخليفة حتى ألبسه الدمقس والحرير، وملأ قوائمه بالأساور الذهبية، وفيما نحن على خيلنا بالقرب من غابة متكاثفة الأغصان نبح الكلب نباحًا شديدًا وأسرع أمامنا حتى أوغل بين الأشجار وهو يبالغ في نباحه، فعجبنا لأمره وما زلنا ندعوه إلينا وهو لا يطيع حتى ارتبت في الأمر، فتفرَّست في أثره فإذا بشاب ملثَّم قد خرج من الغابة وفي يده خنجر مسلول، طعن به أول من صادفه من الحاشية، ثم طعن الثاني والثالث واخترق الجمع وهو يلتمس الخليفة، فأمرت الرجال بأن يقبضوا عليه ولا يقتلوه، فتكاثروا عليه فقتل منهم خمسة، ولم يبلغوا منه وطرًا إلا بعد أن عثر بجزع شجرة ناتئ، فتجمهروا عليه وأوثقوه وثاقًا شديدًا وساقوه إلى الخليفة، وكنت قد سبقته إليه وأخبرته بخبره فأمر بإرساله إلى دمشق، وعدل عن إتمام الصيد وأوعز بالإياب فأسرعت في المجيء قبله لغرضٍ عند عمي هذا، وأشار إلى عامر. ••• سمع عامر حديث ابن زياد فلم يبقَ عنده شك في أن الذي قبضوا عليه هو عبد الرحمن، ولكنه عجب للغرض الذي قدم عبيد الله من أجله، وخاف أن يكون فيه بأس عليه؛ إذ لا يبعد على الذي وشى بعبد الرحمن أن يشي بهم جميعًا! فاسودَّت الدنيا في عينيه، ولكنه صبر صبر الرجال وتجلَّد، والتفت إلى عبيد الله وهو يظهر الاستغراب مما اتفق للخليفة وقال: مهما يأمر سيدي فإني رهين إشارته. قال: إنني أحببت مصاهرتك، فهل ترضاني لك صهرًا؟ فوقع ذلك الكلام على قلب عامر وقوع الصاعقة، وأُرْتِج عليه فلم يعلم بماذا يجيبه، وهو لا يستطيع مجافاته لأنه في قبضة يده، فأراد أن يحتال في جوابه، وقبل أن يبدأ بالكلام رأى ابن زياد قد وقف فجأة وهو ينظر إلى البستان وتطاول بعنقه وعلته البغتة، فالتفت عامر فإذا بالخيول تتزاحم عند باب البستان وعليها الفرسان وفيهم يزيد بن معاوية، ثم رأوا يزيد قد ترجَّل وحده وأقبل مسرعًا على قدميه نحو الدير كأنه يطارد شيئًا، فبغت الرئيس وأسرع إلى باحة الدير وهو يتعثر بأذياله حتى كاد يقع على السلم، فرأى كلبًا من كلاب الخليفة دخل الباب وعليه الأطلس والأساور كما وصفه ابن زياد، فلما رأه الكلب مهرولًا نحوه انحرف بمسيره نحو غرفة سلمى ويزيد في أثره؛ لأنه افتقده وهو بقرب الدير فلم يجده، فعلم أنه دخل الدير فجاء للقبض عليه بنفسه لأنه كان يحبه، ولا سيما بعد ما بدا من نباهته في ذلك اليوم. وكانت سلمى متكئة على عباءة وباب غرفتها مفتوح نصف فتحة، وفي يدها منديل تمسح به دموعها وهي غارقة في ظلمات الخيال، تفكر في حبيبها وما عرَّض نفسه له من الخطر الشديد، وقد طال غيابه فغلبها البكاء، وأطلقت لعواطفها العنان حتى احمرَّت عيناها وتكسرت أهدابها وتوردت وجنتاها. وكان شعرها محلولًا فاسترسل بعضه على جبينها وتدلى البعض الآخر حتى غطَّى معصمها، وانحسر كمُّها عن زندها فانكشف معظمه وعليه الوشم كدبيب النمل. وفيما هي على تلك الحال سمعت خشخشة الأساور في قوائم الكلب، ثم رأته داخلًا غرفتها فتذكرت يزيد فأجفلت وتشاءمت، وإذا بها تسمع صوت يزيد وهو يناديه، وأحست به مقبلًا نحو غرفتها فارتعدت فرائصها ومدت يدها إلى النقاب لتستر رأسها به فلم تدركه فأرسلت شعرها على وجهها ريثما تستتر، وإذا يزيد قد دخل ورآها فانذهل لرؤيتها ووقف مبهوتًا لا يدري ما يقول وقد نسي الكلب وأساوره. أما هي فغطت وجهها بكمها وغلب عليها الحياء والوجل، وظلت جالسة لا تدري كيف تحتجب! وداخلتها الدهشة فزادتها رونقًا ومهابة، فولَّت وجهها عرض الحائط وظهرها نحو يزيد الذي لم يتمالك عن الإعجاب بجمالها وهيبتها، ولم يستطع أن يكبح انعطافه إليها، فناداها بنغمة المحب المفتون قائلًا: لا تحجبي شمس وجهك عن خلق الله يا أجمل خلق الله. فظلت صامتة وجمد الدم في عروقها من شدة الخجل، فتحول يزيد من الغرفة وقد وقعت سلمى من نفسه موقعًا عظيمًا، وكان عبيد الله بن زياد قد نزل إلى الباحة والرئيس معه فرأى يزيد خارجًا من غرفة سلمى وأمارات الإعجاب بادية في عينيه، فشعر بغيرة شديدة ممزوجة بالحسد، لعلمه أن الخليفة إذا رآها وأعجبته لا يبقى له هو سبيل إليها، فتجاهل ما ثار في خاطره وخاطب الخليفة على سبيل المزاح قائلًا: أرى أمير المؤمنين مشغولًا بكلبه بعد الطريدة التي اصطادها له هذا الصباح. فقال يزيد وهو يحاول الابتسام: لكنه اصطاد طريدة أخرى أجمل من تلك، فتضاعف فضله علينا. فأدرك ابن زياد تلميحه فازدادت غيرته، ولكنه اضطر إلى الكتمان وندم على امتداح نباهة الكلب، ولعن الساعة التي جاء فيها إلى الدير، ولكنه عمد إلى المغالطة ونادى أحد الخدم فسلم إليه الكلب، واستشار الخليفة فيما يراه من البقاء أو الرحيل فأشار بالرحيل، والرئيس يرحب به ويرجو بقاءه للاستراحة بقية ذلك اليوم، فقال يزيد، لقد طرأ ما يدعو إلى التعجيل بعودتنا. ثم طلب إليه أن يتبعه فتبعه الرئيس حتى انتحيا ناحية وظل ابن زياد واقفًا وعيناه تتبعانهما حتى تواريا وراء الصفصافة. فلما خلا يزيد إلى الرئيس سأله عن تلك الفتاة فأخبره أنها ابنة تاجر قدم من العراق منذ بضعة أيام. فقال يزيد: هل هي عزبة؟ قال: أظنها كذلك يا مولاي. قال: حسنًا، ولم يزد، ثم أمر فركبت حاشيته وركب هو وابن زياد معه، وودعا الرئيس وخرجا، وعامر لا يزال على السطح يختلس النظر إلى حركات يزيد وقد رآه وراء الصفصافة مع الرئيس. فلما مضى يزيد ورجاله صعد الرئيس إلى السطح وفي وجهه ابتسامة استدل عامر منها على شيء في نفسه، فتقدم إليه وملامح الاستفهام بادية على وجهه، وقبل أن يهم بالكلام ابتدره الرئيس قائلًا: إني أبشرك بالسعادة يا بني. قال عامر: بماذا؟ وكيف؟ قال: لأني رأيت أمير المؤمنين معجبًا بابنتك. فشق ذلك على عامر وقال وهو يتظاهر بالسذاجة: وماذا في ذلك من دواعي الغبطة؟ قال: لحظت من كلامه أنه يريد أن يسعدك بالمصاهرة. فوقع ذلك الكلام على عامر وقوع البلاء العظيم، ولم يفُه بكلمة وتراكمت عليه الهموم، وحار فكره بين وقوع عبد الرحمن في الأسر، وبين ما سيصيب سلمى إذا علمت بما أصابه، ثم برغبة يزيد في زواجها، فلم يعد يعرف كيف يتخطى درجات السلم لشدة كدره. أما سلمى فأسرعت بعد أن خرج يزيد من غرفتها وأغلقت الباب، ثم وقفت مبهوتة وهي تردد ما سمعته منه، وأدركت ما جال في خاطره عنها، فوقعت في حيرة لا تدري ماذا تعمل؟ ثم عاد خيال عبد الرحمن إلى ذهنها فشُغلت به عن كل هاجس، وودت لقاء عامر لتستطلع ما علمه عن عبد الرحمن، وحدثتها نفسها بأن تخرج في طلبه على السطح، ولكنه خافت أن يكون يزيد باقيًا هناك فأحجمت. وبينما هي تتردد في ذلك إذ فتح عامر الباب ودخل، فرآها على تلك الحال من القلق، وأثر البكاء في عينيها، والبغتة لا تزال غالبة على محيَّاها، فلم يدرِ كيف يخاطبها، ولا كيف يفضي إليها بما جاء به من الخبر المحزن عن عبد الرحمن، فوقف لحظة لا يتكلم، وأدركت هي ما يساوره فقالت: ما وراءك يا عماه؟ قال: ما ورائي إلا الخير إن شاء الله. قالت: هل جاءت رسالة عبد الرحمن؟ هل وصل إليك سهمه؟ قال: نعم ولكنه وقع في قلبي. ففهمت أنه سمع شيئًا يسوءُها فقالت: ما الخبر؟ أين عبد الرحمن؟ ماذا جرى له؟ قال وهو يتلجلج: لم يجر له شيء، ولكن … قالت: ولكن ماذا؟ هل قتلوه؟ قالت ذلك وقد اختنق صوتها وسبقتها العبرات. قال: لا لم تصل يدهم إلى ذلك، ولكنهم أسروه. فلطمت خدها حتى كادت تقع أقراطها وقالت: من أسره؟ وكيف؟ فجعل يخفف عنها وهو يقص عليها حديث ابن زياد، دون أن يذكر لها شيئًا مما قد بدأ به من المصاهرة، فلما فرغ من كلامه عادت سلمى إلى البكاء وهي تقول: وقبحهم الله! إنهم قبضوا عليه. أرأيت تطيُّرى في هذا الصباح وأنت لا تزال تغالطني؟ هذا ما كنت أخشاه، فما العمل الآن؟ فلبث عامر ساكنًا غارقًا في بحار أفكاره، فابتدرته قائلة: قل يا عماه. قل ما الرأي؟ قال وهو يفرك لحيته بسبابته كأنه يهيئ عبارة يخفف بها عنها: لا تعجلي يا سلمى، تمهَّلي واستعيني بالله، ولننظر في الأمر على مهل. قالت: كيف أتمهل وقد أسروا عبد الرحمن، ولا أدري ما الذي يحدث له هناك؟ قالت ذلك وأجهشت بالبكاء، فتحير عامر في أمره وهو أشد منها خوفًا عليه؛ لما سمعه من حديث ابن زياد، وحدثته نفسه أن يطلعها على ذلك ولكنه خاف أن يزداد قلقها فقال: لا يفيد التسرع، ونحن الآن حوالي الغروب، والليل أعمى لا نستطيع فيه عملًا، ولا بدَّ من الانتظار إلى الغد، وإن غدًا لناظره قريب. قالت: إنني خائفة من هذا الليل. إني خائفة أن يصاب عبد الرحمن ببلاء عاجل، فلا نملك حيلة لإنقاذه. قال: لا أظنهم يبتُّون في شأنه الليلة، ولا بدَّ من أن يمهلوه حينًا ريثما يستطلعون حاله، وما دفعه إلى قتل الخليفة، وأرى أن أنزل غدًا بأحمال التمر إلى دمشق، لاحتال لاستطلاع الخبر وأعود إليك، فنرى ما يكون. قالت: لا بدَّ من الانتظار إذن؟ فلنصبرنَّ، إن الله مع الصابرين. وقضيا تلك الليلة على مثل الجمر، وسلمى لم تذق رقادًا، وعامر يفكر في تدبير الحيلة لاستطلاع حال عبد الرحمن، فلما أصبحا هيأ عامر جماله وتزيَّى بزي التجار، وركب قاصدًا دمشق، وسلمى تدعو له بالتوفيق وقلبها يخفق خوفًا عليه أيضًا، لئلَّا يكون شمر قد دبر له مكيدة، ولما توارى عن نظرها عادت إلى غرفتها وأغلقت الباب، ولما تذكرت حبيبها وما هو فيه من الخطر الشديد فهاجت أشجانها وأجهشت في البكاء. وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام خارج غرفتها، وصوتًا يشبه صوت الرئيس، ولم تكد تصيخ بسمعها حتى سمعت قرع الباب فأجابه قلبها بدقات متوالية، ووقفت بلا انتباه ويدها اليسرى على خمارها تتأهب لإرساله على رأسها إذا رأت في الباب رجلًا غريبًا. ولا تسل عن اضطرابها ووجلها لما فتح الباب ورأت الرئيس، ومعه شمر بن ذي الجوشن، وقد ارتدى أفخر ملابسه وتطيَّب وأصلح هيئته كأنه يستعد للقاء عروس، فلما رأت برصه ارتعدت فرائصها وحدَّثتها نفسها أن تبتدره باللعن والتأنيب، ولكنها خافت الفضيحة وهي وحدها هناك، فتجلَّدت وهي ترتعش. أما الرئيس فلما رأى سلمى وحدها قال لها: أين أبوك؟ قالت: أظنه ذهب إلى دمشق بأحمال التمر في هذا الصباح، فما الذي تريده منه؟ قال: إن مولانا الخليفة بعث إليه بهذا الأمير ليكلمه في شأن. فلما سمعت اسم الخليفة ورسالته خافت مما وراء تلك الرسالة ولكنها أمسكت عواطفها وأجابته بهدوء فقالت: إن أبي ليس هنا الآن. قالت ذلك وهي ترجو أن ينصرف شمر بهذا الجواب. فابتسم شمر وهو يحاول أن يتظاهر بالرزانة والاستخفاف معًا وقال: لا بأس، فإني مكلَّف بتأدية هذه الرسالة له أو لك. قال ذلك ودخل الغرفة، فتحول الرئيس راجعًا. وأما سلمى فظلت واقفة، وقد اصطكَّت ركبتاها واقشعرَّ بدنها وخافت أن يبدو ذلك الاضطراب في وجهها فبالغت في إرخاء النقاب عليه، ولم تكشف منه إلا عينيها، ولكن شمرًا قرأ في تينك العينين أمارات الخوف والوجل، فلما خلا إليها، قال متلطفًا: لا تخافي يا سيدتي ولا تظني بي سوءًا، ولكني أرجو أن تكوني قد عرفت هذا الوجه. قال ذلك وقبض على لحيته. فقالت: وماذا في معرفتي إياه؟ قال: إذا عرفتِه عرفتِ أني جاركم القديم، وأني من أصدقاء أبيك أو كفيلك عامر، قال ذلك وهو يحاول الابتسام فأدركت أنه يهددها بمعرفة سر وجودها هناك، وتحققت الغدر في وجهه، وندمت على بقائها وحدها. ولكنها لما تذكرت ما ارتكبه ذلك الأبرص من الوشاية بعبد الرحمن، هان عليها كل صعب وعوَّلت على التفاني في سبيل شفاء غليلها منه فقالت: وإذا كنت كذلك، فما الذي يهمُّك من أمرنا؟ قال: وما بالك تخاطبينني بالجفاء يا سيدة الملاح وأنا إنما جئت لاستعطافك؟ فأدركت ما رواء هذه الملاطفة، وسكتت وقد صعد الدم إلى رأسها فتحول وجلُها إلى غضب وقالت: إنك جئت لمخاطبة أبي، ولكنه غائب، فإذا جاء فخاطبه. قال: وماذا يفيدني خطابه إذا لم تكوني أنت راضية؟! قالت: أراك تلمِّح إلى ما لا يليق بك بين يدي فتاة لا تعرفك. قال وهو يظهر الاستخفاف: كيف تقولين إنك لا تعرفينني وأنا أعتقد غير ذلك؟ أم أنت لا تزالين مغرورة بذلك الفتى الغرِّ الجاهل؟ فلم تعد سلمى تستطيع صبرًا على تلك القِحَة، وأعملت فكرها فيما تفعل فرأت نفسها ضعيفة غريبة، والخليفة وأعوانه وكل أهل الشام ضدها، وحياتها وموتها بين شفتي ذلك الرجل، فأحست كأن الجبال تراكمت على صدرها وتساقطت دموعها بالرغم منها، فحولت وجهها لئلَّا يلحظ شمر ذلك فيزداد طمعه فيها. أما هو فلما رآها تبكي استسهل استرضاءها، فعمد إلى الملاينة، واقترب منها وقال في حنان: لا تبكي يا سلمى ولا تخافي، فإني مع علمي بسرِّك وسرِّ عامر وعبد الرحمن، لا أريد بك شرًّا، بل أنا نصيرك وعونك حتى تخرجي من هذه الديار آمنة، على شرط أن تجيبي سؤال قلبي، وترحمي محبًّا قطع البراري والقفار سعيًا إليك، فارحمي قلب هذا العاشق الولهان، وأقلعي عن مجاراة الغلمان الذي يسوقون أنفسهم إلى الموت بجهلهم وغباوتهم، كما فعل ابن عمك عبد الرحمن الذي أغواكِ بشقشقة لسانه، حتى وقع أسيرًا وسيق إلى السجن مغلولًا، ولو أردت أن أسوقك وأسوق عامرًا معه لفعلت، ولكن قلبي لم يطاوعني؛ لأني أحبك، فإذا أطعتني ورضيت بما أطلبه منك عشت سعيدة آمنة، لأن ما تسعون إلى نيله إنما هو أضغاث أحلام، ونحن الآن أهل الصولة والبطش، وخليفتنا صاحب السلطان والأعوان، فما قولك؟ وكان شمر يتكلم وهو ينظر إلى وجهها من وراء النقاب وهي معرضة عنه وفرائصها ترتعد، وقد جمد الدمع في عينيها وحارت في أمرها فظلَّت صامتة، فاستبشر شمر وظنَّ السكون جوابًا فأعاد الكرَّة وقال: إني والله ليعجبني تعقُّلك وسداد رأيك، فأفصحي لي عن رضاك وهذا يكفيني الآن. فلم تعد سلمى تصبر على الجواب فحوَّلت وجهها إليه وقالت: إنك لتطمع في أمر يقصر عنه باعك، فانصرف من هنا بسلام. فضحك وقال: إلى أين أنصرف يا سلمى؟ أأنصرف إلى أمير المؤمنين فأطلعه على أمرك فيصيبك ما أصاب ابن عمك؟ أظنُّك لم تفهمي مغزى كلامي بعدُ، فاعلمي إذن أن عبد الرحمن أصبح في قبضتنا ولم يبقَ له مطمع في الحياة، فاستبْقي نفسك وعامرًا، وإلا فالموت أقرب إليكما من حبل الوريد. قال ذلك والخبث يتجلَّى في وجهه، فابتدرته سلمى قائلة: خسئت يا نذل! إن باعك وباع يزيد أقصر من أن تنالا شعرة من عبد الرحمن. فضحك شمر ضحكة طويلة وقال: أتظنين أننا قاصرون عنكم؟! ألم تفهمي أن عبد الرحمن أسير عندنا وقد قبضنا عليه وهو يحاول قتل أمير المؤمنين؟ فمن أين تأتيه الحياة بعد؟! أقلعي عن عنادك وأطيعي ناصحًا يعرض عليك السعادة، فإذا رفضتها أذاقك الموت الزؤام. قالت: لا تحسبني جاهلة ما تقوله؛ فقد علمت أن عبد الرحمن أسير، وأنك وشيت به، وأعلم أنك قادر على أن تشي بي أيضًا وتميتنا معًا، ولكن الموت مع عبد الرحمن خير من الحياة معك يا خائن! فامضِ لشأنك وافعل ما تشاء، والموت أسهل ما تخوفني به، وهو أحب إليَّ من قربك، فإذا بعدت عن وجهي لا أبالي حييت أم مت. فوقع ذلك التقريع موقع السهام في قلبه، ولكنه كان شديد الولع بسلمى منذ كانت في العراق، وهو إنما لحق بهم إلى الشام وأوقع بعبد الرحمن طمعًا في الحصول عليها؛ لأنه لم يكن يجرؤ على منافسته فيها، فلما أوقعه في الأسر ظنها تيأس من حياته وتخاف على حياتها فترضى به، وكان يريد مخاطبة عامر في هذا الشأن، فلما لم يجده هناك خاطبها وعجب لشجاعتها وعزة نفسها، فقال: يا للعجب من جهالتك! لقد كنت أحسبك عاقلة فإذا أنت حمقاء مغرورة! ولكني أعرض عليك الحياة مرة أخرى فإذا رفضتها كان ذلك آخر العهد بك. قالت: امضِ وافعل ما تشاء. اخرج من هنا وليكن ما يكون. فخرج شمر والغضب ظاهر في وجهه وحركاته، وهو يلعن سلمى ويتوعدها، ولكن قلبه لم يطاوعه، فصبَّر نفسه ريثما يعود عامر ويحمله بالوعد أو الوعيد على إقناعها. ••• أغلقت سلمى الباب وراء شمر وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجلست تندب سوء حظها وتفكر في مصير عبد الرحمن ومصيرها. حتى إذا كلَّت من البكاء والنحيب استرجعت رشدها وأعملت فكرها فلم ترَ خيرًا من أن تنتظر عودة عامر فتستشيره في الخروج من هذا الدير والاختفاء في مكان آخر ريثما ينفتح باب الفرج. ومضى معظم النهار وسلمى بين بكاء وتأمل، دون أن تذوق أي طعام أو شراب. حتى إذا مالت الشمس نحو الأصيل سمعت وقع خطوات مسرعة أمام باب الغرفة، فخفق قلبها، ثم رأت الباب قد فُتح ودخل عامر وعلى وجهه ظواهر الدهشة فازداد اضطرابها وقالت: ماذا وراءك؟ قال: ما ورائي إلا الخير، ما بالك في هذه الحال؟ هل جاءك أحد بخبر جديد؟ قالت: كيف تسألني عن حالي وأنت تعلم أن عبد الرحمن مسجون؟ هل علمت جديدًا من أمره؟ وما سبب اضطرابك؟ قل ولا تُطِل السكوت. قال: أما عبد الرحمن فقد علمت أنه حي في سجنه ولا خوف عليه الآن، وأما سبب اضطرابي فإني رأيت جوادًا واقفًا بباب الدير موسومًا بلفظ «عدة» فعلمت أنه من خيل الحكومة، وخفت أن يكون قد جاءنا أحد من رجال يزيد يريد بنا سوءًا؛ لأني صرت أحسب أشجار هذه الغوطة عيونًا علينا. فقالت: لقد نطقت بالصواب، وأنا أيضًا أرى رأيك، فهل توافقني على الخروج من هذا الدير والاختفاء في مكان آخر؟ قال: نعم، ولكنني أخاف إذا خرجنا الساعة أن يكون صاحب ذلك الجواد في انتظارنا، فلنصبر قليلًا. فتذكرت سلمى حديث شمر فقالت: ربما كان هذا الفرس لذاك الرجل الأبرص. قال: وما شأنه؟ هل جاء إلى الدير اليوم؟ قالت: نعم جاء وتطاول إلى ما يقصُر عنه بنو أمية جميعهم. فتعجب عامر وقال: وما تعنين؟ هل رأيتِه؟ وهل خاطبك في شأن ما؟ قالت: إنه جاء بعد خروجك هذا الصباح، وجعل يستعطفني ويسترضيني، ولما لم يرَ غير الإعراض خرج مغضبًا وهددني بالوشاية بي إلى خليفته، وما زلت مذ خرج وأنا أفكر في هذا الأمر، فلم أرَ خيرًا من الإسراع بمغادرة هذه البلاد. فدقَّ عامر يدًا بيد وقال: تبًّا له من غادر! أظنه لن يصبر إلى الغد لكي يشي بنا، وقد كان من الحكمة أن تماطليه وتدافعيه ريثما نخرج من هذا المكان ولا سيما أنك تعلمين أن قيادنا في يديه، وأنه قادر على أن يؤذينا. فقطعت سلمى كلامه قائلة: لا تلمني يا عماه؛ فإني لم أستطع صبرًا على قِحَته وغدره وتهديده. ولم أعد أريد الحياة بعد ما أصابنا. قالت ذلك وخنقتها العبرات فسكتت واغرورقت عيناها بالدموع، فندم عامر على ما بدا من لومه وقال: إني لا ألومك يا سلمى، فلو كنت أنا مكانك لما قابلته بأخف من ذلك، على أني أخفيت عليك أمرًا وقع لي بالأمس من ابن زياد، ولم أُطلعك عليه بعد. قالت: وما ذاك؟ فقص عليها خطبة ابن زياد لها إلى أن قال: وقد ماطلته خوفًا من غضبه. والآن لم يبقَ لنا إلا التأهب للسفر، فقد بعت الجمال والأحمال فخفَّت أمتعتنا، ولم يبقَ لنا ما نحمله غير هذه الثياب. قال ذلك وأخذ في جمع الثياب وحزمها، ولم يكد يفعل ذلك حتى سمع رئيس الدير يناديه باسمه، فأجفل وتحول إلى الباب ففتحه وتطلَّع فرأى الرئيس واقفًا تحت الصفصافة وأمارات البِشر على محيَّاه، فلما وقعت عينه على عامر أومأ إليه بإصبعه أن يأتي إليه. فاستبشر عامر بوجه الرئيس وذهب عنه اضطرابه، واستأذن سلمى في الخروج إليه، ثم خرج على عجل. وقبل أن يصل إليه تحول الرئيس نحو السلم المؤدي إلى السطح وهو يومئ إليه أن يتبعه، فسار في أثره حتى صعد إلى السطح، ودخلا غرفة الرئيس، فإذا هناك عبيد الله بن زياد جالسًا على وسادة مثناة فوق البساط فانقبضت نفس عامر، وأوجس خيفة من قدومه؛ إذ تيقن أنه إنما جاء خاطبًا. ولكنه تجلَّد وتظاهر بالبشاشة والارتباك، فوقف له ابن زياد ورحب به وأجلسه إلى جانبه، وجلس الرئيس على جانب البساط بقرب الباب، فلما استقر بهم الجلوس قال عامر: كيف أصبح مولانا أمير المؤمنين اليوم؟ قال: أصبح في خير، وقد كلفني أن أحمل إليكم بشرى أظنها تسرُّكم، وإن كانت لا تسرُّني. فسكت عامر، ثم أدرك أن سكوته يعدُّ احتقارًا لإنعام الخليفة فقال: إننا جند أمير المؤمنين، نأتمر بأمره. قال: أنت تعلم ما في نفسي من أمر ابنتك وما خاطبتك به بالأمس، ألا تذكر ذلك؟ قال: نعم أذكر يا مولاي. قال: وقد كان في نيتي أن أعود إليك مرة أخرى، فسبقني أمير المؤمنين؛ لأنه شاهد ابنتك اتفاقًا، فوقعت من نفسه موقعًا حسنًا، واعتزم أن يسعدك بالمصاهرة لتكون ابنتك من بعض نسائه. فوقع هذا النبأ في أذن عامر وقوع السهم في قلبه، وتلعثم لسانه وظهرت الحيرة على محيَّاه فظل ساكتًا، فلم يخطر ببال ابن زياد أن عامرًا يتردد في الجواب، ولكنه حسبه فوجئ بنعمة لم يكن يتوقعها، فأعاد عبارته ونمَّقها وقال: ولو لم يسبقني أمير المؤمنين إلى ذلك لكنت أحسبني سعيدًا بمصاهرتك، ولكن أمره فرض، فأهنئك بهذه النعمة التي يغبطك عليها كثيرون. فلم يزدد عامر بذلك الإيضاح إلا ارتباكًا، وحدثته نفسه أن يعتذر بخطبة سلمى لشاب آخر، ولكنه خاف أن يسأله عن اسم الخطيب وهو لا يقدر على التصريح باسمه ولا أن ينتحل اسم أحد سواه؛ لأنه لا يعرف أحدًا يسلم إليه سرَّه في تلك الديار، فلم يستطع غير التظاهر بالقبول وإسداء الشكر ريثما يدبر حيلة للفرار، فقال وهو يحاول الابتسام: إني أعدُّ نفسي أسعد الناس بهذه النعمة؛ لأن التقرب من أمير المؤمنين شرف وسعادة، وما ابنتي إلا جارية من جواريه، ولكني أرغب إلى مولاي أن يمهلنا يومًا أو يومين حتى نتأهَّب لحمل الفتاة إلى دار الخليفة؛ لأنها ستتلقى الخبر بالدهشة؛ لبُعد هذه النعمة عن خاطرها، ولا سيما أنها أصبحت اليوم مريضة. فقال ابن زياد: لا أظن الخليفة إلا راضيًا بما ترتاح إليه العروس، وإذا تعجل الأمر فإنما يكون ذلك رغبة في استقدامها إليه ليرسل إليها من يكون في خدمتها حتى تصل إلى داره في أمن وراحة. وسكت عامر، فحمل ابن زياد سكوته على الرضا، ثم نهض فنهض الرئيس وعامر، فودعهما وخرج. ••• أسرع عامر إلى سلمى ليرى رأيها في هذا الأمر الجديد، وكان صبرها قد نفد في انتظاره، فلما أطل عليها وشاهدت البغتة على وجهه أوجست خيفة وابتدرته بالسؤال فقال لها: هلمَّ بنا نهرب، فإني لا أرى فرجًا إلا بالفرار من هنا. قالت: ما الذي حدث؟ قال: إننا وقعنا في مشكلة أعظم مما كنا نخافه. قالت: وما ذلك؟ فقص عليها حديث ابن زياد كما وقع، وكان يتكلم وهو يتوقع إجفالها فإذا هي قد أبرقت أسرَّتها وأشرق وجهها وزال غضبها ولم تُجب. فقال: ما رأيك يا سلمى؟ ألا ترين أن نسرع في الفرار. قالت: ولماذا الفرار؟ فاستغرب سؤالها وقال: ما هذا السؤال؟ ألا نفرُّ من هذه الهوَّة؟ قالت: أتحسب الاقتران بالخليفة هوَّة؟! وضحكت. فازداد استغرابًا ولكنه حسبها تمزح فقال لها: صدقت، إن الاقتران بالخلفاء سعادة، هيا بنا نحمل أمتعتنا وننصرف قبل أن تداهمنا تلك السعادة. فقالت: كيف نفر من سعادة يتمناها كل إنسان؟! أم تحسبني أمزح؟! قال: لا أشك في أنك تمزحين. قالت: كلا إنما أقول الجد، ومتى رأيتني أُزفُّ إلى الخليفة، عرفت أني أجدُّ ولا أهزل. فلم يصدق قولها وظل يحسبها تعبث فقال: دعينا من المجون الآن فإن الوقت قصير. هلمَّ بنا نرحل، وأرى أن نخرج منفردين، وإذا رأينا حمل الأمتعة يدعو إلى شبهة تركناها. قالت: إذا شئت الخروج فاخرج. أما أنا فإني أنتظر وفد الخليفة لأسير إليه. فقال: دعينا من المجون يا سلمى فليس هذا وقته. قالت والجدُّ بادٍ في وجهها: قلت لك إني لا أهزل، بل أقول الجد، وأنا باقية هنا حتى أُحمل إلى دار الخليفة، وإذا ساءك ذلك فابقَ حيثما شئت. فقال وقد ملَّ إصرارها: إذا كنت تجدِّين فما أنا معك؟ وإلا فما الذي تعنينه؟ فقالت: كن حيث شئت؛ فإني أعني ما أقول. قال: أتعنين أن تقبلي يزيد زوجًا لك؟ قالت: لا تقل: يزيد، بل قل: أمير المؤمنين. فذهل عامر وظن نفسه في حلم، وكان وهو يخاطبها قد همَّ بجمع الأمتعة فلما سمع كلامها ترك ما كان بيده من الثياب، ووقف وأسند ظهره إلى الحائط مبهوتًا لا يبدي حراكًا، وهو يعجب لما سمعه منها، وقال في نفسه: لقد صدق من قال: إن النساء ضعيفات العقول، إن هذه الفتاة نسيت ابن عمها بعد أن كانت تتظاهر بالاستماتة في حبه ورضيت رجلًا كان السبب في القبض عليه وربما قتله. لك الله يا عبد الرحمن! ثم نظر إلى سلمى فإذا هي جالسة لا تعبأ بغضبه فناداها قائلًا: سلمى! قالت: نعم. قال: أأنت ابنة حُجْر بن عدي؟! قالت: لا أدري. قال: ألم نكن بالأمس نبكي أباك تحت تلك الشجرة؟! ألم نقسم لنأخذنَّ بثأره؟! هل نسيت موقف عبد الرحمن والخنجر بيده؟! أنسيت عبد الرحمن ابن عمك وخطيبك؟! أنسيته لأنه وقع في ضيق ويئست من حياته؟! أطمعت في القرب من الخليفة ابن قاتل أبيك؟! أعوذ بالله! ما هذا الذي أراه؟! أفي حلم أنا أم في يقظة؟ فقالت بصوت هادئ لا يشوبه اضطراب وهي مطرقة: لا، بل أنت في يقظة. فلما سمع كلامها تصاعد الدم إلى رأسه وبدا له فشله بعد أن شهد انقلابها فتناثر الدمع من عينيه وهو يحاذر أن تلحظ سلمى ذلك فتنسبه إلى الضعف، فتحوَّل وخرج من الغرفة وهو لا يدري ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب، ولم يصل إلى الصفصافة حتى لقيه الرئيس، فلم ينتبه لوجوده حتى سأله عمَّا كان من أمر سلمى، فلم يدرِ بماذا يجيبه لئلَّا يلمح كدره فيطلع على شيء من سرِّه، ويفتضح أمره، ولكنه تجلَّد وحاول الابتسام وقال: لا ريب في أنها اغتبطت بهذه النعمة. قال ذلك وتظاهر بأن أمرًا طرأ على ذهنه يدعو إلى سرعة الرجوع، فاستأذنه وعاد حتى أتى باب الغرفة وهو لا يلتمسه، فأراد التحوُّل عنه فوقعت عيناه على سلمى فإذا هي مشتغلة بشيء تحاول دسَّه في جيبها، ولما رأته بادرت إلى الباب فأغلقته في وجهه ثم أوصدته. فلما رأى تستُّرها منه إلى هذا الحد، داخله ريب في أمرها، ولبث واقفًا بالباب وهو لا يفهم سرَّ هذه الظواهر الغريبة، فلم تطاوعه نفسه على طرق الباب وأحب العزلة برهة لعله إذا خلا بنفسه ينكشف له شيء من هذا الغموض، فانقلب راجعًا حتى خرج من باب الدير، ومشى في البستان حتى تجاوزه وهو غارق في بحار الهواجس، لا يدري إلى أين تسير به قدماه. وما شعر إلا وهو على مقربة من الجوزة، ولما وقع بصره على قبر حُجْر اختلج قلبه في صدره لتذكره ليلتهم على ذلك القبر، فتاقت نفسه إلى البكاء فوق ترابه لعل هاتفًا ينبئه بحقيقة ما يبدو له من الغرائب، وفيما هو يفكر في ذلك مرَّ بخاطره الشيخ الناسك فقال في نفسه: يا ليتني ألقاه وأستطلعه هذا الأمر فلعله يفرج همي، ولم يكد يفكر في ذلك حتى رأى شيبوب خارجًا من وراء الجميزة وهو يثب على جذعها كأنه يحاول الصعود، فأراد عامر أن يناديه ولكن بصره وقع على أعلى الجوزة فرأى شيخًا متكئًا على بعض أغصانها، فتفرَّس فيه فإذا هو الشيخ الناسك بعينه. فأجفل وعجب لوجوده هناك، ثم تذكر ما ظهر منه من الغرائب السابقة فزال عجبه، وارتاح لالتقائه به في ذلك المكان، وقبل أن يهمَّ بمخاطبته رآه يتحرك، فتربص ليرى ما يبدو منه فإذا هو ينحدر نازلًا بأسهل ما يكون، فظل عامر واقفًا حتى وصل الناسك إلى الأرض والكلب يحوم حوله ويثب على يديه ورجليه كأنه يرحب به. وكان الناسك قبل أن يصل إلى الأرض قد أرسل شعر ناصيته على جبينه وعينيه فغطى ما بقي من سحنته خاليًا من الشعر إلا رأس أنفه وصاح قائلًا: لقد قضي الأمر يا عامر، ولكن لا تجزع فإنهم لن يقتلوه على عجل، فارتعدت فرائص عامر واقشعرَّ بدنه وهمَّ بيد الشيخ ليقبلها فأمسك الشيخ يده وقال: تجلَّد يا عامر وكن رجلًا. فأمسك عامر نفسه وارتاح لمكاشفته بحال سلمى فقال: إني لا أجزع على عبد الرحمن ولكني خائف على سلمى. قال: وما يخيفك عليها؟ قال: لقد طلبها يزيد لتكون زوجًا له فقبلته بالرغم مني. فأرخى الشيخ الناسك يده فأفلتت يد عامر، ولبث كلاهما صامتًا وعامر ينظر ما يبدو من كرامات الشيخ وقلبه يخفق، فإذا بالشيخ قد جلس وأسند ظهره إلى الجوزة وهو يحك رأسه بأطراف أظافره كأنه يفكر في أمر، ثم قال: وأي بأس على سلمى من زواجها بيزيد؟ قال عامر: ألا ترى بأسًا عليها يا سيدي؟ وهبْ أنه لا بأس عليها، فكيف تنكَّرت لعبد الرحمن؟! فضحك الشيخ حتى بدت نواجذه وقال: لا شك في أنها لم تقرر ذلك إلا بعد تفكير. فتعجب عامر وقال: لكن كيف يطاوعها قلبها على ذلك؟! كيف تخون خطيبها وابن عمها وترضى بذلك الأموي بديلًا منه؟! فقال الشيخ: تأدب يا عامر، إن ابنة عدي لا تخون، وهي لم تأتِ الشام وتكابد مشاقَّ الأسفار وتتحمل الأخطار لتخون قلبها وتغدر بابن عمها. قال عامر: ولكنها قد فعلت يا مولاي، وها هي ذي مستعدة للذهاب إلى يزيد. قال: دعها تذهب، وأظهر لها رضاك بذهابها، ثم انظر ما يبدو منها. فدهش عامر لتلك المعمَّيات ولم يلحَّ في الاستفهام لئلَّا يُغضب الناسك، ولكنه استحسن رأيه في مسايرتها ليستطلع ما يكنُّه ضميرها، وتظاهر برغبته في الانصراف إليها فابتدره الناسك قائلًا: اذهب إليها على عجل. ••• نهض عامر ومشى وهو يتعثر بأذياله لفرط ذهوله حتى أتى الغرفة فرأى الباب لا يزال موصدًا فطرقه، وصبر فلم يجبه أحد، فألحَّ في قرعه ففتحته سلمى وتحولت إلى حصير جلست عليه وهي مطرقة، فدخل عامر وأقفل الباب وراءه ونظر في وجه سلمى فرأى الكآبة بادية فيه وكأنها كانت تبكي، فقال لها: ألا تزالين مصرَّة على رأيك يا بنية؟ فأشارت برأسها أن نعم. فقال: لقد فكرت في أمرك بعد خروجي من عندك فرأيت أنك على حق؛ لأننا لا نستطيع الفرار الآن وعلينا الأرصاد والعيون من كل ناحية، ثم إن تقرُّبنا من الخليفة نعمة كبرى ستعود علينا بالخير. فرفعت بصرها إليه وتفرَّست في وجهه هنيهة ثم قالت: يظهر أنك تريد الذهاب معي. قال: وكيف لا؟! قالت: لا، لا تذهب معي. قال: كيف لا أذهب معك؟! وإلى أين أذهب؟! قالت: لا أدري أين ينبغي أن تذهب، ولكني لا أريد أن يذهب معي أحد. قال: ماذا تقولين؟ إذا كنت تعدِّين اقترانك بالخليفة نعمة فلماذا تريدين حرماني منها؟ إني لأرجو إذا صرت أنت زوجة أمير المؤمنين أن تساعديني في إطلاق سراح عبد الرحمن؛ لأنك ستتسلطين على قلب الخليفة ولا أظنه يرفض لك طلبًا، وربما وصلنا بوساطتك إلى مناصب رفيعة. قال ذلك وهو يراقب ما يبدو منها وعيناه شاخصتان إليها. أما سلمى فحدقت ببصرها إليه وهي تشك في صدق كلامه ثم قالت: أصحيح ما تقوله يا عماه؟ هل تقرُّني على الذهاب إلى الخليفة؟ أقسم بعبد الرحمن أنك تسمح لي بذلك. قال: نعم يا سلمى، إنه صحيح لا ريب فيه، وأقسم لك. قالت: أطعني إذن ودعني أذهب وحدي. قال: ولماذا؟ إني لأعجب من أمرك. أكلما جاريناك في غريبة أتيتنا بغريبة أخرى. إن إصرارك على منعي من ذهابي معك لأغرب من قبولك الذهاب. ما هذا يا سلمى؟ قال ذلك والأسف والعتاب باديان في عينيه، ولكنه لم يكد يتم قوله حتى رأى وجه سلمى قد علته أمارات الكآبة والغضب، فتقطب حاجباها وتوقدت عيناها وقد زادهما الاحمرار بريقًا حتى لم يعد عامر يستطيع النظر إليها، ثم وقفت بغتة وتحولت من السكون والرقَّة إلى الخفة والشدة وقالت: أتظنني ذاهبة للاقتران بيزيد؟! قال: وفيم أنت ذاهبة إذن؟ فمدت يدها إلى جيبها واستلَّت خنجرًا كانت قد خبأته فيه وقالت: إني ذاهبة لأقتله بهذا الخنجر. فأجفل عامر، وأكبر شجاعة سلمى، وقال: لكن كيف تفعلين ذلك يا سلمى؟ وكيف أرضى بأن تفعليه؟! إننا ما زلنا نشكو من اندفاع عبد الرحمن وعدم تبصُّره، وأراك تندفعين إلى ما هو أشد منه خطرًا. فقالت: وقد هاجت عواطفها: أتعلم أن عبد الرحمن مهدَّد بالقتل ثم تمنعني من الذهاب إليه، وتلومني على رغبتني في اللحاق به؟! وكيف يدعونا يزيد إلى أن نسير إليه ويمكِّننا من التحكم فيه ولا نرضى؟! نعم إني عددت عمل عبد الرحمن تهورًا لأنه اقترب من يزيد وحوله الخدم والأعوان، ولكن يزيد يدعوني إلى الزواج به، وهي فرصة ينبغي ألا أضيعها. أم تريد أن أخاف على حياتي فأترك عبد الرحمن في خطر القتل وهو في قبضة يزيد؟ دعني أذهب إليه فإما أن أقتل يزيد وأنقذ الإسلام من شره وأنتقم لأبي، وإما أن أموت فداء حبيبي، أو نموت جميعًا. لا تقف في سبيلي إني ذاهبة إلى يزيد رضيت أم لم ترضَ. قالت ذلك وقد تغيرت هيئتها من شدة ما اعتراها من الاهتياج والانفعال، فلم يزدد عامر إلا استغرابًا ودهشة، وظل برهة صامتًا متحيرًا ثم قال: إذا كنت ترين الموت هينًا عليك في سبيل عبد الرحمن، فلماذا تريدين أن أبقى؟ إنني إنما أعيش لأجلكما، فارفقي بي ودعيني أسرْ معك، فإما أن نموت جميعًا، وإما نجونا جميعًا. أم تراك تحسبينني جبانًا؟ فلما سمعت قوله أمسكت نفسها وتجلَّدت ثم قالت: حاشَ لي يا عماه أن أظن بك الجبن، ولكن لا فائدة من ذهابك، ثم قطعت حديثها كأنها كانت تهمُّ بأن تقول شيئًا ثم أمسكت عنه. فابتدرها قائلًا: كيف لا يكون في ذهابي فائدة؟ وما فائدة بقائي هنا؟! قالت: أعرني سمعك يا عماه، وتبصَّر في قولي، إنك إذا ذهبت معي كنا جميعًا في خطر الأسر أو القتل، فإذا لم أفز أنا بقتل يزيد وحُكم علي بالموت يُحكم عليك أنت أيضًا بمثله، فمن يسعى بعد ذلك في إنقاذ عبد الرحمن؟ وأما إذا كنت طليقًا وقُدِّر عليَّ الموت، فإنك تستطيع حينئذٍ أن تسعى لإنقاذ عبد الرحمن، وإني لأرجو إذا تمكنت من ذلك أن تقرئه تحيَّتي، وتنبئه بأن سلمى آثرت الموت في سبيل حبه على البقاء بعده، وأن عظامها تتهلل في أعماق القبر لتمكنها من إنقاذ حياته. قالت ذلك وخنقتها العبرات، وجلست وقد خارت قواها ووقع الخنجر من يدها، ثم انتبهت لنفسها فاسترجعت رشدها والتقطت الخنجر من الأرض وقرَّبته من فمها فقبلته وهي تقول بصوت مختنق: إن فيك آمالي وعليك متكلي، فإما أن تُغمد في أحشاء يزيد أو في أحشائي، ويا حبذا إذا كان في ذلك نجاة مالك فؤادي، ثم أغمدت الخنجر وأرجعته إلى جيبها، وجلست وقد تكسرت أهدابها من فرط البكاء وعيناها تتقدان شجاعة وثباتًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/7/
في مجلس الخليفة
تضاعف إعجاب عامر بشجاعة سلمى وبشهامتها بعد ما سمعه منها، ولكن بقي في حيرة ولم يدرِ كيف يجيبها، وأعمل فكره فلم يرَ مندوحة عن الإذعان لإرادتها، ولما تصور ما يهددها من الخطر تحقق أنها ملقية بنفسها إلى التهلكة، وأنها مع ذلك لا تستطيع إنقاذ عبد الرحمن، فقال لها: وما قولك إذا حكم القضاء بقتلك وقتل عبد الرحمن، هل تكون هناك فائدة من بقائي؟ قالت: أوصيك إذا حكم القضاء بذلك أن تقضي بقية حياتك فوق قبر أبي تبكيه عني وعن عبد الرحمن، وإذا ملكت رشدك فاذهب إلى الإمام الحسين سيد شباب المسلمين وجاهد في سبيل نصرة الحق، لعل الله أن يأتيه بالفرج بعدنا. فسكت عامر إذ لم يجد ما يقوله، ثم عاد بعد قليل فقال: لقد سددت عليَّ السبيل بحجتك، وإني فاعل ما تأمرين، والله حسبي ونعم الوكيل. قالت: ولكن احذر يا عماه أن تبقى في هذا الدير؛ لأنهم إذا عرفوا من أنا لا آمن أن يبعث يزيد إليك بجند يقبضون عليك على حين غفلة. فقال: لقد أصبت، ولا فائدة من بقائي هنا وأنت في قصر الخليفة، ولكنني سأتنكر وأدخل دمشق لأتنسَّم الأخبار، وأوصيك أن تدبري الأمر بالتأني والحيلة عسى أن يوفقك الله إلى ما فيه الخير. قالت: ليطمئن بالك، ولا تعبأ بما تراه فيَّ الآن من ظواهر الحدَّة، وتذكر كيف رأيتني حين جئتني بخبر يزيد. قال: إني والله معجب بثبات جأشك يا سلمى، ولكنني أخاف عليك. قال ذلك وشرق بدموعه. قالت: لا تكن أقل ثباتًا مني، وأنا فتاة وأنت كهل عركه الدهر، ولا يخفى عليك أننا نهضنا لعمل كبير، إذا فزنا فيه كان خيرًا وسعادة لسائر المسلمين، أفلا يجدر بنا أن نعرض أنفسنا للخطر من أجل ذلك؟! فجثا عامر على ركبتيه ورفع يديه إلى فوق وقال: اللهم إني أستودعك وديعة أودعنيها عبدك حُجْر بن عدي، شهيد الحق ونصير صاحب الحق، فلا تفجعني فيها، إنك فاحص القلوب وعالم الغيب وأرحم الراحمين. ثم نهض ونهضت سلمى وقد سكن روعها، وارتاحت لما تم لها من أمر الذهاب وحدها، وتعزَّت بما عوَّلت عليه من التفاني في سبيل الحب الصادق ونصرة الحق القويم. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وهمَّ الليل بإرسال النقاب، وأخذ التعب من سلمى وعامر مأخذًا عظيمًا؛ لما مرَّ بهما من الأهوال في أثناء ذلك النهار، فقضيا ليلتهما والقلق سائد عليهما. واستيقظ عامر قبل الفجر وسلمى لا تزال في الفراش، فظنها نائمة وانسلَّ خارجًا من الغرفة وهو يريد الخلوة ليستخير ربه فيما يرجوه من ذهاب سلمى إلى دار الخليفة وفيما يخشاه من عواقب اندفاعها. فصعد إلى السطح في هدوء لئلَّا يشعر به الرئيس، فلما أطل على الغوطة رأى الأطيار فيها بين تغريد وزقزقة ومداعبة، لا يشغلها شاغل عن التمتع بما خُلقت له، فاتَّجه فكره إلى ما هو فيه وقال في نفسه: هنيئًا لهذه الخلائق الصغيرة، إني إخالها أسعد حالًا من بني الإنسان، وإذا فاخرناها بما نعتقده في أنفسنا من السلطان عليها وما نرجوه من ثواب أو نتوقعه من نعيم فالواقع أنها أسعد منَّا حالًا؛ لا تجزع على حبيب ولا تخاف من رقيب، وما أدرانا أنها ترجو ثوابًا مثلنا؟ واعترض تفكيره معاء الماعز في الحظيرة وخوار الثيران فقال: ولا إخال هذه أتعس حالًا من أسيادها بني الإنسان، ونحن إنما نخدمها التماسًا لسعادتنا، ولكن السعادة تبعد عنا لما يقف في سبيلها من عقبات الطمع والشره مما لا نعرف له حدًّا. ولم تطل أحلامه في عالم الخيال لما قام في نفسه من الاهتمام الشديد بأمر سلمى وذهابها إلى يزيد، فلما عاد إلى هذه الهواجس اقشعرَّ بدنه خوفًا عليها، ولكنه لم يدرِ ما يفعل وقد نفذت حيلته في استبقائها، فلم يشأ التسليم، وعزَّى نفسه بما سمعه تحت الجوزة من قول الهاتف: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فارتاح باله وتحول ذهنه إلى عبد الرحمن وخاف أن يستعجل يزيد قتله فيذهب سعيهم هباءً منثورًا. وما انتبه إلى نفسه حتى وقعت أشعة الشمس على عينيه وهو ينظر إلى مشرقها على غير انتباه، فخاف أن تستيقظ سلمى ولا تراه في الغرفة فتضطرب، فمشى نحو السلم فإذا بباب عُلِّيَّة الرئيس قد فُتح وخرج الرئيس وقد تزمَّل بعباءته، فاستقبله عامر بالتحية، فردَّ عليه بمثلها وقال: أراك مبكرًا؟ قالت: خرجت أستنشق نسمات السَّحَر. قال: ظننتك رأيت رسول الخليفة. ألم تراه؟ فاختلج قلب عامر عند سماع اسم الخليفة وقال: لا لم أرَه، أين هو؟ قال: جاء مساء أمس وأنتم نيام فبات عندنا على أن يراك هذا الصباح. قال: وأين هو يا سيدي؟ فنادى الرئيس أحد الرهبان وأمره أن يدعو الرسول. ولم تمضِ برهة حتى رأى الرجل صاعدًا، وحالما وقع عليه نظره عرف من برصه أنه شمر بن ذي الجوشن، فاستعاذ بالله من شره، وعلم أنه قدم لمخاطبته في شأن سلمى. ••• أما شمر فاستقبل عامرًا باسمًا وقال له: هل تأذن لي في خلوة قصيرة؟ قال: تعالَ. ومشى به إلى جانب منعزل من جانب السطح، وقبل أن يصلا إلى المكان قال شمر: أظنك أدركت سبب مجيئي يا عامر؟ فرأى عامر أن يبغته بخبر خطبة الخليفة لسلمى لكيلا يترك له مجالًا للكلام. فقال: لعلك قادم من قبل الخليفة لحمل خطيبته إليه؟ فلما سمع شمر ذلك بُغت واستوقف عامرًا بيده وقال له: ماذا تقول؟ وأي خطيبة تعني؟ قال: سلمى. قال: هل خطبها الخليفة؟ قال: هكذا يقولون، ونحن ننتظر وفدًا من عنده اليوم. فبهت الرجل وظل صامتًا برهة ثم قال: إذن قد خرجت سلمى من يدي. فخاف عامر إذا جافاه أن يشي بسلمى أو ينوي بها شرًّا، وظن مجاملته تدفع ذلك الشر عنه فقال: لا أدري أخرجت أم لم تخرج، ولكني أعلم أن مولانا أمير المؤمنين بعث يخطبها لنفسه، ومع ذلك فالمستقبل في علم الله. قال: ويحك! أتغرر بي يا عامر؟ لكن هذا كله من عناد تلك الفتاة الجاهلة، ألم تخبرك بما لقيتني به من الجفاء أمس؟ أظنها كانت طامعة في الخليفة؟ قال ذلك وضحك ضحكة مغتصبة ثم قال: فلتهنأ بالخليفة هي وخطيبها الأول إذا كان لا يزال على قيد الحياة. فارتعدت فرائص عامر وقال: هل تعرف شيئًا عن عبد الرحمن؟ قال: لا أعلم ما جرى له حتى الآن، ولكنني أخبرك إن عناد سلمى سيجر الوبال عليها وعليه، أتظن الخليفة إذا عرف علاقتها به يستبقيها أو يستبقيه؟! فلتهنأ ابنة حُجْر بما يجره عليها رفضها شمر. قال ذلك وتحول مسرعًا وهو يتعثر بأذياله لفرط سرعته، حتى نزل وخرج فركب جواده وسار، وعامر واقف وقد جمد الدم في عروقه وهو لا يدري ما يفعل. وهمَّ عامر بالنزول، فإذا بفارس أقبل على الدير، ورآه يدخل من فوره على الرئيس ويخاطبه، ثم رأى الرئيس يتحول إليه هو قائلًا: أبشر يا عامر، إن وفد الخليفة قادم لحمل العروس، فأخبرها لتتأهب. فهرول عامر حتى دخل الغرفة وهو لا يدري ما يقول لسلمى، وكانت قد نهضت ولبست ثيابها وتأهبت للسفر. فقال لها: ألا تزالين يا سلمى على عزمك؟ قالت: قد عزمت واتكلت على الله. قال لها: ألا تراجعين نفسك؟ ألا تذكرين أن في دار الخليفة أناسًا يعرفونك ويعرفون علاقتك بعبد الرحمن؟ أتظنين الخليفة إذا عرف حقيقة حالك يبقي عليك؟ قالت: إن الذي يرى الموت أمام عينيه ويسعى إليه باختياره لا يخاف العقبى. أتظنني أجهل أن شمرًا اللعين يترقب فرصة للإيقاع بي وأنه حالما يعلم بوجودي في دار الخليفة يطلعه على سري؟ ولكن … فقطع عامر كلامها قائلًا: وما قولك إذا كان قد عرف ذلك قبل خروجك من هذا الدير؟ قالت: لا أبالي عرف أم لم يعرف، وليفعل ما يشاء، دعني الآن من بواعث التردد فقد عزمت وتوكلت والسلام. هل سمعت عن وفد الخليفة؟ قال: علمت الساعة أنهم قادمون لحملك، فإذا رأوني هنا ولم أذهب معهم يرتابون في أمرنا، وأرى أن أخرج بحيلة، فإذا جاءوا فاذكري لهم أني ذهبت في حاجة وسأوافيكم إلى دار الخليفة. قال ذلك ثم تنهد والتفت إلى سلمى وقال: إنك ذاهبة إلى خطر هو أشد مما خفناه على عبد الرحمن يوم خروجه لقتل يزيد، فكيف أرضى بهذا الذهاب؟ لا. لا. لا أدعك تذهبين وحدك. قالت: لقد قُضي الأمر يا عماه، تعالَ ودِّعني على عجل، واحفظ وصيتي لك في شأن عبد الرحمن. قالت ذلك وشرقت بدموعها، ولكنها حاولت الكظم وهي تتشاغل بإصلاح خمارها. أما هو فلم يعد يتمالك عن البكاء لاعتقاده أنه لن يرى سلمى بعد هذا الفراق، ولكنه لم يشأ أن يكدِّرها فقال لها: سيري في حراسة الله وارفقي بنفسك، وإذا رأيت سبيلًا للنجاة غير القتل فافعلي. قالت: سأرى ما يكون، وأكبَّت على يده لتقبلها فضمها إلى صدره والدموع تتناثر من عينيه، ثم قال: حيِّي عني عبد الرحمن، ولا أكلفك إنفاذ خبرك إليَّ؛ فإني سأستطلع كل شيء بنفسي وأقف على مخبآت الأحوال في حينها، ولكنني أوصيك بأن ترفقي بنفسك ما استطعت. قالت: لا تخف يا عماه، وأنت تعلم أني بنت حُجْر بن عدي، وهذا يكفي. قالت ذلك وقد استرجعت قواها وأمسكت عواطفها. وفيما هما في ذلك سمعا ضجيجًا في باحة الدير فقال عامر: إن الوفد قد وصل، وسأخرج خلسة حتى لا ينتبه إليَّ أحد، فاعتذري عني كما أوصيتك، أستودعك الله. ثم تزمل بعباءته وخرج مستخفيًا وانسل مسرعًا فما لبث أن اختلط بالجمع، ولم ينتبه له أحد حتى خرج من الدير وقلبه يقطر دمًا. وكان الوفد قد وصل إلى الدير وفي مقدمته عبيد الله بن زياد، وقد أعدُّوا هودجًا مجللًا بالأطلس، وتقدم ابن زياد توًّا إلى الرئيس وطلب مقابلة عامر، فنزل الرئيس بنفسه إلى غرفة سلمى فاستقبلته بجأش ثابت، واعتذرت لغياب عامر وذكرت أنه سيوافيهم إلى دمشق، فعاد الرئيس بالخبر، فلم يعبأ ابن زياد بذلك ولكنه طلب أن يقابل سلمى، فأخذه الرئيس إليها فقابلته والنقاب على رأسها وأخبرته بغياب أبيها. فقال: هل أنت مستعدة للذهاب إلى الخليفة؟ قالت: نعم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/8/
سلمى في قصر يزيد
خرجوا بسلمى وأركبوها الهودج، وسار الفرسان حولها بالرماح والحراب في موكب حافل حتى وصلوا إلى باب المدينة، وكانت هي تنظر إلى المدينة من خلال الستور فلما أطلت على بابها انبهرت بما رأته من الزحام وبما هناك من الأبنية الرومانية الهائلة، ولا سيما باب المدينة الكبير وأقواسه الضخمة، فدخل الموكب من القوس الوسطى في طريق طويل تحف به الأعمدة الرخامية من الجانبين، وقرقعة حوافر الخيل على البلاط تُحدث ضوضاء شديدة ألهتها قليلًا عن هواجسها، ثم وقف الموكب أمام باب كبير جانباه من الرخام المنقوش، وعلى عتبته العليا رسم النسر الروماني، والباب من الخشب الأبنوس، مصفح بالنحاس بعض التصفيح وعليه نقوش جميلة، وكانت تسمع عن أمثال هذا الرسم من عمها وتعرف أن النسر شارة الروم، فاستغربت إقامة الخليفة في بيت من بيوت الروم. ولم يكد يقف بها الهودج هناك حتى ترجَّل ابن زياد ودنا من الهودج وقال لها من وراء الستار: إننا بباب الخليفة يا سيدتي، فنزلت حتى دخلت من الباب، وعلى جوانبه الحرس من جند الخليفة في أيديهم الحراب، فمشت وابن زياد دليلها في باحة كبيرة مرصفة بالفسيفساء تتخللها مغارس الرياحين، وأحواض الرخام تتدفق عن جوانبها المياه، فسارت في طرق الحديقة وابن زياد يتقدمها وهو يجر سيفه وراءه معجبًا بما ملكوه من أبنية الروم وآثار مجدهم ولسان حاله يقول: أين أبنية الكوفة التي تعرفينها من هذه الأبنية المزخرفة! وبعد قليل انتهت إلى باب آخر أصغر من الباب الأول يصعدون إليه بدرجات قليلة من الرخام المصقول، وتكتنفه عمد من الرخام فوقها قبة مغشاة بالذهب وعليها الرسوم بالألوان البديعة، ومن بينها رسوم تشبه ما في كنائس النصارى، فلم تستغرب ذلك لما علمته من أن هذا القصر بقي على ما كان عليه في عهد ولاة الروم، فدخل عبيد الله أمامها تحت القبة فتبعته، فأشرفت على باحة واسعة مكشوفة مسورة بالعمدان المزخرفة بنقوش بعضها من الذهب، وعلى دوائرها مقاصير، وأرض الباحة مرصفة كلها بالفسيفساء الدقيقة على أشكال تشبه رسوم الشجر والحيوانات وغيرها. وفي وسطها حوض من الرخام المجزع، يتصاعد الماء من أنبوب في وسطه ما يشبه رأس الأسد، وفي صدر الباحة باب مرتفع عليه ستار وأمامه الحجَّاب، فعلمت أنه مدخل مجلس الخليفة، ورأت إلى يمين الباب جماهير الناس وفيهم الشعراء والرواة وأصحاب الحاجات ممن يقفون بباب الخليفة لقضاء حوائجهم، وكان الباحة مكشوفة من الوسط فقط، يكتنفها رواق قائم على أعمدة مزخرفة، وقد نُقش بعضه بالحفر على أشكال الأزهار والثمار والآدميين، وزُين بعضه برسوم ملونة ومذهبة، فبهرتها تلك المناظر لأنها لم تكن رأت مثلها من قبل. ولما أطل ابن زياد على تلك الباحة همَّ بعض الذين كانوا هناك من الشعراء وذوي الحاجات بالقدوم إليه لمخاطبته في شئونهم، فلما رأوا سلمى معه تراجعوا وانزووا وراء الأعمدة. وعطف هو نحو اليسار بين الأعمدة تتبعه سلمى حتى وصلا إلى باب بديع النقش عليه ستر من الحرير المزركش بالذهب برسوم جميلة وفي جملتها كتابة باليونانية، فازداد استغرابها لإبقاء المسلمين على تلك الآثار إلى ذلك الحين مع ما وصل إليه سلطانهم من السعة والنفوذ، ولو علمت معنى تلك الكتابة لكان استغرابها أعظم؛ لأنها كلمات تتألف منها عبارة الاستهلال بالصلاة عند النصارى وترجمتها: «باسم الآب والابن والروح القدس»، والسبب في ذلك أن الستور وأمثالها من طراز الملك كانت قبل الإسلام تُصنع في مصر، وسكانها من النصارى، وفيهم القبط والروم، فكانوا يطرزونها بالرومية، وأكثر ما يرسمونه عليها تلك الآية، وكان الروم في الشام وغيرها يبتاعون تلك الستور ونحوها من مصر فيعلقونها على الأبواب والنوافذ للزينة والتبرك، فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون الشام استعاروا تلك الزينة من الروم ولم يلتفتوا إلى فحوى ما عليها من الكتابة، وفي جملتهم الأمويون في دمشق، وما زال ذلك دأبهم إلى أيام عبد الملك بن مروان (من سنة ٦٥ﻫ إلى ٨٦ﻫ) فكان أول من انتبه إليه، وإلى ما كان يُضرب على النقود وما كان يطرز على القراطيس، وهي البُرد التي تُحمل في الأواني والثياب، وذلك أنه بينما كانت ذات يوم في مجلسه إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يُترجم إلى العربية، فترجموه له، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا! وكيف أن هذه الأواني تصنع في مصر وتحمل إلى الآفاق، ثم أمر بالكتابة إلى عبد العزيز بن مروان أخيه وعامله على مصر بإبطال هذا الطراز، وأن يأمر صناع القراطيس أن يطرزوها بكلمة أشهد أنه لا إله إلا هو، ففعلوا، وما زال ذلك شأن الطراز من ذلك الحين، وكتب إلى عمال الآفاق جميعًا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منه بالضرب الموجع والحبس الطويل، وفعل مثل ذلك أيضًا بالدنانير. دخلت سلمى من ذلك الباب بعد أن أزاحوا الستار عنه، فانتهت إلى دهليز مفروش ببسط من الديباج وعلى جدرانه نقوش كثيرة، حتى أقبلت على «دار النساء» وهي غرف تكتنف باحة فيها بركة من الرخام المجزع، فقال لها ابن زياد: إنك في دار النساء يا سيدتى. قال ذلك وتحوَّل، فاستقبلتها امرأة عجوز ومعها رجل عليه لباس الحجَّاب فاستغربت سلمى وجوده، فقالت لها العجوز: إنه «فتح» خصِيُّ مولانا أمير المؤمنين وحاجبه، (ويزيد أول من اتخذ الخصيان في الإسلام)، ومشت بها العجوز حتى دخلت غرفة زينوها وفرشوها بالأبسطة والأطالس، وفيها سرير مذهب لم ترَ مثله قبل ذلك، وهناك تهيبت وشعرت بعظم الأمر الذي عرَّضت نفسها له، وأحست أنها في قفص من حديد، فتظاهرت بالتعب والعجوز ترحب بها، وتطلب إليها أن تنزع خمارها وترتاح إلى أن قالت: وقد أمرني أمير المؤمنين أن أُدخلك إلى الحمام. فرفعت سلمى الخمار عن رأسها فبان وجهها وتجلَّت محاسنها، فانبهرت العجوز من جمالها وهيبتها وجعلت تمدحها وتطري حسنها التماسًا لاستئناسها، فأجابت سلمى بما جعلها تزداد إعجابًا بها وتهنئها بما نالته من التفات الخليفة، وألحَّت عليها في دخول الحمام، فقالت: سأدخله بعد أن أستريح. قالت: لقد أعددنا لك الثياب الفاخرة، ولا ريب عندي في أنك إذا لبستها سيزداد جمالك وتعلو منزلتك عند مولانا. فشكرتها ولكنها استمهلتها ريثما تستريح، وهي إنما أرادت التخلص من الحمام لتُخفي خنجرها في مكان أمين؛ لعلمها أنها إذا دخلت الحمام فسترافقها العجوز إليه فتطَّلع على الخنجر فيفتضح أمرها، فاعتذرت بانحراف صحتها وأنها تخاف أن يضرَّها الحمام. فسايرتها العجوز ولكنها رجعت فقالت: وإذا طلب الخليفة أن يراك فهل تقابلينه بهذه الثياب؟ قالت: إذا شئت أن أبدِّل ثيابي فعلت واتركي الحمام إلى الغد. فأطاعتها وأتتها بثوب من الحرير الناعم، يجلِّله جلباب طويل ورديُّ اللون، فاحتالت في تبديل ثيابها من غير أن تشعر العجوز بخنجرها، ثم عكفت العجوز على تسريح شعرها وتزيينها، فأصبحت سلمى بعد ذلك أشبه بالملائكة منها بالآدميين، حتى أن العجوز عشقتها وعلق قلبها بها. أما سلمى فقد كانت في أثناء ذلك غارقة في بحار الهواجس لا تدري ما تصنع؛ لكثرة ما يتجاذبها من المشاغل، وأهمها أمر عبد الرحمن وهل هو مسجون أم قُتل أم أُطلق، ورأت في الحجرة نافذة بجانبها مقعد مبني من الرخام كالدكة تكسوه وسادة كبيرة، فجلست على الوسادة وأطلَّت من النافذة فأشرفت على خلاء ضيِّق وراءه جدار عظيم يدل على فخامة ذلك البناء، وسمعت جلبة تشبه التكبير فعلمت أنها بقرب الجامع، فعمدت إلى مخاطبة العجوز لعلها تستطرق في حديثها خبر خطيبها فقالت لها: ما هذا البناء يا خالة؟ قالت: هذا هو الجامع يا سيدتي. قالت: وهل بناه أمير المؤمنين أم أبوه؟ قالت: كلا يا حبيبتي فإنه من بناء الروم مثل هذا القصر. قالت: وهل كان عند الروم جوامع؟ قالت: كلا، ولكنه كان كنيسة باسم سيدنا يحيى، يصلي فيها النصارى، وكان هذا القصر الذي نحن فيه لرجال الحكومة من الروم، فلما فتح المسلمون الشام اتخذوه دارًا للإمارة، واقتسموا الكنيسة بينهم وبين النصارى فجعلوا نصفها جامعًا والنصف الآخر كنيسة. قالت: وهل بين هذه الدار والجامع اتصال؟ قالت: نعم إن بينهما ممرًّا يمضي فيه الخليفة كل صباح للصلاة ويعود منه، وقد ذهب في هذا الصباح ولم يعد بعد. وبينما هي تخاطبها إذ سمعت الضوضاء تتزايد في الجامع فقالت سلمى: وما سبب هذه الضوضاء؟ قالت: إن المسلمين يلعنون أبا تراب. قالت: ومن هو أبو تراب؟ قالت: هو علي بن أبي طالب، فهم كلما صلوا ختموا الصلاة بلعنه. فتذكرت سلمى مصيبتها، وأن أباها إنما مات في هذا السبيل، ولم تكن لتعبأ لهذا الحديث لولا رغبتها في التطرق منه إلى حديث عبد الرحمن فقالت: إن هذا القصر بديع لا أظن المسلمين بنوا قصرًا مثله إلى اليوم، ولكنني رأيت فيه الحرس وقوفًا على الأبواب ومعهم السيوف والحراب، مع علمي أن الخلفاء في الحجاز والعراق لم يكونوا يتخذون الحرس. قالت: صدقت يا بنية، وأول من اتخذ الحرس هو معاوية أبو أمير المؤمنين بعد حادثة البرك بن عبد الله التيمي الذي كاد يقتله لو لم يقع السيف في ظهره وينجو بإذن الله، فاتخذ معاوية الحراس منذ ذلك الحين ليسهروا على حراسته ليلًا ونهارًا، كما أمر بقيام الشرطة على رأسه إذا سجد، وهو أول من فعل ذلك من الخلفاء، ثم فعل ابنه أمير المؤمنين مثل ذلك، والسبب في كل ذلك يا حبيبتي أن قلوب المسلمين تغيرت عمَّا كانت عليه من قبل وداخلها الغل، فأصبح الأخ يحقد على أخيه، وغدا قتل الخلفاء سنَّة عند بعض الناس، حتى إن مولانا الخليفة كان في خطر القتل منذ يومين، إذ كمن له رجل في مكان صيده، ولو لم ينبهه بعض خاصته إلى ذلك لذهبت حياته على أهون سبيل ولكن الله نجَّاه ودارت الدائرة على الباغي. فلما سمعت سلمى ذلك اختلج قلبها وارتعدت فرائصها وخافت أن تستزيدها بيانًا فتسمع خبر قتل حبيبها، ولكنها لم تكن تستطيع كبح شوقها إلى الاستطلاع فقالت: وماذا فعلوا بالرجل؟ قالت: قادوه مغلولًا وحبسوه، وسمعت في هذا الصباح أنهم سيوقفونه بين يدي الخليفة ويسألونه عن أصله وسبب مجيئه وبعد ذلك يقتلونه. ألا يستحق القتل؟ فسكتت سلمى وزاد اضطرابها، وخافت أن يبدو ذلك على وجهها فتظاهرت بصداع دهمها وحنت رأسها على ذراعها فوق النافذة وأخفت وجهها، فقالت لها العجوز: ما بالك يا سيدتي لا بأس عليك؟ قالت: إني أشعر بصداع أليم في رأسي لا أكاد أتحمَّله. فمدت العجوز يدها وأخرجت من جيبها خرزة من الجزع معلقة بخيط قالت لها: خذي هذه التعويذة علقيها بين ضفائرك فإنها تشفيك بإذن الله، وقد جربتها بنفسي مرارًا فكان الصداع يذهب مني حالًا. فقالت: ولكن صداعي شديد يا خالتي. قالت: لا بأس عليك، خذي هذه التعويذة. قالت ذلك ولم تنتظر جوابها، بل وقفت وربطت الخرزة بضفيرة من ضفائرها وهي تقول: وإذا لم يزل بعد فإنه يزول عمَّا قريب بقدوم الخليفة، وأظنه سيسأل عنك متى عاد من الصلاة، ولا ريب عندي في أنك ستكونين عنده في المنزلة الأولى بين سائر نسائه. فاقشعرَّ بدنها وتحققت قرب الساعة العظمى وقالت في نفسها: لقد آن الأوان، فلا بدَّ من الدهاء والحكمة، وإلا ذهب السعي سدًى، وطلبت إلى الله أن يلهمها الصبر ويثبت جأشها. وبينما سلمى تفكر في ذلك، إذ سمعت الضوضاء قد اشتدت وأخذت تقترب، ثم قالت لها العجوز: إن الخليفة قادم، ومن عادته إذا عاد من الصلاة أن يمر بهذه الدار قبل دخوله المجلس، ولا بدَّ من مجيئه إليك؛ لأنه أوصاني بالعناية بك، ولحظت أنه ينتظر مجيئك بفارغ الصبر. فاستعاذت سلمى في سرِّها بالله، ولبثت صامتة وقلبها يخفق، فحملت العجوز ذلك محمل الحياء، فقالت وهي تضحك: يا للعجب من البنات كيف يظهرن التمنُّع وقلوبهن تطفح سرورًا عند سماع صوت الزوج، وما كل الأزواج مثل الخليفة يا مليحة؛ فإنه أمير المؤمنين القابض على رقاب المسلمين. فظلت سلمى صامتة وهي تكظم ما في نفسها وتتجلَّد، وبعد هنيهة أقبل «فتح» الخصيُّ وقال: إن الخليفة قادم يا خالة، وما لبثت أن سمعت وقع خطواته قرب حجرتها، فلم تعد تتمالك من الاضطراب، وأرسلت النقاب على وجهها، فابتدرتها العجوز ورفعت النقاب عنها وقالت: أتتحجبين عن أمير المؤمنين وهو زوجك؟! وما أتمت كلامها حتى دخل يزيد وعليه رداء أزرق، وعلى رأسه عمامة خضراء وبيده دِرَّة، وهي قدَّة من جلد ثخين تشبه الكرباج، فلما أطل على الغرفة استقبلته العجوز فقبلت يده، وأمسكت سلمى واستنهضتها لملاقاة الخليفة، فوقفت وتظاهرت بالحياء، فناداها يزيد قائلًا: أهلًا بعروسنا، ومدَّ يده ورفع الغطاء عن وجهها وقلبه يكاد يطفح سرورًا لحصوله عليها؛ لأنه لم يشاهد في حياته مثل ما في وجهها من الجمال والهيبة، وقد زاده ذلك التمنُّع رغبة فيها وشوقًا إليها. أما هي فتجلَّدت ونظرت إلى يزيد، كأنها تزن قواه فترى ما يكون من أمرها معه إذا همَّت بقتله، فرأت جسمه لا يدل على بطش شديد، وكان طويل القامة آدم اللون، جعد الشعر، أحور العينين، بوجهه آثار الجدري، وله لحية حسنة خفيفة، فلم يهمها منظره، ولكنها أحبت مطاولته، فبالغت في إظهار التوجع من الصداع ولم تُجب، فالتفت يزيد إلى العجوز كأنه يستفهمها، فابتدرته قائلة: إن عروس مولانا تشكو من صداع أظنه يزول قريبًا. فقال: لا بأس عليها، وأرى أن تنتقلي بها إلى المقصورة في أعلى هذا القصر فتكون على مقربة من مجلسي، فإذا أردت أن أتفقَّدها في أثناء النهار سهُل ذلك، أو فلتُقِم هناك كي تنام وترتاح حتى نلتقي في المساء. قال ذلك وتحول حتى خرج من دار النساء إلى مجلسه. واغتبطت سلمى بهذا التأجيل، لعلها تتدبر حيلة تتمم بها ما تريده، وصعدت العجوز بسلمى على سلم من الرخام بجانب تلك الدار حتى أتت الطبقة العليا، ومشت في ممر وسلمى تتبعها حتى وصلت إلى غرفة مفروشة بأحسن الأثاث، وفيها الطنافس والوسائد والمقاعد، ولها نافذة تطل على الحديقة، فتحققت أن يزيد سيوافيها إلى هناك، وإذا همت بقتله فإنما تقتله في تلك الغرفة، فكيف تنجو بنفسها بعد ذلك، فأخذت تبحث وتفكر، فقالت للعجوز: لعل هذه الغرفة منفردة هنا؟ قالت: ليست منفردة ولكنها مقصورة خاصَّة بالخليفة يصعد إليها من باب خاص. قالت: هل ينام فيها أحيانًا؟ قالت: ربما نام فيها أحيانًا، ولكنه يجلس فيها لغرض سرِّيٍّ لا أرى مانعًا من البوح به لك. وذلك أن أباه معاوية كان لفرط دهائه وعلوِّ همَّته قد اتخذ هذه المقصورة مخبأ له يطل منه على المجلس من كوَّة صغيرة، فيرى أهل المجلس تحته وهم لا يرونه، فعل ذلك حتى لا تخفى عليه خافية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/9/
محاكمة عبد الرحمن
استبشرت سلمى بتلك المقصورة، عسى أن ترى منها ما سيدور بين عبد الرحمن والخليفة إذا جاءوا به للتحقيق معه، فقالت: وهل يجوز أن أطلَّ من تلك المقصورة لأشاهد مجلس الخليفة، فإني لم أرَ مجلسه قط. قالت: إن الخليفة لا يأذن في ذلك لأحد، ولكني لا أظنه يمنعه عنك، على أني أدلُّك على الكوَّة فتطلين منها على المجلس، وإذا جاء الخليفة لا تذكري له أنك فعلت ذلك. قالت: بورك فيك يا خالة، إنك والله لطيفة ومحبة، ولا غَرْوَ إذا ارتفعت منزلتك عند الخليفة. فانشرح صدر العجوز من هذا الإطناب، وزادت رغبةً في خدمتها، فقالت لها سلمى: وأين الباب السرِّي الذي يخرج الخليفة منه؟ فأمسكتها بيدها ومشت بها عدة خطوات، ثم دارت من وراء الغرفة فإذا هناك باب صغير فتحته وأرتها سلمًا ضيقًا وقالت: هذا هو الباب السرِّ، فاكتمي ذلك. قالت: وإلى أين يستطرق؟ قالت: إنه ينتهي إلى ممر طويل آخر في الحديقة الخارجية يُفتح من الداخل ولا يُفتح من الخارج إلا بمفتاح خاص. فتفرَّست سلمى في المكان، حتى تصورت المدخل والمخرج، ثم عاد إلى استطلاع أمر عبد الرحمن، ولكنها تظاهرت بعدم الاهتمام في بادئ الرأي وعادت إلى المقصورة وجلست إلى النافذة فأطلت على الحديقة والعجوز إلى جانبها تسليها بالأحاديث، وما لبثت أن تظاهرت بالملل وقالت للعجوز: دعينا نطل من الكوَّة لنرى مجلس الخليفة. فمشت العجوز أمامها حتى خرجت من الغرفة وتحوَّلت بضع خطوات على الطنافس المفروشة هناك فوصلت إلى وسادة صغيرة أزاحتها فانكشفت كوَّة صغيرة تطل على المجلس، فإذا به قاعة كبيرة مفروشة بالسجاد الملون، وعلى دائرها مما يلي الجدران وسائد جلس الأمراء عليها، بعضهم على وسائد مثناة وبعضهم على وسائد غير مثناة، أما يزيد فقد كان جالسًا في صدر القاعة على دكة مرتفعة من خشب العرر صب فيه الذهب، وعلى رأسه اثنان بأيديهما الجراب، وفي يده قضيب الخلافة، وعلى كتفيه برد خاص بالخلفاء، ورأت على نوافذ القاعة ستورًا من الأطلس المزركش بالكتابة اليونانية التي ذكرناها. فتأملت في هيئة ذلك المجلس فلم تجد فيه ما كانت تتوقعه من الهيبة والوقار إذ كان أهله يخاطب بعضهم بعضًا حتى علت ضوضاؤهم، وسمعت بعضهم يقهقه ويزيد لا يعبأ بقهقهتهم، وكان موليًا وجهه إلى ابن زياد يخاطبه سرًّا وهو يضحك. ثم صاح بغتة قائلًا: يا غلام، فدخل رجل كان واقفًا بالباب ووقف متأدبًا، فقال يزيد: قل لمن في بابنا من الشعراء إننا لن نقابل أحدًا اليوم، وقبل أن ينطلق الغلام استوقفه وقال: ثم إننا نريد أن نرى ذلك الغلام الذي همَّ بقتلنا، إليَّ به. فخرج الغلام ثم عاد ووراءه عبد الرحمن مكبلًا بالحديد، فلما رأته سلمى ارتعشت مفاصلها لما خافت عليه من فتك يزيد. ••• جيء بعبد الرحمن إلى مجلس الخليفة، فلما توسط القاعة، التفت يمنة ويسرة وهو يتفرس في وجوه الحاضرين، ولا يبالي بما يتهدده من الخطر، وكانت سلمى ترقبه من خلال الكوَّة، فأعجبت برباطة جأشه ولبثت تنتظر ما يكون من أمره، وقلبها يخفق إشفاقًا مما قد يصيبه من الأذى. فناداه يزيد قائلًا: ممن أنت يا رجل؟ فقالت عبد الرحمن: من هذه الساحة. فابتدره عبيد الله بن يزيد قائلًا: أيسألك أمير المؤمنين عن نسبك فتجيبه بهذا الجواب؟! قال: هو الذي يسألني، وهذا جوابي. قال عبيد الله: يظهر من وقاحتك أنك لا تدري من هو الذي يخاطبك. قال: أعرفه، إنه يزيد بن معاوية. قال: قل أمير المؤمنين. فقطع يزيد كلام ابن زياد وقال: دعه يا عبيد الله، ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما الذي حملك على هذه الخيانة؟ قال: ليست خيانة، وإنما هو عمل صالح حملني عليه يقيني مما وراءه من خير للإسلام والمسلمين. فشعر يزيد بأن الرجل ينوي التصريح بأمور مهينة، ورأى من الدهاء أخذه بالحيلة على غرار ما كان أبوه معاوية يصنع في مثل هذه الحال، ومعاوية هو القائل: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فلما قيل له: وكيف ذلك؟ قال: «إذا هم شدوا أرخيت، وإذا هم أرخوا شددت». وكثيرًا ما كان معاوية يتحمل من أتباع علي كلامًا غليظًا ويصرفهم راضيًا، وما ذلك إلا من كثرة دهائه. ولم يكن يزيد مثل أبيه، ولكنه أراد أن يتشبه به، فقال لعبد الرحمن: ولكن ما يمنعك أن تقول من أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هذه الديار؟ قال عبد الرحمن: إنك تسألني سؤالًا لا دخل له في عقابك أو ثوابك، وإنما يكفيك أن تسمع كلامي وتأخذني بإقراري، وأنا أقول إنني جئت لقتلك. فضحك يزيد والتفت إلى ابن زياد وخاطبه خطابًا لم يفهمه أحد، ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال له: يظهر أنك مغرور، ونحن لا نرضى إلا أن نلتمس لك عذرًا، فقد يكون أحد أغواك، ويكفي للصفح عنك أن تلعن عليًّا. فلما سمع عبد الرحمن ذلك نسي أنه مقيد بين يدي الخليفة، فالتفت إليه وقال: إنك تطلب أمرًا مستحيلًا، وما عليٌّ ممن يجوز لعنه. فقال ابن زياد: اقبل النصيحة وأطع أمير المؤمنين؛ لئلَّا يصيبك ما أصاب أمثالك ممن ساقهم عنادهم إلى القتل، مثل حُجْر بن عدي و… فنظر عبد الرحمن إلى ابن زياد والشرر يكاد يتطاير من عينيه وقال: كأني بك يا ابن سمية تقتفي أثر ما فعله أبوك بحُجْر، وقد سعى في قتله زورًا؛ قتله لأنه لم يلعن ابن عم الرسول ﷺ، فإذا رأيت أن ترتكب أنت أيضًا مثل ذلك فاقتلني ولا تخوِّفني. إن عليًّا أولى بالمدح من سواه. فلما قال عبد الرحمن ذلك ضج المجلس، وعجب يزيد والحاضرون من جرأة ذلك الأسير المقيَّد. أما سلمى فقد كاد يضيع رشدها من عظم التأثر وهي تتقلب بين الإعجاب بشهامة ابن عمها وبين الخوف على حياته، إلى أن سمعت يزيد يقول له: قد أمهلناك يومًا آخر، فإذا لم ترجع عن غرورك أذقناك الموت. خذوه إلى السجن. فدخل الحرس ليأخذوه فقال: لا تؤجل عملًا إلى الغد؛ فإني أنا اليوم مثلي بالأمس وبالغد، لا أحيد عن الحق ولو قطعتموني إربًا إربًا. وكانت العجوز جالسة بجانب سلمى تسمع ما دار في المجلس، فلما أخرجوا عبد الرحمن قالت لسلمى: أرأيت مثل هذه الجرأة؟ ولكنها لا تفيده شيئًا، وغدًا يقتلونه. فلم تستطع سلمى صبرًا على سماع ذلك الكلام، ولكنها قالت في سرِّها: إذا بقيت يا يزيد حيًّا إلى الغد فاقتل عبد الرحمن، وعادت إلى الغرفة وقد ظهر عليها الاضطراب، ولكنها عادت إلى التظاهر بالتألم من الصداع، فأخذت العجوز تهوِّن أمره عليها، وتحاول الترفيه عنها، ثم قالت: ألم تُفِدك التعويذة يا حبيبتي؟ إنها لم تخنِّي إلا اليوم. فلم تجبها سلمى ولكنها أخرجت منديلًا من جيبها وعصبت به رأسها وهي تتظاهر بشدة الألم. فقالت لها العجوز: إذا كنت تشكين من الصداع الشديد فعليك بالفراش وتوسدي فيه وارتاحي. فأطاعتها وانثنت إلى فراش من الحرير الملون وعليه غطاء من الأطلس المزركش بالذهب كانت قد أعدته العجوز هناك بأمر يزيد، فتوسدته والتحفت الغطاء إلى رأسها، ولبثت لا تبدي حراكًا حتى ظنتها العجوز قد نامت، وهي إنما سكتت لانشغال ذهنها وقلقها وما تخافه على عبد الرحمن وعلى نفسها من الخطر. وفيما هي راقدة سمعت خطوات مفردة على السلم، فعلمت أن يزيد صاعد على السلم ليتفقدها ويسأل عن صحتها؛ إذ لا يجرؤ على الصعود إلى تلك المقصورة سواه، فاستعاذت بالله، ولكنها رأت أن تتظاهر بالرقاد؛ لأن الليل لم يدنُ بعد، وهي إنما تريد قتله ليلًا والناس نيام لتتمكن من الفرار. وبعد هنيهة وصل يزيد إلى باب المقصورة، فأسرعت العجوز إليه واستقبلته لدى الباب وهي تشير له أن يمشي الهوينى ولا يتكلم؛ لأن عروسه نائمة. فخفف الوطء واستفهم عن سبب نومها فقالت: إن الصداع اشتد عليها فعصبت رأسها وتوسدت ويظهر أنها نامت، ولكنها ستفيق بعد قليل ولا أثر للألم في رأسها، والنوم أنجع دواء للصداع. فمشى رويدًا رويدًا حتى أقبل على الفراش ودنا من رأسها وكان مغطًّى وهي ساكنة وعيناها مغمضتان، وقد أشرق محيَّاها وزاده الدفء إشراقًا، فلم يتمالك يزيد عند رؤيتها عن الإعجاب بذلك الجمال الجاذب، وحدثته نفسه بأن يوقظها ويجلس إلى جانبها، ولكن العجوز أومأت إليه بأن يتركها لتنام، وأمسكته مشت به إلى جانب النافذة وقالت له همسًا: لا تستعجل يا مولاي، إن العروس عروسك تتمتع بها متى شئت. دعها لتنام الآن وتستريح، فإذا جاء الليل كانت كما تشاء. فقال: ولكنني لا أريد منها إلا قبلة. قالت: لم يكن ثمَّة بأس من ذلك لولا مخافة استيقاظها. فقال لها: هل أدخلتها الحمام؟ قالت: نعم يا سيدي، كن في راحة من هذا القبيل واذهب إلى مجلسك. فقال لها: أعدِّي لنا ما نحتاج إليه من الشراب والطعام لنقضي الليلة في هذه المقصورة. قالت: سمعًا وطاعة. وسارت في أثره. فأدركت سلمى ذهابهما ففتحت عينيها ونظرت إلى جوانب الغرفة فلم تجد أحدًا، وكانت في أثناء رقادها تفكر في طريقة الاحتيال لقتل يزيد، فلما علمت بعزمه على المبيت في تلك المقصورة، وسمعت استفهامه عن دخولها الحمام أخرجت الخنجر من جيبها ودسَّته تحت الفراش بحيث تصل يدها إليه متى شاءت، ثم نهضت ورأسها معصوب وقد تعاظم قلقها على عبد الرحمن. ومشت إلى الكوَّة المطلة على مجلس الخليفة وأطلت منها عليه، فلم ترَ يزيد هناك، ثم ما لبث أن دخل ومعه رجل لم يقع نظرها عليه حتى ارتعش جسمها وارتعدت فرائصها؛ إذ كان شمر بن ذي الجوشن. فاستعاذت بالله من وشايته، ولكنها أصبحت لا تخاف شيئًا في سبيل الانتقام لأبيها وخطيبها. ورأت يزيد يرحب بشمر ويدعوه إلى الجلوس بجانبه، فلم يجرؤ أن يجلس على الوسادة المثناة ولكنه تربع على البساط بين يدي يزيد. فقال له يزيد: لماذا لا تدنو من مجلسنا وأنت أول من نبَّهنا إلى الخطر الذي نجَّانا الله منه بالأمس؟ قال: إن صنيعة مولانا لم يفعل إلا بعض الواجب عليه، ولا فضل له فيه، وقد بايعنا أمير المؤمنين على الطاعة، وإن دماءنا وأرواحنا وأموالنا فداء له. فضحك يزيد ومشط لحيته بيساره والدِّرَّة في يمينه وقال له: بورك فيك يا شمر، إنك أبيض الوجه أبيض الخصال، وسوف تنال ما تستحقه. فقبَّل شمر الأرض وقال: أرجو أن ينال ذلك الخائن أيضًا ما يستحقه. قال: إنه سينال جزاءه بعد أن نرى ما في اعترافه؛ فلعل له شركاء إذا أطلعنا على مخبآتهم أمنَّا شرَّهم. قال: ألم يسأله أمير المؤمنين عن نسبه؟ قال: سألناه فلم يُجب، فأمهلناه إلى الغد. فوقف شمر والسرور بادٍ على وجهه وقال: إذا أمرني مولاي أخبرته بنسبه، ولا أظنُّه بعد ذلك إلا آمرًا بقتله في هذه الساعة. فلما سمعت سلمى كلام شمر اهتزت كل جوارحها، ولم تعد تستطيع الوقوف من شدة الاضطراب، ولعنت ذلك الرجل وساعة قدومه، ولكنها تجلَّدت لترى ما يكون، فإذا بيزيد يقول: من هو؟ قل. قال: ألا تعرف حُجْر بن عدي؟ قال: أعرفه بالسماع. قال: هذا ابن أخيه، ويزعم هذا الغادر أنه سينتقم لعمه من أمير المؤمنين. فهبَّ يزيد من مجلسه وصاح قائلًا: أصحيح ما تقوله يا شمر؟ قال: إني لا أقول غير الصدق، وإذا حضر الآن فقأت حصرمًا في عينيه. فضج المجلس وصاح يزيد: ايتوني به. وما لبثوا أن جاءوا بعبد الرحمن وعليه الأغلال والقيود فوقف بين يدي يزيد لا يبالي، فنظر يزيد إلى شمر وأومأ إليه أن يسأله، فالتفت شمر إلى عبد الرحمن وقال له: لقد سألك أمير لمؤمنين عن نسبك فلماذا لم تُجب؟ فنظر عبد الرحمن إلى شمر وحملق فيه وهو لا يعبأ بما يتهدده من الخطر في ذلك الوقت وقال: لم أُخفِ نسبي خوفًا على حياتي، ولا أرى في نسبي إلا ما يدعو إلى الافتخار. قال شمر: قل إذن من أنت؟ فرفع عبد الرحمن صوته وقال: إني من كندة، واسمي عبد الرحمن، وعمي حُجْر بن عدي الذي قتلتموه ظلمًا وعدوانًا. فتعجب يزيد من جرأته وقال: أتقول ذلك ولا تخاف؟ قال: ممَّ أخاف وقد أقررت بعزمي جهارًا؟ وكان ابن زياد جالسًا بجانب يزيد يسمع ما يدور بينهما، فلما سمع قوله أراد مطاولته فقال: إنك مصاب في عقلك، فأقلع عمَّا أنت فيه، فإن حلم أمير المؤمنين لا يضيق عن وقاحتك، فاستغفر لذنبك وارجع عن غيِّك. قال: مه يا ابن زياد، لا تتوسط في استبقائي، ولا تذكروا حلمكم؛ فما لي حاجة إليه. قال يزيد والغضب ظاهر في وجهه: قد كنا أجَّلنا قتلك إلى الغد لعلك تتوب وتندم على وقاحتك، فإذا أنت مستعجل أجلك، فاعلم أنك مقتول قبل أن تطلع شمس الغد. خذوه إلى السجن وأروني رأسه في الصباح. ولما همُّوا بجرِّه إلى السجن قال شمر: فليأذن لي مولاي أن أقتله بيدي. قال: اقتله وأتني برأسه غدًا، إلا إذا رجع عن غيه واستغفر ولعن أبا تراب. فلما سمع عبد الرحمن ذلك جذب يده ممن كان ممسكًا به، وحوَّل وجهه إلى يزيد وقال: اقتلوني الآن عسى أن ألقى عليًّا وحُجْرًا على عجل، وإذا كان لا بدَّ من تأجيل قتلي فلا أرضى بالموت قبل أن أؤدي شهادتي على رءوس الملأ، فاعلموا يا بني أمية أنكم توليتم هذه الخلافة بغير الحق، وأخرجتموها من أهل بيت الرسول بالحيلة، وحاربتم من هو أحق بها من سائر المسلمين، ولم تفوزوا بها من دونه إلا لرغبتكم في الدنيا ورغبته في الآخرة، ولسوف تلقون عاقبة ما جنته أيديكم. فانتهره ابن زياد قائلًا: أتقول ذلك جهارًا يا خائن؟ فالتفت عبد الرحمن إليه وصعد الدم في رأسه واشتد غضبه وتذكر ما افتراه زياد والده على عمه حُجْر حتى تمكن من قتله فقال: لا تذكر الخيانة؛ فما هي إلا من شأنك وشأن أبيك من قبلك، وليس في هذا المجلس أحد لا يعرف أباك زيادًا وأمه سمية، وكلهم يعرفون لماذا سمَّوه ابن أبيه. اذكر يا عبيد الله شهادة أبي مريم خمار المدينة، ألم يقل: إن جدتك سمية كانت بغيًّا من بغايا المدينة؟ هل وصلت أنت وأبوك إلى هذا المجلس إلا بفضل بغائها؟ وما في هذا الجمع من يجهل أن معاوية لم يستلحق زيادًا بنسبه ولم يرضَ به أخًا لأبيه إلا لاستخدامه في إيذاء أهل البيت، فإذا رضيت بهذا الاستلحاق فإنما هو شهادة على قذارة أصلك، وإن لم ترضه فأخبرني ما هو نسبك؟ أتزعم أني خائن؟! وهل الخائن إلا من عرف الحق وانحرف عنه طمعًا في الدنيا كما فعل أبوك وأمثاله، وكما فعلت أنت وأمثالك؟ فلا غرو إذا استغربت المجاهرة بانتصاري للحق، وهي شهادة حق أموت في سبيلها، وإذا مت فإن عظامي تنادي بها من أعماق القبر. فضجَّ الناس، وتشوش المجلس، والكل معجبون بتلك الجرأة، ثم تقدم شمر إلى يزيد وهو يقول: إلى متى يصبر أمير المؤمنين على هذه الوقاحة. مُرني فأقطع رأسه في هذه الساعة. فصاح فيه عبد الرحمن: اقتل، جرد سيفك، إنكم ما قتلتم من قتلتموه من أنصار الحق إلا بمثل هذا؛ تتكاتفون على الرجل عشرات ومئات، اقتل قتلك الله. ثم التفت إلى يزيد وقال: أتظنون قتل رجل مثلي يؤيد سلطانكم؟! وأشار إلى عمامته وقال: إن دون هذه العمامة ألوفًا من الرجال الصناديد سوف يذيقونكم مرارة ما جنته أيديكم، إن سلطانكم يا ابن معاوية لم يؤيَّد إلا بالحيلة؛ أطمعتم الناس بالدنيا فنصروكم، واستلحقتم زيادًا بنسبكم، وأطمعتم ابن العاص بمصر فنصركم، ولولاه ما بقيتم بعد وقعة صفين يومًا واحدًا، ولولا فعلته بالأشعري في مجلس التحكيم لم تقم لكم قائمة، ولكن دهاء معاوية غلب دهاءه فاستخدمه في مصلحته، فأطعمه مصر وأكل هو الشام وغيرها، ولكنها لقمة لن تهضموها، وسوف ترون ونرى. وقبل أن يتم كلامه قال يزيد: خذوه إلى السجن وأتوني برأسه في الغد باكرًا. قال ذلك وهو يضحك مستخفًّا، فساقوه، فمشى وهو يرسف في قيوده بخطوات ثابتة، ولا تسل عمَّا أصاب سلمى؛ فقد أخذها الاضطراب والجزع واغرورقت عيناها رغمًا عنها، ولكنها فرحت بما أبداه عبد الرحمن من الأنفة والجرأة، فلما خرج من المجلس انخلع قلبها، وتعاظم قلقها. عادت إلى ثباتها وعللت نفسها بقتل يزيد في ذلك المساء قبل أن يقتل خطيبها، وكانت إلى تلك الساعة تتهيب جريمة القتل لغلبة غريزة النساء عليها، فلما سمعت ما دار بينهم وبين عبد الرحمن هان عليها كل أمر، واشتد بها الهياج. وبعد هنيهة دخلت العجوز ووراءها جماعة يحملون آنية الطعام والشراب، فمدوا السماط ووضعوا فوقه الآنية من الذهب والفضة، وفيها الدجاج المشوي وأنواع اللحوم والحلوى والفاكهة، وصُفَّت الأقداح، فتظاهرت سلمى بأنها استيقظت لتوِّها، ثم رفعت الغطاء عن رأسها فوقع نظرها على ذلك السماط وعليه أنواع الأشربة وألوان الطعام، ورأت بجانب السماط طنبورًا فتذكرت ما كانت تسمعه عن اشتغال يزيد بشرب الخمر وضرب الطنابير. أما العجوز فلما رأتها ترفع الغطاء عن رأسها تفرَّست فيها فرأت وجهها قد زاد احمرارًا وتوردت وجنتاها، وازدادت هيبة وجمالًا، فأسرعت إليها وقبلتها بين عينيها وقالت: هنيئًا لأمير المؤمنين متى فاز بمثل هذه القبلة، وهنيئًا لك ما ستحوزينه من المكانة الرفيعة عنده. فظلت سلمى ساكتة ولم تُبدِ حراكًا، فظنتها لا تزال تشكو الصداع فقالت لها: كيف تشعرين الآن يا بنية؟ قالت: إني أحسبني أحسن قليلًا. قالت: وسيزول بقية الألم متى جلس الخليفة إلى جانبك الليلة وسمعت ضربه على هذا الطنبور، فإننا قد أعددنا لك كل شيء بأمره. ولم تتم كلامها حتى فاحت رائحة البخور، وسمعت وقع أقدام خفيفة خارج الغرفة، فتحركت في فراشها، فقالت لها العجوز: لا تجزعي يا حبيبتي، إن الخليفة لم يأتِ بعدُ، وأما الذي تسمعين وقع أقدامه فهو رجل يحمل البخور، سيضع مبخرته هنا ويعود، فأرخت سلمى خمارها على رأسها ونظرت من خلاله إلى القادم فإذا هو رجل عليه قباء من الأطلس الأحمر وعلى كتفه كساء أصفر مزركش، وعلى رأسه شاش وعلى كتفه الأخرى مخلاة من الحرير الأخضر ملآنة بالعود، وفي يده مبخرة من الذهب الأحمر فيها نار يلقي فيها من العود فيتصاعد منها الدخان حتى ملأ المكان برائحة العود، ثم وضع المبخرة بباب المقصورة وكرَّ راجعًا بينما اشتغلت العجوز بوضع الوسائد حول تلك المائدة، وأتت بقوائم من الذهب مغروس في رءوسها وجوانبها شموع فيها الأبيض والأحمر والأخضر، وأوقفتها وسط السماط ولم تشعلها لأن الليل لم يقبل بعد. كل ذلك وسلمى مستكنَّة في الفراش غارقة في الأفكار والهواجس، وهي ترجو ألا يحضر مجلسهم تلك الليلة أحد غير يزيد. ولما غابت الشمس همَّت العجوز بالشموع فأنارتها فأضاءت الغرفة، ولبثت في انتظار يزيد، وكانت العجوز تتوقع قدومه قبل الغروب، فلما غابت الشمس ولم يأتِ استبطأته فقالت لسلمى: يظهر أن مولانا الخليفة قد شُغل عنا، وأنا لا أظن في الدنيا شيئًا يشغله عن هذا المجلس، فأوجست سلمى خيفة من سبب تأخره وحسبت لذلك ألف حساب.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/10/
يزيد، وسلمى
ثم سمعتا وقع أقدام يزيد على السلم، قالت العجوز: هو ذا آتٍ والحمد الله، فلما سمعت سلمى ذكره اختلج قلبها في صدرها وتحقق دنوُّ الخطر العظيم، فتجلَّدت وجلست في الفراش، فقالت لها العجوز: انهضي من الفراش الآن؛ فليس هذا وقته، واجلسي إلى المائدة، ولم تكد سلمى تهمُّ بالجواب حتى دخل يزيد وقد بدل بثيابه ثيابًا خفيفة، وعلى رأسه عمامة صغيرة، فلما أقبل على المائدة رأى سلمى لا تزال في الفراش فقال لها وهو يبتسم: لعلك لا تزالين مصدوعة؟ فلما سمعت كلامه تفرَّست في وجهه فإذا هو قد تغيَّر وعلاه الاضطراب، فانزعجت وحدثتها نفسها أنه يضمر شيئًا، وخافت أن يكون قد اطَّلع على سرِّها؛ لعلمها بما في نفس شمر بن ذي الجوشن عليها، ولم ترَ بدًّا من التجلُّد والتكلُّف، وكانت كبيرة العقل قوية الإرادة فتجاهلت ما يبدو على يزيد من القلق وجلست كأنها تتأهب لمسامرته. أما هو فحالما نظر إليها أشرق وجهه وزال انقباضه وبدا الارتياح على وجهه، وكانت العجوز واقفة بين يديه فقال لها مازحًا: تعالي يا عجوز النحس واملئي القدح من هذا الشراب واسقي سلمى؛ فإنه شراب لذيذ. فملأت العجوز قدحًا من شراب أحمر وقالت لها: اشربي، إنه مصنوع من عصير التفاح، فلا تخافي. فتحيرت سلمى إذ لم يكن لها عهد بالشراب، ولم تكن تريد أن تذوقه، ولكنها تناولت الكأس ولبثت تنتظر ما يفعله يزيد فإذا هو قد صبَّ قدحًا آخر من زجاجة أخرى فيها شراب أصفر وقال: وهذا من عصير البلح، وشرب فتظاهرت هي بالشرب وصبت الكأس في ثيابها. فلم يستقر الشراب في جوف يزيد حتى غلب عليه المرح ودنا من فراش سلمى والطنبور بيده يضرب عليه ويطرب، والعجوز تقطع اللحوم وتناولهما وتصب لهما الأشربة وسلمى تحبب إليه الشراب عسى أن يسكر فيهون عليها الفتك به. وكان شمر حينما علم بعزم الخليفة على الاقتران بسلمى قد اعتزم الوشاية بها انتقامًا لما ناله من جفائها، فلما رأى موكبها قادمًا إلى دمشق وتحقق دخولها القصر ووقوعها من يزيد موقع الاستحسان، أخذ في إعداد المكيدة، فاغتنم فرصةً رأى فيها يزيد خارجًا وحده من المجلس إلى المقصورة فاعترضه وهمس في أذنه: إن عروسك لا يُركن إلى قلبها فاحترس على نفسك منها. وكان يزيد مسرعًا إلى لقاء سلمى وقد أخذ الشوق منه مأخذًا عظيمًا، فأثرت كلمات شمر تأثيرًا لم يطل مكثه طويلًا، ولم يكد يجلس إليها ويتأمل محيَّاها حتى نسي الوصية، ولا سيما بعد أن دارت برأسه سَوْرَة الخمر، ولم يعد يرى من الدنيا شيئًا غير ما في مقصورته. أما شمر فلما طال مقام يزيد مع سلمى في تلك الخلوة ولم يسمع شيئًا جديدًا اشتد به الحسد مخافة أن تكون سلمى قد تسلطت على قلب يزيد وأنسته حاله، وندم لأنه لم يصرح له بحقيقة نسبها وأنها ابنة عم عبد الرحمن وخطيبته فيتحقق خيانتها ويخاف غدرها، وأصبح شمر لا يهدأ له بال. وفكر في سبيل ينال به بغيته، وهو يعلم منزلة عبيد الله بن زياد من يزيد، فسار إليه، وكان ابن زياد في غفلة عن علاقة سلمى بعبد الرحمن، ولكنه بات كاسف البال لفشله في خطبته سلمى، وقد شق عليه خروجها من يديه، ولم يكن أطول من تلك الليلة عنده. فلما انفضَّ المجلس وعلم عبيد الله بذهاب يزيد إلى المقصورة وأن سلمى هناك في انتظاره ثارت الغيرة في قلبه، وكان قد أوى إلى غرفته في القصر وتوسد الفراش ولكنه لم يجد إلى الرقاد سبيلًا، وكلما تذكر سلمى وجمالها وتصوَّر قربها من يزيد، وكان يعتقد ضعفه ولا يحترمه إلا لأنه الخليفة، اقشعرَّ بدنه لفرط غيرته. وقضى في غرفته بضع ساعات وهو في قلق شديد يغالب عواطفه ويهوِّن الأمر على نفسه، وفيما هو في تلك الهواجس دخل عليه خادمه وهو يحسبه نائمًا، فلما رآه مستيقظًا قال له: إن شمر بن ذي الجوشن بالباب. فقال: دعه يدخل، وجلس في الفراش وأمر الخادم فأضاء السراج. فدخل شمر وعلى وجهه علامات الاهتمام، فابتدره عبيد الله بالاستفهام عمَّا وراءه، فقال: لقد أتيتك في أمرٍ ذي بال. قال: وما هو؟ قال: أنت تعلم عزم الخليفة على الاقتران بتلك الفتاة الحسناء. فلما سمع ابن زياد الإشارة إلى سلمى اختلج قلبه في صدره وأصاخ بسمعه وقال: أعلم ذلك، ثم ماذا؟ قال: أتعلم من هي هذه الفتاة؟ قال: لا أعلم إلا أنها غريبة، وأظنها من العراق. قال: نعم إنها عراقية، ولكن من هو أبوها؟ قال: أليس هو الكهل الذي كان معها في الدير؟ وهب أنه ليس أباها، فماذا في هذا؟ قال: إن معرفة أبيها تهمُّنا جميعًا، ولو عرفه أمير المؤمنين ما اقترب منها. فاستغرب عبيد الله ذلك القول وقال: ومن عسى أن يكون أبوها؟ قال: إنه حُجْر بن عدي. ولم يتم كلامه حتى بانت البغتة في عيني عبيد الله، وصمت برهة ثم قال: أواثق أنت بصدق ما تقول؟ فابتسم شمر وقال: إني أعرفها وأعرف أباها وعمها وكل أهلها، وقد صحبتها … فقطع ابن زياد كلامه قائلًا: إذن عبد الرحمن ابن عمها؟ قال: نعم، وهو أيضًا خطيبها، وقد قدما ومعهما الرجل الكهل الذي ذكرته، وهو الوصي عليهما، فأقاموا في دير خالد يتربصون للفتك بأمير المؤمنين، وهذا ما ساعدني على كشف أمر الرجل وإيقاعه في الشرك وهو يهمُّ بتلك الجريمة. فبهت عبيد الله وصدق كلام شمر مما لاحظه من القرائن الأخرى، فقال له: لماذا لم تطلع الخليفة على هذا السر؟ إني خائف أن يكون قبولها الزواج بالخليفة مكيدة، وأخشى أن تكون عازمة على الفتك غدرًا بأمير المؤمنين. قال: لقد لمحت له تلميحًا، ولكنه لفرط شغفه بها وسرعته في الذهاب إليها لم يدع لي مجالًا للكلام أو زيادة التفصيل. قال: لا أستبعد أن تكون ناوية قتله، ولا سيما إذا كانت ثابتة على رأيها ثبات ابن عمها، وقد شاهدنا ما كان من عناده في هذا النهار، أو أن تكون كأبيها الذي قتله عناده لأنه لم يلعن عليًّا كما تعلم، وما العمل الآن؟ يجب أن نبلغ الخليفة الأمر لئلَّا نلوم أنفسنا فيما بعد. قال: الرأي رأيك، ولا بدَّ من البت في الأمر قبل انقضاء الليل. فأطرق عبيد الله برهة ثم نهض من فراشه بغتة وقال: إليَّ بفتحٍ خَصِيِّ أمير المؤمنين؛ لأنفذه إليه الآن. فأسرع شمر حتى أتى غرفة «فتح» بباب دار النساء، فأيقظه ودعاه إلى عبيد الله، فنهض حتى دخل على ابن زياد وهو يخطر في الغرفة، فلما أقبل عليه ناداه وقال له: اذهب إلى الخليفة الآن على عجل، وقل له إني أريد أن أخاطبه في أمر ذي شأن. فضحك «فتح» وقال: كأنك لا تدري أين هو الليلة؟ قال: إني عالم بمجلسه، ولولا ذلك لدخلت عليه وكلمته. قال: وكيف أدخل عليه وهو في مجلس طرب وسرور وقد أوصى أن يُترك وحده؟! ليس يجسر على الصعود إلى المقصورة أحد. قال: أما أنت فتدخل، وهو إنما ادَّخرك لمثل هذه الليلة، وتلك مزيَّة الخصيان، فامضِ إليه على عجل لأن الوقت ضيق وقل له: إن عبيد الله يريد أن يراك الآن. قال: وإذا انتهرني ولم يسمع كلامي؟ قال: خوِّفه بما شئت. قل له إن عبيد الله يطلب مقابلتك في أمر ذي بال يمس الخلافة، ولكن لا تقل له ذلك على مسمع من أحد. امضِ يا فتح عاجلًا. فأسرع فتح وهو يتعثر بأذياله حتى صعد إلى المقصورة، فرأى الباب مغلقًا، وسمع يزيد يضرب بالطنبور ويقهقه، فوقف برهة وقلبه يخفق مخافة أن يغضب الخليفة إذا دعاه، فلبث مدة يتردد حتى كاد ينثني عمَّا جاء لأجله، ثم تذكر إلحاح عبيد الله فهان عليه الأمر ودنا من الباب وقرعه. وكان يزيد في إبَّان نشوته، وقد اتَّكأ بجانب سلمى وأسند رأسه على صدرها وتمثلت له السعادة على أبهج حالاتها، فلما سمع قرع الباب أجفل وجلس وصاح: من بالباب؟ فأجابه فتح: أنا عبدك فتح. فصاح يزيد: اذهب فتح الله قبرك، لقد أزعجتني. قال: أتيت لأمر ذي بال لمولاي أمير المؤمنين. فضحك يزيد وقال له: دع الأمر إلى الغد وامضِ، ولو قرع هذا الباب أحد سواك لقتلته. قال: إني أعلم يا مولاي، ولكنني ألتمس من أمير المؤمنين أن يريني وجهه لحظة ثم يعود. فنهض يزيد والطنبور بيده وقد وقعت العمامة عن رأسه ووقف بالباب، فهمس فتح في أذنه: إن عبيد الله بن زياد يريد أن يكلمك في شأن يتعلق بالخلافة. فقال يزيد: قل له: إن موعدنا الغد. وهمَّ بالرجوع، فأمسكه بيده وقال له: لو استطاع تأجيله لما أزعج مولانا في مثل هذه الليلة، وقد استمهلته فألح عليَّ أن آتي إليك الساعة، وقد كنت مستغرقًا في نومي فأيقظني لهذا الأمر، وقد جئت وأنا أتوقع غضبك، ولكنني لم أرَ بدًّا من المجيء. فمشى يزيد والطنبور بيده وقد غضب على عبيد الله وعوَّل على توبيخه، ومشى فتح في أثره. ثم أمر فتحًا أن يسبقه ويدعو ابن زياد إليه. فهرع فتح حتى لقي ابن زياد واستقدمه، فجاء واستقبل الخليفة في ممر منعزل، وقبل أن يتكلم يزيد ابتدره عبيد الله قائلًا: أنا أعلم أني أزعجت أمير المؤمنين في ساعة طربه، ولكنني اطَّلعت على سرٍّ خطير لا يصح السكوت عنه إلى الغد، فهل يأذن مولاي الخليفة في خلوة؟ ••• بغت يزيد وسار في أثره إلى غرفة فيها شمعة مضيئة وليس فيها أحد، فلما خلا به قال: بلغني يا أمير المؤمنين أن عروسك التي حملناها إليك اليوم لا تقل خطرًا عن عبد الرحمن الذي تعمد قتلك بالأمس. فبغت يزيد وقال: وكيف ذلك؟ قال: لأنها ابنة حُجْر بن عدي، وعبد الرحمن ابن عمها وخطيبها. قال يزيد: ومن أنبأك بذلك؟ قال: أنبأني به شمر الذي كشف لنا الدسيسة الأولى فأخشى أن تكون سلمى هذه إنما أتت إلى منزل الخليفة لمثل الأمر الذي همَّ ابن عمها به. فأطرق يزيد ثم قال: سمعت مثل هذا التلميح من شمر، ولكنها أتيح لها أن تكون من نسائي، وقد تكون على غير ما تقولون. قال: قد يكون ذلك إذا عرفت النعمة التي خصَّها بها أمير المؤمنين، وقد تكون شريرة عنيدة مثل أبيها وابن عمها فترتكب أمرًا يسوء المسلمين ويهدد الإسلام. قال: كيف نعرف الحقيقة يا عبيد الله؟ قال: نعرفها من البحث بين أثوابها عن سلاح أو سمٍّ أو نحوهما مما يستعان به على مثل هذا المنكر. قال: لو كان معها شيئًا من ذلك لظهر لعجوزنا حين بدلت ثيابها في الحمام. قالت: وهل واثق مولاي من دخولها الحمام. قال: لا ريب في ذلك؛ لأني أوصيتهم أن يُدخلوها الحمام، وقد أكدت العجوز ذلك، ثم توقف عن الحديث وتذكر أنه لما سأل العجوز عن حمامها لم تجبه جوابًا صريحًا فقال: وسأسأل العجوز ثانية، فإن كانت لم تُدخلها الحمام فلا مانع عندي من التفتيش. قال ذلك وهمَّ بالخروج، فاستوقفه عبيد الله وقال: لا يكفي أن تبحث في أثوابها بل ابحث في كل الغرفة، فإذا وجدت شيئًا فلا تتسرع في الأمر، بل كن حازمًا مثل أبيك، وخذ الأمور بالتؤدة والحلم، وها أنا ذا منتظر حتى يأتيني أمر مولاي. كانت سلمى سمعت الخَصِيَّ يخاطب يزيد ويلح عليه في الانفراد به، أوجست خيفة، على أنها لم تتصور أنه جاء لمثل ذلك الغرض، وكأن نفسها حدثتها بشرٍّ يتهددها، فاختلج قلبها واصطكَّت ركبتاها، ولكنها تجلَّدت ولبثت تنتظر عودة يزيد، وقد أيقنت أن الشراب دار في رأسه ودنا الوقت المنتظر. وكانت العجوز قد انزوت في بعض جوانب الغرفة وغلب عليها النعاس فنامت. فلما عاد يزيد هشَّت له سلمى وابتسمت، وتوقعت أن يكلمها أو يجلس إلى جانبها فإذا هو يصيح بالعجوز، فأفاقت مذعورة وأسرعت إليه فأخذ بيدها خارج الغرفة، فلما خلا إليها سألها إذا كانت قد أدخلت سلمى الحمام، فتلعثمت وأقرَّت بأنها رأتها منحرفة الصحة، فعنفها ولكنه أوصاها بالسكوت، ودخل وجلس إلى سلمى فظنت لأول وهلة أنه عاد إلى ما كان فيه وليس هناك ما يوجب الشك، فإذا به قد مد يده إلى صدرها وجعل يجس جوانبها فأجفلت وخافت ولكنها ظنته يداعبها. أما هو فتظاهر بمداعبتها ولما لم يرَ معها سلاحًا قال للعجوز: ألم أقل لك: أدخليها الحمام؟ قالت: بلى يا مولاي، ولكنها كانت تشكو صداعًا فلم أشأ أن أزعجها. قال: خذيها الآن وها أنا ذا في انتظاركما، وأشار إليها أن تأخذها إلى غرفة قريبة في أول الممر. فتحيرت سلمى ولم تدرِ ماذا تصنع، ولكنها أطاعته وخرجت مع العجوز وهي لا تخاف الحمام؛ لأن الخنجر ليس معها. أما هو فأخذ يفتش في جوانب المقصورة حتى قلب الفراش ورأى الخنجر تحته، فلم يبقَ عنده شك في المكيدة فجعل ينتفض من شدة التأثر، وحدثته نفسه بأن يقتلها بذلك الخنجر. ولكنه تذكر كلام ابن زياد وأسرع إليه والخنجر في يده وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا. على أن شغفه بسلمى وإعجابه بها ما لبثا أن هوَّنا عليه التماس العذر لها فقال: ولكنني مع ذلك لا أرى أن آخذها بالشبهة؛ إذ قد يكون هذا الخنجر هناك اتِّفاقًا، وهب أنها تعمَّدت قتلي، فهل من المستحيل أن تندم وتتوب؟ فأدرك عبيد الله غرض يزيد، واستصوب رأيه فقال: لقد أصاب مولانا، والرأي عندي أن نبعث إليها من يسألها عن هذا الخنجر وسبب وجوده معها، فإذا أقرت بجريمتها عنَّفها وحرَّضها على التوبة والتماس العفو منك، فإن فعلت بقيت وإلا فالأمر لك. فقال يزيد: نعم الرأي هذا، ولكنني لا آمَن أن أعهد في هذه المهمة إلى سواك لعلمي بحكمتك ودهائك. فلم يكد عبيد الله يسمع ذلك حتى أسرع إلى الغرفة التي كانت سلمى فيها، وكانت لما نزلت إلى تلك الغرفة والعجوز معها، ولم تجد هناك شيئًا من معدات الحمام أدركت أن أمرها لم يبقَ مكتومًا، وأنها إنما سيقت إلى هناك لأمرٍ يوجب الخوف، فلم تعد تعبأ بشيء وقد يئست من الحياة. ولولا تذكرها عبد الرحمن لما ترددت لحظة في الانتحار، وكانت العجوز أيضًا مندهشة ولم تفهم معنى هذا الانقلاب، ولم يستقر بهما المقام هناك حتى جاء ابن زياد وقرع الباب فخرجت له العجوز، فقال لها: أين سلمى؟ قالت: وماذا تريده منها؟ قال: أريد أن أبلغها أمرًا من أمير المؤمنين. قالت: هي هنا، وأشارت إلى داخل الغرفة. ••• دخل عبيد الله وقد خبَّأ الخنجر تحت ردائه، وكانت سلمى لما سمعت صوته تطيَّرت وأرخت النقاب على رأسها، فلما أقبل عليها ورأى جمالها قال في نفسه: حرام أن يُمس هذا الجسم بسوء، فتلطَّف في الكلام وقال: لقد جئت من قبل أمير المؤمنين أسألك عن أمرٍ أرجو منك أن تجيبيني عنه بالصدق والصراحة. فظلت سلمى ساكتة مطرقة، ولكن قلبها اشتد خفقانه، فلما لم تُجب مدَّ عبيد الله يده إلى جبيه وأخرج الخنجر وقال لها: أتعرفين هذا الخنجر يا سلمى؟ فلما رأت الخنجر تحققت فشلها وأيقنت أنها ذاهبة ضحية جرأتها، فامتقع لونها وظلت مطرقة لأنها لم تجد جوابًا. فاستبشر عبيد الله بسكوتها خيرًا وقال لها: يظهر أنك نادمة على تهجُّمك في مثل هذه الحال، والعاقل من رأى العبرة فاعتبر. أمَا كفَاك ما رأيت من فشل عبد الرحمن وطيشه حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة، ولا ريب أنك إنما أقدمت على ذلك بإغراء من بعض الجهال، فإن من كان عنده ذرَّة من العقل لا يفعل فعلتك. أيطلبك الخليفة لتكوني عروسًا له فتتعمدي قتله وأنت تعلمين أن حوله الجند والرجال؟! فإذا قلت أنك عالقة بذلك الشاب الجاهل فاعلمي أنه قُتل وأصبح في عداد الأموات منذ ساعتين. ولم يكن عبد الرحمن قُتل بعدُ، ولكن عبيد الله ظن يأسها منه يقرِّب رضوخها، لكنه لم يكد يتم هذا القول حتى شهقت سلمى شهقة أجفل لها عبيد الله وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وملكها اليأس والأسى على حبيبها، ولذهاب آمالها أدراج الرياح. فلما سمعها عبيد الله تبكي ظنها ندمت على ما فرط منها، فجلس بجانبها على وسادة وقال مترفقًا: لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، وإذا كنت نادمة على ما فرط منك فأنا أتوسط في العفو عنك لدى أمير المؤمنين، وأظنه يعفو. فتوقفت عن البكاء، ولبثت صامتة، ثم تزحزحت من مكانها لتبتعد عن عبيد الله وقد تحول خوفها إلى غضب، وأصبحت بعد سماعها خبر موت عبد الرحمن لا تبالي الحياة بل تتمنى الموت، فحمل سكوتها محمل القبول وقال لها: وأنا أضمن عفو الخليفة عنك إذا أقررت بذنبك ولعنت أبا تراب. فلم تطق سلمى صبرًا على ما سمعت، ورفعت رأسها وقالت: اغرب يا ابن زياد عن وجهي. فقال وهو يمازحها: وهل ترين أن أبعث أمير المؤمنين لتأخذي العفو منه. قالت: ألا تزال تذكر العفو، وممن أطلبه؟ أمن يزيد بن معاوية ضارب الطنابير ومعاقر الخمور؟! وعلامَ أطلب العفو؟ ألكي أبقى حية وأنت تقول إنكم قتلتم عبد الرحمن؟! آه من ظلمكم وعتوِّكم! قتلتم عبد الرحمن وجئتم تلتمسون بقائي؟! اقتلوني فليس لي مأرب في الحياة بعد الذين ماتوا قبلي. قالت ذلك وقد اختنق صوتها وهي تتجلَّد ولا تريد أن يبدو الضعف عليها، وعبيد الله يعجب بجرأتها، وكان يختلس النظر إلى وجهها من خلال النقاب وهي تتكلم فسُحر بماء عينيها وملامح فمها، وهمَّ بمخاطبتها فرآها عادت إلى الكلام فقالت: ثم أنتم تجعلون لعن علي شرطًا للعفو، وأن عليًّا لأولى الناس بالفضل، دعوني من عفوكم وألحقوني بعبد الرحمن، ألحقوني به، اقتلوني، آه يا عبد الرحمن! قتلوك قتلة الصالحين! ولكن لك أسوة بأبي. ثم خنقتها العبرات. فأجابها عبيد الله وهو يخفف عنها: يظهر أنك لم تفهمي حقيقة حالك، إنك متعمدة قتل الخليفة، وهو إنما بعث لأقتلك فأشفقت على شبابك وأرادت الإبقاء عليك، فهل هكذا يكون جوابك؟! قالت: لا جواب عندي غير هذا. إذا كنت آتيًا لقتلي، فاقتلني، إن القتل يريحني، اقتلوني. فقطع ابن زياد خطابها وقال: أتفضلين القتل وخسارة الدنيا والآخرة على أن تلعني عليًّا أو على أن تستغفري لذنبك، وأنا واثق بأنك لم تقدِمي على هذا المنكر إلا بإغواء بعض الناس و … فقطعت كلامه وقالت: لم يُغوني أحد، ولكنني تعمَّدت قتله انتقامًا لأبي وابن عمي، وسعيًا في مصلحة المسلمين، ولم أقدِم على هذا إلا وأنا عالمة بما يهددني من خطر القتل، ولكني لم أوفق، فاقتلني، فما أنا خير ممن قتلتموه قبلي. فقال عبيد الله: إني أنصحك لوجه الله أن تُقلعي عن هذا العناد؛ فلا خير فيه، وقد أصبحت وحيدة لا نصير لك، فأشفقي على شبابك وأطيعيني، إني والله أضنُّ بهذا الوجه المليح أن يعفِّره التراب. قالت: لا تضنَّ بشيء لا يضنُّ به صاحبه، اقتلني أو أعطني هذا الخنجر فأغمده في أحشائي. قالت ذلك ومدت يدها إلى الخنجر، فأخفاه عبيد الله، وتحقق أن الكلام معها لا يجدي فتركها وعاد إلى يزيد. ••• وكان يزيد في انتظاره على مثل الجمر وهو يرجو أن ترجع سلمى عن عزمها وتعتذر وتبقى عروسًا له، فلما عاد عبيد الله قص عليه ما بدا منها فعاد يزيد إلى غضبه وقال: قبحها الله من خائنة منافقة. فلما رآه ابن زياد في هذه الحالة قال له: ماذا يرى مولاي أن نفعل بها؟ قال: أرى أن أقتلها حالًا بهذا الخنجر. قال: إنها تستوجب القتل، ولكني لا أرى أن تلوث يدك بدمها ولا أن تجعل أحدًا من أهل القصر يعلم ذلك. قال: وكيف إذن؟ أأعفوا عنها؟! قال: إذا عفوت عنها كان ذلك من حلمك وسعة صدرك، وكذلك كان يفعل أبوك رحمه الله، فقد كان يسمع الإهانة من نساء بني هاشم ورجالهم فيسكت عنها وهو قادر على الانتقام، وكثيرًا ما كان يقرِّبهم ويعطيهم العطيات، وهو دهاء امتدحه العقلاء عليه، وبه كان تأييد سلطانه، فإذا رأيت أن تترفع عن الانتقام من هذه الفتاة وتخرجها من قصرك اتِّقاء شرها فعلت ما هو جدير بابن معاوية بن أبي سفيان. قال: أتطلب مني الإفراج عن هذه الخائنة بعد أن تحققت عزمها على قتلي؟! لا أظن معاوية كان يفعل ذلك في مثل هذه الحال. قال: إذا لم يكن السكوت عنها ممكنًا فافعل ما بدا لك، ولكنني لا أريد أن يعلم أهل القصر أن هذه الفتاة تجرأت على الفتك بالخليفة لئلَّا يهون الإقدام على مثله في عيون الآخرين. قال: ما العمل إذن؟ قال: افعل كما كان يفعل أبوك، فإذا لم يكن سبيل إلى العفو بالحلم الواسع فهناك سبيل القتل بالعسل. ألا تذكر طبيبه النصراني ابن آثال؟ لقد كان أبوك يستخدمه في قتل أعدائه بالعسل المسموم. قال: سمعت ذلك ولكنني لم أتحققه. قال: ألا تذكر لما أراد أبوك رحمه الله أن يبايعك في حياته ما كان من أمر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؟ قال: وأي شيء تعني؟ قال: أعني أن أباك لما أراد أن يعهد في الخلافة إليك من بعده جمع أعيان أهل الشام إليه وقال لهم: إني قد كبرت سني ورقَّ جلدي ودقَّ عظمي واقترب أجلي، وأريد أن أستخلف عليكم، فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودسَّ ابن آثال الطبيب الذي ذكرته فسقى عبد الرحمن هذا قدحًا من العسل مسمومًا، فمات والناس يحسبونه مات بعلَّة، وفعل ذلك أيضًا بالأشتر، وكان علي بن أبي طالب قد أنفذه واليًا على مصر بعد قتل محمد بن أبي بكر، فأرسل أبوك إلى دهقان العريش من قال له: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة، فسقاه السم في العسل، فمات الأشتر وخلصنا من شره، وهكذا فعل أبوك أيضًا بالحسن بن علي لما رأى ما كان من حاله في أمر الخلافة، فبعث إلى جعدة بنت الأشعث زوجة الحسن بمن قال لها: «إن قتلت الحسن زوجتك يزيد.» فدسَّت له السم، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى أبيك تطالبه بك فأجابها: «إني أضن بيزيد». وقد مات في أيام أبيك كثيرون من أكابر الناس بهذه الحيلة، وكان ابن آثال هو الذي يركِّب لهم السموم ويمزجها بالعسل، فهل كان أبوك عاجزًا عن قتلهم بالسيف؟ كلا، ولكنه كان يرى السم أهون سبيلًا، حتى قال: «إن لله جنودًا من عسل.» فإذا كان لا بدَّ من قتل هذه الفتاة فما يمنعك من أن تفعل فعل أبيك؟ وما هي إلا جرعة تشربها فتموت، والناس يحسبونها ماتت بمرض أو نحوه، وهذا طبيبك أبو الحكم عالم بأنواع الأدوية، وله وصفات مشهورة، وكثيرًا ما كان أبوك أيضًا يستطبُّه ويعتمد عليه في تركيب العقاقير لمثل هذه الغاية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/11/
انتقام يزيد بن معاوية
لما فرغ عبيد الله من كلامه قال له يزيد: إليَّ الآن بأبي الحكم الطبيب. فخرج عبيد الله إلى غرفته، وكان شمر في انتظاره هناك، فلما رآه قال: ماذا فعل الخليفة؟ قال: لقد كشف المكيدة وتحقق قولنا. أتعرف منزل أبي الحكم الطبيب النصراني؟ قال: أعرفه، إنه بالقرب من هذا القصر. قال: سر إليه وأبلغه أن أمير المؤمنين يدعوه إليه الساعة. فسار شمر، وعاد ابن زياد إلى يزيد فرآه جالسًا وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا، فجعل يهون عليه ويهنئه بالسلامة قائلًا: نحمد الله على أن لطف بمولانا وكشف لنا نيَّات أعدائنا، فلا تطلع شمس غدًا إلا وقد قُتل هذان الخائنان وارتاحت البلاد من شرِّهما، وما ذلك إلا لأن الله مؤيد سلطاننا رغم أهل العناد. فانشرح صدر يزيد وقال: بورك فيك يا عبيد الله وبورك في شمر، إنه والله ذو فضل علينا، وسنولِّيه عملًا ينتفع به إن شاء الله. وبعد قليل سمعا وقع أقدام، فأدركا أن الطبيب قادم، ثم دخل شمر وهو يقول: إن الطبيب بالباب، فأمر يزيد بدخوله. وكان أبو الحكم شيخًا تدلت على صدره لحية بيضاء وبان الهرم على وجهه من تجعد بشرته، وقد تزمل بردائه على عجل ووضع القلنسوة على رأسه كيفما اتفق، فحيا الخليفة ووقف بين يديه، فابتدره هذا قائلًا: اجلس يا أبا الحكم، فلما جلس قال له: أتدري لماذا دعوناك؟ قال: لا يا مولاي. قال: دعوناك لنستعين بعلمك على رد كيد الخائنين أهل الغدر. قال: إني رهن إشارة أمير المؤمنين. قال: هيئ لنا جرعة عسل قاتلة، واسقها في الفجر لفتاة تراها جالسة مع عجوزنا في المقصورة. واحذر أن يعلم أحد بذلك. قال: اطمئن يا مولاي، إن هذا الأمر طالما قمت بأمثاله طوعًا لأمر أبيك ولم يعلم به أحد. قال يزيد: امضِ الآن وأعدَّ العقاقير واستعن بحبيبنا عبيد الله على ذلك. فوقف الطبيب وقبَّل يد الخليفة وخرج، ومضى الخليفة إلى فراشه، وسار عبيد الله إلى غرفته، وسُرَّ شمر بنيل بغيته. ••• فلنترك أبا الحكم يهيئ جرعة العسل، ولنعد إلى عامر وما كان من أمره بعد خروجه من الدير، وكان قد غادره مرغمًا وقلبه معلق بسلمى؛ خوفًا عليها مما عرَّضت نفسها له من الخطر العظيم. ثم قعد في مكان ظليل يشرف على المارَّة، حتى رأى موكب سلمى مارًّا إلى دمشق، فانصدع قلبه وندم على مجاراتها وخاف أن تقع في الفخ فتذهب جهودها هي الأخرى ضياعًا. ولبث في مكانه بالغوطة حتى توارى الموكب فلم يعد يستطيع صبرًا، ونهض فسار إلى دمشق وهو يفكر في سبيل يدخل به دار الخليفة ليستطلع أحوال عبد الرحمن وسلمى، وما زال ماشيًا حتى دخل دمشق، فتوجه إلى المسجد وهو يعلم أن دار الخليفة بجانبه، فلما أقبل على الجامع رآه مزدحمًا بالمصلين وقد وقف يزيد يخطبهم، فأخذ مكانه بينهم، وراح يتفرس في الوجوه لعله يرى أحدًا يعرفه ليستعين به أو يسترشده، فوقع نظره على فتًى قابع بجانب أحد أعمدة المسجد يسمع الخطبة. وخُيِّل إليه لأول وهلة أنه يعرفه، ولما تفرس فيه جيدًا تذكر أنه رآه في غير ذلك المكان، ثم ما لبث أن عرف أنه الفرزدق الشاعر المشهور، وكان يومئذٍ في أول العقد الرابع من عمره لم يتزوج من «نوار» بعدُ. وكان سبب معرفة عامر به أن غالبًا أبا الفرزدق جاء إلى الإمام علي بعد وقعة الجمل بالبصرة (سنة ٣٦ﻫ) ومعه ابنه الفرزدق وكان صبيًّا وقال لعلي: إن ابني هذا من شعراء مصر فاسمع منه، فأجابه علي: «علِّمه القرآن.» وكان عامر حاضرًا ذلك المجلس، ثم شاهد الفرزدق بعد ذلك بأعوام في الكوفة وقد صار شابًّا فذكَّره بما قاله الإمام فقال الفرزدق: «إن تلك الكلمة ما زالت ترنُّ في أذني، وقد قيَّدت نفسي يومئذٍ عن الشعر فآليت ألا أقوله حتى أحفظ القرآن.» وكان عامر يعلم أن الفرزدق يكتم تشيُّعه لأهل البيت، فرأى أن يستعين به، فلما انقضت الصلاة وتفرَّق الناس، تبعه ورآه يعرِّج نحو القصر، فاعترضه وأوقفه وحياه، فعرَّفه الفرزدق ورحَّب به، ودعاه إلى منزله، فلما اختليا شكا له عامر حاله وهو يبكي، فاستغرب الفرزدق حكايته وقال: ما العمل الآن؟ وما الذي أستطيعه؟ إن الأمر خطير كما ترى، ولو أن عبد الرحمن شاورني لأشرت عليه بألا يقدِم على ما أقدم عليه. إن الأمر قد استتب للقوم، ولا حيلة في النجاة من أيديهم، ولن يفيدنا التمرد شيئًا. فتنهد عامر وقال: إنني لم أحبذ إقدامه على ذلك، ولكن لا خيرة في الواقع، وإنما أريد أن أصحبك إلى مجلس الخليفة فأقف ببابه في جملة الشعراء، لعلي أسمع ما يحدث لعبد الرحمن. قال الفرزدق: أجعلك راويتي. وكان الشعراء في الجاهلية وأوائل الإسلام يصطحبون الرواة حيثما رحوا، ولك شاعر راوية يحفظ شعره ويروي له أقوال الآخرين، فإذا دخل الشاعر على الخليفة دخل راويته معه وجلسا متحاذيين. فاستحسن عامر هذا الرأي فتنكر في لباس الراوية، وخرج مع الفرزدق حتى دخلا دار الخليفة ووقفا مع الشعراء، ولم يأذن يزيد للشعراء بالدخول عليه في ذلك اليوم، وأخذ عامر يستطلع الأحوال ويتنسم الأخبار، ثم رأى عبد الرحمن لما ساقوه مغلولًا للمرة الأولى، وجاء بعض من كانوا معه فقصوا عليه نبأ ما ظهر من بسالته فأعجب بذلك. ولما استقدموه للمرة الثانية، جاء إلى عامر من أخبره بما كان من الأمر بقتله، فوقع في حيرة، وبحث عن الحجرة التي سجن فيها فعلم أنها حجرة واطئة كانت في عهد الرومانيين حمامًا لوالي دمشق، فأخذ يفكر في حيلة ينقذ بها عبد الرحمن، على أن يفكر في أمر سلمى بعد ذلك. وفيما هو يعلم فكرته تذكر الشيخ الناسك، فاستأذن الفرزدق وخرج مسرعًا إلى الغوطة حتى أطل على الدير فالتمس الناسك عند الجوزة، ولما سمع نباح الكلب قبل وصوله إليها استبشر وأسرع إلى الجوزة فرأى الناسك متكئًا فوق حجر، ولما اقترب منه عرفه فأرخى شعره على عينيه وصاح به: أين سلمى؟ قال: إنها يا سيدي في قصر يزيد، ولا أدري ما آل إليه حالها، وإنما جئتك في أمرٍ ذي بال لا أجد من أرجع إليه فيك سواك. قال: قل واتكل على الله. فقص عليه حديث عبد الرحمن باختصار، ثم قال: وسيقتلونه هذه الليلة، سيقتله شمر اللعين، فما العمل؟ فظل الشيخ الناسك مطرقًا ولم يجب، فسكت عامر أيضًا لعلمه أن النُّسَّاك وأصحاب الكرامات لهم مناجاة خاصَّة يستخيرون الله بها، ثم قال الناسك: ألم تعلم أين سجنوا عبد الرحمن؟ قال: إنه مسجون في الحمام القديم في قصر يزيد. فرفع الناسك رأسه وقال: أبشر بالفرج يا عامر، ولكن يجب أن تكون رجلًا وأن تكابد الخطر لإنقاذ عبد الرحمن. فقال: إني أفديه بروحي. قال: أتعرف الكنيسة جيدًا؟ قال: وأي كنيسة يا مولاي؟ قال: كنيسة النبي يحيى التي جعل المسلمون نصفها مسجدًا، وهي بجانب القصر. قال: نعم أعرفها، وقد كنت في صباي إذا جئت مع أهلي إلى دمشق صليت فيها ونحن يومئذٍ على دين النصرانية مثل سائر أهل كندة. قال: لا يخفى عليك أن أبنية الجامع والكنيسة والقصر متلاصقة متجاورة، فعليك أن تدخل الكنيسة، ولا حرج عليك في الدخول، ثم حاول أن تبقى بها إلى الليل، فإذا أمنت العيون فامشِ إلى جانب المحراب فتجد هناك قطعة من الرخام على هيئة أسد، فارفعها، وستجد تحتها سلمًا قصيرًا يؤدي إلى سرداب تحت الأرض، فامشِ فيه متحسسًا الجدار بيدك اليسرى، إلى أن تصل بعد دقائق إلى باب صغير يستطرق إلى الحمام، فإذا وفقت للوصول إليه وعبد الرحمن به فحُلَّ قيوده وعد به في نفس السرداب، واجعل يدك اليسرى دليلك أيضًا، وسيطول بكما المسير، ولكن لا تخف، فإنكما ستصلان إلى مكان خارج سور المدينة، فإذا نجوتما فتعاليا إليَّ. وكان الناسك يتكلم وعامر يصغي لقوله، وكأنما خامره الشك صحة كلامه، وخاف أن يعتمد على نصيحته فلا يجد سردابًا ولا سبيلًا وتكون الفرصة قد ضاعت. ولحظ الناسك ذلك منه فقال: لا تشك يا عامر فيما قلته لك، ولا تظن قولي رجمًا بالغيب، إني أعرف المكان جيدًا، وأمثال هذه السراديب كثيرة في دمشق، وأكثرها كان أقنية للماء في عهد الروم ثم اعتاضوا عنها بأقنية أخرى جديدة فظلت خالية، ولا أخفي عليك أنك قد تلقى مشقة كبيرة في اجتياز مثل هذا السرداب؛ لأنه مهجور من زمن قديم، وربما انسدَّ بعض أجزائه أو تهدم، ولذلك قلت لك إن هذا العمل يحتاج إلى شجاعة وإقدام. فاطمأن بال عامر وتحقق وجود السرداب، ولم يعبأ بما يحول دون المسير فيه، ونهض فقبَّل يد الناسك وهو لا يري وجهه، فقبل الناسك رأسه ودعا له بالتوفيق، فاستبشر عامر بدعائه؛ لإيمانه بكرامته، وأسرع إلى دمشق وسار توًّا إلى الكنيسة وهو يعرف مدخلها، ويسهل عليه التظاهر بالنصرانية لأنه قريب العهد بها. ••• وصل عامر إلى الكنيسة ساعة الغروب، فاشتمَّ رائحة البخور وسمع أصوات المنشدين وهو لا يزال في صحنها، فعلم أن الناس في الصلاة فدخل في جملة الداخلين، ولم ينتبه له أحد؛ لأن كثيرين من أمثاله من نصارى البادية، وأكثرهم من عرب غسان، كانوا إذا نزلوا دمشق دخلوا كنائسها وسمعوا الصلاة فيها، وكان الغسانيون قد أسلم معظمهم على أثر الفتح. إما فرارًا من الجزية وإما تزلفًا إلى المسلمين، وظل بعضهم على النصرانية وأقاموا بالبلقاء وحوران، وكانوا يأتون دمشق لشراء ما يحتاجون إليه من أسواقها، ويدخلون كنائسها ليتبركوا بالصلاة. فلما دخل عامر الكنيسة لم يستغرب أحد دخوله، فالتمس مكانًا منعزلًا انزوى فيه، بينما الصلاة قائمة والأناشيد تصدح والبخور يتصاعد، وراح يفكر في حاله وما هو مقتحمه من الخطر الشديد، ولم يكن يبالي بالخطر لو أنه كان واثقًا من نجاح مسعاه. ولما انتهت الصلاة، وتفرق الناس تظاهر بالنعاس والضعف، حتى خلت الكنيسة من المصلين وصعد القسيسون إلى غرفهم، فأخذ الخادم (القندلفت) يمر على الشموع ليطفئها، فتذكر عامر مهمته، ورأى ألَّا بدَّ له من مصباح أو شمعة يستضيء به في السرداب، فعوَّل على سرقة بعض الشموع التي على المذبح، ولكنه كان يخشى الخادم، وفيما هو يفكر في ذلك دنا هذا منه كلَّمه مستفهمًا عن غرضه. وكان الخادم من أهل دمشق وقد تعلم العربية، فقال له عامر: إني رجل مريض، وقد نذرت أن أبيت لليلة تحت صورة القديس يوحنا لعلِّي أبرأ من دائي. فاستحسن إيمانه، ولكنه استطال إقامته معه طول الليل، فقال له: إنني مكلَّف بإغلاق الكنيسة قبل انصرافي. فقال عامر: لا بأس، أغلق الباب وخذ مفتاحه معك، وأبقى أنا هنا إلى الصباح، فقد بدأت أشعر بالراحة، وعسى أن ينفعني إيماني. فلم يرَ الخادم بأسًا من إجابته إلى طلبه، ولا سيما أن الكنيسة ستكون مغلقة ومفتاحها معه، فجاءه بزيت من زجاجة مقدسة كان في حق أمام أيقونة العذراء ودهن به رأسه، وقال له: إن بركة العذراء ستعجل شفاءك، ثم دعا له بالشفاء، وتركه وأغلق باب الكنيسة وخرج إلى غرفته. ولبث عامر بعض الوقت متشاغلًا بالتأمل فيما حوله على ضوء المصابيح الصغيرة المعلقة أمام الأيقونات الكبرى، وكان في بعض هذه الأيقونات صورة كبيرة ظهرت له مجسمة، وزادها فراغ المكان تجسُّمًا ورهبة، فاقشعرَّ بدنه وخُيِّل إليه أنها أشباح حية ترقب حركاته وأبصارها متجهة كلها نحوه. ثم تذكر عبد الرحمن وما هو فيه من الخطر فهبَّ من متكئه وأصاخ بسمعه فلم يسمع صوتًا ولا حركة. وكان قد عرف مكان قطعة الرخام التي قد وصفها له الناسك، فنهض وسار حتى وقف بقربها، وأعاد فحصها فإذا هي كبيرة وليس فيها حلقة يجذبها بوساطتها، فاستلَّ خنجره وعاجل به مواضع اتصالها بما يجاورها، وما زال يحاول زحزحتها حتى توسَّم قرب اقتلاعها، فتركها وأخذ في جمع بعض الشمع ليستنير به في ذلك السرداب، وبعد أن ادَّخر طائفة منه في جبيه أشعل شمعة من مصباح، وانتزع قطعة الرخام محاذرًا أن يُسمع لذلك صوت، وما كاد يفعل حتى أحس بنسيم بارد خرج من السرداب وفيه رائحة العفونة، فاستبشر، وأمن جانب الاختناق في السرداب، ثم هبط درجات السلم الحجرية، والشمعة في يده حتى وصل قاع السرداب فغاصت قدماه في بقايا مياه وأوحال، وحام البعوض حول الشمعة، ولم يخطُ بضع خطوات حتى هبَّت نسمة قوية أطفأت الشمعة فأظلم السرداب، فرمى الشمعة ومشى يتحسس ويتلمس ويساره على الحائط وقد أحس برطوبته، وقلبه يخفق، وهو لا يسمع غير طنين البعوض، ولا يرى شيئًا لشدة الظلام. تارة يغوص في الوحل، وطورًا يعثر بالأحجار، حتى انتهى إلى مكان جافٍّ فأسرع في خطاه وهو يحملق ويُصيخ بسمعه لعلَّه يرى بصيصًا أو يسمع حفيفًا. وفيما هو في ذلك سمع صوتًا بعيدًا لم يتبينه لبُعده، فأسرع السير نحو مصدره ويده اليسرى على الحائط، وما زال الصوت يقترب منه حتى عثرت رجله بحجر فوقف، وراح يتحسس الطريق بيديه، فإذا هو عند آخر السرداب وأمامه درجات لا بدَّ له من صعودها، وقبل أن يضع قدمه على أول درجة رأى نورًا ضعيفًا منبعثًا من شقوق باب صغير في أعلى السلم وسمع قائلًا يقول: لا تهددني بالقتل، فإني لا أخاف الموت. ••• علم عامر أنه وصل إلى السجن، وعرف صوت عبد الرحمن، فصعد الدرجات حتى دنا من الباب ووضع عينيه على شقٍّ فيه، وحدَّق فيما هنالك فرأى رجلًا واقفًا كان بيده مصباح فوضعه على حجر بارز في أحد الجدران، ودنا من رجل آخر جالس والأغلال في يديه ورجليه، وتفرَّس عامر في الرجل الواقف فعرف من بياض برصه أنه شمر، ورأى في يده سيفًا مسلولًا، وعرف أن الجالس عبد الرحمن، ولم يكد عامر يراهما حتى سمع شمرًا يقول: يا للعجب من وقاحتك ووقاحة ابنة عمك! أنت تقول اقتلوني لا أبالي، وكانت هي تقول كذلك، وقد قتلتُها منذ لحظة، وأتيت الساعة لأقتلك، ولكنني قبل أن أخرج روحك من جسدك أطلب إليك بأمر أمير المؤمنين أن تلعن عليًّا، فإذا فعلت علمت أنك نادم على ما فرط منك من تعمد قتل الخليفة، فأرى … فقطع عبد الرحمن كلامه وقال: أتخوفني يا شمر بقتل سلمى وهي بعيدة عنكم لا تنالها أسيافكم؟! فضحك شمر وقال: إنك جاهل مغرور، لهذا لا تصدقني. لقد جئت بسلمى إلى هذا القصر صباح اليوم ليتخذها الخليفة زوجة، وقد ماتت منذ ساعة، فإذا شئت أن تعلم كيف ماتت فاعلم أنها تجرعت السم بالعسل، وأما أنت فسأميتك بحدِّ هذا السيف. قال ذلك وهزَّ السيف بيده فاهتزت أعضاء عامر وتحفز لخلع الباب، ولكنه رأى شمرًا قد وقف ولم يقترب من عبد الرحمن. أما هذا فلما سمع بموت سلمى صاح صيحة قوية وحاول النهوض ولكن الأغلال الحديدية حالت دون ذلك، فسمع عامر صلصلتها، ثم سمعه يقول: تبًّا لكم يا أهل الغدر، أتقتلون سلمى وتحسبونني أريد البقاء بعدها؟! ثم تكلفونني أن ألعن خير الناس بعد الرسول ثمنًا لهذا البقاء؟! لقد قيدتم يدي ورجلي والموت أقرب إليَّ من حبل الوريد، ولكنني لا أخاف منه. عجِّل بقتلي يا شمر، لألقى سلمى في مكان لا غدر فيه ولا خيانة. ولكن، يا ليتهم اختاروا جلادًا غيرك؛ لأنني أكره أن أموت بسيف نذل لئيم مثلك. فقطع شمر كلامه وهز سيفه وأجابه بفتور وصوت منخفض وهو يبتسم: لم يختاروا غيري لهذه المهمة، وسأقتلك بهذا السيف الصقيل. فصاح عبد الرحمن: اقتل، قتلك الله. لو أنكم أبقيتم على سلمى لكنت آسف على الحياة من أجلها، ولكنكم ألحقتموها بأبيها، فألحقونى بهما. آه يا سلمى! قتلوك بلا رحمة. آه ما أقسى قلوبهم! اقتلني يا شمر، ولكن تمهل قليلًا. دعني أندب سلمى. أعوذ بالله من شروركم! كيف تقتلون فتاة طاهرة؟! أما تخافون الله؟! أما تخافون يوم الحساب؟! فابتدره شمر قائلًا: لقد كنت عازمًا على استبقائك برهة لأتلذذ بعذابك ولكنني أراك تطلب البقاء لتندب حبيبتك فما أنا مبقٍ عليك، وها أنا ذا قاتلك الساعة فاختر لك موتة. قال ذلك ووخزه برأس السيف في كتفه وهو يقهقه، فصاح فيه عبد الرحمن: اضرب يا شمر، اقتل، اضرب عنقي. قال ذلك وحرَّق أسنانه ثم قال: آه! لولا خوفي من أن تظن بي الخوف من الموت لاستمهلتك لأندب سلمى. ••• كان عامر ينظر ويسمع، فلما سمع بمقتل سلمى وكان يحسبها في أمان، ورأى ما رآه من شمر، خاف أن يسبقه بالسيف فيقتل عبد الرحمن فتتضاعف المصيبة، فأسند ظهره إلى الباب وتجمع بكليته وخنجره مسلول بيده ورفس الباب رفسة كسره بها، ووثب حتى وقف في وسط الحجرة، فأجفل شمر ووقع السيف من يده ثم همَّ بأن يلتقطه، فابتدره عامر بالخنجر وطعنه في جنبه، فوقع يتخبط في دمه ولكنه لم يمت، وتحوَّل عامر إلى عبد الرحمن وحلَّ قيوده وكسرها وعبد الرحمن مأخوذ يحسب نفسه في منام ولا يدري ما يقول، ولم يزد عامر على قوله: لا تخف يا عبد الرحمن، جاءك الفرج، وأخذ في حلِّ القيود ولم يبقَ في الحجرة صوت غير أنين شمر وهو ملقًى على الأرض. فلما فرغ عامر من حلِّ القيود قال له: اتبعني. وعاد إلى السرداب، فمشى عبد الرحمن في أثره، فقال له عامر: امسك بذيل ردائي بيمينك وتحسس الحائط باليسرى، ففعل ومضى في أثره وهو ما زال مأخوذًا، فقضيا في السرداب زمنًا طويلًا ولم يخرجا إلى النور، فظن عامر أنه أخطأ الطريق، ثم أحس بانحباس الهواء عنهما وضاق تنفسهما، فحدثته نفسه أن يعود، ثم تذكر الناسك وما أنذره به مما سيلاقيه من المشقة والخطر فاستمر في طريقه حتى اشتد بهما الضيق وأوشكا أن يختنقا من كثرة العفونة وقلة الهواء، ولحظ عبد الرحمن حيرته، فقال له: لا تأسف على حياتنا يا عماه. لا بأس من موتنا معًا في هذا السرداب لا يعلم بنا أحد؛ فإني لا أرى الحياة عزيزة بعد موت سلمى، وأما أنت … فابتدره عامر قائلًا: وأنا لا أحب البقاء بعدكما، ولكنني لا أريد أن نموت قبل الانتقام من هؤلاء الأشرار، وا أسفاه! أرانا مشرفين على الموت إذا لم يدركنا منفذ نتنفس منه الهواء. فقال عبد الرحمن: دعنا نمت يا عماه. يا ما أحلى الموت؛ فإنه يقربنا من حُجْر وابنته. لا تأسف على الحياة بعدهما، ولكنني أحب قبل الممات أن أعلم كيف قتلوها وما الذي أوصلها إليهم وكيف وقعت في الفخ؟ فقص عليه عامر كل ما وقع له مع سلمى من بعد ذهابه، وعبد الرحمن يعجب بشهامتها ويتنهَّد ويحرِّق أسنانه حتى أتى على آخر الحديث. وفيما هما في تلك الحال سمعا دقًّا على سطح السرداب فوقهما كأنه نبش بالمعاول، فقال عامر: إني أسمع نبشًا فعسى أن يكون الله قد فتح علينا، فأصاخا بسمعيهما وإذا بصوت النبش يتعاظم، وبعد قليل رأيا التراب يتساقط عليهما فتقهقرا إلى الوراء، ثم انفتحت كوَّة في السقف دخل منها نور ضئيل كأنه نور الفجر، وجرى النسيم فانتعشا، فقال عامر: لقد فتح الله علينا بابًا للفرج، وهمَّا بالمسير فسمعا جلبة وفيها صوت رجل يقول لرفيقه: إنهم أبوا إلا أن يدفنوها في هذا الفجر، وما ضرهم لو صبروا إلى الصباح؟! فأجابه الآخر: يظهر أنك لم تفهم السرَّ يا أحمق؛ ألا تعرف عادة الخليفة في مثل هذه الحال؟ قال: وما هي عادته يا فصيح؟ قال: إن هذه المسكينة لم تمت حتف أنفها، ولكنهم أماتوها بالسم وأظهروا أنها ماتت بالمرض، وكم من مرة قمت بمثل هذه المهمة في أيام معاوية؛ فقد كان أكثر ارتكابًا لهذا المنكر، وكلما أراد قتل رجل سقاه قدحًا من العسل وأمر بدفنه، والناس يحسبونه مات بعلة، ولكنه قلَّما صنع ذلك بالنساء. فقال ذاك: وما عسى أن يكون من أمر هذه الفتاة وهي عروس الخليفة، ولم تأتِ قصره إلا في صباح الأمس؟ فأجابه الآخر وقال: ما لنا ولكثرة الكلام؟ دعه يقتل من أراد ونحن نحفر القبور، والله يجزي على الذنوب. وكانا يتكلمان وينبشان، فما أحسَّا إلا والمعول وقع في السرداب فصاح أحدهما: إني أراني فوق بئر وأخاف أن يصعد إلينا منها عفريت أو جان. ••• أدرك عامر لما سمع الحديث أنهما صارا تحت المقبرة خارج المدينة، وأنهم يحفرون قبر سلمى، وعلم عبد الرحمن ذلك أيضًا فأحب أن يتكلم، ولكن عامرًا أمسك بيده وأشار إليه أن يسكت ريثما يخرجان من السرداب، فسكت عبد الرحمن ولكن الرطوبة والهواء غلبا عليه فعطس عطسة دوى لها السرداب، فأجفل الرجلان وصاح أحدهما: ألم أقل لك إن المكان مسكون؟ هيا بنا قبل أن تدركنا العفاريت. قال ذلك وفرَّ، وتبعه رفيقه، ولم يمضِ قليل حتى ساد المكان سكون تام، فمشى عامر وعبد الرحمن حتى خرجا من السرداب، وتلفَّتا فإذا هما في مقبرة خارج المدينة وقد لاح الفجر، فأسرعا بالخروج من المقبرة وعبد الرحمن يود البقاء ليرى سلمى ولو ميتة، وعامر يلح عليه بالخروج لئلَّا تدركهما الشرطة، ويهوِّن المصيبة عليه، حتى إذا بعدا عن المدينة وأوغلا في الغوطة لجآ إلى شجرة في مختبأ، وقال عامر: ارجع يا بني إلى رشدك واصبر إن الله مع الصابرين، هيا بنا إلى الشيخ الناسك فإنه في انتظارنا قرب الدير فوق قبر حُجْر. فقال عبد الرحمن: وسلمى؟ أأتركها؟! أتركها وحدها بين هذه القبور؟ قال ذلك وغلب البكاء عليه، فشاركه عامر في البكاء ولكنه تجلَّد وقال له: اصبر يا عبد الرحمن وتدبَّر الأمر بالحكمة. إن بقاءنا هنا أو ذهابنا إلى المقبرة أو رجوعنا إلى الشام لا يفيد شيئًا، والحق أني كنت في شك من مقتل سلمى، وكنت عازمًا على البحث عنها، ولكن ها قد تحققنا وقوع المصيبة فلم تبقَ لنا فائدة من البحث، وعلينا أن نصبر صبر الرجال حتى نشفي غليلنا بالانتقام. فقال عبد الرحمن: نعم، لا بدَّ من الانتقام، ولكن كيف؟ إني لا أرضى الانتقام لسلمى إلا بقتل قاتلها الذي يسمي نفسه خليفة. إن قتله والله عوض قليل عن سلمى حبيبة قلبي وروحي وابنة عمي. آه يا سلمى! وكيف أتركها تُدفن وأنا حي، وهي إنما استقبلت الموت من أجلي، ولولاي لم تدخل قصر يزيد ولا أصابها ما أصابها؟! ولقد كان موتها سببًا لنجاتنا من الموت، فلولا أنهم جاءوا لحفر قبرها لكنا قُبرنا قبلها في السرداب، آه يا عماه ليتني قُبرت وكان قبري تحت قبرها. لنكون متجاورين وتختلط عظامنا وتمتزج بقايانا كما امتزجت روحانا. قال ذلك وخنقته العبرات، فتركه عامر ينفس عن نفسه بالبكاء، وبكى هو الآخر شجاعة سلمى وحسن أخلاقها ما شاء، وبعد قليل عاد إلى التخفيف عنه فقال: إن سلمى تستحق أكثر من هذا، ولو قتلنا أنفسنا عليها ما وفيناها حقها، ولكن هذا يسرُّ أعداءنا، وخير منه أن نتدبر الأمر بالحكمة ونسعى للانتقام بتعقل ودراية؛ لنظفر به ونرضي روح سلمى في قبرها. قال ذلك وتذكر ما أوصته به لما فارقها في الدير فالتفت إلى عبد الرحمن وقال: أعرني سمعك لأبلغك وصية سلمى لك يوم سارت إلى يزيد. فقال: قل، حدثني عن سلمى، ماذا قالت؟ قال: لما ودعتها في ذلك اليوم قالت لي: إذا أنا مت وبقي عبد الرحمن حيًّا فحيِّه وقل له إن سلمى آثرت الموت في سبيل حبك على البقاء بعدك، وإذا بقيت أنت حيًّا فإن عظامها تتهلل في أعماق القبر. فصاح عبد الرحمن: أتموت هي في سبيل حبي وأراهم يحفرون قبرها ثم أهرب؟! قال عامر: لقد ذكرت سلمى أن بقاءك حيًّا بعدها يُفرح قلبها وهي في القبر، فهيا بنا إلى الشيخ الناسك نستشيره، فإنه والله ذو فضل علينا، ولولاه ما وفقت إلى إنقاذك، وإني لا أشك في أنه من الصالحين. وسار عامر وعبد الرحمن في أطراف الغوطة بحيث لا يشعر بهما أحد حتى اقتربا من الجوزة، فرأيا الناسك راقدًا فوق قبر حُجْر، وقبل وصولهما نبح الكلب فجلس الناسك وتطلع فلما رآهما قادمين أرخى شعره على وجهه ونادى عبد الرحمن فلبَّاه وهو يبكي ويقول: ما بالك لا تسألنا عن سلمى؟ فوقف الناسك وصاح: ماذا صنعوا بها؟ لا، لم يقتلوها. فقال عبد الرحمن: صدقت، إنهم لم يقتلوها بالسيف، ولكنهم قتلوها بالعسل. فأطرق الناسك ويده على لحيته وهو ينتفض ويرتعد وقال: من أخبركم بذلك؟ فقص عليه عامر كل ما علماه. فقال: إن الله لا ينصر القوم الظالمين. فقال عبد الرحمن: أرشدنا يا شيخنا. إننا لا نرى سبيلًا إلى الحياة بغير الانتقام. آه ما أحلى الانتقام. فبهت الشيخ هنيهة ثم قعد وهو يقول: اخرجا من هذه البلاد، لم يبقَ لكما فيها مأرب. قال عبد الرحمن: كيف نخرج منها وقد دفنوا سلمى فيها؟ قال: اخرجا إلى شركائكما في الثأر. اخرجا إلى مكة؛ فإن فيها ابن بنت الرسول، وهو المطالب بالخلافة، وهي حق له وحده. اذهبا إليه على عجل وانصراه، فإذا فاز بالخلافة فقد تم لكما الانتقام. إن البقاء هنا لا يجديكما نفعًا، والأمر أعظم مما تظنان. فقال عامر: وكيف ذلك يا مولاي، ماذا حدث؟ قال: قد علمتما أن يزيد لما مات أبوه وقام يدعو الناس إلى بيعته كان الحسين في المدينة ومعه غيره من أبناء الصحابة وفي جملتهم عبد الله بن الزبير بن العوام، وكان عامل معاوية على المدينة يومئذٍ ابن عمه الوليد بن عقبة، فكتب إليه يزيد بموت معاوية ويطلب إليه أن يأخذ البيعة من الحسين وعبد الله بن الزبير، فجاءه الكتاب وعنده مروان بن الحكم فاستشاره في الأمر فقال مروان: «أرى أن تدعوهما الساعة وتأمرهما بالبيعة.» فبعث إليهما وكانا في المسجد، فلما وصل إليهما الرسول وأخبرهما بطلب الوليد قالا: «انصرف الآن وسوف نلحق بك.» ثم قال ابن الزبير للحسين: «ترى فيمَ بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟» فقال الحسين: «أظن طاغيهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذ منَّا البيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر.» قال عبد الله: «فماذا أنت صانع؟» قال الحسين: «أجمع أصحابي الساعة ثم أمشي إليه، وأجلسهم على الباب وأدخل عليه.» قال عبد الله: «إني أخاف عليك إذا دخلت.» قال الحسين: «لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع.» ثم قام وجمع إليه أصحابه وأهل بيته حتى أقبل على الوليد وقال لأصحابه: «إني داخل، فإذا دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليَّ بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم.» ثم دخل الحسين على الوليد ومروان عنده، فسلم وقال مروان: «الصلة خير من القطيعة، والصلح خير من الفساد، وقد آن لكما أن تجتمعا، أصلح الله ذات بينكما.» وجلس الحسين فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى له معاوية ودعاه إلى بيعة يزيد، فاسترجع الحسين وترحم على معاوية وقال: «أما البيعة فإن مثلي لا يبايع سرًّا، فإذا خرجت إلى الناس ودعوتهم إلى البيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحدًا.» فقال الوليد وكان يحب المسالمة: «انصرف.» فقال مروان للوليد: «إذا فارقك الساعة ولم يبايع ما قدرت منه على مثلها أبدًا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، أحبسه فإما بايع وإلا ضربت عنقه.» فوثب عند ذلك الحسين وقال: «يا ابن الزرقاء، أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله.» ثم خرج حتى أتى منزله، فقال مروان للوليد: «عصيتني، لا والله لا يمكنك منه نفسه بمثلها أبدًا.» فقال الوليد: «والله يا مروان ما أحب أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأن أقتل حسينًا إن قال لا أبايع، والله إني لا أظن من يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة.» قال مروان: «قد أصبت.» قال هذا وهو غير حامد له رأيه. أما عبد الله بن الزبير فلما أتاه رسول الوليد أجاب بقوله: «الآن آتيكم.» ثم أتى داره فتمكن فيها، ولما بعث إليه الوليد وجده قد جمع أصحابه واحترز، فألح عليه الوليد وهو يقول: «أمهلوني.» فبعث إليه الوليد مواليه فشتموه وقالوا له: «يا ابن الكاهلية لتأتين الأمير أو ليقتلنك.» فقال لهم: «والله لقد استربت بكثرة الإرسال، فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه.» فبعث إلى أخاه جعفر بن الزبير، فقال جعفر للوليد: «رحمك الله، كُفَّ عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته، وهو يأتيك غدًا إن شاء الله، فمُر رسلك فلينصرفوا عنه.» فبعث الوليد إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من ليلته فأخذ طريقه إلى مكة هو وأخوه ليس معهما ثالث، فسرح الوليد الرجال في طلبه فلم يدركوه، فرجعوا وتشاغلوا عنه بالحسين ليلتهم، فقال لهم الحسين: «أصبحوا ثم ترون ونرى.» فكفوا عنه، فسار من ليلته وأخذ معه بنيه وإخوته وبني أخيه وجُلَّ أهل بيته، وكان ذلك بعد ليلة من خروج ابن الزبير. وقبل أن يخرج الحسين من المدينة أشار عليه أخوه محمد ابن الحنفية أن يدعو الناس إلى بيعته ويصبر على ذلك، فلما أتى مكة تقاطر إليه الناس ليبايعوه، ولكن بعض الناس أشاروا عليه أن يقدم الكوفة ويستنصر أهلها، وأشار عليه آخرون بالبقاء في مكة يستظل بالحرم؛ لأن أهل الكوفة لم يخلصوا في نصرة أبيه من قبله، وأظنه بعث بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليرى رأي أهلها في قدومه إليهم، فإذا تمت له بيعتهم وجاء الكوفة فسيبايعه العراق والحجاز فيتم له الأمر ويفشل يزيد، وفي فشله انتقام كافٍ لكما، فاذهبا إلى مكة وانصرا الحسين؛ فإنه أولى الناس بهذا الأمر، والله ينصركم أجمعين. فلما سمعا قوله استحسناه ونهضا، فقبَّل رأسيهما مودعًا دون أن يريا وجهه، وأوصاهما بسرعة الخروج من الشام لئلَّا يعلم بهما يزيد أو أحد رجاله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/12/
سلمى لم تمت
فلنترك عامرًا وعبد الرحمن في طريقهما إلى مكة، ولنعد إلى دمشق لنرى ما حدث لسلمى بعد أن أمر يزيد بتجريعها العسل، وذلك أن الخليفة لما افترق عن عبيد الله والطبيب وسار يلتمس فراشه مر بالحجرة التي كانت سلمى فيها، وكانت العجوز واقفة بالباب تنتظر أمره، فأشار إليها أن تنقلها إلى المقصورة وتحتفظ بها هنالك. وكانت سلمى بعد خروج عبيد الله بن زياد من عندها قد أيقنت بفشلها وتحققت وقوعها في الشَّرك. ولكنها أصبحت لا تبالي بالحياة بعد ما سمعته عن مقتل عبد الرحمن، على أنها كانت تود أن تنتقم له قبل موتها، وراجعت ما مر بها من الأهوال في تلك الليلة فرأت أنها لو أطاعت يزيد وسايرته فيما التمسه منها من لعن علي لتمكنت من الفتك به، ولكنها رأت تلك المداهنة فوق طاقتها وعلى غير السجايا التي فُطرت عليها، فلم تندم على ما صنعته. وفيما هي تردد التصورات في ذهنها، دخلت العجوز واستأذنتها في اصطحابها إلى المقصورة، فأطاعتها وهي لا تبالي بما هنالك من الموت والحياة، فمشت في أثرها حتى صعدتا إلى المقصورة، فظلت العجوز بالباب، ودخلت سلمى وجلست على الفراش، ونظرت إلى ما بين يديها من آنية الخمر والشموع والفاكهة، وتذكرت جلوس يزيد إلى جانبها وما دار بينه وبينها من الحديث، وكيف أنها بعد أن كادت تصيب مرماها منه عادت العائدة عليها. ثم تذكرت حبيبها مقتولًا يتخبط في دمه فاقشعرَّ بدنها، واشتدت حيرتها. وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام على السلم فخفق قلبها خفوقًا سريعًا ولبثت تترقب ما يكون، وإذا برجل دخل المقصورة وعليه العباءة والعمامة وفي يده قدح، وكان هو الطبيب، فلما رأته أطرقت وظلت صامتة، فدنا منها وقدم لها القدح وهو يقول: اشربي هذا العسل بأمر أمير المؤمنين؛ فإنه قد ينعشك. فأدركت أنه مسموم فتناولته ويدها ترتعش وقالت: سأشربه وأنا أعلم أنه سم قاتل. قال: كيف تقولين إنه سم وأنا أقول لك أنه عسل؟! قالت: أنا أعلم أنه سم، وأرجو أن يكون كذلك؛ لأنه إذا أماتني أراحني من هذه الحياة، فقل إنه سم ليطمئن قلبي، واعلم أني لاحقة بأبي وابن عمي على عجل. قالت ذلك وخنقتها العبرات. فتأثر الحكيم بكلامها، ولكنه كان قد تعوَّد إخفاء شعوره فتظاهر بالاستخفاف وقال: اشربيه مهما يكن من أمره؛ إذ لا بدَّ من شربه. فرفعت يدها وهي قابضة على القدح وقالت: إني أشرب هذا السم باسم الله، وأرجو أن يلحقني بالإمام علي وأن يقربني من أبي وابن عمي، ثم نظرت إلى القدح وقالت: بورك فيك من دواء! إني أشربك باسم الحق والعدل، وأطلب من الله أن ينتقم لي ولأبي ولابن عمي من ذلك الظالم. وأدنت القدح من فمها ثم أرجعته وقد غلب عليها الضعف ونظرت إلى ما حولها كأنها تودع الدنيا وما فيها، ثم قالت: هلا أريتموني عبد الرحمن ولو مقتولًا؟ بالله أروني إياه قبل موتي لأبكيه وأندبه. أيموت عبد الرحمن على قيد أذرع مني ولا أراه؟ أهذا عهدي بك يا عبد الرحمن؟ أين أنت وكيف قتلوك؟ هل قتلوك بالعسل أم بالسيف؟ تعالَ وانظر خطيبتك وهي تتجرع السم بلذة وشوق لأنه سيجمعها بك. هل علمت قبل موتك أنك ستلاقيني عاجلًا؟ هل أنبئوك قبلما قتلوك بأنهم سيقتلونني الآن؟ ليتهم أخبروك لتتأسَّى بقرب لقائي. ثم وقفت وقد هاجت عواطفها وتبدلت حالها وظهر الهياج في عينيها وقالت: هل قتلوك حقيقة؟ لا. لا. لم يقتلوك. أظنهم أشفقوا على شبابك؟ ولكنهم قوم طغاة لا يعرفون الشفقة، لولا ذلك ما استهانوا بالنبي وقتلوا نخبة الصالحين من أهل بيته، فلا غرو إذا قتلونا. ثم سكتت قليلًا وقالت: ترى أين أنت يا عماه؟ هل علمت بمصيري؟ وهل تذكر وصيتي؟ ماذا يكون من أمرك إذا سمعت بمقتلي ومقتل عبد الرحمن؟ هل أنت ذاكر وعدك؟ امضِ إلى تربة أبي وابكِه عني واسكب عليه الدموع ومزق الضلوع، بل ابكِ الإسلام وأندب المسلمين لما أصابهم من الحيف بخروج الخلافة إلى هؤلاء الظالمين. وكانت تتكلم والطبيب واقف لا يبدي حراكًا، وقد ظل صامتًا وهو ينظر إليها ويعجب بشهامتها وقوة عارضتها. أما هي فأدنت القدح من فمها ثانية ونظرت إلى ما فيه، ثم التفتت إلى الطبيب وقالت: أخشى أن يكون السم قليلًا لا يكفي لقتلي فأتعذب فإذا كان قليلًا فأضف إليه سمًّا آخر. فقال الحكيم بهدوء: اشربي يا بنية ولا تطيلي الكلام، فقد نفد الوقت وفات الأجل الذي ضربه الخليفة لي. قالت وهي تهز رأسها وتحرِّق أسنانها: أتخاف هذا الظالم ولا تخاف الله؟! أتركِّب العقاقير القتَّالة لقتل الأبرياء ثم تخاف من لوم يزيد إذا تأخرت في قتلهم؟! ولكنكم تضافرتم على الظلم وتحالفتم على الخيانة، ويل لكم من مشهد يوم عظيم، في مكان لا ينفعكم فيه سلطانكم ولا جنودكم. يوم تأتي الساعة وينفخ الصور وتقفون بين يدي الديان العظيم. فقطع الطبيب كلامها وقال: لا تكثري الكلام واشربي القدح عاجلًا. فقالت: إنى أشربه ولا أخاف منه؛ لأنه ترياق لمصابي، ولكني أريد أن أرى عبد الرحمن، فأين هو؟ آه! قتلتموه. نعم قتلتموه، ولكن ماذا فعلتم بذلك الجسد الطاهر: هل مثَّلتم به؟ وهل دفنتموه؟ آه إني أرى أعضاءه تختلج ودمه يجري، وكأني أسمع شخيره في أذني. ترى هل ذكرتني يا عبد الرحمن قبل موتك؟ هل ذكرت سلمى وتمنيت أن تراها قبل موتك؟ يا ليتهم قتلونا معًا ودفنونا في قبر واحد فتمتزج دماؤنا وتختلط عظامنا، ويا ليتهم يدفنوننا بجانب قبر أبي، فنشكو له ما لقيناه وما يقاسيه المسلمون وما يتوقعه الإسلام من الفوضى، ولكننا سنلتقي به عمَّا قليل في مكان لا وشاية فيه ولا ظلم ولا رياء، لقد أزفت الساعة وآن لي أن ألقاهما. أستودعك الله أيها العالم الفاني، أستودعك الله أيتها الحياة الزائلة، إنك مملوءة شرًّا، ولا عدل فيك ولا حق. ثم أدنت القدح من فمها وهي تقول: أشرب هذا الكأس باسم الله. وشربته جرعة واحدة ويدها ترتجف، ثم استلقت على الفراش وهي تتلو الفاتحة وتردد اسم عبد الرحمن. ••• لم تمضِ برهة حتى غابت سلمى عن الدنيا وشفاها ترتجفان كأنها تخاطب عالم الأرواح، وقد امتقع لونها وبردت أطرافها، فخرج الطبيب وأغلق الباب، ونزل، وكانت العجوز قد نزلت ساعة دخوله. أما هو فظل سائرًا إلى غرفة عبيد الله بن زياد وكان في انتظاره على مثل الجمر، فدخل عليه وأغلق الباب وراءه، فقال له ابن زياد: ماذا فعلت أيها الطبيب؟ قال: لقد سقيتها العسل. قال: وهل فعلت ما وعدتني؟ فضحك وقال: وماذا وعدتك به؟ قال: ألم أطلب إليك أن تضع بدل السم مخدِّرًا، وجعلت لك جعلًا على هذا؟ قال وهو يضع يده على كتف عبيد الله: نعم إني وعدتك بذلك، وهكذا فعلت، فالفتاة لم تمت، ولكنها نائمة، ومد يده إلى جيبه وأخرج قارورة وقال: وإليك هذا العقار في هذه القارورة فإذا سقيتها إياه أفاقت، ولكن احذر أن تبقيها هنا بعد يقظتها فيعلم بها أمير المؤمنين وتدور الدائرة عليَّ. قال: لا تخف، وسأخبر الخليفة بموتها وأبعث من يحفر قبرها، ثم أبعثها إلى مكان خارج المدينة وهي نائمة كأنها محمولة إلى القبر، ومتى استفاقت أبقيتها خارج دمشق حتى أسافر فأحملها معي ولا يعلم بها أحد سواي، وأنا لم أود استبقاءها إلا أملًا في إرجاعها عن غيِّها. فإذا فعلت ذلك رضي أمير المؤمنين عنِّي وعنك، وشكرنا على صنيعنا؛ لأنه فتن بجمالها، ولولا غضبه لم يأمر بقتلها، ولا شك في أنه إذا أصبح ندم على ما فعل. أما أنت فاكتم الأمر ولك مني فوق ما أعطيتك. فشكره الطبيب وانصرف، وكان عبيد الله بعد أن أمر يزيد بقتل سلمى قد خلا بالطبيب وأغراه بالمال الكثير لكي يبدل بالسم مخدرًا، ثم يحتال لإخراج سلمى إلى مكان منفرد بدلًا من دفنها، وهناك يحاول استرضاءها لعلها تقبله زوجًا لها، وكان ما زال عالقًا بها. فلما أخبره الطبيب بما فعله، سار توًّا إلى يزيد وأنبأه بموتها فقال له: ابعث من يدفنها قبل طلوع النهار، فأمر اثنين من رجاله أن يكفِّناها وبعث آخرين لحفر القبر، وأوصى الأولين بأن يحملاها إلى مكان منفرد خارج المدينة حالًا، وتظاهر بأنه أرسلها إلى المقبرة. وعاد اللذان حفرا القبر قبل الفجر مذعورين لما رأياه من خروج عامر وعبد الرحمن وهما يحسبانهما عفريتين، فقصَّا الخبر على عبيد الله، فأمرهما أني يقصَّاه على الخليفة لعله يستطيع الاستعانة بذلك إذا علم الخليفة ببقائها حية فيما بعدُ، ففعلا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/13/
إلى الكوفة
في صباح اليوم التالي أبطأ يزيد في الخروج إلى المجلس؛ لأنه قضى ليله ساهرًا فنام في الصباح ولم يستفق حتى الظهر، فجاء إلى المجلس وعبيد الله غائب، ولم يكد يستتب به المجلس حتى دخل عليه الحاجب يقول: إن بالباب رسولًا من الكوفة. قال: فليدخل. إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، من عبد الله بن مسلم. أما بعد: اعلم يا أمير المؤمنين أن الناس في الكوفة والبصرة قد ضعُف أمرهم بضعف أميرهم النعمان بن بشير؛ فقد ولَّيته الكوفة وهو رجل ضعيف، أو هو يتضاعف، حتى كاد الأمر أن يفضي إلى أعدائنا. فإذا كان لك حاجة إلى الكوفة فأرسل إليها رجلًا قويًّا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، وتفصيل الخبر أن أهل الكوفة لما بلغتهم وفاة معاوية رحمه الله، وامتناع الحسين وعبد الله بن الزبير عن البيعة، أرجفوا بأمير المؤمنين واجتمعت شيعة علي في منزل أحد كبارهم، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه كتابًا قالوا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، سلام عليك، فإننا نحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: الحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي اجترأ على هذه الأمة فابتزَّها أمرها وغصبها فيأها وتأمَّر عليها بغير رضًا منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وإنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نُلحقه بالشام إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.» وسيروا هذا الكتاب إلى الحسين في مكة، وبعثوا إليه كتبًا أخرى في مثل ذلك، وكان جملة ما أُرسل من هذه الكتب نحوًا من مائة وخمسين صحيفة، وأرسلوا إليه رسلًا عديدين فجاءهم من الحسين كتاب قال فيه: «أما بعد: فقد فهمت كل الذي قصصتم، وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليَّ أنه اجتمع رأي ملَّتكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، أقدم إليكم وشيكًا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والقائم بالقسط، والدائن بدين الحق. والسلام.» وقد حدث مثل ذلك يا أمير المؤمنين في البصرة أيضًا، وقد جاء مسلم إلى الكوفة بعد أن قاسى في طريقه عذابًا عظيمًا من العطش، ونزل بدار أحد شيعة الحسين، وصار الناس يختلفون إليه وهو يقرأ عليهم كتب الحسين فيبكون ويعدونه بالقتال معه، فلما بلغ النعمان بن بشير صعد المنبر وقال: «أما بعد فلا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإن فيهما تهلك الرجال وتُسفك الدماء وتغصب الأموال، وإني لا أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لم يثب عليَّ، ولا أنبه نائمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف والظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولا يكن لي منكم ناصر ولا معين. أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر مما يريد به الباطل.» فلما رأينا كلامه لا يفيد القطع ولا يدل على الحزم، قام إليه واحد منَّا وقال له: إن هذا لا يصلح إلا الغشم، وأنه رأي المستضعفين، فما كان جوابه إلا أن قال: «لأن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليَّ من أن أكون من الأعزِّين في معصيته.» فزادنا قوله خوفًا منه، فكتبت هذا ليكون أمير المؤمنين على بصيرة، ويعلم أن ابن بشير لا يصلح لهذا الأمر، فأرسل إلينا من يعمل مثل عملك والسلام. فلما قرأ يزيد الكتاب اضطرب وتشاءم مما ارتكبه بالأمس، وخُيِّل إليه أنه أذنب بقتل سلمى وهي فتاة، وندم على فعله وأراد صرف مجلسه ليخلو ببعض خاصته فقال: على بركة الله، فعلم أرباب المجلس أنه يريد صرفهم، وكانت تلك عادته كلما أراد ذلك، فانصرفوا، ثم بعث على سرجون، وهو رجل رومي ذو دهاء وحكمة كان معاوية يعتمد عليه في شئونه ويستشيره في أموره حتى جعله كاتبه، فلما مات معاوية ظل يزيد على الثقة به، فلما جاءه أطلعه على الكتاب فأطرق هنيهة ثم قال: أرأيت إذا نشر معاوية هل تأخذ برأيه؟ قال: نعم. فمد سرجون يده إلى جيبه وأخرج كتابًا وقال: خد هذا. فأخذه يزيد وقرأه، فإذا هو عهد لعبيد الله بن زياد يولِّيه به الكوفة. فقال يزيد: ما هذا؟ قال: هذا رأي معاوية، إنه مات وقد أمر بهذا الكتاب. فاستحسن يزيد الرأي، وعزم على أن يولي ابن زياد الكوفة والبصرة، فنادى الحاجب وسأله عن عبيد الله، فافتقده في القصر فلم يجده، فصبر يزيد حتى جاء به، ودخل وسلَّم، ثم دفع إليه كتاب عبد الله بن مسلم، ولم يقل شيئًا. فتناول ابن زياد الكتاب وقرأه حتى أتى على آخره وسكت مطرقًا، ثم دفع إليه يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة، فلما قرأه قبَّله ووضعه على رأسه وقال: إني صنيعة أمير المؤمنين ويده التي يحارب بها وسهمه الذي يرمي به أعداءه. فقال له: سر إلى الكوفة وأصلح أمورها، وامنع أولئك الناس منها، وكن لي كما كان أبوك لأبي. فقال: سمعًا وطاعة، وقد سره ذلك لتمكنه من الخروج من دمشق عاجلًا، فيخلو له الجو لاسترضاء سلمى، وكان قد بعث بها خفية قبل الفجر إلى بيت منفرد في أطراف الغوطة كما تقدم، ثم سار هو في الصباح إليها وسقاها العقار الذي أعطاه إياه الطبيب وانزوى في مكان هناك لمراقبتها، فلما أفاقت ورأت النور ظلت برهة مبهوتة لا تدري ما تقول، وعبيد الله لا يخاطبها، وفي اعتقاده أنها إذا أفاقت ورأت نفسها حية تعترف له بالجميل، فلما أفاقت تبادر إلى ذهنها لأول وهلة أنها بُعثت من الموت وأنها في العالم الثاني فصاحت: أين عبد الرحمن؟ أين هو؟ أروني إياه، هل أنا في النعيم؟ عبد الرحمن! عبد الرحمن! فضحك عبيد الله، ولما سمعت ضحكته التفتت إليه وهي تفرك عينيها بأناملها، وحالما رأته صاحت: أنت هنا يا لئيم! إني إذن في الجحيم. اذهب من وجهي. فدنا عبيد الله منها وأمسك بيدها وقال: أنت في هذه الدنيا يا حبيبتي، وقد استبقيتك شفقة عليك. فجذبت يدها من يده وصاحت: اخسأ يا نذل، إني لا أريد الحياة إلا إذا كان عبد الرحمن فيها. اقتلني اقتلني. قتلك الله أشفق علي واقتلني. فعذرها لتهيُّجها وقال لها: إني أعاملك بما تستحقينه لأنك جاهلة، وسأصبر عليك ريثما تملكين روعك، وأنت أسيرة بين يدي لا ينجيك من غضبي غير الرضا والإذعان، فامكثي هنا حتى ترجعي إلى رشدك أو تموتي. قال ذلك وتركها، وأمر الرجلين أن يحرساها ريثما يعود. فلما رجع إلى دمشق وقدم له يزيد كتاب توليته الكوفة والبصرة كما قدمنا واستبشر بنيل مرامه على مهل، وعلل نفسه باسترضائها في أثناء الطريق إلى الكوفة. ••• قضى عبيد الله بضعة أيام يتأهب للمسير وأعوانه يهيئون الأحمال خارج دمشق، وفي جملتها هودج حمل سلمى فيه على جملين، وأقام عليها خادمين يحرسانها ويقدمان لها الطعام والماء، وكانت في بادئ الرأي لا تقبل طعامًا ولا شرابًا التماسًا للموت جوعًا وعطشًا حتى نحل جسمها وامتقع لونها، ولكن الحياة عزيزة لا يتعمد المرء فقدها عن رويَّة، ولكنه إذا أصيب بضنك شديد قد يؤثِر الموت على الحياة في حال غضبه، فإذا طال اصطباره فإنه يحنُّ إلى البقاء ويلتمس لحنينه عذرًا يحبب الحياة إليه، فلما مضى على سلمى يومان بلا أكل ولا شرب ورأت الموت لا يتهيأ لها على هذا السبيل إلا بعد العذاب الطويل، عادت تلتمس البقاء وعذرها في التماسه أن تعمل على الانتقام من سبيل آخر لا خطر فيه على حياتها. وكانت قد علمت من قرائن الأحوال أنهم سائرون بها إلى الكوفة، وأن الحسين سائر إليها أيضًا، والناس في الكوفة على دعوته، فتوسمت في البقاء خيرًا، وأملت أن تنتقم لأبيها وخطيبها، فجعلت تتناول من الطعام والشراب ما تسد به رمقها. وكان عبيد الله في أثناء مسير الركب يتردد على سلمى، تارة يستعطفها، وطورًا يهددها، وآونة يؤملها وأخرى يخوفها، وهي ترفض رفضًا باتًّا، وكثيرًا ما كانت تُسمعه كلامًا مؤلمًا، وهي تعلم أن الجفاء لا يجديها نفعًا، وأنها لو عاملته بالحسنى واستخدمت اللين والدهاء لنالت بغيتها. ولكنها لم تكن تستطيع التغلب على أنفتها، وكانت من الجهة الأخرى تخاف إذا لاينته أن تُطمعه فيما تخافه وتنفر منه. قضت في مثل ذلك خمسة أيام والركب سائر في الصحراء، في أرض لا عمارة فيها ولا مياه إلا بعض الآبار، وسلمى تشغل نفسها في أثناء الطريق بالإشراف من الهودج على ما يحيط به من السهول القاحلة والرمال الحمراء، على أنها كثيرًا ما كانت تتحاشى شقَّ الستور فرارًا من الرياح الحارة وما تحمله من الرمال. وفي صباح اليوم الخامس. اخترقوا بقعة منبسطة أدهشها منظرها حتى نسيت ما هي فيه، وكانت مساحة البقعة بضعة أميال، وقد غطتها أبنية خربة وفيها الجدران العالية والأساطين الشامخة والأسوار الغليظة بين متهدم ومتداعٍ، وقد استولى عليها السكون وتمكن منها الخراب كأنها جثث بالية أو عظام أكلها الدود، على أن حجارتها كانت تنطق بأجلى بيان عمَّا كان هنالك من العظمة وشدة البطش في قديم الزمان. تلك خرائب تدمر الطائرة الصيت، تدمر العظيمة التي زهت في أوائل النصرانية وسار بذكرها الركبان، وقد كانت واسطة عقد التجارة بين العراق والشام، حتى إذا تداعت إلى الخراب جعلوها محطًّا للقوافل فيما بين هذين البلدين. عمرت تدمر في أوائل القرن الثاني للميلاد على أثر سقوط دولة الأنباط شمال جزيرة العرب وغربيها، فاستولى عليها الرومان سنة ١٣٠م، فازدهرت تجارتها، وكانت مستقلة بشرائعها وأحكامها، يتولى النظر في شئونها مشيخة من أهلها، ومد الرومان بينها وبين دمشق طريقًا تسير فيه المركبات وعليها أصناف التجارة من الأنسجة والآنية والمئونة، وبنى التدمريون في مدينتهم أبنية ينسب إليها، أقاموها على الأساطين المنحوتة وفوقها التماثيل من الحجر الأبيض المحمر. وكان يقطع المدينة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي طريق واسع في أوله قوس نصر بجانب هيكل هائل يعرف بهيكل الشمس أشبه شيء بهيكل بعلبك، وطول هذا الطريق ألف وثلاثمائة متر، تحفُّ به الأعمدة من الجانبين في رواقين عدد أساطينهما ألف وخمسمائة، ولونها أبيض مائل إلى الحمرة، وفي الأروقة مساطب مستطيلة كانوا يسندون إليها الأحمال الواردة إلى تدمر من أقاصي المعمورة وفيها أحمال الحرير والديباج الدمشقية، والآنية اليونانية، وجلود الماشية المحمولة من جزيرة العرب على جمال يسوقها بدو من أهل الحجاز، وأحمال من جرار صنعت بفلسطين، وكانت أسواق تدمر في ذلك العهد تعج بالمارة عجيجًا، وهم أخلاط من الأمم المتمدنة، وفيها النخاسون من مصر وآسيا الصغرى، والتجار من الفرس والشام وأرمينيا، والمرابون والصيارف من اليهود. فضلًا عن الباعة الذين يحملون سلعهم على أكتافهم ينادون عليها في الدروب والحارات، فتختلط أصواتهم بنداء باعة الملح، الذي كان من أعظم تجارات هذه المدينة. ولو أتيح للقارئ أن يزور تلك المدينة في أيام مجدها على عهد الملكة زينوبيا في القرن الثالث للميلاد، لبهره ما كان فيها من دلائل الترف والبذخ، وعلم من الفرق البعيد بين قصورها وأكواخها أن الثروة كانت منحصرة في فئة من أهلها، وأن تمدنها كان شرقيًّا لا رومانيًّا ولا يونانيًّا، وكان التدمريون تشهبوا بقدماء المصريين في استبقاء مجدهم بعد موتهم، فبنوا لأنفسهم قبورًا كالقصور شادوها بالأحجار الهائلة في أكناف المدينة فكان مدينة أخرى سكانها من الأموات، ولو بعث التدمريون بعد ذلك ببضعة قرون لرأوا قصورهم أشد وحشة من قبورهم. اشتهرت تدمر في أواسط القرن الثالث للميلاد بالملكة زينوبيا، فطمع فيها الرومان في الغرب، والفرس في الشرق، وقامت الحب سجالًا بينهما حتى تغلب الرومان فملكوها، ولكنها لم تدم لهم ولا لغيرهم، فلم تمر بها أجيال حتى أصبحت في زوايا الإهمال، وتحولت قصورها إلى خرائب وصارت هياكلها جحورًا للضب والحية وأوكارًا للطير، ونعق على منابرها البوم بدل خطابة الخطباء ووعظ الوعاظ. ولو عقل ابن زياد يوم أشرف على تلك الخرائب، وعرف تاريخ تلك الآثار لعلم مصير الإنسان، وأنه لا يبقى له من مجده إلا ما كسبت يداه من خير أو إحسان، وقال مع الإمام علي: «الدنيا دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن.» ولخجل ما ارتكبه هو وولي أمره من ضروب العسف، وهان عليه أن يطلب سراح أسيرته شفقة على صباها ورحمة بما في قلبها من لوعة الحزن على أبيها وخطيبها. ولكنه جهل ذلك أو تجاهله، واندفع في تيار الشهوات، ولم يزدد في تلك الخلوة إلا قسوة، ولم يعد يصبر على نيل بغيته حتى يصل إلى الكوفة، فأمر بحط الرحال ونصب الخيام، فنصبوها على مرتفع يشرف على تلك الخرائب الناطقة وفيها بقايا الأسواق والهياكل والقصور والقبور، وأمر أن يقيموا هناك يومًا كاملًا يستريحون فيه ثم يرحلون، وأناخ هودج سلمى في مكان منفرد عن معسكره بقرب هيكل الشمس، وشغل أعوانه بإنزال الأحمال ثم مشى هو إلى سلمى وكانت جالسة كئيبة تتأمل في حالها وتصبِّر نفسها إلى بلوغ الكوفة، ولم يخطر ببالها ما نواه ابن زياد، فلما وصل إلى خيمتها أمر الحراس أن يبتعدوا، ثم دخل فوجدها جالسة على بساط وقد أثر السفر والتعب والحزن في جسمها فهزلت وامتقع لونها ورقَّت وجنتاها وذبلت عيناها وأصبح العبوس غالبًا عليها. فلما رأت داخلًا قرأت الشر في وجهه فاستعاذت بالله، وكأنه أدرك خوفها فتلطف في سؤالها عن حالها فلم تجب، فقال لها: قومي يا سلمى واتركي الخيمة، وادخلي هذا القصر وتأملي في صنعه. فأدركت أنها إذا امتنعت ساقها بالعنف فسايرته ومشت حتى دخلت الهيكل، فأعجبت بما رأته من سعته وارتفاع جدرانه وكثرة أساطينه، فإن مساحته كانت نحو مائتي متر مربع، وجدرانه من حجارة هائلة علوها سبعون قدمًا لا يزال معظمها قائمًا، وفي صحن الهيكل أساطين ضخمة متشامخة متراصَّة في صفوف متداخلة يزيد عددها على مائة وخمسين، عدا المتساقط والمتهدِّم. فلما رأت نفسها في تلك الخربة الهائلة مع ابن زياد وليس معهما ثالث ارتعدت فرائصها وتحققت وقوع المحظورة، وكان الضعف قد تمكن منها ولم تعد تقوى على الدفاع، فاصطكَّت ركبتاها وعجزت عن المشي، فأسندت ظهرها إلى أسطوانة بجانبها حُجْر كبير جلست عليه وهي ترتجف، فأدرك عبيد الله حالها، فعمد إلى الرفق بها، فجلس إلى جانبها وهو يحاذر أن يلمسها لئلَّا تجفل وقال لها: أتعلمين يا سلمى أنك وحيدة في هذا المكان وأن حياتك بيدي، وأني نائل ما أريد ولو بلغ صراخك عنان السماء؛ إذ ليس من يسمع صوتك غير هذه الأحجار؟ فقد طالما نصحتك وأنت تدافعينني، ولقد عاملتك باللين واللطف حتى طفح الكأس وآن لك أن ترعوي، فما ضرك لو أقلعت عن جهالتك وأصغيت لنصيحتي وأطعتِني فتكونين زوجتي؟ وأنت تعلمين أني يد أمير المؤمنين وسيفه الذي يناضل به، وقد ولاني الكوفة والبصرة، فإذا عقلت وأطعتِني كنت سيدة نساء الكوفة، وإذا شق عليك لعن أبي تراب فلا أكلفك لعنه، وإنما أطلب إليك أن تقبلي اقتراننا فأعطيك ما تريدين وتعيشين معي في نعيم يتمناه الكثيرات. وظلت سلمى ساكتة، فقال لها: أراك ساكتة، فهل سكوتك هذه المرة مثل سكوتك بالأمس في دار الخليفة؟ أم هو دليل على رجوعك إلى الصواب؟ ويكفيني برهانًا على ذلك أن تعطيني يدك فأقبلها. قال ذلك ومد يده إليها. فلما سمعت كلامه ورأته يمد يده وقفت وتباعدت، ولكنها شعرت بالضعف وتحققت أنها إذا جافته فعل بها ما يشاء ولا تقوى على دفعه، على أن نفسها لم تضعف مثلما ضعف جسمها، فلما دنت يده منها دفعته وصاحت بأعلى صوتها: أتغتنم ضعفي يا عبيد الله وتستبدُّ بي، وتزعم أننا في خلوة لا يرانا فيها أحد؟ ألا تعلم أن الله يراك وهو قادر على إذلالك كما أذلَّ بناة هذه القصور وكانوا ملوكًا فأصبحوا ترابًا؟ خفْ من الله يا ابن زياد وأشفق على ضعفي. فقال لها: لقد صبرت عليك كثيرًا، وأكثرت من الرفق بك حتى لم يبقَ مكان للصبر عندي، فاعلمي أنك واقفة بين الحياة والموت، فإذا أنت أطعتني حييت سعيدة مكرمة معززة، وإلا فإني أصلبك إلى هذه الأسطوانة ثم أطعنك بهذا الخنجر وأتركك طعامًا لطيور السماء. قال ذلك وأشار إلى خنجره. فعظم الأمر على سلمى وغلب عليها اليأس وأيقنت بدنو أجلها فبسطت كفيها إلى السماء وصاحب بأعلى صوتها: إني أستجير بك يا رب العالمين، يا نصير المظلومين، أستجير لك من هذا الباغي الأثيم، فابعث إليَّ من لدنك من يأخذ بناصري وينقذني. أشفق اللهم على فتاة لا ذنب لها إلا الانتصار لنبيك والغيرة على أهل بيتك الطاهرين. ••• وكانت سلمى تتكلم والصدى يدوي في تلك الخرائب، وهمَّ ابن زياد بأن ينتهرها فإذا بكلب ينبح بين الأساطين ونباحه يقرب نحوهما، ولم تمضِ برهة حتى دنا الكلب وإذا هو أسود كبير، فلما رأته سلمى علمت أنه شيبوب كلب الناسك فاستغربت وجوده في تلك الخرائب، ولم يكن عبيد الله أقلَّ استغرابًا منها. أما الكلب فوثب على عبيد الله وهو ينبح نباحًا شديدًا يدوِّي له المكان دويًّا عظيمًا، فاستأنست به وخُيِّل إليها أنه جاءه الفرج القريب. أما عبيد الله فلما رأى الكلب واثبًا عليه استلَّ خنجره وطعنه في ظهره طعنة غاص بها النصل إلى نصفه، فعوى الكلب عواءً شديدًا من شدة الألم وانثنى مسرعًا حتى خرج من الهيكل. والتفت عبيد الله إلى سلمى وقال: كأني بك قد استأنست بهذا الكلب وحسبته فرجًا جاءك من ربك، فها قد قتلته، وإذا بقيت على غيك ألحقتك به ومزجت دمه بدمك. قال ذلك والخنجر بيده والدم يقطر منه. فقالت: أغمد خنجرك في صدري، وأرحني من رؤيتك. قال: سأفعل ذلك بعد أن أتركك ساعة تستخيرين فيها نفسك. قال ذلك وحل عمامته وربط بها أكتافها من الوراء وشدها إلى الأسطوانة، وتناول نقابها وقيد به رجليها، وتركها مصلوبة مكشوفة الوجه وخرج وهو يقول: استخيري نفسك، وسأعود إليك بعد ساعة، فإذا بقيت على غيك أغمدت خنجري هذا في صدرك وتركتك بين هذه الخرائب طعامًا للغربان. وإذا رجعت عن غيك سرت بك مكرَّمة إلى الكوفة. خرج عبيد الله وغادرها مصلوبة تئن من ضغط الوثاق، فصغرت الدنيا في عينيها، وعلمت أن العفة لا تُصان إلا إذا فُديت بالروح، فآثرت الموت، ولكنها استثقلت أن يطول عذابها على غير طائل، وودت لو أنه أسرع في قتلها لتنجو من العذاب، ثم تذكرت شيبوب وشقَّ عليها موته في سبيلها على غير فائدة، وعادت تفكر في سبب مجيئه إلى تلك الديار فلم تجد سببًا سوى أنه رأى الركب مارًّا بالغوطة فلحق به التماسًا للطعام. وظلت سلمى مصلوبة على تلك الأسطوانة وأفكارها تائهة في عالم الخيال، وهي تستعيد ذكرى عبد الرحمن.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/14/
سلمى والناسك
وفيما هي غارقة في لجج الهواجس سمعت أنينًا، ثم رأت شيبوب مسرعًا إليها وقد جمد الدم على جرحه وانسكب على كتفيه إلى قوائمه، وقد فتح فاه واندلع لسانه وهو يلهث، فادته سلمى فدنا منها وذيله لاصق بساقيه، ثم ألقى نفسه بين رجليها وقد أخذ منه التعب مأخذًا عظيمًا، وأغمض عينيه ومدد رجليه وهو يئن أنين النزع. ولم تكد سلمى تتأمله وتأسف لحاله، حتى رأت الشيخ الناسك بين يديها وهو يحلُّ وثاقها بأسرع ما يستطيعه الشاب في عنفوان شبابه، فبغتت لرؤيته ولم تفُه بكلمة، وكانت حركاته وإشاراته تشير إليها أن تسكت، فلما حل الوثاق أومأ إليها أن تُسرع أمامه فأسرعت ثم حمل كلبه على ذراعيه وسار حتى سبقها، فسارت في أثره لا تنبس ببت شفة، ولكنها استغربت ذلك الاتفاق وعدَّته من قبيل المعجزات، وكان الشيخ خلال سيرهما ينثر التراب على آثار الدم في الطريق حتى لا يستدل بها أحد إلى المكان الذي قصداه. وبعد مسير نصف ساعة بين الأحجار والعمد، وصلا إلى باب ضيق انحدرا فيه على درجات غير منتظمة والكلب على ذراعي الشيخ، وقبل الدخول عمد الشيخ إلى حجر سد به الباب حتى لا يشك الذي يراه أنه خال مهجور، ثم دخلا وقد اختفيا عن العيون، وسار إلى مصطبة تحت الأرض لا ينفذ إليها النور إلا من شقوق الباب، فجلس الناسك وأجلسها، ووضع الكلب بين يديه على المصطبة، وأخذ في البكاء والنحيب وهو يخاطبه، وسلمى ساكتة تنظر إلى ما يبدو منه، فإذا هو يقول: أسفي عليك يا رفيقي وصديقي، وا حسرتاه عليك أيها الخادم الأمين. لقد ختمت حياتك بشهامة يعجز البشر عن مثلها. إنك حيوان أعجم ولكنك خير من الناطقين؛ لأنهم ينطقون بالباطل ويستخدمون تلك الهبة السامية لارتكاب المنكرات وإتيان المعاصي، وأنت لا تعرف غير الخير، صحبتك منذ بضعة عشر عامًا وأنت رفيقي وأنيسي. صحبتك بعد أن مللت صحبة الآدميين وعرفت شرور بني الإنسان. ما أبلغ عجمتك! وما أقبح نطقهم! نعم إنك حيوان أعجم ولكنك أنقذت نفسًا ناطقة. أنقذت هذه النفس الطاهرة من منكر أوشك أن يرتكبه معها إنسان يزعم أنه أرقى منك خلقة وأسمى عاطفة، وهو لا يفوقك إلا باقتداره على بث الدسائس ونصب المكائد. قوتل الإنسان، ما أكبر دعواه وأقل خيره! وهو يفتخر أنه سيد المخلوقات. ما صحبتك إلا وأنا عارف فضلك وناظر خيرك، ولكنني لم أكن أعلم أن هذا مصيرك، وما حسبت أنك سائر إلى الموت قبلي. قال ذلك وهو ينظر إلى كلبه، والكلب يتمطى ويختلج ويجيل عينيه حوله ويعاني عذاب النزع، وسلمى تنظر إليهما ولا تتمالك عن البكاء، وقالت في نفسها: إذا كان الشيخ يبكي كلبه لأمانته وصدق مودته، فكيف لا أبكي حبيبي وابن عمي وقد ذهب ضحية أمانته في خدمة الحق؟! وكان الشيخ يبكي ودموعه تنحدر على لحيته فتنسكب على الكلب وتختلط بدمائه، ثم رفع الشيخ بصره إلى سلمى وقال لها: لا تعجبي يا بنية لما ترينه من بكائي على حيوان أعجم، فإنه خير عندي من أولئك الآدميين. ألا ترينه ذكر صحبتك ومات في سبيل إنقاذك؟ ولكنه لم يمت رخيصًا. إنه ذكر صحبة يوم ويومين، فلما اشتمَّ رائحتك بين هذه الخرائب وكان نائمًا إلى جانبي نهض كالليث الكاسر وأسرع إليك ثم عاد ودمه يفور من جرحه لشدة الطعنة وكأنه أشار إليَّ أن ألحقه فتبعته، وفيما أن مارٌّ بين هذه الأساطين بصرت بذلك الرجل اللئيم خارجًا من الهيكل ولا عمامة على رأسه والخنجر بيده وهو يهم بإغماده، فلما أتيت إليك ورأيتك مصلوبة أدركت أنه صلبك تهديدًا، فأنقذتك، والفضل لهذا الحيوان الذي ترينه يقاسي غمرات الموت بين أيدينا، فمن يفعل ذلك من الآدميين؟! كم من رجل تربينه في حجرك وتعمِّينه بخيرك ثم يكون وبالًا عليك! فتصورت سلمى أحوال البشر ومظالم بني الإنسان ومطامع أهل الشر، وكيف أنهم يقدمون الفضيلة قربانًا على مذبح الأغراض فقلت: صدقت يا مولاي، إن صحبة هذا الكلب خير من صحبة كثيرين، ولكن القضاء نفذ فيه، ولا عجب؛ فتلك عاقبة أهل الفضل من المخلوقات الناطقة أيضًا. فتنهد الشيخ وتغيرت سحنته، وكأنه أفاق من غفلته والتفت إلى الفتاة وعيناه تقدحان شررًا وقال: ويدلُّك ذلك على صدق ما وعد به ربك من العقاب والثواب، وإلا فإن الحياة ضرب من العبث؛ لأن العدل في هذه الدنيا غريب تائه لا يعرف مأوى، ولا نرى في أعماق الناس غير المظالم الفادحة. نرى الأشرار في رغد وهناء وسعادة، والأبرار يقاسون مرَّ العذاب، وما كان ربك ليثيب الظالمين، وستأتي ساعة تلقى فيها كل نفس ما كسبت، إن خيرًا وإن شرًّا، وويل للذين ظلموا من مشهد يوم عظيم. فشعرت سلمى والشيخ يتكلم كأنه ينطق بلسان أهل السماء، فقالت: نعم، لا بدَّ من ذلك، وقد رأينا خير الصالحين يُقتلون بأسياف الظالمين، وهؤلاء يعيشون في سعة وسلطان، ولكن الله عادل، فلا بدَّ من يوم ينال فيه كل امرئ ما كسبت يداه. وسكتا والشيخ يمسح دموعه، ثم قال: هلمَّ بنا ندفن هذا الصديق الأمين فقد بكيناه وسنبكيه كلما لقينا سرورًا. قال ذلك ونهض فحفر حفرة، دفناه فيها، وتوقعت سلمى أن تسمع من الشيخ خبرًا، وتذكرت ما شاهدته من كراماته في دير خالد فقالت: لعله ينبئني بشيء ينفعني، فلما عادا إلى مخبئهما همَّت بخطابه فإذا هو يفرك أنامله وقد أطرق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فأمسكت هي عن الكلام تهيبًا وإجلالًا. أما هو فقال لها: وما الذي جاء بك يا سلمى إلى هذه الديار وقد كنت سمعت بمقتلك؟ فلما سمعت قوله استغربت اطلاعه على سر قتلها، ثم تذكرت ما تعلمت من كرامته فزال استغرابها وقالت: قتلوني يا سيدي ثم أحيوني، ويا ليتهم أبقوني ميتة. قالت ذلك وخنقتها العبرات. ففهم الشيخ أنها تحسب عبد الرحمن ميتًا، وهو يعلم أنه حي، فأراد أن يستطلع فكرها فقال: وهل قتلوا عبد الرحمن؟ قالت: أتسألني عن قتله وأنت أعلم مني بذلك؟ فصمت الشيخ وأطرق، وحدثته نفسه أن يخبرها ببقاء عبد الرحمن حيًّا، ولكنه رأى بقاءها على اعتقادها أقرب لنيل ما يتمناه وما عقد النية عليه، فظل صامتًا مترددًا. أما هي فمسحت دموعها وقالت: ولكنني لا أعلم ما جرى لعامر. هل علم بما أصاب عبد الرحمن وما أصابني؟ وأين هو الآن؟ فتجاهل الشيخ برهة ثم قال: لا شك أنه علم بموته، وهو يعتقد أنك قتلت أيضًا، ولا أدري أين هو، فلعله سار إلى المدينة أو إلى الكوفة، وربما كان قد انتحر يأسًا وأسفًا. فلطمت وجهها وقالت: وا أسفاه عليك يا عماه، وا حسرتاه على آمالك ويا لخسارة ما قضيته من سِنِي الشقاء في خدمتنا. إني لا ألومه إذا قتل نفسه. فأراد الشيخ أن يشغلها عن البحث في مسألة عبد الرحمن فسألها كيف نجت، فقصت عليه الحديث من أوله إلى آخره ثم قالت: وها أنا ذا نجوت من الموت وأنا أشتهيه، إلا إذا كان في بقائي خدمة للمسلمين، فالآن إما أن تقتلني وتدفنني في هذه الخرائب أو ترشدني إلى سبيل للانتقام. فقالت لها: أتريدين الانتقام؟ قالت: كيف لا أريد وهو وحده الذي يحبب إليَّ البقاء؟! وإلا فالموت أشهى لدي. قال: إذا كنت تطلبين الانتقام فإنك تلقينه في الكوفة. قالت: لا أبالي أين هو ولا كيف هو، وإنما أريد الحياة من أجله، فإذا قتلت يزيد وابن زياد، أو رأيتهما مقتولين، فإني أموت بعد ذلك قريرة العين. قال: اعلمي يا بنية أن الحسين بعث بابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليدعو الناس إلى بيعته، فبايعه منهم ثمانية عشر ألفًا، فإذا جاء الحسين إلى الكوفة تمت البيعة فيفشل ابن زياد ويُقتل، ثم يسيرون إلى الشام فيحاربون يزيد ويقتلونه أيضًا. ولم يتم الشيخ كلامه حتى أشرق وجه سلمى وقالت: يا حبذا ذلك! هل أراه يتحقق؟ هل أقتل يزيد؟ هل أقتل ابن زياد. إني أريد أن أقتلهما بيدي، ولكن قل لي يا عماه، أواثق أنت من ذلك؟ قال: إني أقول الصحيح الذي لا ريب فيه، فامكثي معي هنا بعضة أيام ريثما ينصرف هؤلاء القوم إلى الكوفة ثم نلحق بهم، ومتى وصلنا إلى الكوفة أنبئك بما سيكون. ••• ترك ابن زياد سلمى مصلوبة، وهو لا يشك أنها لا تلبث أن تذعن له وتخاف بطشه، فلما عاد إلى الهيكل ورأى بقايا الوثاق ولم يجدها تملَّكه الذهول والغضب، وأخذ يبحث عنها بين الأساطين في الهيكل وخارجه، وأرسل رجاله يفتشون في كل مكان فلم يقفوا لها على أثر، وما زال في البحث يومين حتى ملَّ، ولامه رفاقه على التأخير والأمر يقتضي سرعة المسير، فحمل أحماله وسار يلتمس الكوفة وهو يلتفت وراءه ولا يكاد يصدق أن سلمى خرجت من يده على هذه الصورة، ولو أطاعه رفاقه لما خرج من تدمر قبل الوقوف على مكان سلمى ولو أدى به ذلك إلى نقض أحجار تلك الخرائب حجرًا حجرًا. وكان أهل الكوفة قبل وصوله قد رحبوا بمسلم بن عقيل وبايعه منهم جمع غفير، وضعُف أمر الأمويين بها، فذهب عبيد الله بن زياد أولًا إلى البصرة فحثَّ أهلها على الطاعة، ثم جاء الكوفة وأهلها قد تشيَّع أكثرهم للحسين، وأصبحوا ينتظرون قدومه ليبايعوه ويولوه أمره، فلما سمعوا أن يزيد ولَّى عبيد الله رجوا أن يصل الحسين قبله لتكون الولاية له، ولكن عبيد الله وصل إلى الكوفة قبل الحسين، فدخلها وحده عليه لباس الأمراء، فكان لا يمر بمجلس أو جماعة إلا ظنوه الحسين فيقولون: مرحبًا بك يا ابن رسول الله، وهو لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم فساءه ما رآه من ترحابهم بالحسين. حتى وصل إلى دار الإمارة وفيها النعمان بن بشير أميرها السابق، والنعمان يحسبه الحسين فأغلق الباب في وجهه وقال: أنشدك الله ألا تنحيت عني. فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتالك حاجة، فدنا منه وقال له: افتح لا فتحت! فلما سمع النعمان صوته عرفه وفتح له، وصعد عبيد الله المنبر وخطب في الناس فقال: «أما بعد فإن أمير المؤمنين ولَّاني ثغركم ومصركم وفيأكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم كالوالد ولمطيعكم كالأخ الشقيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليبقِ على نفسه.» ثم نزل وأخذ يُعنى بإرهاب أهل الكوفة وردهم إلى الطاعة بما عرف به من الدهاء، وأهل الكوفة ضعفاء سريعو الانقلاب. ••• أما ما كان من سلمى والشيخ فإنهما بعد أن تحققا مسير ابن زياد من تدمر خرجا وسارا يلتمسان الكوفة من طريق غير الذي سلكه هو، وكان سيرهما بطيئًا والطريق وعر خطر. وبعد أيام أشرفا على الكوفة من تلٍّ وقد تعبا تعبًا عظيمًا، فاستراحا يومًا وسلمى لا تصبر عن النزول إلى الكوفة، فلما عزما على ذلك قال الشيخ: اعلمي يا بنية أني عاهدت الله ألا أقيم بالمدن ولا أسكن العمارة، فانزلي إلى الكوفة وحدك. فبغتت سلمى وقالت: وكيف العمل يا مولاي؟ وأين أقيم؟ قال: اذهبي إلى هذا البيت في طرف الكوفة، هل ترينه؟ قالت: نعم. قال: إنه بيت كندية مثلك اسمها طوعة، وكانت جارية للأشعث وأعتقها، ثم تزوجها رجل آخر وولدت منه أولادًا اسم أحدهم بلال. هل تذكرينها؟ قالت: نعم أذكر أني رأيتها في أثناء إقامتي بالكوفة، وأظنها تعرفني. قال: اذهبي وأقيمي عندها، وأنا أتردد إليك في منزلها ونرى ما سيكون. فقالت: وأنت أين تقيم؟ قال: أما أنا فذاهب إلى سهل صغير في طرف البرِّيَّة، وراء الكوفة من جانب الفرات، اسمه كربلاء، فإذا احتجت إليَّ فإنك تجدينني هناك. قالت: اذكرني في دعائك، وإني داخلة الكوفة وقلبي ممتلئ أملًا، وعسى الله أن يفتح علينا ويفرج كربنا ونرى الحق سائدًا. قال: وأنا أرجو ذلك. ثم ودَّعها ومضى وفي خاطره أن يزيدها اطمئنانًا على حقيقة أمر عبد الرحمن، ولكنه أجَّل ذلك إلى فرصة أخرى مخافة أن تسير إلى عبد الرحمن بمكة، وهو يرى الكوفة أوسع مجالًا للانتقام. فمشت سلمى حتى دخلت الكوفة كأنها فتاة من فتياتها عائدة من الاحتطاب أو الاستقاء، ومرت بالأزقة فرأت الناس في هرج وسمعت بعضهم ينادون: «يا منصور أمت.» وآخرون يلعنون ابن زياد. فاستبشرت بنقمة الناس عليه، ولكنها أحبت استطلاع الواقع فعوَّلت على الاستفهام من طوعة. وبعد قليل وصلت إلى دار طوعة فرأتها جالسة لدى الباب وحدها فحيَّتها، فلما عرفتها رحبت بها واستقبلتها، وكانت قد رأتها قبل سفرها إلى دمشق، فسألتها عن عامر وعبد الرحمن فأجابتها جوابًا مبهمًا وكظمت ما في نفسها، وأدخلتها طوعة البيت وقدَّمت لها الطعام، فأكلت شيئًا واستراحت ولم يبقَ لها صبر على استطلاع الخبر فقالت: ما بالي أرى أهل الكوفة في هرج؟ ما الذي أصابهم؟ وما معنى قولهم: «يا منصور أمت»؟ فأشارت طوعة إليها أن تخفض صوتها ثم قالت: لعلك كنت غائبة عن الكوفة؟ قالت: كنت في البصرة وقد عدت منها اليوم. قالت: إن أهل البصرة لا يجهلون ما أصابنا؛ لأنهم شركاؤنا في الأمر. قالت: سمعت بانتقاض أهل الكوفة على الخليفة الجديد ومبايعتهم الحسين بن علي، على يد ابن عمه مسلم بن عقيل، ولكنني سمعت الناس يلعنون ابن زياد لأنه تولَّى الإمارة على أن يقاوم المبايعين، ولم أفهم شيئًا غير ذلك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/15/
مسلم بن عقيل
قالت طوعة لسلمى: إن مسلم بن عقيل نزل في دار المختار بن عبيد وأمير الكوفة يومئذٍ النعمان بن بشير، وهو رجل ضعيف، فجعل مسلم يدعو الناس إلى بيعة الحسين، ولو أنه جاء الكوفة لبايعه كل أهلها، فلما رأى الأمويون ذلك بعثوا إلى يزيد في دمشق فولَّى عليهم عبيد الله بن زياد، وهو داهية مثل أبيه. فتنهدت سلمى وقالت: كيف لا أعرفه وهو الذي قتل أبي؟! قالت طوعة: فلما جاء ابن زياد الكوفة دخلها وحده فلم يشك الناس أنه الحسين، ثم ما لبثوا أن عرفوه، فدخل دار الإمارة وخطب في الناس وحرضهم على مقاومة شيعة الحسين، ولكي يتم له ذلك مع قلة أشياعه بعث إلى العرفاء (مشايخ الحارات) فجمعهم وأمرهم أن يكتبوا إليه أسماء من في مناطقهم من شيعة الحسين، وشدد في ذلك حتى هددهم بالصلب والقتل، فلما سمع مسلم بما نواه ابن زياد خرج من دار المختار ونزل في بيت هانئ بن عروة المرادي، وهو رجل ذو وجاهة. فقطعت سلمى كلاما وقالت: إني أعرفه. فقالت طوعة: فلما جاء مسلم إلى هانئ، خاف هذا أن يقبله في داره؛ لما سمع من تشديد ابن زياد في طلبه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فلم يعد هانئ يستطيع رده فقبله. فصارت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ، وبلغ ذلك ابن زياد من بعض الجواسيس، فأراد أن يحتال في الدخول على هانئ ليتحقق الأمر، وحدث أن مرض هانئ بن عروة فبعث ابن زياد إليه أنه قادم لعيادته، فقال بعض الحضور من الشيعة: الطاغية قادم إليكم فاقتلوه وأنقذوا المسلمين من شرِّه. فبهتت سلمى عند ذلك وصارت تتوقع أن يقتلوه؛ لأنها فرصة ثمينة لو اغتنموها، ولكنهم أضاعوها فضاعت بضياعها كل مساعيهم، وكم من غلطة صغيرة أدت إلى خراب كبير! فاستطردت طوعة كلامها وقالت: فلما اقترح الرجل قتل ابن زياد، اعترض هانئ بأنه لا يريد أن يُقتل أمير الكوفة في داره، فجاء ابن زياد فعاده وخرج سالمًا. فصاحت سلمى: يا للخسارة! ويا للضعف! لله ما أضعفهم! فقالت طوعة: إنهم ضعفاء يا بنية، ولكن ذلك أمر الله، فأصبح همُّ ابن زياد أن يقبض على هانئ ويسأله، فبعث إليه أن يوافيه إلى قصره، فاعتذر هانئ بالمرض، فألحَّ عليه وبعث إليه رجلًا استقدمه بالحيلة، فلما وصل هانئ إلى دار الإمارة أحسَّ بالشرِّ، ولكنه دخل ووقف بين يدي ابن زياد فقال له هذا: «يا هانئ، ما هذه الأمور التي تدبر في دارك لأمير المؤمنين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال، وظننت ذلك يخفى علينا؟!» فأنكر هانئ في بادئ الرأي وهو لا يظن أمره معلومًا عند ابن زياد، ولكن هذا واجهه بالرجل الذي كان قد جعله عينًا عليه، فتحقق هانئ أنه مطلع على جلية الأمر فقال: «اسمع مني وصدقني؛ فوالله لا أكذبك، والله ما دعوت ابن عقيل ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسًا على بابي يسألني النزول، فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام، فأدخلته دار ضيفًا، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت فإني أعطيك الآن موثقًا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى أنطلق وأخرجه من داري وأعود إليك.» فلم يقتنع ابن زياد بإخراج مسلم من دار هانئ، بل طلب أن يأتيه به إلى القصر، فقال هانئ: «لا آتيك بضيفي لتقتله أبدًا، وله علي حق الضيافة وهو في ذمامي.» فتوسط بعض الحضور في إقناع هانئ بأن يأتيه بمسلم ولا خوف عليه، فلم يقنع وقال: «لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان، والله لو كنت واحدًا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.» فقالت سلمى عند سماعها ذلك: لا فض فوك يا ابن عروة هذه هي رعاية الذمام. فقطعت طوعة كلام سلمى وقالت: اسمعي يا حبيبتي ما كان من عاقبة تلك الرعاية، فإن ابن زياد لما سمع كلام هانئ قال: أدنوه مني. فأدنوه، فأعاد التهديد عليه، فلما لم يطعه تناول عبيد الله قضيبًا كان في يد بعض رجاله وأمر واحدًا فأمسك هانئًا بضفيرتيه، ثم أهوى على هانئ بالقضيب، ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وأسال الدماء على ثيابه ونثر لحم خده على لحيته حتى انكسر القضيب، وأراد هانئ أن يدافع عن نفسه فمد يده إلى قائم سيف شرطي كان واقفًا بجانبه فمنعه منه، وأمر عبيد الله به فأُلقي في حجرة وأغلق عليه. فدقت سلمى كفًّا بكفٍّ وقالت: وماذا فعل رجاله وأهل عشيرته؟ قالت طوعة: بلغ عشيرته أنه قُتل، فجاءوا وأحاطوا بالقصر وفيه ابن زياد ورجاله، فخاف ابن زياد منهم وسألهم عمَّا يريدونه فقالوا: «إنك قتلت هانئًا.» فأفهمهم أن هانئًا ما زال حيًّا، واستشهد شريحًا القاضي وكانوا يعتقدون صدقه، فأخبرهم بأنه حي فانصرفوا. فصاحت سلمى: يا للفشل! ماذا أصاب الناس! فقالت: تمهَّلي يا سلمى، إنك ستسمعين ما يسرُّك وفيه الفوز والنجاة إن شاء الله. إنك سألتني عن معنى قولهم: «يا منصور أمت»، فاعلمي يا بنية أن هذه العبارة هي شعار أنصار الحسين ينادي بها بعضهم بعضًا، وأما سبب الهرج الذي رأيته فإن مسلمًا لما علم بما أصاب هانئًا نهض ونادى رجاله بذلك الشعار حتى اجتمع حوله ثمانية عشر ألفًا من كندة ومذحج وتميم وهمذان وأهل المدينة، ولكل عشيرة من هؤلاء ربع، فعقد على كل ربع لقائد، وساروا في هذا الصباح وأحاطوا بالقصر وليس مع ابن زياد في القصر إلا ثلاثون رجلًا، وهو الآن في ضنك شديد ولا أظن مسلمًا إلا فائزًا. فتهلل وجه سلمى وأبرقت أسرَّتها وبان الاهتمام في وجهها وقالت: يا رب يا كريم، انصر قومك. قالت ذلك ونهضت تريد الخروج، فأمسكت طوعة وقالت: إلى أين تذهبين؟ قالت: دعيني، أريد أن أرى ما يكون من أمرهم. قالت: تمهَّلي واقعدي؛ فإنك فتاة، لا آمن عليك من الغوغاء. وفيما كانت سلمى تحاول الخروج، سمعتا وقع أقدام بباب الدار، فتغير وجه طوعة وخفق قلبها، إذ ليس في بيتها رجال، فأشارت إلى سلمى أن تمكث وخرجت هي إلى الباب فرأت رجلًا واقفًا والبغتة والكآبة ظاهرتان في وجهه فسألته عمَّا يريده؟ فقال: أريد ماء. فقدمت له كوبًا شربها وجلس، فقالت له: يا عبد الله ألم تشرب؟ قالت: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك. فسكت وظل في مكانه لا يبرحه بعد أن طلبت منه الانصراف ثلاثًا. فقالت: يا سبحان الله! إني لا أُحلُّ لك الجلوس على بابي. فقال لها: إني غريب، وليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر معلوم، ولعلِّي أكافئك فيما بعد؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذَبني هؤلاء الأقوام وغرُّوني. وكانت سلمى واقفة تسمع، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها في صدرها وأسرعت إلى الباب، فلما وقع بصرها عليه عرفته، وقد رأته من قبل في المدينة، فأرادت أن تستعطف طوعة في قبوله فإذا هي قد دعته من تلقاء نفسها. فدخل مسلم وسيفه تحت عباءته والهمُّ والتعب قد أثَّرا في سحنته، فعرضت عليه عشاء فلم يتعشَّ، فوقفت سلمى بين يديه وقد أرسلت نقابها على رأسها وترقرقت الدموع في عينيها وقالت: ما أصابك يا مولاي؟ فتنهد مسلم وكادت العبرات تسبق كلامه وقال: دعيني يا أخية، ولا تسألي عن قومي، فقد قلت لكما إنه لا قوم لي ولا عشيرة في هذه المدينة. فقالت طوعة: ولكنني سمعت في هذا الصباح أنك جمعت ثمانية عشر ألفًا وأحطتم بقصر زياد وهو ليس عنده إلا ثلاثون رجلًا، فما الذي جرى لقومك؟ قال وهو يحرِّق أسنانه: لقد تفرقوا عني. قالت سلمى: كيف تفرقوا؟ وما الذي حملهم على هذا التفرق وهم كثيرون؟ قال: لا تسألي عن القضاء إذا وقع. إن أهل الكوفة قوم لا يُركن إليهم، وقد أخطأنا بالاعتماد عليهم بعد أن سمعنا عمي الإمام عليًّا كرم الله وجهه يخاطب أهل العراق بقوله: «أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه.» فقد غرَّني من هؤلاء الأقوام ما رأيت من إقبالهم على بيعة الحسين حتى تكاثر عددهم، فلما دعوتهم في هذا الصباح اجتمعوا وتجنَّدوا، حتى قلت: توليتها يا ابن بنت بن الرسول، ولكن ابن مرجانة — ابن زياد — داهية مثل أبيه، فلما رأى رجالنا محيطين بقصره، وقد امتلأ المسجد والسوق بالناس، وسمع جماعة يسبُّونه ويسبُّون أباه، دعا بعض رجاله وفيهم بعض أشراف القبائل وأمرهم أن يخرجوا إلى الأسواق ويخذِّلوا الناس بالتهديد والوعيد أو بالوعد، وأطمعهم بالمال وغيره، فخرجوا يخذلون الناس، وأمر آخرين أن يشرفوا من نوافذ قصره علينا ويؤمِّلوا أهل الطاعة ويخوِّفوا أهل المعصية، فأشرفوا علينا وجعلوا ينادون بالأمان لمن أطاع وبالشرِّ لمن عصا، فما شعرت إلا والناس يتفرقون عني ولم يبقَ معي منهم إلا ثلاثون رجلًا، فدخلنا المسجد، ثم رأيت في البقاء هناك خطرًا على حياتي فخرجت هائمًا لا أدري إلى أين أسير حتى وصلت إلى هذه الدار، وأنا لا أبالي الآن أموت أو أحيا، ولكنني أخاف على ابن عمي الحسين؛ لأني كتبت إليه ليجيء، وأظنه قادمًا وهو يحسب أهل الكوفة جميعهم على دعوته، وهم على ما رأيناهم فيه من الضعف، ثم تنهد وقال: والله إن عبد الله بن مطيع قد نصح ألا نقرب الكوفة، وقد قال للحسين لما خرج من المدينة: جعلت فداءك أين تريد؟ قال: أما الآن فمكة، وأما بعد فإني أستخير الله قال: «خار الله لك وجعلنا فداءك، فإذا أتيت مكة فإياك إن تقرب الكوفة؛ فإنها بلد مشئومة؛ بها قُتل أبوك، وخُذل أخوك واعتلَّ بلعنة كادت تأتي على نفسه. الزم الحرب فإنك سيد العرب، لا يعدل بك أهل الحجاز أحدًا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنتفرقن بعدك.» فما كان أجدرنا أن نصغي لقوله، ولكن قد نفذ السهم، ولا خيرة في الواقع. وفيما هو يتكلم دخل بلال ابن طوعة، وهو شاب في مقتبل العمر، فلم تعرفه سلمى ولا مسلم، وأسرعت أمه إلى استقباله وهي تريد أن تفي أمر مسلم عنه، ولكن الشاب لم يسكت عنها حتى أخبرته بخبر مسلم، وطلبت إليه أن يكتم أمره وأخذت عليه الأيمان، فسكت وهو يضمر السوء، وبات تلك الليلة ومسلم هناك، وأما سلمى فإنها باتت منقبضة النفس وقد أُسقط في يدها وتحققت الفشل، ففكرت فيما ينبغي أن تفعله، فاعتزمت أن تسعى أولًا في سلامة الحسين بأن تسير لملاقاته في الطريق وتقص عليه الخبر وتُرجعه عن الكوفة حتى يقضي الله بما يشاء. ••• لما أقبل الصباح أفاقت طوعة فلم تجد ابنها فظنته خرج لعمله، وأفاق مسلم فجاءته سلمى وعرضت عليه أن تسير هي بنفسها لإبلاغ الحسين الخبر، فأعجب بحميتها وقال لها: والله لو أن في رجالنا عشرة مثلك ما أصابنا ما أصابنا، بورك فيك يا بنية، إننا إذا احتجنا إلى إرسالك أرسلناك، ولكنني لا أرى فائدة من بقائي هنا فأذهب بنفسي. فتنهدت سلمى وتذكرت مصائبها وما ألمَّ بحبيبها في سبيل ذلك الأمر، فغلب عليها الحزن، ولكنها تجلَّدت رغبة في تشجيع مسلم. ولم تمضِ برهة حتى سمعوا وقع حوافر حول الدار، وعلت الضوضاء، فأجفل مسلم وامتقع لونه، فلما رأت سلمى ذلك فيه خرجت تنظر ما أثاره فرأت فرسانًا رجالًا يزيد عددهم على السبعين، وفي مقدمتهم شاب شاكي السلاح وعليه الدرع، فعلمت أنه زعيم القوم، فلما استقبلتهم صاح فيها الفارس قائلًا: أين مسلم؟ فليخرج إلينا الساعة. قالت: وماذا تريدون منه؟ قالوا: مالك ولهذا التطفل؟! أين مسلم بن عقيل؟ فلما سمع صوت الرجل يناديه جرَّد حسامه وهجم عليه وقال: ما بالكم؟ ماذا تريدون؟ فصاح فيه الفارس: تعالَ معنا إلى الأمير. فقال: خسئتم أنتم وأميركم. وهجم عليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار وقتل واحدًا منهم. فتناولت سلمى سيف الرجل المقتول وشدت وسطها وهجمت وهي تفضل الموت بعد ذلك الفشل، وكان ابن عقيل ينظر إليها ويعجب بها ويقول لها: ارجعي يا سلمى، مالك ولهذا الخطر؟ أما هي فلم تصغِ له، فضربت ضربتين ثم سمعت ابن عقيل يصيح: قتلوني قتلهم الله، فالتفتت وإذا بسيف أصاب فمه فقطع شفته العليا وسقطت ثنيتاه، لكنه لم يقتل، فهجم على الضارب فضربه على رأسه وثنَّى بأخرى على العاتق كادت تطلع على جوفه، وسلمى تناضل معه، فلما رأى القوم ذلك صعدوا إلى سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه، فلما رأى مسلم ذلك خرج من الدار بسيفه وهو يقول: وخرجت سلمى معه، وقاتلاهم في الطريق، فصاح رئيس القوم بابن عقيل: لا نكذب ولا نخدع، إن القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضارِّيك، وكان مسلم قد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فأسند ظهره إلى حائط الدار وقد ضعف ولم يعد يستطيع قتالًا، فجاءه سيد القوم وهو محمد بن الأشعث، فحمله على بغلة وأمَّنه على حياته. وما زالوا سائرين به حتى جاءوا القصر وأوقفوه عند بابه، فرأى هناك جرة ماء باردة فقال: اسقوني من هذا الماء. فقال واحد منهم: أتراها؟ ما أبردها! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار الجحيم. فقال له: ومن أنت؟ فقال له: أنا من عرف الحق إذ تركته، ونصح الأمة والإمام إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته، أنا مسلم بن عمر. فقال له مسلم بن عقيل: لأمك الثكل! ما أجفاك وما أفظعك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم. ثم جاء رجل فصب ماء وأعطى مسلمًا فشرب ثم نظر في القدح فإذا هو قد امتلأ بالدم. وأمر ابن زياد بمسلم فأصعدوه إلى أعلى القصر فضُرب عنقه، ثم أخرجوا هانئًا وقتلوه، ولم يبالِ ابن زياد بعهده الذي أعطاه لهانئ ولمسلم باستبقائهما. وكانت سلمى لما تحققت فشل مسلم ورأت الدم في وجهه، تذكرت مقتل عبد الرحمن فهاجت عواطفها ومضت تضرب بسيفها وتناضل مناضلة الأبطال، ولولا النار التي اتصلت بها ولحقت بشعرها ما كفَّت عن الضرب. فلما انصرفوا أسرعت طوعة إلى سلمى، فأطفأت شعرها ونقابها، وحملتها إلى الفراش وهي غائبة عن الدنيا، ورشَّتها بالماء حتى أفاقت وصاحت: أين مسلم؟ أين ابن عم الحسين؟ فقالت طوعة: قد حملوه إلى القصر. قالت: وماذا يفعلون به هناك؟ أظنهم سيقتلونه، قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم! فجعلت طوعة تخفف عنها، ولم يمضِ النهار حتى سمعت بمقتل مسلم فانصدع قلبها، وفكرت في أمرها فرأت البقاء لا يجديها نفعًا، وتذكرت الشيخ الناسك فهمَّت بالمسير إليه. ••• وفي صباح اليوم التالي، خرجت سلمى من بيت طوعة وسارت تلتمس كربلاء، فجعلت طريقها من خارج الكوفة لئلَّا ترى ما تكرهه من فوز الأمويين، فيممت شاطئ الفرات حتى أطلَّت على سهل مقفر لا شجر فيه ولا عشب ولا ماء، فعلمت أنه سهل كربلاء، ورأت في بعض أطرافه شجرة قد تقادم عهدها وتحتها شبح نائم فعلمت أنه الشيخ الناسك، ولم تكد تصل إليه حتى جلس وقد شعر بقدومها عن بعد كأنه اشتمَّ رائحتها. أما هي فلما رأته لم تتمالك عن البكاء لفرط ما هاج خاطرها من مصير مسلم وحزبه. فلما رآها الشيخ ناداها قائلًا: أراكِ باكية! كأني بهم فتكوا بابن عقيل؟ فأجابته وقد خنقتها العبرات: نعم، لقد قتلوه شرَّ قتلة. قتلوه ومثَّلوا به، وفازوا بالأمر دونه، وخابت مساعينا، كأن الله قد كتب علينا الشقاء! فابتدرها قائلًا: قتلوا ابن عم الحسين؟ وكيف قتلوه ولم يخافوا غضب الله وملائكته؟ أعوذ بالله من ظلم الإنسان. قالت: نعم قتلوه بعد أن ساموه مرَّ العذاب، وكنت أحسب الملائكة تدفع عنه؛ لأنه إنما جاء للدفاع عن الحق! أهذا جزاء نصراء الحق عند الله؟! فقطع الشيخ الناسك كلامها وقال: رويدك يا سلمى، لا تعارضي أحكام الله، فإننا لا ندرك مقاصده سبحانه وتعالى، وما نحن إلا تراب صنعنا بيده، وهو يفعل بنا ما يشاء لحكمة يعلمها. فأخبريني كيف قتلوه؟ فجلست على حجر بالقرب منه وقصت عليه الحديث وهي تبدي خلال ذلك تحسرها، حتى إذا أتت على آخر كلامها أوغلت في البكاء وجعلت تندب حال المسلمين، وجرَّها ذلك إلى ندب حبيبها عبد الرحمن فقالت: لست أعارض حكم الله، ولكنني لا أدري الحكمة في ذلك. إن الحسين قام يدعو الناس إلى الحق، وأرسل ابن عمه لنصرته، أفيُقتل هذا ويفشل ابن بنت الرسول ويُظلم كل من قام بنصرته؟! ألم يقتلوا ابن عمي عبد الرحمن لأنه طالب بدم أبي وانتصر لأهل البيت؟! ألم يقتلوه شرَّ قتلة؟! آه منهم! كيف قتلوه؟! قالت ذلك وعادت إلى البكاء، ثم قالت وقد خنقتها العبرات: كيف ينصر الله قومًا يحاربون سبط الرسول ويقتلون كل من قام بنصرته، وخليفتهم مشغول عن شئون الخلافة بشرب الخمور وضرب الطنابير ومجالسة النساء؟! إنه لأمر غريب! فلما سمعها تندب ابن عمها وهو يعلم أنه حي، رثى لها، وكان قد علم من سياق حديثها أنها ذاهبة إلى الحسين لإطلاعه على جلية الخبر لعلها تُرجعه عن عزمه، والشيخ يرجح أن عبد الرحمن وعامرًا مع الحسين فأراد أن يطمئنها ويُطلعها على الواقع، فمسح لحيته بيده ثم مسح عينيه بأنامله من آثار دموع كادت تبللها في أثناء سماعه نبأ مقتل ابن عقيل، ثم قال: وما الذي أنت عازمة عليه يا سلمى؟ قالت وقد رجع إليها رشدها وبان الاهتمام في وجهها: أتسألني عمَّا عزمت عليه وأنت لا تجهله؟! أتجهل يا سيدي أني فقدت كل شيء في سبيل نصرة بيت الرسول، ولم يبقَ لي ما أبذله إلا نفسي، وليس بذلها بالأمر العظيم عندي في هذا السبيل. أريد أن أذهب لألاقي الحسين قبل وصوله إلى الكوفة وأخبره بما وقع، وأنصح له بأن يتربص حيث هو ريثما يتم له التأهب لطلب حقه، ثم أمكث في خدمته حتى يتأتَّى له ذلك فأحارب معه وأموت بين قدميه، فأذهب إلى حيث ألقى عبد الرحمن وأبي، وأرجو أن يكون مصيري معهما إلى النعيم؛ لأني أعتقد صدق الدعوة التي نحن قائمون بها، فإذا قدر الله لنا النصر وفزنا على أولئك الطغاة وقتلناهم، عشت سعيدة بالانتقام لأبي وابن عمي وللإمام علي. فضحك الشيخ حتى أغرب في الضحك، وسلمى تنظر إليه وتعجب من ضحكه بعد أن قصت عليه خبر الفشل الذي أصابها، فلبثت صامتة وهي تسمع قهقهته وترى اهتزاز لحيته حتى خُيِّل لها أنه أصيب بجنون، ولكن اعتقادها بكرامته غلب عليها فحملت ضحكته محمل خير يضمره لها، فلما انتهى من الضحك تفرَّست في وجهه فإذا هو قد غاب إلى الانقباض بغتة ولمعت عيناه بما غشاهما من الدمع، ورأت سلمى ذلك من خلال حاجبيه المسترسلين على عينيه، فقالت له: أيأذن لي مولاي بسؤال؟ قال وقد عاد إلى الابتسام: إنك تسألينني عن سبب ضحكي، وأنا أقول لك السبب وأرجو أن يضحكك أيضًا. فقطعت كلامه وقالت: لا أظن شيئًا في العالم يضحكني، فلن أضحك إلا ضحكة الظفر أو ضحكة الموت. قال: وما قولك إذا أضحكتك الساعة؟ قالت وهي تستخفُّ بقوله: قل ما شئت واضحك ما شئت، وسترى أني لا أبتسم لشيء قط، وكيف أضحك أو أبتسم وقد قتل أبي وابن عمي ظلمًا ولم أُقتل معهما؟ قال: وإذا أخبرتك خبرًا يسرُّك؟ فقالت: إذا كان خبرك رجمًا بالغيب فللأولياء كرامات، وقد تتنبأ بخبر نرجوه في المستقبل. ولكنني رأيت من الفشل في الأيام الأخيرة ما سوَّد الدنيا كلها في عيني، فلا أضحك إلا لخير أراه أو لخير أتوقعه، وأي خير أرجو بعد هذه المصائب؟ قال: وإذا أطلعتك على خبر عن عبد الرحمن؟ فلما سمعت اسم حبيبها اختلج قلبها واصطكَّت ركبتاها وبُغتت وقالت: وأي خبر عنه يا مولاي لم أسمعه بعد؟! واختنق صوتها وبكت. قال: وماذا سمعت عنه؟ قالت: ألم أندبه بين يديك مرارًا؟ آه يا مولاي! دعني من هذه الذكرى ولا تُهج أشجاني. دعني أُشغل عن الحزن بالانتقام، ودعني أمضِ لسبيلي لألاقي الحسين وأهل بيته وأنبئهم بالخطر الذي ينتظرهم. قال: سيري يا بنية في حراسة الله، وأرجو أن تلاقي عبد الرحمن هناك. فصاحت: ألاقي عبد الرحمن؟! وكيف ألاقيه وأنا حية؟! إلا إذا بُعث في هذه الحياة الدنيا، وما سمعنا بالبعث إلا في الآخرة، لا أراك يا مولاي إلا ضاحكًا مني هازئًا بعواطفي. أو أنك تتنبأ بقرب أجلي لألقى حبيبي في الآخرة، فإذا كان ذلك فمرحبًا بالموت، إنه حلو شهي. قالت ذلك وهي لا يخطر لها ببال أن يكون عبد الرحمن حيًّا، ولكن قلب المحب سريع الاطمئنان قريب التصديق، فأوحى إليها حبها أن الله قادر على إحيائه، وأن الشيخ الناسك لا يقول عبثًا، على أن عقلها بقي يرى استحالة ذلك، فلبثت تتردد بين الأمرين. أما هو فلما شاهد اضطرابها نظر إليها جادًّا وقال: إني لا أُلقي القول جزافًا يا سلمى، إن عبد الرحمن حيٌّ باقٍ لم ينَله كيد أولئك الأشرار. فوثبت سلمى من مجلسها بغتة، وأحست كأن شعر رأسها وقف، واقشعرَّ بدنها، وكاد الدم يجمد في عروقها، وصاحت في الشيخ وأمسكته بيده وهي تقول: بالله اصدقني الخبر يا مولاي ولا تهزأ بي؛ فإني أكاد أجن! قل لي: هل عبد الرحمن حي؟ عبد الرحمن! هل هو حي؟ حي مثلي ومثلك؟! قالت ذلك والدمع ملء عينيها، لا تدري أتضحك أم تبكي. فخشي الشيخ أن يصيبها ضر، فأجابها بصوت خافت: نعم يا سلمى هو حي بإذن الله. قالت: كيف ذلك وقد حققت مقتله من قبل؟ يا ربي ماذا أسمع؟ هل أنا في حلم؟ هل عبد الرحمن حي يمشي ويتكلم؟ هل أكلمه فيسمعني وألاقيه فيراني؟ آه يا عبد الرحمن! أأنت حي وأنا أندبك؟! إني أراني في حلم! ثم التفتت إلى ما يحدِق بها من السهل القاحل كأنها تتحقق وجدانها وترامت على يدي الشيخ وجعلت تقبلهما والدمع يتساقط عليهما وهي تشهق من شدة البكاء وتقول: بالله يا سيدي اصدقني، أحي عبد الرحمن حقًّا؟ وهل أراه، وأين هو؟ قل لي يا مولاي. قل لي وأشفق على حياتي. عبد الرحمن حي؟! أين هو؟ فأمسكها الشيخ ويده ترتعش، وأوقفها وهو يتأمل حركاتها ويقرأ عواطفها، فدمعت عيناه وقال: احمدي الله يا سلمى، إن عبد الرحمن وعامرًا على قيد الحياة، وهما مع الحسين، وأظنهما آتيين معه في طريقه هذه. فبُهتت سلمى، واستجمعت رشدها ولبثت مطرقة تنظر إلى الأرض وهي تراجع في ذاكرتها ما سمعته عن مقتله في دمشق، فلم تجد دليلًا على أنه قُتل غير ما سمعته من ابن زياد والحكيم، فهان عليها تصديق بقائه حيًّا، فأحست للحال أن غمامة انقشعت عن عينيها، وكأن جبلًا نزل عن قلبها، فانبسط وجهها وابتسمت، فابتدرها الشيخ قائلًا: أراك تضحكين، وكنت تقولين أنه لا شيء يضحكك! قالت: لم يدُر في خلَدي أن أسمع هذا الخبر. أيكون عبد الرحمن حيًّا ولا أضحك؟! ثم انقبضت بغتة وقالت: ولكن ما الفائدة؟ أين هو؟ ما الذي يجمعني به، فقد أصبحت بعد ما لقيته من الفشل المتواتر لا أصدق شيئًا حتى يقع، وقد يقع ولا أصدقه. قال: لا تيأسي من نعم الله، فأن معسكر الحسين يجمعك بعبد الرحمن، فقد سار إليه وأنت في دمشق مع عامر، وهو يحسبك ميتة كما كنت تحسبينه ميتًا! ثم قص عليها الخبر من أوله إلى آخره، فاطمأن بالها وسكن روعها ووثقت من بقائه على قيد الحياة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/16/
خروج الحسين إلى العراق
كان الحسين قد انتقل من المدينة إلى مكة وأرسل ابن عمه مسلمًا إلى الكوفة كما تقدم. وجاءته كتبه بأن معظم أهل الكوفة على بيعته، فعزم على الخروج إليها وهو يحسب أنه إذا جاءها استتبَّ الأمر له، وكان يستشير أصحابه فمنهم من يخوفه من الذهاب ومنهم من يحرضه عليه، وكان في جملة المحرضين عبد الله بن الزبير، وكان طامعًا في الخلافة لنفسه؛ لأنه من كبار أبناء الصحابة، كما كان أبوه الزبير بن العوام طامعًا فيها قبله على عهد الإمام علي، وقد حاربه عليها في وقعة الجمل إلى جوار البصرة، ولكنه قُتل هناك هو وطلحة وفاز علي بالأمر، فلما قُتل علي وتولى الخلافة معاوية بن أبي سفيان لم يجرؤ ابن الزبير على مناجزته، فلما مات معاوية كان ابن الزبير والحسين في الكوفة فطلبوا منهما البيعة ليزيد كما تقدم فأبيا، ثم خرجا إلى مكة وفي نفس كل منهما أن يطلب البيعة لنفسه، فرأى ابن الزبير أنه لا يستطيع ذلك والحسين معه في مكة؛ لأن الناس يؤثرون الحسين عليه، فرغَّبه في طلب بيعة أهل الكوفة وحبَّب إليه المسير إليها، وكان الحسين مخلص الطوية صادق اللهجة مثل أبيه، والمخلص سليم النية سريع التصديق، وما أضاع علي الخلافة إلا لطيبة قلبه وحلمه ورغبته عن الدهاء والمكر. وكان ابن الزبير يُظهر للحسين عكس ما يضمره، وربما أعرب له عن بقائه بمكة وهو يريد خروجه منها، وفي جملة ما دار بينهما من الحديث في هذا الشأن أن ابن الزبير قال له مرة: «ما أدري ما ترك لنا هؤلاء، وقد كفننا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم. خبرني ماذا أنت صانع؟» فقال الحسين: «لقد هممت بالذهاب إلى الكوفة، وكتبت إلى شيعتي فيها وأشراف الناس، وأستخير الله.» فقال ابن الزبير: «أما والله لو كان لي بها مثل شيعتك لما عدلت عنها.» ثم خشي أن يتهمه فقال له: «أما إنك لو أقمت بالحجاز وأردت هذا الأمر ههنا لما خالفناك بل ساعدناك وبايعناك ونصحنا لك، فأقم إن شئت واندبني لهذا الأمر فتُطاع ولا تُعصى.» فلما خرج ابن الزبير قال الحسين لمن عنده: «إن هذا الرجل ليس شيء في الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز، وقد علم أن الناس لا يعدلونه بي، فود لو أني خرجت حتى يخلو له الجو.» ويظهر من ذلك أن الحسين لم يكن يجهل طمع ابن الزبير، ولكنه ظل راغبًا في الخروج، ولعله خاف مناوأته إذا بقي هناك. وممن نصح للحسين ألا يخرج من مكة عبد الله بن عباس، ابن عم أبيه، وكان قد أدرك غرض ابن الزبير فنصح للحسين مرارًا بأن يبقى، فلم يطعه، فجاء في مساء اليوم الذي كلمه فيه ابن الزبير فقال له: «يا ابن عم، إني أتصبَّر ولا أصبر، أني أتخوف عليك من الذهاب إلى أهل العراق، فلو أنهم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم، ثم دعوك، فسِر إليهم، وإن كانوا قد دعوك وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تحيي بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، فاكتب لهم فلينفوا عاملهم ثم اقدم عليهم. أما إذا أبيت إلا أن تخرج من مكة، فسِر إلى اليمن؛ فإن بها حصونًا وشعابًا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتبث دعاتك حتى يقوى شأنك وتنظر ما يكون.» فقال الحسين: «يا ابن عم، إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكنني أزمعت المسير إلى الكوفة.» فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرًا فلا تسِر بنسائك وصبيانك؛ فإني لخائف أن تُقتل كما قُتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.» ثم قال: «لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك، والله الذي لا إله هو لو أعلم أني إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس وأنت تطيعني وتقيم لفعلت.» ثم خرج. ••• خرج الحسين من مكة ومعه نساؤه وأولاده وأبناء عمه، وما زال ينتقل من مكان إلى آخر والناس ينضمون إليه، حتى أتى مكانًا اسمه «الثعلبية»، كان قرية ثم خرب، وهناك جاءه الخبر بمقتل مسلم بن عقيل، وبما حلَّ بشيعته، وحذروه المسير إلى الكوفة، فكاد يرجع عن طلبها لولا أن قام بنو عقيل إخوة مسلم فحرضوه على المسير وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم. فتحمس الحسين وقال: «صدقتم، لا خير في العيش مع هؤلاء.» وما زال سائرًا حتى دنا من ضواحي الكوفة والناس يأتونه في الطريق ويحذرونه، فأصر على المسير، ولكنه أطلق الحرية للذين معه فقال لهم: «قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منَّا ذمام.» فتفرقوا عنه يمينًا وشمالًا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة وفي جملتهم عبد الرحمن وعامر، وكانا من جملة من حرضوه على المسير للانتقام، وكان عبد الرحمن لا يستصعب شيئًا في ذلك السبيل بعد ما كان يعتقده من مقتل سلمى. أما سلمى فإنها كانت قد صممت على النهوض لملاقاة الحسين لكي تطلعه على جلية الخبر وهي تحسبه لا يعلمه، وباتت ليلتها تحت تلك الشجرة على أن تصبح في الغد وتسير، ولما أصبحت ودعت الشيخ وخرجت، ولم تمشِ قليلًا حتى رأت الغبار يتصاعد من جهة الكوفة ثم ظهرت من تحته الخيل، فعلمت أن ابن زياد أرسل جنده لملاقاة الحسين، فتظاهرت بالاستسقاء من بعضهم وسألت عنهم، فعلمت أن قائدهم عمر بن سعد وأن عددهم يبلغ بضعة آلاف، فنزل هذا الجند في القادسية ونظم الخيول بين القادسية إلى ضفان، ومن القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع، فخفق قلب سلمى خوفًا على الحسين ورجاله، ولكنها ظلت سائرة وقلبها طائر أمامها التماسًا لملاقاة عبد الرحمن. حتى بلغت جبلًا اسمه ذو جشم، فوقفت لتطل منه على الطريق، وإذا بغبار يتعالى عن نحو ثلاثين فارسًا وأربعين راجلًا ما عدا النساء والأطفال، فعلمت أن القادمين هم الحسين ورجاله، ولكنها استقلَّت عددهم واستغربت مجيئهم بهذه القلة بعد أن رأت جند الكوفة وكثرتهم، ثم تبادر إلى ذهنها أنها ترى طليعة الجيش وأن البقية آتية، فوقفت جانبًا وقلبها يخفق وعيناها شائعتان تتفرسان في وجوههم لعلها ترى عامرًا أو عبد الرحمن، فلم ترَ أحدًا، فترجح عندها أن الذين تراهم ليسوا كل الجند، فسألت عبدًا كان منفردًا عن الركب، فعلمت أنهم الحسين ورجاله جميعًا. فاستغربت ذلك وانقبضت لما علمته من كثرة جند الأمويين في القادسية، واشتغل خاطرها على عبد الرحمن وعامر، ثم رأت جماعة أسرعوا فنصبوا فسطاطًا كبيرًا في سفح الجبل، وبعد قليل أقبل فارس حسن اللباس والقيافة جليل القدر يحيط به الرجالة وعليه جبة من خز وعلى رأسه عمامة، وقد اختضب بالوسمة (وهي ورق النيل أو نبات يخضب بورقه) وهو في نحو السابعة والخمسين من عمره ولا يزال الجمال ظاهرًا في وجهه مع ما فيه من آثار الانقباض، فعلمت أنه الحسين، فاشتغلت لحظة بالتطلع إليه فإذا هو قد ترجَّل ودخل الفسطاط وهو صامت كأنه يفكر في أمر ذي بال، وأشار إلى رجاله أن يرشفوا الخيل ترشيفًا، وسلمى بالباب في جملة الواقفين وعيناها تتنقل في الناس، ثم تحولت إلى سائر المعسكر وتفحصت الرجال ببصرها فلم تجد عامرًا ولا عبد الرحمن فاضطرب قلبها وارتابت في كلام الناسك، ثم عادت إلى الخيمة لعلها تجد أحدهما فيها، فرأت فارسًا قادمًا من جهة الصحراء وعليه لباس الأمراء، ففتح له الناس طريقًا حتى أقبل على الخيمة وترجَّل ودخل على الحسين، فلم تعرفه سلمى ولكنها سمعت بعض الناس يتحدثون عنه ويتذمرون من قدومه، ثم علمت أنه الحر بن يزيد التميمي قدم من القادسية في ألف فارس لرد الحسين عن الكوفة، فالتفتت سلمى إلى الناحية الثانية من الجبل فرأت الخيل قد ملأت السهل. ثم دخل الحر على الحسين وقال له: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فقال الحسين: «إني ما جئتكم حتى جاءتني كتبكم بأن أقدم إليكم.» فقال الحر: إننا والله ما ندري ما هذه الكتب. فقال الحسين: «أتكتبون ثم تنكرون؟!» قال: إننا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وإنما نحن أُمرنا إذا لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد. فقال الحسين: «الموت أدني إليكم من ذلك.» ثم صاح في أصحابه: «قوموا فاركبوا وانصرفوا.» فاعترضه الحر قائلًا: بل لا ينصرفون. فصاح الحسين فيه: «ثكلتك أمك، ماذا تريد؟» قال له الحر: أما لو غيرك من العرب قالها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنًا ما كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه. فقال الحسين: «فما تريد؟» قال: أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله. قال: «إذن والله لا أتبعك.» فنظر الحر إليه وعيناه تعتذران عن جرأته وقال: إني لم أومر بقتالك، وإنما أُمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقًا لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة ريثما أكتب إلى عبيد الله فأستشيره في أمرك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/17/
زينب بنت علي
رضي الحسين بذلك، وأمر الناس بالركوب، فلما سمعت سلمى ما دار بينهما تحققت عجز الحسين عن قتال هؤلاء، واستعاذت بالله من عاقبة ما تراه، ثم عادت إلى شأنها واعتزمت أن تبحث عن عبد الرحمن وعامر بحثًا دقيقًا، فلم ترَ خيرًا من أن تدخل خباء النساء، وكانت تعرف أكثرهن وهن لا يكدن يعرفنها؛ لأنها لم تُقم بينهن طويلًا، فتحولت إلى فسطاط دخلته فرأت امرأة لم يقع نظرها عليها حتى عرفت أنها زينب أخت الحسين، وكانت شديدة الشبه به؛ لأنهما من أم واحدة (فاطمة بنت الرسول)، فرأتها في انهماك وبغتة وقد علت جبينها دلائل الاهتمام وعيناها تتوقدان ذكاء وتعقلًا، وكانت زينب مشتغلة بطفل بين ذراعيها لا يزيد عمره على سنة وبعض السنة، تُربِّته وتشدو له وعيناه ذابلتان للرقاد وقد أشرق وجهه كأنه يتدفق نورًا وحياة، والطفل في غفلة عمَّا حاق بأهله من الأمر العظيم، فعلمت سلمى أنه علي الأصغر ابن الحسين، وهو أصغر أولاده، وكان للحسين ثلاثة أبناء كل منهم اسمه علي، وإنما يُعرف بعضهم من بعض بلقب السن فالأكبر اسمه علي الأكبر والثاني علي الأوسط — زين العابدين — والثالث علي الأصغر، وهو هذا. أما زينب فحالما وقع نظرها على سلمى عرفتها، واستغربت حضورها في تلك اللحظة، ولكنها لعظم ما عانته من الأهوال لم تعد تستبعد شيئًا، فابتسمت ابتسامة الترحاب بالرغم من شواغلها واستأنست بها، فأسرعت سلمى إليها تعرض عليها مساعدتها، فأشارت إليها قائلة: خذي هذا الغلام على ذراعك ريثما ينام، فتناولته وحنت عليه حنوَّ الوالدة على ولدها، فلما خلت يد زينب تحولت إلى فراش في بعض جوانب الخباء عليه غلام مضطجع، فتبعتها سلمى ببصرها وتفرَّست في الراقد فإذا هو علي الأوسط وقد توردت وجنتاه وتصبب العرق من جبينه وذبلت عيناه وهما مفتوحتان حمراوان كالدم ودلائل الحمى بادية فيهما، ورأت صبية جملية الخلقة نجلاء العينين جاثية بجانب المريض، وهي مرتبكة والدموع في عينيها مع ما يتجلى في وجهها من البشاشة الغريزية، فعلمت سلمى أنها سكينة بنت الحسين أخت ذلك الراقد، وكانت سكينة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن أخلاقًا مع خفة في الروح. فوقفت سلمى وهي تتشاغل بتربيت الطفل وتنظر إلى زينب فإذا هي قد دنت من فراش المريض وجسَّت يده ومسحت العرق عن وجهه، ثم التفتت إلى سكينة وقالت: لا بأس عليه يا حبيبتي بإذن الله، ولا تلبث الحمَّى أن تفارقه عمَّا قليل بما ينسكب منه من العرق. فأجابتها سكينة بالبكاء ثم رفعت صوتها وقالت: صبرًا على حكم العناية، أما كفانا ما أحدق بنا من الأخطار حتى أصيب أخي هذا بالمرض، فماذا عسى أن تكون عاقبة هذه النوازل؟ قالت ذلك وشرقت بدموعها. فأومأت إليها زينب وهي تتجلَّد: لا تقولي هذا على مسمع من المريض؛ لئلَّا يشتد مرضه. ثم أمسكتها بيدها وأنهضتها وقالت: قومي يا بنت أخي هلمَّ بنا نتأهب للرحيل فإن أباك قد أمر بالركوب. فنهضت الفتاة وأخذت تهتم بنفسها، فوقع نظرها على سلمى فعرفتها واستأنست بها؛ لأنها لم تكن تطيق الانقباض؛ لانطباعها على المرح والسرور. وكان الطفل قد نام على ذراعي سلمى وهي تضمه إلى صدرها وتتيمن بقربه؛ لأنه ابن الحسين وفيه من دم الرسول، فلما أرادت زينب أن تأخذه منها قالت لها: دعيه نائمًا على ذراعي فإن ذلك أكثر راحة له من الانتقال. قالت: بورك فيك يا بنية، ولكنني أرى أن أضجعه في الهودج ونحن على أهبة الرحيل. قالت: إني أذهب في خدمته إلى حيث يسير. دعي أمر العناية به إليَّ واشتغلي بشئونك. فأثنت عليها وتحوَّلت إلى فراش علي الأوسط فأنهضته، وأمرت من معها من النساء والجواري أن يأخذن في شد الرحال. وكان الرجال قد أخذوا في تقويض الخيام وتحميل الأحمال، وركب كل منهم في مركبه، وركبت سلمى في هودج مع زينب والطفل، وهي تشتاق إلى الاستفهام عن عبد الرحمن، ولكنها استحيت أن تسألها وهي في تلك الحال. أقلع الركب وساروا في طريق وسط؛ بحيث تكون الكوفة إلى يمينهم، والحر ورجاله سائرون بالقرب منهم ليمنعوهم من الرجوع إذا أرادوه. وكانت زينب وهي في الهودج تشرف من خلال الستور على أخيها ومن معه بعد هنيهة وتعود إلى مقعدها وهي تتأوه، فعلمت سلمى أنها إنما تفعل ذلك لعظم قلقها واضطرابها، فأرادت أن تسلِّيها وتخفف عنها وهي تتوقع أن تستطرق إلى حديث حبيبها فقال: ما لي أراك في هذا الاضطراب يا مولاتي؟ فتنهدت زينب ونظرت إلى سلمى وقالت: تسألينني عن سبب اضطرابي وأنت ترين ما نحن فيه؟! ألا تعلمين أننا ذاهبون إلى القتل؟! قالت: ولماذا تقولين هذا؟! أن الله ينصر نصراءه ويرفع كلمتهم. قالت: صدقت يا بنية، ولكنك لو عرفت ما ينتظرنا في الكوفة وفي ضواحيها من الأهوال، وما هنالك من الأعداء وفيهم الفرسان والرجالة لعجبت لمسيرنا، ومعنا الأطفال والغلمان والنساء، وفيهم المرضى والضعفاء والرضع، وليس معنا من الرجال إلا إخوتي لأبي وهم ستة: العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، وعبيد الله، وأبو بكر، وما من أولاد أخي الحسين من يستطيع القتال إلا علي الأكبر، وهذا علي الأوسط غلام مريض، ومعنا من أبناء أخي الحسن رحمه الله اثنان صغيران هما أبو بكر والقاسم، وبضعة آخرون من أبناء عمي عقيل الذين قُتل أخوهم مسلم في الكوفة. ثم تنهدت وقالت: آه لو تعلمين كيف قتلوه؟ فتذكرت سلمى مقتل مسلم وحان لها أن تُظهر نفسها وتستطرق إلى حديث حبيبها، فقالت: إني أعلم بمقتل ذك الشهيد يا مولاتي. فانتبهت زينب لنفسها وأدركت أنها كان يجب أن تسألها عن حالها فقالت: أظنك من أهل الكوفة، متى جئت منها؟ فقالت: نعم كنت في الكوفة، ورأيت مسلمًا يناضل بسيفه في بيت طوعة الكندية، ثم رأيتهم يسوقونه والدم يسيل من شفتيه، وعلمت أنهم لما بلغوا به دار ابن زياد قتلوه قتلة لم نسمع بمثلها من قبل؛ أصعدوه إلى أعلى القصر فضربوا عنقه وقذفوا بجثته إلى أسفل. فصاحت زينب: قتلهم الله! ما أقسى قلوبهم! إني كلما فكرت في ذلك يقشعر بدني. فقالت سلمى: من أنبأكم بمقتل مسلم؟ قالت: لم نسمعه إلا بالأمس، وكان أخي قد أرسل نفرًا من أصحابه للبحث عن حقيقة الحال وفيهم اثنان كنديان لم أرَ أشد غيرة منهما على الإسلام، جاءانا من أمد بعيد، وقد قص أخي عليَّ من أخبار غيرتهما ما يُفرح قلب كل مسلم. فلما سمعت سلمى ذكر الكنديين خفق قلبها عساهما أن يكونا عامرًا وعبد الرحمن، ولكنها تجلَّدت وسألتها: ومن هما ذانك الرجلان يا سيدتي؟ قالت: لم أرَهما يا بنية، ولكني سمعت أخي يذكر أن أحدهما ابن أخ لحُجْر بن عدي صاحب الغيرة المشهورة في نصرة الحق، وهو الذي قتله معاوية بن أبي سفيان ظلمًا. ولم تكد زينب تتم قولها حتى ارتعدت سلمى، وكان الطفل لا يزال على حجرها فأجفل لإجفالها، وصعد الدم إلى وجهها بغتة وأخذت الدموع تتجلى في آماقها. ••• استغربت زينب ذلك من سلمى، ولم تكن تعرفها جيدًا ولا تدري علاقتها بعبد الرحمن فقالت: ما الذي غيرك يا بنية؟ فلم تتمالك سلمى عن إرسال الدمع وهي تقول: وهل سمعتم شيئًا عن ذلك الوفد يا مولاتي؟ فتنهدت زينب وقالت: والهفي عليهم! فقد بلغني أن ابن زياد اللعين قبض عليهم وفعل بهم مثل ما فعله بابن عمي مسلم. فصاحت سلمى: أقتلوهم يا سيدتي؟ أقتلوهم جميعًا؟! قالت ذلك وهمَّت بإضجاع الطفل في الهودج إلى جانبها لئلَّا يعوقها عن الحركة أو إذا تحركت توقظه. فأدركت زينب أن في الأمر سرًّا فقالت: لا، لم يقتلوهم جميعًا، لا أدري سوى أنهم قتلوا بعضهم. فقالت: هل قتلوا عبد الرحمن؟ أواه! قتلوه؟! قالت ذلك وهي تلطم وجهها. فأمسكتها زينب وقد نسيت مصيبتها واشتغلت بما رأته من لهفة الفتاة وبكائها وقالت لها: ومن هو عبد الرحمن يا بنية، وهل من قرابة بينك وبينه؟ قالت: إنه ابن عمي، هل قتلوه وألحقوه بأبي؟ فلما سمعت قولها تفرَّست في وجهها فرأت فيها شبهًا بحُجْر بن عدي فقالت: لعلك ابنة حُجْر بن عدي؟ فقالت: نعم يا مولاتي إني ابنة ذلك المقتول ظلمًا، ابنة شهيد الحق الذي ذهب في سبيل نصرة أبيك صهر النبي وابن عمه ووصيه وحبيبه. بالله أخبريني، فرِّجي كربي، هل قتلوا عبد الرحمن؟ فصمتت زينب لحظة وقد تفتقت جروحها، وتذكرت مقتل أبيها وما يقاسونه من العذاب والبلاء بسبب ذلك، ولكن خاطرها اشتغل بسلمى لما رأته من غريب أمرها إذ تذكرت أحاديث سمعتها عن عبد الرحمن وخطيبته وموتها فقالت: لعلك خطيبة عبد الرحمن؟ قالت وهي مطرقة: نعم يا سيدتي أنا هي تلك التعسة، أنا سلمى الشقية، كُتب علي أن أحيا بعد موت أبي وابن عمي. آه يا رباه! ما هذه المصائب! ولكن، هل مات ابن عمي حقيقة؟ فأرادت زينب أن تخفف عنها فقالت: تجلَّدي يا ابنتي، إني أرى في الأمر سرًّا عظيمًا وأمرًا غريبًا؛ لأني سمعت أن عبد الرحمن فقد خطيبته في دار يزيد بن معاوية في دمشق، وأنه جاء للانتقام لها ولأبيها وأبي رحمهما الله، وهو إنما أراد الذهاب إلى الكوفة سعيًا في هذا السبيل. كيف يقولون إنك قُتلت وأنت حية؟ فقالت: إنهم قتلوني ثم أحيوني كما قتلوا عبد الرحمن وأحياه الله؛ قد خرجنا من دمشق وأنا أحسبه مات وهو يحسبني مت، ولكنني عرفت بقاءه حيًّا بالأمس، وقيل إنه معكم فجئت لألاقيه وألاقي عامرًا وصيَّنا، فإذا أنا أسمع ما سمعته منك. أشفقي عليَّ يا بنت الرسول وارثي لحالي، اعذريني على ما فرط من عواطفي بالرغم مني، وما أنتم في حال تساعدكم على الاهتمام بمثلي. فاستغربت زينب كل كلمة تسمعها ولم تفهم السر في موتها وحياتها، ولكنها قالت لها: لا تيأسي من رحمة الله. نعم إن عبد الرحمن وعامرًا خرجا إلى الكوفة مع الوفد، ولكننا لم نسمع بمقتل واحد منهما بل سمعنا بمقتل سواهما، ولا أظن هذين إلا على قيد الحياة، فأخبريني عمَّا كان من موتك وموته في دار ابن معاوية، فأخذت سلمى تقص حديثها وزينب تنظر إليها وقد شُغلت بما تسمعه من الغرائب عمَّا هي فيه. لما فرغت سلمى من حديثها آنست زينب فيما سمعته منها عبرة وموعظة، وأعجبت بغيرتها على الإسلام، وعلى الثأر لأهل البيت وشيعتهم، فقالت لها: إن حديثك أثر في خاطري تأثيرًا كبيرًا، وهون علي ما كنت أتخوفه من الموت، وما الموت بالأمر الذي ينبغي أن نخافه طالما رأينا الحق في جانبنا، فاتخذي حالنا موعظة لك، ثم فتحت ستار الهودج وقالت: انظري إلى هؤلاء وهم خيرة بيت الرسول، إنهم ملقون بأنفسهم إلى القتل لأنهم يعتقدون أن الحق في جانبهم ويرون خيرًا لهم أن يموتوا محقين. فشعرت سلمى بأنها بالغت في شكواها وبيان مصيبتها مع ما تراه من المصيبة التي يتوقعونها عمَّا قليل وهي ضربة شديدة على الإسلام والمسلمين، فابتدرتها قائلة: إني لا أجهل ما نحن فيه يا مولاتي، ومن هو عبد الرحمن ومن أنا أو كل المسلمين في جانب أبناء بنت الرسول وأولادهم. وإنما يسوءني أن يغلب الباطل على الحق، وأن أرى الطغاة ينتصرون على الكرام. وفيما هما في الحديث شعرتا بالهودج قد وقف، وسمعتا لغطًا، فأطلت سلمى من خلال الستور فرأت الركب قد وقف، ووقف الحر ورجاله بإزاء الحسين ورجاله، وإذا برجل على ناقة قادم من الكوفة وقد نكس قوسه وترجَّل إلى الحر ودفع إليه كتابًا. فقالت زينب: ماذا عسى أن يكون خبر هذا الساعي؟ وما في كتابه؟ قالت ذلك وترجَّلت، فترجَّلت سلمى، وأسرعتا إلى الحسين ووقفتا تنتظران ما يكون من أمر ذلك القادم، فإذا بالحر قد تناول الكتاب وقرأه ثم تحول إلى الحسين وهو يقول: هذا كتاب من الأمير عبيد الله بن زياد، هل أتلوه عليك؟ قال الحسين: «اتله.» فقرأه فإذا فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تُنزله إلا بالعراء في غير خضرة وفي غير ماء، وقد أمرت رسولي، أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.» فلما فرغ الحر من تلاوة الكتاب نظر إلى الحسين كأنه يعتذر له من الأمر وقال: لا أقدر أن أنزلك إلا في هذا المكان. وأشار إلى سهل كربلاء على مقربة منهم، والفرات من ورائه والجند يحول بينه وبين الماء. فتقدم الحسين إليه أن ينزله في مكان فيه ماء، فأبى وساقهم إلى كربلاء. وأما سلمى فنسيت قلقها على عبد الرحمن وعامر، وانشغلت بأمر الحسين وأهله، ولازمت زينب والطفل. أما زينب فإنها عهدت في أمر الطفل إلى سلمى واشتغلت بخدمة الباقين ولا سيما الغلام المريض؛ فإن الحمى عاودته. وأشرفوا في الصباح على كربلاء وسلمى في الهودج، فرأت جند الكوفة قد ملئوا السهل وحالوا بينهم وبين الماء، فتطاولت بعنقها لعلها ترى الشيخ الناسك قادمًا لكي تستطلع منه حال عبد الرحمن بعدما سمعته من مسيره إلى الكوفة أو تستفيد منه شيئًا يهم الحسين فلم ترَ أحدًا. أما الحسين وأهله فلما بلغوا كربلاء ضربوا خيامهم وجعلوا أخبية النساء إلى الوراء وخيام الرجال إلى الأمام. وأما زينب فلم تشأ أن تترك أخاها وحده فسارت إلى فسطاطه، وتبعتها سلمى وهي لا تقل قلقًا عنها، فإذا بالحسين جاث بباب خيمته يصلي، فصبرتا حتى فرغ من صلاته، فرأتا رجلًا من جند الكوفة قادمًا عليه، فلما وصل إلى الحسين حيَّاه، فقال له الحسين: «من الرجل؟» قال: جئت برسالة من أمير هذا الجند عمر بن سعد. قال: «وما رسالتك؟» قال: إنه يسأل ما الذي جاء بك؟ وماذا تريد؟ فقال له الحسين: «إن أهل مصركم هذا كتبوا إليَّ أن أقدم فقدمت، فأما إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم. أو آتي يزيد بن معاوية فأضع يدي في يده.» فلما سمعت سلمى قوله بكت لما توسمته في جوابه من دلائل الاستسلام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/18/
التآمر على الحسين
وفيما كانت سلمى عائدة لاحت منها التفاتة إلى بعض جوانب البر فرأت شبحًا مسرعًا من ناحية الكوفة. ما كادت تراه عن بعد حتى عرفت أنه الشيخ الناسك، فخفق قلبها وهرولت إلى الخباء، فدفعت الطفل إلى أخته سكينة وخرجت لملاقاة الشيخ الناسك، ولما دنت منه سمعته يدمدم ويتمتم فأقبلت عليه حتى التقيا بقرب فسطاط الحسين، فأرسل الناسك شعره على وجهه وأشار إليها أنه يريد أن يكلم الحسين، فاستبشرت بإشارته، ومشت معه إلى باب الخيمة، فلما رآه الحسين استغرب منظره ولكنه رحب به وتوسم فيه الخير فقال: «أهلًا بالشيخ.» فقال الشيخ: ارجع يا حسين، ارجع إلى المدينة، إنها خير لك وأبقى. إن الناس هنا يريدون بك شرًّا ولا تقوى على قتالهم. فقال الحسين: إني أراك مخلصًا، فقل ما يبدو لك. قال: انظر يا مولاي إلى هذا الجند، إنهم أربعة آلاف رجل بقيادة عمر بن سعد، وقد أُمروا أن يقاتلوكم، وأنتم فئة قليلة لا تقوون عليهم. قال ذلك وانحدرت عبراته على لحيته. فتأثر الحسين من منظره ولكنه تجاهل ما يراه وقال: «إني أرى رأيك، فهل من رجوع؟» قال: اطلب الرجوع، فإن قبلوا كان به وإلا فإنك … وبكى بصوت عالٍ، فبكت سلمى، وأما الحسين فقال: «لقد علمت مصيري؛ لأني رأيت جدي ﷺ الليلة يدعوني إليه، وما عنده خير مما في هذه الدنيا الفانية.» فكفكف الشيخ دمعه وقال: أما وقد رأيت رغبتك في الآخرة فاعلم أن ابن زياد لم يجب طلبك، وقد أوشك أن يجيبه، لولا ذلك الخائن. قال: ومن هو؟ قال: لما بلغت رسالتك ابن زياد قبلها، ولكن رجل السوء كان حاضرًا، وهو شمر بن ذي الجوشن، فقام إليه وقال له: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك، والله إن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة؛ فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبته فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.» إني لم أبعثك إلى الحسين لتكفَّ عنه، ولا لتطاوله، ولا تمنيه السلامة والبقاء، ولا لتكون له عندي شافعًا. انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا، فابعث بهم إليَّ، وأما إن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم؛ فإنهم لذلك مستحقون، وإن قتل الحسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن والعسكر؛ فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام. ••• لم يتم الشيخ كلامه حتى كانت سلمى قد غرق وجهها في الدموع، وزاد في شجونها ذكر شمر بن ذي الجوشن، وكانت تحسبه قد قُتل في دمشق على ما قصه عليها الناسك من حديث عامر عند إنقاذه عبد الرحمن من السجن. أما الحسين فسمع كلام الناسك وكأنه ليس بالأمر الجديد عنده، وتجلَّد وقال: «إننا صابرون لحكم الله، والله مع الصابرين.» ثم انصرف الناسك فتبعته سلمى وهي ترجو أن تستفهم منه عن عبد الرحمن، فإذا هو قد توغل في الصحراء ولم يلتفت إليها، فوقفت حائرة مستغربة أطواره، ثم حدثتها نفسها أن تلحق به فتنجو من خطر القتل، ولكنها قالت في نفسها: لست خيرًا من هؤلاء، فإذا قتلوهم فما الفائدة من بقائي؟ وإذا كان عبد الرحمن ما زال حيًّا وقُتل الحسين فإنهم يقتلونه معه. ثم رأت أن تذهب لعلها تراه ثم تعود، ولكنها لم تدرِ من أين تعود وكيف؟ فعادت تقول لنفسها: ويلاه! ماذا أعمل؟ أأترك عبد الرحمن لا أعرف مقره ولا أبحث عنه؟ ولكن كيف أخرج من هنا؟ ومن ينبئني بمكانه؟ لا بل أبقى هنا أناضل مع الحسين وأحارب معه، فإذا انتصرنا كان الحظ حليفنا، ونلنا السعادة في الدارين، وإذا قُتلنا فلا أسف على الحياة، ولا أشرف من موتة أموتها مع الحسين وأهل بيته، وما أنا خير من زينب أو سكينة بنت الحسين. ولكني إن استطعت الخروج فقد يحسبني الحسين خرجت هاربة. وبعد التردد استقر رأيها على أن تبقى مع الحسين فإما أن تموت معه أو تحيا معه. فعادت وقد أيقنت بالهلاك إلا أن يأتيهم الله بفرج من عنده. واتجهت إلى خباء زينب وتحول خاطرها إلى الطفل، فقالت في نفسها: إذا قدر الله فشل الحسين أو قتله فماذا يكون من أمر هذا الطفل؟ وشعرت بانعطاف إليه، ودخلت الخباء فإذا بالطفل يبكي، فأسرعت إليه وضمته وقبلته وسألته عمَّا يريد، فإذا هو يشكو الظمأ، وما في المعسكر قطرة ماء، فبحثت عن زينب حتى رأتها بجانب فراش ابن أخيها المريض وقد تعاظمت الحمَّى عليه وهو يهذي، فلما سمعت زينب صراخ الطفل نهضت إليه وتناولته وجعلت تقبله ودموعها تتساقط على خديه وهي تقول: اشرب من هذا الدمع لعله يرويك، اشرب إنهم منعوا الماء عنا والكلاب تشربه. فقالت سلمى: أليس عندنا شربة ماء؟ إني أرى الفرات أمامي؟ فصاحت زينب: إنهم منعونا الماء. ألم تسمعي هؤلاء الظالمين يقولون لأخي: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوقون منه قطرة واحدة حتى تموتوا عطشًا. فقالت سلمى: قبحهم الله ما أقسى قلوبهم وما أغلظ طباعهم! أيمنعون الماء عن المرضى والأطفال؟ وأخذت تعلل الطفل بخرقة وضعتها في فمه وما زال يمضغها ويمصها، وهو إنما يمص ريقه حتى غلب عليه النعاس فنام. وفي عصر ذلك اليوم (الخميس ٩ المحرم سنة ٦١ﻫ) كانت سلمى وزينب وسكينة جالسات في الخباء يتحادثن فيما يخفنه على الحسين ورجاله، فسمعن قرقعة اللجم وصهيل الخيل وأصوات الرجال، فخرجت زينب ثم عادت وهي تقول: لقد أتوا قتلهم الله. فلما سمعت سلمى ذلك تحمست وثارت الحمية في رأسها وقالت في نفسها: لقد حان وقت الاستشهاد في سبيل الحق، وهل أرى سبيلًا إلى الجنة خيرًا من هذا؟ وتلثمت بخمارها وأسرعت إلى قوس معلقة في دعامة الخباء فتناولتها وجعلت تبحث عن السيف، وفيما هي في ذلك رأتها زينب فقالت لها: ماذا تفعلين يا سلمى؟ قالت: لا شيء إنما أنا طالبة وجه ربي اليوم. قالت: لعلك تريدين النزول إلى ساحة الحرب؟ قالت: نعم. قالت: وأنَّى لنا ذلك؟ يا حبذا لو أننا ننزل جميعًا فنقاتل حتى نُقتل مع هؤلاء، ولكن أخي منعنا واستحلفنا أن نأوي إلى الخباء. ألم تري أني خرجت الآن إليه فرأيته جالسًا بباب خيمته ومعه سيفه وكأنه لم يسمع صهيلًا ولا صليلًا، فدنوت منه فرأيته نائمًا ورأسه إلى ركبته فناديته فأفاق فقلت: أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع رأسه وقال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.» فلما سمعت قول أخي لطمت وجهي وناديت بالويل، فقال لي: «ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله.» واستحلفني ألا أرفع صوتي. وكلامه لا يرد، فهل تريدين غضبه؟ امكثي معنا يا سلمى ويكفيك أن تلاحظي هذا الغلام، وأنا أعالج المريض حتى يقضي الله بما شاء. فشق ذلك على سلمى وأُسقط في يدها، وقد كانت تود أن تستقتل حتى تُقتل، أو تلقى شمرًا فتطعنه بالحربة أو ترميه بالسهم؛ لأنه سبب كل هذا البلاء، فضلًا عمَّا لقيت بسببه في دمشق، وكانت تحسبه مات، فلما علمت أنه حي تضاعف بلاؤها، ولكنها لم تكن لتعصي إشارة الحسين، فوقفت مبهوتة لا تدري ماذا تعمل، على أنها تظاهرت بالإذعان ثم خرجت ملثمة حتى وقفت بإزاء خيمة الحسين، فرأت أخاه العباس قادمًا على راحلته من معسكر العدو، فعلمت أنه سار إليهم في مهمة، فاستقبله الحسين وسأله عمَّا كان من أمرهم، فقال العباس: «قد استمهلتهم إلى الغد فأمهلونا على أن نستسلم فيسرحونا إلى أميرهم عبيد الله بن زياد، وإلا فليس عندهم غير الحرب.» لما سمع الحسين ذلك قال: «خسئوا»، ووقف وصاح في أهله، فاجتمع حوله كل إخوته وأبناء عمه وكل من معه من الرجال، ووقفوا ينتظرون ما يقوله وكلهم طوع إشارته، فلما تكامل جمعهم وقف فيهم وقال: «أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء. اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين. أما بعد فإني لا أعلم أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيرًا. ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعًا، فإنكم في حلٍّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا.» فصاحوا جميعًا بصوت واحد: لن نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدًا، فلما سمعت سلمى كلامهم لم تتمالك أن قالت مثل قولهم والدمع ملء عينيها، فانتبه لها بعض الوقوف فالتفتوا إليها فاستحيت وبالغت في إخفاء وجهها. أما الحسين فعاد إلى الكلام وخاطب أبناء عمه فقال: «يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.» فأجابوه: سبحان الله! ماذا يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله ما نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك. فأرادت سلمى أن تقول قولًا فإذا برجل رفع صوته بين الناس وقال: «نحن نتخلى عنك؟! وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله حتى أطعن في صدروهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخلِّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسله فيك. أما والله لو قد علمت أني أُقتل ثم أحيا ثم أُذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى أُلقي حسامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدًا؟!» فسألت سلمى عن القائل فقيل لها: إنه مسلم بن عوسجة، ثم سمعت غيره قال مثل قوله، فانتعشت آمالها وأعجبها ما رأته من الاتحاد والتفاني في سبيل الحق. فأثنى الحسين عليهم، وتحول إلى خبائه، وتحول الباقون، وسارت سلمى إلى خباء زينب لتفتقد الطفل، وكان الليل قد أقبل، فإذا هو ما زال نائمًا، فسُرَّت بنومه، ورأت زينب بجانب فراش المريض تمرِّضه فجلست إلى جانبها وقد انتعشت آمالها بما سمعته في ذلك المساء، وذهب كل إلى فراشه وبقيت زينب وسلمى ساهرتين تمرِّضان عليًّا، وتتحدثان. وفيما هما تتكلمان همسًا والليل هادئ، وعلي قد نام وهو يئنُّ من شدة المرض سمعتا قائلًا يقول: وكان الصوت خارجًا من فسطاط الحسين فعلمت زينب أنه صوته فلم تتمالك نفسها أن وثبت تجرُّ ثوبها وهي حاسرة الرأس، فتبعتها سلمى حتى انتهتا إلى الحسين فرأتاه جالسًا وبجانبه خادمه يعالج سيفه ويصلحه، فصاحت زينب: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة اليوم. ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن. يا خليفة الماضي وثمال الباقي. فنظر الحسين إليها وقال: «يا أخية، لا يُذهبنَّ حلمك الشيطان.» ثم ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «لو ترك القطا لنام.» فقالت زينب: يا ويلتاه! أفتغتصب نفسك اغتصابًا، فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، وغلبها الحزن وبرح بها الأسى فخرَّت مغشيًّا عليها، فهمَّت سلمى بها وأجلستها، وقام الحسين لها وقال: «يا أختاه، اتقي الله وتعزَّي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله. جدِّي خير مني، وأبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله أسوة.» ثم قال لها: «يا أخية، إني أقسمت عليك فأبري قسمي، ولا تشقِّي عليَّ جيبًا، ولا تخمشي عليَّ وجهًا، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت.» فأطاعته وخرجت وسلمى تتبعها صامتة، وقد أحبت الموت مع الحسين، أما هو فقضى ليله يصلي ويستغفر ويدعو ويتضرع، وأصحابه كذلك، وقضت سلمى ليلتها مثلهم وقد أخذ العطش منهم مأخذًا عظيمًا. وأصبحوا في اليوم التالي وهو العاشر من المحرم، فاشتغل الحسين بترتيب رجاله فأمرهم أن يدخلوا أطناب الأخبية بعضها في بعض حتى تصير كأنها خباء واحد، وأن يستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم، ولم يكادوا يفعلون ذلك حتى رأوا الخيل أقبلت عليهم وفي مقدمتها شمر بن ذي الجوشن، وكانت سلمى واقفة في باب الخباء، فلما رأت شمرًا ارتعشت أعضاؤها ورفعت نظرها إلى السماء وطلبت إلى الله أن ينتقم منه. ثم حدثتها نفسها أن ترميه بسهم ولكنها تذكرت أن الحسين أبى عليهم القتال فصبرت واكتفت بالدعاء وملاطفة الطفل. أما الحسين فركب راحلته وعليه جبته وقلنسوته وتقدم وهو ينادي بأعلى صوته: «يا أهل العراق»، فسمعه أكثرهم وأصغوا لما سيقوله فقال: «أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق عليَّ، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النَّصَف كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النَّصَف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليَّ ولا تُنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. أما بعد: فانسبوني وانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين المصدق لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله بما جاء من عند ربه؟! أوليس حمزة سيد الشهداء عمي؟! أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟! أولم يبلغكم ما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لي ولأخي: «هذان سيدا شباب أهل الجنة.» فإن صدقتموني فهو الحق، والله ما تعودت كذبًا منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم.» ثم قال: «فإن كنتم في شك من هذا فتشكون أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم! أتطالبونني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!» فأجابوه: إننا لا نفهم ما تقول. وحملوا وحمل رجاله. فلما علت الضوضاء صحا الطفل من نومه فأسرعت سلمى إليه وقلبها يتقطع حزنًا عليه، واشتغلت بإسكاته وهو يصيح من العطش كأنه ذُعر لأصوات الناس فازداد بكاءً وعويلًا، وزينب مشغولة بنفسها لا تدري ماذا تعمل وقد اشتد المرض بابن أخيها فشغلها الاعتناء به. وفيما هم في ذلك وقد علت الضوضاء، رأت سلمى فارسًا مقبلًا من معسكر أهل الكوفة يستحث فرسه نحو الحسين، وكان الحسين واقفًا ينتظر ما يبدو وهو لا يصدق أنهم يحاربونه، فلما رأى الفارس مقبلًا لبث يتوقع وصوله، ولم يكد يقترب حتى عرف أنه الحر بن يزيد الذي كان قد لقيهم قبل وصولهم إلى كربلاء، ورأته سلمى أيضًا من خلال الخيام فعرفته وتعجبت لقدومه، فلما وصل إلى الحسين رمى قوسه بين يديه وهو يقول: جُعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، أنا صاحبك، حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق، جعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ويبلغون بك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، فإني تائب إلى الله مما صنعت، فهل لي من توبة؟ فقال له الحسين: «نعم يتوب الله عليك، فانزل.» قال: فأنا لك فارسًا خيرٌ مني راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول آخر ما يصير أمري. فقال له الحسين: «فاصنع ما بدا لك.» فلما سمعت سلمى كلام الحر دمعت عيناها وقالت في نفسها: هل يشعر مثل هذا الشعور ابن زياد أو يزيد؟ ثم رأت الحر يسوق فرسه أمام الحسين نحو أهل الكوفة فتبعته ببصرها وأذنيها، لترى ما يكون منه فإذا هو ينادي أهل الكوفة قائلًا: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبَل والعبر، دعوتم هذا السيد الصالح، حتى إذا جاء أسلمتموه. وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه؟ ثم عدوتم عليه لتقتلوه، وأمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه في بلاد الله العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ومنعتموه ونساءه وصبيته وأهله من ماء الفرات الجاري، يشربه اليهود والنصارى والمجوس، ويتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه؟ فها هم قد صرعهم العطش. بئس ما خلفتم محمدًا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ. ما أتم الحر بن يزيد كلامه حتى حمل أهل الكوفة وفي مقدمتهم عمر بن سعد، وكان عمر هذا أول من رمى سهمًا في الوقعة، وتصاول الفريقان وتراموا بالسهام حتى وقع بعضها في الخيام. وكان النهار قد أضحى وسلمى تشاغل الطفل وتسكته، وقلبها يميل إلى النزال لعلها تلقى أجرًا في الدفاع عن الحق، وشاعت عيناها وهي تنظر إلى القوم عن بعد لعلها ترى ابن ذي الجوشن فلم تره بين الرجال، فطلعت على مرتفع والطفل بين ذراعيها تقيه بكفيها وزنديها وقلبها يختلج. فأرسلت بصرها في ذلك السهل فرأته مملوءًا بالرجال والفرسان من أهل الكوفة بما يزيد عددهم على أربعة آلاف، وليس مع الحسين إلا اثنان وثلاثون فارسًا وبعض الرجالة، ولكنها رأت رجال الحسين لا يحملون على جانب من جوانب العدو إلا كشفوه، ثم ما لبثت أن رأت الحر بن يزيد وقع قتيلًا، ووقع غيره، فحولت بصرها إلى الحسين فرأته لم يحمل بعد، فما زالت ترجو أن يستبقوه إذا ضعف أمره أو قُتل رجاله، ولم تستطع سلمى البقاء هناك خوفًا على الطفل من نبلٍ يصيبه، فعادت إلى الفسطاط فرأت زينب وسكينة وفاطمة يبكين بجانب فراش المريض، وسمعته يخفف عنهن ويهوِّن عليهن كأنه شيخ محنَّك وما به من مرض، ولما رآها مقبلة وأخوه بين ذراعيها يبكي، قال لعمته وأخته: قمن فاستسقين له واتركنني فلا بأس عليَّ، فصاحت زينب: ومن أين نستسقي له وهو يسقينا؟ يا ليته يشرب الدمع فنرويه من آماقنا! قالت ذلك ونهضت إلى الطفل فتناولته وجعلت تقبله وهي تبكي وتضمه إلى صدرها، فبكت سلمى مثل بكائها، ولكنها رأت من الحكمة أن تتجلَّد وتصبِّرها، فاسترجعت الطفل إلى حجرها وقالت: تصبَّري يا سيدتي وسكِّني روعك، لعل الله يأتينا بفرج من عنده. وكانت الشمس مالت عن خط الهاجرة فسمعت سلمى في المعسكر أصواتًا متداخلة، فهرعت وخرجت من الفسطاط، وخرجت زينب في أثرها، فرأت الحسين يصيح في رجاله يدعوهم إلى صلاة الخوف، فتجمع الرجال ووقفوا والنبال تتساقط عليهم وصلى فيهم الحسين صلاة حارَّة يخشع لها قلب الجماد، فلما فرغوا من الصلاة تجددت آمالهم واطمأنت قلوبهم — والصلاة أحسن معزٍّ للإنسان في ضيقه — فتقدم أحد رجال الحسين حتى أقبل على أهل الكوفة، وفيهم حمَلة النبال والسيوف بين فارس وراجل، وقال لهم: يا قوم، إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد. يا قوم لا تقتلوا حسينًا فيسحتكم الله بعذاب، وقد خاب من افترى. قال ذلك وهجم وهو يقاتل حتى قُتل، وهجم غيره في أثره، وما زال رجال الحسين يقاتلون حتى لم يبقَ منهم إلا أهل بيته خاصَّة. حدث ذلك وسلمى لا تدري ماذا تعمل، والطفل بين يديها، وقد شغل خاطرها بالغلام المريض، فلما رأت رجال الحسين يقتلون طار خوفها ونسيت مصيبتها وغلب عليها اليأس، وأحبت أن تخالف الحسين وتقاتل معه، ولكنها لم تجد سبيلًا إلى ذلك والطفل يتوجع وقد تقطع قلبها لبكائه، وفيما هي في تلك الحيرة بباب الخباء رأت عليًّا الأكبر ابن الحسين، وهو شاب أصبح الوجه جميل الصورة، في التاسعة عشرة من عمره، تنبعث الهيبة من عينيه، قد هجم على القوم بسيفه وهو ينشد قولًا حماسيًّا، فخُيِّل إليها أنه فرج مرسل من السماء، ولكنها ما لبثت أن رأته أصيب في صدره فخرَّ صريعًا يتخبط بدمه، وكان أبوه الحسين بالقرب منه فصاح: «قتل الله قومًا قتلوك يا بني، ما أجرمهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول!» قال ذلك وانهملت الدموع من عينيه، فلم تتمالك سلمى أن صاحت: قتلوه قتلهم الله. وما أتمت كلامها حتى رأت زينب تهرع وهي تنادي: وا أخياه وابن أخياه! وجاءت حتى أكبَّت عليه، فأخذ الحسين برأسها فردَّها إلى الفسطاط، ونادى فتيانه فقال: «احملوا أخاكم.» فحملوه حتى وضعوه في الفسطاط، فتكاثرت النبال المتساقطة هناك فأصيب غيره، وكلما أصيب واحد حملوه إلى ذلك المكان. وخافت سلمى على الطفل فأرادت أن تلجأ إلى الخباء، فرآها الحسين والطفل بين يديها، فأشار إليها أن تأتي، فأتت والطفل يبكي من العطش وقد بُحَّ صوته، وهي تحنو عليه لتقيه من النبال، فتناوله الحسين من ذراعه وأسرع نحو المعركة فأسرعت إليه وشخصت ببصرها إليه وقلبها يختلج خوفًا عليه، ولم تفهم معنى ذلك ولم تدرِ ما تعمل، فإذا بالحسين يخاطب أهل الكوفة والطفل مرفوع بين يديه ويقول لهم: «يا أهل الكوفة خافوا من الله واسقوا هذا الطفل، إذا كنت أنا في اعتباركم ظالمًا أستوجب الموت فما ذنب هذا الطفل الصغير؟ يا قوم خافوا من الله واذكروا عذاب يوم أليم.» فتأثرت سلمى من ذلك الكلام وحسبت أولئك القوم يحنُّون على الطفل فيسقونه، ولكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى رأت رجلًا من نبالة الكوفة أوتر قوسه ورمى الطفل وهو يقول: خذ اسقه. فأصاب السهم أحشاءه، فصاح الطفل صيحة الألم، ثم تحول صياحه إلى أنين، فأحست سلمى أن السهم أصاب قلبها، وركضت إلى الحسين والطفل يختلج بين يديه وقد تدلى رأسه على صدره والدم يقطر من جبينه، فصاحت: ويلاه! ما أظلمهم! ويلاه! ما أقسى قلوبهم! وهمَّت بتناول الطفل فمنعها الحسين من ذلك وقال لها: «لا تبكي يا بنية، إن له أسوة بجده وعمه وأهله الصالحين.» ثم رفع يديه والغلام بينهما وشخص ببصره إلى السماء وقال: إن تكن حبست عنا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين، ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته وفيهم إخوة الحسين وأولاده وأبناء عمه وأبناء أخيه، والتفت إلى سلمى وقال لها: «ارجعي يا فتاة إلى الخباء.» فتراجعت وقلبها يقطر دمًا وعيناها تسكبان الدمع ولم تجد سبيلًا إلى مخالفة الحسين. وبينما هي راجعة وكفَّاها على عينيها تستلقي الدمع وتندب القتلى أحست بيد قبضت على يدها وجرَّتها بعنف شديد، فأرادت أن تجذب يدها ونظرت فإذا بالشيخ الناسك وهو كالأسد الكاسر قد طوق خصرها وحملها بين ذراعيه كأنه من مردة الجان، وخرج بها من بين الخيام حتى أتى مضيقًا فوق الخندق مر فوقه، وهي تظن نفسها في حلم. حتى إذا وصل بها إلى كهف وراء الخيام، ألقاها إلى الأرض وهو يلهث من شدة التعب فصاحت فيه: إلى أين تذهب بي يا عماه؟ دعني أمت مع الحسين فإنها أحسن موتة يرجوها المؤمن في دنياه. فلم يستطع الشيخ أن يجيبها لتسارع أنفاسه من التعب، ولكنه أشار إليها أن تصبر فحاولت الإفلات منه والرجوع إلى المعركة فأمسكها وأقعدها وهو يقول بصوت متقطع: ليس الموت مما يُسرَع إليه. وكيف تتركين عبد الرحمن؟ فلما سمعت اسم عبد الرحمن تجددت أحزانها وزادت شجونها فبكت بصوت عالٍ وقالت: أين هو عبد الرحمن؟ ألم يسبقني إلى العالم الآخر. دعني أمت وألحق به. قال: من أنبأك بموته؟ قالت: نعم إنه مات وسبقني. دعني ألحق به. دعني أمت مع الحسين وأهل بيته. قال: إن عبد الرحمن لم يمت يا بنية، فهدئي روعك واعلمي أن الحسين مائت، ولا فائدة من الدفاع عنه. قالت: أتعلم أنه مائت وتطلب بقائي؟ وما الفائدة من بقائي وبقاء عبد الرحمن إذا مات سيد شباب المسلمين؟ دعني أمت معه. قالت ذلك ونهضت وهي تقول: لا. لا. لا يموت. من يجرؤ على قتله؟! ومن يمد يده إليه ولا تيبس؟! وأي أرض تتلقى دمه ولا تجف؟! لا. لا يجرءون على قتله وهو ابن بنت الرسول وسيد شباب المسلمين. فأمسكها الشيخ بيدها وقال: ألا تصدقين أنه مائت؟ قالت: لا. قال: قومي وانظري موته. فقامت وهي تهرول في مشيتها حتى وقفت على أكمة تشرف على الوقعة فرأت الحسين يمشي نحو فسطاطه والدم يقطر من فمه لسهم كان قد أصابه هناك ولم يقتله، ولم يصل إلى الفسطاط حتى أحاط به جماعة من رجال الكوفة فيهم رجل أبرص ما كادت سلمى تراه حتى عرفت أنه شمر بن ذي الجوشن، فأرادت أن تصيح فأمسكها وأسكتها. فوقفت كأنها على الجمر وعيناها على الموقعة فرأت رجلًا يضرب الحسين على رأسه بالسيف فقطع السيف القلنسوة وأصاب رأسه وامتلأت القلنسوة دمًا، فرفع الحسين القلنسوة وشد رأسه بخرقة، ثم وضع عليه قلنسوة أخرى بينما رجع عنه شمر ومن كان معه، فحسبتهم قد عدلوا عن قتله، ثم رأت الحسين عائدًا إليهم ومعه ابن أخيه عبد الله، وهو غلام لم يراهق كان عند النساء، فلما رأى عمه في ذلك الضيق لم يتمالك عن أن تبعه وزينب في أثره، فسمعته يقول لها: «احبسيه يا أختي.» فأرادت أن تُرجعه فأبى وامتنع عليها امتناعًا شديدًا وقال: والله لا أفارق عمي. ولم يتم كلامه حتى رأى رجلًا يُهوي بالسيف على الحسين، فصاح الغلام فيه: ويلك يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟! فضربه الرجل بالسيف فاتقاها الغلام بيده فانقطعت يده إلى الجلد حتى تدلَّت وهي معلقة بقطعة من جلد وأصيب رأسه، فنادى الغلام: يا أماه! فهمَّ الحسين به وضمَّه وهو يقول: «اصبر يا ابن أخي على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يُلحقك بآبائك الصالحين.» ومات الغلام لساعته وألحقت جثته بجثث أهله وسلمى تنظر، فطار صوابها ولم تعد تستطيع صبرًا، فإذا بالحسين قد دعا بسراويل يمانية قطعها ولبسها، فلما رأته يقطعها استغربت ذلك منه، فقال لها الشيخ: أتعلمين لماذا فعل ذلك؟ لقد قطع السراويل لكيلا يسلبوها بعد موته. قالت: أهو مائت كما تقول؟ لا أظنهم يقتلونه. ولم تتم كلامها حتى رأت شمر بن ذي الجوشن هاجمًا عليه، ولم يكن قد بقي أحد مع الحسين إلا ثلاثة رجال قُتلوا بين يديه، فهجم الحسين عليهم وعليه القلنسوة والجبة وتلك السراويل المقطعة، وهي هجمة اليأس، وكأنهم ذُعروا لهجومه ففرُّوا من بين يديه فرار المعزى من الوحش، فاستبشرت سلمى بذلك وقالت للشيخ: ألم أقل لك إنهم لن يقتلوه؟! ألا تراهم كيف يفرُّون أمامه؟! ولم تقل ذلك حتى رأت السهام تتساقط عليه كالمطر، وقد صار كالقنفذ، فأحجم الحسين والرجال واقفون بإزائه لم يجرؤ أحدهم أن يبدأ بقتله، وعند ذلك خرجت أخته زينب إلى باب الفسطاط وصاحت وجند الكوفة يسمعها: يا عمر بن سعد أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! فلم يجبها. فنادت: ويحكم! أما فيكم مسلم؟! فلم يجبها أحد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/19/
مقتل الحسين
ثارت الحمية في رأس سلمى وأفلتت من يد الناسك وانطلقت نحو الخيام فاعترضها الخندق والنار لا تزال تتقد فيه، ولم تجد المضيق الذي حملها الناسك عليه، فوقفت وهي تتلفت لعلها تجد مسلكًا إلى المعركة فسمعت ابن ذي الجوشن يقول لرجاله: ويحكم! ما تنتظرون؟! ثكلتكم أمهاتكم. فالتفتت سلمى فرأت الرجالة حملوا عليه، فضربه أحدهم على كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر على عاتقه، فكبا الحسين على وجهه إلى الأرض، فصاحت سلمى وهي لا تدري ما تقول: ويلكم! قتلتم الحسين، شُلَّت أيديكم! وهرولت ونفسها تحدثها أن تثب من فوق الخندق ولو وقعت في النار، وكان الشيخ قد أدركها وأمسك بذيل ثوبها وهي لا تبالي به وعيناها شائعتان إلى الحسين وهو طريح بجانب جثة أولاده وإخوته وقد اختلطت دماؤهم، ولكنه لم يمت، فرأت شمرًا وثب عليه وسيفه بيده فوضع السيف في عنق الحسين وحزه حتى انفصل فسمعت سلمى بعد الحز شخيرًا، ثم رأت شمرًا رفع الرأس بيده وقد سقطت القلنسوة عنه وبان شعره، وقد تخضب بالدماء وأغمضت العينان، وناوله إلى رجل بإزائه وقال له: احمله إلى الأمير عمر بن سعد. فجثت سلمى وغاب رشدها ولم تعد تعرف ماذا تعمل، وكانت قد انتقلت من موضعها بغير أن تنتبه، فرأت على عوض الخندق خشبة، فأفلتت من الشيخ ووثبت عليها وأسرعت نحو المعركة وهي تصيح: ويلك يا شمر! يا ظالم يا لعين! كيف تلقى وجه ربك يوم الدين؟! وما وصلت إلى فسطاط زينب حتى رأتها راجعة من المعركة ومعها نساء أخريات، وفي أثرهن بعض رجال الكوفة، يقبض الواحد منهم على ثوب المرأة فتنازعه وهي تفر أمامه حتى ينزع ثوبها عنها، فأرادت سلمى أن تدافع فأمسكتها زينب بيدها وأدخلتها معها الفسطاط حيث الغلام المريض. فدخلن الخباء ودخل في أثرهن رجال والسيوف مشرعة في أيديهم، وهمُّوا بفراش الغلام يريدون قتله، فصاحت سلمى فيهم: ويلكم! أتقتلون الصبيان؟ وخنقتها العبرات، وصاحت النساء مثل صيحتها. وفي تلك اللحظة وصل عمر بن سعد فقال لأصحابه: لا تقتلوا أحدًا من النساء، ولا تأخذوا منهن شيئًا، وكفُّوا عن المريض. وأمرهم أن يحيطوا بالفسطاط لئلَّا يدخله أحد، وأوصاهم أن يحرسوا الأخبية لئلَّا يخرج منها أحد. أما سلمى فانقطعت للبكاء هي وزينب وسائر النساء حتى علت الضوضاء وارتفعت أصوات العويل مما يتفتت له الصخر. ثم سمعت سلمى وقع حوافر وضجة فأطلت من خلال الخباء فرأت عشرة فرسان جاءوا بخيولهم إلى حيث جثة الحسين ومعهم أميرهم عمر بن سعد، وقد أمرهم أن يطئوا ظهر الحسين بخيولهم. فرأتهم يطئون جثته بحوافر الخيل حتى رضُّوه، وهي تتألم لذلك كأنهم يطئون على حدقة عينها، فقالت في نفسها: ما عاقبة ذلك يا رباه؟ ولكنها لم تخبر زينب خوفًا عليها. ••• أرسل الكوفيون رءوس القتلى إلى ابن زياد وباتوا تلك الليلة في معسكرهم بقرب كربلاء، وقد أقاموا حراسًا على خيام الحسين وفيها نساؤه وجواريه وليس فيهم من الذكور إلا ابنه علي الأوسط الملقب بزين العابدين وهو مريض. وأسدل الليل نقابه، وانقضت المعركة وقد قُتل الحسين وأهله وأصبحوا جثثًا هامدة لا حراك بها، واستكنَّت عناصر الطبيعة، وأشرق القمر وهو في ليلته الحادية عشرة، فتكبَّد السماء قبيل العشاء. وأرسل أشعته على كربلاء وقد كانت في صباح الأمس قاحلة ظامئة فأمست وقد ارتوت من دماء الأبرياء، ولو أدرك ذلك التراب فظاعة ما جرى فيه في ذلك اليوم المهول لفضَّل الظمأ على الارتواء. أو لو علم القمر بموقع أشعته تلك الليلة لحبسها ليستر ذلك الجرم الذي لم يتفق مثله في تاريخ العمران. أما سلمى فلما أقبل الليل وهدأت الطبيعة استولى عليها الجمود، ولبثت صامتة وطنين السهام لا يزال في أذنيها بما يتخلله من أصوات الناس، ولا سيما صوت الحسين وهو يزجر الناس ويعظهم ويستعين الله، فتمثل لها ما رأته في آخر الوقعة من مقتل الحسين وحز رأسه ووطء الخيل على ظهره، فاقشعرَّ بدنها وشعرت بانقباض شديد، وضاق صدرها وتاقت نفسها للبكاء، ولا يحلو البكاء إلا بجانب الميت، فأحبت الخروج إلى مكان الوقعة لتشاهد تلك الجثة الساكنة وتبكيها لتفرِّج كربتها، فنهضت وهي تتظاهر بحاجة نفسها حتى خرجت من الخباء، ولم يمنعها الحراس لاشتغالهم بالحديث عمَّا كان. فانسلَّت بين الخيام حتى تجاوزت المعسكر وأشرفت على الموقعة وقد عرفت المكان بما ينعكس عن مستنقعات الدماء خلال الجثث من الأشعة الحمراء، فلما رأت ذلك اختلج قلبها في صدرها لما تتوقع أن تراه هناك من الأجساد المضرجة بالدماء، ولا رءوس لها، فمشت الهويناء وركبتاها ترتعشان، وتذكرت ما كان من الضوضاء في ذلك الفضاء وما آل إليه من السكون المرعب، فازدادت رهبة حتى حدثتها نفسها بالرجوع، ولكنها تجلَّدت وظلت في سبيلها وهي تتلمس الطريق وعيناها شاخصتان في الجثث، فارتعدت فرائصها لما عاينته من الأمر الفظيع، رأت جثثًا مطروحة لا حراك بها ولا رءوس، لها وأكثرها عارٍ من الثياب؛ لأن القاتلين سلبوها الأثواب إلا ما يستر العورات. وبينما هي تخطو خطوة الخائف الهائب سمعت صوتًا خارجًا من بين القتلى، فاقشعرَّ جسمها ووقف شعرها وجمد الدم في عروقها، فوقفت وأصاخت بسمعها وقد غصَّت بريقها وأمسكت نفسها وتفرَّست في مكان الصوت وهي على قيد أذرع منه، فرأت شبحًا يتحرك، فجثت في منخفض يكاد يواريها وقد ودَّت لو أنها لم تتجشم القدوم إلى ذلك المكان، على أنها ما لبثت أن رأت ذلك الشبح يقول: رحمك الله يا ابن بنت الرسول. رحم الله بدنًا حمله الرسول على ذراعيه وقبله بشفتيه. لعن الله القوم الظالمين. كيف تجرءوا على هذه الفعلة الشنعاء؟ كيف مدوا أيديهم إلى هذا الجسم الطاهر وفيه رائحة سيد المرسلين؟ فلما سمعت سلمى الصوت عرفت أنه صوت الشيخ الناسك، فاطمأن بالها وسكن روعها، ولكنها أحبت البقاء في مكانها لتسمع ما يقوله، حتى إذا أبكاها قوله بكت وفرجت كربتها، فسمعته يبكي ويشهق ويقول: قبحهم الله! ما أقسى قلوبهم! ألم يخافوا من موقف اليوم الرهيب؟ تجرءوا على قتلك وفيك بقية من دم الرسول وأنت ابن ابنته، وقد قال فيك: «أنا من حسين وحسين مني.» كيف يلقون وجه ربهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئًا؟ ويل لهم! قتلوا سيد شباب المسلمين قتلة لم يُقتلها كافر ولا منافق، ولم يكتفوا بقتلك وا أسفاه عليك، بل قطعوا رأسك ووطئوا ظهرك بالخيل. ولكنني أراك مستقبلًا السماء وقد بسطت ذراعيك كأنك تشكو أمرك إلى ربك وتدعو للانتقام منهم. وما ربك بغافل عمَّا يعملون. الويل لي أنا الشيخ التعس، ويل لشيخوختي. كُتب علي أن أرى خير المسلمين يُقتلون، وقد كنت أتوقع إذا حييت أن أرى الحسين مالكًا رقاب المسلمين فتنتقم لي من ذلك الظالم الغادر قاتل الأبرياء، فآخذ بثأر فلذة الكبد وحشاشة القلب المقتول في سبيل الحق. حتى إذا لقيت أجلي فارقت الحياة مجبور القلب وقد عاينت الحق سائدًا والباطل مذعورًا، فقضيت شيخوختي ناسكًا هائمًا لا آوي المنازل ولا أبيت إلا في الخلاء، ولكن أبى الله إلا أن أرى الحسين وأولاده وأبناء أخيه وأبناء عمه جثثًا لا حراك بها، وأرى الدم يجري من رقابها وجوانبها، وأرى أبدانها مكشوفة وقد تلطخت بالدماء المجبولة بالتراب، أبدانًا بلا رءوس، فيا لله من هذه البلية! ولما بلغ الشيخ إلى هذا الحد خنقته العبرات فسكت وأوغل في البكاء. أما سلمى فلم تتمالك عن البكاء وهي تسمع نواح الشيخ، ولكنها استغربت ما جاء فيه من التعريض والتلميح، ولم تفقه ما وراءه، ولو علم الشيخ أنها تسمعه ما صرح بما يكنه ضميره، وقد صبر على كتمانه بضع عشرة سنة. ولبث الشيخ صامتًا برهة، وسلمى تتوقع أن تسمع منه شيئًا جديدًا، لعلها تستطلع حقيقة حاله، فإذا هو قد نهض ثم ألقى بنفسه على جثة الحسين، وجعل يقبلها ويتمرغ في دمائها ويقول: «ما أطيب ريحك يا حسين، وما أذكى ترابك! تبًّا لهم كيف يقتلونك وأنت بقية خاتم النبيين، أستحلفك بالله إذا لقيت حُجرًا أن تُقرئه السلام، وأن تخبره أني صبرت على قتله صبر الرجال، وسأصبر حتى ألحق به، وأراه وقد أخذت بثأره، وأرجو ألا أموت قبل أن أنال هذه النعمة، وإذا لقيت جدك رسول الله أخبره بما فعل المسلمون بعده، أخبره كيف فعل الطغاة بالصالحين، قل له إنهم انقسموا على الخلافة، وباعوا الحق بالباطل، ولا غرو فقد علم ﷺ بذلك، وتنبأ به قبل وقوعه، وها قد نزل القضاء.» ثم نهض الشيخ عن الجثة وقد تلطخ وجهه بالدم وازدادت لحيته تجعدًا واخلاطًا، فرفع بصره نحو السماء، وبسط يديه وهو يقول: «اللهم أنت أعلم بما فعل أولئك الأدعياء بابن بنت نبيك وأهله، اللهم أنت أعلم بما يقاسيه أنصار الحق من الجور العظيم، اللهم أقول كما قال الحسين: «إن منعتهم إلى حين ففرقهم فرقًا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا ترضِ الولاة منهم أبدًا.» فإنهم دعوا الحسين لينصروه، ثم عدوا عليه فقتلوه.» ولم تعد سلمى تصبر عن إظهار نفسها، فتحفزت للوقوف، ولم تكد تقف حتى رأت الشيخ ينظر إليها ويتفرس فيها، فلما عرفها ذُعر ذعرًا شديدًا كأنه رأى ماردًا من مردة الجن، وصاح قائلًا: أأنت هنا يا سلمى؟! وتحول مثل لمح البصر، وعدا عدو الظبي النافر يلتمس الفضاء. فنادته واستوقفته وهو لا يسمع ولا يصغي، فظلت واقفة حتى توارى عن بصرها، فاستجمعت رشدها ولم تستغرب ذلك النفور من الشيخ لعلمها بأطواره من ذي قبل، ثم مشت نحو الجثث وهي تتفرس فيما بين يديها من أيدٍ مبتورة قد عفرها التراب، وسهام منثورة أغفلها الرماة، واشتمت رائحة الدماء، وقد تعفن بعضها وتصاعدت ريحه، حتى أقبلت على الجثث وكلها بلا رءوس، والجثث برءوسها تُرهب قلب الشجاع، فكيف وهي على تلك الحال بين يدي فتاة لم تتعود القتال! ولكن سلمى إنما أقدمت على ذلك وقد غلب عليها اليأس، فتفرست في تلك الجثث، ولكنها عرفت جثة الطفل المقتول لأنها أصغرها جميعًا، فهمَّت به وقبَّلته، وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وتذكرت مصائبها وما يشغلها من أمر عبد الرحمن وهي لا تعلم مصيره ولا أين هو، على أنها تذكرت قول الناسك ببقائه حيًّا، ولكنها حملت ذلك منه على رغبته في اطمئنانها لكي تبقى معه، فجعلت تندب حالها وما قاسته من العناء والبلاء حتى استنزفت الدمع. ثم انتبهت وخشيت أن يشعر بها الحراس فطرحت جثة الطفل فوق جثث أهله، وقالت: الوداع أيها الساكنين بلا حراك، الوداع إلى يوم المحشر الرهيب، وعسى أن ألحق بكم وأنا أحمل خبر الانتقام لكم بإذن الله. وهي إنا ترجو ذلك بما سمعته ساعتئذٍ من كلام الشيخ الناسك من هذا القبيل. ثم عادت إلى الخيام حتى دخلت الفسطاط، فرأت زينب في قلق عليها، فاعتذرت بانشغالها بأمر نفسها. وفي ضحى اليوم التالي عاد عمر بن سعد بجنده إلى الكوفة، وساقوا معهم نساء الحسين وجواريه وبنتيه سكينة وفاطمة وأخته زينب، وابنه عليًّا المريض، وتنكرت زينب بثياب حقيرة حتى لا يعرفها أحد، وسارت سلمى معها متنكرة أيضًا حتى دخلوا الكوفة فرأوا أهلها يطلُّون من النوافذ والكوى ليشاهدوا بقية بيت الرسول، وسلمى تتفرس في الناس من خلال النقاب لعلها تجد عبد الرحمن أو عامرًا بينهم فلم ترَ أحدًا. حتى إذا أقبلوا بهم على قصر الإمارة مشت زينب وسلمى ومعهما بعض الجواري، وجلسن في ناحية من القصر على مقربة من مجلس ابن زياد، وكان ابن زياد جالسًا والناس حوله، ورأت سلمى بين يديه رأس الحسين وقد تعفَّر وتقلصت شفتاه وبانت ثناياه وتلطخ شعر لحيته بالدماء والتراب حتى أصبح الشعر كتلًا متجمدة، وابن زياد ينظر إلى الرأس ويبتسم وفي يده قضيب يضرب به ثنايا الحسين، ورأت بجانب ابن زياد شيخًا جليل القدر عرفت بعد ذلك أنه زيد بن أرقم صاحب الرسول، فلما رآه الشيخ يضرب بالقضيب ثنايا الحسين قال له: «ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين؛ فوالله الذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله ﷺ عليهما ما لا أحصيه.» قال الشيخ ذلك وانتحب باكيًا. قال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله؟! والله لولا أنك شيخ خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فنهض الشيخ من بين يديه وخرج. ثم انتبه ابن زياد إلى النساء الداخلات فالتفت إلى زينب وقال: من هذه التي انحازت وجلست ناحية ومعها نساؤها. فلم تجبه زينب. وعاد ثانية وسأل عنها فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله. فنهض ابن زياد حتى أقبل عليها، فلما رأته سلمى مقبلًا بالغت في التقنُّع لئلَّا يعرفها. أما هو فحسبها من جملة جواري زينب أو خدمها فلم يلتفت إليها، بل خاطب زينب قائلًا: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد ﷺ وطهرنا من الرجس تطهيرًا. إنما يفضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا. فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وليجمع الله بينك وبينهم يوم القيامة فيتحاجُّون إليه ويختصمون عنده. فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له بعض أهل مجلسه: أيها الأمير، إنها امرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها ولا تُذمُّ على خطئها. فالتفت ابن زياد إليها وقال: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك. فلما سمعت زينب ذلك الكلام أحست بضعفها ورقَّت وبكت وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفِك هذا فقد شفيت. فقال لها على سبيل التهكم: هذه شجاعة ولعمري كان أبوها شجاعًا شاعرًا. فقالت: ما للمرأة والشجاعة؟ إن لي عن الشجاعة لشغلًا. فهز ابن زياد رأسه هزة التهديد، وتحول إلى حيث كان علي بن الحسين ممدًا وهو ما زال مريضًا فقال له: من أنت؟ فقال: أنا علي بن الحسين. فالتفت ابن زياد إلى من حوله وقال: ألم يُقتل علي بن الحسين؟ فأجابه علي وقال: كان لي أخ يسمى عليًّا قتله قومك. قال ابن زياد: بل الله قتله. فقال علي: الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجدالي؟! وفيك بقية للرد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه. فلما سمعت زينب ذلك نهضت نهضة الأسد، وتعلقت بالغلام واعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليه وإليها ساعة ثم قال: عجبًا للرحم! والله إني لأظنها ودَّت أني قتلتها معه. دعوه. ثم قام من مجلسه حتى خرج من القصر ودخل المسجد فصعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب وشيعته. فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان من شيعة علي فقال له: يا عدو الله إن الكذاب أنت وأبوك، والذي ولَّاك وأبوه. يا ابن مرجانة، أتقتل أولاد النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟! فقال ابن زياد: عليَّ به. فأخذه الجلادون ثم قتلوه، وكان قتله قاضيًا على المجاهرة بنصرة أهل البيت. أما سلمى فإنها لم تفتر لحظة عن التفرس في وجوه الناس، والتسمُّع لما يصل إليها من أحاديثهم لعلها تسمع شيئًا عن عبد الرحمن أو عامر، فلم تقف لهما على أثر، ولم تكن قادرة على الخروج إلى المدينة للبحث عنهما؛ لأنها معدودة من جملة نساء زينب، ولا بدَّ من إرسالها معهن مخفورة إلى دمشق، ولم يكن لها أمل في بقاء عبد الرحمن لو لم تسمع الناسك يؤكد بقاءه، وكانت قد حملت قوله محمل التشجيع لها فلم تصدقه، ولكن الإنسان مفطور على التعلق بحبال الآمال ولو كانت أوهن من نسيج العنكبوت. أما ابن زياد فأمر برأس الحسين فداروا به في سكك الكوفة على رمح، ولم يبقَ أحد إلا رآه، وفيهم من شمت بموته، وهم قليلون، ولكن أكثرهم ودوا لو أنهم لم يقتلوه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/20/
في دمشق الشام
وبعد أن طافوا بالرأس في أسواق الكوفة أمر يزيد جماعة من رجاله أن يحملوا رأس الحسين ورءوس أصحابه ومن بقي من أهل بيت الحسين إلى دمشق ليرى رأيه فيهم، فحملوا الأحمال وقاموا يطلبون الشام، وسلمى في جملة الأسرى لا تفارق زينب وسكينة وفاطمة، وكانت تعزية كبرى لهن، ولم يكن عالمًا بحالها إلا زينب، ولكن مصابها شغلها عن التحدث معها عن عبد الرحمن وعامر، ولم تجرؤ سلمى على فتح ذلك الحديث. وكان يزيد بن معاوية بعد أن أمَّر ابن زياد على الكوفة وأوصاه بدفع الحسين لم يهدأ له بال وهو يفكر في حال الشيعة؛ لعلمه أن قلوب المسلمين مع الحسين، ولكنه كان شديد الثقة بابن زياد؛ لما يعلمه من دهاء أبيه زياد من قبله، وكان يرجو أن يكون له كما كان أبوه لأبيه، على أنه لم يكن يتوقع بلوغ الشدة بابن زياد حتى يفتك بالحسين وأولاده وأهل بيته إلى هذا الحد. وكان لا ينفك عن استطلاع الأحوال ممن يرد عليه من رسل ابن زياد حينًا بعد حين، فعلم بنهوض الحسين من مكة وقدومه إلى الكوفة، ثم لم يعد يسمع شيئًا. حتى إذا كان في مجلسه ذات يوم وقد جلس الأمراء والأعيان بين يديه إذا بغلامه دخل وأنبأه أن بالباب رسولًا من الكوفة، فخفق قلب يزيد لما يتوقعه من الخبر الجديد فقال: ليدخل. فدخل رجل عليه أمارات السفر وقد تزمَّل بعباءته واعتم بكوفيته، فابتدره يزيد قائلًا: من الرجل؟ قال: زجر بن قيس رسول عبيد الله بن زياد إلى أمير المؤمنين. قال: وما وراءك؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره. فاستبشر يزيد وأشرق وجهه وابتسم وقال: بشرك الله بالخير. قال: اعلم يا أمير المؤمنين أن الحسين بن علي ورد علينا في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال. فقال: وهل قاتلتوهم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إننا عدونا عليهم من شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هامِ القوم جعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون بالآكام والحفر كما لاذ الحمائم من صقر. فصاح يزيد: بورك فيكم وشد أزرنا بكم. فقال زحر: ثم والله ما كان إلا جزر جزور أو نومة نائم حتى أتينا على آخرهم. فابتدره يزيد وقد بغت وقال: وهل قتلتموهم جميعًا؟ قال: نعم يا مولاي، وهاتيك أجسادهم مجرَّدة، وثيابهم مرمَّلة، وخدودهم معفَّرة، تصهرهم الشمس وتُسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقاع سبسب. فصاح يزيد صيحة قوية وقال: والحسين؟ قال زحر: والحسين أيضًا. فدمعت عينا يزيد وأطرق وهو يقول: لعن الله ابن سمية! لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. رحم الله الحسين. قال ذلك وانتهر الرسول وأخرجه من مجلسه ولم يصله بشيء. فخرج الرسول ويزيد ما زال مطرقًا وقد قطب حاجبيه وبان الحزن في جبهته، وفيما هو في ذلك سمع رجلًا في صحن الدار يقول: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم. فصاح يزيد: من ينادي هذا النداء؟ قالوا: هذا محفر بن ثعلبة ومعه جماعة يقولون إنهم جاءوا برأس الحسين. فقال يزيد: خسئ محفر، والله ما ولدت أم محفر ألأم وأحمق منه. ثم قال: أين الرجل. ادخلوا به علي. فأدخلوه عليه ورأس الحسين على كفِّه وقد تصاعدت ريحه، فأقبل الرجل حتى وضع الرأس بين يدي يزيد على البساط ومنظره ينفطر له القلب وقد تكمَّش جلده وتجعَّد شعره واختلطت رائحة الطيب بروائح الدم المتعفن، وتغيَّر لون الشعر بما خالطه من الدم والتراب، فلما وقع نظر يزيد عليه اقشعرَّ بدنه وتصور هول ذلك العمل الفظيع، وتذكر أنه يرى رأس ابن بنت الرسول فتخشَّع وتهيَّب. وما كاد ينظر إلى الرأس حتى خرجت إليه من وراء الستار امرأة مقنَّعة هي إحدى نسائه، واسمها هند بنت عبد الله، فاستغرب القوم خروجها على تلك الحال وهمَّ يزيد أن يسألها عن سبب خروجها فصاحت فيه وهي تشير بإصبعها إلى الرأس قائلة: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن علي وفاطمة بنت رسول الله؟ قال وهو يتلجلج بكلامه: نعم، فأعولي عليه والبسي الحداد على ابن بنت الرسول، عجَّل ابن زياد فقتله، قتله الله. فأخذت في العويل والبكاء ثم أدخلوها إلى خدرها، وأذن يزيد للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه وهو ينظر إليه ومعه قضيب ينكت به ثغره ويقول: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام: وكان في جملة الحضور رجل من أصحاب الرسول اسمه أبو برزة الأسلمي، فلما رأى يزيد بنكت ثغر الحسين قال له: «أتنكت بقضيبك ثغر الحسين؟ أما والله لقد أخذ قضيبك في ثغره مأخذًا لربما رأيت رسول الله ﷺ يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا ومحمد شفيعه.» قال ذلك ثم قام وولى. فلما سمع يزيد قول الرجل نظر إلى الرأس وعيناه لا تزالان تدمعان وقال: والله يا حسين لو كنت أنا صاحبك ما قتلتك. ثم التفت إلى الناس وقال: «أتدرون من أين أتى هذا ولماذا قُتل؟ لأنه علم أن الله أكرم يزيد بالخلافة. قال: أبي علي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر منه.» فأما قوله: أبي خير من أبيه، فقد تحاجَّ أبي وأبوه إلى الله، وعلم الناس أيهما حكم الله له. وأما قوله أمه خير من أمي فلعمري فاطمة بنت الرسول خير من أمي. وأما قوله: جدي رسول الله خير من جده، فلعمري ما أحد يؤمن بالله وباليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلًا ولا ندًّا، ولكنه إنما أُتي من قبل فقهه ولم يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ. فلما فرغ يزيد من كلامه علم الناس أنه إنما قال ما قاله تخفيفًا لهول فعلته، ولم يجرؤ أحد منهم على قولٍ فسكتوا، ثم سمع يزيد جلبة في الدار فقال: ما هذه الجلبة؟ فقال غلامه: هؤلاء نساء الحسين في صحن الدار. قال: أدخلوهن. فأدخلوهن وفيهن زينب أخت الحسين، ومعها فاطمة وسكينة بنتا الحسين وبقية النساء، وفي جملتهن سلمى، وكانت سلمى مقنَّعة كسائر النساء فلم تكن تخاف أن يعرفها يزيد، وبالغت في التقنُّع لإخفاء أمرها، ولكنها ما كادت ترى تلك القاعة حتى تذكرت يومها في دار يزيد وموقف عبد الرحمن هناك، فتجددت أحزانها، على أنها صبرت لترى ما يكون. أما سكينة وفاطمة فتطاولتا من وراء الناس لتريا رأس أبيهما، ويزيد يستره عنهما، فلما رأتا الرأس صاحتا وصاح سائر النساء، وولولت بنات معاوية، وقالت سكينة وكانت أكبر من فاطمة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد؟! فأثر قولها فيه فقال: يا ابنة أخي إني لهذا كنت أكره. فقالت: والله ما تركوا لنا خرصًا. فقال: ما أتى إليكن لأعظم مما أخذ منكن. فقام رجل من الحضور وهو من أهل الشام وقال ليزيد: هب لي هذه. يعني فاطمة. فلما سمعت فاطمة قوله ارتعدت فرائصها وعلمت أنه يريد أن يأخذها سبيَّة فخافت وأمسكت بثوب زينب، فالتفتت هذه إلى الرجل وقالت: كذبت ولؤمت ما ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال لها: كذبت والله إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت. قالت: كلا والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فغضب يزيد واستطار ثم قال: أإياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت زينب: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك. قال: كذبت يا عدوة الله. فقالت: أنت أمير تشتم ظالمًا وتقهر بسلطانك. فاستحيى وسكت. ثم أمر بعلي بن الحسين فأدخلوه عليه والغل في يديه ورقبته، وهو غلام صغير وقد تعب من حمله على الأقتاب في أثناء الطريق، وكان المرض قد فارقه ولكنه ما زال ضعيفًا مهزولًا، فوقف الغلام بين يديه وقال: لو رآنا رسول الله ﷺ مغلولين لفكَّ عنا. فخجل يزيد وقال: صدقت، وأمر بفكِّ غلِّه عنه. فقال علي: لو رآنا رسول الله ﷺ بُعداء لأحب أن يقرِّبنا. فأمر به فقرب منه، وقال له يزيد: إيه يا علي بن الحسين. أبوك الذي قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما رأيت. فقال علي: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. فقال يزيد: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، ثم سكت عنه. وكانت سلمى في أثناء ذلك تنتفض من شدة الغضب، وتوقعت أن يتكشف أمرها فتهيأت للدفاع بأي وسيلة كانت، فلما رأت سكوت يزيد هدأ روعها، ثم رأته يشير بيده أن يخرجوهن، فخرجوا بهن إلى دار النساء، فخافت أن يفتضح أمرها هناك؛ إذ لا تستطيع البقاء مقنَّعة بين النساء، فاحتارت في أمرها ولم ترَ خيرًا من أن تشكو حالها إلى زينب وتستشيرها؛ لأنها كانت عالمة بحكايتها مع يزيد. فلما خرجوا بهن من مجلس يزيد وأدخلوهن دار النساء، أقبل عليهن نساء يزيد وسائر أهل بيته، وبكين معهن وأقمن المأتم، وسلمى تتظاهر بالانشغال وهي ترى نساء يزيد وبينهن العجوز قيِّمة الدار وتستتر منها، وتنتظر فرصة لتخاطب زينب على انفراد، حتى إذا جاء المساء خلت إليها واستشارتها في أمرها، فقالت زينب: لا تظنِّي أني نسيت حالك، وقد كنت وأنا في بكائي ونحيبي أفكر في أمرك، فاعلمي يا بنية أن يزيد خيَّرنا في الإقامة حيث نشاء، وسنختار الإقامة بالمدينة، فإذا شئت المضيَّ معنا فأهلًا بك ومرحبًا. قالت سلمى: إني على ما تشائين يا مولاتي، ولكنني ما زلت آملة أن … وبكت. فأدركت زينب أنها تعني عبد الرحمن فقالت: لا قطع الله لك أملًا، وسكتت لأنها لا تدري ما آل إليه أمر عبد الرحمن وعامر بعد مسيرهما إلى الكوفة، وإن كانت ترجح موتهما، وبعد السكوت برهة قالت زينب: ذلك أمر سننظر فيه بعد خروجنا، ولكنني لا أرى بقاءك هنا إلا خطرًا. قالت: وأنا أراه كذلك، فهل تأذنين لي في الخروج إلى الغوطة فأقيم بدير خالد ريثما تخرجن، فأكون معكن إن شاء الله؟ وقد اختارت الدير لكي تزور قبر أبيها وتبكيه مرة أخرى. فقالت زينب: لقد رأيت حسنًا، امكثي هناك حتى نخرج. ثم تظاهرت زينب بأمر تريد إنفاذ سلمى فيه إلى خارج القصر، وأخرجتها منه فخرجت وهي كالضائعة الرشد لفرط ما هاج من أشجانها هناك؛ إذ تذكرت كل ما قاسته من الأهوال في ذلك المكان، فلما أصبحت خارج القصر سارت في أسواق المدينة تطلب الغوطة حتى إذا اشتمَّت رائحة البساتين ووقع بصرها على تلك الغياض تذكرت حالها مع عبد الرحمن وثارت أحزانها، فسارت تلتمس قبر أبيها وقد اشتد بها اليأس ولم تعد ترى في الحياة لذة. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فترددت سلمى بين أن تتحول إلى الدير أو تسير إلى قبر أبيها، وساقتها قدماها إلى تلك الجوزة وهي لا تشعر، فلما أطلت على المكان وقد غابت الشمس سارعت إلى القبر وألقت بنفسها على التراب وأخذت في البكاء والنحيب وهي لا تبالي بما يتهددها من الظلام المقبل، وما زالت تبكي حتى بللت ذلك التراب وجعلت تندب أباها بصوت قد أضعفه التعب وتقول: ويلاه يا أبتاه! قم وانظر إلى فتاة خلَّفتها وخلَّفت لها الشقاء، وحمَّلتها فوق ما تحمَّلته النساء! شببت وشبَّ معي حب الانتقام، ولكن وا أسفاه لم أجد إلى الانتقام سبيلًا. قم وانظر ما جرى. انظر إلى فتاة عاشت يتيمة حزينة لم يكن لها من معدات الحياة إلا حبيب يحبك، وقد بذل نفسه من أجل الانتقام لك، ولكنه وا لهفي عليه! لا أرى ما آل أمره إليه. آه! من ينبئني ببقائه حيًّا فأسعى إليه! ولكن أنى له الحياة وقد كُتب القتل على الصالحين والأبرياء؟! هل خطر لك يا أبتاه وأنت على قيد الحياة أن الناس سينقمون على الحسين ابن بنت الرسول ويقتلونه، ويحملون رأسه من الكوفة إلى الشام؟ ••• وفيما هي في تلك الحال وقد أمسكت تنفُّسها لئلَّا يكدِّر ذلك السكون، وأصبحت كالجماد لفرط خوفها ووحشتها، سمعت سعالًا قويًّا، فوثبت بالرغم منها وصاحت صيحة الرعب، ولم تكد تتحقق جهة الصوت حتى رأت شبحًا قادمًا إليها من وراء شجرة بالقرب من الجوزة، فصاحت: ويلاه! من أنت؟ أمن الجن أم من الإنس؟ خف الله وابتعد عني. ولم تتم كلامها حتى سمعت قائلًا يقول: لا تخافي يا سلمى، لا تخافي. فتبادر إلى ذهنها لأول وهلة أن أباها قام من القبر، فوقف شعرها واقشعرَّ بدنها. ثم دنا الشبح منها فإذا هو الشيخ الناسك، فلما عرفته وقعت مغشيًّا عليها، فأنهضها وجعل يروِّح لها بيديه حتى أفاقت فقال لها: سامحيني يا سلمى على هذا السعال، فقد حدث بالرغم مني، وما كنت لأزعجك إلا مكرهًا، فتشددت وجلست وهي تقول: أين عبد الرحمن؟ قل لي أيها الشيخ أين هو؟ وإلا فادفنِّي هنا في هذا التراب الآن. فلم يجبها الشيخ إلا بالبكاء بصوت عالٍ وكأنه أصيب بجنَّة، وتركها وجعل يحثو التراب على وجهه ويبكي بكاء الطفل ويقول: يا حبيبي يا حُجْر، متَّ في سبيل نصرة الإمام علي، قم فانصر ابنه، بل قم فابكِه وابكِ أولاده وسائر أهله، فقد ماتوا جميعًا! هنيئًا لك أنك جالس معهم الآن في دار البقاء. فلما سمعته يقول ذلك ورأت حاله، نسيت نفسها وتذكرت ما سمعته منه ليلة مقتل الحسين في كربلاء، فازدادت حيرتها وودت لو عرفت ما بعثه على ذلك، فقالت: من أنت أيها الشيخ. قل لي وفرج كربي؟ فلما سمع كلامها تغيرت حاله وسكت، كأنه ندم على ما فرط منه، ثم تجلَّد وقال لها: إنك تسألينني عن أمر ليس من شأنك يا سلمى. اسكتي وابكي ما شئت، وإذا شئت أن تعلمي من هو الشيخ الناسك فسوف تعلمين. ستأتي ساعة ينكشف لك فيها أمره، وأرجو ألا ينكشف إلا كما يريد هو. فسكتت سلمى وخافت أن يبدو منه ما لا تريده، ثم أرادت أن تغير مجرى الحديث فقالت: أخبرني أين عبد الرحمن، أحي هو كما قلت لي؟ قال: لا أعلم، ولو لعلمت ما كنت لأقول لك؛ لأنك لا تصغين إلى قولي. قالت: قل، بالله قل، إني مصغية. قال: أتعملين بما أقول لك؟ قالت: نعم، أفعل كل ما تريده، ولو أمرتني بأن أدفن نفسي حية. قال: اطلب إليك أن تعتزلي هذا العالم وتأتي معي إلى دير نقيم به لا نرى فيه الناس ولا نسمع بمظالمهم. فجاء ذلك الاقتراح صدمة قوية على قلبها فقالت: وعبد الرحمن؟ قال: لا تسأليني، بل افعلي ما أقوله لك. فسكتت ولم تدرِ بمَ تجيبه، ولكنها عولت على الإصغاء لقوله فقالت: وأي دير تريد أن نقيم به؟ أنقيم بهذا الدير؟ قال: كلا، لا نقيم في جوار أولئك الظالمين، هيا بنا إلى دير بحيراء في بصرى، وإن كان يعز علي أن أفارق هذا القبر. قال ذلك واختنق صوته. قالت: وأين هو هذا الدير؟ قال: على بضع مراحل من هذا المكان في جهة البلقاء.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13604281/
غَادَةُ كرْبَلاء
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «غادة كربلاء» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية وقائع تاريخية حدثت خلال العصر الأموي، حيث تتضمن مقتل الإمام الحسين بن علي، وأهل بيته في كربلاء، كما تشمل الرواية على وقعة الحرة، وولاية يزيد بن معاوية للخلافة الإسلامية، التي شهدت الكثير من الأحداث والفتن خلال تلك المرحلة التاريخية، والتي حكم خلالها يزيد الأمة الإسلامية إلي أن توفي في سنة ٦٤ من الهجرة.
https://www.hindawi.org/books/13604281/21/
في دير بحيراء
كانت سلمى قد استأنست بالناسك وذهب اضطرابها وخوفها، وقد آنست انعطافه إليها وبكاءه على أبيها، فزاد استئناسها به وتوسَّمت فيه شيئًا ترجو أن يفرج كربها، ولكنها ما زالت في ريب من أمره، ولم تجسر على استفهامه عن حقيقة حاله بعد أن سمعت ما سمعته من تمنُّعه، على أنها عوَّلت على استطلاع ذلك في فرصة أخرى. فلما رأت عزمه على السفر إلى بصرى والإقامة بدير بحيراء، شقَّ عليها الانزواء هناك وهي في ريعان الصبا، ولم تنل غير الفشل في مقاصدها وضياع حبيبها، ولبثت برهة تفكر في سفرها إلى بصرى وتردد في ذهنها أمر خطيبها وقد علمت من زينب أنه سار إلى الكوفة، فلما رآها الشيخ صامتة قال: ما الذي يجول في خاطرك يا سلمى؟ أظنك تترددين في سفرك إلى دير بحيراء؟ وكأني بك تقولين كيف أسير إلى بصرى وقد تركت عبد الرحمن في الكوفة، فاعلمي يا سلمى أني لو لم أيأس من وجوده هناك ما دعوتك إلى ذلك الدير. آه لو علمت أين هو ولو في الصين لقصدته كما قصدتك هنا. قال ذلك وصوته يتلجلج كأن البكاء يعيقه عن الكلام. فلم تزدد سلمى من ذلك إلا أسفًا؛ لأنها كانت لا تزال عالقة الذهن ببقاء عبد الرحمن في الكوفة، فإذا لم يكن هناك فأين يكون؟ فازداد قلقها، ولم تجد بدًّا من تسليم قيادها إلى ذلك الشيخ، وهي تعتقد حسن قصده وصدق غيرته، على أنها لولا بقية أمل بلقاء عبد الرحمن ما فضلت مكانًا على الدير أو القبر، ثم قالت للشيخ: وهل أترك بقية بيت الرسول وقد فارقت زينب على أن أنتظرها هنا ريثما تخرج مع أهل بيتها إلى المدينة فأسير معها. قال: لا أرى أن تسيري معهم، فقد كفاك ما لقيته من الأهوال في رفقتهم، تعالي إلى دير بحيراء فنقيم هناك حتى يأتي الله بالفرج. قالت: إني فاعلة ما تريد والاتكال على الله، ولكن أين نبيت الليلة؟ قال: نبيت هنا ولا خوف علينا والبلاد في أمان. نامي أنت وسأسهر أنا لأني قد نمت طول النهار. وباتا تلك الليلة وسلمى في بحر من الهواجس لا تدري ما يصير إليه أمرها. فلما أصبحا قال الشيخ: اعلمي يا بنية أن طريقنا من هنا إلى بصرى كثير الوعر، ولا بدَّ لنا من قطعه على أقدامنا. قالت: لا يهمني ذلك؛ فما أنا أولى بالراحة منك وأنت شيخ وأنا صبية. قال: سنسير بضعة أيام نحو الجنوب حتى نُقبل على بصرى مدينة الروم ومركز تجارة بلاد العرب، فسكتت ولم تُجب. فقال لها: امكثي هنا ريثما أعود إليك. ثم تركها ومضى، وعاد بعد قليل ومعه جراب فيه زاد وفاكهة وقال: هذا طعام يكفينا يومًا كاملًا ورزق الغد إلى الغد. ••• وبعد أن سارا بضعة أيام سيرًا بطيئًا أشرفا قرب العصر على مدينة بصرى (وهي غير البصرة في العراق)، وكانت سلمى قد تعبت واستوحشت وتغيرت حالها ولم تذهب صورة عبد الرحمن من ذهنها، وإن لم ترَ سبيلًا إليه لأنها لا تعلم مقرَّه، ولكنها كانت قد استسلمت إلى الشيخ الناسك لاعتقادها أنه إنما يسير بها إلى الخير، وأنه ذو كرامة ولا يخطو خطوة إلا لغرض فيه نفع لها. فلما أطلَّا على بصرى وهي من أكبر مدن حوران في ذلك العهد، انبهرت سلمى لعظمها وعمرانها وخصبها وسط تلك البلاد الجرداء التي يندر فيها الشجر، ورأت خارج المدينة من جهة الغرب بحرًا لامعًا بما ينعكس عنه من أشعة الشمس، فسألت الشيخ الناسك عنه فقال: ما هو بحر يا بنية، وإنما هو حوض كبير يخزن البصريون مياههم فيه إبان الشتاء ليستقوا منها في الصيف، وهو خزان للمياه طوله نحو ١٢٠٠ ذراع وعرضه ٥٠٠ ذراع، وكان لبصرى أحواض أخرى تهدَّمت. ثم قال: إن بصرى مدينة قديمة عاصرت دول اليهود فاليونان فالرومان، وفيها أبنية رومانية ويونانية وسريانية. فالتفتت سلمى إلى تلك المدينة والشيخ واقف بجانبها، فإذا هي بديعة الانتظام يكتنفها سور يزيد محيطه على أربعة أميال، ويحيط بالمدينة غياض وبساتين بها أنواع الأشجار والثمار، ووراء ذلك سلاسل جبال حوران ممتدة على عرض الأفق، ورأت لون أبنية المدينة مغبرَّا كأنها تلوثت بالدخان فقالت: وما الذي غيَّر لون هذه الأبنية؟ قال: ذلك هو لون أحجار هذه البلاد، فإن فيها حجرًا أسمر يسمونه الحجر الحوراني، هذا لونه، ومما يزيدك عجبًا أن أبينة حوران لا يدخل في بنائها شيء من الخشب، وإنما هم يصنعون سقف بيوتهم وأجنحة أبوابها ونوافذها من الحجر الصلد. فاشتاقت سلمى إلى النزول للمدينة لمشاهدة أسواقها، فقال لها الشيخ: إذا أردت النزول إليها فما أنا نازل معك؛ لأني كما قلت لك لا آوي المدن ولا أمرُّ بها، ثم إني أعرف هذه المدينة كما أعرف بيتي؛ فقد زرتها غير مرة وأنا شاب وكنت على دين النصرانية، وزرت كنائسها وحمامتها وشوارعها وقصورها فإذا هي من أعظم المدن، وربما سنحت لك الفرصة بعد حين بمشاهدتها، أما الآن فتعالي معي إلى الدير. فلما سمعت قوله أنه كان على دين النصرانية في شبابه تفرَّست في سحنته فرأته يشبه أن يكون كنديًّا من قبيلة أبيها؛ لأن كندة كانوا نصارى حتى جاء المسلمون بلادهم فاعتنقوا الإسلام، وزادها ترجيحًا لذلك ما رأته من غيرته على أبيها والانتصار لبيت علي، ولم يزدها كل ذلك إلا حيرة وشكًّا، وهي مع ذلك لا تستطيع مخاطبة الشيخ في هذا الموضوع لئلَّا يغضب، فلم ترَ خيرًا من الصبر حتى يتأتَّى لها استطلاع الحقيقة. أما هو فقال ما قاله وسار، فسارت هي في أثره حتى أشرفا على الدير فإذا هو بناءان: أحدهما كبير وفيه قبة فوقها صليب علمت سلمى أنه كنيسة، والآخر صومعة على رابية، فمشيا نحو الكنيسة، فلما أقبلا عليها تفرَّست سلمى في بنائها فرأتها مبنية على النمط الروماني، فدخلا صحنها حتى جاءا البيعة فرأيا المكان ديرًا وفيه كنيسة، وشاهدا الرهبان والقسوس وكلهم من الروم يتكلمون اللاتينية وبعضهم اليونانية والسريانية الممزوجة بالعبرانية، وهي لغة تلك البلاد بعد الفتح. فقالت سلمى: ما لي أرى الناس هنا أخلاطًا من لغات شتَّى؟ فقال: لأن بصرى يا ابنتي عند النصارى مركز أسقفية بلاد العرب الكبرى، وفيها يقيم رئيس الأساقفة، ومنها يرسلهم إلى الآفاق. قالت: أين دير بحيراء؟ قال: هذا هو الدير الآن، وأما المكان الذي كان يقيم فيه الراهب بحيرا، فهو صومعة بجانب الدير. قالت: هلمَّ بنا إليه. فخرج بها، والرهبان لم يلتفتوا إليهما ولا استغربوا حالهما؛ لأن الدير ملتقى الغرباء، وفيهم النساء والمهاجرون والمسافرون والمرضى وأهل النذور وغيرهم. فلما خرجا من الدير التفتت سلمى إلى الصومعة فإذا هي لا تشبه الأبنية، بل هي مؤلفة من خمسة أحجار ضخمة، أربعة منها للجدران وواحد للسقف، والباب حجر واحد مرتكز على مصراع يُفتح ويُغلق بسهولة، فاستغربت تلك الصومعة فقالت: ما هذه يا سيدي؟ قال: ألم أقل لك إن هذه البلاد لا أخشاب بها، وأهلها يصنعون أبواب بيوتهم وأجنحة نوافذهم ومقاعدهم وسائر آنية القعود والرقاد من الحجر، وقد يفعلون ذلك ولو كان المنزل مؤلفًا من عشر غرف أو عشرين، فإنك لا تجدين فيه أثرًا للخشب. قال ذلك ومشى أمامها وعكازه بيده وهو على ما وصفناه به من إرسال الشعر وعليه رداؤه القديم، وسارت هي في أثره، حتى دخلا الصومعة فلم يجدا فيها من الآنية إلا مصباحين معلَّقين أمام صورتين إحداهما تمثل مريم العذراء، والأخرى تمثل السيد المسيح، وهناك صورة أخرى لم يعرفاها، ولم يجدا في الصومعة أحدًا. فلما دخلت سلمى تخشَّعت وتذكرت حالها، فقالت للناسك: ها أنا ذا الآن في دير بحيراء، فكيف ترى أن تكون إقامتنا به؟ قال: إن في الدير الذي خرجنا منه الآن غرفًا يقيم بها المسافرون، والدير يقدم لهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة مجانًا، فتقيمين أنت بغرفة، وأقيم أنا بهذا البستان بالقرب منك، فنجتمع في أثناء النهار ونفترق في الليل. أطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: ولكنني لم أرَ في الدير نساء فكيف أقيم وحدي؟ قال: في الدير نساء كثيرات، وأكثرهن يعملن في إعداد الطعام وغسل الثياب. قالت: أرى أن أكون معهن لكي يكون في إقامتي فائدة. ••• خرج الشيخ الناسك وسلمى من الصومعة، وسارا إلى رئيس الدير، وقال له: إنني وابنتي هذه نريد أن نقضي بقية حياتنا هنا نعبد الله، وأنا شيخ ناسك لا آوي إلى البيوت، وابنتي تريد أن تلتحق بخدمة الدير فتساهم في إعداد الطعام وتنظيف الغرف، فهل تقبلوننا؟ فقال الرئيس: أهلًا بكم ومرحبًا، ثم أمر لسلمى بثوب مما ترتديه خادمات الدير فلبسته، وهو لا يقضي على لابسه باتباع شروط الرهبنة، ولكنه يفرض عليه الخدمة في الدير … فرحبت بها وأعجبت بما رأته من جمالها وما توسمته في عينيها من الذكاء، وسمتها باسم جديد على العادة المتبعة في مثل هذه الحال، فصار اسمها مريم، ولم يمضِ قليل حتى أحبها كل من في الدير من نساء ورجال، وأعجبوا بما آنسوه من تعقلها وصدق خدمتها، وقد زادها الانقباض والسكوت هيبة ووقارًا، وأصبحت بعد حين مرجع مشاوراتهم وزهرة جمعياتهم. ولم يكن يمضي يوم لا يأتي الدير فيه وفود الأضياف من أنحاء جزيرة العرب والعراق والشام، وفيهم أهل التجارة وأهل السياحة وأصحاب النذور ونحوها، فأصبحت مريم مضرب أمثال أهل الدير واضحًا في الرزانة والتعقل. أما هي فكانت تجد في تلك الخدمة راحة وعزاء عن مشاغل العالم، وأحست بسعادة لم تكن تشعر بمثلها من قبل لولا ما كان يعترض سعادتها من تذكر عبد الرحمن وما مر بها من الحوادث المؤلمة، على أنها بمضي الأيام كادت تنسى كل ذلك إلا عبد الرحمن. وكانت إذا اجتمعت بالراهبات أو الرهبان ودار الحديث على الأحوال العامة، سمعت طعنًا قبيحًا في يزيد وسوء تصرفه وما يرتكبه من شرب الخمور والانشغال باللهو والطرب وضرب الطنابير وتربية القرود، وكانت إذا سمعت ذلك ينقبض قلبها وتقول في نفسها: لا يصلح الحاكم إلا إذا أتيح له الاطلاع على سرائر رعيته وما يدور في مجالسهم الخاصَّة من نقد أعماله، ولو أنه أتيح له ذلك ما بقي على غيِّه مهما يبلغ من حمقه وجهله. كذلك كان يفعل عمر بن الخطاب؛ فكان يتنكر ويخالط الناس فيسمع ما يقوله عجائزهم وصبيانهم وشبانهم وكهولهم، ويتدبر ما يسمعه من الانتقاد، فينصف المظلوم ويضرب على أيدي الظالمين، فساعده ذلك على تشييد مملكة الإسلام وتقويم دعائمها على العدل والحق. وأما يزيد فإنه انشغل بنسائه وخموره واستبدَّ بأبناء الرسول واضطهد أهل بيته حتى كاد يهدم ما أسسه الخلفاء الراشدون، ولو أنه وجد من أصحاب شوراه من يطلعونه على حقيقة أمره وما يقوله الناس عن حكومته وعن ضعفه وإهماله، لاضطر إلى الإصلاح جهد طاقته، ولعل الله أراد ذلك تعجيلًا لخروج الخلافة من يده. ••• قضت سلمى في دير بحيراء سنتين وبعض السنة وهي على تلك الحال، حتى ألفت الوحدة وكادت تنسى مصائبها، ولكن ذكرى عبد الرحمن كانت تعادوها فتستغرق في التأملات، ويُخيَّل إليها أحيانًا أنه ما زال حيًّا فيتجدد أملها بلقياه، ثم لا يلبث ذلك الأمل أن يضمحلَّ من مخيلتها فتعود إلى البكاء عليه في خلوتها، ولا سيما أن الشيخ الناسك لم يكن يشفي غليلها بخبر صريح. وأصبحت ذات يوم فرأت أهل الدير في هرج ومرج، وقد أخذوا في تزيين الأبواب والنوافذ، ومد الأبسطة وذبح الذبائح، فسألت عمَّا دعاهم إلى ذلك، فقيل لها: إن الخليفة قادم إلى حوران، ولا بدَّ له من المرور بالدير والإقامة به يومًا أو يومين، فلما سمعت ذلك اختلج قلبها وانقبضت نفسها ولم تجد بدًّا من الذهاب إلى الشيخ الناسك، فلما أقبلت عليه رأته جالسًا تحت شجرة وعكازه بيده ينكت الأرض بها وقد بالغ في الإطراق كأنه يفكر في أمر ذي بال، فلما دنت منه رفع بصره إليها وعيناه تتلألآن كأنهما شعلتان، وابتدرها قائلًا: إن الطريدة أوشكت أن تقع في الفخ، فهل تفلت منك هذه المرة؟ فشعرت سلمى بتجدد آمالها في الانتقام وقالت: أرجو ألا تفلت والله المستعان. قال: إن يزيد قادم إلى الدير مساء اليوم، وسيقيم هنا ليلة ريثما يستريح ثم يشخص إلى حوران، فإذا استطعت أمرًا ينسينا مصائبنا وأحزاننا فإنك تفرجين كربنا وترفعين عن عاتق المسلمين ثقلًا كبيرًا. فأطرقت سلمى هنيهة ثم قالت: إني فاعلة ذلك بإذن الله، ولكن هل يسعدني الحظ بعد ذلك بلقيا عبد الرحمن؟ قال: إذا نجحت في قتل هذا الرجل فإنك تحيين عبد الرحمن وتقيمينه من بين الأموات. فاقشعرَّ بدنها وقالت: إذن أنت واثق من موته؟ قال: كلا، ولكن أرجو أن تؤدي الواجب عليك والله نصير المظلومين، وإذا كتب لك لقاء عبد الرحمن في هذه الدنيا فإنك تلقينه ظافرة وتعيشان سعيدين، وإلا فإنك تلاقينه في الآخرة وقد انتقمت لأبيك ولأهل البيت. وأرادت أن تجيبه فسمعت الناقوس يدعو الرهبان وسائر أهل الدير إلى العمل فهمَّت بالرجوع. فناداها وقال: تمهَّلي يا سلمى، ثم تناول طرف ثوبه فحلَّ عقدة فيه وأخرج منها ورقة دفعها إليها وقال: خذي هذه الورقة فإن فيها دواء الظلم، إذا شربه يزيد شُفي الإسلام من دائه. فعلمت أنه سم فتناولت الورقة وفتحتها فرأت فيها مسحوقًا ناعمًا، فعادت وطوتها وخبأتها في جيبها، وهرولت إلى الدير حتى أتت المطبخ واشتغلت مع سائر النساء بإعداد الطعام. ولما مالت الشمس إلى الأصيل ظهر غبار في عرض الأفق، ولم يكد يراه الرهبان حتى خرجوا بالمباخر والقماقم واصطفوا في ساحة الدير، وعليهم الملابس الرسمية تتلألأ بألوانها الزاهية، وفيهم المرتلون وضاربو الصنوج والرئيس في مقدمة القوم وبين يديه غلمان يحملون سعف النخل وطاقات الزهور. وبعد هنيهة أقبل الركب تتقدمه الخيالة، وأولهم يزيد راكبًا على جواد عربي عدته من الفضة الناصعة البياض، وعلى كتفه قباء وردي اللون مزركش بالقصب، فلما وقع نظر سلمى عليه عرفته، واقشعرَّ بدنها إذ تذكرت حالها معه، ولكنها تجلَّدت ولبثت تنتظر ما يكون، فإذا بالرجالة أسرعوا فضربوا فسطاطه بقرب الدير، وترجَّل الفرسان وأقبل الخدم وفيهم خدمة الصيد يحملون البزاة والقرود ويسوسون الكلاب والفهود كما رأتهم في دير خالد منذ نحو عامين، وكان يزيد إذا رحل جعل همَّه الاشتغال بالصيد. ولما ترجَّل يزيد استقبله الرئيس وكبار أهل الدير ورحبوا به، فلما دخل الفسطاط دخلوا في أثره واستعطفوه ليقيم بينهم ويتناول العشاء عندهم فأجاب دعوتهم. فأمروا بالأبسطة ففُرشت في مكان معدٍّ لذلك، وجاءوا بأصناف الأشربة الحلوة بألوانها الزاهية وقدموا ليزيد ورجاله فشربوا، ثم أمر الرهبان بإحضار الطعام فحملوه إلى هناك وكانت النساء تهيئه وتساعد الخدم في إحضاره. فلما رتبت المائدة وصُفَّت الآنية والأطباق، نزع يزيد كوفيته وغسل يديه وتصدر المائدة جالسًا على وسادة من الحرير المزركش، وجلس أمراؤه بين يديه، وأخذوا جميعًا في تناول الطعام. وفيما هم في ذلك، التفت يزيد إلى الراهبات الواقفات للخدمة، فوقع بصره على الأخت مريم فبهره جمالها، وتذكر سلمى وكان يعلم أنها ماتت منذ عامين أو أكثر فقال في نفسه: يا للعجب! كم يتشابه الآدميون. وقضى مدة الطعام وهو يردد بصره فيها ولم يتمالك عن الميل إليها والإعجاب بأمرها لشدة شبهها بسلمى. وكانت سلمى تتجاهل وتتظاهر بتقديم الأطعمة والأشربة وهي مطمئنة البال إلى أن يزيد لا يمكن أن يعرفها بعد أن بلغه موتها من طبيبه، وبعد أن بدَّلت اسمها وثيابها وسائر أحوالها. أما يزيد فكتم شغفه بها ريثما يحتال في استقدامها إليه، فأخذ يلاطف الرئيس ويثني على ما لاقاه من كرمه وحسن وفادته ويعده خيرًا، فلما نهضوا عن المائدة دعاه إلى خيمته وبالغ في إكرامه حتى غربت الشمس ودق ناقوس الصلاة، فاستأذن الرئيس في الانصراف فأذن له، ثم أسرَّ إلى بعض أهل بطانته ما أضمر من أمر الأخت مريم وكلفه استقدامها بحيلة، فخرج الرجل إلى الرئيس وقال له: لقد تعود الخليفة أن يتناول المرطبات قبل النوم. فقال الرئيس: إننا أعددنا كل ما ترتاح إليه نفسه، ونحن طوع إشارته. قال: ولكنني لا أظنكم تستطيعون القيام بكل ما يحتاج إليه. قال الرئيس: وكيف ذلك ونحن لا ندخر وسعًا في سبيل مرضاته؟ قال: إن مولانا أمير المؤمنين تعود أن تصلح له الطعام فتاة جئنا بها معنا من دمشق، ولكنها مرضت في أثناء الطريق فأرجعناها، وقد قضينا طول الرحلة والخليفة لا يكاد يلتذُّ بالطعام، ولكنه لما تناول العشاء عندكم، أعجبه حسن طهيه، ورأى بين الخادمات فتاة أعجبته لباقتها في إعداد المائدة، وتمنى لو أنها تصحبه بقية سفره إلى حوران. فابتدره الرئيس قائلًا: إن بين النساء هذا الدير فتاة ليست راهبة ولكنها من أحسن النساء عقلًا وذكاء، وهي تصلح الطعام أحسن إصلاح، فإذا كانت هي التي وقعت من مولانا أمير المؤمنين موقع الاستحسان، ألحقناها ببطانته في هذا السفر، ولا نظنها إلا فرِحة بهذا الشرف العظيم. فاستبشر الرجل بنيل المرام وقال: وأي فتاة هي؟ قال: هي التي ندعوها الأخت مريم … فقطع الرجل كلامه قائلًا: إنها هي التي أعجبت الخليفة، فهل تظنها ترضى بخدمته؟ فهز الرئيس رأسه هزة الاستخفاف وقال: ومن ذا الذي يرفض هذا الشرف؟ ونادى الرئيس قيِّمة الدير وطلب إليها أن تدعو الأخت مريم، فلما جاءت ووقفت بين يدي الرئيس قال لها: اعلمي يا بنية أن مولانا الخليفة مسافر إلى حوران ويحتاج إلى فتاة تصلح له الطعام، وقد امتدحت له مهارتك في ذلك، وقد تنازل أن تكوني في خدمته، فأبشري بإقبال سعدك واذهبي إليه، وأوصيك أن تبذلي الجهد لإرضائه. فسكتت سلمى وأبدت الاستحسان بملامح وجهها وقد خفق قلبها سرورًا بتلك الفرصة. ففرح الرئيس أيضًا وأثنى على لطفها وقال لها: سيري منذ الآن مع هذا الأمير، وكوني ساهرة في خدمة الخليفة، فإنه قد غمرنا بفضله وإحسانه. فسارت سلمى وقد تهيَّبت تلك المهمة ولكنها صممت على الفتك بيزيد مهما يكلفها ذلك. وكان يزيد في انتظار رسوله، فلما عاد إليه ظافرًا غانمًا أثنى على صدق خدمته، وأمره أن يعد المرطبات والفاكهة ليتناولها قبل الرقاد، فأعد كل شيء وانصرف، وبقي يزيد في الخيمة وحده فدعا بالأخت مريم، فدخلت وقد تلثمت بالخمار متظاهرة بأن اللثام من تقاليد أهل الدير. وسايرها يزيد في ذلك ترغيبًا لها في خدمته، على أن ينال منها مرامه بعد سفره، واكتفى بأن يتمتع بمرأى ما ظهر من عينيها، فلما وقفت بين يديه أمرها أن تناوله بعض الفاكهة فقدمت له ما شاء وهو لا يُبدي شيئًا مما في نفسه مخافة أن تأبى الذهاب معه، ثم تظاهر بالرغبة في النعاس وقال: اسقيني كأسًا من الماء المحلى بالعسل. فقالت في نفسها: إني والله قاتلته بسلاحه، فتناولت الكأس وصبت فيها العسل وتظاهرت بإحضار ماء بارد فخرجت من الخيمة ويداها ترتعشان من عظم الاضطراب، وفكرت هنيهة في أمر السم الذي أعطاها إياه الشيخ الناسك، فرأت أنها إذا صبَّته كله ربما يظهر تأثيره عاجلًا قبل أن تتمكن من الفرار فيقبضون عليها، فصبت جانبًا منه في الماء ومزجته بالعسل وقدمته له، فتناوله وشربه إلى آخره وهو يريد أن ينام ليبكر في الرحيل ويخلو بالفتاة في حوران. أما هي فلما تحققت أنه شرب الكأس خرجت من الخيمة، وسارت توًّا إلى الناسك فرأته واقفًا في ظل الشجرة، فأشارت إليه إشارة فهم منها أنها أتمت مهمتها وتريد الفرار فقال: هيا بنا لا تخافي. وتسلق الشجرة وعاد منها بصرَّة تأبطها، وأمسك سلمى بيده، ومضى بها في طريق لا يراهما أحد فيه، ولم تمضِ برهة حتى كانا قد بعدا من الدير وأصبحا في الصحراء، فوقف الشيخ وفتح الصرة فأخرج منها ثوبين من أثواب أهل البلقاء أعطى سلمى أحدهما فلبسته، ولبس هو الآخر، فأصبح من يراهما لا يشك في أنهما رجلان من أهل البلقاء، فعجبت سلمى لتأهب الشيخ الناسك وتحوُّطه، ولكنها ما زالت خائفة فقالت: أخشى أن يلحق بنا الجند فما العمل؟ قال: لا تخافي. اتبعيني والله المنجي، فسارت في أثره، وقضيا بقية الليل يلتمسان الطريق والناسك يرشدها كأنه يسير في ضوء النهار. ••• أصبحا في اليوم التالي فإذا هما بالقرب من بناء خرب تدل بقاياه على فخامة أصله لكبر أحجاره وسعة مساحته، فقالت سلمى: أين نحن يا مولاي؟ قال: إننا في البلقاء، وهذا صرح الغدير الذي يتغنى به الشعراء. قالت: ألا يسكنه أحد الآن؟ قال: كلا فإنه من بناء الغساسنة، وكانوا عربًا نصارى، فلما جاء المسلمون الشام وفتحوها دخلوا في حوزتهم، وكان القصر لبعض ملوكهم يقيمون فيه بعض السنة، وهو من بناء ثعلبة بن عمرو أحد أجدادهم، بناه منذ أربعة قرون، وقد درس كما درسوا، وسبحان الحي الباقي، ثم أشار عليها بالاستتار هناك بقية النهار، على أن يستأنفا المسير ليلًا فقالت: والله لا أبالي إذا مات يزيد أن أموت أنا في أثره؛ إذ أكون قد قمت بالواجب وشفيت ما في نفسي ونجيت المسلمين من شرٍّ عظيم. قال: إنه مائت لا محالة؛ لأن نصف ذلك السم كافٍ لقتله. قالت: ولكنني لم أسقه أكثر من النصف فهل يميته؟ قال: إنه يميته بعد أيام وقد فعلت حسنًا بتقليل المقدار. ومشيا وهما يتكلمان حتى دخلا من باب القصر إلى ساحة تراكمت فيها الأتربة والأحجار، وانسابت فيما بينها بعض أنواع الحشرات، فتحول الشيخ وسلمى إلى بقايا غرفة كأنها كانت مجلس أهل ذلك القصر في أيام عمارته، لها نافذة تطل على وادٍ فيه آثار جدول جف ماؤه منذ أعوام. فاختار الشيخ حجرًا نظيفًا بجانب النافذة أجلسها عليه وجلس هو بجانبها، ثم نهض بغتة وقال: دعيني أنصرف عنك برهة ثم أعود إليك بالطعام. هل تخافين الانفراد؟ قالت: لا أخاف، ولكنني أستوحش وأنا في هذه الخرائب المرهبة. دعنا من الطعام فإني لا أحتاج إلى شيء منه غير الذي جئتني به من الدير ريثما ننتقل إلى مكان آخر. قال: تحدثني نفسي أن نختبئ في هذا المكان حتى نرى ما يكون، ولكن ما معنا من الزاد لا يكفي، فامكثي هنا ولا بأس عليك، وإني أعرف عربًا من بقايا الغساسنة على مقربة من هذا المكان، فأذهب إليهم وآتيك بما تصل إليه يدي، والله الموفق، فلم ترَ بدًّا من طاعته. وخرج الشيخ الناسك وعليه ثوب أهل البلقاء، وبقيت سلمى بين تلك الأطلال وحدها، فما لبث الشيخ أن توارى عن بصرها حتى أحست بالوحشة، وندمت على بقائها في ذلك المكان، وودت لو أنها سارت معه إلى حيث سار، ونظرت إلى ما حولها فإذا هي بين آكام من الأتربة تزحف بينها الخنافس وأنواع النمل، فملَّت الجلوس هناك، فوقفت وأرادت أن تشغل نفسها عن وحشتها فمشت لتتفقد بقايا ذلك الصرح وتتأمل في أصل تكوينه، فخرجت من تلك الحجرة إلى غيرها فغيرها حتى انتهت إلى دهليز مشت فيه فأفضى بها إلى سلم يطل على الوادي، فعلمت أنه كان مخرج أهل القصر إلى ضفاف ذلك الجدول، فانحدرت على السلم حتى انتهت إلى مصطبة صغيرة، وكانت قد تعبت فجلست عليها، وأعجبها الظل وأنعشها النسيم البارد فطاب لها البقاء هناك، وجلست وقد أحست بالتعب الشديد والنعاس الثقيل على أثر ما قاسته في الليل الماضي من التأثر والسهر والركض، فغلب عليها النعاس فنامت واستغرقت في النوم، ولا تسل عمَّا مر في مخيلتها من الأحلام وفيها المرعب والمزعج. ••• استيقظت سلمى من نومها مذعورة؛ إذ طرق سمعها جعجعة جمال، فنهضت وتلفتت إلى ما حولها فرأت ثلاثة رجال قادمين من عرض البر نحو القصر، وعلى الرجال لباس الدماشقة، فارتعدت فرائصها ولم تشك في أنهم من أتباع يزيد وقد اقتفوا أثرها بعد أن أصيب يزيد بسوء، فهرولت على السلم وعادت إلى الدهليز ومنه إلى الحجرة التي كانت فيها وانزوت بحيث ترى القادمين ولا يرونها، فإذا بهم ترجَّلوا بجانب شجرة على قيد أذرع من القصر، وعقلوا الجمال وأخرجوا طعامًا وجعلوا يأكلون. فتوارت سلمى وعادت إلى جهة باب القصر لعلها تجد الشيخ عائدًا من مهمته فتستأنس به، فلما استبطأته شغل بالها، ثم عادت إلى الحجرة، ولبثت حتى مالت الشمس عن خط الهاجرة ودنت من الأصيل ولم يعد الشيخ، فازداد قلقها وعادت إلى باب القصر، ولم تكد تصل إليه حتى رأت الشيخ يعدو نحوها فوقفت في انتظاره، فلما أقبل استغربته لأنها رأته قد قلَّم أظافره ومشط لحيته وقص شعره ورفع حاجبيه عن عينيه، ولولا الثوب الذي رأته عليه في ذلك الصباح لأنكرته ولكنها رأت التعب والبغتة في وجهه فقالت: ما وراءك يا مولاي؟ وما الذي جرى؟ قال: ما ورائي إلى الخير، دعيني أسترح، ثم أقص عليك الخبر ولكنه خبر مفرح فلا تخافي. فاطمأن بالها بعد أن كانت تضطرب، وبينما هي في انتظاره وهو يلهث من التعب، سمعت وقع أقدام خارج الباب، وسمع الشيخ ذلك أيضًا، فجلس حتى استراح وهدَّأ نفسه، ثم وقف ومشى إلى الباب وأمر سلمى أن تبقى داخل القصر ريثما يعود فمكثت حسب إشارته. ورأى الشيخ رجلًا عليه لباس أهل دمشق فرحَّب به وحيَّاه، فقال الرجل: هل في هذا المكان منزل للأضياف؟ قال الناسك: كلا إنه قصر خرب لا يسكنه أحد. قال: ولكننا رأينا فيه أناسًا. قال: ليس فيه أحد إلا أنا وابني، وقد مررنا به هذا الصباح فأقمنا ريثما نستريح. من أين أنت قادم؟ قال: إنني قادم مع رفيقيَّ هذين — وأشار إلى رفيقيه — من دمشق. قال الشيخ: وإلى أين تقصدون؟ قال: إلى بصرى، ويظهر لي من لباسك أنك من أهل البلقاء، فهل كنت في بصرى؟ قال: نعم، إني قادم منها. قال: هل مررت بدير بحيراء؟ قال: نعم. قال: أرأيت في الدير أو جواره شيخًا ناسكًا لا يأوي المنازل؟ فلما سمع الشيخ كلام الرجل خفق قلبه وقال: نعم أظنني رأيت مثله هناك، ولكن ما الذي يهمك من أمره؟ قال: لا يهمني شيء، ولكن رفيقيَّ عرفاه مذ كان في جوار دمشق، ثم سمعا أنه يقيم بجوار بصرى وهو شيخ ذو كرامة لو لقيته وخاطبته لعلمت أنه من الأولياء. فأدرك الشيخ أن في الأمر سرًّا يهمه استطلاعه فقال: ومن هما رفيقاك؟ قال: لا أدري من هما، ولكنني صحبتهما من جوار دمشق على أن آتي بهما بصرى ثم أعود، وهما اللذان قصَّا علي كرامات الشيخ الناسك. قال الشيخ: لماذا لا يتأتيان إلى هنا فأقصَّ عليهما من نبأ الشيخ الناسك وما يغنيهما عن التعب الكثير. ••• تحول الرجل إلى رفيقيه، وسار الشيخ في أثره حتى أقبل على الرجلين، وكانا جالسين تحت الشجرة، فلما رأيا رفيقهما ومعه آخر تبرَّما كأنهما استاءا من ذلك. أما الشيخ فلم يكد يراهما حتى عرف أنهما عامر وعبد الرحمن، ففرح فرحًا عظيمًا ولكنه تجلَّد وأراد أن يمتحنهما، فلما أطل عليهما رحَّبا به وهما لا يعرفانه لتغيُّر هيئته، فقال لهما: ماذا تريدان من الشيخ الناسك؟ لعلكما من أهله؟ فقال له عامر: لسنا من أهله، ولكننا عرفناه في دمشق وأحببنا أن نلقاه، فهل رأيته؟ قال: لقيته في دير بحيراء، ولكنكم إذا ذهبتم إليه فلن تجدوه هناك. قال عامر: وأين نجده؟ فالتفت الشيخ إلى رفيقهما وخاف من التصريح أمامه فقال لعامر: إذا شئت أن ترى الشيخ الناسك فإني أدلك على مكانه في هذه الساعة تعالَ معي. وكان عبد الرحمن جالسًا يسمع حديث عامر والشيخ ولا يتكلم، فلما سمعه يقول ذلك، نهض ونهض عامر، ومضيا حتى بعُدا عن الشجرة، ودنَوا من القصر فقال الشيخ: إن الشيخ الناسك مقيم بهذا القصر. فقال عبد الرحمن: ما زلت منذ صباح هذا اليوم وأنا أنظر إلى هذا القصر فلم أجد فيه غير شخص يظهر أنه في ريعان الشباب، وقد استغربنا مقامه وحده هنا. قال وقد رفع صوته: يا للعجب! أقول لكم قولًا فلا تصدقونني؟! فلما سمع عامر صوت الشيخ، داخله الشك في أمره، وأخذ يتفرس في سحنته فرآه يشبه الناسك من جهة، ويشبه من جهة أخرى شخصًا آخر يعرفه، ولم يكن قد رآه منذ بضعة عشر عامًا، فلبث صامتًا لا يتكلم كأنها أصيب بالبله. فقال له الشيخ: ما بالك؟ ما الذي ربط لسانك يا عامر؟ وما أتم كلامه حتى ترامى عامر على الشيخ وجعل يقبل يديه ويقول: أنت الشيخ الناسك؟ أنت؟ فلما سمع عبد الرحمن ذلك صاح فيه: أين سلمى؟ قال: وما أدراك ببقائها وأنت أخبرتني أنها ماتت ورأيت قبرها محفورًا؟ فقال: قلت لك ذلك وكان هذا اعتقادي واعتقاد عمي عامر، ولكن زينب بنت علي أنبأتنا ببقائها على قيد الحياة، وأنها صحبتها في وقعة كربلاء، ثم إلى دمشق، ثم لم تعد تعرف مقرها. فنظر الشيخ إلى عبد الرحمن وقال: وهي أيضًا كانت تعتقد أنك ميت حتى أنبأتها ببقائك حيًّا ونحن في كربلاء، ثم علمت أنك خرجت إلى الكوفة في مهمة وانقطع خبرك فيئست من بقائك و … فقطع عبد الرحمن حديثه وقال: والآن قل لي أين هي سلمى، هل هي معك أم أين؟ قل لي. بالله قل لي. قال: ألم ترها اليوم؟ قال: أين؟ قال: في هذا القصر. فأطرق عبد الرحمن ثم قال: لعلها الشخص الذي رأيته وحسبته شابًّا؟ قال: نعم. فهم عبد الرحمن بالمسير إلى القصر وقد شاعت عيناه وخفق قلبه ولم يعد يصبر عن رؤية سلمى، فمنعه الشيخ وقال: تمهل لأطلعها على خبرك رويدًا رويدًا لئلَّا تضر البغتة بها، وأرى أن تصرفا هذا الرفيق لئلَّا يطلع على شيء من أمرنا. فقال عامر: إنه رفيق مأجور ليدلنا على الطريق. قال الشيخ: اصرفه الساعة ونحن نعرف الطريق. قال: سأرسله إلى بصرى ليسأل عن الشيخ الناسك هناك. ••• أشرق وجه عبد الرحمن، وأبرقت أسرَّته، وأخذ يتطلع إلى القصر ويتطاول لعله يلمح سلمى. وعاد الشيخ إلى القصر، فرأى سلمى في الحجرة وقد ملَّت الانتظار لتعلم من هو ذلك الرجل وتستطلع ما دعا إلى تغيير سحنة الشيخ، فلما أقبل عليها ابتدرته بالاستفهام عن سبب ذلك التغيير فقال: دعي عنك ذلك الآن وفكري معي في سبيل للنجاة من الورطة التي نحن فيها. قالت: وأي ورطة؟ وعلت الحمرة وجهها. قال: إن هؤلاء الرجال قادمون من عند يزيد للبحث عنك، فهل أخبرهم بمحلك؟ فبغتت سلمى وقالت: قلت لك إني لا أبالي بالموت إذا علمت أن سهمي أصاب مقتلًا من يزيد. قال: إذا أكدت لك أن يزيد مات من تلك الجرعة، هل تسلمين نفسك إلى رجاله ليقتصُّوا منك؟ قالت: إذا استطعت النجاة فلا ألقي بنفسي بين أيديهم، أما إذا قبضوا عليَّ وأرادوا قتلي فإني لا أبالي، ولكن … وسكتت. قال: مالك تترددين؟ قولي، إن هؤلاء الثلاثة تتبعوا خطواتنا حتى أدركونا هنا وهم يبحثون عنك فهل أقول لهم أنك هنا؟ فاستغربت سؤاله ولم تفهم أمازحٌ هو أم جادٌّ، فقالت: قلت لك إني إذا نفذ سهمي لا أبالي أن أُقتل إلا إذا كان … وخنقتها العبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء والشيخ صامت لا يتكلم، ثم سألها: إذا كان ماذا؟ قالت والبكاء يغالبها ويخنق صوتها: أراك تهزأ بي، وعهدي بك أحنُّ عليَّ من الوالد على ولده، فما بالك تتجاهل عواطفي؟ على أني مع ذلك لا أستحيي أن أقول: إذا كان حبيبي عبد الرحمن ما زال حيًّا فإني أضن بحياتي وأحب البقاء من أجله، وإلا فإني لا أنتظر رجال يزيد ليبحثوا عني، بل ألقي بنفسي بين أيديهم وأعرض صدري لأسنَّتهم أو أتجرع بقية السم وهو ما زال معي. قالت ذلك وهي تشهق من شدة البكاء. فأجابها الشيخ بضحكة طويلة طالما سمعتها منه وقال لها: عبد الرحمن؟! ومالك وعبد الرحمن؟ وإذا فرضنا أن يزيد مات وعبد الرحمن ما زال حيًّا صحيحًا معافًى فماذا تقولين؟ قالت: لا تهزأ بعواطفي يا مولاي، فقد كفاني ما أصابني، أستحلفك بالله أن تتركني وشأني. قال: وما معنى الاستهزاء الآن، إني أقول الجد، وإذا كنت لا تصدقينني فإني أرفع صوتي مناديًا عبد الرحمن فإذا هو بين يديك وعامر معه. فتفرَّست في الشيخ وقد تملَّكتها الدهشة، وفكرت قليلًا وهي لا تزال تظنُّه يمزح ولكن قلبها خفق خفوق الفرح وكأنه دلَّها على صدق قوله فقالت: نعم ادعُ لي عبد الرحمن، أو قل لي أين هو فأسعى إليه على رأسي ويدي. قال: بل هو الذي يسعى إليك، تربَّصي ريثما أدعوه إليك. قال ذلك وخرج وهي لا تزال تحسبه يعبث بها، ولكنها سارت في أثره، فما كاد بصرها يقع على الرجلين حتى عرفت عبد الرحمن، فأسرعت نحوه، وأسرع هو نحوها حتى تقابلا، فرمت نفسها بين ذراعيه فضمَّها ودموعها تتساقط من شدة الفرح، وعامر والشيخ واقفان وقلباهما يرقصان فرحًا. ثم دخلوا جميعًا إلى القصر ويد سلمى في يد عبد الرحمن، وعامر لا يزال يفكر في أمر الناسك ومشابهته رجلًا يعرفه. ولما دخلوا الحجرة جلسوا يقصُّون ما مر بهم من الحوادث. فبدأ عامر يقص ما أصابه وأصاب عبد الرحمن منذ ذهبا إلى الكوفة، فقال: ذهبنا إلى الكوفة للبحث عن أمر مسلم بن عقيل، فقبضوا على رفقائنا ونجونا نحن واختفينا في مكان ريثما نرى ما يكون من أمر الحسين ورجاله، فلما علمنا بمقتلهم وإرسال أهلهم إلى دمشق اقتفينا أثرهم إليها فقيل لنا إنهم أرسلوهم إلى المدينة، وكان اليأس قد أخذ منَّا مأخذًا عظيمًا؛ لاعتقادنا بموت الحبيبة سلمى، مع حبوط مسعانا في نصرة الحسين، وسرنا إلى المدينة فأقمنا فيها حينًا، ولم يتفق لنا لقاء زينب إلا بعد وقعة الحرة التي أتم بها يزيد فظائعه. وكنت في أثناء هذه الوقعة مع أهل البيت، وقد أوصى بهم يزيد خيرًا هذه المرة فلم يصابوا بسوء، فلما انقضت المذبحة لقيت زينب فسألتني: هل لقيت سلمى؟ ثم أخبرتني بما كان من أمرها، وبأنها فارقتها آخر مرة خارج دمشق، فركبنا إلى دمشق وبحثنا عنها فلم ينبئنا منبئ بخبرها، ولكننا فهمنا في أثناء البحث أنك كنت هنا في ذلك الوقت، فترجَّح لنا أنكما سرتما معًا، وبعد التحرِّي علمنا من بعض القادمين من بحيراء إلى دير خالد أنك تقيم إلى جانب بصرى، فجئنا لعلنا نراك ونبحث عن سلمى، فالحمد لله على هذه الصدفة الغريبة. وقصَّت سلمى ما اتفق لها منذ كانت في قصر يزيد إلى آخر حديثها. وقص الناسك ما كان من وقعة كربلاء، حتى أتى على حديث الأمس وجرعة العسل فابتدرته سلمى قائلة: لم تخبرني بعد عن سبب تغير سحنتك. قال: هذا لا أخبرك به الآن، ولكنني أخبرك بسبب تأخري عن الرجوع؛ ذلك أني لما خرجت لجلب الطعام، رأيت أن أستطلع عاقبة تلك الكأس، فهرعت إلى بصرى لأتنسَّم الأخبار، فعلمت أن يزيد ركب في ذلك الصباح وهو يشكو جنبيه، وقد أصابته بحَّة، وهي أول أعراض ذلك السمِّ، وما أظنه إلا مائتًا قريبًا فينجو الإسلام والمسلمون من خلافته. وكان الشيخ يتكلم وعامر يتأمل في ملامحه وحركاته؛ لمشابهته رجلًا يعرفه، فلما سمعه يذكر قرب موت يزيد، شغله الفرح بذلك عن كل شاغل، وكذلك عبد الرحمن وسلمى، وباتوا تلك الليلة ولم يناموا إلا قليلًا لشدة الفرح. وفي ضحى اليوم التالي عاد رسولهم الذي أنفذوه إلى بصرى فسألوه عمَّا وراءه فقال: لم أجد الشيخ الناسك، ولكني سمعت بموت يزيد على حدود حوران. فصاح الشيخ: هل تحققت من موته؟ قال: نعم يا مولاي. فقال الشيخ: وما سبب موته وعهدنا به صحيح البدن، ولم يجاوز الثامنة والثلاثين؟ قال الرجل: سمعتهم يقولون إنه أصيب بداء الجنب والذبحة، وكأنه ذاب ذوبان الرصاص. فتظاهر الشيخ بالأسف وأشار إلى عامر أن يصرف رسوله ففعل ثم عاد، وخلا الأربعة في إحدى حجرات صرح الغدير، ولم يمر بأحدهم يوم أسعد من ذلك اليوم، ولا سيما سلمى؛ لأنها هي التي باشرت الانتقام بنفسها. ونظر إليها عبد الرحمن نظرة المحب المفتون وقال: لا أدري كيف أبدي لك حبي وقد أحرزت أشرف خلال النساء وأندر خلال الرجال، فحويت الجمال والوقار والحكمة والعقل والشجاعة، وحسبك أنك قتلت ذلك الدعيَّ وأنقذت المسلمين من ظلمه، وانتقمت لأبيك انتقامًا عجزنا كلنا عنه. فقالت سلمى: إني إنما فعلت ذلك لأنه الواجب. وكان الشيخ في أثناء ذلك شاخصًا في الفضاء كأنه مستغرق في أمر ذي بال، وعامر ينظر إليه من طرف خفي ويتفرس في وجهه لمشابهته رجلًا يعرفه، وهو عزيز عليهم جميعًا، ثم انتبه الشيخ الناسك كأنه هبَّ من رقاد والتفت إليهم وقال: آن لي أن أقص عليكم ما تتساءلون عنه من خبري. تعالوا معي. فساروا في أثره حتى دخلوا غرفة، فجلس وقد تغير وجهه وبان الجد في عينيه وكأنه كان مصابًا بالجنون وعاد عقله إليه في تلك الساعة، وظهر ضعف الشيخوخة فيه، وقبل أن يقص حكايته التفت إلى عامر وقال: ألم تعرفني يا عامر؟ فتفرس فيه عامر وقال: قد عرفتك الآن فقط، ألست عديًّا والد حُجْر؟ قال: نعم. فلما قال ذلك التفتت سلمى إليه وقالت: جدِّي؟ قال: نعم يا حبيبتي، ولعلك أدركت شيئًا من ذلك يوم سمعتِني أرثي الحسين في سهل كربلاء. فترامت سلمى على يديه تقبلهما، فقبلها عدي وهو يبكي ويشهق، وبكى عبد الرحمن وقبَّل يد الشيخ، ثم عاد الشيخ إلى إتمام الحديث فقال: أما سبب تكتُّمي فذلك أني لما أصبت بمقتل حُجْر لم يعد يحلو لي البقاء، ولكن قلبي ظل عالقًا بالانتقام، فعلَّلت نفسي بموت معاوية ومبايعة الحسين، وجعلت مقامي فوق قبر ابني في غوطة دمشق أستنشق ترابه وأتنسم ريحه، فلما لم يظفر الحسين بالبيعة، وتولى الخلافة يزيد، صبرت في انتظار الفرج أو الموت، فلما جئتم إلى دير خالد واجتمعتم تحت الجوزة وتعهد عبد الرحمن بقتل يزيد، كنت أنا مختبئًا في أعلاها، وأنا القائل لكم في تلك الليلة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، وظللت كاتمًا أمري وأنا أسعى في مساعدتكم جهدي، وأخفي وجهي حتى لا يعرفني عامر، وقد عاهدت الله منذ مقتل حُجْر ألا أقص شعري ولا آكل غير الفاكهة ولا آوي إلى المنازل، فلما علمت أمس بقرب موت يزيد حللت نذري وقصصت شعري كما ترونني. وسكت الشيخ قليلًا ثم قال: أما وقد مات يزيد، فقد آن لي أن أُسلم الروح، وإني أوصيكم بتقوى الله، والتفاني في نصرة أهل النبي، فأقيموا بمكة وحجُّوا إلى كربلاء وابكوا قتلاها ما استطعتم، وسيقتص الله من القوم الطاغين. قال ذلك وقد تلجلج صوته، وكلهم يبكون ويعجبون، ثم توسد وتمطَّى وهو يقول: إني أتلقى الموت بالترحاب. وما أتم قوله حتى أسلم الروح. فبكوه وهم في دهشة من أمره، ثم دفنوه في أصيل ذلك اليوم. وبعد أيام رحلوا عن البلقاء، حتى أتوا مكة وفيها ابن الزبير ولا سلطان للأمويين فيها، فعقدوا لعبد الرحمن على سلمى، وعاشوا في هناء وسلام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/0.2/
مراجع هذه الرواية
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية: تاريخ الطبري. تاريخ ابن خِلِّكان. تاريخ التمدُّن الإسلامي. معجم الأدباء، لياقوت. تاريخ ابن الأثير. تاريخ الإصطخري. مروج الذهب، للمسعودي. الأحكام السلطانية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/1/
الأمويون والعباسيون
تمتاز دولة بني أمية عن دولة الخلفاء الراشدين بأن السلطة تحولت فيها من الخلافة الدينية إلى المُلك السياسي، وتمتاز عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة شديدة التعصب للعرب، كثيرة الاحتقار لسواهم؛ ولذلك فإن أهل الذمة وغيرهم من سكان البلاد الأصليين قاسوا من خلفاء بني أمية ومن عُمَّالهم الأمور الصعاب، حتى الذين أسلموا منهم؛ فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وكانوا يسمونهم «الموالي»، ويعدون أنفسهم ذوي إحسان عليهم لأنهم أنقذوهم من الكفر، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعًا لله. وكان بعض العرب إذا مرَّت به جنازة مسلم قال: «من هذا؟» فإذا قالوا: «قرشي.» قال: «وا قوماه!» وإذا قالوا: «عربي.» قال: «وا بلدتاه!» وإذا قالوا: «مولًى.» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء.» وكانوا يَحْرمون الموالي من الكُنَى، ولا يَدْعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، وكانوا يسمُّونهم العُلوج. وفي كتاب الموالي، للجاحظ، أن الحجاج لما قبض على الموالي الذين حاربوا مع ابن الأشعث أراد أن يُفرِّقهم حتى لا يجتمعوا، فنقش على يد كل واحد اسم البلدة التي وجَّهه إليها. وقد تولى ذلك النقش رجل من بني عجل، فقال الشاعر. فكان سكان المملكة الإسلامية غير العرب يقاسون مر العذاب من عمال بني أمية، ويودون التخلص من دولتهم. وكانوا أول المجيبين لمن يدعو إلى غيرها أو يطلب إسقاطها. ولولا دهاء بعض خلفائها وأمرائها لما طالت مدة حكمها، ولكنها قامت بدهاء معاوية وأنصاره؛ كزياد ابن أبيه، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. والناس بايعوا معاوية رهبةً من سيفه، أو رغبةً في عطائه، وهم يعتقدون أن أهل بيت النبي أولى بذلك الأمر. وقد تهيأت لهذه الدولة ظروف كثيرة ساعدت على بقاء الخلافة في بني أمية نيِّفًا وتسعين سنة. وكان أهل بيت النبي في أثناء ذلك يطلبون الخلافة لأنفسهم ولا يفلحون، وهم فئتان كبيرتان: فئة ترجع بأنسابها إلى الإمام علي ابن عم النبي؛ وهم العلويون، وفئة ترجع إلى العباس بن عبد المطلب؛ عم النبي؛ وهم العباسيون. والعلويون فئتان: فئة تطالب بالخلافة لأبناء عليٍّ من زوجته فاطمة بنت النبي؛ وهم: الحسن والحسين ومَن تسلْسَل منهما، وفئة تطلبها لابنه محمد بن الحنفية. وكان دعاة محمد هذا يقال لهم: الكيسانية، وأما العباسيون فتسمى شيعتهم: الراوندية. والعباسيون لم يطالبوا بالخلافة إلا في أواخر دولة بني أمية، وأما العلويون فما انفكوا من زمن معاوية وهم يطالبون بها، فيرسلون الدعاة إلى أنحاء المملكة الإسلامية يدعون الناس إليهم، وكثيرًا ما اجتمع حول بعضهم ألوف من الأنصار والأشياع، ولكنهم لم يفلحوا، حتى إذا انقضى القرن الأول وأخذ شأن بني أمية في الضعف، وأخذت دولتهم في الانحلال؛ كانت دعوة الكيسانية قد وجدت صدًى، وهم يدعون لأبي هاشم بن محمد بن الحنفية المذكور. وقد كثر دعاتهم في العراق وخراسان. وكان أبو هاشم قد أوصاهم أنه سيحول الدعوة إلى آل العباس، فلما علمت شيعة أبي هاشم بموته قدموا إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس المذكور وبايعوه، فبعث الدعاة إلى الآفاق في السنة المائة للهجرة سرًّا. وكان أكثر الذين أجابوا الدعوة من الموالي غير العرب، وخاصة في خراسان؛ لبعدها عن مركز الخلافة الأموية بدمشق. وفي سنة ١٢٤ﻫ، توفي محمد بن علي؛ صاحب الدعوة، فبايع الناس ابنه إبراهيم وكانوا يسمُّونه الإمام. وما زال أمر العباسيين يقوى وأمر الأمويين يضعف حتى انقضت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية سنة ١٣٢ﻫ. وكان قائد شيعة العباسيين شابًّا فارسيًّا اسمه أبو مسلم الخراساني؛ هو بطل هذه الرواية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/2/
دهقان مرو
كانت بلاد فارس وخراسان وما وراء النهر قبل الفتح الإسلامي مؤلفة من المدن والقرى، وكان رجال الحكومة يقيمون في المدن ويجعلون فيها كل قوتهم. وأما القرى فقد كانت في حوزة جماعة من أشراف الفرس يُعرفون بالدهاقين، على نحو ما كانت عليه حال قرى أوروبا في عصر الإقطاع؛ إذ كانت البلاد في أيدي الأمراء الأشراف من الكونتية واللوردية، وكل أمير منهم يحكم مقاطعة تعرف باسمه، يحرسها جنده، ويزرعها رجاله، وهو فيهم مكان الحاكم المطلق. وكان الدهقان ورجاله يحكمون أهل القرى؛ سكان البلاد الأصليين، ويستخدمونهم استخدام الرقِّ. وكان السكان خليطًا من الشعوب الآرية يمتازون بضخامة البدن وبروز الصدر. كذلك كان الدهاقين في خراسان وغيرها حينما فتح العرب تلك البلاد، فهم إنما فتحوا المدن وأقاموا فيها الحامية. أما القرى فأقروا فيها الدهاقين على نحو ما كانوا عليه في دولة الفرس، واستعانوا بهم في كثير من الأحوال؛ وبخاصة في جمع الخراج، بما كان لأولئك الدهاقين من النفوذ العظيم على أهل البلاد الأصليين. وكثيرًا ما كانوا يتجسسون بهم على أحوال الحكام وغيرهم. وكان الدهاقين من الجهة الأخرى ينتفعون بتقرُّبهم من الفئة الحاكمة، ويجتزئون مما كانوا يجمعونه من الخراج، فتضاعفت ثروتهم وزاد نفوذهم، على أنهم كانوا يتفاوتون ثروة ونفوذًا؛ فمن صاحب القرية الصغيرة أو المزرعة إلى صاحب الرساتيق العديدة والبلاد الواسعة. وكثيرًا ما كانوا يتولَّون الحكومة كالأمراء، لكن بني أمية كانوا يسيئون إلى أولئك الدهاقين أحيانًا في جملة إساءتهم إلى غير العرب. وكانت ديانة الدهاقين المجوسية ديانة الفرس القدماء، وانقضت أيام بني أمية ولم يسلم منهم إلا القليلون. وكان أعظم دهاقين خراسان في أوائل القرن الثاني للهجرة دهقانًا كانت ضياعه أكثرها بجوار مدينة مرو؛ عاصمة خراسان في ذلك العهد؛ ولذلك غلب عليه الانتساب إلى تلك المدينة، فكان يسمى «دهقان مرو». وكان لهذا الدهقان ابنة اسمها جلنار غلبت شهرتها على شهرته بالجمال والعقل، وقد ذاع ذكرها بين الناس حتى أصبحت مضرب أمثالهم بالأنَفة والإمساك عن الزواج مع كثرة الخطاب من كبار الدهاقين والأمراء. وكان إذا طلبها طالبٌ عرض أبوها عليها أمره ورغَّبها فيه، فإذا أبتْ جاراها في الرفض. وكان الدهقان المذكور يقيم في مزرعة له على بضعة أميال جنوبي مرو في قصر فخم تأنَّق في بنائه، وأنشأ حوله الحدائق غرس فيها الأشجار المثمرة، وأصناف الرياحين والأزهار، وسرَّح فيها الطيور الداجنة، وفي جملتها الطاووس، والديك الهندي، وأصناف الدجاج. وقد ابتنى لها أقفاصًا في بعض جوانب الحديقة، وأقام حول القصر والحديقة سورًا عاليًا منيعًا كأسوار القلاع. وخارج السور منازل رجال الحاشية والأعوان، وبينها أعشاش يقيم فيها الحرَّاثون والخدم. ولم يكن يقيم في القصر إلا الدهقان ونساؤه وخدمه وبنته، ولم يكن له أبناء سواها. والقصر المذكور مبني على نمط خاص يحسبه المقبل عليه هيكلًا من هياكل النار التي كان الفرس يصلون فيها قبل الإسلام. والظاهر أن هذا القصر كان هيكلًا لعبادة النار، فلما أسلم أصحابه حوَّلوه إلى قصر للسكن، وأنشئوا حوله الحديقة والسور؛ ولذلك كان المقبل على القصر يرى في صدره أساطين من الرخام ضخمة، عليها نقوش فهلوية هي عبارة عن صور بعض الأبطال وبعض نصوص الأدعية أو الصلوات على اصطلاحهم. وتحيط هذه الأساطين برحبة أرضها من الرخام مرتفعة عن أرضية الحديقة وتشرف عليها، وفي سقفها نقوش ملونة تمثل بعض الخرافات القديمة عند المجوس، وفيها مواقع حربية أو حوادث دينية. وكانوا يسمون تلك الرحبة قاعة الأساطين أو القاعة الكبرى. ووراء تلك القاعة غرف كبيرة مفروشة بأثمن الأثاث من الديباج والإبْرَيْسَم على النمط الفارسي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/3/
جلنار
وذات ليلة من ليالي رجب المقمرة من سنة ١٢٩ﻫ، كان الدهقان جالسًا في تلك القاعة بين تلك الأعمدة، وقد فرشوا المكان بالسجاد وفوقه الوسائد المزركشة بالذهب، وفي وسط القاعة شبه منضدة من خشب الصندل المرصع بالأصداف الملونة، وعلى المنضدة تمثال صغير من الذهب يشبه فارسًا فارسيًّا عليه الدرع، وعلى رأسه الخوذة، وإلى جنبه السيف. وعينا الفارس وعينا الجواد من الحجارة الكريمة. وقد علقوا في سقف القاعة عدة مصابيح بينها مصباح كبير في وسطها، فأضاءوا المصابيح في تلك الليلة كالعادة، ولكن القمر أغناهم عن نورها. وكان الدهقان جالسًا في صدر القاعة على وسادة من الحرير، وعليه قباء من الديباج الأحمر، وعلى رأسه قلنسوة من الجلد الملوُّن، وحول القلنسوة عمامة صغيرة من نسيج الكشمير يغلب فيها اللون الأبيض. وكان القباء مُبطَّنًا بالفرو؛ لأنهم كانوا في فصل الربيع. وكانت تلك الليلة باردة، فالتف الدهقان بقبائه وبالغ في الالتفاف حتى غطى الفرو عنقه ومعظم لحيته. وكان كبير الوجه، جاحظ العينين، ضخم الأنف، أشقر الشعر، وقد خالطه الشيب قليلًا، فيحسبه الناظر إليه في الخمسين من عمره وهو فوق الستين. وبعد أن جلس هناك وحده ساعة، نهض بغتةً ودخل يطلب غرفة ابنته، فبُغت الخدم لقيامه وتفرقوا من بين يديه، ثم وقفوا احترامًا له. وكانت جلنار قد ذهبت إلى غرفتها بعد العشاء وبعثت إلى ماشطتها الخاصة، فجاءتها وأعانتها على خلْع ثيابها ونزْع حُلِيِّها، ثم جلست إلى جانب فراشها لتُحادثها ريثما تنام وقد آن وقت النوم، ولكن جلنار احتالت في الذهاب إلى الفراش؛ لتخلو بماشطتها وتحدِّثها بما في نفسها. وكانت جلنار على جانب عظيم من الجمال، مستديرة الوجه، ممتلئة الجسم، معتدلة القامة، بيضاء البشرة مع حمرة تتلألأ تحت ذلك البياض، سوداء الشعر مسترسلته، نجلاء العينين كحلاءهما، مع جاذبية وحلاوة يندران في البيض؛ لأن الجاذبية تغلب فى السُّمر. وكان لها في مقدم الذقن فحصة، وإذا ابتسمت ظهر لها إلى جانب الفم فحصتان هما الغمازتان. فلما فرغت الماشطة من تبديل ثيابها، ألبَسَتْها قميصًا من الحرير الناعم وردي اللون، وحلت شعرها وسرَّحته بمشط من العاج، فاسترسل إلى كتفيها، ثم ضفرته ضفيرة واحدة لئلا يضايقها أثناء النوم. وكانت الماشطة من أهل الذكاء والعقل، وأصلها سُرِّيَّة ابتاعها الدهقان في جملة جوارٍ بيض من بعض تجار الرقيق الذين يتَّجرون بالمماليك من بلاد الترك والخز، ولكنها تمكَّنت بذكائها وأسلوبها من اكتساب ثقة الدهقانة جلنار حتى جعلتها ماشطتها. والماشطة من أصحاب النفوذ الأكبر في بيوت الدهاقين؛ لأن نساءهم يُفضين بأسرارهن إلى الماشطة، ويعتمدن عليها في المهام العظام. فإذا كانت من أهل الذكاء والدهاء ملكت زمام القصر، وسيطرت على الدهقان والدهقانة. وكانت ماشطة جلنار، واسمها ريحانة، قد ملكت ثقة سيدتها، وتمكنت من محبتها، ولا سيما بعد وفاة والدتها، فأصبحت ريحانة مركز آمالها وخزانة أسرارها، فلما فرغت من تبديل الثياب استلقت جلنار على فراش أنيق من ريش النعام، غطاؤه سماوي اللون، فغرقت فيه، واتكَأَتْ بذراعها اليسرى على وسادة مزركشة، وأسندت خدها على كتفها، وتغطت باللحاف إلى أسفل الكتف، وأرسلت يدها اليمنى فوقه. وقد نزعت من معصمها أكثر الحلي إلا الأساور، وانحسر الكم عن زندها فظهر بضًّا أبيض. فتوسدت على تلك الصورة ووجهها نحو ريحانة. وكانت ريحانة قد لفت رأسها وحول عنقها بخمار من نسيج الكشمير، ولبست دراعة مستطيلة تحتها سراويل منتفخة على نمط ملابس الفرس في تلك الأيام، وليس عليها شيء من الحلي. جلست ريحانة إلى جانب جلنار وقد تملكتها الدهشة لما آنسته من سكوتها وانقباضها أثناء تبديل الثياب، وكانت عادتها أن تغتنم مثل تلك الساعة للممازحة والمضاحكة. فلما رأت ريحانة سكوتها جارتْها في السكوت تأدبًا، وصبَّرت نفسها حتى تبدأ هي الحديث، مع علمها ببعض ما يجول في خاطر سيدتها من الهواجس. فلما اتكأت جلنار أشارت إلى ريحانة أن تغلق باب الغرفة، ففعلت وعادت إلى مكانها، ومدَّت يدها إلى شعر جلنار وجعلت تلاعبه بين أناملها، ثم مرَّت بيدها على رأسها وهي تنظر إلى وجهها وتبتسم كأنها تستفسر منها عن سبب ذلك السكوت. فقالت جلنار باللغة الفارسية — وكانت تعرف العربية مثل معظم أهل فارس في ذلك العصر؛ لأنها لغة الفئة الحاكمة، لكنهم كانوا يتفاهمون فيما بينهم بالفارسية لغة آبائهم — فقالت جلنار: «ما قولك في أبي …» قالت ريحانة: «إنه يريد لك الخير.» قالت: «صدقتِ، ولكني أراه شديد الرغبة في زواجي.» فقالت ريحانة: «أتلومينه على ذلك؟ وأي أبٍ لا يريد أن يزوج بناته؟ وأنت — مِن نِعَم المولى — في رغَدٍ وسعادة، وأبوك أكبر دهاقين خراسان، وليس له سواك، وكلما جاءك طالب رفضْتِه، أفيُلامٌ أبوك إذا غضب.» فتنهدت جلنار وكأنها أرادت السكوت، ولم يطاوعها قلبها فقالت وهي تتشاغل بإصلاح قميصها عند العنق: «وهل تظنين أني أكره الزواج؟ لكني أرى أن والدي لا يهتم في زواجي إلى غير مصلحته. وأنت تعلمين ذلك.» فتجاهلت ريحانة وقالت: «لا أراه كما تقولين — يا مولاتي — لأنه إنما أراد زواجك بأكبر أمراء العرب في خراسان. ولا يخفى عليك أن هذا الأمير لا يطلب فتاة إلا نالها؛ لأنه الحاكم النافذ الكلمة، ومن تقرب منه اكتسب مثل هذا النفوذ.» فقطعت جلنار كلامها قائلة: «وهذا ما أقوله. إن أبي يريد تزويجي بابن الكرماني؛ أمير هذا الجند؛ ليكتسب النفوذ عنده، وليكثر دَخْله من جباية الخراج. ثم إن الكرماني هذا لم يتم له الأمر؛ فهو ليس الأمير الحاكم، وإنما هو يطلب الحكم لنفسه، وما أدرانا أنه سوف يناله؟!» قالت ريحانة: «أما ظفره بالإمارة فإنني واثقة من ذلك لمَا علمته من قوة جنده؛ فهو الآن يحاصر مرو؛ عاصمة خراسان، وقد ضيَّق على أميرها نصر بن سيار حتى فرَّ نصر من بين يديه، ولا يبعد أن يعود نصر إلى التسليم، فيصير الكرماني صاحب الأمر والنهي في خراسان، فتكونين حينئذ أميرة خراسان.» قالت: «أراك تخلطين وتتخبطين. أَأَتَزوَّج ابن الكرماني على أمل أن أباه سيغلب أمير خراسان ويقوم مقامه؟ وما أدرانا أن الخليفة في الشام سيرسل جندًا ليحارب الكرماني هذا ويقهره. فكيف تكون حالنا؟» فابتسمت ريحانة وقالت: «أما من ناحية الخليفة في الشام، فكوني على يقين من أنه لن يحرك ساكنًا لاشتغاله بما حوله عما هو بعيد عنه؛ فقد علمت من خادمك الضحَّاك أنه لما تولى الخليفة الحالي مروان بن محمد قامت الناس عليه، حتى أهله ورجاله، وقد قضى زمنًا وهو يحارب ويغالب في بلاد الشام، ولم يستطع إخضاع تلك البلاد إلا بشق الأنفس، فهو لا يطمع في استرجاع خراسان إذا تغلب عليها رجل مثل الكرماني.» قالت جلنار: «لقد ذكرتني بذلك المضحك. إنه خفيف الروح، وأراه — برغم أنه عربي — يعرف اللغة الفارسية جيدًا، ومع ما يظهر من بَلَهِهِ وضحكه المتواصل، وخفة روحه، فإنه بعيد النظر، ذو دهاء، ويمكن الاعتماد عليه. ومن الغريب أنه عربي وقد دخل في خدمتنا على هذه الصورة. أين هو الآن؟ استدعيه لعلنا نستفيد شيئًا من حديثه.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/4/
طارق
فهمَّت ريحانة بالنهوض، فسمعت خفق نعال أمام باب الغرفة، فعرفت للحال أن الدهقان مارٌّ من هناك، فلبثت ريثما يمرُّ، فإذا هو قد وقف بالباب ثم فتحه ودخل وهو ملتف بالقباء، كما تقدم، فأسرعت ريحانة وهرولت نحو الباب وخرجت احترامًا لسيدها. وأما جلنار فإنها جلست في الفراش وقد ظهرت البغتة على وجهها، ولكنها كانت رابطة الجأش فتجلَّدت ورحَّبت بوالدها، فأقبل حتى وقف بجانب فراشها، ثم انحنى وأمسك ذقنها بين أنامله كأنه يلاعبها؛ استعطافًا لها، واسترضاء لخاطرها. أما هي فلم تجهل غرضه، فظلت صامتة حتى خاطبها قائلًا: «أراك تلتمسين النوم في ساعة مبكرة يا جلنار.» قالت: «شعرت بالتعب فأحببت أن أستريح في الفراش، وأنا لا أشعر بالنعاس.» قال: «هلمَّ بنا إذن إلى القاعة الكبرى؛ فإن الجلوس فيها يشرح الصدر لما تطلُّ عليه من الأزهار والرياحين ونحن في إبان الربيع، فضلًا عن نور القمر الساطع.» فلم يسع جلنار إلا أن تنزل عند رأي والدها، فنهضت وتزمَّلت بملاءة كبيرة من نسيج الكشمير يغلب فيها اللون العنابي غطت ثيابها، ومشت معه حتى وصلا إلى القاعة، فجلسا على وسادتين متحاذيتين وجلنار تتوقع من أبيها حديثًا لا يرضيها، فلما استقر بهما الجلوس قال الدهقان: «رأيتك يا جلنار في هذا المساء على غير ما تعوَّدته من طاعتك، فما الذي حملك على ذلك؟» فقالت وهي مطرقة: «إني أطوع لك من بنانك يا مولاي.» قال: «فما بالك لما ذكرت لك ما بعث به إلينا أمير العرب من خطبتك لابنه سكتِّ وتجاهلتِ؟ ألا تعلمين أن مصاهرة هذا الأمير ستكون من أكبر أسباب سعادتك؟» قالت: «وأي أمير تعني يا أبتاه؟» قال: «أعني ابن الكرماني؛ قائد قبائل اليمنية الذي يحاصر مدينة مرو الآن، أو هو فتحها على ما بلغني. وقد فرَّ نصر منها.» قالت: «إني لا أفعل إلا ما تأمرني به، لكنني لا أثق بفوز هذا الأمير. وقد رأيتك لما بعث نصر بن سيار؛ أمير تلك المدينة، يطلبني منك لابنه، لم تُجبه مع أنه صاحب حكومة خراسان.» قال: «وهذا يدلك على إعزازي لك وسعيي في راحتك؛ لأن نصرًا هذا لا يلبث أن يُغلب على ما في يده، ويخرج من هذه البلاد مدحورًا؛ لضعف حاميته، وانحطاط دولة بني أمية على الإطلاق. وقد أصبح أهل خراسان كافة ناقمين عليها بعد ما ظهر لهم من إيثارها العرب على الفرس، ومطالبتهم بالضرائب الفادحة بغير حق، حتى طلب عمالها الجزية من المسلمين على غير القواعد المرعية في الإسلام.» قالت: «لا أجهل استبداد هذه الدولة، ولكنها لا تزال في اعتباري أقوى من رجال لا دولة لهم ولا حكومة؛ كابن الكرماني؛ فإنه أشبه برجل ثائر على حكومته، وشأنه في ذلك شأن جماعة الخوارج الذي يجتمعون على الدولة ثم يتفرقون ويقتلون، وآخرهم شيبان الذي رأيناه بالأمس محاصرًا لمرو. وزدْ على ذلك أن ابن الكرماني ليس معه من الأحزاب إلا القبائل اليمنية من العرب، وأما سائر القبائل المضرية فهم مع نصر بن سيار — وربما كانوا في قوة اليمنية أو زادوا عليها — وهل نسيت حزب الشيعة القائم الآن في بني العباس وإمامهم إبراهيم بن محمد. ألم نكن نحن في جملة الفرس الذين عاهدوا دعاة العباسية على نُصرتهم وأكثر أحزابهم من أهل خراسان؟» قال: «صدقت، نحن عاهدنا الشيعة وساعدناهم، ولكن يظهر لي أنهم يقولون ولا يفعلون؛ فقد مضى عليهم عدة أعوام منذ دعونا إلى نصرتهم سرًّا، فمددناهم بالأموال مرارًا، ولكنهم لا يزالون إلى الآن يتكتَّمون. وأما ابن الكرماني هذا، فإنه جمع الجند ولا يلبث أن يستولي على مرو، وإذا هو فتحها أصبح أمير خراسان، ثم يفتح سواها وتصير له دولة قوية تقوم مقام دولة بني أمية. وأكبر شاهد على ذلك أنه تغلب بالأمس على الحارث بن سريج وقتله وشتَّت جنده، ثم انتصر على مرو وفرَّ نصر منها، وهو لا يزال فارًّا؛ فابن الكرماني صاحب الأمر والنهي الآن؛ فأطيعيني وأنت الرابحة. وإذا كان الأمير صهرنا، فيكون لنا النفوذ الأعظم، وتكونين أنت أميرة خراسان كلها. ومع ذلك، فإني قد وعدتُه بك من قبلُ، وبعث إليَّ بالمهر مع الرسول.» فسكتت جلنار وأطرقت، فظن أبوها أن سكوتها دليل على الموافقة، وأراد أن يثبت ذلك فصفَّق، فجاءه أحد الغلمان، فقال: «آتوني بالضحاك العربي.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/5/
الضحاك
ولم يمض قليل حتى جاء الرجل؛ وكان طويل القامة، رقيق البدن، محدودب الظهر قليلًا بسبب طوله، وكان لا ينفك ضاحكًا لغير سببٍ بما يُشبهُ البَلَه، وكان يعتمُّ بعمامة كبيرة جدًّا مع صغر وجهه، وغور عينيه وصغرهما، وخفة شعر لحيته وشاربه، فيصير منظره مضحكًا، ولا يكلمه أحد إلا أضحكه. وكان قد دخل في حوزة الدهقان على سبيل البيع فاشتراه من بعض تجار الرقيق. وقد احتفظ به؛ لأنه عربي. وكان يندر أن يباع العرب بيع الرقيق في تلك الأيام. وقد أعجبه ما كان فيه من خفة الروح، فكان كثيرًا ما يدعوه ويسأله بعض الأسئلة عن العرب، فيجيبه عنها إجابة خبير، ويخلط الجد بالهزل. فلما أَنِس الدهقانُ في ابنته الانقباض في تلك الليلة أراد أن يفرِّج عنها فاستقدمه. فلما دخل ألقى التحية، ثم غمز عمامته فانحرفت إلى جانب رأسه، فأصبحت بكبرها وانحرافها ذات منظر غريب، والضحاك مع ذلك يضحك ويقهقه بلا سبب ظاهر. فلما رأته جلنار ضحكت؛ لأنها كانت تستأنس به كثيرًا، وكانت تتوقع أن تستخدمه في بعض مصالحها لما تحققته من جدِّه في معرض المزاح، فقال الدهقان: «متى يثبت سلطان بني أمية في خراسان؟» فأجاب على الفور: «متى شاب الغراب يا مولاي!» فالتفت الدهقان إلى ابنته وابتسم كأنه يقول لها: «ألم أقل لك ذلك؟» ثم التفت إلى الضحاك وقال: «كيف تقول ذلك والأمويون لا يزالون أهل سلطان، وخليفتهم في الشام عنده الجند والأعوان، ألا تظنه ينجد هذه المدينة وينقذها من أصحاب الكرماني؟» فقهقه الضحاك قهقهة عظيمة وقال: «مسكين نصر بن سيار! لقد بحَّ صوته وهو يستنجد بني أمية وينذرهم بسوء المغبة، إن لم ينجدوه، وما من مجيب. وقد بلغني أنه استعان في إقناع الخليفة بالشعر، فنظم له قصيدة قال له فيها. «أتدري بماذا أجابه الخليفة على ذلك؟» قال الدهقان: «بماذا أجابه؟» قال: «كتب إليه أن الشاهد يرى ما لا يراه الغائب.» وضحك ضحكة طويلة «ولم يسعفه بشيء.» فنظر الدهقان إلى ابنته واكتفى بتلك النظرة تأييدًا لقوله. وكانت هي في الحقيقة لم تقتنع. ولم يكن تمنُّعها لسبب سياسي أو طمعٍ في سلطان، ولكنها كانت ذات قلب يحب ويبغض، فإذا سلَّمت قيادها إلى والدها لا تستطيع أن تُسلم قلبها لابن الكرماني؛ لاشتغالها بحب رجلٍ رأت أنه يستحق محبتها، وكانت قد شاهدته في مجلس والدها مرة، فأعقبت تلك النظرة ألف حسرة، ولكنها لم تكن تجرؤ على مخاطبة أبيها؛ لأنها لم تكن تعلم ما إذا كان عند الرجل مثلما عندها، فسكتت. فأشار والدها إلى الضحاك فخرج مهرولًا، فلما خلا الدهقان بابنته قال لها: «سأرد رسول الكرماني في الغد بجواب الرضا، وتوكلي على الله.» فلم تُجبْ، فلم يهمه سكوتها؛ لاعتقاده أنه سكوت الحياء. وكانت هي في أثناء صمتها قد شغل ذهنها سماع أجراس عن بُعدٍ لهدوء الطبيعة في تلك الليلة المقمرة، ثم سمعت نباح الكلاب وهي لا تنبح إلا على طارق، فتشاغلت عن سؤال أبيها بالإصغاء إلى رنَّات الأجراس، فانتبه أبوها لذلك، فقال لها: «يظهر أن قافلة تسير ليلًا في ضوء القمر.» ثم أخذت أصوات الأجراس تقترب، ونباح الكلاب يشتد، والدهقان وابنته صامتان، وكلٌّ منهما في شغل. وقد فرح الدهقان بقبول ابنته؛ لاعتقاده بما سيكون من أمر الكرماني وسلطانه، وما سينال من النفوذ والكسب على يده، ولعلمه أنه إذا لم يقبل طلبه طوعًا، فسيضطر لقبوله كرهًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/6/
أبو مسلم الخراساني
ولم يمض قليل حتى سمع صوت الجمال وصهيل الخيل وضوضاء الناس، ثم جاء بعض الغلمان مهرولين وهم يقولون: «إن قافلة كبيرة وقفت بجانب القرية تطلب النزول بدار الضيوف.» فقال: «وهل هم كثيرون؟ ومن أين هم قادمون؟» قالوا: «إنهم يزيدون على مائة نفس، ومعهم الجمال والخيل.» فقال: «لا أظنهم يريدون الإقامة جميعًا عندنا، ومع ذلك فادعوهم للنزول.» فعاد الغلمان، وبعد قليل جاء أحدهم وهو يقول: «إن رجال القافلة يطلبون مقابلة الدهقان.» قال: «فليدخلوا.» فوقفت جلنار تريد الرجوع إلى غرفتها، فأمسكها أبوها وقال: «لا بأس عليك. انتظري حتى نرى من هم القادمون.» وبعد قليل أقبل رجلان قد تزمَّل كل منهما بقباء أسود، وتلثَّم بلثام أسود، ووراءهما رجلان يحملان حزمة طويلة يسندانها من طرفيها على أكتافهما. فلما وصلا إلى مكان الدهقان في القصر، أنزلاها إلى الأرض ووقفا هناك. أما الاثنان الأولان فدخلا دخول الأمراء، وحييا الدهقان بالفارسية. فلما سمع تحيتهما أجفل؛ لأنه سمع صوت رجل يعرفه، فتقدم ذلك الرجل إلى الدهقان — ولم يلتفت إلى ابنته — وسلَّم. فلما دنا من المصباح صاح الدهقان: «عبد الرحمن.» أما الدهقان، فحالما عرفه رحَّب به، ودعاه للجلوس فجلس، ثم دعا أبو مسلم رفيقه للجلوس أيضًا وهو يقول له بصوت خافت وجأش رابطٍ: «اجلس يا خالد.» فنظر الدهقان إلى الرجل كأنه لا يعرفه، فقال أبو مسلم: «هذا صديقنا خالد بن برمك.» فبغت الدهقان وقال: «ابن صاحب النوبهار؟» فأجاب خالد قائلًا: «قد انقضت أيام النوبهار، وتخلصنا من عبادة النار؛ إذ هدانا الله بالإسلام.» قال الدهقان: «صدقت. أهلًا بكما ومرحبًا.» ثم صفق فجاء بعض الغلمان فأمرهم بإعداد الطعام للضيوف، وتقديم ما تحتاج إليه القافلة من الزاد والعلف. فاعترضه أبو مسلم بهدوء وسكينة قائلًا: «لا تتعب نفسك ولا تشغل رجالك؛ فإننا لا نحتاج إلى شيء من ذلك. ونحن نشكرك لحسن وفادتك.» فقال الدهقان: «ومن أين أنتم قادمون؟» قال: «من الحج.» وفي ملامح وجهه ما يدل على أنه يعني غير ما يقول، ففهم الدهقان أنه يريد الكتمان كعادته من قبلُ؛ فقد كان أبو مسلم يفدُ على الدهاقين في طلب المدد من المال ونحوه انتصارًا للشيعة. وكان يفعلُ ذلك سرًّا؛ خوفًا من عُمَّال بني أمية، فسكت الدهقان، فأدرك أبو مسلم ظنَّه فقال: «لا تظننا نريد التكتُّم؛ فقد انقضى زمن الأسرار، وآن لنا أن نُظهر دعوتنا، فهل أنتم على عهدكم معنا؟» فتذكر الدهقان أنه وعد الكرماني بمصاهرته؛ وبذلك يكون قد خالف العهد، وقد كان في جملة من عاهد على نصرة بني العباس، ولكنه لم يتوقع ثباتهم؛ لتكرار فشل الشيعة في نصرة أهل البيت، ومع ذلك فقد ظن في كلام أبي مسلم مبالغة، فأراد أن يتحقق منه، على أن يكتم عنه أمر الكرماني، ثم يكون بعدئذٍ مع الغالب فقال: «وماذا تعني بذهاب زمن الأسرار؟» قال: «أعني أننا كنا نأتيكم سرًّا باسم إبراهيم الإمام، وننصركم على بني أمية ريثما يحين الوقت للظهور وإخراج دعوتنا من القول إلى الفعل بالسيف، فنُبشركم أن الإمام قد أمرنا بإظهار الدعوة.» فقال الدهقان: «هل جنَّدتم الرجال؟» قال: «لم نجند أحدًا؛ لأننا لم نبدأ بإظهار الدعوة بعد، وأنت أول من عرف بعزمنا على ذلك، ونرجو إذا أظهرناها أن يستجيب لنا كثيرون؛ لأن أنصار شيعتنا عديدون في خراسان، ومعظم الدهاقين معنا.» قال الدهقان: «هذا صحيح. ومَن هم الذين معك في القافلة؟» قال: «النقباء؛ وهم سبعون نقيبًا اختارهم الإمام من شيعته ووجوههم لدعوة الناس إلى اتِّباعه وحمل السلاح في نصرته. وسنُفرقهم في خراسان قريبًا.» قال الدهقان: «وكيف استطعتم المرور بهذا العدد الكبير في البلاد دون أن يشك العرب في أمركم وهم يسيئون الظن بكل فارسي؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/7/
وصية الإمام
فلما سمع أبو مسلم سؤاله أحب أن يفيض في وصف حالهم تثبيتًا للدهقان في نصرته؛ لعلمه أنه إذا نصره هو اقتدى به دهاقين كثيرون، فقال: «أنت تعلم يا أعظم الدهاقين أن العرب يفاخروننا بالنبوة؛ لأن النبي منهم، وقد احتقرونا وأذلُّونا وعاملونا معاملة الرق، ولو استطاعوا ألا يبقوا منا أحدًا لفعلوا، مع أن الفئة السائدة منهم الآن — وهُمْ بنو أُميَّة — ليسوا من أقارب النبي، بل هم أعداء أهله، وقد اضطهدوهم وقتلوهم، وبخاصة آل عليٍّ بن أبي طالب؛ ابن عمه، فإنهم ساموهم العذاب الشديد. ولا يخفى عليك أن آل بيت النبي لا يرون فرقًا في الإسلام بين العربي والأعجمي، بل هم يفضِّلون العَجَم على العرب؛ ولذلك كانت شيعتهم من الفرس، كما تعلم، ثم سلَّم آل عليٍّ حقوق الخلافة إلى آل العباس؛ عم النبي. وكبيرهم الآن إبراهيم الإمام، فتحوَّلت شيعة بني علي في هذه البلاد إلى نصرة بني العباس؛ فالإمام مقيم في الحميمة بالبلقاء قرب الشام يبث الدعاة ويُخابر الأنصار، وقد عهد إليَّ في العام الماضي أن أتولَّى الإشراف على هذا الأمر، وكتب إلى أصحابه أن يطيعوني، وجعلني أميرًا على خراسان وما أفتحه من البلاد، فاستصغرني بعض النقباء لصغر سني؛ لأني دون العشرين من العمر وهم شيوخ كبار، لكنهم أذعنوا أخيرًا. وقد أوصاني الإمام يوم وداعه في العام الماضي وصية ذات بالٍ هي أساس كل عمل عملته، أو سأعمله في سبيل هذه الدعوة.» وكان الدهقان يسمع كلام أبي مسلم وهو مندهش من رزانته على صغر سنه، وقد أحسَّ وهو يسمع كلامه كأنه يخاطب شيخًا كبيرًا، أو ملكًا جليلًا؛ لما كان في وجهه من الهيبة والوقار، فلما سمعه يشير إلى وصيَّة الإمام أصاخ بسمعه ليفهم تلك الوصية جيدًا. وكانت جلنار تتظاهر بالانزواء وكلها عيون وآذان لترى وتسمع. ولا تسل عن حالها في تلك الجلسة؛ وهي المرة الثانية التي قابلت فيها أبا مسلم، ولم تبقَ جارحةٌ من جوارحها لم تتمثَّل صورة أبي مسلم فيها. فلما فرغ من تلاوة الرق لفَّه وأرجعه إلى جيبه وهو ينظر إلى الدهقان. وكان الدهقان حينما سمع تلك الوصية قد ارتعدت فرائصه من شدتها وقوتها، وسرَّه نقمة الإمام على العرب؛ لمَا في نفسه منهم. ولم يكن رضاه بابن الكرماني صهرًا إلا من قبيل الخوف، ولكنه كان لا يزال ضعيف الثقة بشيعة بني العباس، على أنه كتم ذلك وتظاهر بالإعجاب وقال: «إنها وصية لا يقف عليها حكيم. ويكفي من بواعث اجتماع الفرس عليها أنها تأمر بإذلال العرب وقتلهم، فلا أظن دهقانًا أو أي رجل فارسي يطَّلع على هذه الوصية إلا كان من المتشيعين لآل العباس. ألا ترى ذلك يا خالد؟» وكان خالد في نحو الأربعين من عمره، وهو ابن برمك (جد البرامكة؛ صاحب النوبهار) وهو بيت نار كان للفرس في مدينة بلخ — وكان برمك مجوسيًّا، والغالب أنه مات ولم يُسلم، فخلفه ابنه خالد هذا، وهو من أكثر الرجال عقلًا ودهاءً وبطشًا، وكان في جملة من أسلم من عظماء الفرس، وتشيع لآل العباس انتقامًا من بني أمية، والتماسًا لما كانوا يتوقَّعونه من السلطان لأنفسهم، والاجتزاء من النفوذ إذا قامت الدولة بهم. وكان برغم أنه كهل قد رضي برياسة أبي مسلم وهو شاب لا تزيد سنه على العشرين إلا قليلًا. ومِثْلُ خالدٍ كهولٌ وشيوخٌ كثيرون ممن قاموا بدعوة العباسيين، وقد رضوا بأبي مسلم قائدًا لهم؛ احترامًا لأمر إبراهيم الإمام. وكان أبو مسلم يحترم خالدًا ويقدِّره حقَّ قدره، ويستشيره فى أموره؛ ولذلك فإنه حينما أراد مقابلة الدهقان اختصه بصحبته دون سائر الرفاق. فلما خاطب الدهقان خالدًا بشأن الوصية واستطلع رأيه، أجابه على الفور: «لا ريب عندي أن الفرس يتفانون في نصرة العباسيين؛ لأنهم إنما يسعون في مصلحة أنفسهم، ويجب على كل فارسي أن يقدم نفسه وماله لنصرة بيت النبي؛ لأن في نصرته رفع شأن الفرس.» فأراد الدهقان أن يطري أبا مسلم؛ تقربًا منه، وإيهامًا له بأنه شديد التمسك بدعوته؛ إخفاء لما سبق من وعده بمصاهرة ابن الكرماني، فقال: «ولا غرو إذا انتصر الشيعة وفيهم مثلكما من رجال الحزم والبسالة والعقل.» فقال خالد: «إن البسالة والقوة لا يكفيان للقيام بهذا العمل، يا حضرة الدهقان.» فأدرك الدهقان أنه يلمح إلى المال فقال: «على كلٍّ منا أن يقدِّم مما عنده، وكما أننا لم نُقصِّر في الماضي والدعوة لا تزال سرية، فلا تظننا نبخل الآن بشيء.» فعاد أبو مسلم لإتمام حديثه فقال: «فجئت إلى خراسان وقُمنا بالدعوة سرًّا، كما تعلم، وأنا أختلف إلى الإمام أحمل إليه ما يجتمع عندنا من المال وأتلقَّى أوامره، فلما كان هذا العام بعث يستقدمني إليه، فسرتُ ومعي النقباء الذين ذكرتُهم، فاشتبه الحكَّام في أمرنا أثناء الطريق، فكنا إذا سألونا عن مقصدنا قُلنا إلى الحج. ولما بلغنا قومس أتاني كتاب الإمام باسمي واسم سليمان بن كثير؛ وهو من كبار النقباء، ومع الكتاب راية النصر (وأشار إلى الحزمة المطروحة أمام القصر) وقد قال لي في ذلك الكتاب (وأخرج الكتاب من جيبه وقرأ): «قد بعثتُ إليك براية النصر؛ فارجع من حيث لقيك كتابي وأظْهِر الدعوة؛ فإن الله ناصركم».»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/8/
الظل والسحاب
فلما أشار أبو مسلم إلى الحزمة توجَّهت عينا الدهقان إليها، فأدرك أبو مسلم أنه يريد رؤيتها، فنادى الرجلين اللذين كانا يحملانها فأسرعا إليها وحملاها، فلم تسعها القاعة لطولها، فأدخلوها من أحد طرفيها، وظل الطرف الآخر خارجًا، وكانت ملفوفة بقماش أسود ففكَّاه وأخرجا منه لواء أسود وراية سوداء. واللواء معقود على رمح طوله ١٤ ذراعًا، والراية على رمح طوله ١٣ ذراعًا، فوقف أبو مسلم احترامًا للواء وقال: «إن هذا اللواء يسمى الظل، والراية تسمى السحاب، ولونهما أسود. واللون الأسود هو الشعار الذي اختاره الإمام إبراهيم لشيعته، فهم من اليوم يلبسون العمائم السود، والأقبية السوداء، وراياتهم أيضًا سوداء، كما ترى.» وكان الدهقان قد وقف حالما رأى أبا مسلم واقفًا، ووقف خالد أيضًا، فهمَّت جلنار بالوقوف فلم تساعدها ركبتاها لما غلب عليها من التأثر بعد ما شهدت من أبي مسلم وما سمعت، وأنه قائد هذا الجند، فأصبح همُّها الاطلاع على مكنونات قلبه من جهتها؛ لعله ينتبه لها فيرمقها بنظرة تفهم منها شيئًا فيطمئن بالها، فوقفت وهي تستند إلى أحد الأعمدة، وتصدرت قليلًا حتى انتبه لها خالد، فنظر إلى وجهها نظرة الإعجاب والدهشة. أما أبو مسلم فبالغ في التجاهل والإغضاء حتى كأنه لا يرى شيئًا. ولما فرغ أبو مسلم من كلامه قال الدهقان: «وما المراد باختيار السواد شعارًا لبني العباس؟ ألعلهم أرادوا الإشارة إلى الحداد على قتل أهل البيت العلويين، ومنهم علي والحسين وغيرهما أم ماذا؟» فجلس أبو مسلم وهو يشير إلى الرجلين أن يعيدا الحزمة كما كانت، وجلس خالد والدهقان، وظلت جلنار واقفة، ثم قال أبو مسلم: «إن السواد شعار أهل بيت النبي؛ لأن راية النبي كانت سوداء؛ وهي راية العقاب.» أما الدهقان فقد وقر في نفسه ما علمه من أمر الشيعة، وخاف على نفسه من أبي مسلم إذا علم ما في ضميره، فيشك فيه، والإمام قد أوصاه إذا شكَّ في أحد أن يقتله، فتظاهر بالتحمس وقال: «لقد أيقنت الآن بفوزكم وظهور الفرس، ولا بد من استنجاد سائر الدهاقين وترغيبهم في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزالون على المجوسية.» فقال خالد: «إذا أسلم الدهاقين وأنجدونا بأموالهم ورجالهم فإنما ينجدون أنفسهم؛ لأنهم ينشئون دولة فارسية ترفع شأن الفرس.» فقال الدهقان: «إني ضامن لكم إسلام معظم الدهاقين في خراسان، والأموال كثيرة.» ثم صفق فأتاه غلام، فأمره أن يستدعي خازنه. فلما سمعه أبو مسلم يدعو خازنه أدرك أنه يريد أن يدفع إليه مالًا على سبيل المساعدة، على جاري عادته في مثل هذا الحال، فأشار أبو مسلم إلى أحد الرجلين صاحبي الحزمة إشارةً فهم غرضه منها، فخرج مهرولًا ثم عاد ومعه رجلان قد تأبط أحدهما خريطة كبيرة كالكيس الكبير، لكنها فارغة، ورفيقه رجل قصير القامة في سِمنٍ قليل، وعليه قباء واسع، وعمامة كبيرة. وكان لقِصَره يكاد يجر قباءه جرًّا، ووراءه غلام يحمل دواة وقلمًا، فلما وصلوا إلى القاعة وقفوا في أحد جوانبها، فنادى أبو مسلم صاحب القباء قائلًا: «تقدَّم يا إبراهيم واستلم من الدهقان ما جادت به نفسه في نصرة أهل البيت.» وكان خازن الدهقان قد جاء وأسرَّ إليه الدهقان كلامًا، فرجع ثم جاء ومعه غلام يحمل أكياسًا من جلد قد أثقلت كاهله حتى وضعها بين يدي الدهقان، فلما أمر أبو مسلم خازنه إبراهيم باستلام المال تقدم وأخذ في عدِّ الأكياس وهي مختومة، وقد كُتب على كل منها «ألف دينار يوسفية»، فبلغت ٢٠ كيسًا، فأشار إلى رفيقه والغلام الآخر، فتقدما وتعاونا على نقل الأكياس في الخريطة الكبرى، وتناول هو القلم والدواة وأخرج من تحت قبائه درجًا كتب فيه عدد الأكياس وما تحويه من الدنانير. وكان أبو مسلم في أثناء ذلك مطرقًا كأنه يفكر في أمر يهمه، وقد زاده التفكير هيبة وشغله عما حوله. وكانت جلنار قد تعبت من الوقوف، فجلست على وسادة بجانب والدها وهي تختلس النظر إلى أبي مسلم، وهو لا ينتبه لها. وكان خالد قد أدرك ذلك منها، وفطن لما يجيش في خاطرها من أمر أبي مسلم، ولكنه كان يعلم زهد هذا الشاب البطل في النساء، وانشغال خاطره في المشروع الخطير الذي انتُدب له. فلما فرغ الخازن من تدوين المال نهض واستأذن في الانصراف، ولحظ الدهقان في أبي مسلم الرغبة في الانصراف أيضًا فقال له: «إذا كنتم تريدون الذهاب للنوم، فهذه دار قد أمرنا بإعدادها لنزولكم.» وأشار إلى أحد جوانب الحديقة. فنهض أبو مسلم، فلم يسع الحضور غير النهوض تهيبًا واحترامًا، وقال: «ننصرف الآن إلى النوم؛ فإن السفر قد أتعبنا هذين اليومين.» قال ذلك ومشى، فمشى الدهقان معه إلى آخر القاعة حتى ودَّعه، وصفَّق فجاء بعض الغلمان، فأمرهم أن يمشوا بين يدي الأمير بالشموع إلى المنزل المعد له، فمشوا، وعاد الدهقان إلى ابنته. وكانت واقفة بجانب العمود، ولم يبق هناك سواهما.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/9/
الدهقان والدهقانة
وتوسم الدهقان مما شاهده من انقباضها أنها تفكر في أمر زواجها بابن الكرماني، وأنها ستحتج على والدها لما أبداه في حديثه إلى أبي مسلم في تلك الليلة، بحيث أصبح شأن الكرماني ضعيفًا، فابتدرها أبوها قائلًا وقد وضع يسراه على كتفها، ومشى نحو غرفتها وهي تمشي معه: «لا أظن أن هؤلاء الدعاة سيُفلحون، ولا أرى أمرهم هذه المرة إلا صائرًا إلى الفشل كالمرات الماضية.» فلم يفتها غرض والدها من هذه المفاجأة بعد ما دار بينها وبينه في ذلك المساء، فقالت وهي تجاريه في المشي: «إذا كنت تعتقد أنهم سيفشلون، فما بالك تعاهدهم على القيام بنصرتهم، وتبذل الأموال لهم؟» فضحك ووقف وقبض على لحيته بيمينه، وظلت يسراه على كتفها، وقال بصوت منخفض وهو يتلفت: «إني أفعل ذلك من قبيل الاحتياط فقط؛ لأننا إذا أظهرنا له الجفاء كنا في خطر على حياتنا وأموالنا، وخاصة بعد ما سمعنا من وصية إبراهيم الإمام؛ فإنه أمره أن يقتل كلَّ من يشك فيه. ومع ذلك، فنحن غير واثقين ثقة تامة بفشل هؤلاء، وإن كنت أرجح الفوز للكرماني للأسباب التي ذكرتها لك قبلًا. فتَظاهُرنا بالمسالمة أو المساعدة لا تضرُّنا، بل نحن نتوقع أن تنفعنا. وليس ما نؤديه لهم بالشيء الذي يذكر بالنسبة إلى ما نتوقعه من الكسب إذا كنا في جانب المنتصر من هذه الأحزاب.» وكان قد عاد إلى المسير حتى دنا من غرفة جلنار، وليس في الدار أحد من الخدم؛ لأنهم تفرقوا حالما رأوا الدهقان والدهقانة يتسارَّان. فلما فرغ الدهقان من كلامه قالت جلنار: «لقد أصبتَ يا أبتاه. إنك تجامل أبا مسلم بالأموال والوعود، وتجامل الكرماني بجلنار.» قالت ذلك وغصَّت بريقها، ودخلت الغرفة على عجل وألقت نفسها على الفراش، فلحقها أبوها وهو يتجاهل وقال: «يظهر أنك متعبة يا جلنار. نامي وتوكلي على الله، وأنا أعرف تعقلك وحسن تدبيرك، وأعتقد أنك إذا كنت عند الكرماني، وكنت أنا مع أبي مسلم؛ بتنا في مأمن، وأصبح الفوز مضمونًا لنا في كل حال. نامي يا حبيبتي واستريحي الآن.» قال ذلك وخرج وهو يتظاهر بأنه لم يفهم مغزى كلامها. أما هي، فلما خلت بنفسها عادت إلى هواجسها، وتصورت ما هي فيه من الارتباك، فلم تعد تدري أتطيع والدها أم تطيع قلبها، على أنها لو تحققت من أن عند أبي مسلم مثلما عندها لهان عليها إغضاب والدها، وإن كان ذلك مما لا يقدم عليه أمثالها، ولكنها لم تر من ذلك الحبيب إلا الإغضاء، فأخذت تناجي نفسها، وتتذكر ما شاهدته منه في أثناء تلك الجلسة، فلم تر في شيء من حركاته أو أقواله ما يفتح لها نافذة من الأمل، ولكن الحب كان يعترض عوامل اليأس عندها، ويهوّن عليها ما ظهر من بروده، فأخذت تنسب ذلك إلى انشغال خاطره بتدبير شئونه، ثم تعود إلى رشدها، فترى أنه لا عذر له، وأنه لو كان عنده بعض ما عندها لأحست به. قضت مدة في تلك المناجاة وقد طار النوم من عينيها، واستوحشت من الوحدة، فتذكرت ماشطتها، وكانت تأنس بها كثيرًا، وودت لو أنها تأتيها تلك الليلة لتشكو لها حالها، وتستشيرها في أمرها، ثم ما عتمت أن سمعت وقع خطوات بطيئة، فعلمت أنها خطوات الماشطة، فنهضت وفتحت لها، فدخلت وأغلقت الباب وراءها، فأمرتها جلنار بالجلوس وهي تقول لها: «ما الذي جاء بك يا ريحانة على غير انتظار؟» قالت الماشطة: «علمت أنك في ارتباك فجئت لتسليتك.» قالت: «وكيف علمت ذلك؟ ومن أنبأك به؟» قالت وهي تحاول معانقتها وضمها إلى صدرها: «أتظنين يا مولاتي أني غافلة عن أحوالك، وما طرأ عليك من الهواجس، وخصوصًا بعد قدوم هؤلاء الضيوف؟» فقالت جلنار: «وهل شهدتهم وسمعت أقوالهم؟» قالت: «شهدت كل شيء، وسمعت كل كلمة خلسة من وراء الستار.» فلم تتمالك جلنار أن تقول: «هل رأيت أبا مسلم؟» قالت: «خفِّضي صوتك يا مولاتي؛ لأن لهذه الجدران آذانًا. نعم شاهدته، وشاهدتك أيضًا.» قالت ذلك بنغمة خاصة. فخجلت جلنار من تسرُّعها في إظهار عواطفها، ثم تذكرت ثقتها بريحانة فقالت: «وكيف رأيته يا ريحانة؟» قالت: «رأيته لائقًا، ولكن تمهلي ولا تتعجلي. إن في العجلة الندامة، وفي التأني السلامة.» قالت: «أراك قد أدركت مكنونات قلبي ولم يخفَ عليك شيء!» قالت الماشطة: «لم يخف عليَّ شيء، ولكنني أرى المسألة تحتاج إلى الحكمة والتؤدة.» فلم تعد جلنار تستطيع إخفاء عواطفها، فقالت: «وما العمل يا ريحانة؟ دبريني برأيك. لقد نفد صبري، فإني لا ألبث أن أُزفَّ إلى ابن الكرماني، وأنا لا أريده ولا أحبه.» قالت: «أتحبين أبا مسلم؟» وضحكت. فأطرقت جلنار ولسان حالها يقول: «نعم، أحبه.» فقالت ريحانة: «وهل هو يحبك؟» فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وفي عينيها دمعتان تترددان بين المآقي، وأرادت الكلام فشرقت بريقها وسكتت. فقالت ريحانة: «إنك لا تعلمين وأنا لا أعلم، فما علينا إلا التحري والاستفهام.» قالت جلنار: «من يكشف لنا حقيقة ذلك؟» قالت ريحانة: «ألا تعرفين الضحاك؟» فقالت جلنار: «وهل تظنينه يستطيع خدمتنا في هذا الأمر؟» قالت: «أظنه أقدر الناس على ذلك إذا أراد، ولا يغرنك ما يبدو من مجونه؛ فإنه داهية حازم يُعتمد عليه في الأمور العظام.» فقالت جلنار: «ومن يخاطبه في الأمر؟ إنني أخشى أن يفشي سرَّنا، فيطَّلع والدي على أمرنا، فتكون البلية الثانية شرًّا من الأولى.» قالت: «كوني في سلام وطمأنينة وأنا أدبِّر الأمر معه. إنما نحتاج إلى بعض النقود.» فقالت جلنار: «هل تعرفين أن للمال قيمة عندي! اطلبي من خازنتي ما تريدين، وتصرَّفي كما تشائين، وأنبئيني بنتيجة سعيك.» قالت: «ينبغي لنا أن نسعى في الأمر الليلة؛ إذ لا نضمن بقاء هؤلاء الضيوف عندنا إلى غدٍ أو بعده.» فنهضت جلنار من فراشها إلى صندوق صغير في أحد جوانب الغرفة أخرجت منه صرَّة من الحرير ودفعتها إلى ريحانة وهي تقول: «هذه خمسمائة دينار؛ استخدميها فيما تشائين ولا تبطئي، وإذا وفِّقت إلى ما أريد فلن أنسى تعبك.» فتناولت ريحانة الصرة ونهضت وهي تقول: «اطمئني.» وخرجت وهي تسترق الخطى، وتركت جلنار على مثل الجمر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/41728357/
أبو مسلم الخراساني
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلةٌ مِنَ الرواياتِ التاريخيةِ تتناولُ مراحلَ التاريخِ الإسلاميِّ مُنذُ بدايتِهِ حتى العصرِ الحديث، ركَّزَ فيها جُرجي زيدان على عُنصرِ التشويقِ والإثارة، بهدفِ حَمْلِ الناسِ على قراءةِ التاريخِ دُونَ كَللٍ أو مَلل، ونَشْرِ المعرفةِ التاريخيةِ بَينَ أكبرِ شريحةٍ منهم؛ فالعملُ الروائيُّ أخفُّ ظلًّا عِندَ الناسِ مِنَ الدِّراسةِ العِلميةِ الجادَّةِ ذاتِ الطابَعِ الأكاديميِّ المُتجهِّم. وتدخلُ روايةُ «أبو مُسلم الخُراساني» ضِمنَ سلسلةِ «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تَناولَ فيها جُرجي زيدان عِدةَ وقائعَ هامةٍ في التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التي حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبو مُسلم الخُراساني صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ في خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبو مُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبي جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالي على بني أُميَّة وانضمامِهم لأبي مُسلم، وتنافُسِ بني هشامٍ على البَيعة.
https://www.hindawi.org/books/41728357/10/
نسب أبي مسلم
لم تكد ريحانة تخرج من الغرفة حتى رأت الضحاك قادمًا كأنه كان على موعد معها، فلما رأته بُغتت، ولكنها تجلَّدت وأشارت إليه أن يتبعها عن بُعد، وسارت إلى غرفتها في طرف القصر مما يلي الحديقة، فدخل في أثرها، فأغلقت الباب وراءه وهي تنظر إليه وتضحك، وكان وهو داخل قد دق رأسه في عتبة الباب لطوله، فوقعت العمامة على الأرض فإذا هو حليق الرأس، فدهشت لذلك وأرادت أن تسأله عن السبب، لكنه أسرع إلى العمامة فوضعها على رأسه وتقدم إليها وهو يقول: «يظهر أنك تحبينني يا ريحانة. بارك الله فيك.» وضحك وعض على شفته السفلى، وتشاغل بإصلاح عمامته، ثم ضحك ضحكة البَلَه وجعل يطرق بأطراف أنامله على أسنانه، فضحكت ريحانة من قوله وحركته، ثم عبست في وجهه عبوسًا يخالطه الابتسام وقالت: «إني أحبك لخفَّة روحك وعلوِّ همتك، وخصوصًا إذا أطعتني فيما سأخاطبك بشأنه الآن. هل عندك للسر مكان؟» فقال وهو يضحك «عندي لكل سر مكان، وللأسرار عندي منازل وطبقات، وإذا كنت تشكين في ذلك، فأخبريني فأخرج حالًا.» فضحكت وقالت: «ألا تكف عن مجونك يا رجل؟ أعِرْني أذنك الآن، وأصغِ لما أعرضه عليك بحياة الدهقانة وحرمتها عندك.» فتجلد الضحاك، وأظهر الجد، وتأدب في موقفه وقال: «قولي. إني طوع أمرك.» قالت: «هل تعرف ضيوفنا الليلة؟» قال: «أيهم تعنين؟ هل تعنين أبا مسلم الخراساني الذي لا يعرف أباه، أم خالد بن برمك المجوسي؛ صاحب النوبهار، أم خازن أبي مسلم إبراهيم اليهودي؟» فضحكت ريحانة من توسعه في تلك المعرفة، ولكنها استغربت قوله إن أبا مسلم لا يعرف أباه، فقالت: «وماذا تعني بقولك إن أبا مسلم لا يعرف أباه؟» قال: «إذا كنت لا تصدقيني فاسأليه.» قالت: «صدقتك، ولكنني أسألك عن كيفية ذلك.» قال: «لو سألته هو عن نسبه ما عرفه. أما أنا فأخبرك أن والده فارسي؛ بعضهم يسميه مسلمًا، وبعضهم يسميه عثمان، وهو يزعم أن نسبه يتصل ببزرجمهر؛ الحكيم الفارسي المشهور. وهذه عادة كبار القوم عندنا؛ فمن كان منهم دنيء الأصل رفع جاهه إلى طبقات الأشراف، فإذا كان عربيًّا أوصل نسبه إلى أبي بكر أو عمر أو الحسين، وإذا كان فارسيًّا جعل نسبه من نسل بزرجمهر أو أزدشير أو كسرى أنوشروان. وأما الذي نعلمه من أمر أبي مسلم فهو أن أباه المذكور كان من أهل قرية ماخوان، التي تبعد عن مرو ثلاثة فراسخ. وكانت هذه القرية له مع عدة قرى، وكان في بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة المواشي، ثم أنه ضمن خراج رستان فريدين على عادة الدهاقين في أيام هذه الدولة (بني أمية) فإنهم يقاسمون الحكومة أموالها بنفوذهم. فلما حان وقت الوفاء عجز عن تأدية ما عليه، فقبض عليه العامل وأرسل معه من يذهب به إلى الديوان في الكوفة. وكان عنده جارية يحبها فأخذها معه وهي حامل، واحتال في الطريق وفرَّ من الحرس نحو أذربيجان، وتوجهت معه، فمرَّا برجل اسمه عيسى بن معقل، فتركها عنده وذهب إلى أذربيجان حيث مات بها. ثم ولدت الجارية صاحبنا أبا مسلم هذا، فرُبِّي في بيت عيسى المذكور وهو يحسب نفسه من أولاده. وكان عيسى هذا وأخوه إدريس في ضمان الخراج أيضًا، كما تقدم، فأصابهما ما أصاب ذاك من تأخير الخراج، فقبض عليهما عامل أصبهان وشكاهما إلى أمير العراقين يومئذٍ خالد القسري، فبعث من حملهما إلى الكوفة وسجنهما فيها. وكانا قد أنفذا أبا مسلم قبل القبض عليهما في مهمة، فلما رجع وعلم بسجنهما جاء إلى الكوفة وجعل يتردد عليهما في السجن. فاستغربت ريحانة هذه الحكاية، ولكنها عادت إلى المهمة التي هي فيها، فقالت للرجل: «آمنَّا وصدَّقنا. والآن لا تخرج عما أحدِّثك فيه. انظر (ومدت يدها وأخرجت الصرة ودفعتها إليه) هذه هدية من مولاتك جلنار (فتناولها وهو يضحك) وأنا أريد أن أُكلِّفك بمهمة سياسية.» فوضع الصرة في جيبه وهو يقول: «السمع والطاعة.» قالت: «أنت تعلم أن مولاتنا الدهقانة مخطوبة لابن الكرماني؛ أمير الجند المحاصر لمرو، وستُزفُّ إليه قريبًا بإرادة والدها، ولكنني رأيت الليلة أن أجَلَ الكرماني قصير؛ لأن هذا الخراساني على ما يظهر سيغلبه. ولقد لحظت أنا منه أنه يميل إلى مولاتنا، وأظنه يريد أن يتزوجها، ولكنه لم يصرح بذلك. فالمطلوب الآن أن تبحث عن صحة هذا الأمر بدهاء وحسن أسلوب، بدون أن يشعر أحد بك، وأخبرني. ولا بد من معرفة ذلك الليلة.» قال: «هذا أمر هين عليَّ. وإذا فرضنا أنه لم يحبها بعدُ؛ فإني أجعله يحبها. فما رأيك؟» قالت: «إذا كان ذلك في إمكانك؛ فإن مكافأتك ستكون عظيمة جدًّا. وهذا سر عميق.» فأطرق الضحاك برهة وقد بدا الجد في وجهه، ثم التفت إلى ريحانة وقال: «إني ذاهب الساعة؛ فادعي لي بالتوفيق.» قالت: «امض. وفَّقك الله.» فقال: «أمهليني ريثما أصلح من شأني أمام مرآتك.» ووقف أمام مرآة من النحاس معلقة على الحائط وحلَّ عمامته وجعل يلفُّها على نظام مضحك، وعبث بشعر لحيته وشاربه حتى تشعثَّ وانتفش، وخلع جبته وقلَبها، ولبسها بقفاها، ونزع نعليه وثبتهما في منطقته وسار حافيًا وهو يضحك كالأبْلَه وخرج. أما أبو مسلم فإنه سار مع خالد والخدم يسيرون أمامهما بالشموع بين الأشجار والرياحين حتى وصلوا إلى بيت بجانب السور قد أضيء بالمصابيح، فدخلا وقد سبقهما الخدم فدلوهما على الأسرَّة المعدَّة للنوم ورجعوا، فأسرع أبو مسلم بنزع ثيابه وسلاحه، وأخذ يتأهب للنوم وهو لا يتكلم. وكان خالد في شُغلٍ من أمر جلنار وما شهده من جمالها، وما لحظه من نظرها إلى أبي مسلم، وما كان من جمود أبي مسلم بشأنها، وكان يتوقع أن يسمع منه شيئًا عنها، فإذا هو لم يَفُه بكلمة، فظل خالد ساكتًا وأخذ في خلع ثيابه وسلاحه، ولم يستغرب سكوت أبي مسلم؛ لعلمه أنه كثير السكوت لا يتكلم إلا قليلًا، ويندر أن يضحك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.