BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/13595164/
الحجاج بن يوسف
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «الحجاج بن يوسف» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية شخصية من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي، وهي شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك السياسي الأموي والقائد العسكري، الذي لم يألُ جهدًا في تثبيت دعائم الدولة الأموية، وقد اشتهر عن الحجاج أنه شديد البطش بخصومه، ظلومًا جبَّارًا، حتى إنه في حربه مع عبد الله بن الزبير، لم يتردد في حصار مكة، وضربها بالمجانيق مما أدَّى إلى هدم الكعبة، وتنسب إلى الحجاج أعمال أخرى عظيمة ارتبطت بالفتوح الإسلامية، وتخطيط المدن، وتنقيط القرآن الكريم.
https://www.hindawi.org/books/13595164/16/
مقتل ابن الزبير
خرج حسن في أثر عبد الله بن الزبير وقد عزم على البقاء معه حتى النهاية. وشعر عبد الله بذلك، فالْتفت إليه وقال: «ناشدتك الله ألا تعرض نفسك للقتل.» وكان حسن على يقين من فوز جند بني أمية، لكثرتهم واتحادهم، ولكنه ظل سائرًا في أثره حتى خرجا من المنزل، فلما وقع نظر عبد الله على المنتظرين هناك وقد تهيأوا للقتال وغطت الدروع أبدانهم، قال لهم: «اكشفوا وجوهكم حتى أنظر إليكم.» ولما كشفوها علم أنهم بقية أهله فقال: «يا آل الزبير لو طبتم بي نفسًا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلحنا في الله. فلا يفزعكم وقع السيوف؛ فإن ألم الدواء للجراح أشد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونوا وجوهكم، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قرنه، ولا تسألوا عني فمن كان سائلًا عني فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله.» وبقي حسن حائرًا لا يستطيع الاشتراك في القتال، نزولًا على رغبة ابن الزبير. وحتى لا يراه الحجاج أو بعض رجاله فيثبت لديهم ما اتهمه به عرفجة. فآثر الالتجاء إلى المسجد حتى تنتهي المعركة. فلما مضى عبد الله ومن معه إلى القتال الْتفت فرأى أعلام بني أمية قد ملأت الطرقات، فسارع إلى المسجد الحرام، ولكنه لم يستطع الدخول؛ لأن الحجاج كان قد أوقف ببابه أناسًا ليمنعوا الناس من دخوله، فدخل منزلًا إلى جوار المسجد وأطل من كوة فيه فرأى ابن الزبير يناضل مناضلة الأسود، وينتقل في المعمعة من جهة إلى أخرى، وبجانبه ابن صفوان يدافع عنه، ثم سمع عبد الله يقول: «ويلمه فتحًا لو كان له رجال.» فقال له ابن صفوان: «أي والله وألف.» فحدثت حسن نفسه بأن يمضي إليهما ويقاتل معهما، ثم لاحت منه الْتفاتة فرأى الحجاج قد ترجَّل وأقبل يسوق الناس إلى مقاتلة ابن الزبير بعد أن رآهم لا يقوون على الوقوف بين يديه، وكان حامل علم ابن الزبير يقف بباب شيبة من أبواب المسجد، فهجم الحجاج عليه بمن معه، فرآهم ابن الزبير فسارع إلى صدهم عنه، واستمر القتال على أشده بباب المسجد، ثم دخله الفريقان، ولم يمضِ قليل حتى استطاع الحجاج ورجاله قتل صاحب العلم وأخذوه منه، فتفرق رجال ابن الزبير من حوله، ولكنه ظلَّ يقاتل حتى قُتل هو وابن صفوان، ثم رأى حسن رجلًا أسرع إلى جثة عبد الله وحزَّ رأسه وحمله إلى الحجاج، فلما رأى الحجاج الرأس سجد وأكرم صاحب البشارة. ثم أمر بأن يُحمل رأسا ابن الزبير وابن صفوان إلى المدينة، وبأن تُصلب جثة ابن الزبير في الحجون — وقد صلبوها أيامًا — وهكذا أيقن حسن بانتصار الحجاج، وتذكر أن سمية عنده في المعسكر، فرأى أن يسارع إليها فيه، فإما نجا بها، وإما عاد إلى محبسه، وسرعان ما تسلل إلى المعسكر، وهو يحاذر أن يراه أحد ممن يعرفونه فيحبط مسعاه، وقال في نفسه: «لقد خلا الجو لعبد الملك بن مروان وأصبحت الخلافة لا ينازعه فيها منازع.» وكان حسن كلما دنا من معسكر الحجاج تمثلت له النجاة بسمية هينة، فمشى وهو لا يزال بلباس الحرس والحربة بيمينه فلا يشك الذي يراه عن بعد أنه من حرس الحجاج، فلما دخل المعسكر لم يرَ فيه إلا نفرًا قليلًا من الحامية. فالْتمس خباء النساء وقلبه يخفق لما يتنازعه من عوامل الرجاء والخوف الحياء والشوق. فبينما هو يرجو السعادة بالفرار بسمية كان يعد الفرار عارًا، ولكنه هونه على نفسه؛ لأنه لا يرى غير الفرار سبيلًا إلى نجاته وإلا فإنه سيكون سببًا لتعاسة سمية أو قتلها. فمشى في طريقه إلى المعسكر، وهو في ملابس الحراس التي أخذها من خادمه، فلما بلغه رأى أن يذهب أولًا إلى خيمة السجن ليرى ما تم في أمر خادمه الأمين وليستعين به على إنقاذ سمية، فلما بلغ الخيمة رآها خالية، فوقف برهة يفكر في الأمر، ثم رأى أن يعجل بالذهاب إلى سمية في الخباء لئلا تفوت الفرصة. وفيما هو سائر وقد أوشك أن يبلغ الخباء سمع صوت أبواق، فالْتفت فرأى جماعة من الفرسان عائدين من مكة، فأسرع في مشيته ليبتعد عنهم. وكانت الشَّمس قد مالت إلى الغروب فلما أطل على الخباء لم يرَ حوله أحدًا، وخشي أن تحول بغتة سمية دون ما يبغيه من سرعة الخروج بها؛ لأنها لم تره منذ خروجه من المدينة، فتمهل في سيره، وأخذ يبحث لمعرفة مدخل الخباء ومخرجه، وهل سمية وحدها، أم عندها أحد من النساء أو الخدم أو غيرهم. وفيما هو يدور حول الخباء سمع خفق نعال فيه، فأصاخ بسمعه فرأى شبحًا خارجًا، وما تفرس فيه حتى أدرك أنه أمة الله جارية سمية، ولم يكن قد رآها من قبل ولكنه سمع بأوصافها، أما هي فكانت قد رأته في دار عرفجة بالمدينة، فلما رأته والحربة في يمينه وعليه ثياب حراس الحجاج، استعاذت بالله، ثم ما لبثت أن تفرست فيه فعرفته وقالت: «حسن؟!» قال: «نعم. أين مولاتك؟» قالت: «هنا». وأشارت إلى الخباء الذي خرجت منه. قال: «وكيف حالها؟» قالت: «إنها في حال تدعو إلى الرثاء حزنًا عليك، وخوفًا من ذلك الظالم ولا سيما بعد أن فرغ من الحرب، وقتل ابن الزبير، فتحلل بذلك من قسمه.» فاضطرب حسن وهمَّ بالدخول إلى الخباء ولكنه خشي أن تسيء البغتة إلى سمية فقال لأمة الله: «ادخلي وأنبئيها بقدومي لنخرج معًا من هنا الآن.» فدخلت أمة الله، ولم يصبر حسن إلا قليلًا ثم دخل في أثرها فوجد سمية جالسة وهي تفرك عينيها بأناملها وتنظر إلى أمة الله وتقول: «أصحيح ما تقولين؟ حسن هنا؟! حسن جاء؟! لا … لا … إنك تمزحين، أو أنا في حلم!» ولاحظ أنها قد تغيرت وامتقع لونها لفرط ما قاسته، فازداد خفقان قلبه، وأجابها بدلًا من أمة الله فقال: «بل أنت في يقظة يا حبيبتي، وها أنا ذا جئت لإنقاذك، هلمَّ بنا نخرج الآن من هذا المعسكر. هيا يا سمية فإن الوقت ضيق والخطر قريب.» فوقفت وركبتاها تصطكان، ولبست نعالها والْتفت بعباءتها، وقالت وهي ما زالت مذهولة: «ما أحسن هذا اللقاء! هلم بنا.» وكانت أمة الله مشتغلة بأخذ بعض الطعام للتزود به خلال الرحيل، ولكنها كانت أكثر منهما انتباهًا لما حولها. فسمعت وقع حوافر خيل قادمة من بعيد فأسرعت إليهما وهي تقول: «لقد جاء الفرسان. وأظنهم الحراس الذين كانوا حول الخباء بالأمس.» فلما سمعت سمية وقع ذلك التفتت إلى حسن وقالت وصوتها يرتجف: «حسن. حسن. لا تخرج فإنهم إذا رأوك خارجًا اشتدت شبهتهم فيك … لا تخرج. وإذا كانوا قد جاءوا للقبض عليك فلنمت معًا.» فثارت الحمية في رأس حسن، وهان عليه لقاء الألوف تفانيًا في الدفاع عنها فقال: «لا عاش من يمسك بسوء وأنا حي.» وشعروا باقتراب الخيل من الخباء، وكان الليل قد سدل نقابه وبدأ الظلام يتكاثف فأمسكت سمية بيد حسن، وقالت وهي ترتعد: «إما أن نعيش معًا، وإما أن نموت معًا.» ولا تسل عن خفقان قلبيهما تأثرًا للقاء الفجائي وما صحبه من بواعث الاضطراب لقدوم أولئك الفرسان. فبقيا واقفين صامتين، وقد امتقع لونهما وتصبب العرق من وجهيهما وارتعدت فرائصهما، ومع ذلك كان حسن يشعر بأنه أشد بطشًا من الأسد، وبأنه قدير على إنقاذ سمية من جيش بأكمله. وكذلك كانت سمية قد أنساها اللقاء كل خوف على نفسها، وأصبح كل همها ألا يُصاب حسن بسوء، فأمسكت به وهي لا تدري أتحرضه على الفرار بنفسه ولا صبر لها على فراقه بعد هذا اللقاء، أم تفر هي معه وفي فرارها خطر عليه، أم تستبقيه في الخباء معها وفي بقائه تهمة كبرى؟ مرَّت كل هذه الهواجس بهما في لحظة انتظارهما وصول الفرسان القادمين، ومعرفة ما وراءهم، فلما وصل الفرسان إلى الخباء، أحدقوا به من جميع الجهات ولكنهم ظلوا مرابطين خارجه، كما كانوا بالأمس، فاطمأن قلب حسن ورجح أن قدومهم ليس لشبهة أو تهمة جديدة. فأخذ يهدئ روع سمية حتى سكن جأشها، وقضيا ساعة يتبادلان الأحاديث، وقد نسيا الحجاج وفرسانه، وحسبا أنهما في مكان غير ذلك المكان، بل خيل لهما أن أولئك الفرسان إنما هم ملائكة من السماء جاءوا لحراستهما، في تلك الساعة التي تزيد قيمتها عندها على قيمة الحياة كلها. ••• وبينما حسن وسمية سابحان في ملكوت المناجاة، يتشاكيان ما مرَّ بكل منهما من أحداث الفراق سمعا طنين سهم مرسل في الفضاء، ثم سمعا صوت ارتطامه بعمود الخباء من الخارج. وكانت أمة الله مشغولة ببعض الشَّئون في طرف الخباء بالقرب من موقع السهم فلمَّا سمعت صوت وقوعه أطلَّت من الخباء فلم ترَ غير الفرسان. ثم رأت السهم يستقر في العمود، فخفت إلى مكانه وانتزعته فإذا في موضع الريش منه رق مطوي، فعادت به مسرعة إلى حسن ففتحته فإذا هو كتاب من عبد الله خادمه يقول فيه: «اطلع عرفجة على مقركما فوشى بكما وأرسل الفرسان للقبض عليكما فتجلدا والله مع الصابرين.» فاضطرب حسن وأيقن بوقوعهما في الخطر، ولم يرَ بدًّا من تهيئة كل أسباب الاطمئنان لسمية. وكانت قد قرأت الكتاب معه فامتقع لونه لما تملكها الجزع فابتدرها قائلًا: «لا بد لي من الذهاب إلى الحجاج بنفسي، فإني لا أظنه أرسل في طلبي إلا معتقدًا أني فررت من محبسي بالأمس.» فقطعت كلامه قائلة: «أتذهب إلى الحجاج وأنت تدري ما يكون منه؟! أعوذ بالله من شر هذا الرجل. إنه لا يعرف غير القتل وسفك الدماء. ولا شك في أن نقمته عليك قد اشتدت بعد أن علم بأنك عندي هنا. يا ليتني مت قبل هذا. دعني أذهب بدلًا عنك فداء لك. فإني مقتولة على أي حال.» فوضع يده على كتفها وقال: «لا أرى الأمر يقتضي كل ذلك، ولئن قُتلت فما كنت أنت سبب قتلي، وعسى ألا أُقتل، وقد كنت أستطيع الفرار بنفسي من بين أيدي هؤلاء الفرسان، ولكني لا أريد النجاة وحدي، وأخاف إذا خرجت معي أن تقعي بين أيدي أحدهم فتلحقك إهانة، وهي عندي شر من القتل. أما ذهابي إلى الحجاج بنفسي فإنه أحفظ لشرفي وشرفك، وما يأتي به القدر لا مناص منه. هذا ابن الزبير كان إلى صباح هذا اليوم يسمونه أمير المؤمنين فقتلوه وصلبوه وحملوا رأسه إلى المدينة، وقد استقبل الموت باسمًا وأمه تشجعه على استقباله، فلا توهني عزيمتي، ولا تخوفيني لقاء الحجاج. ولكن إذا قُدر لي الموت فاذكري أنني ذهبت شهيدًا في سبيل هواك.» قال ذلك واختنق صوته، فتساقطت دموعها على خديها تأثرًا، وكانت مطرقة فرفعت وجهها ومدَّت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافة السم وقالت: «ليطمئن قلبك فقد أعددت ما يلحقني بك إذا أصابك سوء. وهب أنك نجوت وأراد هذا الظالم أن يتخذني زوجة له بالفعل، فإن هذا السم كفيل بإنقاذي من ذلك.» فأُعجب حسن بإخلاصها له وأنفتها وقال: «الحق أن مثل عواطفك النبيلة هذه لا تُكافأ بأقل من الروح، ولكن عسى الله أن يأتي بالفرج.» ثم رفع يده عن كتفها وقال: «أستودعك الله يا سمية وموعدنا غدًا إن شاء الله.» قال ذلك وخرج ولم ينتظر جوابها لئلا تحاول أن تثنيه عن عزمه بدموعها. فلما صار خارج الخباء صاح بأعلى صوته: «أين عريف هذه الكوكبة؟» فتقدم إليه فارس منهم وقال: «وماذا تريد منه؟» قال: «أريد أن يهديني إلى فسطاط الأمير لأذهب إليه.» فقال: «لم يأذن لنا الأمير في الرجوع إليه، وإنما أمرنا أن نحرس هذا الخباء حتى يأتي هو، ولعله آتٍ الساعة.» فأدرك حسن أن ذلك تدبير عرفجة، وأنه أراد أن يرى الحجاج حسنًا وسمية معًا ليثير غيرته، فاعتزم أن يحبط محاولته فقال: «ولكنني في حاجة إلى رؤية الأمير الساعة.» قال الفارس: «لا يمكنك الخروج من هذا المكان». قال: «لا بد من خروجي.» ثم همَّ بالعدو ليذهب توًّا إلى خيمة الحجاج ويحاول إحباط مكيدة عرفجة، ولكن الفارس حذره قائلًا: «خير لك أن تمكث هنا.» فقال: «وإذا لم أمكث؟» قال: «إننا مأمورون بإبقائك هنا حيًّا ريثما يجيء الأمير.» فأدرك حسن أن الحجاج إنما أراد الإبقاء عليه ليبحث التهمة التي وجهها إلى عرفجة في شأن الكرسي، فتجلد وقال: «أقول لكم لا بد من ذهابي الساعة إلى الأمير، وإلا فخذوني إلى السجن أمكث فيه إلى الصباح.» قال ذلك ومشى فتجمهروا حوله ليمنعوه، وإذا بفارس أقبل من بعيد ووراءه بضعة فرسان، فلما رآه حراس الخباء تهامسوا فيما بينهم ثم ترجلوا. ففهم حسن أن الحجاج وحاشيته هم القادمين. فوقف ينتظر ما يكون. وكان الحجاج ما زال بثيابه التي حارب فيها ابن الزبير وقد غطته الدروع هو وجواده وعليها بقع الدماء. فلما أقبل قال للفرسان: «ماذا تفعلون هنا؟» فقال عريفهم: «نحرس هذا الخباء لنمنع من فيه من الخروج.» قال: «ومن أمركم بذلك؟» قال: «أمرنا به عرفجة باسم مولانا الأمير.» فأطرق الحجاج وقد أدرك أن عرفجة لا همَّ له إلا الإيقاع بحسن ولم يكن الحجاج يعلم بمجيء هذا إلى خباء سمية ولا بما أمر به عرفجة، وإنما جاء إلى خباء نسائه لأنه تحلل من قسمه بعد مقتل ابن الزبير، فلما علم بما أمر به عرفجة، سأل العريف: «وهل حاول أحد الخروج؟» فقال العريف وهو يشير إلى حسن: «وجدنا هذا الرجل خارجًا، وطلب الذهاب إلى الأمير.» ونظر الحجاج إلى حسن، فلما عرفه تحقق صحة ما اتهمه عرفجة به، وعظم عليه أن يراه خارجًا من خباء نسائه. فهمَّ بأن يقتله ولكنه تذكر التهمة التي وجهها إلى عرفجة فرأى أن يصبر عليه إلى الغد حتى يثبت التهمة على عرفجة، ثم يقتلهما معًا شر قتلة. وكان الحجاج مع عتوه وظلمه ذا دهاء وحكمة، فكظم غيظه ريثما يتحقق الأمر فقال: «خذوه إلى السجن وموعدنا الغد.» فسر حسن لذلك التأجيل، ومضى مع الحراس وهو يلتفت إلى الوراء ليتحقق ابتعاد الحجاج عن خيمة سمية غيرة عليها منه وإن كان زوجها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13595164/
الحجاج بن يوسف
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «الحجاج بن يوسف» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وتتناول الرواية شخصية من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي، وهي شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك السياسي الأموي والقائد العسكري، الذي لم يألُ جهدًا في تثبيت دعائم الدولة الأموية، وقد اشتهر عن الحجاج أنه شديد البطش بخصومه، ظلومًا جبَّارًا، حتى إنه في حربه مع عبد الله بن الزبير، لم يتردد في حصار مكة، وضربها بالمجانيق مما أدَّى إلى هدم الكعبة، وتنسب إلى الحجاج أعمال أخرى عظيمة ارتبطت بالفتوح الإسلامية، وتخطيط المدن، وتنقيط القرآن الكريم.
https://www.hindawi.org/books/13595164/17/
محاكمة حسن وعرفجة
قضى حسن ليلته في السجن وعليه الحراس. وفي الصباح ساقوه إلى فسطاط الأمير باكرًا وقد أمر الحجاج ألا يحضر المجلس أحد غير عرفجة وحسن. فدخل حسن ووقف وسط الفسطاط، وظلَّ عرفجة جالسًا بجانب الحجاج كأنه من خاصته وكان الحجاج إذا نظر إلى حسن كاد يتميز غيظًا ولكنه صبر نفسه حتى يثبت التهمة على عرفجة فقال له: «لقد كنت في السجن من قبل، فكيف خرجت منه؟» قال حسن: «خرجت منه لأمر اقتضى هذا الخروج، ثم عدت إليه طائعًا ولو أنني أردت الفرار ما رجعت.» فقطع عرفجة كلامه وقال ساخرًا: «ذهبت لأمر ضروري؟ أما ذهبت إلى عدونا وكنت في منزله طول ليل أمس، وإذا كنت قد رجعت فذلك لكي تذهب إلى الخباء، لا إلى الحبس.» فالْتفت الحجاج إلى عرفجة لفتة ظهر الغضب فيها وأدرك عرفجة منها تغير الحجاج عليه، فأراد تخفيف غضبه فقال: «لا أجهل أني جاوزت الحد بتكلمي في حضرة الأمير، ولكنني لم أستطع الصبر على نفاق هذا الغلام وخداعه، فهو يوهمنا أنه ليس من الأعداء ولا من الجواسيس، ثم يفر من السجن ليلًا ويحمل أخبارنا إلى عدونا، ويرجع بعد ذلك لكي يوهمنا أنه رجع إلى السجن بينما الأمير قد رأى بنفسه لأي شيء رجع.» فأدرك الحجاج أن عرفجة يعرض بوجود حسن في الخباء ليثير غضبه عليه فيأمر بقتله توًّا قبل استكمال التحقيق، فصبر والتفت إلى حسن وقال: «لا يهمنا السبب الذي خرجت لأجله إلى ابن الزبير، فإنك متهم عندنا في أي حال. وسنبحث أمر دخولك خباء نسائنا فيما بعد. أما الآن فإنك اتهمت صديقنا عرفجة بالأمس، ونريد أن نعلم ما حملك على هذا الاتهام، وأي دليل على صحته لديك؟» فاضطرب عرفجة لعودة الحجاج إلى التحقيق في تهمته. وخاف عاقبة تملق الحجاج له بذكر الصداقة ولكنه تظاهر بالاستخفاف وجلس يصغي لما سيقوله حسن، فقال هذا: «أما كونه خائنًا لدولة بني أمية فأمر لا شك فيه. وقد رأيته بعيني واقفًا بين يدي محمد بن الحنفية في الشَّعب، ومعه الكرسي الذي كان المختار بن أبي عبيد يسميه كرسي علي ويستغله في الدعوة إلى بيعة ابن الحنفية. وقد سمعته يطلب من محمد إمداده بالمال للخروج على بني أمية في العراق، والدعوة إلى بيعته؛ لأنه في زعمه أولى من بني أمية بهذا الأمر.» وكان الحجاج مصغيًا لما يسمعه وهو يتفرس في حسن ويراقب حركاته وسكناته فرجح أنه صادق في دعواه. فقال له: «ثم ماذا؟» قال: «أما ابن الحنفية فاستخف بطلب عرفجة وردعه عن القيام بهذا الأمر، ثم أمر بإحراق الكرسي، فأُحرق بين يديه، وأخرج عرفجة من عنده مهانًا.» ورأى عرفجة أن الحجاج أوشك أن يصدق حسن ضده، فلم يرَ سبيلًا إلى دفع تلك التهمة إلا بالخداع والمغالطة. فوقف ووجه خطابه إلى الحجاج وقال: «إذا كان لكلام هذا الغلام أقل تأثير في نفس مولاي فليأمر بقتلي حالًا، ولكن هذا الغلام كاذب في كل ما ادعاه، وقد اختلق هذه التهمة ليخفف بها ذنبه الذي لم يرتكبه أحد قبله.» فقال حسن: «أما ذنبي فلا أنكره، وسأبسطه لمولاي، وله أن يحكم بعد ذلك بما يشاء، وأما أنت …» فقاطعه عرفجة قاصدًا أن يشغل الحجاج عن ذنبه هو، وقال له: «إن ذنبك لا يحتمل الإنكار لأنه ظاهر العيان. وأما اتهامك إياي بالمروق من دعوة بني مروان فاختلاق محض لم نسمع بمثله. وأغرب ما فيه أنك لم تستطع إقامة دليل عليه، ويستحيل عليك ذلك.» قال ذلك وجلس وكأنه فاز على خصمه بالحجة والبرهان. ولكن الحجاج لم يعبأ بذلك فالْتفت إلى حسن وقال: «لا تصح دعوى بلا بينة، فما هي بينتك على ما تقول؟» قال: «لقد كان الحديث بينه وبين ابن الحنفية سرًّا ولم يكن معهما ثالث.» فصاح عرفجة: «أسمعت يا مولاي؟ أرأيت تناقض أقوال المنافق الكذاب؟ إذا كان ذلك الأمر حدث سرًّا بين اثنين كما قال الآن فما الذي أطلعه على هذا السر؟ إن جهله أبى إلا أن يوقعه في شر أعماله لأنه لم يحسن سبك أكذوبته.» وشك الحجاج في صدق حسن فقال له: «لقد صدق عرفجة، فإنك زعمت أنك عرفت ما دار بينهما وسردته على أنك رأيت وسمعت، فكيف تقول بعد هذا إن الحديث كان سرًّا بينهما ولم يكن معهما ثالث؟!» فلما رأى حسن انخداع الحجاج بكلام عرفجة، تجلد وقال: «نعم يا مولاي كان الكلام بينهما في فسطاط مقفل، ولكنني سمعت ورأيت خلسة!» فقال عرفجة: «لقد بدا من تناقض أقوالك أنك لم تسمع ولم ترَ، ولعلك تريد أن تستشهد بشريك لك في خداعك وكذبك، ولكني لا أقبل إلا شهادة محمد بن الحنفية نفسه، فإنك اعترفت بأنه وحده الذي سمع حديثي.» فقال الحجاج: «هذا طلب عادل، ما في ذلك شك.» وهنا تذكر حسن أنه أرسل بلالًا إلى ابن الحنفية ولا يدري ماذا كان من أمره معه فقال: «إن الأمير أدرى مني بما يحول دون الوصول إلى مثل هذه الشَّهادة؛ لأننا إما أن نستقدم ابن الحنفية إلى هنا، وإما أن نذهب إليه أو نستكتبه …» فقطع عرفجة كلامه وقال: «لا أقبل إلا شهادة ابن الحنفية نفسه.» فقال الحجاج: «ذلك شيء يسير، وإن ابن الحنفية مصدق عندنا وإن لم يكن على دعوتنا.» قال ذلك وتحرك عن وسادته كأنه يريد استئناف البحث، ثم الْتفت إلى حسن وقال: «بقي علينا النظر في تهمتك ولكنها ليست تهمة نطلب إثباتها وإنما نحن نسألك عما دعاك إلى هذه القحة؟» ••• وكان حسن قد همَّ بإخبار الحجاج أنه أرسل من يأتي بشهادة ابن الحنفية، فلما فاجأه بهذا السؤال، اضطرب ولكنه تجلد وهمَّ بأن يجيب، فاعترضه عرفجة قائلًا: «أنا أروي لك الخبر كله يا مولاي، فإنه يخجل أن يرويه.» فلم يعد حسن يصبر على نفاق عرفجة فرفع صوته وقال: «لماذا أخجل؟ أأخجل لأني أنقذتك من الموت أنت وأهل بيتك؟ أم أخجل لأنك خدعتني بوعدك ثم نكثت غير مرة؟ إني لم أعمل عملًا أخجل من ذكره.» ثم وجه كلامه إلى الحجاج وروى له باختصار قصته مع عرفجة منذ أنقذه في العراق. وكان الحجاج مصغيًا إلى الحديث باهتمام، فلما بلغ حسن إلى سعي عرفجة في قتله قاطعه هذا قائلًا: «لقد سعيت في قتله يا مولاي لأني رأيت معه كتابًا إلى عبد الله بن الزبير الذي فرَّ إليه بالأمس. وقد أبلغت أمره إلى طارق بن عمرو عامل المدينة فعده جاسوسًا، وأرسل من يقتله. أما أني وعدته بابنتي فإن مولانا الأمير خطبها بعد ذلك فكيف أرفض شرفًا أولانيه الأمير؟ والعجب كل العجب أنه بعد أن علم بأنها زُفت إلى الأمير ما برح يرجو الحصول عليها. وبلغ من قحته أنه جاء إلى هذا المعسكر محاولًا إغراءها بالفرار معه. ولكن الله أوقعه في أيدينا وسجناه، ففرَّ إلى عدونا ليوقع بنا، ثم اغتنم اشتغال الأمير وجنده بالقتال وعاد إلى حيث رآه الأمير بنفسه خارجًا من خباء سمية، فإذا كان الأمير يرى الصبر عليه حلمًا، فإني لا صبر لي على مثل هذه الخيانة.» فوقع كلام عرفجة على قلب الحجاج وقوع النار على يابس العشب، وثارت غيرته فالْتفت إلى حسن وقال: «هل تنكر أنك تحب سمية؟» قال: «كلا.» قال: «تقول ذلك بين يدي وأنت تعلم أنها من نسائي؟!» فظل حسن ساكتًا، فقال الحجاج: «وهل هي تحبك؟» فأدرك حسن أنه إذا صرح بحبها له جرَّ عليها الموت كما جرَّه على نفسه فأراد الرفق بها فقال: «لا أدري …» فقال عرفجة: «إنها لا تحبه، ولكنها فتاة ساذجة استغل طيبة قلبها ليخدعها. ولا شك في أنها تفاخر كل نساء المدينة بما نالته من الحظوة لدى أمير جند عبد الملك وفاتح الحجاز وحامي ذمار بني أمية.» فاستاء حسن من ذلك التدليس القبيح ولم يسعه إلا توبيخ عرفجة فقال له بصوت ملؤه الرزانة والتعقل: «لا أنكر أن سمية نالت أحسن ما تتمناه فتاة بزواجها من مولانا الأمير، ولكنك يا عرفجة لم تزف ابنتك إلى الأمير إلا رغبة في المال، ولو مهرك هذا المال زنجي لزففتها إليه!» فصاح عرفجة: «يا للقحة! أتقول ذلك في حضرة الأمير وتذكر عروسه بين يديه على هذه الصورة؟!» ثم الْتفت إلى الحجاج وقال: «لقد كفاك يا مولاي صبرًا وحلمًا على من لا يستحق غير القتل والعذاب الأليم.» فالْتفت حسن إليه وقال: «أتحرض الأمير على قتلي يا عرفجة وإنك لأكثر استحقاقًا للقصاص؟ إنك ملاقٍ حتفك عاجلًا جزاء خيانتك للدولة التي تدعي أنك تدافع عنها. وأما أنا فإذا قُتلت فإني أذهب شهيد الأمانة والحب الصحيح!» فالْتفت عرفجة إلى الحجاج وقال: «أسمعت يا مولاي؟ إنه ما زال يذكر الحب.» فقال حسن: «وهل الحب عار؟ نعم إني أحب سمية حبًّا شديدًا، كما أني أكره أباها كرهًا شديدًا. ولا أبالي أن أصرح بذلك ولا أن أُقتل في سبيله. أما أنت فإنك ستُقتل لأن شهادة ابن الحنفية آتية عما قليل، وهي قاطعة بخيانتك للدولة ولأمير المؤمنين.» وحانت منه الْتفاتة إلى باب الفسطاط، فرأى بلالًا قادمًا من بعيد وقد علاه الغبار. فخفق قلبه، والْتفت إلى الحجاج وقال: «أرجو أن يأذن مولاي في إدخال هذا القادم، فهو رسولي إلى ابن الحنفية، وعسى أن يكون قد عاد من عنده بكتاب يثبت صحة دعواي.» فقال الحجاج: «وأي رسول؟» قال: «رسول كنت أنفذته إلى ابن الحنفية في شعب علي ليستكتبه شهادة بما دار بينه وبين عرفجة من حديث الكرسي. وهذا الرسول كان معي يوم حريق الكرسي، فليأمر مولاي بإدخاله لنرى ما جاء به.» فنادى الحجاج: «يا غلام.» فدخل أحد غلمانه فقال له: «ترى رجلًا قادمًا برسالة فأدخله إلينا.» فعاد الغلام ومعه بلال. وأخرج هذا عقدة من القصب الغليظ سلمها إلى الحجاج مختومة، فقرأ الختم من الخارج فإذا هو ختم ابن الحنفية، ثم أخرج من العقدة لفافة من الرق فتحها وقرأها وعرفجة جالس وقد بانت البغتة في وجهه ورقصت لحيته على صدره، ولكنه عمد إلى الاستخفاف والمغالطة فصار ينظر إلى الحجاج ويبتسم كأنه واثق بأن الكتاب يتضمن براءته. فلما فرغ الحجاج من قراءة الكتاب الْتفت إلى عرفجة وقال له: «لقد صح الصحيح ولم يبقَ مجال للمكر والخديعة؛ وهذا خط محمد بن الحنفية وختمه يثبتان صحة ما اتهمك به هذا الشَّاب.» فهمَّ عرفجة بأن يتكلم، ولكن الحجاج انتهره وقال: «لا تتكلم ولا تدافع فقد كفانا ما سمعناه من خلطك.» ثم صفَّق فجاءه الغلام فقال له: «إلي بالجلاد.» فخرج وعاد برجل عليه قميص من جلد وعلى رأسه عمامة مستطيلة وبيده سيف حاد. فأشار الحجاج بسبابته إلى عرفجة وحسن وقال للجلاد: «ائتني برأسيهما.» فصاح عرفجة: «كيف تأمر بقتلي ولم تتحقق تهمتي؟! إن هذه الرسالة مزورة.» وأخذ في الصياح حتى سمع صوته كل من في المعسكر، فغضب الحجاج وصاح في الجلاد: «هاتِ رأس هذا أولًا.» وأشار إلى عرفجة. فجرَّه الجلاد حتى أركعه في الفناء ونزع عمامته عن رأسه، فأخذ يلتفت إلى الحجاج وهذا معرض عنه، ولم يكن إلا كلمح البصر حتى طار رأسه من بين كتفيه والناس ينظرون. ووقف الجلاد بين يدي الحجاج وسيفه يقطر من دماء عرفجة، فأشار الحجاج إلى حسن وقال للجلاد: «وهذا أيضًا.» فأمسك الجلاد بطوق حسن وأراد جره إلى الخارج. فقال حسن للحجاج: «أتقتلني بعد أن رأيت صدقي وإخلاصي؟» فصاح فيه الحجاج صيحة الغضب وقد احمرت عيناه وتجلى الغدر فيهما وقال: «أتسألني لمَ أقتلك وأنت مستحق الصلب منذ أيام؟! إنما صبرت عليك حتى تحققت خيانة ذلك الغادر.» فقال حسن: «إذا لم يكن بدٌّ من قتلي فاقتلوني داخل هذه الخيمة وليس على مشهد من الناس.» فقال الحجاج: «أتشترط علينا؟» ثم الْتفت إلى الجلاد وصرخ فيه قائلًا: «اقتله يا جلاد وإلا قتلتك!» فعاد الجلاد إلى حسن وهم بجذبه، فقال حسن: «لا تجذبني هكذا فما أنا بخائف من الموت، رغم أني واثق ببراءتي.» قال ذلك ومشى نحو الباب. وفيما هما يهمان بالخروج، علا صوت قعقعة وسمع الحاضرون معها قائلًا يقول: «البريد … البريد … بريد أمير المؤمنين.» وكان عادة الولاة إذا جاء البريد ألا يمنعوه أو يؤخروه لحظة واحدة فلما سمع الحجاج بوصوله صاح قائلًا: «أدخلوه.» ولم يتم كلامه حتى دخل عليه رجل كهل قد أنهكه التعب وتعفرت ثيابه، فترامى عند قدميه وسلم إليه كتابًا مختومًا. وكان حسن مشغولًا بنفسه عن كل تلك المشاهد ولكن عينه ما كادت تقع على ذلك الكهل حتى بغت؛ إذ عرف أنه صديقه أبو سليمان، وتذكر أنه كان قد أرسله إلى خالد بن يزيد في الشَّام ليأتي منه بكتاب في شأن رملة إلى ابن الزبير، فهمَّ باستئذان الحجاج في كلمة يقولها لذلك الرجل قبل قتله، ليكلفه إبلاغ خالد رضاء ابن الزبير وأن رملة في انتظاره لتُزف إليه فيكون قد أتمَّ مهمته قبل موته. ورفع حسن وجهه إلى الحجاج فرآه تناول الكتاب ونظر إلى خاتم الخلافة على ظاهره، ثم قبَّله ووقف تعظيمًا للخلافة. ثم نظر إلى الرجل الذي حمله وقال له بعد أن تفرس فيه: «من أين لك هذا الكتاب؟ أأنت من عمال البريد؟» فقال أبو سليمان: «لست منهم يا مولاي. ولكنهم حملوني على دواب البريد تعجيلًا بإبلاغ هذه الرسالة.» قال ذلك وهو يلهث وصوته يتقطع ويتلجلج من التعب والخوف. ففضَّ الحجاج خاتم الكتاب وفتحه، وجعل يعيد قراءته ويتثاءب ويحك شفتيه بإصبعه ويعبث بشعر لحيته وقد ظهر التأثر في عينيه. ثم أخذ ينظر إلى حسن ويتفرس فيه ثم يعود إلى قراءة الكتاب ويتأمل ختمه ويقلبه بين يديه، كل هذا وأبو سليمان ما زال مستلقيًا عند قدميه وهو يلهث من التعب وينظر إلى وجه حسن كأنه لم يعرفه وحسن ينظر في وجهه، وكلهم ينتظرون ما يبدو من الحجاج بعد تلاوة ذلك الكتاب. وأخيرًا، أشار الحجاج إلى الجلاد بالانصراف فانصرف، ثم صرف بقية الحاضرين ولم يبقَ في الخيمة إلا هو وحسن وأبو سليمان. فالْتفت إلى حسن وقال: «هذا كتاب من أمير المؤمنين جاءني بما كنت تبغيه أنت. ووالله لولا حرمة الخليفة لم يكن في الأرض من ينجيك من القتل.» فلما سمع حسن ذلك أبرقت أسرته ولكنه لم يطمئن تمامًا؛ لأنه لم يفهم فحوى هذا الكتاب، فأطرق وظلَّ ساكتًا. من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، إلى الحجاج بن يوسف أمير جندنا في الحجاز، أما بعد، فقد بلغني أنك خطبت ابنة عرفجة المنافق وهي مخطوبة لحسن، فأخذتها وحرمته منها. والرجل ينتمي إلينا وتهمنا رعايته، فإذا أتاك كتابي فاحمل الفتاة إلى خطيبها، وأمهره بما يقوم بالنفقة. ووالله لرجوعك عن الحجاز ولم تفتحه أهون علي من ارتكابك هذا الأمر مع رجل من صنائعنا وخاصتنا. وثقتي أنك فاعل ما أقول والسلام. فما فرغ الكاتب من تلاوة الكتاب حتى رقص قلب حسن طربًا، وخيل إليه أنه في حلم، فجعل ينظر إلى ما حوله ليتحقق أنه في يقظة، ثم سمع الحجاج يقول له: «لم نتل الكتاب عليك إلا لتعلم أننا ما تجاوزنا عنك إلا عملًا بأمر أمير المؤمنين.» والتفت إلى غلامه وقال: «أعطه ألف دينار. وسمية طالق منذ الآن … فامضِ إلى خباء النساء وأنبئها بذلك، لتخرج معه من هذا المعسكر قبل غروب اليوم.» قال ذلك ووقف، فلما خرجوا خرج معهم وهو يهم بأن يخاطب حسنًا وحسن يهم بأن يخاطبه. وقبل أن يتكامل خروجهم، رأوا فارسًا يسوق جواده نحو فسطاط الحجاج والبغتة ظاهرة في وجهه، فلما وصل ترجل ودخل دون أن يستأذن وقال: «إن مصيبة حلَّت في خباء النساء.» فلما سمع حسن الصوت علم أنه صوت عريف الحرس، وخفق قلبه خشية أن تكون المصيبة حلت بسمية. ثم ما لبث أن سمع العريف يقول: «إن مولاتنا سمية سقطت لا حراك بها كأنها تجرعت سمًّا أو أصابها الموت بغتة!» فأحس حسن كأن جبلًا سقط على رأسه، وكاد يفقده رشده وشغل عما كان فيه من سؤال أبي سليمان عن الطريقة التي حصل بها على ذلك الكتاب، ثم لم يسعه إلا أن يعدو نحو خباء سمية، ولم يكن أبو سليمان أقل بغتة منه؛ إذ جاء ذلك الخبر صدمة قوية أطارت صوابه، فسار في أثر حسن إلى الخباء، وسار في أثرهما بلال وغلام الحجاج. وكانت سمية قد سمعت ما دار بين الحجاج وفرسانه أمام خبائها، كما سمعته وهو يأمرهم بأخذ حسن إلى السجن إلى الصباح، وأيقنت أن الحجاج قاتله لا محالة. ولكنها تعللت بالآمال البعيدة وصبرت حتى ترى ما يكون في الغد، فقضت ليلتها تفكر في مصير حسن، وأصبحت وقد أعدت السم وجلست وراء الخباء، تستطلع أنباء المحاكمة من الحراس. فلما جاءها أحدهم بمقتل أبيها وأخذ حسن لقتله أظلمت الدنيا في عينيها. وكانت أمة الله قد يئست من تخفيف المصيبة عليها ولم تعد تستطيع مخاطبتها فتركتها وشأنها، وبعد قليل جاءها أحد الحراس بنبأ قتل حسن داخل خيمة الحجاج، فسارعت إلى السم وابتلعته مرة واحدة ثم وقعت مغشيًّا عليها. فصاحت أمة الله وولولت، وأخبرت الحراس أن مولاتها تجرعت السم، فأسرع أحدهم على جواده بالنبأ إلى الحجاج. وظلَّ حسن يعدو نحو الخباء، وهو لا يكاد يرى طريقه، ولا يبالي ما يعترضه من الأحجار أو الأوتاد حتى أشرف على الخباء فصاح وهو لا يعي ما يقول: «سمية … سمية … أنا حي يا سمية!» ولما وصل إلى الخباء أراد الفرسان منعه، ثم تركوه بعد أن أخبرهم الغلام بأمر الحجاج، فأطل من الباب فرأى سمية مستلقية وحولها نسوة يبكين. وكأنها جثة بلا روح وقد أطبقت عيناها وامتقع لونها وانحل شعرها وابيضت شفتاها فلم يتمالك أن اندفع نحوها وفي يده خنجره فتفرقت النساء عنه، ثم أخذ يجس يدها ويقول: «حبيبتي … روحي … منيتي … ماذا أصابك؟! تجرعت السم يأسًا من حياتي؟ إني حي يا سمية … سمية إما أن تحيي مثلي أو أموت مثلك!» ولما أيقن بموتها همَّ بأن يطعن نفسه بالخنجر، ولكنه شعر بيد أمسكت به وسمع صوتًا يناديه: «تمهل يا حسن، إن سمية حية لا بأس عليها.» فالتفت فرأى ليلى الأخيلية وبيدها كوب ماء جاءت لترش سمية به. فقال لها: «ماذا تقولين؟ كيف تحيا سمية وقد تجرعت السم؟! إنه كافٍ لقتل أشد الرجال!» قالت ليلى: «إن الذي تجرعته ليس سمًّا فلا تخف!» فوقف ذاهلًا ثم قال لليلى: «لا تعلليني بالأوهام، إن سمية قد ماتت ولا بد لي من أن أموت لأنها ماتت لأجلي.» قال ذلك ورفع يده بالخنجر فصاحت فيه ليلى: «تمهل يا حسن. إن سمية حية ولم تتجرع السم ولكنها في غيبوبة.» قالت ذلك وتناولت بعض الماء بيدها ورشتها به فحركت رأسها ثم حركت شفتيها وقالت: «حسن … حسن … قتلوك قتلهم الله! إني ذاهبة إليك.» فلما سمع صوتها جثا عند رأسها باكيًا وقال لها: «سمية … أنت حية يا حبيبتي؟ انظري إلي … أنا حسن … أنا حي يا حبيبتي وقد أنقذني الله … افتحي عينيك يا سمية.» ففتحت عينيها فلما رأته قالت: «ما هذه الأحلام؟ حسن؟ أين نحن يا حسن؟!» فأجابها: «نعم أنا حسن يا سمية.» فجلست وألقت نفسها عليه وأخذت في البكاء، فقال لها: «لا تبكي يا سمية إنني في خير.» فقالت له ليلى: «دعها تبكي لتنفس عن كربتها وتصحو من سكرتها.» فسكت وترك سمية تبكي وتشهق، ثم رآها ترفع رأسها وتنظر إلى وجهه وتصيح: «حسن حبيبي … هل أنا في يقظة أم في منام؟!» فأجلسها بجانبه وهو يقول لها: «انظري يا سمية، ها أنا ذا حي، وهذه صديقتنا ليلى. إن أسباب تعاستنا قد زالت والحمد لله.» فقطعت كلامه قائلة: «والحجاج؟ الحجاج؟» وعادت إلى البكاء. فقال لها: «لقد جاء أمر الخليفة بأن يطلقك ويردك إلى خطيبك، وسنخرج اليوم من هذا المعسكر.» فحدقت بنظرها فيه كأنها تتحقق ما يقول، فأقسم لها بحبها أنه ما قال إلا الحق. سكن روع سمية بعد أن اطمأنت إلى نجاتها ونجاة حسن، ثم الْتفتت إلى من حولها فرأت أمة الله جاريتها، وليلى الأخيلية، وهند زوجة الحجاج، فقالت: «إن السم تأخر فعله، أليس كذلك؟» فقالت ليلى: «إنك لم تتجرعي إلا دقيق الذرة، وأما السم الذي ظننت أنك تجرعته فهو معي.» قالت ذلك وأخرجت من جيبها ورقة فتحتها وفيها السم وقالت: «ألا تذكرين الليلة التي بتُّ فيها عندك؟ إني غافلتك وأبدلت بالسم دقيق الذرة؛ لأني خفت أن تعجلي بتجرعه دون ما يدعو إلى ذلك، فالحمد لله على نجاتك.» فهمَّت سمية بليلى وقبلتها وقالت: «جزاك الله خيرًا.» وكذلك شكرها حسن، ثم قصَّ عليهم ما دار بينه وبين الحجاج حتى أتى على ذكر أبي سليمان وكيف جاء في إبان الضيق فكان السبب في نجاته من الموت، كما كانت ليلى سببًا في نجاة سمية منه. وكان أبو سليمان واقفًا خارج الخباء فناداه حسن فدخل وهو يقول: «هل يدخل عبد الله؟» قال حسن: «أي عبد الله؟» قال: «خادمك.» قال: «فليدخل. إني أعده صديقي.» ثم دخل عبد الله وهو يقول: «لا تظن أني تخلفت عن خدمة مولاي، ولكنني أصبحت بعد إخراجك من السجن موضع غضب عرفجة، فلم أعد أستطيع الظهور وبقيت متخفيًا أتنسم الأخبار. فلما تحققت نجاتك جئت لأكون في خدمتك.» وكانت سمية قد صحت وتحققت أنها فازت بحبيبها وأنها نجت من أبيها فثبتت بصرها في حسن، وثبت هو بصره فيها، واكتفيا بتفاهم اللواحظ، ثم قال لها: «إلى أين تودين الذهاب، وأين نقيم؟» فأجابه أبو سليمان على الفور: «تقيمان عندنا بالمدينة.» فقال حسن: «لقد أذكرتني أمر رملة، هل أتيت بالكتاب من خالد إلى ابن الزبير؟ وكيف حصلت على هذا الأمر من عبد الملك؟» فقصَّ عليه سليمان قصة سعيه في ذلك الأمر على يد خالد، ثم قال: «وأما ابن الزبير فقد جئته بالكتاب ولكنه وا أسفاه عليه قُتل ولا ندري ما تمَّ بأهله.» فقال: «أهله في مأمن بمكة، وقد صرَّح لهم قبل موته بقبوله مصاهرة خالد. وبعد عودتنا إلى المدينة سأبعث عبد الله إلى خالد بالخبر ليبعث من يحمل رملة إليه.» ثم الْتفت إلى ليلى وقال لها: «لن أنسى لك جميلك ما حييت، ويكفي أنك كنت سببًا لبقاء سمية كما كان العم سليمان سببًا لبقائي.» فقالت ليلى: «لا فضل لي في ذلك وقد فعلته لأني جربت هذا العناء وعرفت شقاء المحبين وجهادهم، ولا أظن أحدًا من هؤلاء أدرك من حالكما ما أدركته.» قالت ذلك وشرقت بريقها. فأدرك حسن أنها تشير إلى قصتها مع توبة، فشكر الله وسكت حتى لا يثير عواطفها. ثم وقف أبو سليمان وقال: «كل ذلك بتدبير العزيز الحكيم، وكل شيء يجري بقضاء من الله — سبحانه وتعالى. هلمَّ بنا الآن نستعد للرحيل.» فلما تحققت سمية قرب سفرها الْتفتت إلى هند بنت النعمان زوجة الحجاج وقالت: «أرجو أن يوفقك الله إلى سبيل تنجين به كما نجوت أنا.» فتلألأت الدموع في عيني هند ولم تجب. ••• وفي أصيل ذلك اليوم شدوا الرحال وساروا جميعًا قاصدين المدينة، ما عدا ليلى فإنها الْتمست وجهة أخرى. ولما وصلوا ساروا توًّا إلى بيت عرفجة وقد أصبح بما فيه إرثًا شرعيًّا لسمية، وكذلك كل ما كان يملكه. وفي يوم وصولهم جاء سليمان لاستقبالهم وقد سر بنجاح مهمتهم. واحتفلوا بزفاف سمية إلى حسن احتفالًا شهدته سكينة بنت الحسين وكثير من سكان المدينة، وأكثرهم كانوا يكرهون عرفجة، وغنى ليلتها طويس، كما غنت عزة الميلاء، وأجاد أشعب الطماع في المجون حتى كادت تتمزق خواصر الناس من الضحك. وبعد انتهاء العرس سار عبد الله إلى خالد في دمشق ومعه كتاب من حسن بتفصيل ما حدث في شأن رملة وقبول عبد الله بن الزبير خطبته لها، فجاء خالد وتزوج رملة كما هو مدون في التاريخ.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/1/
في فلسفة ابن رشد
قبل الدخول في فلسفة ابن رشد لبسط مبادئها وقواعدها بسطًا وافيًا كافيًا، نرى من الواجب أن ننشر هنا الخلاصة الوجيزة التي نشرناها في الجامعة عن فلسفته في أثناء ترجمته، وكانت السبب في رد الأستاذ، ومتى فرغنا منها هنا عدنا إلى الإسهاب في كل فقرة منها لإيضاحها إيضاحًا لا يبقى معه مجال للإشكال إن شاء الله. وبذلك نكون قد شرحنا فلسفة الفيلسوف شرحًا مسهبًا. وهذا نص هذه الخلاصة بحسب ترتيبها في الجامعة «إن المتكلمين — أي علماء الكلام — في الدين الإسلامي (وهم الذين يدافعون عن الإسلام بموجب شريعته) قد وضعوا فلسفة خاصة بهم. وربما لم يكن من الصواب أن تدعى تعاليمهم فلسفة؛ لأنها عبارة عن مباحث دينية محضة، ولكن كل ما جرى فيه كلام عن الخالق عز وجل، وعالم الغيب وما وراء الطبيعة؛ فهو فلسفة. ومن المعلوم أن كلمة فلسفة يونانية الأصل وهي مشتقة من كلمتين: (فيلوس) ومعناها (محبة) وسوفيا ومعناها (الحكمة)، فالفلسفة معناها إذن (محبة الحكمة). وهل في عالم الفكر — الذي هو أشرف العوالم شيء — يستحق أن يسمى حكمة غير البحث في أصل الحكمة ومصدرها الأعلى.» ففلسفة المتكلمين هذه مبنية على أمرين: الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني وجود خالق مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له. وبما أن الخالق مطلق التصرف في كونه فلا تسأل إذن عن السبب، إذا حدث في الكون شيء؛ لأن الخالق نفسه هو السبب وليس من سبب سواه. إذن فلا يلزم عن ذلك قطعيًا أن يكون بين حوادث الكون روابط وعلائق، وكان ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث قد تحدث بأمر الخالق وحده. وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصور بها الآن، وذلك بقدرة هذا الخالق. «إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات. وهو يرى في ذلك رأي أرسطو. فيقول: إن كل فعل يفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة. والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق. وهذا الشيء هو في رأيه المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هل شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف. «بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه». وبناءً عليه يكون كل جسم أبديًا بسبب مادته، أي أنه لا يتلاشى أبدًا، لأن مادته لا تتلاشى أبدًا. وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز العمل لا بد له من هذا الانتقال، وإلاَّ حدث فراغ ووقوف في الكون. وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم، ولولا هذه الحركة المستمرة، لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم، بل لما حدث شيء قط. وبناءً عليه، فالمحرك الأول الذي هو مصدر القوة والفعل «أي الخالق سبحانه وتعالى» يكون غير مختار في فعله.» هذا فيما يختص بخلق العالم وهو مذهب قريب جدًا من مذاهب الماديين كما ترى، ولكن كيف يستولي المحرك الأول على الكون ويدبره. لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة. فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة. فإنه كما أن كل شئون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا لكل شئون الحكومة، ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون. كذلك الخالق في الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات. فبناءً على ذلك لا يكون للكون «اتصال» بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده. وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب. وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات. وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصلية للحياة. والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر. أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها؛ فهو في قلب هذه الدوائر. ولكل دائرة منها عقل أي قوة تعرف بها طريقها، كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه. وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض، إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه. وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها. وبناءً على ذلك يكون للعقل الأول، الذي هو مصدر كل هذه الحركات علم بكل ما يحدث في العالم. وإن قيل ما هي علاقة الإنسان بالخالق..؟ فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد — أيضًا — عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه «النفس». وخلاصة ذلك أن في الكون عقلاً فاعلاً وعقلاً منفعلاً. فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة. وأما العقل المنفعل؛ فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس. وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين. ذلك أن العقل المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل، كما أن القوة تقتضي مادة تنفذ فيها والمادة تقتضي شكلاً توضع به. وأول نتيجة تحل من هذا الاتحاد تدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا، فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل القديم الأزلي. ولا يتم هذا الاتحاد بواسطة العقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره، فإنما وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به. وأما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق «العلم». فالعلم إذن هو سبب «الاتصال» بين الخالق والمخلوق. ولا طريق غير هذا الطريق. ومتى اتصل الإنسان بالله يتصل الإنسان بالله؟ يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب، ويخرق بنظره حجب الأسرار التي تكتنف الكون، فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كنه الأمور، وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية. أما المتصوفة فإنهم يقولون إن «الاتصال» يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم ضروريًا له. وبناءً على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم. والكون في رأيه كما مرَّ بك إنما صُنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض، وكلها مرتبطة ارتباطًا مبهمًا بقوة عُليا. ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم، ويضع فيه العقل؛ فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه عقلاً — أيضًا — هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر، لا يزيد ولا ينقص. والناس يشتركون فيه، ويستمدون منه بكميات متباينة. على أن من كان منهم أكثر استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة. ولكن هل إن نفس الإنسان خالدة أم لا في هذا المذهب؟ وهل كان ابن رشد يعتقد بحياة ثانية؟ قال: «إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة، وغير قابل للفناء والملاشاة. والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان. وبناءً عليه يكون العقل العام الفاعل خالدًا والعقل المنفعل فانيًا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام، الذي هو خالد في رأي ابن رشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية. فالإنسانية إذن هي خالدة وحدها دون سواها. وبناءً على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية.» أما الفلسفة الأدبية فلم تشغل سوى حيز صغير في مذهب هذا الفيلسوف بإزاء فلسفته المادية. وقد صرف همه في تلك الفلسفة إلى نقض مذهب «المتكلمين» الذين يقولون: إن الخير في يد الله، وأنه يصنعه بالبشر حينما يشاء وكيفما يشاء، وبقدر ما يشاء من غير علة ولا سبب، بل لأن إرادته تقتضي ذلك. فمن رأي ابن رشد في ذلك أن هذا المبدأ ينقض كل مبادئ العدل والحق؛ لأن ذلك يجعل حكومة العالم فوضى، ربما شقي فيها الحكيم الفاضل وسعد الشرير اللئيم. أما حرية الإنسان؛ فهو يذهب فيها مذهبًا معتدلاً. فإنه يقول إن الإنسان غير مطلق الحرية تمامًا ولا مقيدها تمامًا. وذلك إذا نُظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نُظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية، كان مقيدًا بها لما لها من التأثير على أعماله.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/2/
شرح الفقرات السابقة
كل الفلاسفة والعلماء من حين نشأة الفلسفة والعلم إلى اليوم، تنحصر آراؤهم عن الخالق والخالق في رأيين: الأول؛ «وجود خالق حر مختار في أعماله، يهب متى شاء ويمنع متى شاء. وله عناية إلهية تدبر العالم. وهو سبب قُوى الطبيعة، أي أن هذه القوى موجودة فيه لا فيها. ووجود نفس بشرية جوهرها خالد لا يفنى». والرأي الثاني؛ «إن المادة أزلية، أي لا بداية لها. ونشأة الكون، إنما هي من تحول دقائق هذه المادة بقوتها الخاصة تحولاً ترتقي به من حالة إلى حالة أسمى. وذلك يقتضي وجود طبيعة ثابتة، ونواميس ووجوب الوجود، وعقل تُبنى عليه النواميس، وفناء الإنسان في الكل الذي أخذ منه مع الاعتقاد بوجود خالق، ولكن اعتقادًا مبهمًا». هذان هما الحزبان اللذان تنازعا ويتنازعان العلم والدين. ومما لا يحتاج إلى بيان أن أنصار جميع الأديان موجودون في كل مكان حتى الأديان الوثنية نفسها من الحزب الأول، لأن كل صفحة من صفحات كتبهم تدل على تلك المبادئ. كما أنه لا يحتاج إلى بيان — أيضًا — أن فلسفة أرسطو من الحزب الثاني؛ لأن كل صفحة في كتبه تدل عليها. وقد تابعه في ذلك فلاسفة العرب كابن سينا والكندي والفارابي وابن رشد، فكانوا من الحزب الثاني. فبعد هذا البيان لا نظن أحدًا يلوم الجامعة على وضعها المتكلمين (من المسلمين أو من المسيحيين) في الحزب الأول. ونحن على يقين أن علماء الدين في المذهبين «الإسلامي والمسيحي» لا يرون في ذلك شيئًا يسوءهم، ما داموا يطلبون البقاء على المبادئ الإسلامية والمسيحية التي ربوا فيها. ولكن إذا أريد التوفيق بين هذين المبدأين لجعل مذهب المتكلم واللاهوتي موافقًا لمذهب الفيلسوف، وذلك بواسطة التأويل فإن المسألة تتخذ وجهًا آخر. ذلك أن مريدي التوفيق يضطرون حينئذ إلى إهمال كل ما كان في الكتب المنزلة مخالفًا لمذهبهم والتفتيش بالفتيلة والسراج، كما يقول العامة، على كل ما يوافقه. فحينئذ ينفتح باب واسع هائل. وهذا الباب هو تفسير الكتب والآيات كما يشاء المؤول. ومتى ابتدأ الإنسان بالتأويل، فإنه لا يعلم إلى أين ينتهي. وهذا أبلغ سلاح كان في أيدي مناظري ابن رشد. فإن هذا الفيلسوف كان يوجب التأويل للتوفيق بين الدين والفلسفة، وأما هم فإنهم كانوا يقولون: إن تأويلك هذا يخرج الدين عن شرعه ويبدله بدين آخر لا نعرفه. ومما كان يزيد حجتهم قوة ما قرأوه في كتابات الإمام الغزالي من الرد على تلك الفلسفة اليونانية، التي كان ابن رشد يدافع عنا ويدعو إليها. فكانوا يكرهون التوفيق بين الشريعة الإسلامية وفلسفة مردودة منقوصة لم تثبت صحتها. ولو قاموا اليوم من قبورهم الأبدية وسمعوا ما يكتبه الإفرنج من الاستهزاء بفلسفة أرسطو وتلامذته، لأغرقوا في الضحك وعادوا إلى راحتهم الأبدية بنفوس مستريحة؛ لأنها لم تحارب حقًا ثابتًا. ففلسفة المتكلمين كما ذكرناها مبنية على قاعدتين: الأولى؛ تنزيه الخالق عن كل قيد. والثانية؛ حفظ الدين من حدوث خرق فيه بواسطة التأويل وتطبيقه على العلم، لاسيما وأن ذلك العلم لم يثبت ثبوتًا لا يقبل الجدال. وحسبنا دليلاً على ذلك ما ذكره العارف الواحد الصمداني الشيخ محيي الدين بن عربي في كتاب له إلى الإمام فخر الدين الرازي قال: «إن كل موجود عند سبب ذلك السبب محدث مثله، فإن له وجهين وجه ينظر به على سببه، ووجه ينظر به إلى موجده وهو الله تعالى. فالناس كلهم ناظرون إلى وجوه أسبابهم والحكماء والفلاسفة كلهم وغيرهم، إلا المحققين من أهل الله تعالى كالأنبياء والأولياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، فإنهم مع معرفتهم بالسبب ناظرون من الوجه الآخر إلى موجدهم. ومنهم من نظر على ربه من وجه سببه لا وجهه، فقال: حدثني قلبي عن ربي. وقال الآخر وهو «الكامل»: حدثني ربي إذ ما كان وجوده مستفادًا من غيره، فإن حكمه عندنا لا شيء، أي أن الأسباب ليست بشيء تذكر؛ لأن وجودها مستفاد من الله. انتهى بحرفه نقلاً عن بهاء الدين العاملي. وبناءً على ذلك لا يكون كلامنا هناك عن حدوث المادة وحرية الخالق، ووجود الأسباب فيه وحده مقصورًا على رجال الدين الإسلامي، بل هو يشمل جميع رجال الأديان؛ لأنهم كلهم يعتقدون ذلك الاعتقاد — وإن كانوا فيه درجات — وبما أننا سنعود إلى هذا الموضوع في الرد الأول على مقالة الأستاذ الأولى في الباب الثالث؛ فإننا ننتقل منه إلى الفقرة الثانية، ونحن واثقون بأننا شرحنا هذه النقطة في هذه الفقرة شرحًا أزال الإشكال فيها. كل من طالَع شيئًا من كتب ابن رشد الفلسفية أو وقف على ما كتبه الفلاسفة عنه، علم أن فلسفته مبنية على أمرين: الأول؛ اعتقاده بقدم المادة، أي أزليتها. والثاني؛ مسألة العقول ووحدانيتها. أما الأمر الأول وهو (أزلية المادة) فهو مسألة من أهم المسائل التي شغلت أفكار المفكرين. ولذلك وجه الأمير يوسف إلى ابن رشد أول مقابلته له السؤال الذي نشرناه في الصفحة (١٣) عنها. ومقتضى هذا الاعتقاد أن المادة الأولى التي صُنع الكون منها كانت موجودة بذاتها منذ الأزل أي بدون ابتداء، وإلاَّ وجب أن يقال بأن العالم صُنع من العدم، وهذا قول لا يقبله العلم. ولذلك كان ابن رشد يفترض وجود هذه المادة افتراضًا، إذ ليس في الإمكان إقامة الدليل على وجودها. وقد وقع ابن سينا قبله في هذه المشكلة أي العجز عن إقامة الدليل على وجود المادة قبل خلق الكون، ولكنه تخلص منها بقسمته العالم إلى قسمين: قسم ممكن وقسم واجب. فالقسم الممكن ما كان حدوثه ممكنًا إذا افترض حدوثه، والقسم الواجب ما كان حدوثه واجبًا بنفسه ولا يحول شيء دونه. وقد وضعت مادة الكون في القسم الممكن. ولذلك لما كان ابن رشد يبني فلسفته على أزلية المادة، ويعلل الخلق بها كان المتكلمون الذين يناظرونه يهدمون ذلك البناء بكلمة واحدة، وهي قولهم له أنك تبني على افتراض لا على برهان. ومع ذلك فإن ذلك الافتراض لا بد منه. وقد مر الآن على فلسفة اليونان والعرب عشرات القرون، ولا يزال الفلاسفة والعلماء يعتمدون على هذا الافتراض، حتى في هذا العصر لتعليل خلق الكون؛ لأن هذا الافتراض أقرب إلى العقل من قول القائلين بأن الكون مخلوق من العدم. وقد كان ابن رشد يحج مناظرته في هذا الموضوع بقوله: «إن ظاهر الآيات الواردة في القرآن عن إيجاد العالم تثبت برأيه. فإن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يقتضي بظاهره وجودًا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانًا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ يقتضي — أيضًا — بظاهره وجودًا ثانيًا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ يقتضي بظاهره أن السماوات خلقت من شيء. انتهى ملخصًا من كتابه (فصل المقال). وقد قال الكواكبي رحمه الله في كتابه (طبائع الاستبداد) الذي نشر منذ عامين في تأويل بعض آيات القرآن تأويلاً ينطبق على أقوال العلماء المعاصرين في خلق الكون، والاكتشافات العلمية الحديثة قد اكتشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ نقول ولعل المرحوم الكواكبي أخذ هذا التطبيق الجميل من ابن رشد نفسه. بقيَ علينا أن نذكر رأيه في نشأة الكون من تلك المادة الأزلية، وهنا ننقل ما كتبه عن ذلك في الفصل الثاني عشر من كتابه (ما وراء الطبيعة). وقد قال الفيلسوف رنان أن هذا القول أهم الأقوال التي رد بها ابن رشد على مناظريه من المتكلمين في هذا الموضوع. وهذه خلاصته، قال: ولكنَّ (هوذا) مذهب أغرب مما تقدم وهو: كما أن الله يُخرج شيئًا من لا شيء؛ فهو يجعل — أيضًا — الشيء لا شيء. وبناءً على ذلك يكون الإعدام عملاً من أعمال الله كما أن الإيجاد من أعماله. فالموت إذن من أعمال الله. وأما نحن فإننا نعتقد ما يخالف ذلك. نعتقد بأن الإعدام عمل كالإيجاد أي أنه يتبع نظامًا مثله، ذلك أن كل شيء وُجِدَ إنما هو مستعد بطبيعته للفناء. فالفاعل سواء كان ذلك في حالة الإيجاد أو حالة الفناء لا وظيفة له غير تسهيل خروج، وذلك الاستعداد من حيز القوة إلى حيز الفعل. فالعمدة إذن في الحالتين إنما هي على الفاعل وعلى القوة الكامنة في المادة معًا. وينبغي أن لا يُفصل بينهما. وإذا وجد أحدهما ولم يوجد الآخر، فلا يحدث خلق ولا يتم شيء. انتهى مذهب ابن رشد في خلق الكون وهو منقول هنا بمعناه لا بحرفه؛ لأننا لخَّصناه تلخيصًا من الصفحة ١٠٨ فصاعدًا من كتاب رنان في فلسفة صاحب الترجمة وذلك؛ لأن يدنا لم تصل من سوء الحظ إلى النص العربي. فهل يقبل المتكلمون اليوم هذا المذهب. والذي يتضح مما تقدم أن الخلق إنما هو عبارة عن حركة. وإن كل حركة تستدعي حركة قبلها، وأخرى بعدها ليتم فعل الخلق. وإن كل ما هو مستعد للوجود يجب أن يخرج من حيز القوة والاستعداد إلى حيز الفعل، وإلاّ صار في الكون شيء من الوقوف والفراغ. وبما أن الحركة هي سبب هذا الخروج فلولاها لم يحدث شيء في العالم. وقد استشهد رنان على صحة كل ذلك (فوق الشذرة التي عربناها) بالفصل الثامن من كتاب ابن رشد في الطبيعيات الشذرة ١٧٦ و١٨٤ و١٥٥ و١٥٧ والفصل الثالث من الشذرة ٤٧ والفصل الرابع منه — أيضًا — الشذرة ٨٢. أما رأي ابن رشد في اتصال الكون بالخالق فينطوي تحته أمران: الأول؛ «أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية»، كما قال في كتابه (تهافت التهافت). والثاني؛ «أن الله يعلم أنواع الأشياء في العالم لا مفرداتها». وتحت هذين الأمرين تنطوي مسألة الاختيار التي هي من أهم مسائل الفلسفة. أما قوله: إن السماء حيوان حي مطيع لله بحركته الدورية؛ فقد تقدم تفسيره في الفقرة الثالثة. ومنه يظهر أن العالم إنما هو عبارة عن أجرام تدور في الفضاء في أفلاك خصوصية وحركات دورية. وبما أن هذه الحركات الدورية لا تنشأ إلا عن نفسٍ تحركها وتديرها، وإلاَّ كانت الحركة أفقية أو عمودية؛ فقد وجب أن يكون هنالك نفس محركة، ولكن ما هي هذه النفس المحركة. هل هي الله نفسه سبحانه وتعالى.؟ كلا.. لأن الله منزه عن الاتصال بالكون. وإنما هذه النفس هي ما يسمونه العقل الأول. فالعقل الأول هو محرك العالم وأول ما خلقه الله في العالم. وقد استشهد ابن رشد على ذلك بما جاء في القرآن، من أن الروح هي أول مخلوقات الله. وقال: إن هذه الروح هي العقل الأول، ومن هذا العقل تفرعت العوالم. وهذا العقل متصل بها يصدر القوة والحركة إليها. فالكون إذن متصل به لا بالله. وإنما المتصل بالله العقل الأول الذي يستمد القوة منه. فالله يقبض عليه وهو يقبض عليها. وبناءً على ذلك لا يكون لله علم بالجزئيات التي تحدث في العالم، وإنما يكون له علم بكلياته أي إجمال الأشياء وأنواعها لا مفرداتها. بل إن الله يعلم الجزئيات، ولكنه يعلمها «بعلم غير مجانس لعلمنا بها»، كما قال في كتابه (فصل المقال). وذلك؛ لأن «علمنا معلول للمعلوم به؛ فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره وعلم الله بالوجود على مقابل هذا فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل». انتهى قوله في (فصل المقال). ومفادُ ذلك أن الفيلسوف لا يعتقد في علم الله بالجزئيات ما يعتقده جميع الناس اليوم. وإذا كان الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعلم غير مجانس لعلمنا فذلك دليل على أنه لا يدبر العالم مباشرة. فشأنه في ذلك شأن حاكم المدينة، فإنه مصدر النظام فيها، ولكن ليس له مداخلة في كل شأن من شئونها مباشرة. ولو كان الله سبحانه وتعالى يدبر العالم مباشرة أي يدير بنفسه كل حركة من حركاته الجزئية والكلية، فإن الشرَّ في العالم يكون صادرًا عنه (تعالى الله عن ذلك). فأعظم إكرام وتقديس لله تعالى هو إذن اعتبار عنايته بالكائنات من قبيل الناموس الثابت الموضوع لها. ففي هذا الافتراض يكون كل خير في العالم صادرًا عن الله؛ لأنه أراده وسن السُّنن الطبيعية له. وكلُّ شرٍّ في العالم يكون صادرًا عن المادة التي خالفت سننه، أو الإنسان الذي عصاها. وهذا الفكر الأخير هو لباب فكر أرسطو. إن موضوع الاتصال أي اتصال الإنسان بالباري مسألة من أهم المسائل التي دارت عليها فلسفة ابن رشد والمتكلمين. وهي تُقسَّم إلى مسألتين: المسألة الأولى؛ اتصال الإنسان بالعقل الفاعل بطريق الفكر. والمسألة الثانية؛ اتصاله به بطريق الحواس. وإيضاحًا لهاتين المسألتين نذكر رأي موتك ورنان فيهما، هو مستخلص من كتاب ابن رشد (في ما وراء الطبيعة). هذه هي خلاصة فلسفة ابن رشد في المسألة الأولى من مسألتي الاتصال. وأما المتصوفة؛ فإنهم يقولون: «إن تلك السعادة إنما تدرك بالصلاة والتأمل والتجرد من الجسد لا بالعلم». وعندهم طرق وشرائط لإفناء الإنسان ذاتيته، توصلاً إلى الفناء بالله وحينئذ يجوز له أن يقول: أنا الله. وقد قال أحد مؤلفيهم ما خلاصته: «لا تذهب لتسأل ابن سينا عن هذا الحب الإلهي؛ فإنه لا يعرف شيئًا من أصول هذا الفن، بل عليك أن تنبذ كل الكتب الفلسفية إذا كان أفلاطون الحقيقي (يعني الله) يدرس في مدرستك». ومما يجب ذكره في هذا المقام أن هذه المبادئ هي في الأصل فارسية وهندية لا إسلامية، وقد ذكرناها هنا لعلاقتها بفلسفة ابن رشد. أما مسألة الاتصال بالثانية فهي أهم من المسألة الأولى. ومهما يكن من القول في مسألتيِّ الاتصال اللتين تقدم ذكرهما، فمما لا ريب فيه أنهما خارجتان عن فلسفة أرسطو لا منها. نعم إن أرسطو وصف في الفصل التاسع من كتابه الأدب السعادة بالعقل في هذه الأرض، ولكنه عاد فقال: «ولكن حياة بالسعادة كهذه الحياة ربما كانت فوق احتمال الإنسانية؛ لأننا لا نجد هذه السعادة بما فينا من البشرية، بل بما فينا من الروح الإلهية» وبذلك راعَى حدود الطبيعة البشرية مراعاة تامة. هذا فيما يختص بالمسألة الأولى. أما رأي أرسطو في المسألة الثانية (أي اتصال العقل المفارق بالإنسان) فلا يعرف الباحثون منه إلا عبارة واحدة، وهي قول أرسطو بعدما تقدم: «وسنبحث في فرصة أخرى إذا كان العقل البشري يستطيع أن يعقل الأشياء البعيدة عنه مع ما بينهما من المسافة أو لا يستطيع ذلك». هذا كل ما كتبه أرسطو في هذا الموضوع، إذْ لم يعثر الفلاسفة المعاصرون على قول آخر له فيه. فالظاهر أن ابن رشد أراد أن يتولى إنجاز الوعد من أستاذه أرسطو فوضع رأيه الذي بسطناه في هذه المادة. فكان شأن هذه العبارة التي بنَى عليها ابن رشد مذهبه في اتصال الإنسان بالعقل المفارق، شأن العبارة التي بنى عليها فلاسفة العرب مذهبهم في العقول، مما سنفصله في الباب الثالث. وصلنا الآن إلى مسألة المسائل، وأهم المواضيع وهي مسألة الخلود. ويسوؤنا أن كلامنا هناك في هذه المسألة قد حمل على غير محمله. ولعل السبب في ذلك أنه كان مختصرًا فصار بالاختصار غامضًا، ولذلك نشرحه هنا شرحًا يزيل ذلك الغموض. وقبل الشروع في ذلك نعيد هنا ما ذكرناه في مقدمة تلك الفقرة، وهذا نصه: «إننا في أثناء مطالعتنا لبعض كتبه (ابن رشد) قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلامًا يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب أيضًا. نقول: وقد قلنا ذلك ونحن نفكر في ما ذكره ابن رشيد في كتابه (فصل المقال) فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال وهذا نصه: «ولكن إذا كان التأويل واجبًا (أي تأويل الآيات الدينية) فهو لا يكون في الأصول مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي، بل يكون في الفروع. وإن كان في الأصول فالمتأوِّل له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وإنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وإنها حيلة وإنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط». نقول: ولا ريب أن نشرنا هذه الشذرة في الصفحة ٥٣٤ من ترجمته في الجزء الثامن يدل على إعطائنا الفيلسوف حقه من نشر ما له وما عليه. فبعد هذا ينبغي أن نعلم ما هو العقل الفاعل الذي تقدم ذكره، وما هو العقل المنفعل. فنقول: إنه قد ظهر مما تقدم من كلام ابن رشد أنه يريد بالعقل الفاعل ما أراد به أرسطو أي المصدر الذي يستمد منه العالم، القوة والحركة يعني العقل الأول الذي هو مصدرهما. فالعقل الأول البريء من المادة والمفارق للإنسان أبدي خالد لا يفنى. وهذا قول لا خلاف فيه، ولكن ما هو العقل المنفعل؟ هو كما تقدم الكلام عليه الإنسان نفسه أو العقل الذي في الإنسان. فهذا العقل غير خالد خلودًا منفردًا بنفسه، وإن كان خالدًا خلودًا بجوهره. وبيان هذه المسألة الغامضة التي نرويها من قبيل الرواية لا التقرير، أن العقل الذي استمده الإنسان من واهب العقل لا يعيش بعد الموت مستقلاً وحده، كما يعتقد العامة، بل له حياة أخرى مجهولة. ذلك؛ لأن العقل الفاعل لا يفنى من حيث نوعه؛ لأن جوهره خالد أبدي، وإن كان فانيًا من حيث الإنسان الذي أُودع فيه، ولكن ما هي الحياة التي تكون له بعد الموت؟ أهي فناء في الكل الأبدي الذي أخذ منه فيكون موجودًا أو فانيًا في وقت واحد. أم هي شيء آخر؟ الله أعلم. ولسنا نزعم أن هذا المذهب هو مذهب ابن رشد وأرسطو حرفيًا؛ فإن أقوال المفسرين متضاربة في هذا الموضوع وكل واحد منهم يفسره كما يشاء. فبعضهم يقول: إن أرسطو قد صرح بأن العقل المنفعل أو المفعول فانٍ، وهو تصريح كافٍ للدلالة على فكره. وبعضهم يقول: بل إن روح فلسفته تدل على خلاف هذا القول. وكذلك قولهم في رأي ابن رشد في هذا الشأن لا يخلو من نظر. فمنهم من يرى أن ابن رشد يكرر مرارًا أن العقل المنفعل غير مفارق للإنسان ولا هو خالد. ولذلك؛ فإنه يعتقد بأنه فانٍ مع المادة. ويستشهدون على ذلك بقوله في بعض المواضع: «إن العناية الإلهية منحت الحي الفاني المقدرة على التوالد لتخليد نوعه، وتعزيته بهذا الخلود النوعي عن الفناء».. (ابن رشد تأليف رنان الصفحة ١٥٣.) ومعنى هذه العبارة واضح عند بعضهم وغامض عند البعض الآخر. أما الأولون؛ فإنهم يفسرونها بقولهم: إن لابن رشد مذهبًا خاصًا في وحدة العقل في العالم. وبيانه أنه يعتقد أن كل عقل في كل إنسان مصدره واحد، ومأخوذ من نبع واحد، وهو العقل الأول العام الذي تقدم ذكره. فالعقل الذي في كل إنسان إذن هو واحد. وقد كان هذا المذهب من أضعف الجوانب في الفلسفة الرُّشدية، ولذلك سهل على أعدائه نقضه في أوروبا. وقد كان القديس توما يصيح بأنصار ابن رشد: هل تزعمون أن العقل الذي كان في أفلاطون وأرسطو، والعقل الذي في قُطاع الطرق واللصوص هو واحد. فهذا المذهب يجعل للإنسانية عقلاً واحدًا وهو ما سميناه عقل الإنسانية، وبحسب رأي ابن رشد فيه يكون هذا العقل خالدًا في الأرض دون سواه. أي أن الإنسانية تبقى في الكون متعاقبة قرونًا بعد قرون، وأجيالاً بعد أجيال، إلى ما شاء الله. فهي خالدة بالحياة لا بالموت. ولكن إذا نُظر إلى تعليم ابن رشد من وجه آخر استطاع الناظر أن يستخرج منه رأيًا آخر. مثال ذلك أن ابن رشد يقول إن الحس والذاكرة والحب والبغض مفارقةٌ لعقل الإنسان بعد الموت، فالنفس التي فيه تتجرد منها، ولكن يبقى لها العقل أي أنها لا تفنى. وهذا القول استخرجه من فلسفة أرسطو الباحثون فيها بحثًا، يقصدون به تطبيقها على الدين كالقديس توما وألبر. ومن ذلك يظهر أن النص في هذه المسائل حكمه حكم لا شيء، وإنما العمدة على التأويل والتفسير والتأويل حياة وروحًا يوافقان مذهبه. وهذا هو السبب في اختلاف الفلاسفة في تفسير فلسفة أرسطو وجميع الكتب الشرائعية العليا، التي يرجع إليها البشر في شئونهم الروحية كالقرآن والإنجيل والتلمود وغيرها. فمن كل ذلك يظهر أن في فلسفة ابن رشد شيئًا من التناقض. ولعله معذور فيه. وأشد ذلك التناقض ظهورًا إنما كان في قوله: إن سبب ضعف بصر الشيخ ضعف عينه الباصرة لا ضعف قوة البصر فيه. فلو كان للشيخ باصرة الفتى لاستطاع النظر كما ينظر الفتى. ثم يقول: إن الرقاد خير دليل على بقاء النفس؛ فإنه بينما تكون كل آلات النفس في النوم هامدة ساكنة كأنها معطلة تكون النفس مستمرة الفعل في الجسم. ذلك لأن العقل أو النفس غير مرتبطة بشيء من أعضاء الجسم، ولذلك تبقى منفردة مستقلة فاعلة مع سبات تلك الأعضاء. وهكذا يصل الفيلسوف إلى الاعتقاد ببقاء النفس (أي الخلود) اعتقاد العامة به. نقول: فهذا قول يدل أصرح دلالة على اعتقاد ابن رشد ببقاء النفس لو لم يردفه ببحث آخر فيها ما خلاصته: إن العقل لا يتجزأ على عدد الأفراد، وأنه واحد في سقراط وأفلاطون، وبما أنه لا شخصية له فالشخصية ناشئة عن الحواس. فالإنسان شخص مفرد من حيث الحواس لا من حيث العقل؛ لأن العقل لا يتجزأ، ومن ذلك تنشأ مبادئ مخالفة للمبدأ السابق (راجع ابن رشد تأليف رنان الصفحة ١٥٤ و١٥٥). هذه هي آراؤه المتناقضة في هذا الموضوع. فلا ريب أنك بعد اطِّلاعكَ عليها تذكر قولنا في الفقرة الخامسة التي فيها الخلاف «رأينا له في عدة مواضع كلامًا يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية حتى بالعقاب والثواب — أيضًا — ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده؛ فهو يكتب بقلبه لا بعقله. أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل؛ فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي». نقول: وقد كان في ذلك إشارة إلى تلك المتناقضات. بقيَ ما جاء في ختام الفقرة وهذا نصه: وبناءً على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية. وإليك تفسير هذا القول الغامض. إن المقصود بذلك إن الفيلسوف لا يعتقد بحشر الأجساد اعتقادًا صريحًا. أي أنه لا يعتقد بأن الإنسان يكون في الحياة الأخرى فردًا ناطقًا آكلاً شاربًا متزوجًا كما يقول العامة. بل هو لا يعتقد — أيضًا — بوجوب الثواب والعقاب اعتقادًا صريحًا. وإليك ما قاله في تلخيصه كتاب لأفلاطون، من الأوهام المضرة اعتبار الناس الفضيلة والخير واسطة للوصول إلى السعادة؛ فإن الفضيلة إذا أنزلت في هذه المنزلة لم تعد فضيلة. ذلك أن الإنسان لا يحرم نفسه الملاذ إلا وهو يؤمَّل أن يعوَّض عليه مثلها وزيادة. والشجاع لا يطلب الموت في الحرب إلا فرارًا من شر أعظم من شر الحرب. والحكيم لا يحترم مال غيره إلا لينال بعد ذلك مضاعِف ذلك المال (راجع رنان الصفحة ١٥٦) وفي موضع آخر يعنف أفلاطون تعنيفًا شديدًا؛ لأنه وصف في أحد كتبه حالة النفوس في الآخرة فقال في تعنيفه: «إن هذه الخرافات لا تفيد شيئًا بل هي تفسد عقول العامة، وخصوصًا الأولاد دون أن تعود عليهم بنفع ما. وإنني أعرف أناسًا ينبذون كل هذه الأوهام، ومع ذلك فإنهم لا ينقصون فضلاً وفضيلة عن الذين يعتقدون بها» (راجع رنان الصفحة ١٥٧). فمن هذا القول الأخير يظهر أن لابن رشد في هذه المسألة همًا غير هم البحث العلمي. ولا غرابة في ذلك؛ فإن جميع الفلاسفة العقلاء الذين تخيفهم سطوة المبادئ المادية الدنيئة على العالم لخنق ما فيه من الخير بقوة الشراهة والأثرة يهتمون به أشد اهتمام. ولذلك لم يكن يجادل مناظريه في حقيقة هذا الاعتقاد ولكن في صفته. فقد كان يقول إن الاعتقاد بمعاد الأجسام قد نصت عليه الشرائع، فلا يجب أن يتعرض له بقوة مثبت أو مبطل، ولكن يجب أن يقال أن الأجسام التي تعود بعد الموت «لا تعود بالشخص، بل تعود أمثال هذه الأمثال؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص — كما قال أرسطو — في كتابه الكون والفساد. وإنما يعود الوجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم». ومعنى هذا أن النفس تتخذ جسمًا آخر غير جسمها الحالي؛ لأن هذا الجسم يفنى بالتراب ولا يعود من غير أسباب. أما الإمام الغزالي فقد كان يقول: «في خزانة المقدورات عجائب وغرائب لم يُطلع عليها ينكرها من يظن أن لا وجود إلاَّ لما شاهده. ولم يبعد أن يكون في أحياء الأبدان منهاج غير ما شاهده. وقد ورد في بعض الأخبار أنه يغمر الأرض في وقت البعث مطرٌ قطراته تشبه النُّطف ويختلط بالتراب. فأي بُعد في أن يكون في الأسباب الإلهية أمر يشبه ذلك، ويقتضي انبعاث الأجساد واستعدادها لقبول النفوس المحشورة» (راجع تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي). «ولما فرغ (أبو حامد الغزالي) من هذه المسألة أخذ يزعم أن الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وهذا شيء ما وُجد لواحد ممن تقدم فيه قول. والقول بحشر الأجساد أقل ما له منتشرًا في الشرائع ألف سنة (كذا) والذين تأدَّتْ إلينا عنهم الفلسفة دون هذا العدد من السنين (كذا) وذلك أن أول من قال بحشر الأجساد هم أنبياء بني إسرائيل الذين أتوا بعد موسى عليه السلام، وذلك بيِّنٌ من الزبور ومن كثير من الصحف المنسوبة لبني إسرائيل. وثبت — أيضًا — ذلك في الإنجيل، وتواتر القول به عن عيسى عليه السلام وهو قول الصابئة. وهذه الشريعة (الصابئة) قال أبو محمد بن حزم أنها أقدم الشرائع. بل القوم يظهر من أمرهم أنهم أشد الناس تعظيمًا لها (أي شريعة بعث الأجساد) وإيمانًا بها، والسبب في ذلك أنهم يرون أنها تنحو نحو تدبير الناس الذي به وجود الإنسان بما هو إنسان، وبلوغه سعادته الخاصة به، وذلك أنها ضرورية في وجود الفضائل الخلقية للإنسان والفضائل النظرية والصنائع العملية. وذلك أنهم يرون أن الإنسان لا حياة له في هذه الدار إلا بالصنائع العملية، ولا حياة له في هذه الدار ولا في الدار الآخرة إلا بالفضائل النظرية. وإنه ولا واحد من هذين يتم ولا يبلغ إليه إلا بالفضائل الخلقية. وإن الفضائل الخلقية لا تُمكَّن إلا بمعرفة الله تعالى وتعظيمه بالعبادات المشروعة لها في ملةٍ ملة مثل القرابين والصلوات والأدعية، وما يشبه ذلك من الأقاويل التي تقال في الثناء على الله تعالى وعلى الملائكة والنبيين. ويرون بالجملة أن الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تؤخذ مباديها من العقل والشرع، ولاسيما ما كان منها عامًا لجميع الشرائع وإن اختلقت في ذلك بالأقل والأكثر. ويرون مع هذا أنه ينبغي أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل في مباديها العامة مثل هل يجب أن يعبد الله أو لا يعبد. وأكثر من ذلك هل هو موجود أم ليس بموجود. وكذلك يرون في سائر مباديه مثل القول في السعادة الأخيرة وفي كيفيتها؛ لأن الشرائع كلها اتفقت على وجود أخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود، كما اتفقت على معرفة وجوده وصفاته وأفعاله وإن اختلفت فيما تقوله في ذات المبدأ وأفعاله بالأقل والأكثر. ولذلك هي متفقة في الأفعال التي توصل إلى السعادة التي في الدار الآخرة وإن اختلفت في تقدير هذه الأفعال. فهي بالجملة لما كانت تنحو نحو الحكمة بطريق مشترك للجميع كانت واجبة عندهم؛ لأن الفلسفة إنما تنحو نحو تعريف السعادة لبعض الناس العقلاء وهو من شأنه أن يتعلم الحكمة. والشرائع تقصد تعليم الجمهور عامة، ومع هذا فلا نجد شريعة من الشرائع إلا وقد نبَّهت بما يخص الحكماء، وعنيت بما يشترك فيه الجمهور. ولما كان الصنف الخاص من الناس إنما يتم وجوده وتحصيل سعادته بمشاركة الصنف العام، كان التعليم العام ضروريًا في وجود الصنف الخاص وفي حياته. أما في وقت صباه ومَنشئه فلا يشُكُّ أحد في ذلك، وأما عند نقلته إلى ما يخص فمن ضرورته ألا يستهين بما يشاغله، وأن يتأوَّل لذلك أحسن تأويل، وأن يعلم أن المقصود بذلك التعليم هو ما يعلم لا ما يخص وإنه إن صرح بشكٍ في المبادئ الشرعية التي نشأ عليها أو بتأويل أنه مناقض للأنبياء صلوات الله عليهم وصارف عن سبيلهم؛ فإنه أحق الناس بأن ينطق عليه اسم الكفر، وتوجب له في الملة التي نشأ عليها عقوبة الكفر. ويجب عليه مع ذلك أن يختار أفضلها في زمانه، وإن كانت كلها عنده حقًا وإن يعتقد أن الأفضل ينسخ بما هو أفضل منه. ولذلك أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام. ولا يشك أحد أنه كان في بني إسرائيل حكماء كثيرون، وذلك ظاهر من الكتب التي تلقى عند بني إسرائيل المنسوبة إلى سليمان عليه السلام. ولم تزل الحكمة أمرًا موجودًا في أهل الوحي وهم الأنبياء، ولذلك أصدق كل قضية هي أن كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبيًا، ولكنهم العلماء الذين قيل فيهم أنهم ورثة الأنبياء. وإذا كانت الصنائع البرهانية في مباديها للصادرات والأصول الموضوعة فبالحَرِيِّ يجب أن يكون ذلك في الشرائع المأخوذة من الوحي والعقل. وكل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلم أنه يمكن أن يكون هاهنا شريعة بالعقل فقط؛ فإنه يلزم أن يكون ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي. والجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدًا إذ كان لا سبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا بوجود الفضائل الحاصلة عن الأعمال الخلقية والعملية. فقد تبين من هذا القول أن الحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع هذا الرأي، أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسُّنن المشروعة في ملةٍ ملة. والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها مثل كون الصلوات عندنا، فإنه لا يشك في أن الصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى، وأن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بما شرط في عددها وأوقاتها وأذكارها وسائر ما شرط فيها من الطهارة ومن المتروك أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها. وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد فيها هو أحث على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها. ولذلك كان تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية كما قال الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهَارُ وقال النبي عليه السلام: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر). وقال ابن عباس (رضى الله عنه): ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء. فدل على أن ذلك الوجود نشأة أخرى أعلى من هذا الوجود، وطور آخر أفضل من هذا الطور. وليس ينبغي أن ينكر ذلك من يعتقد أنا ندرك الموجود الواحد ينتقل من طور إلى طور مثل انتقال الصور الجمادية إلى أن تصير مدركة ذواتها وهي الصور العقلية. والذين شكُّوا في هذه الأشياء وتعرضوا وأفصحوا به، إنما هم الذين يقصدون إبطال الشرائع وإبطال الفضائل، وهم الزنادقة الذين يرون أن لا غاية للإنسان إلا التمتع باللذات، هذا مما لا يشك أحد فيه. ومن قدر عليه من هؤلاء فلا يشك أن أصحاب الشرائع والحكماء بأجمعهم يقتلونه. ومن لم يقدر عليه؛ فإن أتم الأقاويل التي يحتج بها عليه وهي الدلائل التي تضمنها الكتاب العزيز، وما قاله هذا الرجل (يعني الغزالي) في معاندتهم هو جيد. ولا بد في معاندتهم أن توضع النفس غير ثابتة، كما دلَّت عليه الدلائل العقلية والشرعية، وإن توضح أن التي تعود هي أمثال هذه الأمثال التي كانت في هذه الدار لا هي بعينها؛ لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الوجود لمثل ما عُدم لا لعين ما عُدم كما بين أبو حامد. ولذلك لا يصح القول بالإعادة على مذهب من اعتقد من المتكلمين أن النفس عرض، وأن الأجسام التي تعاد هي التي تُعدم. وذلك أن ما عُدم ثم وُجد فإنه واحد بالنوع لا واحد بالعدد، بل اثنان بالعدد، وبخاصة من يقول منهم أن الأعراض لا تبقَى زمانين». انتهى كلام ابن رشد في خاتمة كتابه (تهافت التهافت). فنقول في هذا بكل حرية أننا كنا ننتظر من أبي الوليد تساهلاً أكثر من هذا التساهل، لأن القتل في شريعة الإنسانية الحقيقية محرم أيًا كان سببه، ولكن لا يجب أن ننسى أن أبا الوليد رحمه الله إنما كان في هذا الكتاب (تهافت التهافت) يردُّ على الإمام الغزالي. ولذلك كان فيه أقل جرأة مما كان في غيره. فلا غرابة بعد هذا أن يقصد تقوية حجته بشيء من التطرف والشدة. ومع ذلك فربما كان لأبي الوليد في هذه المسألة حجة أخرى. وهي رغبته في أن يتنصل من كل شبهة كانت تقع على المشتغلين بالفلسفة في تلك الأزمان، بسبب بعض من أصحاب العقول الجافة الذين يرون في الفلسفة ذرية إلى الانطلاق من كل قيد. وتأييدًا لهذا القول ننقل ما رواه رنان في الصفحة ١٧١ من كتابه (ابن رشد) وهذا نصُّه بحرفه: «كان خصوم الفلسفة يقولون إن هذه الصناعة تؤدي إلى الاعتقاد بقدم العالم ووجوب وجوده وإنكار البعث والحساب، والمعيشة بلا قيد ولا شريعة جريًا مع الشهوات. (قال الغزالي): ومما لا بد من التصريح به أن العلم الطبيعي أدى أحيانًا ببعض العلماء المسلمين إلى شيء من المادية. فإن طائفة «الحشَّاشين» الذين كان الخلفاء والأمراء يرتجلون منهم في قصورهم، إنما كانوا فلاسفة يقطعون أوقاتهم بتأليف كتب في الفلسفة. ولما دخل جيش المغول إلى قصرهم في علموت ذلك القصر الذي كان بمثابة عشٍّ للعُقبان، وجدوا فيه مدرسة علمية كاملة ومكتبة واسعة وغرفة لدرس العلم الطبيعي بالتجربة والامتحان، ومرصدًا للفلك آلاته في غاية الإتقان. وفضلاً عن ذلك؛ فإن الفلاسفة عند العرب كانوا على وجه الإجمال قليلي الاهتمام بالعبادات. فإن (ابن سينا) كان يشرب الخمر ويحب الغناء ويعكف على الملاذ ويفعل أفعال الجاهلية. وكثيرًا ما كان يصرف الليالي مع تلامذته في هذه الأمور. ولما قيل له مرة أن الخمر محرمة أجاب: «قد حرمت الخمر لأنها تثير الخصام والعداء بين الشاربين. وبما أنني معصوم من ذلك بحكمتي؛ فإنني أتناولها لتنبيه فكري وحث خاطري» (رواه الغزالي). وبذلك كان فلاسفة العرب معتبَرين بين أبناء وطنهم بمنزلة «الفجار» في القرن السابع عشر عندنا؛ لأنه يصعب التصديق بأن رجالاً واسعي النظر كأولئك الرجال لم يعلموا من قواعد الدين الرمزية فوق ما كان العامة يعلمونه. وقد قال الغزالي: «وقد نجد أحدهم (أي أحد الفلاسفة) يقرأ القرآن ويحضر الحفلات الدينية والصلوات ويثني على الدين من شفتيه، إذا سُئل إذا كنت لا تعتقد بالنبوءات فلماذا تصلي.؟ فإنه يجيب: لأن الصلاة عادة ووسيلة لإنقاذ حياتي من الموت. وهكذا لا يكف عن شرب الخمر وإتيان كل ضروب الشناعات والكفر». انتهى نقلاً عن رنان. نقول: فإذا كان أبو الوليد قد عني بالزنادقة هؤلاء الذين لا يحترمون الفضائل الدينية وينصِّبون أنفسهم مثالاً رديئًا للناس وغرضهم إبطال الشرائع والفضائل كما كان غرض «الحشاشين» الذين كانوا بمنزلة الطوائف الفوضوية في هذا الزمان؛ فإن له شيئًا من العذر في ما قاله. ولا ريب أنه يكون قد قال ما قاله من صميم قلبه لأن أفعالاً كهذه الأفعال تهدم ما تبنيه الفلسفة، وتسد السبيل في وجهها، إذ تنفر العقول منها، ولكن إذا كان أبو الوليد أطلق اسم «الزنادقة» على الباحثين بالعقل والمتطرفين في هذا البحث أكثر منه دون أن ينشأ عنهم ضرر بالفضائل فليس له عذر غير عذر الاتقاء والاحتماء. والحاصل من كل ما تقدم في هذا الموضوع أن الباحث في فلسفة ابن رشد بحثًا عميقًا دقيقًا يستخرج منها في هذه المسألة نتيجتين متناقضتين — كما تقدم — واحدة سلبية وواحدة إيجابية. وفي هذا القدر كفاية. ولكن قبل ختام هذا الفصل لا نرى بُدًا من نشر حكاية صغيرة مختصة بهذا الموضوع، وقد رواها جمال الدين في كتابه (تاريخ الفلاسفة) وعنه نقلها أبو الفرج. ومنها يظهر رأي أحد تلامذة ابن رشد في الموضوع الذي نحن في صدده. وهذا التلميذ هو يوسف بن يهوذا الطبيب الإسرائيلي الذي كان تلميذًا لابن رشد وموسى ميمون الفيلسوف المشهور. وقد تقدم أنَّ ميمون هذا هو أكبر دعاة فلسفة ابن رشد بعد وفاته. وقد كتب إليه تلميذه ابن يهوذا المذكور كتابًا يدل على ما كان لابن رشد من الشهرة لدى يهود أسبانيا حتى في حياته. وهذه هي خلاصة هذا الكتاب: «لقد أعجبتني أمس ابنتك «الثريا» الجميلة فخطبتها مخلصًا بحسب الشريعة المعطاة لنا على جبل سيناء. ثم تزوجتها بثلاثة طرق: الأول إنني أمهرتها ذهب الصداقة. والثاني أنني كتبت لها ميثاق حب؛ لأنني مولع بها. والثالث بضمها إلى صدري كما يضم الفتى الفتاة العذراء. ثم أنني بعد الحصول عليها بهذه الأمور الثلاثة دعوتها إلى فراش الزواج والحب، ولم أستعمل لذلك لا اللطف ولا العنف. فمنحتني حبها؛ لأنني كنت قد منحتها حبي ومزجت نفسي بنفسها. وقد حدث ذلك كله أمام شاهدين مشهورين وهما الصديقان ابن عبيد الله (أي موسى ميمون) وابن رشد، ولكن هذه الزوجة لم تستقر في فراش الزواج تحت سلطتي حتى أخذت تشرد مني وتطلب عُشاقًا غيري». انتهى كتاب ابن يهوذا. وهو يعني بهذه الفتاة «الفلسفة» التي تلقنها من أستاذيه ابن رشد وموسى المذكور. والظاهر أنه لم يبرع فيها، ولم يكن على اتفاق معها حتى قال أنها أخذت تشرد منه. فابن يهوذا هذا روى عنه جمال الدين مؤلف كتاب (تاريخ الفلسفة) ما يلي. قال: «كنت صديقًا حميمًا لابن يهوذا. ففي ذات يوم قلت له إذا كان حقًا أن النفس تحيا بعد مفارقة الجسد وتبقَى قادرة على معرفة الأشياء الخارجية؛ فعدني وعدًا صادقًا أنك إذا توفيت قبلي تأتي وتخبرني بما هنالك، لأعدك بأنني إذا مت قبلك أفعل — أيضًا — ذلك. فأجابني إلى هذا السؤال وتواعدنا على هذا الأمر. ثم إنه توفِّيَ ومرت بضع سنوات دون أن يظهر لي، ولكنني في ذات ليلة رأيته في الحلم فقلت له: أيها الطبيب. أما وعدتني بأن تأتي بعد الموت وتطلعني على ما جرى لك. فضحك وأدار عني وجهه. فقبضت عليه حينئذ من يده وقلت له: «لا أتركك حتى تخبرني كيف يكون الإنسان بعد الموت». فأجابني: إن العام عاد إلى العام والخاص دخل في الخاص. ففهمت حينئذ كلامه الذي معناه أن النفس التي هي جوهر عام قد عادت إلى الجوهر العام. والجسد الذي هو عنصر خاص قد عاد إلى الأرض مستقر العنصر الخاص. ثم انتبهت وأنا أعجب برشاقة جوابه. مما هو جدير بالذكر أن العرب لم يهتموا بمؤلفات اليونان الأدبية اهتمامهم بمؤلفاتهم الفلسفية والمنطقية والطبيعية. ولعل السبب في ذلك أن مؤلفاتهم الأدبية كانت مخصوصة بهم. مثال ذلك الإلياذة والأوديسة وخطب ذيموستينوس وغيرها. فإن هذه الكتب الأدبية البديعة لا ذكر فيها إلا للمسائل اليونانية الخصوصية التي قلما يهتم بها باقي الناس سوى طلاب البلاغة، ولكن العرب الذين نبغ في لغتهم من عرفنا من الشعراء والخطباء في الجاهلية وبعدها معذورون إذا لم يقتدوا بالإفرنج في طلب البلاغة من المؤلفات اليونانية. ومع ذلك؛ فإننا نأسف أسفًا شديدًا لهذا النقص، لأنه لو أقبل العرب يومئذ على مؤلفات اليونان الأدبية إقبالهم على غيرها من مؤلفاتهم، لأضافوا خزائن البلاغة اليونانية إلى خزائن البلاغة العربية. وقد تقدم في الفقرة السادسة أن فلسفة ابن رشد الأدبية لم تشغل سوى حيز صغير بإزاء فلسفته الطبيعية. وقد كان الخلاف بينه وبين المتكلمين في الفلسفة الأدبية شبيهًا بالخلاف بينه وبينهم في فلسفته الطبيعية. وسيرِد معنا في الباب الثالث عند الكلام على مسألة «الأسباب» أن هذه المسألة هي النقطة التي تدور عليها كل المسائل الفلسفية والدينية بين ابن رشد ومناظريه. فإن مناظري ابن رشد من المتكلمين كانوا يقولون إن الله يصنع الخير؛ لأنه يشاء صنعه. وهو يشاء صنعه لا لسبب داخلي لازم وسابق لإرادته؛ بل عبارة عن إرادة مطلقة غير مقيدة بسنن ونواميس. ولذلك قال لهم ابن رشد في شرحه كتاب أفلاطون في الجمهورية أن مذهبًا كمذهبهم ينقض كل مبادئ العدل والحق، ويهدم كل قواعد الدين التي يقولون إنهم يدافعون عنها. وأما حرية الإنسان؛ فهو يقول فيها ما خلاصته: «إن الإنسان غير مطلق الحرية تمامًا ولا مقيِّدُها تمامًا، وذلك أنه إذا نظر إليه من جهة نفسه وباطنه؛ فهو حر مطلق؛ لأن نفسه مطلقة الحرية في جسمه، ولكن إذا نظر إليه من جهة حوادث الحياة الخارجية كان مقيدًا بها لما لها من التأثير على أعماله». وهو يقول: إن هذا هو السر في أن القرآن يجعل الإنسان تارة مختارًا وتارة مقيدًا. وهذا المذهب وسطٌ بين الجبرية والقدرية. وقد شرحه أبو الوليد في كتاب له في إظهار طرق العقائد الدينية. وقال في كتابه في الطبيعيات إنه كما أن المادة الأولى التي صنع العالم منها كانت قابلة لكل الانفعالات التي تحدث فيها بصور مختلفة متقابلة، كذلك نفس الإنسان قابلة لهذه الانفعالات المتقابلة المختلفة، ولها المقدرة على اختيار بعضها دون بعض. رأيه في السياسة وفي النساء — أما فلسفة ابن رشد السياسية فهي مبنية على فلسفة أفلاطون وقد بسطها في شرحه «جمهورية» هذا الفيلسوف. وخلاصتها أنه يجب إلقاء زمام الأحكام إلى الشيوخ والفلاسفة ليديروها بقسط وعدل. ويجب حث الناس على الفضائل بتعليمهم البيان والعلوم التي تثقف العقل. أما الشِّعر وخصوصًا الشعر العربي؛ فإنه مضرٌ. ولعله رأى أن الشعر العربي مضرٌ لما يكون فيه أحيانًا من الغزل الذي يجُر إلى التهتك ورغبته في إفناء روح الجاهلية. ومما يقال في هذا المقام أن أبا الوليد كان لا يكره الشعر العربي في حد ذاته، لأنه كان يحفظ شعر حبيب والمتنبي ويكثر التمثيل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد «كما قال ابن العبَّار، ولكن طبيعته لم تكن شعرية. أي أن العقل كان فيه أقوى من القلب، ولذلك كان تحمسه نادرًا خلافًا للإمام الغزالي. وهذا أمر ظاهر في كتاباته كل الظهور؛ فإنك تراها ثابتة ثقيلة الخطى كأن ألفاظها جبال تتدحرج بعضها وراء بعض بلا وثبة ولا حركة شديدة خلافًا لكتابات الغزالي التي يُخيل لك أنها مكتوبة بقلم من نار، ولكنك في مقابل ذلك تجد في كتابات أبي الوليد ذلك العقل الرزين المقنع الثابت الجأش الذي يلبث في تلك الجبال المتدحرجة روحًا حية تتضوع منها ريح النزاهة والاعتدال. قال رنان: ويؤخذ من رأي ابن رشد في المملكة أن استغناءها عن القضاة والأطباء كان عنده خير دليل على انتظام شئونها، أما الجيش فلا وظيفة له غير حماية الشعب وحفظه. ولذلك فقد كان يكره الاستبداد العسكري والإقطاعات العسكرية. وقد كان ابن رشد يستشهد على صحة قوله هذا بإناث الكلاب التي تحرس الغنم حراسة شديدة. كحراسة الذكور. وهو يقول في هذه المسألة الخطيرة ما خلاصته: «إن معيشتنا الاجتماعية الحاضرة لا تدعنا ننظر ما في النساء من القوى الكامنة. فهي عندنا كأنها لم تخلق إلا للولادة وإرضاع الأطفال، ولذلك تنفي هذه العبودية كل ما فيها من القوة على الأعمال العظيمة. وهذا هو السبب في عدم وجود نساء رفيعات الشأن عندنا. وفضلاً عن ذلك؛ فإن حياتهن أشبه بحياة النبات وهن عالة على رجالهن، ولذلك كان الفقر عظيمًا في مدننا؛ لأن عدد النساء فيها مضاعف عدد الرجال وهن عاجزات عن كسب رزقهن الضروري. ومن رأي ابن رشد أن الحاكم الظالم هو ذلك الذي يحكم الشعب من أجل نفسه لا من أجل الشعب. وإن شر الظلم ظلم رجال الدين. وإن أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية من الصلاح. فكأنما وصف أفلاطون حكومتهم لما وصف في «جمهوريته» الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أن تكون مثالاً لجميع الحكومات، ولكن معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم، وأقام مكانه دولة بني أمية وسلطانها الشديد. ففتح بذلك بابًا للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة قاعدة حتى في بلادنا هذه (الأندلس). هذا ما رأينا ذكره في هذا الباب بشأن فلسفة ابن رشد. وقد تناولنا كل فقرة من الفقرات المنشورة في صدر هذا الباب نقلاً عن «الجامعة» وشرحناها شرحًا وافيًا. فإذا أخذت الآن كل فقرة منها وعرضتها على الفقرة التي شرحناها فيها؛ اتضحت لك صحة كل ما نشرناه أول مرة عن فلسفة هذا الفيلسوف. بقيَ علينا أن نظهر ما في فلسفة ابن رشد من الموافقة لفلسفة أرسطو، وما فيها من المخالفة التي نشأت عن الزيادة عليها فنقول. فمما لا ريب فيه قطعيًا أن القسم الأول والثاني يدخلان في فلسفة أرسطو؛ لأنه أثبتهما في كتبه. والقسم الثالث يمكن إثباته من كتبه، ولكن بعض الفلاسفة المعاصرين ينكرون ذلك وينقضونه. بقيَ القسم الرابع والخامس وهما من موضوعات فلاسفة العرب الذين أدخلوا هذه الزيادات على فلسفة أرسطو، حين شرحهم لها وهم يحسبون أنهم يكملونها ويهذبونها.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/3/
الفلسفة الرُّشدية عند اليهود
وقد روى بعض المؤرخين أن موسى هذا كان من تلامذة ابن رشد. وقد أقام ضيفًا في منزله في قرطبة إلى يوم اضطهاده ونفيه منها، ولكن بعضهم أثبت أن موسى برح الأندلس قبل نفي ابن رشد بثلاثين سنة، فرارًا من الاضطهاد الذي كان يصيب المشتغلين بالفلسفة في بعض الأزمان. ومع ذلك؛ فإن موسى يقول في أحد مؤلفاته إنه كان تلميذًا لأحد تلامذة ابن بجا. غير أنه لا يُسمى ابن رشد. وأول مرة سماه فيها كانت في كتاب كتبه في سنة ١١٩١ للميلاد من القاهرة مُلجئُه إلى تلميذه يوسف بن يهوذا الذي تقدم ذكره. وهذا نص هذا الكتاب: «لقد وصلني في المدة الأخيرة كل ما ألفه ابن رشد في تلاخيص أرسطو لكتابه (الحس والمحسوس). وقد ظهر لي أنه قد أصاب كل الإصابة، ولكني لم أتمكن إلى الآن من البحث في مؤلفاته بحثًا وافيًا». ومنذ هذا الحين أخذ موسى يدرس فلسفة ابن رشد، ويقابلها بفلسفة أرسطو الأصلية. ثم استخرج من الفلسفتين فلسفة رامَ تطبيقَها على الشريعة اليهودية. فقال: إن العالم غير قديم، أي أن المادة غير أزلية كما يقول الفلاسفة، ولكن ما ذُكر في سفر التكوين من خلق العالم لم يقصد به موسى سوى وصف ترتيب الكائنات بعد تكوينها، لا في بدء تكوينها. ومع ذلك؛ فإنه لا يُعتقد بأن القول يقدم العالم كفرٌ؛ لأن ذلك يمكن تطبيقه على الشريعة. وهو يعتقد في شخصية العقل أي انقسامه في الإنسان حتى يصير كل عقل فيه نفسًا قائمة بذاتها، ما يخالف اعتقاد ابن رشد في هذا الموضوع من بعض الوجوه. وسبب هذه المخالفة رغبته في التسوية بين حزب الفلسفة وحزب الدين الإسرائيلي. وهذه الرغبة جعلته يؤوِّل مسألة البعث وحشر الأجساد تأويلاً ظهر فيه ارتباكه واضطرابه. وخوفًا من أن يقع في شيء شبيه بتعليم المسيحيين بشأن الألوهية لم يجسر أن ينسب إلى الله تعالى صفات خصوصية كالوجود والوحدة والأزلية؛ لأن هذه الصفات تجر إلى غيرها وهذه إلى غيرها وهلم جرَّا. ولذلك قال المقريزي المؤرخ العربي المشهور أن موسى هذا كان يعلم أبناء وطنه الكفر والتعطيل. وقال غيليوم دوفرن طاعنًا على الفلسفة، ومستنكرًا إقبال اليهود عليها. إن جميع اليهود الخاضعين للعرب في أسبانيا تركوا شريعة إبراهيم وتَمَذْهَبوا بمذهب العرب والفلاسفة. أما رأي موسى في العلم والنبوءة فهو أن العلم ضروري للإنسان إذ به كماله وتمامه. والعالم تبدأ جنته وسعادته في هذه الدنيا، ولكن العلم لا يدركه إلا الخواص، ولذلك لا بد من النبوءة للعوام. وهذا هو السبب في إنزال الله الوحي على الأنبياء. وما الوحي إلا حالة كمال طبيعي يبلُغه بعض البشر المختارين، لذلك فهو بمنزلة فيض العقل الفاعل على الإنسان المختار فيضانًا مستمرًا. ومما لا يحتاج إلى بيان أن الأكليروس اليهودي قاوم تلك الأصول الفلسفية كما قاومها أكليروس باقي الأديان في كل مكان. وسيرِد تفصيل ذلك في موضع آخر، ولكن حزب الفلسفة تغلب على حزب التقليد الديني في بدءِ الأمر، فاستمر الباحثون اليهود في أبحاثهم الفلسفية إلى أجل مسمَّى. ولما هجر اليهود الأندلس إلى بروفنسيا والأقاليم المتاخمة لجبال البيرينة فرارًا من الاضطهاد وخالطوا جماعات الإفرنج في بلادهم هجروا اللغة العربية التي كانوا يكتبون ويؤلفون بها، وشعروا بالحاجة إلى ترجمة كتبهم الفلسفية السابقة إلى اللغة العبرانية. فأخذوا منذ ذلك الحين في هذا العمل. وأول من شرع منهم فيه أسرة تُدعى أسرة طِيبون، أصلها من الأندلس، وقد هاجرتْ منها إلى لونل في فرنسا. فترجم اثنان من رجالها وهما موسى بن طِيبون وصموئيل بن طِيبون بعض تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو. فكانا أول مترجمي فلسفة ابن رشد إلى لغة أجنبية. وكان الإمبراطور فردريك الثاني — إمبراطور ألمانيا — من محبي نشر الفلسفة ومحالفي الإسلام والمسلمين على الأكليروس المسيحي، كما سيرد تفصيل ذلك، فعهد إلى كثيرين من كَتَبَةِ اليهود في إخراج فلسفة العرب إلى اللغة العبرانية واللغة اللاتينية. وكان يهوذا بن سليمان كوهين الطُّليطِلي من مقربيه؛ فألَّف له في سنة ١٢٤٧م كتابًا سمَّاه (طلب الحكمة) واعتمد فيه على ابن رشد. فكان هذا الكتاب في مقدمة كتب ابن رشد التي صدرت باللغة العبرانية. ومن الكُتاب الذين عهد إليهم الإمبراطور فردريك ترجمة فلسفة العرب، مؤلف يهودي من بروفنسيا كان مقيمًا في نابولي، وهو يُدعى يعقوب بن أبي مريم بن أبي شمشون أنتولي. وكان هذا الكاتب صهرًا لعائلة طِيبون التي تقدم ذكرها. فترجم للإمبراطور في حوالي سنة ١٢٣٢ عدة كتب من تأليف ابن رشد، وقد أثنى في خاتمة أحدها ثناءً عظيمًا على الإمبراطور، وتمنى لو يظهر المسيح (أي المسيح الذي ينتظره اليهود) في عهده. ذلك لأن هذا الإمبراطور كان مقاومًا للأكليروس المسيحي كما تقدم. ثم قام بعد ذلك كالونيم بن كالونيم بن مير من مدينة أرل الذي ولد في سنة ١٢٨٧ وأخذ يترجم كُتبَ ابن رشد إلى اللغة العبرانية. وقد كان هذا الكاتب يعرف اللغة اللاتينية؛ فترجم إليها كتاب (تهافت التهافت) في عام ١٣٢٨ ثم قام بعده عدة مترجمين. وهكذا لم يأت القرن الرابع عشر حتى بلغت فلسفة ابن رشد عند اليهود أعلى منزلة. ومما زاد في رفعة سلطانها قيام فيلسوف يهودي يُدعى «لاوي بن جرشون» من مدينة بانيول، وهو معروف عند الإفرنج باسم «لاون الأفريقي» فهذا الفيلسوف كان أكبر فلاسفة اليهود في عصره، وقد صنع بفلسفة ابن رشد ما صنعه ابن رشد بفلسفة أرسطو. أي أنه شرح فلسفة ابن رشد شرحًا تامًا، حتى صار شرحه هذا قرينًا لفلسفة ابن رشد، كما كان شرح ابن رشد قرينًا لفلسفة أرسطو. وذلك يدل على أن العصور الماضية كانت تؤثر التلخيص على التطويل. ولا غرابة في ذلك؛ فإن الملخص الماهر إنما هو بمثابة الغائص على الدُّرر واللآلئ، يلتقط الأنفَس فالأنفَس، ويترك الحشو الممل، الذي كان ضروريًا في زمنه، وليس بضروري في كل زمان. وكان هذا الفيلسوف (لاون) أجرأ فلاسفة اليهود الذين تقدموه. فأقدم على ما أحجم عنه موسى ميمون (زعيم فلسفة ابن رشد) فقال بقدم العالم وأزلية المادة وباستحالة إمكان الخلق من لا شيء وبأن النبوءة قوة من القوة الإنسانية الطبيعية. وبذلك لوى قواعد الشريعة اليهودية ليطبقها على العلم وجعلها تابعة له. وكان موسى نربون في ذلك الزمن يفعل فعل لاوي جرشون في الفلسفة. ولكن لم يأتِ القرن الخامس عشر حتى ضعفت الفلسفة اليهودية وذهب دور الجرأة والجسارة في العلم والفلسفة. وكان آخر فلاسفة اليهود المشهورين إلياس دل مديجو الذي كان أستاذًا في كلية بادو. وكانت كلية بادو تدرس يومئذ فلسفة أرسطو، فامتزجت يومئذ فلسفة اليهود الرُّشدية بفلسفة بادو المبنية على المبادئ العربية. قال رنان: وقد تحققت إن هذه المدرسة تدرس إلى هذا الزمن كتابًا لابن رشد في مختصر المنطق نُشر في ريفادي ترنتو باللغة اللاتينية في عام ١٥٦٠. وفي أوائل القرن السادس عشر انتبه حزب التقاليد الدينية اليهودية من سباته، وأعاد الكرة على الفلسفة. فنشر أحد رجاله وهو ربي موسى المشنيو كتاب (تهافت الفلاسفة) للإمام الغزالي، وذلك حوالي عام ١٥٣٨ ردًا على فلاسفة اليهود الذين كانوا يؤيدون فلسفة ابن رشد وأرسطو. ثم ضعفت هذه الفلسفة شيئًا فشيئًا بإزاء الفلسفة الحديثة التي أخذت تحل محلها. فمن ذلك يظهر أن الفلسفة الرُّشدية لولا اليهود لانطفأ نورها في العالم كما انطفأ في الأندلس ولم تصل إلى الأمم الأوروبية. ولذلك كان لليهود فضل على الفلسفة لا يُنكر. وكان شأنهم بين العرب وأوروبا شأن النساطرة والسريان بين اليونان والعرب. فكأن العرب أخذوا من اليونان بأيدٍِ سريانية نسطورية، وأعطوا أوروبا بأيدٍ يهودية.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/4/
الفلسفة الرُّشدية وتاريخها في أوروبا
قد يؤخذ من الأسطر السابقة أنه لولا اليهود لما انتشرت فلسفة ابن رشد في أوروبا. والحقيقة أن هذا الانقطاع والاختصاص لا وجود لهما في الطبيعة. فإن فكر البشر بمثابة فضاء لا نهاية له، تتراوح فيه كل النسمات التي تحرك أمواجَ هوائه. فإذا لم تصل هذه الأمواج بهذه الواسطة وصلت بتلك، إذ ليس في استطاعةِ أحد أن يوقف وصولها إلى الحد الذي رسمته لها اليد الأزلية بالأسباب الأزلية التي تدير النظام الأزلي. فلو لم يقم اليهود بنقل فلسفة ابن رشد إلى أوروبا لقام غيرهم، أي الذين يكونون في مكانهم؛ لأن الفراغ مستحيل في النواميس الطبيعية. ولقد كان في العصور الوسطى دليلٌ على هذا النظام الذي يحكم العالم الأدبي كما يحكم العالم المادي، أي نظام تبادل الأفكار في العالم وامتزاج الأشياء بعضها ببعض. وهذا أمر يذكرنا وا أسفاه بانقلاب الحال وتبدل الزمان؛ فإنه ما كما أن الكتب العلمية والأدبية والفلسفية الجديدة التي تنشر في جميع أقطار أوروبا اليوم لا تصدر حتى ترسل إلى المكاتب الإفرنجية القائمة في شارع شريف باشا والإسماعيلية في مصر، وتعرض في بيوتها الزجاجية على الناس، هكذا كانت الكتب العربية ترسل حال صدورها من القاهرة وبلاد المغرب والعراق إلى مكاتب باريز وكولونيا وغيرها. وربما كانت هذه الكتب أسرع في الانتقال من الكتب الإفرنجية التي تنقل اليوم إلينا؛ لأنها كانت مطلوبة في أوروبا طلبًا، وهذه معروضة على الشرق عرضًا. ذلك أن الغرب كان يومئذ مغرمًا بمعارف الشرق. ولم يكن مغرمًا بها لذاتها فقط، بل لأنه رأى أن ذلك التمدن الإسلامي العظيم الذي قام بجانبه وفي بلاده، لم يقم إلا بها ولم يبن إلا عليها. ولذلك لم ينكر أخذ العلم عن الأجانب عنه ولم يكره التشبه بهم في فضائلهم وحسناتهم؛ لأنه كان يعلم أن التشبه بالكرام فَلاحٌ، وأنه لم يكن يحذو حذوهم ويتلو تلوهم إلا لمحاربتهم بعد ذلك بنفس سلاحهم. وهذا مطابق لما جاء في القول الجليل: «اطلبوا العلم ولو في الصين». ولقد كان الفضل في الشروع في ترجمة كتب الفلسفة العربية في أوربا إلى اللغة اللاتينية لرئيس أساقفة طليطلة مونستيور دريموند؛ فإن هذا الأسقف أنشأ في طليطلة من سنة ١١٣٠ إلى سنة ١١٥٠ دائرةً لترجمة الكتب العربية الفلسفية، أخصها كتب ابن سينا، إذ لم تكن كتب ابن رشد اشتهرت بعد. أما الكتب العربية الطبية والفلكية والرياضية؛ فقد كان سبقه إليها كثيرون مثل قسطنطين الأفريقي وجربرت وأفلاطون دي تريغولي. وقد جعل هذا الأسقف الأرشيديا كردومينيك كونديسالفي رئيسًا لدائرة الترجمة. وكانت هذه الدائرة مؤلفة من مترجمين من اليهود أشهرهم يوحنا الأشبيلي. فأخرجت إلى اللغة اللاتينية كثيرًا من مؤلفات ابن سينا. وبعد بضع سنوات ترجم جراردي كريمون وألفريد دي لولاي بعض كتب لأبي نصر الفارابي والكندي. وبذلك كانت أوروبا مديونة لأسقف طُليطلة بإدخال فلسفة العرب إليها. ومن الغريب أن الفلسفة التي صنعت في أوروبا بعد ذلك ما صنعته بالدين إذ كان دخوله إليها على يد واحد من أكابر رجال الدين. وكان عالم الأدب الأوروبي متصلاً يومئذ بالعالم من جهتين. الأولى من جهة الأندلس وعلى الخصوص طُليطلة التي تقدم ذكرها. والثانية من جهة صقلية ومملكة نابولي. وكان المترجمون يترجمون الكتب العربية في هاتين الجهتين. وكانت دائرة الترجمة مؤلفة دائمًا من اليهود وأحيانًا من بعض المسلمين الأندلسيين المنضمين إلى الأوروبيين، وفيها الرئيس من الرهبان لمراقبة صحة الألفاظ اللاتينية. وكانوا في القرن الثاني عشر والثالث عشر يترجمون من العربية إلى اللاتينية مباشرة، إلا أنهم بعد هذا الزمن صاروا يترجمون الكتب العربية من العبرانية. ولا يسعنا في ختام هذا الفصل إلا مقابلة حالة الغرب الماضية بحالة الشرق الحاضرة. فنقول: إنه إذا كان مبلغ نهضة الأمم يقاس باهتمامها بالمعارف، فجدير بنا أن نقول بعدما تقدم بيانه أن نهضة الشرق بعد كبوته لا تزال في طفولية مؤلمة؛ لأنه إلى الآن لم تتألف فيه دائرة لترجمة نفائس الكتب الأوروبية، فضلاً عن إحياء الكتب العربية القديمة. فعسى أن يعين الله «الجامعة» على عجزها وضعفها للقيام بشيء يسير من ذلك الواجب المقدس، وينبه الشرق من سباته بواسطة نبهائه وفضلائه لطلب المبادئ والحقائق لا التجارة الكُتُبية والصحافية.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/5/
ناشرو الفلسفة الرُّشدية في أوروبا ومعارضوها
قبل انتشار فلسفة ابن رشد في أوروبا كانت الفلسفة فيها عبارة عن تعاليم لاهوتية مجموعة من عدة كتب مختلفة مما كتبه أصحاب المذاهب اللاتينية. فلما دخلت فلسفة العرب إلى أوروبا، حصلت أوروبا بذلك على مجمل فلسفة أرسطو أي مجمل دائرة المعارف القديمة. وقد ذكرنا أن أول من أدخل فلسفة العرب إلى أوروبا رئيس أساقفة طُليطلة بالأندلس، وذلك بترجمته كتب ابن سينا. أما أول من أدخل فلسفة ابن رشد إليها؛ فهو ميخائيل سكوت وذلك في عام ١٢٣٠ في طُليطلة — أيضًا — وذلك دعوة مؤسس الفلسفة الرُّشدية في أوروبا. وكان ميخائيل سكوت من المقربين إلى بلاط ألمانيا، وقد عهد إليه الإمبراطور فردريك الثاني الذي كان يكره رجال الدين بترجمة فلسفة أرسطو عن العرب. وسيرِد معنا في موضع آخر أن هذا الإمبراطور هو السبب الحقيقي في جرأة الفلاسفة والمترجمين على ترجمة الكتب الفلسفية. وبعد ميخائيل سكوت قام هرمان الألماني فحذا حذوه محميًا من الإمبراطور — أيضًا — والأرجح أنه اعتمد في ترجمة كتبه على بعض عرب الأندلس العارفين باللغة العربية الفلسفية. حتى أنه ما انتصف القرن الثالث عشر حتى كانت جميع كتب ابن رشد المهمة قد ترجمت إلى اللغة اللاتينية. أما كتبه الطبية؛ فإنها لم تنشر إلا بعد كتبه الفلسفية. ولما نفذت فلسفة العرب إلى أوروبا، وانتشرت بين أيدي الناس في الكليات والمدارس والمكاتب والجمعيات، وذلك قبل بلوغ فلسفة ابن رشد فيها أوج النفوذ والسلطان، اشتغل الأكليروس الأوربي بمقاومتها؛ لأن أصولها مخالفة لقواعد الأديان الموجودة. وأول مقاومة حدثت في وجهها كانت في المجمع الأكليريكي الذي عقد في باريز في عام ١٢٠٩؛ فإن هذا المجمع حكم على المشتغلين بها وهم أموري ودفيد دي دنيان وتلامذتهما وشجب «تعليم أرسطو الطبيعي وشروحه» وربما كان في هذه الكلمة «الشروح» إشارة إلى شروح ابن رشد؛ لأن كلمة «الشارح» على الإطلاق لا تطلق على سواه. ومهما يكن من هذا الأمر؛ فإن هذا المجمع إنما كان غرضه ضرب أرسطو الداخل إلى بلادهم بواسطة العرب، مترجمًا عن العرب ومشروحًا من العرب. وفي عام ١٢١٥ حرَّم الأكليروس تعليم أرسطو — أيضًا — خصوصًا (تلاخيص ابن سينا). وفي عام ١٢٣١ أصدر البابا غريغوريوس التاسع حرمًا بمنع درس فلسفة العرب. وكان السبب الذي جعل الأكليروس يقومون على فلسفة العرب نفس السبب الذي جعل المسلمين واليهود يقومون عليها قبل ذلك. فإن هذه الفلسفة تجعل للعالم نواميس طبيعية ومن عقائدها أن العالم قديم أزلي غير مخلوق منذ بعضة آلاف من السنين فقط وإن الخالق لا يصنع شيئًا في الكون إلا بسبب «لازم». وكان رجل الدين يومئذ لم يتعودوا سماع هذه النغمة؛ لأن العلم الطبيعي لم يكن قد رفع الغطاء عن النواميس الطبيعية. ولذلك؛ فقد كانوا يومئذ معذورين في إنكارها. وإنما ذنبهم الوحيد الاضطهاد لا الإنكار. أي الرغبة في خنق الفكر؛ لأنه يعتقد اعتقادًا مخالفًا لمعتقدهم. ولكن من حسن حظ أوربا أنها لم تصر على هذا الخطأ الفاضح؛ فإن اللاهوتيين فيها اضطروا بحكم الضرورة إلى تغيير سياستهم في مقاومة الفلسفة مقاومة عمياء، وصاروا يتخذون منها سلاحًا لمحاربتها به. فقام غيليوم دوفرن وحمل على فلسفة العرب خصوصًا ابن سينا حملة شديدة، فسماه: «المجدِّف القاذف»، ولكنه كان يقول عن ابن رشد: «إنه فيلسوف رزين عاقل وإنما سوء فهم تلامذته شوَّه تعليمه». وكان هذا الرجل (غيليوم دوفرن) أول اللاهوتيين الذين يجوز أن يقال فيهم أنهم كانوا يعرفون فلسفة ابن رشد، ومع ذلك فقد كان أشد أعداء هذه الفلسفة مع كثرة ثنائه على صاحبها؛ لأنه كان من أشد أعداء الفلسفة العربية. وبعد غيليوم دوفرن قام اللاهوتي ألبير الكبير، وكان من محبي ابن سينا وكان يعتبره أستاذًا له. وأما ابن رشد؛ فإنه لم يكن يعبأ به، وإذا اتفق وذكره في كتاباته؛ فإنه لا يذكره إلا لتعنيفه على اجترائه على مخالفة الأستاذ الرئيس (ابن سينا) وقد رد ألبير الكبير على فلسفة العرب ردودًا كثيرة. وبعد ألبير الكبير قام القديس توما الذي هو أكبر الخصوم الذين وجدتهم فلسفة ابن رشد في طريقها.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/6/
القديس توما
وقد قلنا إن القديس توما كان أكبر خصوم فلسفة ابن رشد. ولم نرِد بذلك أنه كان أشدهم تطرفًا وغلوًا في الطعن على حكيم قرطبة، بل نعني أنه كان أقواهم حجة وأقدرهم على نقد فلسفته. أما المتطرفون في الطعن على ابن الوليد فسيرد ذكرهم. ولقد كان القديس توما يعتبِر ابن رشد حكيمًا من الحكماء الأجانب. قال رنان: وفي الإمكان أن نقول إن القديس توما كان أكبر تلامذة ابن رشد؛ فإنه بصفته فيلسوفًا فهو مديونٌ بكل شيء للشارح العربي (ابن رشد). ومما استدل به رنان على أن القديس توما كان تلميذًا لابن رشد (أي آخذًا عنه) شرحه أرسطو على الطريقة التي شرحه بها ابن رشد، ونقله من فلسفته أقوالاً مطابقة لكتابات أبي الوليد. وكان القديس توما أعظم فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة، بل هو أعظم حكيم قام في الكنيسة الغربية. أما نقضه الفلسفة العربية والرُّشدية فلم يتكلف له عناء شديدًا على ما يظهر؛ لأن الهدم سهل. وقد صرف همه في هذا الرد إلى المسائل العليا المبنية عليها الفلسفة العربية. وهي أولاً أزلية المادة وعدم المقدرة على وصف حقيقتها. ثانيًا ارتباط المبادئ الأولى التي صدر العالم عنها بعضها ببعض. ثالثًا كون العقل الأول الذي صدر عن المبدأ الأول أي الخالق عز وجل واسطة بينه وبين العالم الذي صدر عنه أي عن العقل. ووحدة هذا العقل. رابعًا إنكار العناية الإلهية كما يتصورها العامة. خامسًا استحالة الخلق أي الإيجاد من العدم بلا واسطة التولد والنمو. ومما هو جدير بالذكر أن القديس توما لم يعتمد على الفلسفة اللاهوتية القديمة في الرد على فلسفة ابن رشد، بل أخذ من المبادئ الأرسطوطاليسية سلاحًا لمحاربة هذه الفلسفة. وأول شيء وضعه أن أرسطو أخطأ في شيء، والعرب الذين جاءوا بعده زادوا على فلسفته أشياء، فازداد الخطأ بذلك، ولكن لُباب فلسفة أرسطو صحيح. وقد قال القديس توما بصحتها؛ لأنه استطاع أن يستخرج منها مسألة خلود النفس التي هي مسألة المسائل. وذلك أنه أثبت من كتب أرسطو أن هذا المعلم كان يعتقد بأن النفس جوهر قائم بذاته. أما رد القديس توما على فلسفة ابن رشد في خلق العالم؛ فقد كان بمثابة تخلص لا يرده العقل؛ فإنه قال: إن خلق العالم لم يكن عبارة عن حركة — كما يقول ابن رشد وأرسطو — وأن هذه الحركة تقتضي شيئًا تحركه، بل كان عبارة عن صدور وفيضان، ولكن لا يجب أن نعتبر أن أرسطو وابن رشد قد خدشا الإيمان بهذا القول؛ فإنه قول صحيح بالنظر إلى الحالة الحاضرة. ذلك أنه لا يحدث الآن شيء جديد في العالم بدون حركة ومادة، ولكن في بدء الخلق كانت الحالة على غير ما هي عليه اليوم. أي أن وجود الشيء كان عبارة عن صدور وفيضان بلا احتياج إلى مادة يُصنع منها. ولقد أخطأ أرسطو خطأً شديدًا بقوله بأزلية الزمان والحركة، ولكن لم يكن يجوز لابن رشد أن يستنتج من هذا الخطأ القول باستحالة الخلق. أما في مسألة وحدة العقل؛ فقد كان الحكيم توما يتحمس أكثر من تحمسه في مسألة الخلق. فقد كان يقول إن القول بوحدة العقل في الإنسانية خطأ عظيم؛ لأنه يفضي إلى الاعتقاد بأن القدِّيسين والأبرار لا فرق بينهم وبين باقي الناس. ورغبة في نقض هذا الجانب الضعيف في فلسفة ابن رشد نقضًا تامًا، رجع القديس توما إلى حكماء المتقدمين من يونان وعرب فقال: إن هذه المسألة لم يقل بها أحد لا أرسطو ولا اسكندر دفروزياس شارحه اليوناني ولا ابن سينا ولا الغزالي ولا ثيوفراستوس ولا ثميستيوس؛ فإن جميع هؤلاء الحكماء كانوا يعتبرون العقل قابلاً للانقسام في البشر. وتوصلاً لتأييد هذا القول أثبت القديس تومًا أن مبدأ الشخصية هو عبارة عن مادة موجودة خلافًا لقول ابن رشد أن الشخصية هي صورة لا غير. وقد قال رنان: لا ريب أن القديس توما مصيب في إثباته شخصية الإنسان وإنكار كونها صورة؛ فإن العقل يقول «أنا» ويعرف أنه موجود مستقل، ولكن أرسطو لا يقول إن الشخصية هي عبارة عن صورة بل يقول إنها عبارة عن صورة وهيولى. ولو كان لكل إنسان عقل مخصوص لوجب أن يكون في الكون عدة أنواع من العقل، وتحتم أن يخلق الله عقولاً في كل يوم إلى ما لا نهاية له. فالأبسط من ذلك كله أن يقال أن عقل الإنسان ينمو بنمو جسمه، وشأنه في ذلك شأن باقي الأعضاء. وقد رد القديس توما على ابن رشد قوله في مسألة اتصال العقل الفاعل بالعقل المنفعل، واتصال العقل المفارق بالإنسان. فقال إننا لا نرى شيئًا ولا نفهم شيئًا، بل انعكاس صورته عن ذهننا. ولذلك يستحيل على المادة إدراك العقل المفارق لها، ولكن أحد تلامذة القديس توما وهو بييردوفرن لم يتابع معمله فأيد بناءً على تعليم القديس دنيس الأربو باجيثي أن العقل الإنساني يمكنه أن يرى الخالق. ورأيه في ذلك موافق لرأي ابن رشد. «إن فمي يحدث بالحق وشفتاي تبغضان الضلال» وحول كرسي القديس توما تحت قدميه أي على مزاراتهما علماء الكنيسة الذين سبقوه وأشعة النور منتشرة عليهم من مؤلفاته العديدة الموضوعة على ركبتيه. ومن هذه الأشعة شعاع يصيب شخصًا ساقطًا على الأرض في جانب الرسم مع كثيرين غيره من الفلاسفة المخالفين. وهذا الشخص هو شخص ابن رشد دلالة على انتصار توما عليه. أما هذه الصور هي تدعى «مجادلات القديس توما». وقد صور القديس توما عدة صور بهذا المعنى للدلالة على أنه نقض فلسفة ابن رشد، وأقام مكانها فلسفة أرسطو الحقيقية. ولعل الآباء الدومينيكيين معذورون في هذا التصوير الذي كانوا يغرون به مشاهير مصوري تلك القرون لرغبتهم في تأييد حجتهم. ذلك أنهم كانوا يرومون إحياء فلسفة أرسطو كما يفهمونها هم، لا كما فهمها العرب، وكان فلاسفة العرب بمثابة عثرة في سبيلهم. ولذلك وجدوا أنفسهم في حاجة إلى إسقاط سلطة العرب لإقامة سلطتهم. ومع ذلك فهم لا يلامون على أنهم حملوا تلك الحملة على الفلسفة العربية؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا في تأييد آرائهم، وإنما اللوم يقع عليهم لعدم احترامهم حكيمًا عظيمًا كابن رشد كان يحترمه وصيفه وتلميذه القديس توما نفسه. ولو كان هذا القديس في قيد الحياة حينما صوروه تلك الصور؛ لأنكر عليهم ولا شك ذلك التصوير لأن الرجل الكبير يحترم دائمًا الرجل الكبير. ولما توفيَ القديس توما كانت الفلسفة اللاهوتية في غاية القوة، ولكن المبادئ العربية كانت تتقدم — أيضًا — فقام بعده ريمون مارتيني واعتمد في مقاومة أنصار المبادئ العربية على الإمام الغزالي. وكان يقول: إنه من الأفضل الرد على الفلاسفة بفم فيلسوف. كأنه كان يعتبر الغزالي من أنصار الفلسفة لا من خصومها. ثم قام بعده جيل دي ليسين وبرنار دي تربليا وهرفه نديليك ودافعوا عن مذهب القديس توما — أيضًا — وبعدهم قام دانتي الشاعر الإيطالي المشهور وضرب — أيضًا — ابن رشد في هذه الحرب الفلسفية، ولكن ضرباته كانت خفيفة. ولما كتب كتابه المشهور «الجحيم» لم يضع فيه ابن رشد في أماكن الكفرة والملحدين بل وضعه في مكان خصوصي احترامًا لحكمته. وبعد ذلك قام جيل دي روم لمقاومة فلسفة العرب خصوصًا فلسفة ابن رشد. فبلغ في ذلك شيئًا من الشهرة التي بلغها القديس توما وألبير الكبير. ثم خلفه تلميذه جيرار دي سيسين في هذه المقاومة. ولكن كل ما تقدم من المقاومة لمبادئ ابن رشد ليس بالشيء الذي يستحق الذكر بالقياس على مقاومة ريمون لول لها. فإن هذا الرجل الطائش صرف عمره خصوصًا من سنة ١٣١٠ على سنة ١٣١٢ في الجولان بين باريز وفيينا ومونبليه وجنوي ونابولي وبيزه محرضًا الناس على العرب وفلسفتهم ومبادئهم. ولما اجتمع مجمع فيينا في سنة ١٣١١ رفع على البابا أكليمنضس الخامس عريضة يطلب فيها ثلاثة أمور. الأول إنشاء جمعية عسكرية كبرى للسعي في إسقاط الإسلام. والثاني إنشاء كليات لدرس اللغة العربية. والثالث حرّم المسيحيين الذين كانوا ينصرون مبادئ ابن رشد وتحريم التعليم في كتبه في المدارس الأوربية، ولكن المجمع لم يهتم بهذه العريضة ولا بحث فيها.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/7/
الرهبان الفرنسيسكان
فمما تقدم يتضح أنه كان يومئذ في أوروبا علماء أشداء ينصرون فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد؛ لأنه من الثابت أن المناظرات والمجادلات لا تكون عنيفة شديدة إلا إذا كانت قوة الجدال في الجانبين. وكيف يقوم عالِمٌ كالقديس توما وتكون له تلك الأهمية الكبرى، أو يقوم رجل متطرف مثل ريمون لول ويطلب حرم مبادئ العرب والمشتغلين بها، لو لم يكن هناك قوم أقوياء منصبون على نصرة هذه المبادئ بقوة تعادل قوة الذين كانوا يحاربونها. وقد أثبت رنان أن هؤلاء النصراء لمبادئ العرب كانوا من رهبان الفرنسيسكان ومن كلية باريز الكبرى. ذلك أن رهبنة الفرنسيسكان إنما هي في الأصل عبارة عن مسيحية جديدة في المسيحية؛ فإن أهلها يعتبرون «فرنسواي داسيز» مؤسسها العظيم بمثابة مسيحٍ ثانٍ جاء إلى الأرض لتجديد الديانة المسيحية وإصلاحها. ولذلك لم يكونوا يعبئون كثيرًا بسلطة البابا المسيحية وإصلاحها. ولذلك لم يكونوا يعبئون كثيرًا بسلطة البابا ولا يعتبرون شيئًا غير المبادئ المسيحية التي نشأوا عليها. فنشأ عن ذلك بينهم وبين رهبنة الدومنيكيِّين نزاعٌ شديد في المسائل الدينية، وذهب فيها منهم كثيرون ضحية النار والتعصب. وقد نبغ منهم كثيرون من الرجال الواسعي الصدر المتساهلين، الجريئين في القول والفعل مثل الأخ «إلياس» و«حنا دوليف» و«دون سكوت» و«أوكام» و«مارسل دي بادو»، وكلهم كانوا مقاومين لسلطة روما: وكانوا يعتبرون مقاومتهم لها ولتعاليم القديس توما اللاهوتية والفلسفية التي كادت تكون يومئذ تعاليم الكنيسة الغربية كلها بمثابة بدء تحرير الفكر والانطلاق من الأسر. فكانوا بحكم الضرورة أعوانًا للمبادئ العربية. وأول علماء السكولاستيك (الفلسفة اللاهوتية) الذين قبلوا هذه المبادئ، ونشروا روحها بين الناس، كان اسكندر دي زعيم المذهب الفرنسيسكاني. ثم خلفه جان دي لاروشل، فحذا حذوه في قبول الفلسفة العربية وتعليمها، وقد اعتمد على ابن سينا في كل ما كتبه في علم النفس والأخلاق. ومما هو مشهور أن جميع المبادئ التي تقرر نبذها في باريز في عام ١٢٧٧ إنما كانت للآباء الفرنسيسكان وتلامذتهم، وهي مأخوذة عن ابن سينا وابن رشد. وفي هذه السنة نفسها كان رئيس أساقفة كنثر بري روبر دي كيلواردبي الدومينيكي يطعن في مجمع عقد في مدينة أكسفور التي كانت مصدر التعاليم الفرنسيسكانية بمبادئ شبيهة بالمبادئ التي طعن فيها في باريز. فغير بعيد أن يكون الفلاسفة الذين حاربهم غيليوم دوفرن وألبير الكبير والقديس توما من الفرنسيسكانيين. وبناءً على ذلك تكون الكنيسة يومئذ قد انقسمت قسمين. فقسم قبل المبادئ والفلسفة العربية، وصار يدعو الناس إليها من بعض الوجوه، وقسم أنكرها وصار يحذر الناس منها. ومما يثبت أن الفرنسيسكان كانوا في مقدمة أولئك المحامين ما كان في كتابات بعض علمائهم من الاحترام لابن رشد وإن كان بعض منهم — أيضًا — قد ردوا عليه ردًا شديدًا. فمن ذلك ما كتب أحدهم وهو روجه باكون إذ قال: «إن ابن سينا هو أول من أوضح فلسفة أرسطو، ولكن الذين جاءوا بعده أوسعوه ردًا وتخطئة، منهم ابن رشد الذي كان أعظمهم بعده؛ فإنه خالفه في عدة أمور. وقد أنكر مشاهير العلماء الذين تقدمونا فلسفة ابن رشد وأهملوها، ولكن الحكماء اليوم صاروا يُجلُّونها بالإجماع، وإن كانوا يعترضون على بعض مبادئها». وقال في موضع آخر: «بعد ابن سينا قام ابن — رشد وهو رجل قوي الحجة أصيل الرأي — فهذب تعاليم الذين تقدموه، وإن كانت تعاليمه نفسها محتاجة إلى التهذيب والتكميل في بعض المواضع». وكان روجه باكون هذا يعجب من عدم ترك الخصوم الفلسفة الأوربية القديمة للإقبال على هذه الفلسفة العربية الجديدة. ذلك؛ لأنه كان على ما يظهر يجهل السُّم الكامن للدين فيها. وقد ظهر هذا السم في باريز بعد ذلك ظهورًا واضحًا؛ فإن مدرسة السروبون فيها كانت مدرسة لاهوتية تعلم تعليم القديس تومًا، ولكن كلية باريز كانت على خلاف ذلك؛ فإن كثيرين من أساتذة الفنون فيها كانوا من أنصار مذهب ابن رشد. وقد وُجد في هذا العصر من آثار هذه الكلية تسعة دفاتر محتوية على تعاليم هذا الفيلسوف، كانت تدرس في القرن الثالث عشر والرابع عشر. وبعضها دلت حالته على أنه كان يُستعمل في الدرس كل يوم. فاصطلت يومئذ — بين علماء الفلسفة العربية في باريز وعلماء اللاهوت فيها — نار خلاف حامية كانت أشد من النار التي اصطلت منذ ثلاثة أعوام في باريز، بشأن مسألة دريفوس والسلطة العسكرية. أما الدومينيكيون؛ فإنهم كانوا مع علماء اللاهوت، وقد استصدروا من البابا اسكندر الرابع في مدة ست أو سبع سنوات ٤٠ أمرًا بحرمان فلسفة العرب والمشتغلين بها، ولكن لم يكن غرضهم من ذلك دينيًا فقط، بل كان في ذلك للسياسة والحسد اليد الطولى. وإنما كان غرضهم أن يكونوا أصحاب النهي والأمر وحدهم في جميع أجزاء الكنيسة الغربية. وقد جاء في شعر بعضهم أن هذه الحرب كانت بين أهل دومينيك. والذين يقرءون «اللوجيك» أي المنطق. فهي إذن حرب سياسية. «إن المجمع يحرم كل من يعتقد أن العقل الإنساني واحد» «في كل الناس — وإن العالم أزلي — وإنه لم يوجد قط» «إنسان أول ولد البشر منه — وإن النفس التي هي» «صورة للإنسان تفنى بفناء الجسد — وإن الله لا يعلم» «الجزئيات التي تحدث في العالم — وإن العناية الإلهية» «لا تؤثر في أفعال الإنسان ولا تديرها — وإن الله» «لا يقدر أن يجعل الشيء القابل للموت والفناء (أي)» «الإنسان وما سواه خالدًا بقايًا» ولكن مع كون هذه الحرب سياسية؛ فإن الدين تأثر منها تأثرًا بليغًا. وتزعزعت دعامة الإيمان في صدور الناس. فحدث يومئذ ما كان حدث في الأندلس لو سمع الأندلسيون لفلسفة ابن رشد وقبلوها، ولكنا نرجع أن ابن رشد كان قادرًا في حياته على صرف هذه الزوبعة عن نفوس أبناء وطنه لو قبلوها بواسطة التأويل الذي لجأ إليه، والتأويل على ما هو معلوم باب واسع يسع كل الآراء والتعاليم، ولكن ماذا يفيد التأويل إذا كان عرض هذه الفلسفة المساواة بين الناس وتعليمهم أن جميع الأديان حق وهي متشابهة. ما الفائدة من الدين إذا كان كل مؤمن يجب عليه أن يعتقد بموجب هذه الفلسفة أن دينه ودين غيره على حد سواء. أليست التعزية الكبرى واللذة العظمى في الدين أن يعتقد المؤمن أن الحقيقة في يده وحده وأن الله إله قومه لا إله أحد غيرهم. فوداعًا إذن أيتها الآمال الحلوة التي كنت أحسبك مختصة بي دون سواي. وداعًا يا فردوسًا سماويًا ما كنت أظن دخولك ممكنًا لمن يعتقد اعتقادًا يهين اعتقادي ويجرحه. وقبحًا لهذه المساواة التي تحرمني أعظم اللذات. واأسفاه. هكذا يقول المؤمن الضعيف الذي يقرأ الفلسفة. وهو يقول ذلك، ولا يعلم أن قوله هذا أعظم إهانة للإخاء البشري والإنسانية.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/8/
انتصار الفلسفة الرُّشدية
فبناءً على ما تقدم صار ابن رشد عبارة عن راية تتحارب حولها شعوب وأمم مختلفة في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا. وكان للفيلسوف العربي الجليل سمعتان, الأولى سمعة الفضل والعلم والنزاهة وهي عند أساتذة المدارس الذين كانوا يرومون كسر النير القديم. والثانية سمعة الكفر وبغض الدين وهي عند العامة والبسطاء والجهلاء. ولم يأت القرن الرابع عشر حتى صارت سلطة ابن رشد في أوروبا فوق كل سلطة وتقدم على ابن سينا بعد أن كان محسوبًا في القرن الثالث عشر دونه. ولما أراد الملك لويس الحادي عشر ملك فرنسا إصلاح التعليم الفلسفي في سنة ١٤٧٣ طلب من أساتذة المدارس «تعليم فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها؛ لأنه ثبت أن هذا الشرح صحيح مفيد». ولقد كان أنصار المبادئ الرُّشدية في القرن الثالث عشر غير معروفين، ولذلك يتعذر تسمية أحد منهم. وإنما عرف وجودهم من حدة الذين كانوا يطعنون في المبادئ العربية كاريمون لول وغيره كما تقدم. (أما في القرن الرابع عشر وما بعده؛ فقد تألف حزب عظيم لابن رشد وكان هذا الحزب يدرس مبادئه جهرًا. وبذلك انتصرت هذه المبادئ انتصارًا عظيمًا). وإن قيل ما سبب هذا الانتصار ولماذا لم تختنق بزور الفلسفة في تربة أوروبا. فالجواب عن ذلك ينحصر في أربعة أمور. الأول أن جميع اللاهوتيين والفلاسفة كانوا مقرين لأرسطو ومعترفين بفلسفته، ولذلك كان الخلاف على تفسيرها لا على حقيقتها. والثاني أن النسل الهندي الأوروبي الذي تألفت منه أمم أوروبا نسل ذو مزية على باقي الشعور من حيث حب الفلسفة والعلم، كما أن الساميين أي الشرقيين كانوا ممتازين بخروج الحرية والدين منهم. ولذلك نبغ في الأوربيين رجال أصحاب جرأة على القول والعلم. والثالث قيام إمبراطور كبير كفردريك الثاني الذي حارب الدين ورجاله في أوروبا محاربة شديدة، ونصر الفلسفة عليهم بالرغم عنهم كما سيرِد التفصيل. والرابع أن الدين المسيحي بمجاورته للدين الإسلامي والدين اليهودي في الغرب صار أكثر تساهلاً مما كان من قبل، بدلاً من أن يزداد تعصبًا. ومما زاد هذا التساهل الحملات الصليبية على الشرق ومصادفة المسيحيين الأوروبيين سلطانًا مسلمًا كصلاح الدين الأيوبي في غاية النزاهة والعدل والصدق. فلا ريب أنه كان لهذا السلطان الجليل من التأثير على نصارى الغرب بواسطة أخلاقه وصفاته ما لا يحدثه ألف كتاب في الفلسفة والحكمة. ذلك أنه كان كتابًا في الحكمة حيًا ناطقًا لا يحتاج إلى تفسير أو تأويل. وكان بدء انتصار فلسفة ابن رشد في كلية بادو المشهورة في إيطاليا. وكانت الحركة الأوروبية والفلسفية في بولونيا وفراري والبندقية تابعة لهذه الكلية. وقد بدأت فلسفة ابن رشد فيها بتعليم كتبه الطبية، ثم تلتها كتبه الفلسفية. وأول مؤسسي تعاليم ابن رشد فيها بطرس داباتو الذي أحرق ديوان التفتيش عظامه بعد موته عقابًا له. ولما انتشرت مبادئ العرب في بادو والبندقية شاعت على الخصوص بين الطبقات العليا. فصار أهلها يفتخرون بأنهم من أنصار فلسفة ابن رشد. فكان هذه الفلسفة أصبحت «موضة» يتزيا بها كل من يطلب استقلال الفكر، ولكنه من المعلوم أن استقلال الفكر الذي لا يضر ولا يؤذي أحدًا ولا مبدأ شيء، واستقلال الفكر الذي هو عبارة عن خشونة وغلاظة شيء آخر. ولذلك نشأ تحت راية فلسفة العرب في ذلك الزمن البعيد جيلٌ جديد كان يزدري الأديان، ويدعي العصمة ولا يقابل آراء غيره إلا بكل وقاحة وخشونة. فقام يومئذ بترارك المشهور الذي كان من أشد أعداء فلسفة العرب لمقاومة تلك الأفكار الجديدة. وبترارك هذا هو أول فلاسفة الفلسفة الحديثة، وإن كان من فلاسفة الفلسفة القديمة. ذلك أنه أول رجل دعا الناس إلى الرجوع لعلوم اليونان والرومان والقديمة. وكان شديد الكراهة لعلوم العرب وعلى الخصوص ابن رشد. وله في ذلك أقوال تدل على حمقٍ وإخلاصٍ معًا؛ فإنه كان يقول لصديقه جان دوندي «أرجوك أن لا تخاطبني في شأن العرب؛ فإنني أكره هذا الجنس. وإنني لا أجهل قدر أطباء اليونان، أما أطباء العرب فلا قدر لهم عندي. وأما شعراؤهم؛ فقد عرفتهم ولا شيء أشد حدَّة ومضرة وركاكة من شعرهم (بخ بخ بخ؟؟) ولقد سمعت بعض أطبائنا يثني عليهم ويقول على مسمع من رفاقه الذين كانوا يوافقونه: إنه لو وجَدَ طبيبًا في هذا العصر مساويًا لأبوقراط لما سمح له أن يكتب في فن الطب بعدما كتبه العرب فيه. فما هذا القول. كيف كان شيشيرون خطيبًا بعد ذيموستينوس، وفرجيل شاعرًا بعد هوميروس، وتيت ليف وسالوستوس مؤرخين بعد هيرودوتس وتوسيديدوس. ولا يجوز أن يكون أحد بعد العرب شيئًا مذكورًا. فقل لي كيف يجوز أننا نحن معاشر الإيطاليين نساوي اليونان في أشياء ونفوقهم في أشياء، ونسبق كل الأمم إلا العرب. فهل قُضي على قريحة إيطاليا بالخمود والانطفاء. أم ذلك القول جنون وهوس. وفي كُتب بترارك كثير من هذه الأقوال التي تدل على كراهته للمبادئ العربية. منها أن أحد أهالي البندقية المنتصرين لفلسفة ابن رشد زاره في ذات يوم في مكتبته فيها. وبينما هما في الحديث استشهد بترارك بكلام للرسول بولس. فابتدره الزائر الرُّشدي بقوله دع كلام هذا المعلم لك أما أنا فمعلمي يكفيني (يعني ابن رشد). فحاول بترارك الدفاع عن الرسول فأجاب الزائر الرُّشدي ضاحكًا: ابقَ أنت مسيحيًا صادقًا كما أنت أما أنا فإنني لا أعتقد بشيء من كل تلك الخرافات. وما بولس وأسطينوس اللذان تذكرهما باللذين يستحقان الذكر؛ فإن ابن رشد أعظم منهما بكثير. ويا ليتك تستطيع مطالعة فلسفته. فعند هذا الكلام نهض بترارك بغضب فقبض على رداء زائره ودره من داره. وبعد بترارك قام في كلية بادو جان دي جاندون، وكان من أعظم أنصار فلسفة ابن رشد حتى دُعي «سلطان الفلسفة وأمير الفلاسفة». ثم قام بعده بولس البندقي وكان من السالكين سبيله. وهكذا لم ينتصف القرن الخامس عشر حتى صار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بادو والمعلم الأكبر الذي لا يُعارَض. ولو شئنا ذكر جميع الأساتذة والعلماء الذين شرحوا فلسفة فيلسوفنا في كليتي بادو وبولونيا في خلال القرن الخامس عشر، لكتبنا بذلك صفحات كثيرة يضيق دونها هذا الكتاب. وقد كان المعارضون لهذه الفلسفة في هذا الزمن ضعفاء الأصوات؛ لأنها كانت في أوج العظمة والسلطان. ولكن هذه العظمة لم تدُم وقتًا طويلاً. فإن إيطاليا في آخر القرن الخامس عشر اهتمت اهتمامًا شديدًا بمسألة خلود النفس. فقام يومئذ بومبونا المشهور، وأحدث خرقًا في تعلم ابن رشد. ذلك أن أنصار الفلسفة الرُّشدية كانوا يقولون: إن النفس بعد الموت تعود إلى الله وتفنى فيه أي تفقد شخصيتها. أما بومبونا الذي تقدم ذكره؛ فإنه أثبت من كتب اسكندر وفرويزياس الفيلسوف اليوناني — الذي شرح أرسطو قبل ابن رشد والذي كان ابن رشد يعتمد أحيانًا عليه — أن الإنسان يفنى بعد الموت، وأنه لا خلود غير الخلود الإنساني النوعي الذي على الأرض. فانقسم يومئذ المشتغلون بالمبادئ قسمين؛ قسم يعتمد على ابن رشد في إثبات الشخصية للإنسان، وقسم يعتمد على اسكندر دفروديزياس. وعهد البابا لاون العاشر إلى العالم نيفوس بالرد على بومبونا. وكان نيقوس من أنصار مذهب ابن رشد. وفي ذلك منتهى العجب؛ لأن مبادئ ابن رشد صارت يومئذ بمثابة النصيرة للكنيسة على العدو الجديد الذي كان ينكر جميع أصول الدين بعد أن كانت عدوة للكنيسة. وهكذا تكون المبادئ في كل زمان ومكان؛ فإنها تختلف باختلاف العقول التي تتصرف بها والأحوال التي تنشأ فيها. وكان الناس يومئذ يميلون كل الميل إلى هذه المباحثات. فكانوا يحرضون نيفوس للرد على بومبونا ويطعنون في بومبونا، مع أنهم يؤيدونه في السر ويحثونه على الرد على خصمه. وكان لبومبونا خصم آخر وهو أشيليني أحد زعماء مذهب ابن رشد. ومن المشهور — في كلية بادو حتى اليوم — أن أعظم ما حدث فيها هو الجدال الشديد بين بومبونا وأشيليني. وكان أشيليني يتغلب على خصمه في الظاهر إلا أن الجمهور كان يهرع إلى سماع دروس بومبونا ويفضلها على دروسه. ولعل ذلك كان من قبيل الرغبة في سماع الجديد الغير مألوف. وكان بومبونا يقول: إن فلسفة ابن رشد خالية من الأهمية ولا معنى لها، وهو يشك في أن مؤلفها كان يفهمها. وكان حزب بومبونا يُدعى (حزب الإسكندريين) وحزب الفلسفة العربية يُدعى (حزب الرُّشديين) ولم يأت أول القرن السادس عشر حتى صارت تلك المبادئ مبادئ إيطاليا كلها. فرغبةً في إيقاف إيطاليا عن نزول هذا الأحدور إلى النهاية انعقد مجمع لاتران وقرر حرم كل من يقول بأن النفس غير خالدة، وبأنها واحدة في جميع الناس، ومحاكمة كل الذين ينشرون هذه المبادئ. وكان ذلك في عام ١٥١٢. وقد روى المؤرخون أن بعض الحاضرين في المجمع أنفسهم قد تكلم مدافعًا عن تلك المبادئ.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/9/
الفلسفة اليونانية
وقد اتخذت كلية بادو في مدة القرن السادس عشر مبادئ نيفوس الرُّشدية شعارًا لها؛ لأنه كان يمكن تطبيقها على الدين. وأصبحت الكنيسة منذ ذلك العهد تستحسن فلسفة أرسطو أشد استحسان حتى أن الكردينال بالافيسيني كان يقول: إنه لو لم يقم أرسطو في العالم لفقدت الكنيسة بعض براهينها. وكانوا يومئذ مجمعين على أن ابن رشد أفضل شُرَّاح أرسطو. ولذلك بلغت مبادئ ابن رشد في ذلك الزمن منتهى النفوذ والانتشار، واضطروا إلى مراجعة كتبه وإعادة ترجمتها وطبعها إجابة للذين كانوا يطلبونها من كل صوب. فأين كانت يومئذ عينا فيلسوف قرطبة ليرى ما صار له في ذلك الزمان من السلطان على تلامذته الأوروبيين؟ أين كان حُساده الذين كفروه ليروا كيف كان رجال الدين يجارون في أوروبا تيار الفلسفة، ولا يقفون في وجهه لئلا يجرفهم؟ هل كانوا ينظرون ذلك من أعالي السماء في ذلك الزمان؟ وإذا كان الخليفة يعقوب المنصور ينظر وهو في جملتهم فماذا عساه يقول بعد أن يرى بعينيه التبعة الهائلة التي وقعت عليه بمجاراته الحُساد والوشاة في خنق العلم والفلسفة في أرض الأندلس. ألا يشعر حينئذ بزيادة ثقل تاج الخلافة على رأسه إذا كان بقى له هذا التاج هناك؟ ألا يقطع الفضاء السماوي شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا للتفتيش عن روح أبي الوليد لطلب الصفح والعفو منها. لا ريب أن أبا الوليد قد انتصر في أوروبا بعد موته انتصارًا لائقًا بحكيم قرطبة وأعظم فلاسفة الإسلام. ولكن كل شيء يفنى ويتغير في هذه الحياة ولا يدوم إلا وجه الله ذي الجلال. فإن سلطانًا فلسفيًا كهذا السلطان لا يمكن أن يدوم وقتًا طويلاً، وهكذا جرى لابن رشد. ولبيان ذلك نقول: كان الأساتذة في أوروبا يدرسون فلسفة أرسطو من قبل بموجب تلاخيص ابن رشد وابن سينا. فلما قدم العهد بهذه التلاخيص صار الأساتذة يضعون شروحًا عليها من عندهم ويتلونها على الطلبة. فصارت فلسفة أرسطو تصل إلى الطلبة بعد مرورها في التلاخيص الرُّشدية والتلاخيص اللاتينية. فكانت تخسر شيئًا كثيرًا من صفتها الأرسطوطاليسية. ولذلك كان لا بد من الرجوع إلى النص اليوناني الحقيقي عاجلاً أو آجلاً. ومن جهة أخرى؛ فقد تقدم أن أنصار الفلسفة في أوروبا انشقوا حزبين. فحزب مع ابن رشد العربي. وحزب مع اسكندر اليوناني. وذلك مما أوجب — أيضًا — الرجوع إلى النصوص اليونانية. وفضلاً عن ذلك؛ فإن علماء إيطاليا كانوا ميَّالين إلى آداب ذلك التمدن اليوناني القديم الذي كان بمثابة شمس أضاءت حينًا ثم خمدت. فأخذوا يعودون إليها. فنشأ عن كل ذلك حرب جديد أخذ يشتغل بآداب اليونان وعلومهم دون أن يعتمد في ذلك على شيء غير النصوص اليونانية نفسها. وكانوا يسمونهم الحزب الجديد. أم الحزب القديم؛ فهو حزب فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد. فبعد أن كان الخلاف بين «رشديِّين وإسكندريِّين» على التخصيص أصبح الخلاف بين «رشديِّين ويونانيِّين» على الإطلاق. وفي ٤ أبريل من عام ١٤٩٧ صعد الأستاذ نقولا ليونيكوس توموس إلى منبر التعليم في كلية بادو، وأخذ يلقي فيها لأول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية. فنظم يومئذ في ذلك بعض الشعراء أبياتًا يقرظ بها هذا الأستاذ دلالة على أهمية هذه الحادثة. ومن ذلك الحين أخذت النهضة اليونانية في إيطاليا بالنمو. فكما أن بادو والبندقية وشمال إيطاليا عادت كلها إلى نص أرسطو الأصلي عادت فلورنسا إلى نص أفلاطون الأصلي — أيضًا — فأصبحت البندقية وفلورنسا في ذلك بمثابة قطبي الفلسفة. فإن الأولى كانت عقلاً يمثل التحقيق في البحث، والثانية كانت قلبًا يمثل رقة الفلسفة وروحانيتها. فاصطلت يومئذ نار الجدال بين «الرُّشديين» و«اليونانيين» فنشأ عن ذلك اختلاط غريب في فلسفة العرب واليونان والأوروبيين، ولما قام المذهب البروتستنتي في أوروبا انضم إليه كثيرون من أصحاب العقول المعتدلة الذين كانوا يخافون عافية التهور في مبادئ ابن رشد المادية، وباتوا يحاربون هذه المبادئ. فكأن الإصلاح البروتستنتي كان وسطًا بينها وبين المبادئ اللاهوتية القديمة. ومنذ ذلك الحين ازداد فوز «اليونانيين». فلم تأت سنة ١٦٣١ — وهي السنة التي توفي فيها قيصر كريمونيني — حتى زالت فلسفة ابن رشد من طريق الفلسفة الأوروبية الحديثة، ودخلت في حيز التاريخ القديم. وكان كريمونيني هذا آخر زعيم لفلسفة ابن رشد في كلية بادو.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/13939717/
فَلسَفَةُ ابنِ رُشْد
فرح أنطون
يستعرض فرح أنطون في هذا الكتاب فلسفة «ابن رشد» من حيث مصادرها، وبنيتها، ومجال تأثيرها الذي امتد ليشمل الشرق والغرب، وكان سببًا في النهضة الأوروبية الحديثة، حيث استفاد القديس «توماس الأكويني» من أفكار «ألبرت الكبير» الذي تعلم من خلاله الفلسفة الرشدية، والتي استطاع بها الأكويني أن يتجاوز العقبة الكأداء التي كانت تؤرق الفكر الأوروبي، وتحكم العقل الجمعي الأوروبي إبان هذه الفترة، وكانت هذه العقبة تتمثل في رأي الأوروبيين المسيحيين في التعارض بين الحقيقة الإلهية والحقيقة العقلية؛ لذلك كانت الفلسفة وكثيرٌ من العلوم تعد كفرًا، فجاءت فلسفة ابن رشد وكتاباته لتؤكد على أن هذا التعارض ظاهري، ويكون عادة إما نتيجة للقصور في فهم الواقع، أو عدم الفهم الحقيقي للنص، وهو ما مهد بعد ذلك لقيام عصر النهضة الأوروبي.
https://www.hindawi.org/books/13939717/10/
الفلسفة الحديثة
وسبب زوال فلسفة ابن رشد والفلسفة اليونانية من طريق الفلسفة الحديثة يومئذ دخول هذه الفلسفة في طريق جديدة؛ فإن فلسفة ابن رشد تحملت هجمات أنصار أفلاطون واللاهوتيين ومجمعي لاتران وترانته، واضطهاد ديوان التفتيش وردت الجميع على أعقابهم خاسرين، ولكنها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة المبنية على التجربة والامتحان والمشاهدة. وقد كان أبطال هذه الفلسفة ودعاتها المؤسسين ليوناردي فتسي وبروتو وساربي وأكونتريو وغاليله المشهور،الذي غير وجه الأرض باكتشافه دوران الأرض، وديكارت ولوك ولبنز ونيوتن وفرنسيس باكون. وفرنسيس باكون هذا هو أول من بدأ بهدم الفلسفة اللاهوتية القديمة (السكولاستيك) لإقامة صرح العلم الوضعي الجديد المبني على المشاهدة والتجربة والامتحان. وقد كان من البديهي قيام قاعدة كهذه القاعدة بعد الاختلاط الغريب الذي كان في الفلسفة الأوروبية قبله؛ فإن علماء السكولاستيك كانوا في فوضَى، بعضهم يعتمد على أرسطو العربي وبعضهم على أرسطو اليوناني، والاختلاف في التفسير والتأويل قائم بينهم على ساق وقدم. وكان مناظروهم من علماء الطبيعة في نضال ونزاع معهم، ولكنهم كانوا محتاجين إلى بوق جهوري الصوت يترجم عما في نفوسهم ويغطي صوته أصوات خصومهم. فكان فرنسيس باكون هذا البوق. بل كان الريح العاتية التي كنست الفلسفة القديمة كنسًا، وذهبت بتعاليمها الجدلية وتصوراتها الخيالية. وإليك تاريخ هذه الحركة الفلسفية التي انتهت بالقضاء على الفلسفة القديمة. كانت الفلسفة الأوروبية مبنية من قبل على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو ونقلها إلى أوروبا ابن رشد وفلاسفة العرب. وكان يكفي أن يقال «قال أرسطو» لينحسم كل جدال. فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تُحدث شيئًا حَذَرًا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد «القياس» وهو المعروف «بإله أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخر. فكرر هذه التجربة عدة مرات فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخر ناموس من نواميس الطبيعة. ثم أنك تقيس اللبن على الماء فتقول: بما أن اللبن سائل كالماء؛ فهو يتبخر أيضًا مثله. وبناءً عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء، هذا هو القياس. فلما جاء باكون ورأى ذلك الخمول الفلسفي رام إصلاحه. فكتب في ذلك عدة كتب منها كتابه «القياس الجديد» و«الإصلاح العظيم» وهو أهم كتبه ولم يصدر منه سوى جزئين في عام ١٥٩٧ — وإليك خلاصة الآراء الفلسفية التي نشرها في كتبه. رأيه في التمدن اليوناني وفلسفته — يحمل باكون في كتبه على الفلسفة السكولاستيك اليونانية حملات شديدة. ومن اعتراضاته إن كل ما يدرسونه اليوم (أي في أيام باكون) يدرسونه بناءً على أقوال اليونان، ولاسيما أرسطو مع أن اليونان لم يعرفوا شيئًا من نواميس الطبيعة، ولم يقرءوا شيئًا في كتابها السامي. فكيف يريد الفلاسفة تقييد العقل البشري بمعارف اليونان إذا كان هؤلاء لم يدرسوا الطبيعة نفسها. وفضلاً عن ذلك؛ فإن اليونان أمة قديمة وقد كان البشر في عصرهم في دور الطفولية ونحن الآن في دور الشيخوخة. فلمن نسمع؟ وممن نتعلم؟ من الأطفال أم من الشيوخ؟ فالواجب علينا إذن أن نطلق العقول من قيود فلسفة اليونان ونترك كل واحد منا يمتحن الأمور بنفسه ويشاهد نواميس الطبيعة بعينيه ويزن أحكامها بعقله. ومع ذلك؛ فإن الفلسفة اليونانية لم تثمر شيئًا إلى الآن ولم نحصل بواسطتها على فوائد ومنافع عملية. وكل ما استفدناه منها أنها تعلمنا طرقًا سفسطائية في الجدل تجعلنا لا نطلب الحقيقة في مباحثنا، ولكن حب الفوز والغلبة. فيجب تغيير هذه القاعدة التي جعلها العلم دعامته، ووضع دعامة عملية جديدة له ليثمر ثمارًا عملية. ولكن قبل هدم القاعدة القديمة يجب إنشاء «ترتيب» جديد للعلم أصولاً وفروعًا، لوضع أصول كل فرع منه على الترتيب. وبناءً على ذلك وضع باكون «الترتيب» المنسوب إليه وعليه يعتمد العلماء. الترتيب المشهور بترتيب باكون: قسم باكون قوَى نفس الإنسان في هذا الترتيب ثلاثة أقسام؛ «الذاكرة. والتصور والعقل». وجعل أصول العلم وفروعه تتفرع من هذه الكلمات الثلاث. فمن «الذاكرة» يشتق التاريخ، ومن «التصور» يشتق الشعر، ومن «العقل» تشتق الفلسفة. ثم إن باكون يأخذ التاريخ. والشعر، والفلسفة، كلاً بمفرده ويفرع منه فروعه. فالتاريخ طبيعي وبشري. والطبيعي يشمل درس الطبيعة ما فوق وما تحت من علوم الهيئة (علم الفلك) والجيولوجيا والجغرافيا الخ. والتاريخ البشري يشمل التاريخ الديني والتاريخ الاجتماعي (الغير ديني) وتاريخ الأدب والفنون. وأما الشعر؛ فإنه يكتفي بقسيمه إلى ثلاثة أقسام وهي: الشعر للوصف. والشعر للروايات. والشعر للأمثال. وأما الفلسفة فهي ثلاثة فنون؛ فن معرفة الله. وفن معرفة نظام الطبيعة. وفن معرفة نظام الإنسان. ثم يفرغ باكون من كل واحد من هذه الفروع فروعًا عديدة يضيق المقام دونها. ولو أتينا عليها كلها لوجد القارئ أنه لا يبقى أصل للعلم ولا فرع خارجًا عن هذه الدائرة. ميزان باكون ضد ميزان أرسطو: فبعد وضع باكون هذا الترتيب للعلم وشرحه كل أصوله وفروعه شرحًا كافيًا وافيًا، وجَّه همته إلى وضع قاعدة لبنائه. فقال بوجوب ترك قواعد اليونان وأرسطو والاعتماد على العقل في ذلك البناء. وكانت قاعدة أرسطو توجب. كما تقدم أن كل أمر يجرب عدة مرات ويفضي إلى نتيجة واحدة يجب أن يعد ناموسًا طبيعيًا. وقد ذكرنا مثال ذلك ف تجربة تبخير الماء وقياس اللبن عليه. أما باكون؛ فإنه قال: إن التجربة عدة مرات لا تكفي بل يجب معها أمران؛ الأول إعادة التجربة والامتحان في نفس المادة المطلوب فحصها إلى ما شاء الله، حتى لا تبقى زيادة لمستزيد، واستئناف التجربة في كل جزء من أجزاء المادة ومطاردة الأسرار الطبيعية إلى أبعد مكامنها. وثانيًا عدم الاكتفاء بالامتحان الإيجابي بل إجراء امتحان سلبي معه. مثال ذلك: بخِّر الماء بالنار يتبخر، فأعد التجربة عدة مرات تجده يتبخر دائمًا. هذا هو الامتحان الإيجابي. أما الامتحان السلبي؛ فهو أن تأخذ بخار ذلك الماء وتبرده، فإذا عاد ماءً كان العمل صحيحًا، وجاز لك أن تعد التبخر ناموسًا طبيعيًا. ولا يجوز لك أن تقول: إن أرسطو أو أفلاطون أو أيًا كان قد قال ذلك وأثبته، فعلينا أن نصدقه؛ فإننا نريد أن نحكم في أمورنا عقولنا لا عقول الذين تقدمونا. أي أننا لا نصدق أحدًا ولا نبني حكمًا على حكم أحد ما لم تظهر لنا صحة قوله بالتجربة والامتحان والمشاهدة والبرهان — فبناءً على ذلك كنست جميع المبادئ القديمة والتعاليم التي من وراء العقل كنسًا، وحل محلها علم المحسوسات، أو ما يسمونه العلم الوضعي أو الامتحاني. وقد أطلق باكون وأنصاره بذلك عقول العلماء والفلاسفة من قيود الماضي وأعدوا للعلم ميدانًا فسيحًا قرن فيه العلم بالعمل، فنشأت عنه الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها في عالم العلم والصناعة والزراعة. فكأنه روح الحرية بُث في العقل والعلم والعمل فأحياها معًا. ولكن فلنبحث الآن بعد مرور القرون الطوال وانتصار العلم والفلسفة في هذا العصر. هل قام العلم بكل الوظيفة التي انتدبه العقل البشري لها؟ هل قدر إلى اليوم على استئصال كل الشقاء والرذيلة من الأرض وإصلاح شأن البشر فيها إصلاحًا تامًا. هل استطاع إرواء ظمأ الإنسان إلى ما وراء هذه الطبيعة التي هي عظيمة، ولكنها واأسفاه مادية جامدة. وبعبارة واحدة نقول: هل حل العلم محل الدين حلولاً نهائيًا بعد تلك الحرب العقلية الكبرى، التي دارت رحاها في أوربا بين أمم مختلفة وفلسفات مختلفة. كلاَّ.. لم يصنع العلم ذلك صنعًا تامًا بعد، وإن كان قد صنع شيئًا كثيرًا منه. ولسنا نعلم السبب الحقيقي في هذا العجز. هل هو ضعف العلم نفسه عن إرضاء الإنسانية وتسكين تأثرها، أم هو ضعف الإنسانية نفسها عن احتمال قوة العلم الهائلة.
فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م. فرح أنطون: صحافي، وروائي، ومسرحي، وكاتب سياسي واجتماعي، ورائد من رواد حركة التنوير في العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، اشتهر بدعوته للتسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين، وكان اشتراكي التوجه، تأثر بأفكار المصلحين الأوروبيين روسو، وفولتير، ورنيان، ومونتسكيو، كما تأثر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال: ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين. وُلد «فرح أنطون إلياس أنطون» في طرابلس الشام عام ١٨٧٤م، دخل المدرسة الابتدائية الأرثوذكسية وهو في سن السادسة، ثم التحق بمعهد كفتين، حيث اطلع على كثير من العلوم والمعارف وأتقن اللغة الفرنسية، وقد تخرج من المعهد عام ١٨٩٠م وعمره ستة عشر عامًا، انكب بعدها يطالع كل ما تقع عليه عيناه من الإنتاج المعرفي الغربي، حيث أتاحت له الفرنسية أن يقرأ لكبار المفكرين أمثال ماركس، ونيتشه، وتولستوي، وروسو … وغيرهم، هاجر إلى الإسكندرية عام ١٨٩٧م، بدأ بعدها يمارس نشاطه الفكري والثقافي، حيث أصدر عدة مجلات، مثل: مجلة «الجامعة»، ومجلة «السيدات» التي أصدرها لأخته روز أنطون. تنطوي كتابات فرح أنطون — كغيره من مفكري ذات التيار في تلك الفترة — على مفارقة فكرية نابعة من إيمانهم بالتيار الإنساني (الهيوماني) الغربي إيمانًا مطلقًا، مفادها أن الرجل قد آمن بألا تمييز بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الجنس، وبالتالي فمن المفترض أنه لا تمييز لتيار حضاري على تيار حضاري آخر، إلا أن أنطون أراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية الغربية باعتبارها نظريات حيادية موضوعية عالمية، رغم نسبيتها وذاتيتها وارتباطتها بتجربتها التاريخية إلى حد كبير؛ لذلك فإنه حتى عندما تناول التراث العربي والإسلامي جاء تناوله انتقائيًّا، حيث إن علمية النص التراثي عنده تتوقف على مدى اقترابه أو ابتعاده من النص الغربي (المعياري)؛ لذلك أثارت كتاباته تحَفُّظات كثير من الناس. كان لأنطون إنتاج فكري غزير ومتنوع، في الأدب، والسياسة، والاجتماع، والفلسفة، والمسرح، والرواية، تَمَثَّلَ منه الكثير في المقالات التي كان يكتبها في الجرائد والمجلات، كما كانت له كتب مترجمة، وقد توفي أنطون في القاهرة عام ١٩٢٢م.
https://www.hindawi.org/books/35058486/
رحلة إلى أوروبا ١٩١٢‎
جُرجي زيدان
اشتهر جرجي زيدان بكتابته في حقول معرفية متعددة، و ها هو يطل علينا في هذا العمل بلون جديد من ألوان المعرفة الأدبية، وهو أدب الرحلات. فمن المعروف أن لأدب الرحلات حضورًا كبيرًا في تاريخ الأدب العربي الكلاسيكي، حيث اهتم الرحالة العرب بتدوين رحلاتهم في كافة أسقاع الأرض، وذِكْرِ ما شاهدوه فيها من أماكن وأشخاص وصناعات وعادات وتقاليد لمختلف الأمم. وتُعبر نصوص هذا الكتاب عن الاستمرارية التاريخية لهذه التقاليد الأدبية في التراث العربي، حيث يستعرض زيدان في هذا الكتاب رحلته إلي أوروبا، إذ لم تكن قط بالرحلة ترفيهية التي تدور حول الاستجمام والاستمتاع ومعرفة القشور الحضارية، بل كانت وصفًا مفصلًا ودقيقًا للأحوال العمرانية والحضارية التي دارت حولها المدنية الغربية في عصر الحداثة في ذلك الوقت.
https://www.hindawi.org/books/35058486/1/
مسار الرحلة
مرسيليا. ليون. باريس. لندن. كامبردج. منشستر. أوكسفورد. جنيف. لوزان. إيفيان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/35058486/
رحلة إلى أوروبا ١٩١٢‎
جُرجي زيدان
اشتهر جرجي زيدان بكتابته في حقول معرفية متعددة، و ها هو يطل علينا في هذا العمل بلون جديد من ألوان المعرفة الأدبية، وهو أدب الرحلات. فمن المعروف أن لأدب الرحلات حضورًا كبيرًا في تاريخ الأدب العربي الكلاسيكي، حيث اهتم الرحالة العرب بتدوين رحلاتهم في كافة أسقاع الأرض، وذِكْرِ ما شاهدوه فيها من أماكن وأشخاص وصناعات وعادات وتقاليد لمختلف الأمم. وتُعبر نصوص هذا الكتاب عن الاستمرارية التاريخية لهذه التقاليد الأدبية في التراث العربي، حيث يستعرض زيدان في هذا الكتاب رحلته إلي أوروبا، إذ لم تكن قط بالرحلة ترفيهية التي تدور حول الاستجمام والاستمتاع ومعرفة القشور الحضارية، بل كانت وصفًا مفصلًا ودقيقًا للأحوال العمرانية والحضارية التي دارت حولها المدنية الغربية في عصر الحداثة في ذلك الوقت.
https://www.hindawi.org/books/35058486/2/
نص الرحلة
قضينا صيف هذا العام في أوروبا بين فرنسا وإنكلترا وسويسرا وتنقلنا في أهم مدائنها، فزرنا مرسيليا وليون وباريس ولندن وكامبردج ومنشستر وأوكسفورد وجنيف ولوزان وإيفيان. ودرسنا أحوالها وتفقَّدنا متاحفها ومكاتبها وآثارها. وتوخينا النظر على الخصوص فيما يهم قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل ونحن نتخبط في اختيار ما يلائم أحوالنا منها. وسننشر فيما يلي خلاصة ما بلغ إليه الإمكان من ذلك الدرس. ونقتصر من ذلك على ما يهم القارئ الشرقي من حيث حاجته إلى تحدي مدنية أولئك القوم في نهضته هذه. ونبين ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدنية بالنظر إلى طبائعنا وعاداتنا وأخلاقنا. وسنُغفِل سياق الرحلة، فلا نذكر رحيلنا أو نزولنا وما لاقيناه أو كابدناه في أثناء ذلك على ما جرت به عادة أهل الرحلة؛ إذ ليس غرضنا أن يكون ما نكتبه دليلًا للراحلين في السفر والنزول، ومعرفة الطرق والمسافات والأجور، وإنما نريد أن نمثل للقارئ ما طُبع في ذهننا أثناء هذه الرحلة بعد إعمال الفكرة في أحوال تلك الأمم؛ ولذلك نقسِّم الكلام إلى ثلاثة أقسام باعتبار الممالك التي زرناها على ترتيب تلك الزيارة، فنبدأ بفرنسا فإنكلترا فسويسرا. تقلب نظام الحكومة الفرنساوية على أوجه شتى، واستقر في ٤ سبتمبر سنة ١٨٧٠ على الجمهورية. وتثبت ذلك في ١٦ يوليو سنة ١٨٧٥ بقانون دستوري تعدل بعض التعديل بعد ذلك. وهو يقضي أن ترجع قوة التشريع إلى مجلس الأمة، ومجلس الشيوخ، وقوة التنفيذ إلى رئيس الجمهورية والوزارة. وهم ينتخبون رئيس الجمهورية كل سبع سنوات بأغلبية الأصوات، ولانتخابه يجتمع المجلسان المذكوران في الجمعية العمومية، وعليه تنفيذ ما يقررانه أو يشرعانه. وهو يشكل الوزارة من المجلسين، ويجوز أن يكون بعض الوزراء من غير أعضائها. وهو يعين الموظفين الملكيين والعسكريين، ويعقد المعاهدات مع الدول الأخرى، لكنه لا يقدر أن يعقد معاهدة تتعلق بمساحة أرض فرنسا أو مستعمراتها إلا بمصادقة القوة التشريعية. ولا يجوز له أن يعلن حربًا إلا بموافقة المجلسين. وكل عمل من أعمال الوزارة يجب أن يمضيه رئيس الجمهورية مع أحد الوزراء. ويستطيع هذا الرئيس بالاتفاق مع مجلس الشيوخ أن يحل مجلس النواب. والوزارات والنظارات ١٣ نظارة هي: الداخلية، والمالية، والأشغال العمومية، والحربية، والبحرية، والحقانية، والمستعمرات، والمعارف العمومية، والخارجية، والتجارة، والزراعة، والعمال، والأديان. وينتخب النواب لأربع سنوات بالتصويت العام. وكل فرنساوي من غير الجند بلغ الحادية والعشرين من عمره له حق التصويت في الانتخاب بشرط أن يثبت إقامته ستة أشهر في البلد الذي يريد أن يصوت لنائبه، أما النائب فيجب أن يكون سنه ٢٥ سنة على الأقل. وعدد النواب الآن ٥٨٤ نائبًا، وعدد المنتخبين بين عشرة ملايين وسبعة ملايين. ومجلس الشيوخ مؤلف من ٣٠٠ عضو يُنتخبون لتسع سنوات من أعيان الفرنساويين، ولا يكون سن أحدهم أقل من ٤٠ سنة. يتقاعد ثلثهم كل ثلاث سنين، ويُنتخب غيرهم. وانتخاب الشيوخ منوط بلجنة مؤلفة من مندوبين عن مجالس البلدية في الولايات على نسبة عدد سكانها، ومن النواب، فينتخبون ٥٢٢ شيخًا ينوبون عن الولايات، يُضاف إليهم ٧٥ شيخًا يُنتخبون لطول الحياة بإجماع المجلسين. ولا يجوز انتخاب أحد من أعضاء الأسرة الملكية «المخلوعة» في أحد المجلسين. الراتب واحد للنواب والشيوخ، فيستولي النائب أو الشيخ على ١٥٠٠٠ فرنك في السنة (نحو ٦٠٠ جنيه)، وأما رئيس المجلس فيأخذ فوق ذلك ٧٢٠٠٠ فرنك نحو (٢٨٤٠ جنيهًا) للنفقات. ويسافر أعضاء المجلسين في السكك الحديدية بنفقات زهيدة. وراتب رئيس الجمهورية ٦٠٠٠٠٠ فرنك أو نحو ٢٤٠٠٠ جنيه. ونحو هذا المبلغ للنفقات الرسمية. وعندهم مجلس للشورى أنشأه نابليون الأول ولا يزال باقيًا يرأسه ناظر الحقانية، وهو مؤلف من مستشارين قضائيين وعلماء في القضاء للنظر فيما تعرضه عليهم الحكومة وأكثره يتعلق بالإدارة ونحوها. فرنسا قدوة الممالك المتمدنة في روح المدنية الحديثة وأكثرهن احتكاكًا بالشرق الأدنى. وكنا إلى عهد غير بعيد لا نعرف سواها قدوة لنا في أحوالنا الاجتماعية والأدبية والسياسية والقضائية، ولا نزال أكثر معرفة بها مما بسواها. مساحة مملكة فرنسا ٢٠٧٠٥٤ ميلًا مربعًا، وعدد سكانها ٣٩٠٠٠٦٧٣ نفسًا، منهم نحو ٣٠٠٠٠٠٠٠ نفس من أهل الفلاحة، والباقون من سكان المدن يتعاطون الصنائع والمهن والوظائف والمصالح. وفيها ستون مدينة، سكان كل منها فوق ٣٥٠٠٠ نفس، أكبرها باريس عدد سكانها ٢٨٤٦٩٨٦ نفسًا. فمرسيليا ٥١٧٤٩٧، وتليها ليون ٤٧٢١١٤ نفسًا. ثم تأتي بوردو، وليل، وتولوز، وغيرها إلى روان وسكانها ٣٥٥١٦ نفسًا. وفرنسا من أكبر الممالك ثروة (نعني أهل فرنسا)؛ فإنهم يعدون في مقدمة الأمم من حيث الثروة الخصوصية. واختلف الباحثون في مجموع تلك الثروات، فوجد المسيو دي فوفيل الباحث الاجتماعي أن فرنسا تقدَّر قيمتها على هذه الصورة: وقدرها غيره بأكثر من ذلك، فبلغ مجموعها في تقدير جويو ٩٥٢٠ مليون جنيه. وبلغ دخل فرنسا السنوي في تقدير ليروا بوليو ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه، ثلاثة أخماسه من نتاج العمل الشخصي. وفي كل حال فإن الفرنساويين مشهورون بالاقتصاد والاحتفاظ بالمال. والفقر المدقع عندهم أقل كثيرًا مما في سائر الممالك الكبرى. وفرنسا كثيرة المعامل واسعة التجارة ولها في الصناعة الدقيقة القدح المعلى، ولبضائعها شهرة طائرة في الجمال وسلامة الذوق، وهي قدوة الأمم المتمدينة في الأزياء من الملابس وغيرها، وعاصمتها باريس مرجع أمم الأرض في كل ذلك مما هو مشهور لا يحتاج إلى بيان. وسنعود إليه عند الكلام على الأحوال الاجتماعية. أما مالية الحكومة الفرنساوية فبلغ دخلها في السنة الماضية ١٧٠٧٦٧٠٥٤ جنيهًا، منها ٥١ مليون جنيه دُفعت عن الدين، و٣٥ مليونًا للحربية و١٦ مليونًا للبحرية. فرنسا أرض زراعية خصبة تزيد مساحة ما يُزرع منها على ١٣٠٠٠٠٠٠٠ قصبة. وأكثر حاصلاتها الحنطة والكرم والعلف والبطاطس. وللخمور غلة كبرى بلغت قيمتها سنة ١٩١٠ نحو ٣٨٠٠٠٠٠٠ جنيه. وفيها من الماشية والحيوانات الأهلية كما يأتي: أما الصناعة فالحرير له سوق رائجة عندهم، وقد بلغ عدد المشتغلين في تربية دود القز سنة ١٩٠٨ نحو ١٢٣٨٠٠ عامل. ومقدار البزر الذي استولدوه ١٨٧٠٠٠ أوقية وبلغ محصولها ٨٤٠٩٢٩٩ كيلو غرامًا من الفيلجات. وفي فرنسا كثير من المناجم المعدنية تناهز ٦٠٠ منجم فيها ٢٣٠٠٠٠ عامل وفيهم النساء والأولاد. وبلغت غلة هذه المناجم نحو ٢٦٦٥٦٠٠٠ جنيه، أكثرها من الفحم والحديد. وهي كثيرة المعامل على اختلاف أنواعها، أهمهما معامل نسج القطن والصوف والحرير، ومصانع الأدوات الحديدية، وأدوات البناء. وهاك أهم المعامل وعدد عمالها: ومن أهم حاصلات فرنسا السكر فإن له ٢٥١ معملًا وتبلغ غلته في العام نحو مليون طن، وكذلك الكحول فإن غلته تزيد على ٤٥ مليون جالون، غير غلة المصائد ونحوها. أما التجارة فلفرنسا شأن كبير، وقد بلغت قيمة صادراتها لسنة ١٩١٠ نحو ٢٢٠ مليون جنيه ووارداتها ٢٧٠ مليونًا. إن آداب اللغة الفرنساوية أشهر من أن تُعرَّف، ولا يفي بوصفها إلا المجلدات؛ لكثرة مَن نبغ فيها من العلماء والأدباء والشعراء، وبكثرة ما فيها من الصحف والمجلات على اختلاف مواضيعها، وقد أشرنا إلى ذلك مرارًا في الهلال، وإنما نريد هنا حالها من حيث التعليم والمدارس. إن للحكومة الفرنساوية عناية كبرى في التعليم تنفق في سبيل ذلك الأموال الطائلة على يد نظارة المعارف. والمدارس عندها طبقات: مكاتب (كتاتيب)، ومدارس ابتدائية وثانوية وعالية. مدارس الحقوق: هي ١٣ مدرسة في باريس، وإكس، وبوردو، وكاين وديجون، وغرينوبل، وليل، وليون، ومونبليه، ونانسي، وبواتيه، ورين وطولوز. مدارس الطب: هي سبع مدارس في باريس، ومونبليه، وبوردو، وليل، وليون، وطولوز، ونانسي. كليات العلوم: هي ١٥ كلية في باريس وبزانسون، وبوردو، وكاين وكليرمون، وديجون، وغرينوبل، وليل، وليون، ومرسيليا، ومونبليه، ونانسي، وبواتيه، ورين، وطولوز. كليات الآداب: هي ١٥ أيضًا في المدن التي تقدم ذكرها غير المدارس التجهيزية أو التي يُراد بها التبحر في بعض العلوم الخاصة. أما عدد المتخرجين في هذه المدارس فهاك إجمالهم حسب المواضيع لسنة ١٩١٠: وهذا العدد من طلاب العلوم العالية في الكليات الأميرية، منه ٣٥٨٠٠ طالب من الفرنساويين و٥٢٤٤ من الأجانب، بينهم جميعًا ٣٨٣٠ من النساء ثلثاهن من الفرنساويين. هناك مدارس عالية غير أميرية: منها في باريس الكلية الكاثوليكية لتعليم الحقوق والآداب العالية، ومدرسة التعليم الحر العالي، والكلية الحرة لتعليم العلوم السياسية. وفي إنجرس مدارس للاهوت والحقوق، والعلوم، والآداب، والزراعة، ومثل ذلك في ليون، وليل، ومرسيليا، وطولوز. والمدارس الأميرية تمنح تلامذتها رتبًا علمية هي: (١) البكالوريا العلمية. (٢) شهادة الحقوق (اللسانس). (٣) الدكتورية، وتمنح رتبة أستاذ للتعليم الثانوي والعالي. معرض التاريخ الطبيعي: للتفقه في هذا العلم. المدرسة العلمية للعلوم العالية: في التاريخ، والفيلولوجيا، والرياضيات، والعلوم، الكيماوية والبسيكولوجية، والعلوم الطبيعية والدينية الراقية، ومقر هذه المدرسة في السوربون بباريس، وعلومها ١٨ فرعًا. مدرسة المعلمين العليا: يتخرج فيها المعلمون للتعليم في المدارس الثانوية، واتبعت خطة السوربون بدون أن يكون لها أساتذة معينون. مدرسة السجلات: لتعليم الخطوط القديمة والآثار ثمانية فروع. مدرسة اللغات الشرقية الحية: بها ١٦ فرعًا من فروع اللغات الحية الشرقية. مدرسة اللوفر: تعلِّم فن الآثار. مدرسة الفنون الجميلة. مدرسة الرصد بباريس. غير المدارس الفرنساوية خارج فرنسا كمدرسة الحقوق في القاهرة، ومدرسة الطب في بيروت، فإن مثلها في أثينا ورومية والهند الصينية وفي مراكش. ولفرنسا خارج باريس ثمانية مراصد. وغير التعليم الصناعي أو الفني؛ فإنه واسع لكنه خارجًا عن دائرة نظارة المعارف. أشهر مدارسه: مدرسة الصنائع والفنون في باريس (كونسيرفاتوار)، تلقي عشرين علمًا ليليًّا في العلم، والاقتصاد السياسي. ومدارس أخرى للتجارة والصناعة تابعة لنظارة الزراعة، وغيرها تابع لنظارة الحربية أو المستعمرات أو غيرها مما يطول شرحه، وكلها في باريس ومثلها أو أقل منها في خارجها، مثل إكس، وإنجرس، وشالون، وكليني، وليل وغيرها. وغير مدارس الموسيقى والخطابة ومدارس لتعليم الخدمة على الموائد، وتربية الأطفال وغير ذلك. والاطلاع على أسماء هذه المدارس يدل وحده على الفرق العظيم بين التعليم عندنا وفي تلك المملكة الراقية؛ فقد ذكرنا عشرات من المدارس لا وجود لها عندنا، ولم نذكر غير المدارس العالية، وقد أغفلنا المدارس الابتدائية والثانوية التي عندنا مثلها. على أن مدارسنا هذه أحط كثيرًا من أمثالها عند الفرنساويين، والابتدائية أقل كثيرًا من المدارس الابتدائية عندهم، والمدارس الثانوية كذلك. وحامل البكلورية المصرية أقل معرفة من حامل البكلورية الفرنساوية؛ فالتعليم عندنا ضعيف جدًّا من كل وجه، وسنفرد فصلًا خاصًّا في هذا الموضوع. وإنما يكفي في هذا المقام أن نبين تقاعد حكومتنا أو أغنيائنا عن التعليم. ولا يُحتج علينا بصغر مصر بالنسبة إلى فرنسا؛ فإن سكان مصر يناهزون ثلث سكان فرنسا، ومع ذلك فالحكومة لا تنفق على التعليم عُشر ما تنفقه فرنسا. إن ميزانية المعارف الفرنساوية ١١٥٥٧٠٠٠ جنيه، فكم هي ميزانية حكومة مصر للمعارف؟ إنها نحو نصف مليون! وقد يحتجون بتقصير المالية المصرية عن المالية الفرنساوية؛ لأن المالية الفرنساوية ١٧٠ مليون جنيه، والمصرية أقل من عُشر هذا المبلغ، فلا عجب إذا دفعت للمعارف عُشر ما تدفعه فرنسا. ولكن فرنسا تدفع من ماليتها أموالًا لا تدفع مصر شيئًا منها؛ فالفرنساويون ينفقون على الحربية نحو ربع ميزانيتهم، أما مصر فربع ميزانيتها يكفي لنفقات كل نظاراتها، وفرنسا تدفع نحو ثلث دخلها لوفاء الدين، وأما مصر فتدفع خمس دخلها فقط لهذا الغرض، ومع ذلك فهي تنفق على المعارف ١ / ٢٠ مما تنفقه فرنسا. وفي فرنسا جمعيات علمية (أكاديميات) عديدة لكل فرع من فروع العلم، أهمها الأكاديمية العلمية أو أكاديمية العلوم، وأكاديمية العلوم والنقوش، وأكاديمية الفنون الجميلة، وأكاديمية العلوم الأدبية والسياسية، وأكاديمية الطب وغيرها. وكل أكاديمية مؤلفة من ٤٠ عضوًا أو أكثر، ولكل منهم اختصاص بفرع من فروع العلم التي تبحث فيها، غير ما هنالك من المتاحف العلمية والصناعية والمدارس على اختلاف أحوالها. وغير الجمعيات المؤلفة لتنشيط العلم والأدب أو لحفظ حقوق المؤلفين والمترجمين، ومراقبة سير العلوم من حيث الصحافة، وغيرها، وغير المعارض والمتاحف فإنها من ظواهر الرقي العلمي، وسنأتي عليها. أرقى مدائن فرنسا بلا خلاف باريس، ومع ذلك فالذاهب إليها من مصر لا يجد فيها ما يدهشه من حيث ظواهر المدنية الحديثة كالشوارع الواسعة، والأبنية الفخيمة والأنوار الكهربائية، وازدحام الأقدام والبذخ في الألبسة والتفنن في الأزياء؛ لأن في مصر أمثلة من ذلك لكنها في باريس أفخم وأجمل، ولا غرو؛ فإن حضارة مصر الحديثة صورة مصغرة من حضارة باريس. والمرحوم إسماعيل باشا صاحب الفضل الأكبر في تنظيم شوارع القاهرة وإنشاء الأبنية الفخيمة فيها، إنما كان يفعل ذلك تقليدًا لباريس، وكان مفتونًا بالفرنساويين ومدنيتهم، وظل ذلك مستمرًّا بعده إلى عهد قريب. فلا ينبغي لنا أن نطيل الكلام في وصف شوارع باريس الكبرى وسعتها وما يحف بها من المخازن، وما يُعرض في تلك المخازن من السلع الثمينة، أو ما يتلألأ في الليل من الأنوار الكهربائية على اختلاف ألوانها، ولا تعداد ضروب المركبات في العربات. فالأوتوموبيل، فالترامواي، فالأوتوبيس، فالأومنيبيس فالمتروبوليتان وغيره، فإن هذه لها أمثلة بين ظهرانينا ولكنها عندهم أكثر عددًا والركاب أكثر ازدحامًا، وإنما تمتاز عما في مصر وغيرها من مدائن الشرق، أن السائق لا مطمع له في الركاب ولا سبيل إلى طلب الزيادة عن حقه؛ لأن المركبات الكبرى العمومية كالترامواي وغيره لها رسوم معينة كما في مصر. والمركبات الصغرى كالعربات والأوتوموبيل أصبحت كلها مقيدة بالعداد (تكسيمتر) وهذه الآلة تعيِّن الأجرة اللازمة وتغني الناس عن النزاع. وقد استلفت نظرنا على الخصوص أن باريس مع تزاحم الأقدام فيها لا يتنازع الركاب في المسابقة إلى الترامواي أو الأومنيبيس، ولا يُسمح لأحد بالوقوف بين الركاب إذا لم يكن له مجلس فارغ، ولا يجسر أحد على الركوب في غير دوره. لا يختلفون في ذلك ولا سبيل إلى الاختلاف؛ لأن عند كل موقف من مواقف هذه المركبات لوحًا معلقًا بعمود منصوب على الرصيف، وعليه دفتر صغير الحجم أوراقه منمرة نمرًا متسلسلة، فالذي يسبق إلى الموقف يقتطع النمرة الأولى، ومَن يأتي بعده يتناول النمرة التالية وهكذا. وقد يجتمع في الموقف عشرات من الناس وربما جاء القطار وليس فيه مكان إلا لخمسة أو ستة فلا يُؤذن بالدخول إلا لمن كانت عندهم النمر الأولى بقطع النظر عن أحوالهم من الغنى أو الفقر أو الوجاهة. ومثل هذه العادة في لندن عند تكاثر الركاب ساعة الظهر لركوب الترامواي، فقد جعلوا في المحطات التي يكثر التزاحم عندها موقفًا مستطيلًا لا يدخله الناس إلا أزواجًا، أوله عند محطة القطر وآخره في الشارع لا حد له، فالواصل الأول يقف قرب المحطة تمامًا والذي يأتي بعده يقف وراءه وهكذا أزواجًا. وقد يتألف من الواقفين سلسلة طولها عشرات من الأمتار، وكل منهم ينتظر دوره بلا نزاع ولا خصام، ويفعلون نحو ذلك في كل ما تتزاحم فيه الأقدام كالدخول إلى المراسح أو قطع تذاكرها، فالسابق يقف عند شباك التذاكر والذي يأتي بعده يقف وراءه وهكذا، وقد تتألف من الواقفين سلسلة طويلة رأينا واحدة منها عند مرسح بمنشستر. والمرسح في بناء كبير قائم بنفسه رأينا المنتظرين وقوفًا في سلسلة طويلة وقد يحيطون بالبناء من أربع جهاته، أولهم عن يمين شباك التذاكر وآخرهم عن يساره. ومما يحسن استطراده ويهمنا أمره في هذا المقام أن قومساري الترامواي أو غيره من المركبات العمومية لا يحتاجون إلى مفتشين يتفقدون سيرهم خوفًا من السرقة كما هو حال الترامواي عندنا. وقد يكون للترامواي الفرنساوي أو الإنكليزي مفتشون ولكنهم لا يتفقدون المركبات إلا نادرًا، وقد ركبنا في تلك المركبات عشرات من المرات لم نشاهد فيها مفتشًا ولا لحظنا من القومساري مطمعًا في التذاكر كاستخدام التذكرة مرتين لراكبين أو قبض الجُعْل بدون أن يعطي التذكرة ولا رقيب عليهم من الشركة، ولعل السبب في ذلك أن الشركة تدفع لهم الرواتب الكافية لمعاشهم فلا يرون حاجة إلى السرقة، ولو أرادوا السرقة لا يجدون من الركاب مَن يوافقهم عليها كما يقع كثيرون بيننا، حتى إن بعض ركاب الترامواي بمصر يحرض القومساري على سرقة الشركة بقوله: «بلاش تذكرة»، فيعطيه القرش ولا يأخذ التذكرة، وذلك ناتج عن ضعف في الأخلاق لا نراه عند أولئك. والتزاحم في العواصم الكبرى يسهِّل رواج السلع على طلاب الرزق، وقد يستغرب قومنا بمصر، أو الشام كيف يَنفُق في أسواق باريس، أو لندن أشياء لا فائدة لها أو لا تستحق الرواج، وإنما السبب في ذلك كثرة الناس؛ لأن مَن يعرض سلعة في الشارع لا يمضي عليه ساعة حتى يمر به مئات الناس فلا يخلو أن يكون فيهم مَن يقع اختياره على تلك السلعة، فيشتريها ولو على سبيل التجربة، وإنما يطلب من صاحب السلع أن يستلفت الأذهان إلى بضاعته وهذا هو السبب في اهتمام الإفرنج بالإعلان حتى إن أحدهم إذا همَّ بإنشاء تجارة أو صناعة أعد رأس مال بالإعلان قبل رأس مال البضاعة، وقد تفننوا في ذلك تفننًا عجيبًا؛ فهم يعلنون في الجرائد وعلى أغلفة الكتب وعلى جدران المنازل وأسطحتها وعلى الموائد وأغلفة المساوك، وفي مركبات الترامواي والأومنيبيس والقطر الحديدية وفي المحطات، حتى الحقول، فإنك وأنت راكب في القطر من مدينة إلى أخرى يقع بصرك على عشرات أو مئات من ألواح قائمة على عُمد مغروسة في الحقول ووجهها نحو الركاب فتقرأ عليها أسماء المحلات، أو المعامل، أو المصنوعات، ولا سيما المشروبات والحلويات وأمثالها، فإن أصحابها من أكثر الناس إنفاقًا على الإعلان، وإنما يفوز منها مَن يستلفت الأذهان إلى صناعته فضلًا عن إتقانها. ويُقال إن أكثر المتاجر إنفاقًا في فرنسا أصحاب معمل «شكولات مينيه»، وحيثما توجهت في شوارع المدن أو خطوط السكك الحديدية حتى المتاحف والمعارض ونحوها فإنك تجد عليها اسم هذه الشكولاته، وأصحابها ينفقون مليوني فرنك سنويًّا على الإعلان، وأرادوا مرة أن يقتصدوا فقلَّت مبيعاتهم فعادوا إلى الإنفاق. ومن أغرب طرق الإعلان عندهم أنهم يكتبون اسم البضاعة على الحقول نفسها أو على الجبال بأغراس من الأعشاب بلون خاص يغرسونها على الرسم المطلوب كتابته فتنبت على ذلك الشكل، وقد تكون بعيدة عن الطرق والمنازل عدة كيلومترات فيراها الناس ويقرءونها واضحة. ومن أساليب الإعلان أن يُذكر اسم السلعة أو المشروب أو غيره على المراسح أو غيره في أثناء التمثيل على سبيل الاستشهاد أو الانتقاد أو غير ذلك، ويدفع صاحب الإعلان على ذلك ثمنًا. ومن أساليب الإعلان أن يعرض التاجر بضاعته ويكتب على كل صنف ثمنه، فهذا يسهل على الشاري الحُكم في الابتياع أو عدمه، لكن أصحاب البضائع التي فيها درجات متفاوتة بأثمان متفاوتة يعلنون أنهم يبيعون الأداة الفلانية بالثمن الفلاني، ويذكرون أرخص سعر عندهم فيتوهَّم الشاري أنه ثمن الصنف الجيد فيدخل للسؤال على الأسعار، ولا بد من أن يشتري. ولا خلاف في أن باريس أسبق مدائن العالم إلى جمال الصناعة ولطافة المصنوعات، وهي التي ترسم للعالم الأزياء التي يجب اتباعها، وقد يكون لسواهم أزياء لكنها السابقة المتغلبة. ولأهلها مقدرة كبرى على توليد الأزياء في الملابس وغيرها. وهناك طائفة من أهل الذوق الصناعي إنما يشتغلون بوضع الرسوم للأزياء الجديدة، يستعينون على ذلك بما في المتاحف الصناعية من الرسوم أو المنسوجات القديمة فيركبون منها زيًّا جديدًا يبالغون في تنقيحه وتدقيقه حتى يبلغ حده، ثم يُعرض على أصحاب المعامل للنسج على منواله، أو أصحاب المتاجر ليروِّجوه. وللفرنساويين مهارة خاصة في الزخرفة وإتقان المظاهر بغير التفات إلى متانة ما يصنعونه وطول بقائه، بخلاف الإنكليز فإنهم إنما يهتمون بمتانة ما يصنعونه ولا يهمهم ظاهره، وهذا تابع لما اتصف به هذان الشعبان من الأخلاق كما سنذكره في بابه. فالبضاعة الباريسية إنما يرغب الناس في ظواهرها أكثر مما في متانتها. واعتبر ذلك في أكثر معاملاتهم فإن ما تبتاعه بعشرة فرنكات من أسواق باريس ليس فيه من المادة الأصلية إلا ما يساوي فرنكين أو أقل، والباقي ثمن ما يُنفَق في سبيل ترويجه من المظاهرات كإتقان المخازن، والإكثار من الخدم، والتنوير الكهربائي والإعلان وغير ذلك. ومن غرائب هذه الحضارة في فرنسا «البخشيش»، نعني ما يُعطى للخدم مكافأة على خدمة خاصة، وهو عندنا لا يُعطى إلا إذا كانت الخدمة خارجة عن واجبات الخادم التي يُنقَد عليها الأجرة. وأصل هذه العادة الغريبة عندهم على ما نظن تزاحم الغرباء على أماكن اللهو في زمن لم يكن الخدم فيه يستطيعون القيام بما يلزم من الخدمة، فأصبح مَن يريد تعجيل حاجته مضطرًّا أن يسترضي الخادم بدفعه خصوصية له، وتكرر ذلك حتى صار قاعدة، وأصبح خَدَمة أماكن الملاهي يعدون البور بوار من جملة استحقاقاتهم، وبعضهم لا يتقاضى من صاحب القهوة أو المطعم أجرة، وفيهم مَن يدفع شيئًا من جيبه لصاحب القهوة ليأذن باستخدامه. ومما يستلفت نظر المصري في باريس أنك لا تجد في شوارعها متسولًا يعترض طريقك، ولا متشردًا مستلقيًا على الشارع، ولا غلامًا عاريًا أو شبه عارٍ يتسلق الترامواي، أو يعرض عليك خدمة من حمل حقيبة أو نحوها؛ لاشتغالهم عن ذلك بالمدارس. نظام الاجتماع من حيث أساسه واحد في كل بلد، وإنما يختلف في تفاصيله باختلاف الأعصر والأقاليم؛ فالهيئة الاجتماعية في أبسط أحوالها مؤلفة من العائلة والحكومة والكنيسة، فإذا ارتقت نشأت فيها المدارس والجمعيات الأدبية، والشركات الاقتصادية. وتختلف هذه الجماعات في كل بلد باختلاف طبائع أهله ونوع مدنيتهم وسائر أحوالهم؛ فنظام الحكومة يختلف بين الاستبدادي والدستوري والجمهوري. ونظام العائلة في الشرق غير ما هو في الغرب، وفي هذا العصر غير ما كان عليه قبله، كانت العائلة عندنا إلى أوائل القرن الماضي على شكل الحكم الملكي المطلق — الأب رئيس العائلة يستبد في أهله استبداد السلطان المطلق في رعيته، يزوِّج مَن شاء بمَن شاء، ويعهد إلى مَن يريد بما يريد من عمل أو سفر أو إقامة — لا يرون في ذلك غرابة، ثم تعدَّل هذا النظام بعد دخولنا في المدنية الحديثة فأخذت العائلة تقترب من النظام الدستوري لكنها ما زالت أقرب إلى الحكم المطلق، ويختلف ذلك باختلاف الأمم والأديان. وبناء على ما للأقاليم أو البيئة من التأثير في أبدان الناس وعقولهم وطبائعهم فاختلاف الأقاليم أوجب اختلاف الأمم في كل، فلننظر في طبائع الأمة الفرنساوية على الإجمال. الفرنساوي عامل نشيط يدأب على العمل بحماسة وهمة، ولا سيما أهل الزراعة منهم؛ فإنهم قويو الأبدان يعملون في حقولهم بنشاط، ولا تجد في فرنسا بقعة تقبل الزراعة غير مزروعة. وكذلك العمال والصناع، وسائر طبقات الناس؛ فإنهم نشيطون في ذهابهم وإيابهم في كلامهم وأشغالهم وفي أسفارهم؛ فإن أحدهم ينزل من القطار ويحمل حقيبته (الشنطة) بيده، فإذا كان منزله قريبًا سار إلى بيته ماشيًا لا يرون في ذلك بأسًا، على أنهم إذا طلبوا غلامًا أو رجلًا يحمل لهم الحقيبة في أثناء الطريق لا يجدون، وهي صفة يشترك فيها أهل أوروبا كافة، ويتأثر بها الشرقي حالما يطأ تلك القارة. وتقوم في نفسه رغبة في الهمة والنشاط، فإذا رجع إلى بلده عاد إلى طبعه، إلا إذا توطَّن أوروبا طفلًا، ومرجع ذلك إلى طبيعة الإقليم. والفرنساوي ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، حاضر الذهن، فصيح خفيف الروح، فيه ميل إلى الفنون الجميلة وذوق في الصناعة. وللفرنساويين ذوق في الجمال لا تضارعهم فيه أمة، يظهر ذلك خصوصًا في الباريسيين؛ فإنهم قدوة الأمم في الأزياء على اختلاف أشكالها، ولهم ذوق في توليد الجمال مما لا جمال فيه من نفسه بترتيب أجزائه على شكل لا قاعدة له إلا الذوق، وهو على أرقى درجاته في باريس؛ تجد المرأة القبيحة الخلقة تتزيا بزي يناسبها، وتصفف شعرها تصفيفة تناسب ملامح وجهها، فتظهر جميلة. ولهم في تصفيف الشعر، واختيار شكل البرنيطة ولونها طرق تختلف باختلاف تقاطيع الوجه، ولونه وشكل الأنف والعينين والجبهة والفم، وغير ذلك فيوفقون التصفيفة (التواليت) والبرنيطة على حال الوجه فيظهر جميلًا. ويتبع ذلك ميلهم إلى تزويق الحديث، فإنه من قبيل رغبتهم في الجمال الخارجي، فكما يوفقون بين تصفيفة الشعر، وحجم البرنيطة وشكل الوجه حتى يظهر جميلًا، فهم أيضًا يحسنون الحديث حتى يلائم ذوق السامع فتنبسط نفسه له، لكنه لا يرى النتيجة دائمًا كما كان يتوقعها، فالفرنساوي فيه ميل إلى إتقان الظواهر أكثر مما إلى إتقان البواطن، وهو من قبيل حبه الجمال، ويخالفه الإنكليزي في ذلك كما سنبينه في مكانه. ومن قبيل ميلهم إلى الجمال واقتدارهم على توليده ما نجده في مخازنهم وشوارعهم من الزخارف التي يُراد بها التحسين؛ أي أن تظهر السلعة المعروضة أحسن مما هي، ومن هذا القبيل استخدام المرايا في الواجهات لإيهام الناس أنها أكبر مما هي، وإذا كان الحانوت صغيرًا جعلوا جدرانه من المرايا فيظهر أضعاف ما هو. والفرنساوي مقتصد من فطرته، وترى الاقتصاد ظاهرًا على الخصوص في القرى؛ فإن أصحاب المزارع الصغرى يعيشون عيشة بسيطة. والفلاح يشتغل وامرأته تشتغل وأولاده يشتغلون كل على قدر طاقته وحسب ميله، ولا بد لكل منهم أن يقتصد شيئًا من ربحه مهما كان قليلًا فيحتفظ به لنفسه. وهم يستخدمون الفرش البسيط عكس أهل المدن وكذلك ملابسهم؛ فالفلاح الفرنساوي بسيط في لباسه وأخلاقه، ومهما يكن من فقره فإنك تجده نظيف الثوب، نظيف الفراش، يأكل على المائدة بالشوكة والسكينة بترتيب ونظافة، فلا تستنكف إذا دخلت بيته من أن تجلس على مقعده، وتأكل من طعامه، وتشرب من كأسه. وليس كذلك الفلاح المصري ولا سبيل إلى إصلاحه إلا بتعليم المرأة وتثقيفها، وهي المدبرة لكل ذلك. ومن الخلال الحميدة الشائعة في معظم أوروبا ونحن في حاجة إليها «معرفة الواجب»، وهي تشمل كل أعمال الإنسان، نعني أن يشعر الإنسان بما عليه فيؤديه من تلقاء نفسه بدون استحثاث أو إرهاب أو ترغيب (لو فعل ذلك كل إنسان لاستغنى الناس عن الحكومات وأُبطلت المحاكم). ولكن الناس يتفاوتون في هذا الباب وأكثرهم شعورًا بالواجب أقربهم من المدنية والارتقاء. وهو يستلزم الأمانة وهي أساس المعاملات وأكبر أسباب النجاح (ما أجمل أن يشعر الإنسان بما عليه فيؤديه بلا وازع أو مراقب). والفرنساويون من أكثر الأمم شعورًا به، وكذلك الإنكليز، وربما ظهر الإنكليز أكثر قيامًا بالواجب؛ لأنهم يعملون كثيرًا ويقولون قليلًا. وأما الفرنساوي فميله إلى زخرف الكلام يُظهِر أعماله قليلة، لكن الشعور بالواجب قوي في كليهما. ذكرنا في غير هذا المكان أن قومساري الترامواي لا رقيب عليه (مفتش)، وهم لا يسلبون الشركة باستعمال التذكرة مرتين أو قبض الثمن بدون أداء التذكرة؛ لأن القومساري الفرنساوي أو الإنكليزي نشأ وقد غرست والدته في ذهنه من طفوليته أن يعرف ما له فلا يطمع بسواه، ولو أراد السائق أن يطمع فإن الشعب أرقى من أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه تربى تربية راقية وعرف ما له وما ليس له، ويعلم أن تساهله مع القومساري في أمر التذكرة إنما هو مشاركة له في السرقة، ولكن كثيرين عندنا يتساهلون في ذلك وبعضهم يحرض القومساري على السرقة، والسبب في ذلك ضعف أخلاق العامة عندنا. وإن مَثَل الترامواي هذا على بساطته يدل على أخلاق العامة. ومن قبيل الأمانة المبنية على معرفة الواجب، وما يترتب عليها من الثقة المتبادلة، أن بعض باعة الجرائد في فرنسا وإنكلترا يضعون أعداد الجريدة فوق طاولة على الرصيف خارج الحانوت، وبجانبها علبة، فمن أراد أن يبتاع جريدة وضع ثمنها في العلبة وتناول الجريدة ولا رقيب عليه، وصاحبها لا يخاف أن يسرقه المارة فيأخذ أحدهم الجريدة ولا يدفع الثمن. وقس على ذلك الثقة المتبادلة في سائر الحرف. دخلنا مطعمًا في لندن يوم وصولنا من باريس، وبعد الفراغ من الطعام دفعنا لصاحب المطعم ليرة فرنساوية فاعتذر بأن النقود الفرنساوية لا تُقبل عندهم، ولم يكن عندنا نقود غير فرنساوية، فوقعنا في حيرة وأردنا أن نترك الليرة له ريثما نعود وقد بدلنا النقود، فأعاد الليرة ليدنا وقال: «دعها معك ومتى بدلتها تدفع ما عليك»، وكانت هذه أول مرة رآنا فيها الرجل. أليس ذلك من الأخلاق الراقية؟ أن صاحبها يتصور رجلًا عليه حق لا يبادر إلى دفعه من تلقاء نفسه، ولا يدل هذا على خلو البلاد من أصحاب الأخلاق الضعيفة، ولكنهم أقل مما عندنا، كما أننا لا نعني ضعف الثقة عندنا في كل الطبقات، وإنما نريد الأغلبية. ومن جميل ما نحسدهم عليه معرفة قيمة الوقت، وهو يتوقف على معرفة الواجب أيضًا؛ فإنهم يقسِّمون أوقاتهم ويفرقونها على أعمالهم، فلا يقصرون بما عليهم، ولا يضيعون أوقات أصدقائهم بالزيارة الحبية كما يفعل كثيرون عندنا؛ فإن بعضهم يزورك في ساعة شغلك ولا شغل له، ويعلم أنك مشغول فلا يختصر زيارته، ولا أنت تجرؤ على الاعتذار منه لئلا تُتهم بالفظاظة، ولكن هذه العادة آخذة بالزوال من بيننا في الطبقة الراقية. واعتبر ذلك في صدق المواعيد؛ فإنه تابع للشعور بالواجب، وهو ينقصنا لكنه آخذ في الشيوع بين المتعلمين. ومن الأخلاق الفرنساوية الشائعة في باريس اشتغال كل منهم بنفسه عن سواه، فلا يتعرض أحد إلى شئون جاره بالاستطلاع أو التجسس. وهو من طبائع أهل المدن الكبرى وطبيعي شيوعه في باريس وهي ثالثة مدائن العالم. وتجسس الأخبار والدخول في أحوال الآخرين يكثر في القرى الصغيرة لتفرغ أهلها للأحاديث، ولأنهم مطلعون على عورات جيرانهم ولا يخلون من التحاسد أو التباغض، وكلما اتسعت المدينة قلَّت تلك العادة فيها، ولذلك كان أهل باريس من أكثر الناس بعدًا عنها؛ فإن أحدهم يمشي وهمه نفسه ولا يلتفت إلى سواه، أو يجلس في القهوة ولا يلتفت إلى جليسه مَن هو، وقد يكون بجانبه رجل وامرأة يتغازلان أو يتداعبان فلا يهمه ذلك. وهذا ما نعبر عنه بضعف الغيرة ولا يستطيع الشرقي احتماله، أما الفرنساوي فيتحمله ولسان حاله يقول «لا يعنيني»، ولكنه مع ذلك جنوح إلى النجدة، وفيه أريحية إذا استحثته على منقبة اندفع إليها بكليته ولو جره ذلك إلى خسارة أو حمَّله مشقة. ومن سجاياهم أنهم يفاخرون برجالهم، ويعظِّمون النابغين منهم، وحيثما مررت بشوارع باريس تجد تماثيل العظماء منصوبة في تقاطع الطرق، أو واجهات القصور، أو في الساحات العمومية يزيد عددها على مائة وستين تمثالًا كبيرًا للقواد، والملوك والكتاب والشعراء والفلاسفة والعلماء، وبينها تماثيل بعض مشاهير الأمم الأخرى مثل دانتي شاعر الإيطاليين، وواشنطون محرر أمريكا وشكسبير الشاعر الإنكليزي، وغريبالدي القائد الإيطالي، غير التماثيل الرمزية عن الحرية أو الاتحاد أو نحوهما، وغير التماثيل المنصوبة في المتاحف والمراسح والمدارس والكنائس والمنازل وهي عديدة جدًّا، وأكثرها شيوعًا تمثال بونابرت على اختلاف أقداره وأشكاله. والتماثيل تثير في النفوس الحماسة والميل إلى الاقتداء بأولئك العظماء، وهي وسيلة حسنة لاستنهاض الهمم واستحثاث القرائح لا مثيل لها عندنا، إلا قليلًا. ويمتاز الفرنساويون عن سائر أهل أوروبا بالنزوع إلى الحرية على اختلاف أوجهها. وقد مرت أجيال كانوا فيها نصراء الحرية يأخذون بأيدي طلابها وينصرونهم بالمال والرجال، وأشهر الشواهد على ذلك نصرتهم للأمريكان في طلب الاستقلال من سلطة الإنكليز. ومن قبيل تعشقهم الحرية مغالاتهم في مطاردة بعض الجماعات الدينية، لكنهم تطرفوا في ذلك حتى خرجوا به إلى عكس المراد بالمدنية، ففترت الحاسَّات الدينية، ونزع الناس إلى الشك في الدين، وآل الأمر في بعض الأحوال إلى فساد الآداب؛ لأن العامة لا تستغني عن وازع ديني يُصلِح من آدابها. ومن أكبر أسباب الفساد إلقاء الشكوك الدينية في أذهان الناس. والفرنساويون يُكثِرون من أكل اللحوم في طعامهم، وهو شأن أكثر سكان أوروبا وخصوصًا في البلاد الباردة لاحتياجهم إلى المواد اللحمية في مقاومة البرد؛ ولهذا السبب أيضًا يُكثِرون من شرب الخمور، وتكاد لا تجد بينهم مَن لا يشرب الخمر على المائدة رجالًا ونساء وأولادًا، وكثيرًا ما يجر ذلك إلى إدمان المسكر، فكثر المدمنون عندهم ولا سيما في الطبقات السفلى كالعمال والصناع، أما شرب الخمر الاعتيادية فإنه عام ولا يُشترط أن يكون على المائدة؛ ولذلك ترى وجوه الفرنساويين مشرقة أو مشربة حمرة — ولا يدل ذلك على الصحة دائمًا، وقد يدل على المرض — وترى صاحبه يميل إلى النعاس بعد الطعام، ويظهر ذلك في ساقة المركبات بباريس؛ لأن أحدهم إذا لم يكن سائقًا مركبته لا تراه إلا نائمًا على كرسيه ورأسه متدلٍّ على صدره، وقد احمرت وجنتاه وانتفخت أوداجه. وحوادث المسكر بمصر على كثرتها قليلة بالنسبة إلى تلك البلاد، ولكننا نشكو من شيوع الحشيش بمصر رغم منعه رسميًّا، على أننا سمعنا بوجوده في باريس أيضًا بأمكنة يعرفها طالبوه. بقي علينا النظر في أمرين مهمين من نظام الاجتماع عندهم (نعني طبقة العامة والمرأة). ومن قبيل النظام الاجتماعي أن تكون الأمة مؤلفة من طبقات ترجع إلى طبقتين: الخاصة والعامة، ويختلف حال كل منهما باختلاف الأمم والأعصر، وإن تشابها على الإجمال في كل بلد؛ فالخاصة — وهم أهل الوجاهة والثروة — يغلب أن يكونوا ممتازين في نفوذهم ومعيشتهم، ويكون العامة تابعين لهم في أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على تفاوت ذلك بتفاوت أحوال المدنية وأنواعها. فالعامة في التمدن القديم كانوا كما قال الإمام علي «همج رعاع أتباع كل ناعق.» وقال معاوية: «إنهم أشباه البهائم، إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا»، وهم نحو ذلك في الشرق إلى الآن إلا في بعض البلاد الراقية. أما في الغرب فقد تغيرت أحوالهم حتى أوشكوا أن يقلبوا نظام الاجتماع ولا سيما في البلاد الجمهورية ومنها فرنسا، وهو موضوع كلامنا في هذا الباب. إن العامة في فرنسا يختلفون عن عامتنا بأمور كثيرة: منها أنهم أرقى تربية، وأوسع تعلمًا، فلا تجد فيهم مَن لا يحسن القراءة والكتابة، وحيثما توجهت ترى البوابين وساقة المركبات وصغار الباعة وخدم المنازل والقهوات حتى مسَّاحي الأحذية يطالعون الجرائد والكتب، ويهتمون بالشئون العامة ويبحثون في السياسة، ويتناقشون في التعليم والأحزاب وينتقدون أعمال الحكومة، والسبب في ذلك العلم بالحقوق والواجبات، فإنه عام في كل بلدة وقرية، فتنبهت الأذهان وتفتحت الأعين وتعلَّم العامي معنى الاجتماع والاتحاد، وخصوصًا بعد الانقلاب الذي جعل كل شيء في أيدي العامة؛ لأنهم قلبوا الحكومة واستبدوا في الشرفاء والأمراء، فتشكلت الأحزاب من العامة، وارتقت نفوسهم، ورافق ذلك كثرة الاختراعات الصناعية التي أغنت أصحاب الأموال «الخاصة» عن كثير من العمال فتضايق العمال وهم من العامة، واضطروا إلى الاجتماع والاحتجاج والمطالبة وهو الاعتصاب، وساعدهم على ذلك شيوع مذهب الاشتراكية، واحتياج النواب إلى العامة في التصويت عند الانتخابات النيابية، وكل نائب يجتهد في اكتساب رضى القوم في البلد الذي ينوب عنه حتى يصوتوا له. فازداد العامة نفوذًا وطمعًا، وأكثروا من الاعتصاب حتى أتعبوا أصحاب الأموال وحمَّلوهم خسائر عاد معظمها على الجمهور؛ لأنها آلت إلى ارتفاع الأسعار. فالحرية التي نالها العامي الفرنساوي صانت حقوقه من جهة، لكنها أضرت به وبالأمة من جهة أخرى؛ لأن العامي مهما بلغ من ارتقائه لا يبرح قصير الإدراك، وإنما يتدرب على الاجتماع والصياح مع الصائحين فينحاز إلى هذا الحزب أو ذاك لا عن تفطن وإدراك، وإنما هو يُساق بعواطفه ويندفع بما يخطر له حسب المؤثرات الخارجية. والعامي الفرنساوي مدمن للمسكر كما تقدم، أضف إلى ذلك حدة مزاجه، فإذا ضربت له وترًا حساسًا كالدين أو الوطنية أو غيرها اندفع لما تريده منه، فالغلبة لمن يستطيعون استهواء هؤلاء العامة لأغراضهم بالفصاحة أو نحوها. والنفوذ الحقيقي للخاصة؛ لأنهم أقوى عقولًا وأكثر وسائل، ذلك هو شأن الجماعات في كل بلد: يختصم الخاصة على السيادة أو الكسب، فيستنصرون العامة بعضهم على بعض بما يستطيعون من الأساليب فينصرونهم، وينفِّذون أغراضهم، والعامة يتوهمون أنهم يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم. مهما بلغ من رقي العامة وحريتهم فالخاصة هم أصحاب السيادة الحقيقية، وهم كالأوصياء على العامة يسنون لهم الشرائع ويضعون لهم القوانين ويدربونهم في شئونهم السياسية والاجتماعية حتى أحوالهم اليومية، فإن الحكومة الفرنساوية تهتم بها كثيرًا، وقد فرضت على العامل أن يرتاح يومًا في الأسبوع فإذا لم يفعل عُدَّ مذنبًا، وإذا كان عمله لا يأذن له بالراحة كخَدَمة المطاعم والقهوات ونحوها، دبَّرت الحكومة وسيلة تمكنه من الراحة؛ وذلك أنها أمرت العامل من هؤلاء أن يختار يومًا من الأسبوع يرتاح فيه، وعينت مَن يقوم مقامه في ذلك اليوم ويستولي على أجرته. وعندهم طائفة من العمال تحت الطلب لهذا الغرض، فبهذه الواسطة يشغلون سُبع العمال ويريحون جمهورهم، لكن بعض العمال يشتكون من هذه المعاملة؛ لأنها تضيع عليهم سُبع دخلهم؛ ولأنهم ينفقون في يوم الراحة أكثر من يوم الشغل. وللإنكليز عناية مثل هذه أو أشد منها في تدبير شئون العامة سنأتي عليها في مكانها. كانت المرأة في الأعصر المظلمة بأوروبا وغيرها مرذولة محتقرة تُعد من قبيل المتاع، وكان للرجل أحيانًا أن يبيع امرأته بالمزاد العمومي. وتفنن الكتاب والشعراء في هجائها وانتقادها. وتباحث اللاهوتيون طويلًا في «هل للمرأة نفس» وزعموا أنها «باب جهنم» و«معمل أسلحة الشياطين، وصوتها فحيح الأفاعي» وأنها «نبال الشياطين» و«سامة كالصل، وحقودة كالتنين»، وقال الشاعر العربي: فلما بزغ نور التمدين الحديث، وتحولت العلوم والمعارف من النظريات والتقاليد إلى الاختبار والدرس كان في جملة ما همَّهم «المرأة»، فأدركوا خطارة مركزها في الهيئة الاجتماعية، وأن النجاح معقود بتعليمها وترقية نفسها؛ لأنها قوام العائلة، ومربية الأبناء وشريكة الرجل في أحوال الحياة، فقدَّموها وعلَّموها ورفعوا منزلتها، فقامت تطالب بحقوقها. واختلف الكتاب في مقدار تلك الحقوق لكنهم اتفقوا على احترام المرأة وإجلالها حتى مثَّلوا بها الفضائل والمفاخر، فإذا أرادوا تصوير الحرية مجسمة نحتوا لها تمثال امرأة، وهكذا فعلوا بتمثيل الاتحاد والبلاغة والعمل وغيرها من الفضائل المجردة، فإنهم يمثلونها بصورة امرأة. والفرنساويون من أكثر الأمم احترامًا للمرأة. أخرجوا المرأة من ظلمات الجهالة، وأطلقوا سراحها، واعترفوا بحقوقها وساووها بالرجل، ما له وما عليه، فبرزت من خدرها، وتعاطت أعمال الرجال، وسابقتهم في كثير من أعمالهم؛ لأنها أقل أجرة من الرجل فكثر استخدامها فيما تستطيعه من المناصب والمهن. فمن النساء عندهم بائعات في المخازن وعاملات في المناجم والمصانع والمعامل، وخادمات في المنازل وكاتبات في المتاجر والشركات، وفي بيوت التلغراف والتلفون والبريد وحاسبات في المصارف، وقد تعاطين أهم المهن العلمية كالمحاماة والطب والتحرير والشعر والتأليف والوعظ والعمل في معامل الكيمياء والبكتريولوجيا، وغير ذلك. وأنشأن الجمعيات العلمية والأدبية والأندية الاجتماعية، وألَّفن الأحزاب السياسية للمطالبة بحقوقهن، وتعاطين كثيرًا من الصنائع الحقيرة، أو المتعبة، فمنهن غارسات في الحقول ومنظفات في الشوارع — حتى سوق المركبات فقد شاهدنا واحدة منهن تسوق مركبة بالأجرة في شوارع باريس فأدهشنا ذلك، فأخبرنا صديق كان معنا أن في باريس ١٢ سائقة مثل هذه — والسبب في نزول المرأة هذه المنزلة عندهم أن الفتاة الفرنساوية تنشأ في منزل والديها كما ينشأ الغلام، ويُطلب منها أن تتكسب بالشغل كما يتكسب هو. وهي تجالس الرجل وتحادثه وتباحثه في كل موضوع كأنها رجل مثله، وتسافر للسياحة والاستكشاف وحدها لا ترى في ذلك بأسًا أو غرابة مما لم نألفه في بلادنا؛ فإن فتاتنا تتعلم أو لا تتعلم، ثم تمكث في منزل والديها في انتظار نصيبها للزواج وزينتها الحشمة والحياء، ولا يخطر لأهلها أن تعمل عملًا، فهي إما أن تتزوج أو تبقى عانسًا في بيت أبيها ولا تشتغل إلا نادرًا، وأكثر اشتغالها بالتعليم أو الخياطة، ويندر أن تتعاطى عملًا آخر، ومهما بلغ من حريتها فهي لا تجالس غير معارفها وذوي قرباها. أما الإفرنجية فحالما تخرج من المدرسة تمضي إلى السوق كما يمضي الشاب، فإذا أتاها النصيب تزوجت، فيشغلها الزواج عن الارتزاق اكتفاء بعمل زوجها، وإلا فإنها تشتغل هي أيضًا، ولا يخفى ما في ذلك من تضاعف الأيدي العاملة في الأمة الفرنساوية؛ أي إن العمال من الجنسين نحو ضعفي العمال عندنا بالنسبة إلى عدد السكان. والمرأة الفرنساوية في القرى والبلاد الصغيرة مثال الاقتصاد والترتيب والعطف على أولادها والأمانة لزوجها، وكذلك المرأة في العائلات الراقية من الطبقة الوسطى والعليا، لكن هذه الحرية أدت في المدن الكبرى إلى تشويه ذلك الجنس اللطيف في طبقة معينة من العامة. وهذا التشويه أخذ في الامتداد، ويُخشى أن يجر إلى انقلاب اجتماعي وخصوصًا في باريس أم المدائن الجميلة. كنا نشكو من جهل الفتاة الشرقية وحجبها، ونحسد الفتاة الإفرنجية على تعلمها وحريتها، فلما رأينا حالها في باريس انقلبت شكوانا، وكدنا نرضى بالحجاب والجهل، إنهم أساءوا إلى ذلك المخلوق اللطيف بتلك الحرية المتطرفة. أرسلوا المرأة إلى الأسواق تخالط الشبان وتبايعهم وتساومهم وتعاشرهم، وهي ضعيفة حساسة، فتعرضت لمفاسد كثيرة، وأغراها الشبان بالمال فخدعوها، فلما خرجت من صف الحرائر خدعتهم، ثم آل أمرها إلى ضياع العمر في الشوارع والأزقة، لا تجد رزقًا إلا باستهواء الشبان. وفي القاهرة مثال صغير من تلك الطبقة يُعرفن ببنات الرصيف. أما هناك فإنهن ألوف، ولا تكاد تخلو منهن حديقة أو منتزه أو شارع، ولا سيما في أثناء الليل ولا حرج عليهن بحجة الحرية الشخصية. والحكومة الفرنساوية تبيح الفحشاء على شروط وضعتها وقوانين سنتها، فأباحت للمتجرين بالأعراض أن يبتنوا المنازل والقصور، ويحشدوا فيها الغواني أصنافًا وألوانًا يعرضونهن عرض السلع أو الأثاث بلا عيب ولا حياء، ولهم سماسرة في أيديهم شهادات من الحكومة تخوِّل لهم معاطاة تلك المهنة. ولهذه الطبقة من المتهتكين مجالس وأندية وجرائد وكتب لترويج تلك البضاعة. وليس ذلك جائزًا في إنكلترا، ولكن مصر اقتدت فيه بالفرنساويين كما اقتدت بسواه من أسباب تمدنهم. وما كان أجدرنا أن نأخذ الحسن النافع من أسبابه، ونعرض عن القبيح الضار. على أن هذه الطبقة من النساء ليست كلها من أهل تلك العاصمة؛ فإن فيهن كثيرات من أهل الأرياف الفرنساوية أو من خارج فرنسا، وبعضهن من روسيا وألمانيا وغيرهما، ويندر بينهن القادمة إلى باريس بقصد العهارة، وإنما يفد أكثرهن إليها للارتزاق ببعض المهن، فيتعرضن للوقوع في تلك الفخاخ، ويعينهن الفقر على الوقوع فيها؛ لأن البائعة في مخزن أجرتها فرنكان أو ثلاثة في اليوم تنفقها على الطعام واللباس والمنام يقع نظرها كل يوم على عشرات من شبيهاتها في الخلقة وأقل منها جمالًا، وكل منهن قد تأبط زندها شاب كساها أحسن الأقمشة، وزيَّنها بأجمل الحلي، فإذا قويت هذه البائعة المسكينة على محاربة الحسد، فإنها لا تقوى على مدافعة مَن يتعرض لها من أولئك الشبان الذين يغرونها بالمواعيد العريضة، ويتحببون إليها بإطراء جمالها وشكوى الغرام، وغير ذلك فتقع في الشراك، ولا يعاشرها ذلك المغرم إلا مدة ثم ينتقل إلى سواها، فتصبح غير قادرة على العمل في مهنتها الأولى، ويهون عليها الارتزاق من أمثال ذلك الشاب. واعتبر كيف تكون حالها متى ذهب شبابها وذوى جمالها! فالعلة الأصلية في شيوع التهتك بباريس، إنما هو إطلاق سراح الفتاة ومساواتها للرجل، وتكليفها الارتزاق مثله، وإباحة الحكومة للفحشاء رسميًّا، وزد على ذلك أن الفتور الديني شائع في فرنسا حتى أصبح شبانها يُعدُّون العهارة ضربًا من التجارة، ولا فرق عندهم بين الفحشاء والتمتع بسائر ملاذ الحياة كالطعام والشراب والسماع ونحوها، فيغرون المرأة على ذلك فتطيعهم، وليس أقبح من فتور المرأة في الدين؛ لأنها أقرب إلى التقوى من الرجل، وأكثر تعففها من طريق الدين خوف العقاب، وهي دقيقة الإحساس سريعة التأثر، فإذا لم يشتغل قلبها بالتقوى والرهبة من العقاب خيف عليها السقوط؛ إذ ليس لها ما للرجل من قوة الإرادة، ومع ذلك فإنه أكثر سقوطًا منها، لكن الناس لا يعيبون سقوطه كما يعيبون سقوطها، وذلك من جملة مظالم نظام الاجتماع. في شوارع باريس ألوف من الفتيات لولا هذه الأسباب لكُنَّ أمهات وربات عائلات يربين أبناءهن رجال المستقبل على الفضيلة بدلًا من ضياع شبابهن في الرذيلة، ويضيع معهن ألوف من الشبان بلا عقب؛ لأن هذه الإباحة من أكبر أسباب العقم في فرنسا؛ إذ يمسك الشبان عن الزواج تخلصًا من متاعبه وهمومه، واكتفاءً بملاذه الوقتية بثمن قليل لا مسئولية بعدها ولا تعب. فلا نبالغ إذا قلنا إن فرنسا بين يدي خطر اجتماعي يهددها، ولا تخرج منه إلا بعد انقلاب عظيم. بلغ عدد اللقطاء في باريس للعام الماضي ثمانية عشر ألفًا لا يعرفهم آباؤهم، فهم من نتاج هذه الرذيلة، من نتاج الإفراط في الحرية والفتور في الدين. إن الجهل والحجاب يضران المرأة، ويؤخران الهيئة الاجتماعية عن أسباب المدنية، لكن الحرية الزائدة مع العلم أو بدونه تفسد المجتمع الإنساني وتضر بالعائلة، وحال فرنسا الاجتماعي أكبر شاهد على ذلك؛ لأن إحصاءها يكاد يكون الآن كما كان منذ أربعين سنة ولم تبقَ أمة لم يتضاعف إحصاؤها في أثناء هذه المدة. خُلقت المرأة أُمًّا تدبِّر العائلة وتربي الأولاد، وتعليمها ضروري للقيام بمهمتها الطبيعية في الشئون العائلية، وأما تكليفها بأعمال الرجال فإنه خارج عما خُلقت له — إلا إذا اضطُرت إليه لأسباب قهرية — ولكننا نرى بعض كبار العلماء يجيزون لها كل عمل يعمله الرجل، وأن تتعاطى كل صناعة أو مهنة لأنها مساوية له، وبعضهم ألَّف كتبًا في هذا الموضوع، خلاصتها أن المرأة يجب أن تعمل كل أعمال الرجل من صناعة أو علم أو تجارة أو زراعة بحجة تضاعف الثروة بتكاثر الأيدي في العمل، وهو رأي نظري لا ينطبق على حاجة المجتمع الإنساني. إذا نزل الرجل والمرأة إلى السوق مَن يربي الأطفال ويدرِّبهم ويُعنى بأحوالهم؟ فإن قيل إن المراضع والخدم يفعلون ذلك قلنا: إن الطفل لا تربيه إلا أمه، وإذا فرضنا قيام الخدم مقامها، فالنفقات التي يستلزمها استخدامهم تستغرق ما تكسبه المرأة بالعمل خارج بيتها. ومهما بلغ من ارتقاء الجنس البشري في الاستكشاف والاختراع فإنه لا يقوى على قلب نظام، وهذا النظام يقضي على الأم أن تربي طفلها بحيث لا يخرج من دائرة عنايتها، وأن يكون هو أهم مشاغلها مع تدبير بيتها وليس ذلك بالشيء اليسير. إن القيام بشئون العائلة لا يقل أهمية عن أعظم عمل من أعمال الرجال في التجارة أو السياسة أو الصناعة أو غيرها. معرفة الواجب. المحافظة على الوقت وصدق المواعيد. تهذيب أخلاق العامة بالتربية الصحيحة. تعليم المرأة وتثقيفها. ترقية التعليم والتوسع في الآداب. العمل والجد. الإفراط في الحرية واستخدامها في غير موضعها. ما يخالف الحشمة الشرقية، على أن نأخذ من العلم والتربية القدر الملائم لعاداتنا. الفتور في الدين والمجاهرة في الكفر؛ فإنه من أسس ذلك الخراب. وسنتكلم عن متاحف فرنسا وآثارها فيما يلي: المراد بالآثار عادة ما يتخلف عن الأمة من الأبنية والتماثيل وغيرها من المصنوعات المحسوسة الدالة على عظمتها أو مهارتها، كالآثار المصرية واليونانية والرومانية. ولكنَّ للأمة آثارًا معنوية تتناقلها الأمم عنها وتقلدها فيها، فيكون لها أثر حي في تمدنها ونظام اجتماعها، أو علومها وآدابها فيذكرها لها التاريخ، كما نذكر أحرف الهجاء للفينيقيين والأدب والفلسفة لليونان والشريعة للحامورابيين واليهود، والقواعد السياسية والحربية للرومان، ونهوض أمم الشرق للعرب. فآثار الأمة الفرنساوية معنوية، أو محسوسة. الحرية واستقلال الفكر: إن للفرنساويين الفضل الأول في نشر روح الحرية بأوروبا وغيرها، وهم قدوة الأمم في بث هذه الروح على أثر نهوضهم لخلع نير الملكية والمناداة بالحرية والإخاء والمساواة. استخدام اللغة الفرنساوية في المخاطبات الرسمية بين الدول المتمدنة؛ فإنه من آثار نفوذ الدولة الفرنساوية في العالم المتمدن. الألفاظ الفرنساوية السياسية والعلمية والأدبية في لغات أوروبا؛ فإنها من أدلة تفوق الفرنساويين في هذه الشئون واقتباس تلك الأمم عنها. لفرنسا فضل خاص على الشرق الأدنى من أوجه كثيرة تظهر آثاره في أخلاق أهله وآدابهم؛ إذ لم يكن لهم علمٌ بأسباب المدنية الحديثة قبل أواخر القرن الثامن عشر؛ إذ حمل عليه بونابرت يريد اكتساحه كما اكتسحه الإسكندر قبله، لكنه لم يأته بالعدة والسلاح فقط، بل نقل إليه بذور التمدن وأصول المعارف، فأرفق حملته الحربية بحملة علمية جمعت نخبة علماء فرنسا في ذلك الحين. لم يوفق بونابرت في فتوحه الشرقية، فعاد على أعقابه وظلت تلك البذور كامنة حتى نهض من رجال الشرق مَن أحسن تعهدها وتربيتها فنمت، وكان منها ما كان من نهضة مصر والشام. فالسوريون والمصريون والأتراك والفرس لما هموا بهذه المدنية كان معظم تعويلهم في اقتباسها على الأمة الفرنساوية، فتعلموا لغاتها وترجموا علومها، وقلدوها بآدابها وعاداتها وأخلاقها. كذلك فعل المصريون على يد محمد علي بأوائل القرن الماضي؛ فإن الإصلاحات التي أحيا بها القطر المصري كان أكثر تعويله فيها على الفرنساويين، استخدم جماعة منهم في التعليم والتنظيم، مثل المسيو جومار المهندس الفرنساوي الذي أرشده في الإرساليات العلمية إلى فرنسا، والدكتور كلوت أنشأ له المدرسة الطبية، وسليمان باشا (الجنرال سيف) نظَّم له الجندية، ولينان باشا هندَّس القناطر الخيرية. وهناك عشرات من رجال العلم والأدب الفرنساويين استخدمهم محمد علي في نهضته، ونقل كثيرًا من الكتب الفرنساوية إلى اللغة العربية، واقتبس طرق الفرنساويين في المدارس والجندية وفي الزراعة والصناعة وغيرها. واقتدى به خلفاؤه على العرش الخديوي ولا سيما إسماعيل؛ فإنه استخدم كثيرين منهم في الإدارة والتعليم، وأشهرهم ماريت باشا مؤسس المتحف المصري، ولا يزال هذا المتحف في عناية الفرنساويين إلى اليوم. واعتبر ذلك أيضًا في سوريا، فإن للفرنساويين شأنًا خاصًّا فيها؛ لأنهم دخلوا في شئونها منذ بضعة قرون، ولا يزال السوريون حتى الآن يقلدون فرنسا في أسباب هذه المدنية، وقد نقلوا أهم آدابها إلى العربية. وقلَّدوا شعراءها وأدباءها، وبعضهم يعرف عن تاريخ آداب اللغة الفرنساوية أكثر مما يعرف عن آداب اللغة العربية — إلا التمثيل، فإن مارون النقاش اقتبسه عن الإيطاليان، لكن مَن جاء بعده عوَّل في إتقانه على الفرنساويين. ولما نهض الأتراك في الآستانة لاقتباس المدنية الحديثة كان أكثر اعتمادهم في نقل الآداب الحديثة على الفرنساويين، فنقلوا عن روسو، ومونتسكيو، وهوغو وغيرهم. وأكثر الأفكار الحديثة التي اقتبسها الشرقيون في القرن الماضي أخذوها عن الأدباء الفرنساويين. وهكذا فعل الفرس لما أخذوا في نهضتهم بأواسط القرن الماضي، فإن ناصر الدين شاه أرسل سنة ١٨٥٤ أربعين شابًّا من أدباء الفرس وأهل العصبية إلى فرنسا لتلقي العلوم كما فعل محمد علي قبله، وعاد هؤلاء إلى بلادهم، وعملوا على نشر العلم بإنشاء المدارس على اختلاف مواضيعها. وهكذا فعل أيضًا في تنظيم الجند؛ فإنه نظَّمه على النمط الفرنساوي، وبعث إلى فرنسا ٢٠ ضابطًا تخرَّجوا فيها على ذلك النظام. أما الآثار البنائية في فرنسا فإنها لا يمكن حصرها، وإنما تقتصر على ما شاهدناه منها في باريس وليون، وهو كثير يدخل فيه القصور والجسور والميادين والكنائس والمراسح والأضرحة، نكتفي بفذلكة عامة ونخص بالوصف أهمها: فالكنائس في باريس عديدة تزيد على ٧٠ كنيسة أشهرها نوتردام، وهي كنيسة قديمة العهد أُعيد بناؤها في النصف الثاني من القرن التاسع للميلاد، ثم جُددت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر ولم يتم بناؤها إلا في منتصف القرن الثالث عشر مع إضافات وتجديدات لحقت بها بعد ذلك، وأجمل ما فيها من حيث فن البناء واجهتها، تم بناؤها سنة ١٢٤٠. مساحتها ١٣٠ مترًا طولًا في ٤٠ مترًا عرضًا، و٣٥ مترًا علوًّا، قبتها قائمة على ٧٥ سارية كبيرة أكثرها مستديرة الشكل رومانية. والمنبر في الصدر قائم على ١٠٨ أعمدة صغيرة متقنة الصنعة والنقش. وفي أرض الكنيسة وجوانبها عدد كبير من الأضرحة للمشاهير، ولا سيما أساقفة باريس. وأهم ما في هذه الكنيسة مما يهم القراء الاطلاع عليه خزانة تحفها، وهي غرف بُنيت سنة ١٨٥٠ فيها تحف أكثرها حديث ليس له أهمية فنية وإنما أهميتها بانتسابها إلى مُهديها، منها كأس مقدس من الذهب أهداه نابليون الثالث للكنيسة، ومن التحف القديمة صندوق منقوش يُنسب للقديس توماس بيكت على طراز القرن ١٣، ومن الآثار التاريخية الصليب المذهب الذي حمله القديس فنسان دي بول قرب فراش لويس الثالث عشر وهو يحتضر، والرداء الذي اتشح به نابليون بونابرت عند تتويجه. ولكنيسة نوتردام برج علوه ٦٩ مترًا. ورأينا في ليون كنيسة قديمة العهد تُعرف بكنيسة نوتردام دي فوفير يحج إليها الناس من أطراف العالم المسيحي بأوروبا، قائمة على تل علوه ٢٩٧ مترًا يصعدون إليها بترامواي كهربائي يُجر بالأسلاك الغليظة، يرجعون بتاريخ بنائها إلى القرن التاسع، ثم تجددت مرارًا آخرها في أواخر القرن الماضي، وقد احتفظوا بكثير من البناء القديم. طول الكنيسة من الداخل ٦٦ مترًا في عرض ١٩ مترًا، وإنما استلفت نظرنا ما على جدرانها من الصور الكبيرة المرسومة بالفسيفساء، طول الواحدة بضعة أمتار في مثلها عرضًا، مرسومة في الأجيال الوسطى، منها صورة معركة بحرية جرت سنة ١٥٧١ في مضيق لبانت قرب كورنثية بين أسطول السلطان سليم الثاني العثماني وأساطيل إسبانيا والبندقية وجنوى ومالطة والبابا بيوس الخامس، وهي معركة شهيرة في تاريخ الدولة العثمانية انتهت بفشل العثمانيين. كانت العمارة العثمانية مؤلفة من ٣٠٠ دارعة بقيادة القبودان موذن زاده علي باشا. والعمارة المسيحية مؤلفة من ٧٩ دارعة بقيادة دون جوان دوتريش و١٢ دارعة للبابا بيوس بقيادة مارك أنطوان كولونا و١٤ دارعة بقيادة فانيرو البندقي. غير الجند الإسباني. ولما التقى الجيشان في ذلك المضيق تبادلوا إطلاق المدافع فأُصيب القبودان العثماني بقنبلة قتلته ففشل جنده، وتوقف العثمانيون عن مواصلة الفتح غربًا كما توقف العرب عن الإيغال في أوروبا بعد واقعة بواتيه التي غلبهم فيها شارل مارتل قبل ذلك بثمانية قرون. وقد مثَّل المصور تلك المعركة وفيها سفن لجيشين ومواقعهم حتى انتهت باحتراق سفن العثمانيين، وكل ذلك بالفسيفساء الملونة ولا تزال واضحة مع أنها صُنعت منذ نيف وثلاثة قرون. وهناك صور أخرى مثل هذه تمثِّل بعض الحوادث الدينية، منها وصول القديس بوتين إلى ليون، وبعض تلك الصور كاد يُمحى من طول الزمن. وفي باريس من التماثيل، أو الأنصاب في الشوارع العمومية عدد كبير ذكرناه في غير هذا المكان، فنكتفي هنا بذكر أهم ضريح يعظِّمه الفرنساويون ويشاركهم في تعظيمه سائر الأمم نعني ضريح نابليون بونابارت في قصر الأنفاليد. وقصر الأنفاليد بناء فخيم مؤلَّف من قاعات عديدة، بعضها متاحف للأسلحة التاريخية وبعضها لمعروضات أخرى، أهمها القبة التي تتضمن ضريح نابليون الأول، سنعود إليها بعد الإيجاز في وصف أهم ما يحويه قصر الأنفاليد من الآثار والتحف، وإن كانت هذه من قبيل المتاحف، لكننا نذكر هذا على سبيل الاستطراد، ففي ساحة القصر مدافع تاريخية منها ١٧ مدفعًا من جزائر الغرب عليها كتابة عربية إلى أحد جانبيها مدفع صيني وإلى الجانب الآخر مدفع كوشنشيني، غير مدافع نمساوية صُبت في فينا بالقرن السابع عشر حملها نابليون إلى باريس سنة ١٨٠٦، ومدفع حُمل في معركة سباستبول سنة ١٨٥٦ وغيرها. أما القصر فقد بناه لويس الرابع عشر، بدأ به سنة ١٦٧١ مساحته ١٢٦٩٨٥ مترًا مربعًا عرض الواجهة ٢١٠ أمتار، أُنشئ ليقيم فيه المتقاعدون من الجند الفرنساوي يسع ٧٠٠٠ جندي. وقد تغيَّر الغرض المراد به ذلك، واستخدموا قاعاته للمتاحف العسكرية، منها متحف الطبجية والمتحف التاريخي. وفي متحف الطبجية نحو عشرة آلاف قطعة من البنادق والمدافع القديمة والحديثة مرتبة حسب أنواعها، بينها الأعلام والأدراع والخوذ، وفي جملتها أسلحة ألمانية من أوائل القرن السادس عشر، وبين الأعلام علم جان دارك. وفيها أسلحة البوربونيين من لويس الرابع عشر فما بعده، وبينها سيوف فرنسيس الأول، وهنري الثاني، وشارل التاسع، وغيرهم شيء كثير. وهناك أسلحة شرقية في قاعة خاصة بخزائن يختص كل منها بأمة من أمم الشرق فيها أمثلة من أسلحتها مثل ملقا، والهند، والصين، واليابان، والبلقان، وسركاسيا، ومراكش، وتركيا، من السيوف والبنادق، بينها بندقية أمر نابليون بصنعها في روتردام على الخصوص لسلطان مراكش، غير كثير من البنادق التركية، وبنادق بربرية حملوها من سرقوسة سنة ١٨٠٨، وبنادق عربية وخناجر فارسية، وخزانة خاصة بالأسلحة الإسلامية فيها أدراع عربية على كل منها اسم الله منقوش بالعربية. وقاعات للألبسة الحربية باختلاف الأمم الآسيوية والأفريقية وأصناف الناس، بينها المركبة التي نقلوا عليها عظام نابليون من جزيرة القديسة هيلانة. أما المتحف التاريخي ففيه الأسلحة التي لها قيمة تاريخية، من جملتها أربعة من سروج المماليك غنمها الفرنساويون في معركة الأهرام سنة ١٧٩٨، وسيف نابليون الأول، وقبعته، وطبنجته، وكبوته، ودرع له اخترقتها رصاصة في معركة وترلو. وفي قاعات أخرى تذكارات من حروب الجزائر سنة ١٨٣٠–١٨٥٧، وحروب القرم سنة ١٨٥٤، وحرب إيطاليا سنة ١٨٥٩، والصين سنة ١٨٦٠، والمكسيك سنة ١٨٦٢، وحرب فرنسا وبروسيا سنة ١٨٧٠ كل قاعة لنوع من الآثار، بعضها للثياب والبعض الآخر للأسلحة أو الرسوم أو الحلي غنمتها من حروبها في المستعمرات بالجزائر ومراكش والصحراء، والسينغال والسودان ومداغسكر والهند الصينية وتونكين والصين، بينها رايات من وادي ومجوهرات الحاج عمر من النيجر، وسيف مرصع لإمبراطور أنام أُخذ منه سنة ١٨٨٥ وغير ذلك. هو عبارة عن قبة علوها ١٠٧ أمتار، تشتمل ضريح نابليون وكنيسته. والقبة عليها من الخارج نقوش مذهبة يشرف عليها القادم من بُعد؛ إذا دخلتها وجدت في وسطها ضريح نابليون، وبين يديه هيكل الكنيسة، وإلى جانبي الضريح أضرحة جماعة من قواد لويس الرابع عشر. وبين يدي الكنيسة أربعة مذابح مستديرة يُدخل إليها من قناطر سفلية صغيرة فيها أضرحة أعضاء أسرة بونابرت، ولا يستطيع الواقف عند ضريح ذلك الرجل العظيم إلا الاعتبار والتأمل فيما أنفقه القوم في تعظيم ضريحه، وما نصبوا حوله من الأعلام والتماثيل. إن الدهشة تستولي على المتأمل من ميل البشر إلى تعظيم الفاتحين، لا تقدر وأنت واقف بين يدي ضريح هذا النابغة إلا الصمت والذهول؛ لما يتجلى على المكان من الوقار كأنك ترى بونابرت واقفًا بين قواده ووزرائه، وكلهم مطرقون رهبة وإجلالًا، وقفنا برهة ونحن نراجع تاريخ صاحب هذا الضريح فتبين لنا أنه أكثر القادة طمعًا في السيادة وأقدرهم على القيادة وأشدهم استهواء لرجاله، حتى كانوا يلقون أنفسهم في النار تفانيًا في طاعته ولا يبالون. قضى نابليون أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وهو يحارب ويجالد، فقلبَ العروش ودوَّخ المماليك ونثر التيجان وقتل النفوس، وقد مضى على سقوطه قرن، ولا يزال العلماء مختلفين في تقديره كأن الدهشة لا تزال آخذة بعقولهم. أما الذي نعلمه ولا خلاف فيه فهو أن نحو مليونين من الناس قُتلوا في سبيل له أو عليه، وعقب تلك الحمى الاجتماعية رد فعل عاد ببعض النفع للمجتمع البشري لا نظنه يعوض تلك الخسارة. أما الضريح فإنه قائم تحت منتصف القبة على قاعدة من الرخام في حجرة من الرخام مستديرة كالحفرة قطرها ١١ مترًا وعمقها ستة أمتار لا غطاء فوقها، وفي وسط الحجرة قبر نابليون يحتوي على بقاياه التي نُقلت من جزيرة القديسة هيلانة سنة ١٨٤٠ وقد بُني ذلك الضريح من سنة ١٨٤٢–١٨٦١، وطول القبر من الأعلى أربعة أمتار في عرض مترين، وعلوه أربعة أمتار ونصف متر. وهو مؤلف من خمس قطع من البورفير (الرخام السماقي) من فنلاند، وعليه نقوش ورسم التاج، وأسماء المواقع الكبرى التي قاتل فيها نابليون وهي: ريفولي، والأهرام، ومارنكو، وأسترليتس، وبينا، وفريدلاند، وواغرام، وموسكو. وحول الضريح تماثيل منتصبة عددها ١٢ ترمز عن انتصارات نابليون الكبرى. وعشر نقوش رخامية، وست حزم فيها ستون راية مما اكتسبه من أعدائه. وفي داخل قبة الأنفاليد كثير من تماثيل العظام كالقواد وغيرهم من أصحاب بونابرت. ومن قبيل الآثار في باريس القصور، وهي عديدة كقصر الإليزه، وقصر اللوفر، وسيُذكر في الكلام عن المتاحف. وكذلك قصر لوكسنبرج، والتوكاديرو، والبانتيون، وغيرها. ومنها المراسح وهي أربعون مرسحًا، وفيها الأوبرا الشهيرة. ومن قبيل الآثار أيضًا منازل العظماء من مشاهيرهم كمنزل أوغست كونت الفيلسوف الشهير، ومنازل بلزاك، وبيفون، وكوفيه وهوغو. وفي كل منها آثار صاحبها من طاولة السرير، ومكتب، وقلم، وكتاب، وغير ذلك. ووصف كل منها يستغرق فصلًا خاصًّا وليس ذلك غرضنا هنا. ومنها الميادين أو الساحات العمومية، وهي نحو ستين ساحة أشهرها ساحة الأوبرا، وساحة الربوبليك ولا كونكورد والتروكاديرو والكوكب وغيرها. المتاحف أو مستودعات التحف والآثار لمنفعة الجمهور من مستحدثات هذا التمدن اتخذته الأمم الراقية وسيلة لتوسيع معارف الناس، وترقية نفوسهم. ولا نظنه بهذا المعنى يتعدى القرن الماضي. على أن الملوك والأمراء كانوا قبل ذلك يختزنون التحف في قصورهم للتفاخر بها. ويُعد من هذا القبيل متحف الملك أحشويرش، وهيكل أفسس، ودلفي وأثينا، وقصور البطالسة في الإسكندرية. وكان للعرب حظ وافر من هذه المتاحف لم يقتصروا فيها على جميع التحف الثمينة، لكنهم أضافوا إليها كثيرًا من الآثار التاريخية والصناعية — نعني متاحف الفاطميين بالقاهرة منذ نحو ثمانمائة سنة — وكانوا يسمونها الخزائن كخزانة الجوهر، وخزائن الأسلحة، والفرش والأمتعة والبنود. وقد يُظن لأول وهلة أنها من قبيل مخازن اللوازمات الحربية ونحوها، لكننا عددناها من المتاحف لما كانت تشتمل عليه من التحف التاريخية المنسوبة لأصحابها من الخلفاء أو الأمراء، كالكئوس البادزهر التي عليها اسم هارون الرشيد، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، وحصير الذهب الذي يُظن أنه جُلبت عليه بوران بنت الحسن بن سهل للمأمون، وزنه ١٨ رطلًا، ورقعة للشطرنج والنرد أحجارها من الجوهر والذهب والفضة. وكان في خزائن الفرش مقطع من الحرير الأزرق التستري القرقوبي، غريب الصنعة، منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير، كان المعز لدين الله أمر بعمله في سنة ٣٥٣ﻫ، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومسالكها شبه الخريطة، وفيه صورة مكة والمدينة مبينة للناظر، وعلى كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، وكُتب في آخره «مما أمر المعز لدين الله شوقًا إلى حرم الله وإشهارًا لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار.» وبيت أرمني أحمر منسوج بالذهب عُمل للمتوكل على الله لا مثيل له ولا قيمة صار إلى تاج الملوك، وصار إليه أيضًا بساط خسرواني دُفع إليه فيه ألف دينار فامتنع عن بيعه. وكان في خزانة السلاح درع المعز لدين الله، وسيف الحسين بن علي، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق. وكان عندهم في خزائن أخرى منديل القائم بأمر الله العباسي وغير ذلك. وناهيك بالجواهر والحلي الثمينة مما لم يُعهد له مثيل عند غيرهم. هذه كلها ذهبت بالفتن في أثناء الدولة الفاطمية، وما بقي ذهب بذهاب الدولة. على أن هذه المتاحف كانت مقفلة، لا يدخلها غير أصحابها فلا نفع للناس منها، وكذلك ما كان من هذا القبيل في الأجيال الوسطى بأوروبا. وأقدم مَن أنشأ المتاحف بأوروبا، وفيها الآثار الصناعية والعلمية والتاريخية كوسمو الأعظم في فلورنسا بالقرن السادس عشر للميلاد — أي بعد ذهاب الدولة الفاطمية ببضعة قرون — يليه متحف البابليون العاشر في الفاتيكان في ذلك القرن. والإيطاليان أسبق دول أوروبا إلى هذه المنقبة مثل سبقهم إلى إنشاء المدارس العلمية، وهي أيضًا مما اقتبسوه عن العرب، واقتدت بهم سائر أمم أوروبا، فأخذ الأمراء والملوك يجمعون التحف والمصنوعات ونحوها في خزائن بلا ترتيب ولا غرض معين غير التفاخر بها، ولم تتحول الغاية من جمعها إلى منفعة الجمهور إلا في القرن الماضي. وفي باريس من هذه المتاحف عدد كبير سنأتي على وصف أهمها وبيان ما شاهدناه فيها مما يهم القراء. في باريس نحو أربعين متحفًا يمكن جمعها تحت عدة رءوس حسب الغرض منها، أو ما تحويه من الآثار أو التحف، منها متاحف عامة فيها كل أنواع التحف من المصنوعات على اختلاف فنونها ومن الآثار التاريخية والفنون الجميلة وغيرها، أهمها متحف اللوفر، ومنها متاحف فنية يُراد بها تنشيط الفنون الجميلة كالرسم والحفر والتصوير مثل متحف لوكسنبرج، ومتاحف حربية لعرض الأسلحة ونحوها كالمتحف العسكري في قصر الأنفاليد وقد تقدم ذكره، ومتاحف علمية أو هي معارض لعرض المجاميع الجيولوجية والتشريحية والحيوانية والنباتية ونحوها، ومتاحف دينية يُراد بها الاحتفاظ بالآثار الدينية الكنائسية كمتحف جيمي، ومتاحف تاريخية وغيرها. غير المتاحف الخصوصية التي تقدمت الإشارة إليها بين الآثار مما يُنسب إلى أصحابه من المشاهير في منازلهم كمنزل هوغو وأوغست كونت وغيرهما. ولنبدأ بوصف ما شاهدناه في أهم متاحف باريس. هو أفخم متاحف باريس وأهمها من حيث بناؤه وما حواه من التحف. ولإنشائه تاريخ يطول بنا إيراده، وإنما يُقال بالإجمال إن اسمه مشتق من اسم غابة كانت هناك لصيد الذئاب اسمها لوبار، واسم الذهب في لسانهم «لوب» فسُمي المكان «لوبرا» ثم لوفر. ويُقال إن أصل ذلك البناء قلعة بناها فيليب أوغست في أوائل القرن الثالث عشر في جملة سور باريس، ثم اتخذها شارل الخامس مستودعًا للذخائر وكُتبه، وجعلها منزلًا لائقًا بالملوك، لكن ذلك البناء لم يبقَ منه شيء، وإنما بقي ما بناه فرنسوا الأول سنة ١٥٤٦ واتصل العمل بعده على عهد هنري الثاني (١٥٤٧–١٥٥٩) ومَن خلفه، وفي جملتهم كاترين مديتشي أرملة هنري المذكور وأولادها، وهنري الرابع وغيرهم. ولم يتم بناء هذا القصر إلا في زمن نابليون الأول فإنه أمر سنة ١٨٠٥ بترميمه كله وأتم ذلك نابليون الثالث. فاتسع القصر اتساعًا لا يضاهيه فيه قصر من قصور العالم، فإن مساحته التي عليها البناء نحو ١٩٨٠٠٠ متر مربع؛ أي ثلاثة أضعاف مساحة قصر الفاتيكان. ويُقسَّم إلى قسمين رئيسيين: اللوفر القديم، واللوفر الحديث منه جزء تشغله نظارة المالية. وفي ساحة القصر حدائق نصبوا التماثيل في أركانها — فيبدأ الزائر يهتم بذخائر اللوفر قبل دخوله، فضلًا عما يشاهده من فخامة البناء وإتقان صنعه. أما الذخائر والتحف التي يتضمنها ذلك القصر فهي مفرقة في طبقاته حسب أنواعها ومواضيعها، ففي الطبقة الأرضية الآثار الرخامية ونحوها مما يثقل حمله، ومن جملتها الآثار الآسيوية والمصرية ومنحوتات الأجيال الوسطى وأوائل النهضة إلى هذا العصر. وفي الطبقة الأولى فوق الأرضية معارض الصور الزيتية وسائر الفنون الجميلة من منحوتات ومسبوكات ومن سائر المصنوعات الثمينة قديمة وحديثة. وفي الطبقة الثانية معرض التصوير أيضًا ومعرض البحرية. وفي الأجنحة وغيرها معروضات أخرى. أما تاريخ اتخاذ قصر اللوفر متحفًا، فيرجع إلى القرن السادس عشر بعد نهضة التمدن الحديثة، بدأ الملوك بوضع بعض التحف أو المصنوعات الجميلة وأكثرها من إيطاليا، ولكنه لم يجتمع فيه ما يستحق الذكر إلا في زمن نابليون الأول، وقد جاء جنده بالغنائم من إيطاليا وغيرها، وفيها الذخائر الكثيرة أُضيفت إلى ذلك المتحف. وما زالت تجتمع التحف فيه حتى صار إلى ما هو عليه الآن، ويُعد من أعظم متاحف العالم، وهو لِسعته لو أراد الإنسان أن يطوف غرفه ماشيًا لاقتضى لذلك ساعتين على الأقل، فكيف لدرس ما فيه أو وصفه؟ لذلك فإننا سنقتصر على ما يهم القراء منه. ففي متحف الرخاميات القديمة في الطبقة الأرضية من البناء ٣٠٠٠ قطعة مفرقة في قاعات عديدة، نذكر منها على الخصوص قاعة الآثار الأفريقية وفيها آثار شمالي أفريقيا: مصر وقرطاجة وتونس والجزائر. وقاعة الآثار الرومانية واليونانية على اختلاف الأعصر والمواضيع من تماثيل الأشخاص والوقائع، صناعتها تدهش المتأمل. منها تمثال شاب جالس وهو عارٍ ينزع شوكة من أخمص قدميه، ملامحه واضحة لدرجة غريبة. ومنحوتات تمثل عادات الرومان واليونان، من جملتها رجل عاد من الصيد فنزع رداءه، وعلقه على غصن شجرة، وعلق صيده بجانبه وأخذ يلاعب كلابه بأرنب يوهمها أنه يدفعه إليها ثم يرجعه. وتمثال آخر لرجل أخذ يلبس نعاله وهو يشد سيورها. غير عادات الرقص والموسيقى وتماثيل العظماء، أو الرموز الدينية أو الميثولوجية بينها تمثال فينوس ميلو، ويعدونه أتقن تماثيل اللوفر، وقد تغزل به الشعراء والكتاب منذ القديم. وأُعجبوا بإتقان صنعه رغم نقص ذراعيه، وهو تمثال الزهرة حملوه من ميلوس. وفي بعض القاعات تمثال نصفي لإسكندر المكدوني الكبير، ورأس هوميروس، وتمثال أبولون وديانا وباخوس ورمز عن التيبر بديع الصنع. وقسم الآثار الآسيوية منها قاعة لآشور فيها الثوران الآشوريان الضخمان، مما ينصبه الآشوريون ببيبان الهياكل كما ينصب المصريون أبا الهول. والثور الآشوري رأسه رأس إنسان رمز عن العقل وله قوائم الثور وأجنحة النسر دلالة على القوة. وهناك كثير من القراميد الآشورية عليها الكتابة المسمارية باللغة الآشورية. ومن جملة تلك الآثار أنقاض بلاد السوس، وفي جملتها مسلة حمورابي الشهيرة وعليها شريعته منقوشة بالحرف المسماري. وقد ذكرنا ترجمتها في السنة ١٣ من الهلال، وهي أقدم ما وصلنا من الشرائع المدونة (نحو سنة ٢٢٥٠ق.م) ومسلة ترام سين ملك أكاد سنة ٣٧٥٠ق.م، وعليها صور ذلك الملك يطارد أعداءه. والملك منيشتوسو ومسلته (نحو ٤٠٠٠ ق.م) وغير ذلك. وفي قاعة الآثار الفينيقية عدة نواويس فينيقية من الرخام الأسود والأبيض تشبه النواويس المصرية، بينها ناووس أشمو ناصر ملك صيدا عليه كتابة فينيقية هي أطول ما وجدوه من الكتابة على النواويس. وقاعة للآثار الفينيقية القبرسية فيها شيء من المصنوعات القديمة كالتماثيل والأعمدة والأقداح. وقاعة الآثار الإسرائيلية استلفتت انتباهنا فيها على الخصوص مسلة ميشا ملك مواب في القرن التاسع قبل الميلاد، وعليها كتابة موابية تصف حروب هذا الملك مع اليهود، وهي أقدم الآثار الكتابية الأبجدية التي وقفوا عليها حتى الآن. وقاعة الآثار المصرية، ويُعد ما فيها من الآثار المصرية من أهم ما في المتاحف الأوربية من نوعها، في جملتها تمثال أبو الهول العظيم الحجم يستلفت الانتباه عند مدخل القاعة. وهناك ضريح تاهو من صنع العائلة الخامسة والعشرين المصرية، وهو أتقن ما صُنع في ذلك العصر. وتمثال سيتي الثاني وسبك حوتب. ومثال (نسخة) لمنطقة الأبراج المصرية التي وجدوها في دندرة. وتمثال رعمسيس الثاني. وقاعة خاصة لمستكشفات ماريت باشا في السرابيوم بمصر، وتمثال العجل أبيس. ومتحف القرون الوسطى، وبدء النهضة الأخيرة فيه من التماثيل والمنحوتات المتقنة ما يدهش المتأمل أكثرها تماثيل نصرانية، منها قاعة ميشال آنج النحات الإيطالي الشهير، بينها تمثال رخامي لأميرين مغلولين يُقال لهما العبدان، صنعهما ميشال آنج في أوائل القرن السادس عشر ليوضعا على ضريح البابا جول الثاني في رومية، يريد أن يمثل بهما الفضيلة مقيدة. وتمثال شارل الخامس ملك فرنسا (تُوفي سنة ١٣٨٠) وتمثال امرأته جاندي بوربون، وغير ذلك من التماثيل المتقنة. وهناك قاعات عديدة للمنحوتات الحديثة يضيق المقام عن ذكرها فضلًا عن وصفها. وفي الطبقة الأولى من اللوفر معارض الصور الزيتية، وغيرها مما يستحيل الإفاضة فيه، ولا يقدر الكاتب على وصف ما في صوره من دقة الصنع ما لم ينقل الصور نفسها وهي تزيد على ٣٠٠٠ صورة يختلف حجمها من بضعة أمتار طولًا إلى أقل من متر، وكلها لمشاهير المصورين على اختلاف الأعصر والبلاد والأمم، ويُعد هذا المعرض أغنى معرض من نوعه في متاحف العالم وأهمها، وفيه طائفة من أتقن ما صوره الإيطاليون، والهولنديون، والفرنساويون، وغيرهم، ومجموعة مدهشة من الصور الزيتية على القماش. ولصور رفائيل مجموعة حسنة مرتبة حسب تدرجه في إتقان هذه الصناعة، وفي جملتها صورة القديس جورجيوس يقتل التنين وصورة الملاك ميخائيل وغيرهما. ومن صور المصورين الإسبانيين شيء كثير نُقلت من إشبيلية ومدريد، فيها صورة الطفل مرغريت رسم فيلاسكس. وهناك صور من أحسن ما صنعه الإسبانيون والهولنديون ولا سيما جان فانديك الشهير، ورامبران، وفرنسال. ومن المعروضات الألمانية لهولبين وغيره. وللإنكليز في هذا المعرض ٣٥ صورة بعضها لويلس، وكونستابل وبوننتن، ورينولد وغيرهم، وغير ذلك مما يعجز القلم عن وصفه. ونعترف بعجزنا عن وصف ما ألم بنا من الدهشة عند وقوفنا أمام هذه المصنوعات البديعة. ولم يدهشنا إتقانها أقل مما أدهشتنا كثرتها؛ فإن قاعة واحدة منها طولها ٣٧٥ مترًا جدرانها مغطاة بالصور الزيتية المتفاوتة الأقدار والأشكال، متزاحمة صفوفًا بعضها فوق بعض، وفي جملة هذه الصور صورة جوكوندة الشهيرة التي سُرقت بالأمس وشاع أمرها. وبالإجمال فإن تلك الصور بعضها يمثل المشاهير من الرجال أو النساء، والبعض الآخر يمثل العادات كمجلس طرب بين أهل القرى في القرن السابع عشر، وولادة أمير، وفتاة عائدة من المدرسة، مأتم دفن، وبيع اللحوم، أو الحوادث التاريخية كموت سنيك، وموت شرويل، وضرب موسى الصخرة بعصاه، والعذارى الثلاث، وصلب المسيح، وتمثيل الفردوس، ومحاكمة دانيال، أو المناظر الطبيعية كتأثير الثلج في الطبيعة، ومقاتلة الذئاب، وأسد هاجم على جواد، وصورة الفجر، أو الميثولوجيا مثل هركيل، وفينوس، وأدونيس، ومنها صورة طولها عدة أمتار تغطي جدران الغرفة كلها. ومن أسماء المصورين روين، وفراغونار، ورينول، وماتيه وريغو، وروبستي ودلتنيثورتو، وجوردانو، وشمباني، وسنيدر، ولاجليار، وفان لو، وفانديك، ورفائيل، وواتو، وكوربت وماير وغيرهم كثيرون. والرسوم التي تمثل العادات الشرقية في هذا المعرض قليلة، منها صورة تمثل استقبال سفير بندقي جاء القاهرة بملابسه الرسمية في القرن السادس عشر رسمها بليني طولها ثلاثة أمتار بمترين. وهناك قاعات عديدة كل منها تختص بمصور شهير جُمعت مصوراته معًا، وتُسمى القاعة باسمه مثل قاعة فانديك، وقاعة روبنسن، وقاعة فرانس هال، وغيرهم. وغير القاعات المنسوبة إلى البلاد كقاعة الإيطاليين، وقاعة الهولنديين، والفرنساويين، والمراد بها بيان ما تمتاز به كل أمة من التفنن بالتصوير لفائدة طلاب هذه الصناعة من التلاميذ أو الغُواة، وللفن الفرنساوي عدة قاعات حسب الأعصر كل قرن على حدة إلى القرن التاسع عشر. وفي هذه الطبقة من اللوفر قاعة كبيرة يسمونها قاعة أبولون، هي أجمل قاعات المتحف من حيث بناؤها وزخرفها، وقد وضعوا حول جدرانها أجمل الأثاث من زمن لويس الرابع عشر، وأقاموا في وسطها مواقف أو خزائن (فترينات) وضعوا فيها من المجوهرات والمصوغات أثمن ما في أوروبا، منها إبريق من اليشب الأسمر صنع القرن السادس عشر. وإبريق أو مزهرية من اليشب الشرقي عليه ميناء في غاية الجمال. وإبريق من اليشب. وفي فترينة أخرى مجموع مصوغات من عصر النهضة الإيطالية، وجواهر مصوغة في شكل قبة. وكئوس من الجماشب عليها ميناء أو بلا ميناء. ومصوغات من صنع فرنسا وإيطاليا. وأدوات من العصر القوطي بينها كئوس من البلور وأطباق من الذهب منزلة بالميناء صنع البندقية. وعلبة فيها ذراع شارلمان صنع ألمانيا في القرن الثاني عشر. وكأس للقديس لويس عربي الشكل عليه نقوش دينية، ويُعرف بكأس عماد القديس لويس. وغير ذلك من الأدوات المقدسة والكنائسية يطول بنا ذكرها، نكتفي منها بالمجوهرات الملوكية، وأول ما استلفت نظرنا منها ألماسة تُسمى «ريجان» هي أجمل ألماسة معروفة وزنها ١٣٦ قيراطًا، ابتاعها فيليب أورليان سنة ١٧١٧، وتُقدر قيمتها اليوم بخمسة عشر مليون فرنك، وبجانبها الماسة تُسمى مازارين، لونها هورتنسي، بينهما ياقوتة كبيرة اسمها «كوت دي بريطاني»، وإلى اليسار عقد من اللؤلؤ أمامه سيف شارل العاشر مرصع بالجواهر الثمينة، على غمده الحرف الأول من اسم نابليون. وهناك مثال لتاج لويس الخامس عشر عليه أمثلة من مجوهراته، وبجانبه تاج نابليون صُنع سنة ١٨٠٤؛ تقليدًا لتاج شارلمان أحجاره قديمة، وبينهما لوح تاريخي لذكرى صلح تيشن سنة ١٧٧٩ صنع ألمانيا، وأمامه ساعة أمير الجزائر أُخذت منه سنة ١٨٣٠، وبروش لكاترين دي مديتشي من الألماس. وقس على ذلك عشرات من القطع الثمينة المصوغة بالذهب أو الفضة والمرصعة بأنواع الحجارة الكريمة من قديم وحديث صنع فرنسا، أو إسبانيا أو غيرهما من القرن الحادي عشر فما بعده، بينها أوسمة ومداليونات مختلفة الأشكال. وبجانبها قاعة اسمها قاعة المصوغات، فيها المصوغات القديمة قبل النهضة الأخيرة (أنتيكا)، بينها خوذة غالية من الحديد الموشَّى بالميناء من زمن الرومان، وعقد أتروسكي، وفضيات وجدت في بوسكوريال قرب بمباي هي ٢٤ قطعة من الصناعة اليونانية الإسكندرية، بعضها لا يزال كأنه صُنع بالأمس، وعدد كبير من الخواتم اليونانية والرومانية والأقراط الأتروسكية وقطع مصوغة وجدها في أزمير وغير ذلك. وفي قاعة أخرى صورة زيتية كبيرة تمثل بونابرت في زيارته المطعونين بيافا (سوريا). وهناك قاعة خاصة بمصنوعات قديمة من البرونز وجدوها في أنقاض اليونان وغيرها من الأمم الأوربية القديمة، وقاعات كل منها خاصة بملك من ملوك فرنسا فيها رياشه وأدواته، إحداها للويس الرابع عشر، وأخرى للخامس عشر، فالسادس عشر، وكل منها تحوي ما يستغرق وصفه عدة صفحات. ومعرض للرسوم فيه ٥٠٠٠٠ رسم من أقدار مختلفة وضروب متنوعة. وآخر لمصنوعات الأجيال الوسطى، وقاعة لتحف أهداها روتشيلد للوفر قيمتها بعشرين مليون فرنك وتُعرف باسمه. وقاعة خاصة بالقيشاني الشرقي فيها قطع صنع دمشق في القرن السادس عشر، وأخرى من القاهرة، وعلبة عليها نقش باللغة العربية يُقرأ «المغيرة» يُظن أنه ابن عبد الرحمن الناصر صاحب قرطبة نحو سنة ٩٦٧م ومصابيح للمساجد. وكأس عليه اسم أبي المظفر يوسف الأيوبي سلطان حلب سنة ١٢٣٦–١٢٦٠م. ومعرض التحف الآسيوية، منها قاعة السوس، وبلاد الكلدان، وبابل وفينيقية، أهم ما فيها مسلة فينيقية للإله سلمان، وأخرى آرامية تُعرف بمسلة تيماء ببلاد العرب. وأمثلة كثيرة من زجاج فينيقي، ومصوغات فارسية قديمة، وعقود من الذهب وقطع نقود وجدت في ضريح من البرونز من القرن الرابع قبل الميلاد. ونقود بيزانتية، ومصوغات سلوقية، وتماثيل آشورية من عصر سرجون الأول بينها خريطة مجسمة لنوموليس في بلاد السوس (سوزيانا) مُثِّلت فيها الأودية والجبال. وقاعة أخرى للتحف الفارسية القديمة، وفيها قطع بنائية من زمن أرتاكزرسيس. ومعارض لأدوات الحداد والمآتم المصرية وللآلهة المصرية يُراد بها الميثولوجيا المصرية. ومعارض للصناعة القديمة في ممالك التمدن القديم ولا سيما بلاد اليونان. وفي قصر اللوفر جناح خاص بمعروضات الشرق الأقصى مما وهبه الفضلاء لخدمة الجمهور، وكل قاعة باسم مهديها بعضه للصين أو اليابان أو فارس، ولا سيما السوس (سوزيانا) مما يطول بنا شرحه. وشاهدنا عند مدخل اللوفر قاعة فيها قطع من جدران فينيقية مصورة بالفسيفساء عثر عليها رينان سنة ١٨٦٣ في كنيسة القديس خريستفورس قرب صور (سوريا) عليها رسوم حيوانات من أرانب وطيور، وأسود، وبقر وأسماك. منها قطعة على الأرض طولها ١٢ مترًا، ومثلها سبع قطع تختلف حجمًا ورسمًا. وضريح من رخام لكاهن قرطاجي وقطع عليها نقوش حُملت من قرطاجنة وغيرها. وفي اللوفر من المصنوعات الجميلة المدهشة الأبسطة، أو الستائر (غوبلين) المنسوجة بالصور تجلل الجدران من القرن الخامس عشر فما بعده، وهي ثمينة وتمثل صورًا تاريخية. المكتبة الأهلية الفرنساوية من أهم مكاتب العالم، ولا نريد الإفاضة في وصفها هنا وإنما أردنا الإشارة إليها إجمالًا لذكر ما شاهدناه في معرض الأوسمة بجانبها. بناء المكتبة عظيم فخيم لا يزال العمل جاريًا في توسعته ليشغل نحو ١٦٥٠٠ متر مربع، ويُقال في تاريخ خزن الكتب فيها إن الكرولنجيين كانوا يعتنون بجمع الكتب الخطية، وكان للويس التاسع المتوفى سنة ١٣٧٠ مكتبة خصوصية، وكذلك شارل الخامس، ولويس الثاني عشر، لكن هذا الأخير يُعد مؤسسًا للمكتبة التي نحن في صددها في أوائل القرن السادس عشر. واشتغل خلفاؤه في توسيعها وحشد الكتب، وغير الكتب فيها حتى صارت إلى ما هي عليه الآن. وهي أربعة أقسام كبرى: (١) المطبوعات والخرائط. (٢) المسودات الخطية. (٣) الرسوم. (٤) الأوسمة والتحف القديمة. وفيها قاعة للمطالعة واسعة جدًّا، ففي قسم الرسوم نحو ٢٥٠٠٠٠٠ قطعة محفوظة في نحو ١٤٥٠٠ مجلد و٤٠٠٠ خريطة. وفي قسم المسودات الخطية ١٠٢٠٠٠ كتاب. وعلى بعض المسودات العربية في هذه المكتبة صور مرسومة من القرون الوسطى، منها صورة على مسودة قديمة تمثل فرسان من العرب على أفراسهم يستخدمون النار اليونانية. وفي المكتبة معرض للمخطوطات والمطبوعات النادرة، بينها خطوط العلماء المشاهير وتواقيعهم بأيديهم، منهم رابلي، وفيلون، وراسين، وروسو. هو من جملة بناية المكتبة وله باب خاص من الخارج، سُمي كذلك لما فيه من ضروب الأوسمة والنياشين يزيد عددها على ١٥٠٠٠٠ قطعة، ولكنَّ فيه تحفًا كثيرة هامة بعضها مصري، منها منطقة البروج التي عثروا عليها في دندرة ويرجع تاريخها إلى العصر الروماني، ومنها خزائن فيها تحف ثمينة تاريخية مثل ترس شيبيون بما عليه من النقوش الميثولوجية. لكننا عثرنا في متحف الأوسمة الذي نحن في صدده على حجر شطرنج كبير الحجم يمثل فيلًا عليه راكب، وقد عرَّفوه بأنه بقية قطعة شطرنج أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان. هو متحف في قصر لوكسنبرج والقصر من أفخم قصور باريس، بُني بأمر ماري مديتشي أرملة هنري الرابع في أوائل القرن السابع عشر، واجهته الرئيسية طولها ٩٠ مترًا. وقد رُمم مرارًا وخصوصًا سنة ١٨٠٤ بأمر نابليون الأول، وجعله مقرًا لمجلس الشيوخ، وجعله غيره لغيرهم، لكن نابليون الثالث أعاده لهم. وأقام هذا القصر كثيرون من الأمراء والأميرات، وخُصص جانب منه لعرض التحف الفنية كما عُرضت تحف اللوفر، لكن بعض الزائرين يزور القصر لحضور جلسات المجلس بإذن خاص. وفي قاعة الاجتماع ٣٠٠ كرسي للشيوخ و٨٠٠ للحضور. وإنما يهمنا من هذا المتحف ما حواه من المصنوعات الفنية حفرًا أو نحتًا أو تصويرًا. وتُقسم تحفه إلى التماثيل والصور، وفيه طائفة حسنة من السجاد أو الأستار المصورة بالنسيج مما يدهش الناظر. ومن العبث أن نحاول وصف ما هنالك لأسباب تقدم بيانها، وإنما نكتفي بالإشارة إلى بعض ما يهم القراء معرفة وجوده. فمن المنحوتات ما يمثل بعض الحوادث التاريخية كتمثيل هاجر وإسماعيل صنع النحات إيزلين كما يتوقع أن يكون حالهما من وصف التوراة لهما. وقتلُ قابيل لأخيه هابيل. وتماثيل عظماء اليونان والرومان وغيرهم، منها تمثال داود النبي عاريًا وفي يده سيف. وقد استوقف خاطرنا تمثال امرأة عربية تطرز على المنسج. ومنها طائفة تمثل الفضائل أو الأخلاق أو العواطف كالحرية والفرح والتقوى والحنو والحزن والتألم والخوف والسذاجة والمكر والخبث، أو تمثل بعض العادات منها: فرس عربي وصاحبه بجانبه، وزنجي سوداني عليه عمامة وشملة، وجهه أسود أما العمامة فمن الرخام المعرق اللون يوهم الناظر أنه قماش منسوج. وعلى كل تمثال اسم صانعه وفيهم نخبة من النحاتين المعاصرين منهم: مولين، وديبوا، ومارسيه، وكورديه، وإيزلين، ورودين، ودلابلانش، وإدراك ولاكورنيه وبويش، وبداسو، وهانو، وغيرهم. أما الصور فإنها تشغل عدة قاعات جدرانها مكسوة بالصور على اختلاف أقدارها، مما يزيد طوله على ستة أمتار إلى أقل من نصف متر. ومن الصور الكبرى صورة في صدر القاعة الأولى تمثل قايين مهاجرًا مع أهله، وقد قوضوا خيامهم وساقوا أنعامهم بألوانها وأشكالها، وصورة واقعة تاريخية في مراكش فاز فيها السلطان، وساق الأعداء إليه أمواتًا وأحياء، وصور أيوب يتضرع لله، وصورة أليعازر قائمًا من الموت، وغير ذلك ما يُعد بالمئات وكل صورة يقتضي لوصفها عدة صفحات، وكلها لأشهر المصورين من معظم الأمم، وفي جملتهم ليفي، وبوغورو، وويرتس، وديلوني، وكورمون صاحب صورة قايين وهابيل، وجرفكس، وريبو، وبونا صاحب صورة داود، وبازياس، ورولنسن، وكونستان صاحب صورة موقعة مراكش، وهيبر، وجيروم، وغيرهم. أما السجاجيد أو الستائر المعروفة عندهم باسم غوبلين فإنها عديدة، أكثرها مبسوط على جدران قاعات المنحوتات يزيد عددها على بضع عشرة أستار، قد رسموا عليها بالنسيج صورًا تاريخية، أو مجالس سياسية، في جملتها صورة لويس الرابع عشر في مجلسه، ونحو ذلك. وهي من صنع القرون المتأخرة. هو في قصر أشبه بالأديار منه بالقصور، بُني في الأجيال الأولى للنصرانية يرجع في أصل بنائه إلى أواخر القرن الثالث للميلاد، ولم يبقَ من هذا البناء إلا غرف الحمَّام، ثم صار في القرن الرابع عشر تابعًا لدير كليني، فبنى الرهبان على أنقاضه مسكنًا لهم على الطراز القوطي. تم بناؤه سنة ١٤٩٠ على يد الرئيس جاك دامبواز، وقد حافظ على شكله. وسكنته ماري ملكة إنكلترا ثالثة أزواج لويس الثاني عشر، وهي التي تُسمى الملكة البيضاء وغيرها. ولما حدثت الثورة الفرنسية أصبح البناء ملك الأمة. وفي سنة ١٨٣٣ جعله العالم الأثري إسكندر سومرار مستودعًا لتحفه وأكثرها من مصنوعات الأجيال الوسطى، وأوائل النهضة ثم صار بعد موته للحكومة. والتحف المشار إليها من أجمل المصنوعات القديمة من كل نوع يزيد عددها على ١١٠٠٠ قطعة، فيها كثير من الأدوات الكنائسية والمنسوجات الدقيقة، بينها ضروب من التطريز والتخريم بعضه يشبه كثيرًا ما يستحدثه أصحاب الأزياء الجديدة في باريس. ولعل هؤلاء قبل أن يستنبطوا زيًّا جديدًا من المنسوجات أو المطرزات يطلعون على ما في هذا المتحف وأمثاله من الأزياء القديمة، ويستخرجون من مجموعها زيًّا جديدًا. ومما شاهدناه من المتحف ستارة «غوبلين» عليها صورة أصلها لرفائيل. وفيه قاعة للقيشاني وأشباهه تدهش المتأمل أكثر ما فيها من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وفيها خزائن مملوءة بمصنوعات البندقية من الزجاج والأطباق، عليها رسوم بديعة، رأينا على بعضها صورة شمشون ودليلة، وعلى طبق آخر رسم يونون وإيزيس. وعلى غيره ولادة باخوس. وقيشاني إسباني عربي من القرن الرابع عشر فما بعده، وغيره صنع رودوس. وقاعة الأدوات اليهودية فيها المفروشات والمسودات والنقود والمصوغات. وطائفة حسنة من المصنوعات العاجية والبرونزية. ورأينا من المصوغات تسعة تيجان من الذهب عثروا عليها بين سنة ١٨٥٨ و١٨٦٠ قرب طليطلة بإسبانيا، أكبرها مرصع باللؤلؤ والزفير الشرقي وغيرهما من الحجارة الكريمة مرتبة بشكل حروف إفرنجية ترمز عن اسم ركسيفونتس من ملوك الوسيقوط (من سنة ٦٤٩–٦٧٢). ورقعة شطرنج حجارتها من البلوط المعدني صنع ألمانيا في القرن الخامس عشر. وهناك طائفة من أنواع الأسطرلاب والبوصلة والساعات من القرن السادس عشر والسابع عشر. هو متحف خاص من نوعه، فيه تماثيل من الشمع لمشاهير الرجال المعاصرين وغلاهم بملابسهم وأزيائهم. وقد أُتقن صنعها حتى يصعب على الزائر أن يميز بين التماثيل المنصوبة منها والوقوف من الزائرين. وفي جملة التماثيل المشار إليها طائفة من رجال فرنسا وغيرهم مثل رشفور كوكلين وجول كلارسي، وموريس بارس، وكليمانسو، وغيرهم، بين وقوف على انفراد أو أزواج وجماعات كأنهم يتحدثون، أو يلعبون وقد مثلوا مواقف تاريخية مشهورة مثل: عائلة لويس السادس عشر لما بلغها خبر الثورة وقد دخل الغوغاء عليهم. وروبسبير، ودانتون، وديمولين، وبيلي، ولافت، ولويس السادس عشر في سجنه. ومحكمة الثورة الفرنساوية وفيها القضاة. ومدام رولان ساعة المحاكمة. لا ينقص أحد منها غير النطق والحركة، وميرابوا في موقف الخطاب. والقبض على شارلوط كوردي. ونابليون وجوزفين يسمعان الموسيقى. وهما في موقف آخر مع مداموزيل أوغيه. ولويس نابليون. ومرات مع جمهور من السيدات. وكل جماعة في غرفة فيها الرياش والألبسة والأدوات كما كانت في وقت الحادثة مما يدهش الناظرين. وفي الطبقة السفلى أمكنة كالدهاليز والسراديب مثلوا بها أحوال النصرانية في أوائل أحوالها يوم كان المسيحيون يتكتمون بصلواتهم وطقوسهم، وما كانوا يقاسونه من العذاب والاضطهاد. نقلنا منها صورة مأتم والقوم وقوف حول الميت يصلون عليه ويخافون الخروج به. لا يقدر الزائر لتلك الأماكن إلا التخشع لما يظهر في ملامح أولئك المسيحيين من التقوى والخشوع وصدق الاعتقاد. ورأينا في جملة التماثيل تمثال جان دارك على جوادها بأسلحتها، وبيدها العَلَم وقد وقف بجانبها حارسان من رجالها. ومجلس البابا بيوس العاشر في كنيسة سكستين وقد جلس على عرشه وبين يديه الكردينالية بين جالس وواقف وجاث. وبالجملة فإن متحف غريفن هذا من مدهشات الصناعة. وهناك متاحف أخرى في باريس يضيق المكان عن ذكرها، نشير منها إلى متحف جيمي وهو من المتاحف الدينية، وفيه الآثار الدينية على اختلاف أشكالها باختلاف الأمم القديمة والحديثة. هي بلدة على نحو ٢٠ كيلو مترًا من باريس، فيها قصر لويس الرابع عشر، ومن خلفه من ملوك فرنسا. سكانها نحو ٥٠٠٠٠ نفس وفيها الشوارع المنتظمة، والساحات الفسيحة، والقصور الفخيمة. وقد بُنيت في الأصل على بقعة رملية لا ماء فيها وإنما رغب لويس المذكور في بنائها لصفاء جوها ونقاوة هوائها، فأنفق في إنشاء قصره وجلب الماء إليها مالًا طائلًا. وأحصوا عدد الذين اشتغلوا في ذلك فبلغوا ٣٦٠٠٠ رجل و٦٠٠٠ حصان، وبلغت النفقة عليها في أيام لويس الرابع عشر ما يُقدَّر بنحو خمسمائة مليون فرنك، غير الذين سُخِّروا في العمل بلا أجرة. ولعل هذا الملك السعيد اقتدى بما فعله عبد الرحمن الناصر صاحب قرطبة ببناء الزهراء، أو المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة، أو ابن الأحمر ببناء الحمراء في غرناطة. وتُقدَّر نفقات الزهراء بنحو ٥٠٠٠٠٠٠٠ دينار؛ أي نحو ما أنفقه لويس هذا على قصره في فرسايل، ولكن عدد المشتغلين في بناء الزهراء كانوا ١٠٠٠٠٠ و١٥٠٠ دابة. على أن الزهراء امَّحت الآن وعفت آثارها، وأما فرسايل فلا تزال باقية والفرنساويون يبالغون بالاحتفاظ بها. واتخذ لويس المذكور فرسايل مسكنًا له سنة ١٦٨٢، ومنها كان يصدر الأوامر لحكومته أو جنده، وفيها تزوج مدام دي منتنون سنة ١٦٨٢ بعد وفاة ماري تريز، وصارت فرسايل بعد ذلك مقرًّا لملوك فرنسا، وفيها عُقدت أكثر الاجتماعات السياسية الهامة في أثناء القرنين الماضيين، قبل الثورة وبعدها وتقلبت على أحوال عسر ويسر، وفيها أُمضيت معاهدة سنة ١٧٨٣ بين فرنسا وإنكلترا على أثر استقلال أمريكا، وفيها نزل وليم الأول إمبراطور ألمانيا من ٥ أكتوبر سنة ١٧٧٠ إلى ٦ مارس سنة ١٨٧١ بعد تغلبه على الفرنساويين وتُوج فيها إمبراطورًا على الألمان. هو في قصر فرسايل، مسكن لويس الرابع عشر نفسه. والقصر وحده بما يكتنفه من الحوادث التاريخية يُعد من أهم التحف ولبنائه تاريخ طويل. وهو كالبلد الكبير بما فيه من القاعات والغرف والدهاليز والأروقة والمراسح والمجالس، يسع نحو عشرة آلاف نفس، طول واجهته الكبرى ٥٨٠ مترًا فيها ٣٧٥ نافذة. تم بناء القصر في القرن السابع عشر بما فيه من الرياش الفاخر، والتحف التاريخية أو الصناعية، وأنشئوا بين يديه الحدائق التي تأخذ بالأبصار بما فيها من البرك والأشجار والغياض والبساتين. فلما كانت الثورة الفرنساوية بيع الرياش ونُقل ما كان هناك من الصور الجميلة إلى اللوفر، لكن لويس فيليب أعاد إلى فرسايل رونقها، فجعل قصرها هذا متحفًا جمع فيه أهم مفاخر الفرنساويين التاريخية والفنية سماه «المتحف الوطني» ويُعرف أيضًا بمتحف فرسايل. ويُقسَّم هذا المتحف إلى قسمين كبيرين: (١) قاعات لويس الرابع عشر وأهله وخلفائه، فهي كالمتحف بإتقان صنعها، وما على جدرانها وسقوفها من النقوش البديعة. (٢) المتحف التاريخي الذي أنشأه لويس فليب وفيه عدد عظيم من الصور والتماثيل أكثرها متوسطة القيمة من حيث الصناعة، لكنه أراد أن يمثِّل بها تاريخ فرنسا بحسب أطواره ورتَّب ذلك في قاعات عديدة لا يكاد يجد الزائر وقتًا كافيًا للمرور فيها، فضلًا عن درسها، فنكتفي بالإشارة إلى أهم ما فيها. ففي الجناح الشمالي من القصر كنيسة كان يصلي فيها أهل ذلك القصر متقنة النقش والوضع، عليها كثير من النقوش الرخامية المذهبة والصور الدينية، منها صورة القيامة في وسط القبة، وعلى كل من المذابح صورة. وقاعات الصور التاريخية تُقسَّم بحسب العصور أو الأدوار، منها قاعات تاريخ فرنسا من كلوفيس إلى لويس السادس عشر، فيها صورة زيتية كبيرة تمثل أهم حوادث التاريخ في تلك المدن لأشهر المصورين مثل دلاروش، وروجيه، وشيفر، وغيرهم، وقاعات الحروب الصليبية تمتاز بإتقان جدرانها وما عليها من النقوش مع شارة قواد تلك الحروب (الأرمات)، فضلًا عن الصور الكبرى التي تمثل الحوادث التاريخية الهامة، بينها صورة تتويج إمبراطور القسطنطينية سنة ١٢٠٤ وأخرى تمثل واقعة عسقلان سنة ١١٧٧م بين الإفرنج والمسلمين، وصورة معركة طولوسة بإسبانيا بين الإفرنج والعرب سنة ١٢١٢م، وصورة طواف الصليبيين حول أورشليم سنة ١٠٩٩م، وفي إحدى هذه القاعات باب على النمط القوطي من مصنوعات فرسان رودس، أهداه السلطان محمود الثاني لفرنسا سنة ١٨٣٦م. ومن الصور التاريخية هناك صورة حصار رودس سنة ١٤٨٠م، وأخذ القسطنطينية سنة ١٢٠٤م نقلًا عن صورة في اللوفر، وصورة فتح القدس سنة ١٠٩٩ وقطع الصليبيين البوسفور سنة ١٠٩٧، وهم زاحفون على الشرق لفتح بيت المقدس. وقاعات خاصة بصور تاريخية من سنة ١٧٩٤–١٨٣٠ بينها صورة نابليون الأول مجروحًا في راتسبون سنة ١٨٠٩ وصور أخرى عديدة يضيق المقام عن ذكرها. وفي قاعات الحوادث التاريخية العصرية في القرن التاسع عشر عدة صور تهم قراء العربية على الخصوص؛ لأنها شرقية تمثل وقائع الفرنساويين مع العرب في الجزائر تحت قيادة الأمير عبد القادر المشهور؛ فإنه حاربهم أعوامًا طويلة، حتى كادوا ييأسون من قهره ثم وفقوا إلى ذلك بالاستيلاء على «الزملة»، وهي بلد نقال فيه ما يحتاج إليه الجند من الصناع والعمال والخفر، وفيها أهله وأعوانه وأمواله وخزائنه ومئونته، والزملة عبارة عن خيام تُحمل على الجمال في الصحراء ويُحمل معها كل ما يحتاج إليه القوم من المئونة والذخيرة، فإذا أرادوا النزول نصبوا الخيام بترتيب معين فيعرف كل واحد خيمته وعمله. وقد عمد الأمير عبد القادر إلى اختراع هذه الزملة في أواخر حربه مع الفرنساويين بعد أن أصبحت بلاد الجزائر تتقد بالحروب فلم يعد يأمن الإقامة في مكان. فلما تعبت فرنسا من مناهضته أغرت صاحب مراكش على معاضدتها، وعلم عبد القادر في أواخر سنة ١٨٤٧ بقدوم المراكشيين لغزو زملته، ولم يكن فيها أكثر من خمسة آلاف، والمراكشيون يزيدون على خمسين ألفًا، فخاف الأمير على رجاله وإن لم يعرف الخوف قبلًا، فعادت إليه نخوته فهجم ليلًا بذلك الجيش القليل، وفرَّق شمل المراكشيين، ثم عادوا فاجتمعوا ثانية فهاجموه فطاردهم وظهر عليهم لكنه خسر جانبًا من رجاله، فرأى الانسحاب أفضل له، فرجع إلى الجزائر فوصل مكانًا علم بعد وصوله إليه أن الجيش الفرنساوي على مسافة ثلاث ساعات منه، ورأى أن جيشه قد أنهكه السفر والحرب، فخشي أن يقع هو وزملته في أيدي الفرنساويين؛ لأنه لا يستطيع الرجوع والمراكشيون من ورائه يطاردونه، ولكنه عاد فرأى أن يبذل قصارى جهده، فجمع إليه رجاله فخطب فيهم مفصحًا عما هم فيه من الضيق وقال: «أراكم قد وفيتم بما بايعتموني عليه، وبذلتم جهدكم في معاضدتي. وأما الحالة الراهنة فتقضي علينا بالتسليم للعدو، وعندي أن التسليم للفرنساويين خير من التسليم للمراكشيين، فما رأيكم؟» فأجابوه أنهم على رأيه، فنظر إليهم فإذا هم عدة من أحسن الرجال وأشدهم، وقد رافقوه في حروبه خمس عشرة سنة، فشق عليه أن ينتهي جهاده بهذا التسليم للعدو، ولكنه أذعن لحكم الضرورة قسرًا، وهو غير خائب لأنه جاهد الجهاد الحسن أكثر من ١٥ سنة حتى نفدت الحيلة. وعلى ذلك تم التسليم، لكن المصور تصور هجوم الفرنساويين على الزملة وعبد القادر غائب، فمثَّل ذلك أحسن تمثيل في صورة طولها عدة أمتار شاهدناها في إحدى الغرف من قاعات متحف فرسايل، ووقفنا عندها ساعة نتأمل ما تولى رجال عبد القادر من الذعر لما رأوا خيول الأعداء تكاد تأخذهم، فبرزت النساء من الخيام مذعورات وأخذ الخدم في مساعدتهن في ركوب الجمال التماسًا للفرار، وهرب بعض الأتباع، وفيهم اليهود أصحاب خزينة عبد القادر، ونفر ما كان معهم من الحيوانات الأهلية وبينها الغزلان طلبت البرية. وبان الرعب في كل حي، وظهر الاضطراب في كل شيء فقُلبت الخيام وأجفلت الجمال، وذُعر الأطفال، وبكت النساء مما يستوقف البصر. وفي تلك القاعة صورة نافرة تمثل نابليون وقد أطلق سراح عبد القادر في أمبواز سنة ١٨٥٢، وصورة زيتية لحصار قسنطينة سنة ١٨٣٧، وصورة أخرى لمعرض في المكسيك سنة ١٨٣٨، وصور عديدة لوقائع حربية في القرم سنة ١٨٥٤ من جملتها أخذ ملاكوف، ومعركة ألما، ومعركة سلفرينو، وغيرها، وكلها كبيرة الحجم. والقسم الأوسط من القصر تُسمى قاعاته بأسماء آلهة اليونان كالزهرة، والمريخ، وأبولون، وغيرها، فيها صور زيتية وستائر مصورة نسجًا مما يُسمى «غوبلين» أكثرها تمثل حوادث تاريخية فرنساوية، من جملتها ستارة تمثل الكونت فوانت في حضرة لويس الرابع عشر باسم ملك إسبانيا، وأخرى تمثل اجتماع لويس المذكور، وفيليب الرابع ملك الإسبان، وأخرى لزواج لويس الرابع عشر بماري تريز، وغير ذلك، ومنها قاعة السلم، جدرانها مبطنة بالرخام وعليها أمثلة من الأوسمة البرونزية، وقاعة الزجاج طولها ٧٢ مترًا، وعرضها عشرة أمتار، وعلوها ١٣ مترًا مزخرفة زخرفة باهرة، لها واجهة من زجاج تطل على حديقة فرسايل، وعلى جدرانها صور عديدة تاريخية لأزمنة مختلفة يطول بنا شرحها. وهناك غرف مختلفة لجلوس الملك أو طعامه وعلى جدرانها صور بينها صور تمثل وقائع «دونكي شوت». وهناك ساعة رقاصة كبرى تدل على الساعات والأيام والأشهر. ومنها غرفة الرقاد للويس الرابع عشر بفراشه وخزانته وكراسيه وسائر ما يلزم، وفيها مات سنة ١٧١٥ بعد أن حكم ٧٢ سنة. وقاعات الملكة مصورة الجدران، وفيها كانت تنام الملكة ماري تريز حتى تُوفيت سنة ١٦٨٣ وماري لزينسكي، ثم ماري أنطوانيت، وفيها صورة هذه الملكة وعدة ستائر «غوبلين». ومنها قاعة خاصة باستقبال الأعيان كانت الملكة تستقبلهم فيها بأوقات معينة وعلى جدرانها ستائر، إحداها تمثل زيارة لويس الرابع عشر لمعمل هذه الستائر وقاعة عرس الملكة وقاعات أخرى لمدام دي منثنون وغيرها. وفي الجناح الجنوبي من القصر قاعات عديدة للصور التاريخية، منها قاعة المعارك فيها صور أشهر المعارك الكبرى في جملتها معركة تورس بين العرب بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والإفرنج بقيادة شارل مارتل سنة ٢٣٧م وهي التي فاز بها الفرنساويون وردوا العرب عن أوروبا. وصورة شارلمان في بادربون يستقبل وفود ويتيكند يقدمون الطاعة سنة ٧٨٥م وصور أخرى تمثل الكونت أندس يدفع النورمنديين عن باريس سنة ٨٨٥م ومعركة بوفين سنة ١٢١٤، ووصول هنري الرابع إلى باريس سنة ١٥٩٤، ومعركة ريفولي سنة ١٧٩٧، وواقعة أوسترايتس سنة ١٨٠٥، ويانا سنة ١٨٠٦، وواغرام سنة ١٨٠٩، وجملة ما في هذه القاعة ٣٤ صورة و٥٠ تمثالًا نصفيًّا لكبار الملوك والأمراء. وفي الطبقة العليا من هذا الجناح قاعات عديدة بعضها خاص بالثورة الفرنساوية فيها صور أهم حوادثها وأشهر رجالها، مثل الاحتفال بالإخاء الوطني سنة ١٧٩٠، وصور مدام رولان وماري أنطوانيت في الهيكل، ومقتل مرات، وتمثال نصفي لميرابو، وخطيب تلك الثورة، وتمثالا لافاييت ولويس ١٧. وهناك قاعة خاصة لتصوير أعمال نابليون الأول، وحوادث عائلته ومشاهير الأمة في عهده، منها صورة تمثل قواد الحملة المصرية صُورت سنة ١٧٩٩، وغير ذلك شيء كثير يختص بنابليون وحوادثه المدهشة في بيته وفي جيشه وأسفاره وحروبه وأولاده. وفي قاعات القسم الأوسط من هذا القصر شيء كثير من الرسوم لتمثيل الحوادث التي جرت لفرنسا في القرن الثامن عشر، في جملتها صورة كبيرة تمثل وصول سفير عثماني اسمه محمد أفندي إلى قصر التويلري سنة ١٧٢١، وصورة أخرى لوصول سعيد باشا سفير الباب العالي سنة ١٧٤٢ وبينها غرف لنوم ولي العهد وأمه وغيرهما من أهل البلاط. وفي فرسايل غير هذا القصر قصران يُعرف كل منهما باسم تريانون أحدهما الأكبر، والآخر الأصغر كان يتردد إليهما لويس الرابع عشر مع بعض العائلات أو الأعوان، وهما متقنا البناء وفيهما تحف تاريخية أو فنية؛ ففي الكبير منهما تحف من الرياش الثمين النادر. ومن جملة ذلك كئوس من الوهج (الملكيت) أهداها القيصر إسكندر الأول إمبراطور روسيا إلى نابليون الأول. وفي التريانون الكبير أيضًا معرض المركبات، فيه ثماني مركبات إحداها لنابليون الأول ركبها لما تعين قنصلًا أول، وأخرى ركبها يوم زواجه، ومركبة قلدوا بها مركبة شارل العاشر وغيرها. وفي فرسايل حدائق غناء جروا إليها الماء في بحيرات مديرة بأنابيب إذا فُتحت تفجر الماء من أفواهها وصعد في الهواء على أشكال مختلفة وارتفاعات متفاوتة، وهم يحتفلون بفتحها في أوقات معينة من النهار يشهد الناس منظرها مما يشرح الصدر وينزه الخاطر، وقد يجتمع الألوف وعشرات الألوف في بعض الأيام لهذه الغاية. وعلى عشرة كيلو مترات من باريس قصر مالميزون في ضاحية من أجمل ضواحي باريس فيها الحدائق والغياض على أجمل أسلوب، واشتهر هذا القصر بجوزفين امرأة نابليون؛ لأنها اعتزلت فيه بعد طلاقها سنة ١٨٠٩ إلى وفاتها سنة ١٨١٤. امتلكته ماري كريستين ملكة إسبانيا سنة ١٨٤٢–١٨٦١ وأقامت فيه الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث ردحًا من الزمن. وفي سنة ١٩٠٠ اشتراه داود أوزيريس المثري الفرنساوي الشهير (تُوفي سنة ١٩٠٧) أهداه للأمة مع ما يحيط به من البساتين، ليس أدعى إلى التهيب والاعتبار بمصير الإنسان من زيارة هذا القصر ومشاهدة ما لا يزال فيه من الرياش والأدوات، كما أن في زمن تلك الإمبراطورة السيئة الحظ زوجة أعظم القواد وأطمع طلاب المجد؛ فإنك تسمع من السكينة السائدة هناك نداء يخترق الأسماع ويستولي على القلوب «أن الإنسان مهما بلغ من جبروته وعظمته لا يبقى له غير أعماله، ولا يُذكر له منها إلا ما أفاد به بني نوعه.» مررنا في غرف ذلك القصر الفخيم لا نسمع فيه غير وقع أقدامنا وكل منا مطرق يتأمل. مررنا بقاعة الاستقبال فقاعة الطعام فغرف النوم والكتابة والبلياردو والموسيقى، وشاهدنا الخزائن والمقاعد والستائر والأرائك والمناضد. وعلى جدران القصر الصور الزيتية تمثل المشاهد الجميلة، والحوادث الهامة، جيء بها إلى ذلك القصر خدمة لأهله ولكنهم ذهبوا وبقيت هي. شاهدنا طاولة نابليون التي كان يكتب عليها بيده، وخزانة الكتب التي كان يرجع إلى كتبها عند التحقيق، والقلم الذي كان يقبض عليه بأنامله. وفي قاعة البلياردو صور في جملتها صور حملها بونابرت من مصر سنة ١٧٩٩ منها صورة تمثل بعض المشائخ بألبستهم العربية المصرية جاءوا لمقابلة بونابرت وعدة سجاجيد جميلة. لا تقدر وأنت تنظر إلى تلك البقايا إلا أن تتصور نابليون واقفًا أو جالسًا هنا وهناك وجوزفين وما يخطر لها في عزلتها. ونختم وصف باريس ومتاحفها وأحوالها بما شاهدناه فيها من تقدم السوريين في التجارة والأدب والفنون الجميلة. لقينا فيها عشرات من أصحاب المتاجر، وقد جارَوا الفرنساويين بالتجارة، ولهم منزلة رفيعة بين علية القوم وأحرزوا ثقة أصحاب المعامل والمصارف. ولأكثرهم معاملات واسعة مع الشرق والغرب، وأكثر اشتغالهم مع سوريا وأمريكا الشمالية والجنوبية يبعثون إليها السلع من مصنوعات باريس على اختلاف أصنافها. فمن البيوت التجارية السورية في باريس محلات رحيم، وبو شديد، وشحادة، وسليمان، ودقرت، وشقير، وبركة، وداود، وجاسر إخوان ودوماني، ومانوك، وقزي، وبيجاني، وشخيري، وزوين، ويانسوني، وحوس (فرع لمحل صيدناوي)، وغيرها من البيوت التي تتعاطى أصناف التجارة. وقد اختص بعضهم بتجارة المجوهرات، أشهرهم: كساب، ونصبة، وأبو حمد. وبالعطريات محل بشارة ملحمة، وله شهرة واسعة في فرنسا وإنكلترا بما يصطنعه من العطريات المعروفة باسمه، وقد نال جوائز السبق في المعارض الصناعية. وعرفنا من الماليين الكونت قريصاني مدير البنك الفرنساوي المصري في باريس، وهو من البنوك الكبرى وله فرع في مصر. وقس على ذلك مما يدل على اقتدار الشرقي على مجاراة الغربي إذا تساوت الأسباب والوسائل. إن نظام الحكومة الإنكليزية من النوع الملكي المقيد، وإنكلترا من أعرق الأمم في الدستور، وهي أم الحكومات الدستورية، يرجع الحكم فيها إلى رأي الأمة فلا تسن الحكومة قانونًا، أو تنفذ رأيًا إلا بعد موافقة الأمة عليه، وينوب عن الأمة مجلسان يباحثان الحكومة ويجادلانها، أو يقترحان عليها هما: مجلس الأعيان، ومجلس العموم، ويُعبَّر عنهما بالبرلمان، تأسسا في أوائل القرن الرابع عشر. ويلتئم البرلمان بإيعاز الملك بعد إشارة المجلس الخصوصي قبل وقت اجتماعه بخمسة وثلاثين يومًا على الأقل، وجرت العادة أن يوالي اجتماعه بين فبراير وأغسطس من كل سنة للنظر فيما يُعرض عليه من الشئون. وبعد المباحثات والاقتراحات يصدر قراراته بأغلبية الأصوات. يتألف مجلس الأعيان من الأشراف ويبلغ عدد أعضائه نحو ٦٥٠ عضوًا وتنال عضويته إما بحق الإرث أو باقتراح الملك أو باستحقاق المنصب كالأساقفة ونحوهم أو بالانتخاب. ويتألف مجلس العموم من أعضاء ينتخبهم عامة الشعب؛ لينوبوا عنهم، وفيهم مَن ينوب عن المقاطعات أو المدن أو المراكز أو نحوها من إنكلترا وسكوتلاند وأيرلندا، ويُشترط في المنتخب أن يكون بالغًا رشده وأن يكون اسمه مقيدًا في سجل المنتخبين. وللحكومة شروط في نيل حق الانتخاب لا محل لها هنا، ويبلغ عدد المنتخبين نحو سدس الأهلين، ثلاثة أرباعهم من إنكلترا والباقون من اسكوتلاندا وأيرلندا. وانتخاب أعضاء البرلمان سري، ولا يُنتخب عضو لم يتجاوز سنه ٢١ سنة، ولا يجوز انتخاب أحد من الأشراف لعضوية مجلس العموم. والقوة التنفيذية في الدولة الإنكليزية في قبضة الوزارة أو مجلس الوزراء، لكنها تصدر باسم جلالة الملك. على أن هذا المجلس يتوقف تعيينه على مجلس العموم، فهو يعين رئيس الوزارة بأكثرية الأصوات، وهذا يشكل الوزارة؛ ولذلك كانت الحكومة في أيدي الشعب. ومجلس الوزراء أو النظار عندهم مؤلف من ١٨ وزيرًا، كل منهم يتولى رئاسة دائرة من دوائر الحكومة وهي ثماني عشرة دائرة أو وزارة: الخزينة، والعدلية، والختم الخاص، والخارجية، والهند، والداخلية، والمالية والمستعمرات، والحربية، والبحرية، وأيرلندا، والتجارة، والمحلية، والمعارف، وسكوتلاندا، والزراعة، والأسماك، والبريد، ولانكستر. على كل منها رئيس. إن المملكة الإنكليزية بما يلحقها من المستعمرات أعظم الممالك المتمدنة وأكثرها سكانًا وأوسعها ثروة، وهي تتألف من بريطانيا العظمى، وتشتمل على إنكلترا، وويلس، وسكوتلاندا، وأيرلندا، ومن مستعمراتها الكثيرة في القارات الخمس، فمساحة بريطانيا ١٢١٣٩١ ميلًا مربعًا وعدد سكانها نحو ٤٥٠٠٠٠٠٠ نفس. وأما المستعمرات فإنها أوسع من ذلك كثيرًا، تُقدَّر مساحتها بأضعاف مساحة بريطانيا، فهي تزيد على ١١٥٥٩٠٠٠ ميل مربع وعدد سكانها يزيد على ستة أضعاف سكان بريطانيا؛ أي نحو ٣٠٠٠٠٠٠٠٠ نفس تتفرق على هذه الصورة: وتناهز ميزانية الحكومة الإنكليزية نحو ٢٠٠ مليون جنيه تُجمع من الضرائب المختلفة، وتُنفق في مصالح الحكومة والجندية والديون وغيرها. وإذا نظرنا إلى ثروة الأمة الإنكليزية رأينا ما يدهش العقل. وقد عقد أحد الباحثين فصلًا ضافيًا في مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية في هذا الموضوع، خلاصته أن تجارة بريطانيا الخارجية بلغت في العام الماضي نحو ١٨٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه، أكثرها حمل في البحار، وأن ثروة الأمة الإنكليزية نحو ٢٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. ودخلها في السنة نحو ٣٣٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وما من دولة تداني الأمة الإنكليزية في الثروة. والمشهور أن الأمة الفرنساوية تدانيها أو تفوقها، ولكن كاتب المقالة المتقدم ذكرها يجعل ثروة فرنسا نصف ثروة إنكلترا؛ أي نحو ٢١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه، ويقول إن أقرب الأمم ثروة إلى الإنكليز الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه يقدر ثروتها بنحو ٢١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وأكثر ثروة الأمة الإنكليزية في بريطانيا يليها الهند، وكندا، وأوستراليا على هذه النسبة: وقابل الكاتب بين دخل الأمة الإنكليزية وما تنفقه في الدفاع عن حوزتها، فبلغ نحو ثلاثة جنيهات عن كل مائة جنيه من الدخل؛ أي ١٠٢٠٠٠٠٠٠ جنيه. ويهمنا من هذه المملكة الواسعة في هذا المقام لندن العاصمة؛ لأننا درسناها أكثر من سواها، وفيها المتاحف والآثار، سنصفها مع بعض البلاد الأخرى فيما يلي: التعليم في إنكلترا ثلاث درجات: الابتدائي والثانوي والعالي، فنقتصر هنا على وصف التعليم العالي في الكليات والجامعات. وأقدم هذه المعاهد العلمية بُني خارج لندن، وأقدم جامعات لندن أُنشئت سنة ١٨٣٦ وظلت هذه وحيدة في لندن إلى أوائل القرن الحاضر فأُنشئ سواها كما ستراه. وأما خارج لندن فيرجع تاريخ بعض الكليات إلى الأجيال الوسطى، وأرقاها جميعًا جامعتا أكسفورد وكامبردج، وسنعود إليهما عند وصف هذين البلدين من رحلتنا. أما سائر الجامعات والكليات في بريطانيا فأقدمها أُنشئ في اسكوتلاندا في القرن الخامس عشر. وهذا جدول بأسماء جامعات بريطانيا وكلياتها حسب سني إنشائها: وهناك جامعات وكليات أخرى في سائر مدائن إنكلترا الكبرى مثل منشستر وغيرها. وأكثر الجامعات مؤلف من كليات تختلف عددًا باختلاف أهميتها، ففي جامعة لندن ٢٤ كلية وفي جامعة أكسفورد ٢٢ كلية وفي كامبردج ١٧ كلية، وتختلف أيضًا في عدد الأساتذة والتلاميذ. ولكن يُقال على الإجمال إن الأساتذة في تلك الجامعات يتجاوزون بضعة آلاف، والتلامذة يُعدون بعشرات الألوف. ولأكثر هذه الجامعات أوقاف متوارثة يُنفق من ريعها على التعليم، وفيها المعامل الكيماوية، والبكتيريولوجية والمعارض التشريحية، والجيولوجية، والنباتية، والحيوانية وغيرها. أما المدارس الابتدائية والثانوية فيضيق المقام عن وصفها. ومعظم هذه المدارس تنفق الحكومة عليها، على أن جمعيات التعليم كثيرة في إنكلترا مما أُنشئ لتهذيب الناشئة من الفقراء، منها جمعية في لندن تُسمى «لله وللوطن» أُنشئت من ٤٧ سنة لجمع اللقطاء والمتشردين من الذكور والإناث وتعليمهم وتربيتهم وتثقيف عقولهم، وهي تجمع الإعانات من أموال المحسنين، وقد بلغ المال الذي جمعته إلى الآن نحو ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه، منها ٢٣٥٠٠٠ جنيه جُمعت في السنة الماضية، وبلغ عدد الذين آوتهم من الأطفال والمساكين في السنة المذكورة ٩٠٤٩ غلامًا، وهي تعتني بهؤلاء المساكين وتعلمهم الصنائع، وتبعث بهم إلى المستعمرات ولا سيما كندا، وتشترط في قبول المعوزين أن يكونوا مقطوعين ولا نصير لهم، ولا يُقبل منهم إلا ما بين الطفولية إلى السنة ١٤ ولها بضعة عشر مركزًا في لندن والولايات المتحدة، ورئيسها اسمه الدكتور برناردو. وللإنكليز فضل كبير على العلم الحديث، ولا سيما بما يتعلق بالاختراعات المحسوسة التي توقف عليها تسهيل المواصلات، وتقريب المسافات كالسكك الحديدية، والآلات البخارية، وكثير من الصنائع الحديثة كالنسيج والغزل والخياطة، ومنهم شارب دروين صاحب مذهب النشوء والارتقاء، وشكسبير مؤسس نهضة الأدب العصري، وولتر سكوت، وملتن، غير أصحاب الاكتشافات العلمية في الطب، والكيمياء، والطبيعيات، وعلم الحياة، والاجتماع، ومنهم: ليستر، وجنر، وهكسلي، وسبنسر، غير رجال السياسة والإدارة أصحاب الأدمغة الكبيرة. ومن قبيل الحالة العلمية تكاثر المكاتب، وغرف المطالعة وهي عديدة، وكذلك الصحافة فإن في لندن وضواحيها نحو ٤٠٠ صحيفة بعضها يطبع مئات الألوف من النسخ كل يوم، غير المراسح للتمثيل، والمعارض العلمية، والجمعيات العلمية والأدبية والأكاديمية وغير ذلك مما يطول شرحه. وفي إنكلترا اليوم حركة فكرية، وإقدام على الكتابة والتأليف في المواضيع المختلفة، وقد أحصى بعضهم أشهر الكتاب الإنكليز المعاصرين ورتَّبهم حسب المواضيع، وخلاصة ذلك كما يأتي: إنهما توأمان في الفخامة والعظمة، ولكن لندن أوسع مساحةً وأضخم أبنيةً، وأظلم جوًّا، وأما باريس فإنها أجمل منظرًا وأكثر زهوًا وأشرق سماءً وأصفى هواءً. ليس في لندن أماكن للجلوس في سبيل اللهو أو الراحة كالقهوات والبارات التي ذكرناها في باريس؛ فالغريب إذا احتاج إلى الراحة في غير المنازل ليس له إلا المقاعد في الحدائق العمومية، أو يمر بالشوارع للفرجة. وفي لندن حانات كثيرة لأنواع الخمور، وحوانيت لشرب الشاي أو القهوة أو غيرهما من المرطبات أو المخدرات، لكنها كالمخازن التجارية تطلب ما تريده وتتناوله، وتنصرف كما تفعل لو أردت تناول الطعام في مطعم. وليس عندهم مجالس للتسلية إلى موائد كما في القاهرة مثلًا. والقاهرة من حيث القهوات وأماكن اللهو كثيرة الشبه بباريس، على أن بعضهم أنشئوا في لندن أماكن من هذا القبيل تشبه ما في باريس لكنها قليلة، وليست على قوارع الطرق. إن الماشي في شوارع باريس إذا اقتضى أن يوسِّع لمقبل عليه خوفًا من التصادم، تحوَّل نحو اليمين كما يفعل أهل القاهرة؛ فالمركبات والدواب، والناس يتحولون في شوارع باريس إلى يمينهم أما في لندن فبعكس ذلك؛ لأن المارة في شوارعها إذا تلاقوا تحول كل منهم إلى يساره. وقد نبهوا الناس إلى ذلك بألواح كتبوا عليها قولهم «إلى اليسار»، فإذا تلاقى اثنان وتحول كل منهما إلى يمينه لا يتصادمان وكذلك إذا تحولا إلى اليسار. أما إذا تحوَّل أحدهما إلى يمينه، والآخر إلى يساره فإنهما يتصادمان؛ ولذلك فالفرنساوي والإنكليزي إذا تلاقيا، ومشى كل منهما على ما تعوده في بلده لا بد من تصادمهما! ليس في لندن أماكن عمومية للفحشاء كما في باريس؛ لأن الحكومة الإنكليزية تحظر على الناس الاتجار بها؛ خلافًا لمعظم حكومات أوروبا، وقد أحسنت إنكلترا ويا حبذا لو اقتدت مصر بها في ذلك فأخذته عنها كما أخذت غيره من أسباب المدنية، ولكن مصر أباحت إنشاء تلك الأماكن اقتداء بفرنسا وغيرها من الدول التي تبيحه، وقد أخطأت كما بينا ذلك في الهلال. إن هيبة التدين ظاهرة في لندن أكثر مما في باريس، ولا سيما في أيام الآحاد؛ فإن تلك المدينة الضخمة التي تعج أسواقها بالناس عجيجًا في أثناء الأسبوع، وقد بسطت فيها البضائع وعرضت السلع على قوارع الطرق تصبح في يوم الأحد خاليةً خاوية لا تجد فيها بائعًا ولا شاريًا ولا صانعًا ولا عاملًا، وإنما يخرج الناس بعد الصلاة للنزهة في الحدائق العمومية أو غيرها في لندن وضواحيها. وهكذا تفعل سائر مدن إنكلترا وقراها حتى السكك الحديدية فإن حركتها تخف في أيام الآحاد والأعياد؛ فالإنكليز من أكثر أمم أوروبا تدينًا، وقد نفعهم ذلك في كثير من أحوالهم الاجتماعية. إن عادة البخشيش شائعة في لندن، لكنها أقل كثيرًا مما في باريس لقلة القهوات والملاهي كما قدمنا. لا تجد في الشوارع العمومية من بنات الرصيف ما تجده في باريس. وسنعود إلى لندن عند الكلام عن المتاحف والآثار. نظام الاجتماع في إنكلترا يشبه على إجماله نظام سائر الممالك الأوروبية من حيث العائلة والحكومة والمدرسة والكنيسة، لكنه يمتاز في إنكلترا بخصائص لا يخلو ذكرها من فائدة، هاك أهمها: فالإنكليز عندهم الحرية والإخاء، وليس عندهم المساواة، على أنهم عاملون على نزع تلك الامتيازات من الشرفاء، وقد أفلحوا في كثير من مطالبهم، لكن المساواة الكلية يبطِّئ الوصول إليها تأصل الأرستوقراطية في نفوس القوم من أجيال متوالية، حتى تراها في كثير من آدابهم الاجتماعية، ومن آثارها المحسوسة أنه ليس في قطر السكك الحديدية درجة وسطى بين الأعيان والعموم. فالقطار عندهم فيه عربات من الدرجة الأولى وعربات من الدرجة الثالثة. ولا تجد درجة ثانية في قطرهم إلا ما يتصل منها بالقطر الفرنساوي وغيرها على الحدود. لا تخلو دولة من ضرائب تضربها على رعاياها تسد بها نفقات رعايتهم، والقيام على حراستهم أو القضاء بينهم، لكن الإنكليز يزيدون على ذلك نوعًا من الضرائب اقتضاه تفاوت الثروة في طبقات الأمة، فجعلوا مقدار الضريبة بنسبة تلك الثروة، ويعولون في تقديرها على الدخل لا على رأس المال، فيفرضون على الغني أو التاجر مبلغًا من دخله السنوي يسمونه ضريبة الدخل، أصلها إعانة فرضتها الحكومة على الأمة للاستعانة بها على محاربة الفرنساويين سنة ١٥١٢، فقرر البرلمان يومئذٍ أن يدفع العامة ١٥/٣ من دخلهم تلك السنة، والكهنة الخمس. وفي سنة ١٧٩٨ زادوها لمثل ذلك السبب، وما زالوا يزيدون الضرائب وينوعونها ويعدلونها حتى بلغت ما هي عليه الآن. وهي تختلف حسب السنين، ولكنها نحو خمسة في المائة، من الدخل أو شلن في الجنيه. ولا يدفع هذه الضريبة إلا الذي يبلغ دخله ١٦٠ جنيهًا في السنة فما فوق. ولهم شروط لمن يزيد دخله على ذلك إلى ٧٠٠ جنيه فهؤلاء يعفونهم من بعض الضريبة، أما مَن زاد دخله على ٧٠٠ جنيه فيدفع الضريبة كاملة. وقد بلغ دخل الحكومة من هذه الضريبة نحو ٣٢٠٠٠٠٠٠ جنيه في السنة غير ضرائب الجمارك، وعوائد الروحيات وسائر المسكرات والمخدرات، وغير حق الرخص والإذن في معاطاة المهن على اختلاف أشكالها. للعامة في إنكلترا مشاكل من اعتصاب وإضراب كما في فرنسا، لكن للإنكليز عناية خاصة بهم ولا سيما طبقات العمال والخدم، لعل ذلك من بقايا واجبات الأرستقراطية في العهد القديم؛ لأن رب البلد (اللورد) كان يرى نفسه مسئولًا عن حال أتباعه من حيث أسباب معائشهم، ولو تتبعت تاريخ وضع ضرائب الدخل المتقدم ذكرها؛ لرأيتها تنوعت وتعدلت طبقًا لمصلحة العمال أو الفقراء من أصحاب التجارات الصغرى، كانت في أول وضعها شاملة كل إنكليزي مهما قلَّ دخله، ثم أخذوا يعدلونها حتى أعفوا منها أصحاب الدخل القليل الذي لا يزيد على ١٦٠ جنيهًا، وخففوها عن الذين لا يزيد دخلهم على ٧٠٠ جنيه، وأبقوها على سائر الناس كما رأيت. ولا يخفى أن الأموال التي تُجمع من الضرائب تُنفق في مرافق الأمة بلا تمييز بين الغني والفقير، أو هي لمصلحة الفقير أكثر مما لمصلحة الغني، وهي عناية بالعامة، كالزكاة في صدر الإسلام تُؤخذ من الأغنياء وتُنفق في الفقراء. وكيفية ذلك الضمان أن الحكومة طبعت أوراقًا كالسراكي، أو الاستمارات في اصطلاحنا تفرقها في العمال، وعلى العامل أن يقدِّم واحدة منها كل أسبوع، وعليها طوابع مختومة يشترك هو ورئيسه والحكومة في دفع قيمتها، وتختلف تلك القيمة باختلاف راتب العامل؛ فالرجل الذي تزيد أجرته على شلنين ونصف شلن في اليوم يدفع هو أربعة بنسات في الأسبوع، ورئيسه يدفع ثلاثة بنسات، والحكومة تدفع بنسين. الجملة تسعة بنسات (نحو ثلاثة قروش ونصف) تُلصق بقيمتها طوابع على الاستمارة، وتُختم، وتُقدم للحكومة كل أسبوع. وإذا كان العامل صاحب هذه الأجرة امرأة تُعامل مثل معاملة الرجل إلا ما تدفعه هي فيكون ثلاثة بنسات بدلًا من أربعة، ويختلف مقدار المدفوع باختلاف درجة العامل ومقدار أجرته. والحكومة تحفظ للعامل ما يقدمه كل أسبوع وتختزنه لحسابه وقد تستثمره له فيضمن مستقبله رغم إرادته، ومعظم هذا الضمان من رئيسه والحكومة، وهي لا تضرها لكن تنفع العامل المسكين، وفي ذلك القانون شروط وأحكام تفصيلية لا محل لها، لكنها بلا شك من أحسن ما استنبطته القرائح لمصلحة العمال، وضمان مستقبلهم على نفقة الحكومة وأصحاب الأموال، فضلًا عما فيها من المشقة على أصحاب التجارات أو المعامل، فإن كل واحد منهم مكلف بالتوقيع على السراكي أو الاستمارات بيده كل أسبوع، وقد يكون عنده مائة عامل أو ألف. للإنكليز أخلاق بارزة واضحة تختلف عما لسواهم من الأمم يمكن تلخيصها بكلمتين نعني: أنهم يجنحون في أعمالهم وشئونهم إلى الحقيقة المحسوسة دون الظواهر. أنهم ثابتون في مبادئهم وعاداتهم ومشاريعهم. فإذا عرفت ذلك فيهم هان عليك تعليل أكثر ما يعرض لك من أخلاقهم. والإنكليزي هادئ الخلق، يندر أن تتغلب عليه الحدة حتى تخرجه عن طور إرادته؛ ولذلك تجدهم يبحثون في أهم المسائل وأحرج المشاكل، ويتجادلون ويتناقشون بهدوء وسكينة، ويغلب في أدلتهم أن تُبنى على العقل أكثر مما على العواطف. ويظهر لك الإنكليزي جامدًا، وقد ترى في نفسك تفوقًا عليه بسرعة الخاطر، لكنك عند العمل تجده أثبت منك قدمًا، وأصبر على التعب، وأقدر على المشاريع الكبرى، وترى فيه سكوتًا وطول أناة في موقف يستفز سواه ويهيج غضبه، وليس ذلك من بلادة في طبعه، وإنما هو من قبيل ثباته في أعماله وتعويله على الحقائق، فلا يكترث بالصغائر، بل يجعل همَّه الغرض الذي يسعى إليه، لا يبالي بما يقف في طريقه من العقبات ولا سيما إذا كانت تلك العقبات أمورًا وهمية كالكلام في الصحف ونحوها إذا لم يكن مبنيًّا على حقائق محسوسة، فهو يهمه أن يصل حماره إلى العباسية، ولا يلتفت إلى شقشقة المكاري في أثناء الطريق. ومن الأخلاق المشهورة عن الإنكليز أنهم متكبرون يترفعون عن مخالطة سواهم من الأمم، وهي تهمه لا تخلو من الحقيقة. إن الإنكليزي معجب بنفسه، يفتخر بدولته وأمته، وينفرد عن سائر الأمم فلا يزاوجهم أو يختلط بهم إلا بما تقتضيه المصلحة التجارية أو السياسية. ولا عجب فإننا في عصر الأنجلوسكسون كما كان العرب في إبان دولتهم والرومان قبلهم. ولكل أمة عصر إذا تفوقت فيه على سواها توهمت امتيازها الفطري عليهم بالجبلة الأصلية، وهي طبعًا لا تنال ذلك التفوق إلا لمواهب فيها تمتاز بها عن سواها. ومما يُوجه إلى الإنكليز من الانتقاد أنهم أنانيون يحبون الاستئثار بالمنافع لأنفسهم، وهو خلقٌ فطري في الإنسان لا يختص بأمة دون أخرى، لكنه يظهر في الإنكليزي؛ لأنه لا يبالي أن يظهره ويتمسك به، ولا يهمه ما يسميه الآخرون أريحية أو نجدة ويعدونها من أسمى المناقب، فهو لا يعرِّض نفسه للخسارة لمنفعة سواه كما يفعل الفرنساويون مثلًا، أو كما يفعل العرب ويعدونه من مفاخرهم؛ ولذلك كان العرب أسرع اختلاطًا بالفرنساويين مما بالإنكليز. ومن مقتضيات الجنوح إلى الحقائق أن الإنكليزي صريح في أقواله وأعماله، لا يقول غير ما يعتقده ولو ساءك قوله، فيظهر ذلك منه مظهر الجفاء، ولكنه يعد المجاملة ضربًا من العبث، فلا يزال يتجنبك حتى يتعرفك، ويثق بك فيمد لك يده، ويصافحك، ويكون عند ذلك من أخلص الأصدقاء وأظرف الجلساء. ومن مقتضيات ذلك الخلق أيضًا ما تراه من ثبات الإنكليز في أفضل وسائل التربية البدنية والعقلية ولا سيما الرياضة، وهم قدوة الأمم فيها. وقد ألَّف ديمولان الكاتب الفرنساوي كتابه سر تقدم الإنكليز؛ ليحرض قومه على الاقتداء بهم في التربية والأخلاق والتعليم وغير ذلك. واختص غوستاف لابون أخلاق الإنكليز بالإطراء في كتابه «العوامل الأخلاقية في تكون الأمم»؛ فالإنكليزي رأى بعين الحقيقة أن هذا الضرب من التربية مفيد له، فاتبعه ووضع له قواعد أساسها الفائدة الحقيقية بلا زخرف ولا تنميق، وزادهم ثباتًا فيها أنهم فُطروا على احترام آراء رجال التاريخ، وأصحاب المواهب منهم والعمل بها بلا جدال أو نقد — لعله من بقايا خضوعهم للشرفاء في عصر الإقطاع — ولهذه المنقبة فضل كبير في جمع كلمتهم، وتأييد مساعيهم؛ لأن الأمة إذا عملت برأي عقلائها كانت كلها عقلاء، بخلاف الأمم التي يزعم كل من أفرادها أنه صاحب الرأي الأصوب والنفوذ الأعلى، ويرى الانصياع لرأي سواه صَغارًا ومذلة كما هو شأن الأمم الضعيفة التي صارت إلى الشيخوخة، وآذن الزمان بفساد أمورها وانقضائها. المشهور أن الإنكليزي على الإجمال بطيء الخاطر غير مفرط الذكاء، لكنه ناجح على الغالب في أعماله ومشاريعه، فما هي علة نجاحه؟ العلة الحقيقية أنهم يعملون بالقواعد التي قرر عقلاؤهم أنها وسيلة النجاح، وقد رسخت في أذهانهم بالتربية للأسباب التي قدمناها، وهي تعلِّمهم أن التاجر أو الصانع يجب أن يعوِّل في أعماله على الحقائق مع المنفعة المتبادلة، فجعلوا معوِّلهم على الصدق والأمانة والثبات، وهي أهم أسباب نجاحهم في أعمالهم الكبرى والصغرى. وقد اشتُهر ذلك عنهم حتى جرى مجرى الأمثال. والمشهور بين تجار الأرض أن الإنكليزي إذا سألته عن سعر بضاعته أعطاك آخر سعر يوافقه، ولا يفتح بابًا للأخذ والرد، أو المساومة كما تفعل سائر الأمم. قد رأيت الأمة الإنكليزية لا تزال حتى الآن محافظة على الأرستقراطية رغم إعراقها في الدستورية، حتى الدستور عندها لا يزال محفوظًا بالتقليد؛ أي إنهم لم يدونوا قواعده وشروطه بما يسميه العثمانيون القانون الأساسي أو نحوه، وإنما يجرون به على التقاليد الماضية فيحكمون في شئونه بالقياس على أحكام سابقة أصدرها أسلافهم مع مراعاة مقتضيات الأحوال، وإذا عرضت مسألة لم يسبق الحكم فيها حكموا فيها، وعدوا حكمهم سابقة لمن يأتي بعدهم؛ فالإنكليز من أكثر الأمم محافظة على التقاليد المتوارثة، وذلك من قبيل الثبات في أخلاقهم؛ ولهذا السبب كانوا من أشد الناس احترامًا لرجال التاريخ منهم، ينصبون لهم التماثيل ويعملون بأقوالهم، ولنفس هذا السبب جروا في استعمارهم على احترام تقاليد الأمم التي تدخل في سلطانهم أو حمايتهم، فلا يتعرضون لهم في شيء من أديانهم أو عاداتهم، بل يساعدونهم على القيام بشعائرهم الدينية أو الوطنية؛ ولذلك كان الشرقيون أكثر ارتياحًا إلى سيادتهم مما إلى سواها لولا ترفعهم وبُعدهم عن المجاملة. ومن قبيل الثبات والمحافظة على التقاليد أنهم متمسكون بعقائدهم الدينية، ورغم تطرف أكثر الأمم من جيرانهم وزملائهم في الحرية الدينية، حتى جاهروا بمناوأة رجال الكهنوت، ومطاردة الجمعيات الدينية، فالإنكليز ما زالوا متمسكين بأهداب الدين يحافظون على طقوسه وتعاليمه ولا سيما الراحة يوم الأحد، فقد ذكرنا كيف يقفلون الحوانيت والمخازن وغيرها في أيام الآحاد والأعياد. ومن هذا القبيل أيضًا خضوعهم للنظام وتقديسه والإذعان له باحترام وافتخار، لا يستنكف من ذلك كبيرهم ولا صغيرهم، ولا يرى الملك بأسًا أن يعترف بالخطأ بين يدي أصغر رعاياه، ولا يعد ذلك حطَّة، وإنما هو من نتاج جنوحهم إلى الحقيقة، واحترامهم إياها. وتجد كتبهم المدرسية مشحونة بالحكايات التي تعلِّم هذه المنقبة وأمثالها من الصراحة بالقول والاعتراف بالخطأ، غير القدوة الحسنة التي يستفيدها التلاميذ من أساتذتهم أو والديهم أو كبارهم في هذا السبيل. إن الشعور بالواجب عام في الممالك الراقية، لكنه ظاهر كل الظهور في أخلاق الإنكليز؛ فالإنكليزي يعرف ما عليه من حق أدبي أو مادي فيؤديه في حينه بلا مطالبة أو استحثاث، يفعل ذلك بهدوء وسكينة؛ لأنه من أكثر الناس عملًا وأقلهم كلامًا، فإذا وعدك بزيارة كن على ثقة أنه مُنجز وعده، وإذا كلفته بخدمة فمن التأدب عندهم ألا يؤكد لك نجاحه فيها، وإنما يقول «إني سأجرب»، فإذا قال هذا قائل منهم عدُّوا قوله وعدًا أكيدًا، وهكذا إذا عزم أحدهم على تكليف آخر بخدمة أو مطالبته بحق له أو وعد يتوقعه، فإنه يجعل طلبه بصورة الاستفهام أو الشك فيقول مثلًا: «ماذا تظن لو فعلت كذا؟» فيجيبه «أظنني فاعلًا كذا» فيعد ذلك وعدًا لا بد من قضائه. وهذه التعابير تكون غالبًا في الطبقة الراقية من القوم. المرأة في إنكلترا تشبه سائر النساء في أوروبا في أكثر الأحوال الاجتماعية والأدبية، لكنها تفرق عنهن بما يقتضيه الخُلق الإنكليزية أو التربية الإنكليزية من بعض الوجوه؛ فهي أميل إلى الحقائق في آدابها وعاداتها وأزيائها، ويمتاز الزي الإنكليزي غالبًا بالبساطة؛ لأنهم يلاحظون فيه المنفعة الحقيقية — شأنهم في كل شيء — وإذا رأيت إنكليزية بثوب مزخرف فإنها تقلِّد به غير الإنكليز. إن المرأة الإنكليزية خُلقت لتهتم بشئون بيتها وعائلتها، فإذا تحولت عن ذلك إلى أعمال الرجال خرجت عن طبيعتها. على أن المرأة الإنكليزية في أصل فطرتها كثيرة الخضوع لرجلها تستهلك في سبيل راحته وراحة سائر العائلة ولو مهما كلفها ذلك، لكنها وهي عذراء تتمتع بما يتمتع به الشاب من الحرية الشخصية في ذهابها وإيابها وقيامها وقعودها، فإذا تزوجت انقطعت إلى بيتها ولم يعد يهمها سواه مع احترام زوجها ومعرفة حقه. فلعل المطالبات بحقوق الرجال من غير المتزوجات. وترى الخلق الإنكليزي الأساسي — نعني التعويل على الحقيقة مع الثبات — ظاهرًا في طرقهم السياسية، كالاستعمار مثلًا؛ فإن لهم فيه طريقة تخالف طرق المستعمرين؛ فهم ينظرون من وراء الاستعمار إلى الفائدة الحقيقية لا يهمهم زخرف السيادة وأبهة الدولة والتفاخر بسعة السلطة بقدر ما تهمهم المصلحة الحقيقية في الاستعمار. وقد وجدوا بعين العقل أن المصلحة الحقيقية من الفتح أو الاحتلال إنما هي المرافق الاقتصادية أو المالية، فيوجهون سعيهم إليها، ولا يهمهم بعدها أن تكون لهم سيادة إن لم يكن الغرض منها المنفعة الاقتصادية، ومن ثباتهم وطول أناتهم صبرهم على استثمار مطامعهم الاستعمارية أعوامًا متطاولة ترسخ في أثنائها أقدامهم، أو تسنح لهم فرص يغتنمونها، ويؤيدون بها حقوقهم. ولهذا السبب رأيتهم لا يتعجَّلون وضع الحماية أو إعلان السيادة، بل بعكس ذلك يتساهلون مع مستعمراتهم في الاستقلال الإداري حتى لا يبقى فرق يُذكر بينه وبين الاستقلال الحقيقي، ويهمهم من البلد الداخل في حيازتهم أو تحت نفوذهم أن تكون مصالحهم المادية رائجة فيه، ولا يبالون أن يجيئهم ذلك بطريق الاحتلال أو الحماية أو الاستعمار. وعلى هذا المبدأ حلُّوا قيود أوستراليا وكندا والترانسفال وغيرها. ولا نرى مانعًا من أن يفعلوا ذلك في الهند وغيرها إذا تحققوا ضمان مصالحهم الاقتصادية وبقاء علائقهم الودية، وأن تكون لهم الأفضلية من الاعتبارات الأخرى. فالسطوة التي بلغت إليها الأمة الإنكليزية في هذا العصر تتوقف على أخلاقهم أكثر مما على ذكائهم. إن الأخلاق التي ذكرنا أمثلة منها جعلت أربعين مليون إنكليزي يحكمون نحو ٣٥٠ مليون نفس من أمم شتى في القارات الخمس، وفيهم القوقاسي والمغولي والهندي والزنجي وغيرهم من طبقات الناس يتكلمون عشرات من اللغات المختلفة. إن الإنكليز استطاعوا ذلك بأخلاقهم المتينة وأساسها الثبات والتعويل على الحقيقة، وإلا فإن بين الأمم الداخلة في سلطانهم شعوبًا لا يقلون عنهم ذكاء، ويفوقونهم في كثير من المواهب العقلية، وإنما تنقصهم الأخلاق اللازمة للتغلب أو الاستقلال. فالإنكليز من أوضح الأمثلة للأخلاق الملائمة لروح هذه المدينة — وإن كانت لا تلائم المدنيات الأخرى؛ إذ لكل مدنيَّة قواعد تُبنى عليها دعائمها ولا تصلح إلا بها؛ فمدنية العرب أساسها مناقب العرب في صدر الإسلام، أهمها: الأريحية والنجدة والجوار والوفاء والحلم وسعة الصدر وكرم الخلق ونحوها مما لا يلائم المدنية الحديثة. كان الخليفة أو الأمير يعفو أحيانًا عن القاتل؛ لاعتبار قام بنفسه من قول سمعه أو فكر خطر له ويعد ذلك أريحية، وكان القوم يتواصون بالعفو عند المقدرة، والأخذ بأسباب الكرم، يقيمون بيوت الضيافة ينزل فيها الأضياف أشهرًا لا يسألهم أحد مَن هم، وكان لهم ضرب من الارتزاق بالسخاء من الخليفة فمَن حوله، وأتباعهم وحواشيهم وأعوانهم يقيم في بيت الأمير أو العامل عشرات أو مئات من الناس يأكلون ويشربون ويلبسون ولا عمل لهم، وقس على ذلك مما فصَّلناه في تاريخ التمدن الإسلامي، فهذه المناقب بعيدة عن مقتضيات المدنية الحديثة التي أساسها مبادلة الحقوق والواجبات، لا حلم ولا عفو ولا أريحية ولا نجدة، وإنما ينال المرء من الرزق أو المنصب على قدر سعيه ومواهبه بمقتضى القواعد الاقتصادية، والاعتبارات السياسية، فلا يرتقي في هذا السلك غير العارف بأحكام السياسة الذي ينظر إلى حقائق الأشياء بالنظر إلى مصلحة الأمة، ويحافظ على العدالة وشروطها، لا ينفق قرشًا إلا في طريقه، وغير ذلك من المناقب الشائعة في أوروبا لهذا العهد ولكل دولة أيام ورجال. لإنكلترا آثار معنوية في نفوس العقلاء مرجعها إلى الإعجاب بأخلاقهم وتربيتهم ونظام عائلاتهم، حتى أعداؤهم فإنهم يعترفون لهم بسمو الأخلاق وثباتها ويحرِّضون أقوامهم على تحدِّيها. أما الآثار البنائية فإنها كثيرة في إنكلترا، ولا سيما في لندن، وقد ذكرنا شيئًا منها في كلامنا عن هذه المدينة، وعددنا ما فيها من الأبنية والشوارع وغيرها، ولا يستطيع المار في شوارعها وساحاتها غير الإعجاب بما يراه منصوبًا هناك من التماثيل الفخيمة لمشاهير الرجال؛ فإن الإنكليز كثيرو الاحترام لأسلافهم يقيمون لهم التماثيل كما يقيمونها للقديسين. وكما يُعْجَب الفرنساويون ببونابرت وينصبون تماثيله في شوارعهم وحدائقهم وساحاتهم وقصورهم، فالإنكليز يفعلون نحو ذلك بتماثيل ولنتن ونلسن ونحوهما، وناهيك بالقصور الكبرى والمعابد الفخيمة؛ فإنها كثيرة في لندن، فنكتفي بالإشارة إلى أشهرها مما وفِّقنا لزيارته في هذه الرحلة فنقول: إنها قائمة في منتصف المدينة، وهي أفخم أبنيتها وأعلاها ومن أقدمها عهدًا، لم يتفق المؤرخون على أصل بنائها، ولكنهم متفقون على أنه كان في مكانها معبد من زمن الرومانيين، ثم خرب وأقاموا مكانه كنيسة سنة ٦١٠م واحترقت سنة ٩٦١م فأُعيد بناؤها، وتوالى عليها الخراب والترميم مرارًا حتى جُددت كلُّها في أواخر القرن السابع عشر على يد مهندس شهير اسمه خريستوفر رين، بدءوا ببنائها سنة ١٦٧٥ وتمت سنة ١٧١٠، وأُنفق في سبيل ذلك ٨٥٠٠٠٠ جنيه أُخِذت من الأهلين بضريبة وضعتها الحكومة على الفحم الوارد إلى لندن، وكان رين هذا يستولي في أثناء هذه المدة على راتب سنوي مقداره ٢٠٠ جنيه في السنة. بُنيت هذه الكنيسة على مثال كنيسة القديس بطرس في رومية لكنها أصغر منها، ومع ذلك فهي أكبر كنائس العالم بعد كنائس رومية وميلان وأشبيلية وفلورنسا، شكلها كالصليب الروماني، طولها ٥٠٠ قدم وعرضها ١١٨ قدمًا، وعلو قبتها ٣٦٤ قدمًا، قطر قبتها مائة قدم وقدمان، وقُطر قبة كنيسة القديس بطرس في رومية ١٣٩ قدمًا، ويزيد أهميتها في نظر الزائرين ما على جدرانها من النقوش والصور، وما أقاموه في جوانبها من تماثيل عظماء الإنكليز وأكثرهم من كبار القواد، فهي بهذا الاعتبار معرض عظمة إنكلترا وإنما يفوقها بذلك دير وستمنستر الآتي ذكره. مدخلها الأكبر من جهة الغرب، وهي قائمة في الداخل على ركائز ضخمة مربعة الجوانب تشبه ركائز جامع السلطان أحمد في الآستانة وتشبهها أيضًا بالشرفة المستديرة المحيطة بأعلى تلك الركائز، يتوهم الداخل لأول وهلة أنها كنيسة كاثوليكية لكثرة ما يراه فيها من الصور، لكنه لا يلبث أن يرى معظم تلك الصور تمثل مشاهير الرجال، لا يستطيع الداخل إليها إلا التهيب مما يشاهده من فخامة البناء وسعة المكان وما نُصِب في جوانبه من التماثيل الرخامية والبرونزية، فيحسب نفسه في ساحة الحرب، أو في ساعة الدينونة، وقد اجتمع نخبة الرجال ليؤدوا حسابًا عما فعلوه أو ليتفاخروا فيمَنْ كان أشدهم بطشًا، وأكثرهم فضلًا في تعزيز العلم البريطاني، وفي الجناح الأيسر من صحن الكنيسة تماثيل جماعة يعرفهم السودان مثل الجنرال القراء، وكان لهم دخل في شئون مصر ستيوارت قائد الفرقة التي تعجلت الذهاب إلى الخرطوم لإنقاذ غوردون سنة ١٨٨٤، وكنا في جملتها فأُصيب قائدها ستيوارت برصاصة في بطنه في معركة انتشبت بيننا وبين الدراويش قرب المتمة، سقط ونحن نراه ولا ننسى تلك الساعة الرهيبة؛ لأننا كنا في أشد ساعات الخطر، وتمثال الجنرال غوردون، وقد قُتل في الخرطوم قبل وصول الحملة بيومين، وتمثال دوق ولنتون صاحب معركة وترلو، وتماثيل الجنرال بتكن والجنرال بونسي قُتِلا في وترلو، والأميرال نابيه قائد الأسطول الإنكليزي في البلطيك سنة ١٨٥٤، وهناك طائفة من الأدباء وأرباب الأقلام بينهم رينولدس المصور وباتريك نابيه وهلاند المؤرخان. وقس على ذلك التماثيل العديدة في الجناح الأيمن والمواقف الأخرى يعرف القراء من أصحابها الأميرال نلسون الذي أغرق الأسطول في أبي قير سنة ١٧٩٨، واشتهر بمواقع رفع فيها شأن الإنكليز في كوبنهاكن وترافلغار وغيرهما، وقد نُقشت أسماء تلك المواقع على قاعدة تمثاله، وقد خسر ذراعه اليمنى في واقعة قادس، فجعلوه في التمثال مُتَّشحًا برداء يغطي تلك الذراع، ومنهم الجنرال أبركرومبي الذي قُتل في أبي قير سنة ١٨٠١، والجنرال مور الذي قُتل في كروتا بإسبانيا، والأميرال هو الذي أنقذ جبل طارق سنة ١٧٨٢، وفي بعض الحنايا تذكار للمقتولين في حرب القرم وحوله الأعلام التي كانت لهم هناك. ومن المشاهد الهامة في هذه الكنيسة قبتها؛ لما تشرف عليه من الأبنية البعيدة؛ فقد صعدنا إلى قمتها بسلَّم درجاته ستمائة وعشرون درجة، فأشرفنا على لندن كلها، كما أشرفنا على باريس من قمة برج إيفل، أما القبة فلها شأن خاص شاهدنا مثله وراء محراب كنيسة أريني بالآستانة؛ نعني تفخيم الصوت فإن حول قاعدة هذه القبة من الداخل شرفة مستديرة قطرها نيف ومائة قدم، ومحيطها نحو ٣٢٠ قدمًا، يشرف المار فيها على صحن الكنيسة وتُسمى «قاعة التهامس» دخلناها من باب في بعض جوانبها، فرأينا شيخًا يهمس في الحائط بصوت يكاد لا يسمعه الواقف بجانبه، فأومأ إلينا أن نذهب إلى مقعد في الجانب الآخر من تلك الشرفة، فمشينا ونحن نسمع الصوت يرتفع كلما بعدنا عن ذلك الشيخ، فلما وصلنا إلى الطرف الآخر سمعناه كالخطيب يتلو علينا خطابًا في تاريخ هذا البناء. وتحت أرض الكنيسة سراديب مرصَّفة بالفسيفساء، فيها تماثيل وأضرحة للمشاهير أيضًا، منها ضريح للدوق ولنتن من الرخام السماقي قائم على قاعدة من الغرانيت وحوله الأعلام التي اكتسبها من إسبانيا، والبرتغال، وفرنسا، وبجانبه المركبة التي حملت جثته، وضريح بكتن زميله في وترلو، وفي مكان آخر يقابل منتصف القبة ضريح نلسون فيه تابوت مصنوع من خشب السارية الوسطى من سواري الدارعة الفرنساوية (لوريان) التي أحرقها أسطوله في أبي قير سنة ١٧٩٨، وبجانبه ضريح رفيقه كولنوود، وضريحان لنابيه ونورتسك، وتماثيل جماعات من رجال الأدب والتاريخ بينهم السير وليم هورد رسل أعظم مكاتب حربي في القرم، وأضرحة لنساء شهيرات في العلم وغيره. اشتهر هذا القصر بقاعته التي تُلقى فيها الخطب العمومية، وفيها خَطبَ روزفلت منذ بضع سنين خطابه المشهور الذي ذكر فيه مصر وسياسة إنكلترا فيها. يمر الزائر من كنيسة القديس بولس إلى جيلد هول بشوارع هي أكثر شوارع لندن ازدحامًا، في جهة اسمها شيبسايد يساوي متر الأرض فيها ٢٥٠ جنيهًا. بُنِيَ هذا القصر للمرة الأولى في أوائل القرن الخامس عشر مقرًّا لقضاة ومجالس البلدية ثم تخرب وأُعيد بناؤه، وأُنشئت فيه القاعة المذكورة وطولها ١٥٢ قدمًا، وعرضها ٥٠ وعلوها ٨٩ قدمًا، تجتمع فيها المجالس البلدية للانتخابات ونحوها، وتُتلى فيها الخطب العامة، وفيها حُوكم جماعة من المجرمين العظماء مثل أرل سيري، واللادي جان غراي وغيرهما، وفيها تماثيل مشاهير الإنكليز ولاسيما ونلتن ونلسن وشتام وبت ومور. وفي قاعة أخرى تماثيل أخرى في جملتها تمثالان خشبيان غريبا الشكل يُعرفان بياجوج وماجوج، ولم نعلم سبب هذه التسمية. وفي جيلد هول مكتبة فيها ١٤٣٠٠٠ مجلد معروضة للناس، وفيها متحف صناعي للساعات، وغيرها من المصنوعات الدقيقة وخرائط كبيرة، وقاعة صور فيها صور تاريخية، منها صورة معركة جبل طارق بين الإنكليز والإسبان سنة ١٧٨٢، وصور كثيرين من الملوك، وصورة يوبيل الملكة فكتوريا الماسي سنة ١٨٩٧ بالمركبة التي كان يجرها ثمانية أفراس، وتحت الأرض سراديب مثل سراديب كنيسة القديس بولس فيها قبور ونواويس قديمة. نحن الآن على مقربة من بنك إنكلترا الشهير، فلا ينبغي لنا أن نمر به سكوتًا، بُني سنة ١٧٣٤ وأُعيد بناؤه كما هو الآن سنة ١٨٢٧ ليس في ظاهره نافذة، لكنهم يضيئونه من الداخل مبالغة في الاحتفاظ به. أما البنك نفسه؛ أي العمل المالي المعروف بهذا الاسم فقد أُنشئ سنة ١٦٩٧، وظل هو البنك الوحيد في لندن إلى سنة ١٨٣٤ فأُنشئت بنوك أخرى، لكنه لا يزال أعظمها جميعًا ويمتاز عنها كلها بأَنَّ الحكومة أذنت له بإصدار الأوراق المالية (بنك نوط) كان رأس ماله الأصلي ١٢٠٠٠٠٠٠ جنيه ثم تضاعف مرارًا. عدد عماله ألف عامل ولا يخلو من ٢٠٠٠٠٠٠٠ جنيه ذهب مختزنة في سراديبه المتينة و٢٥٠٠٠٠٠٠ جنيه عملة ورق بين أيدي الناس، وهو ينوب عن الحكومة الإنكليزية فيما يتعلق بالديون التي عليها وقيمتها ٦٧٢٠٠٠٠٠٠ جنيه بين قبض ودفع وترصيد، وفي البنك مطبعة تطبع أوراق «البنك نوط» يصدر منها ٥٠٠٠٠ قطعة كل يوم من فئة خمسة جنيهات إلى ألف جنيه، ويُطبع فيها أيضًا البنك نوت الهندي، وآلاتها بغاية الإتقان وطريقة طبعها تستدعي الإعجاب. ومن عادات هذا البنك أن يتلف كل ما يرجع إليه من أوراقه ولا يدفع للناس إلا أوراقًا جديدة خارجة من تحت يد الطابع، لكنه لا يتلف الأوراق المرتجعة حال استلامها بل يحفظها خمس سنوات في خزائن من حديد لئلا يقتضي الأمر مراجعة شيء منها لشهادة قضائية أو نحوها ثم تُحرق. ويبلغ عدد ما يُجمع عندهم منها في السنوات الخمس ٨٠٠٠٠٠٠٠ ورقة وزنها ٩٠ طنًّا وقيمتها المالية ١٧٥٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وإذا فُرشت الواحدة بجانب الأخرى في خط واحد تألَّف منها درج طوله ١٣٠٠٠ ميل. وفي البنك آلة لوزن الجنيهات الذهب وفرزها تزن ٣٣ جنيهًا في الدقيقة، فما كان منها ناقصًا لفظته خارجًا. وفي البنك مخزن لحفظ المجوهرات، ويحرس البنك شرذمة من الجند ليلًا ونهارًا. واقع على ضفة التيمس وهو من أقدم أبنية لندن وأشهرها، كان معقلًا للملوك ثم جعلوه سجنًا للمجرمين العظماء من الملوك أو القواد أو الأمراء، حوله خندق عميق يحيط به ردم سنة ١٨٤٣ وجعلت الحكومة برج لندن الآن ثكنة للجند، ورممت جدرانه ليبقى حصنًا. شكله مربع غير منتظم مساحة أرضه ١٣ فدانًا عليها عدة أبنية يحيط بها سور مزدوج عليه الأبراج، يُقال في تاريخ بنائه إنه يرجع إلى وليم الظافر. أقدم قصوره الآن «البرج الأبيض» بُني في القرن الحادي عشر، وهو فخيم وله ذكر رهيب في التاريخ؛ لكثرة من سُجن أو قُتل فيه من العظماء، أشهر ضحاياه السير توماس مور قُتل سنة ١٥٣٥، وحنة بولين قُتلت سنة ١٥٣٦ وتوماس كرومويل قُتل سنة ١٥٤٠ ومرجريت بول سنة ١٥٤١ والملكة كاترينة هورد سنة ١٥٤٢ والأميرال سيمور سنة ١٥٤٩ واللورد سمرست سنة ١٥٥٣ واللادي جان غراي وزوجها سنة ١٥٥٤ والسير جون إليوت مات فيه سنة ١٦٣٢ وغيرهم كثيرون. وممن سُجنوا ولم يُقتلوا جون بليول ملك اسكتلندا سنة ١٢٩٦ ووليم ولسن الاسكتلندي سنة ١٣٥٠ وداود برويس ملك اسكتلندا سنة ١٣٤٧، وجون ملك فرنسا أُخذ أسيرًا في بواتيه سنة ١٣٥٦ ودوق أورليان والد لويس الثاني عشر ملك فرنسا سنة ١٤١٥، والملك هنري السادس وغيرهم. وكان في البرج مأسدة نُقلت إلى مسرح الحيوانات العام. وفي هذا البرج تحف تاريخية لا يوجد مثلها في سواه، منها الأسلحة والألبسة والمجوهرات، أهمها المصوغات الملوكية سيأتي ذكرها، وأول ما يستلفت نظر الشرقي عند دخوله الباب الخارجي للبرج مدفع عثماني أهداه السلطان عبد المجيد لإنكلترا سنة ١٧٥٧، وإذا دخل البرج فأهم ما يشاهده هناك المصوغات الملوكية الإنكليزية، وقد ذكرنا المصوغات الملوكية الفرنساوية التي شاهدناها في متحف اللوفر، لكن هذه أفخم وأثمن. إن هذه المصوغات، أو المجوهرات معروضة في غرفة صغيرة في وسطها دكة مثمنة الأضلاع يكاد يقرب شكلها من الاستدارة، عليها رفوف مرتبة بعضها فوق بعض بشكل هرمي وضعوا تلك المصوغات عليها بحيث يراها المشاهدون، لكنهم أحاطوا تلك الدكة بسياج من شبك الحديد وألواح من الزجاج. وبين الدكة والحائط ممر يكاد لا يتسع لمرور اثنين، والحرس وقوف لمراقبة المتفرجين، والمصوغات المشار إليها أكثرها تيجان مرصعة بالحجارة الكريمة بعضها قديم، والبعض الآخر حديث وهي: تاج القديس إدوارد صُنع لتتويج شارل الثاني. سرقه الكولونيل بلود سنة ١٦٧١ في جماعة من رفاقه بعد أن قتلوا الحارس، لكنهم لم يفوزوا بغنيمتهم. تاج الملك إدوارد السابع صُنع في الأصل للملكة فكتوريا سنة ١٨٣٨ ثم جُدد للملك إدوارد سنة ١٩٠٢ وهو من المصوغات الحديثة، مرصع بجواهر لا يقل عددها عن ٢٨١٨ ماسة و٣٠٠ لؤلؤة وجواهر أخرى، في مقدمه ياقوتة يُقال إنها كانت للأمير الأسود أعطاه إياها دون بادرو صاحب قسطيلة سنة ١٣٦٧ وقد وضعها هنري الخامس على خوذته في معركة أجنكورت؟ تحتها ماسة كبيرة تُعرف بالماسة الكولينية قدمتها حكومة الترنسفال إلى الملك إدوارد سنة ١٩٠٧ وهي تُنسب إلى ماسة اسمها كولينا سيأتي ذكرها، وفي مؤخرة التاج حجر صغير يُقال إنه كان لإدوارد المعترف. تاج ولي العهد من الذهب الخالص غير مرصع. تاج زوج الملكة ذهب مرصع. تاج الملكة ذهب مرصع. تاج الملكة هو طوق من الذهب مغشى بالماس واللؤلؤ، وقد صُنع كلاهما للملكة ماريا ديست زوجة جيمس الثاني. صولجان الملك إدوارد من الذهب الخالص طوله أربعة أقدام ونصف ووزنه ٩٠ رطلًا مصريًّا، قبضته ضخمة كالتاج يُقال إن فيها قطعة من ذخيرة عود الصليب. الصولجان الملوكي طوله قدمان وتسعة قراريط، عليه صليب مرصع بالحجارة الكريمة. صولجان الحمامة أو عصا المساواة، على رأسها تمثال حمامة باسطة جناحيها. صولجان آخر فيه صليب مرصع. الصولجان العاجي للملكة ماريا ديست فوقه حمامة من العقيق الأبيض. صولجان الملكة ماري زوجة وليم الثالث. مثال ماسة «كوه نور» الشهيرة، وهي من أكبر حجارة الماس المعروفة، وزنها ١٦٢ قيراطًا، والماسة الأصلية الآن في قصر وندسر، وكانت قبلًا في حوزة ملك لاهور، ووصلت إلى أيدي الإنكليز سنة ١٨٤٩ لما فتحوا البنجاب. وشاهدنا مصوغات أخرى ثمينة، منها أساور تتويج، والمهماز الملوكي، وإبريق زيت التتويج بشكل النسر، والخاتم والملعقة والمملحة، وغير ذلك، ويقدرون قيمة هذه المصوغات بمبلغ ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفي تلك الغرفة خزانة (فترينة) فيها أمثلة من الأوسمة الكبرى، ومثال للماسة الترنسفالية المسماة كولينا، أما كولينا الأصلية فقد قسَّموها إلى الماسة التي تقدم ذكرها في مقدم تاج الملك إدوارد، وقسَّموا الباقي إلى ماسات وضعوها على الصولجان. وفي برج لندن معرض للأسلحة والأدراع، فيه أمثلة من المدافع والبنادق والسيوف والحراب والفئوس لبعضها ذكر تاريخي، منها: سيف جلاد ملك أود، وأسلحة هندية الأصل أو عربية. ومنها المدفع الذي غنمه الفرنساويون من مالطة سنة ١٧٩٨ وحملوه على الدارعة سنسيبل الفرنساوية، فاسترجعه الإنكليز وهم على الباخرة سيهورس بقيادة القبطان فوت. وهناك أمثلة من آلات العذاب كالجامعة التي تقبض على الإبهامين معًا، والفلق الذي يقبض على القدمين، والأطواق بالإحاطة بالأعناق. وبينها فاس لقطع العنق صُنع سنة ١٦٧٩ وبجانبه البلاطة التي يُسند العنق إليها عند القطع. ومن الأدوات الحربية التاريخية ملاءة التف بها الجنرال وولف لما جُرح سنة ١٧٥٩ وعليها مات. وثوب الدوق والمركبة المدفعية التي حملوا عليها جثة إدوارد السابع. وفي قاعة أسلحة الفرسان كثير من الأدراع والرماح والخوذ والسهام على اختلاف الأعصر من القرن الرابع عشر فما بعده، وتماثيل أفراس عليها تماثيل فرسان بالألبسة الرسمية والأدراع الثمينة، أحدها يمثل هنري الثامن على جواده وعليه درعه، وآخر يمثل جيمس الثاني سنة ١٦٨٨ وآخر يمثل شارل الأول وعليه درع مغشاة بالذهب، وهناك غرفة لها ذكر تاريخي لأنها كانت قاعة المجلس، وفيها تنازل ريتشارد الثاني عن الملك، وغرف أخرى كانت سجونًا استخدموها الآن لحفظ السجلات وغيرها. وفي ساحة البرج بقعة فيها نحاسة مربعة نقش عليها ما معناه «إنه في هذا المكان قُطع رأس الملكة حنة.» وقد شاهدنا الأبراج والمخادع التي كانوا يستخدمونها للسجن ويأتون فيها ضروب الظلم والفتك بلا حساب ولا تقدير، وناهيك بفنون التعذيب مما تقشعر له الأبدان. إن مَن يطلع على ذلك، ويرى ما عليه الأمة الإنكليزية اليوم من أسباب المدنية، ومحاربة الجهل، ومطاردة الظلم يعلم أن الأمة لا بد لها من المرور في أطوار من جملتها هذا الطور من الهمجية، وأن ذلك ليس خاصًّا ببلد دون آخر ولا أمة دون أخرى. وفي هذا البرج بناء خاص لضرب النقود بُني سنة ١٨١١ ثم توسع سنة ١٨٨٢ وقد أُتقنت فيه صناعة الضرب وآلاته، ومنها ما يصنع ١٢٠ قطعة من النقود في الدقيقة، وقد بلغ ما ضُرب سنة ١٩٠٩ وقيمته ١٥٠٠٠٠٠٠ جنيه، منها ١١٨٠٠٠٠٠ قطعة فئة جنيه و٤٠٠٠٠٠٠ نصف جنيه ٣٨١٦٠٠٠ نصف ريال و٣٩٩٣٠٠٠ فلورين و٦٩٠٠٠٠٠ شلين و٧٠٢٨٠٠٠ نصف شلين و٥٦٠٠٠٠٠ ربع شلين و٢١٢٥٦٠٠٠ بنس، فقس عليه. هو قصر فخيم واقع على ضفة التيمس ينعقد فيه البرلمان الإنكليزي، وهو ينعقد في قاعتين فخمتين منه، إحداهما لمجلس الأعيان، والأخرى لمجلس العموم. وقبل الوصول إلى قاعات البرلمان يمر الزائر بقاعات عديدة، الأولى مغشاة بالصور في جملتها صورتان إحداهما تمثل معركة وترلو، وقد فاز فيها الإنكليز، والأخرى تمثل واقعة ترافلغار، وقد مات فيها نلسن، طول الواحدة منها نحو ١٥ مترًا، يُتصل منها إلى قاعة أخرى جدرانها من الخشب الملون عليه صور أشهر ملوك إنكلترا، ومنها دخلنا قاعة الأعيان في غير وقت الاجتماع، طولها ٩٠ قدمًا وعرضها ٤٥ قدمًا وعلوها ٥٤ قدمًا، أرضها مغطاة بصفوف من المقاعد مغشاة بالجلد الأحمر تسع نحو ٦٥٠ شخصًا. وللقاعة ١٢ نافذة زجاجها مزين بصور ملوك إنكلترا وملكاتها منذ الفتح، وتُضاء القاعة ليلًا بالكهربائية فتزداد جمالًا، وعلى الجدران بين النوافذ تماثيل للبارونية الذين أخذوا الدستور من الملك جون. غير ما على الجدران من النقوش البديعة، بينها الصور الجميلة للملوك وبعض المواقف الدينية، وفي صدر القاعة عرش يجلس عليه الملك يُصعد إليه ببضع درجات وإلى يمينه مجلس ولي العهد. وخرجنا من طرف القاعة الآخر إلى غرفة فيها تعاليق، ومواقف للبرانيط والأردية، لكل من الأعضاء تعليقة عليها اسمه. ومن هناك انتهينا إلى دهليز جدرانه مزدانة بالصور التاريخية، ومنها إلى قاعة متوسطة الحجم فدهليز آخر اتصلنا منه إلى قاعة مجلس العموم، طولها ٧٥ قدمًا وعرضها ٤٥ وعلوها ٤١ قدمًا، وهي تشبه قاعة مجلس العموم بشكلها، لكنها أقل فخامة وأبسط رياشًا، عليها مقاعد مكسوة بجلد أزرق مخضر لا يسع أكثر من ٤٧٦ شخصًا مع أن عدد أعضاء هذا المجلس نحو ٦٧٠ وقد ترتبت المقاعد صفوفًا، وكرسي الرئيس في صدر القاعة عند طرفها الشمالي، وإلى يمينه مقاعد لنواب الحكومة كالوزراء ونحوهم، وإلى يساره رؤساء حزب المعارضين، وبين يدي الرئيس طاولة يجلس إليها الكاتب. ويجلس المخبرون ومكاتبو الجرائد على مقاعد فوق مجلس الرئيس، وفوقها مقاعد للسيدات، وتجاه مجلس الرئيس في الطرف الآخر من القاعة مقاعد للزائرين. لهذا الدير شأن عظيم عند الإنكليز؛ لأنه مجتمع مفاخرهم، ومدافن عظمائهم أو تماثيلهم، يحوي في تلك المفاخر أكثر مما يحويه كل مكان سواه ولا يُدفن فيه، أو يُنصب تمثاله في أرضه إلا الممتازون بالشرف والفخر في خدمة الأمة والوطن. والإذن في دفن ميت هناك أعظم شرف تقدر الأمة أن تمنحه لذلك الميت. والدير بناء قديم ولبنائه تاريخ طويل، شكله يشبه من الداخل شكل كنيسة القديس بولس طوله ٥١٣ قدمًا، وأعرض نقطة فيه ٢٠٠ قدم، وعلوه مائة قدم وقدمان، وعلو برجه ٢٢٥ قدمًا. دخلناه من بابه الشمالي ولم نكد نتوسط المكان، ونلتفت ذات اليمين وذات الشمال حتى وقع بصرنا على ما هنالك من قبور العظماء وتماثيل الكبراء، وقد ساد السكوت وتجلَّت هيبة الموت فغلب علينا التهيب، وخُيِّل لنا أننا نسمع من كل قبر نداء، ونرى في كل تمثال خطيبًا. لا غرو ونحن بين بقايا أعظم رجال إنكلترا، وفيهم القائد الباسل، والسياسي المحنك، والشاعر المفلق، والخطيب المفوه، والعالم الحكيم، والمخترع العظيم، وقد تكاتفوا جميعًا في خدمة أمتهم فنهضوا بها إلى أسمى منازل الدول، فأخذتنا العبرة وتذكرنا حال دولتنا في العالم السياسي؛ فتشاغلنا عن تلك الهواجس بما بين أيدينا من مفاخر الآخرين؛ إذ لا فائدة من تلك الذكرى وإن عرفنا الداء، إذ لا سبيل لنا إلى الدواء. وتجولنا في أنحاء الدير، نتفقد المدافن والتماثيل، ونقرأ أسماء أصحابها، فإذا فيهم نخبة الساسة والعلماء والشعراء والخطباء وغيرهم يعدون بالمئات، ويضيق هذا المقام عن تعدادهم، فنذكر أمثلة من ذلك في مجاميع حسب الأماكن، منهم: وليم بت السياسي المتوفى سنة ١٧٧٨، وجون هولس دوق نيوكسل (١٧١١)، وجورج كانين السياسي (١٨٢٧)، والجنرال مالكولم، واللورد بالمرستون، واللورد متسفيلد، والأميرال ورين، والسير روبرت بيل السياسي (١٨٥٠)، وفي مجموع آخر جورج غوردون أرل إيردين، والسير توماس رافلس (١٨٢٦)، وتشارلس جيمس فوكس، وكابتن مونتاغيو، وغيرهم. وهناك زاوية خاصة بالشعراء والأدباء فيها تماثيل جورج غروت الشاعر، وماكولي المؤرخ ودوق أرغيل الشهير وشكسبير إمام شعرائهم، وروبرت برنس، وتنسن، وشارلس دكنس، وجون ملتن، ولو فلو، وغيرهم من الشعراء والأدباء. وهناك زوايا للشرفاء، وأخرى للأساقفة وغيرهم ممن يستغرق تعداد أسمائهم فقط عشرات من الصفحات، فكيف بذكر مناقبهم؟! هو أعظم متاحف إنكلترا، ومن أعظم متاحف العالم، يشتمل على التحف والآثار مثل اللوفر بباريس، ويمتاز عنه باشتماله على مكتبة نفيسة يندر مثلها بين مكاتب أوروبا. وبناء المتحف فسيح تأسس سنة ١٧٠٠ ونما ببنائه ومحتوياته حتى بلغ ما هو عليه الآن، فنذكر تحفه التاريخية أولًا ثم نأتي إلى مكتبته. هي عبارة عن المنحوتات والمصنوعات والمنقوشات من الآثار التاريخية، والفنون الجميلة، والتحف والذخائر، ويصح أن يُقال في وضعها إنها جمعت آثار الإنسان من أول عهد العمران إلى الآن في القارات الخمس، وفيها من كل شيء أحسنه، مرتبة على الدول والأمم في قاعات لآثار الآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والحثيين والفرس واليونان والرومان والهند والصين واليابان والعرب في الجاهلية والإسلام، وأمم أوروبا الحية وآثارها، وأمثلة من مصنوعات الأمم المتوحشة وآثارها ومظاهر عاداتها في أفريقيا وأوستراليا وأمريكا وجزائر المحيط. ومصنوعات الأمم المتمدنة من الفنون الجميلة، والتصوير، والنقش والحفر، وفيها أمثلة تدهش الناظر، ولكن هذا القسم من التحف في اللوفر أحسن منه في المتحف البريطاني وأوسع. وفي هذا المتحف مجموعة نفيسة جدًّا من النقود قديمها وحديثها، ومجموعة للأوسمة وطوابع البريد، وغير ذلك. غير آثار الإنسان قبل التاريخ. وكل قسم من هذه التحف يشغل عدة قاعات، وبينها من النوادر ما لا يوجد عند الأمم الأصلية التي أُخذت التحف منها. مثال ذلك أن بين التحف المصرية مخطوطات من البردي لا مثيل لها في المتحف المصري بالقاهرة، وفيها حجر رشيد — نعني الحجر الذي حلُّوا منه القلم المصري القديم (الهيروغليف) على أثر حملة بونابرت — فإن هذا الحجر اتصل إلى المتحف البريطاني قبل إنشاء المتحف المصري، شاهدناه في صدر الآثار المصرية في خزانة، وهو أسود اللون مكسور من أعلاه، وفي المتحف المصري نسخة من هذا الحجر لكنها غير التي استعانوا بها على حل القلم المصري. وهناك آثار مصرية ثمينة، وموميات عديدة، ومصوغات. وقس على ذلك الآثار الآشورية والبابلية ولعلها في المتحف البريطاني أغنى منها في سواه، وبينها ألوف من السجلات القرميدية المنقوشة بالحرف المسماري، بينها القرميدة التي عليها قصة الطوفان كما يرويها البابليون، غير قراميد الصكوك والعقود والمراسلات، وتماثيل قديمة جدًّا يُظن أنها نُحتت نحو ٤٥٠٠ قبل الميلاد. وفيها آثار نينوى وقصور آشورية كاملة نُقلت من بين النهرين إلى هذا المتحف بجدرانها وسقوفها وتماثيلها، وفي جملتها تماثيل رجال اشتهروا بالتاريخ مثل أسرحدون نقلًا عن صورته على صخر عند نهر الكلب في بيروت، وغير ذلك مما يطول بنا شرحه. وهناك قاعات للآثار الدينية على اختلاف الأعصر والأمم، وفيها من المشابهة في الظواهر ما يدهش العقل، ومجموعة للساعات القديمة والحديثة والأسطرلاب وغيرها من صنع الأجيال الوسطى. وقد بحثنا بينها عن الساعة التي أهداها الرشيد لشارلمان فلم نقف على خبرها. وشاهدنا بين هذه التحف تمثال طاووس من فولاذ عليه نقوش فارسية وكتابة عربية وهو تمثال «طاووس» إله اليزيديين حملوه من بلد قرب ديار بكر، طوله متر وبعض المتر، واقف على قاعدة كالطاعة المقلوبة وعليها نقوش. وفي قاعة المصنوعات الزجاجية مصنوعات عربية من مصابيح وكئوس ونحوها عليها كتابة عربية بعضها من القرن الثالث عشر للميلاد، وبينها قطع زجاجية عليها كتابة من عهد الدولة العباسية. وفي قاعات العادات والأزياء والمصنوعات الشرقية، سيوف بعضها تاريخي يُنسب إلى بلاده في الهند والصين، وفي جملتها السيوف الدمشقية الشهيرة والفارسية والهندية والأفغانية لكل منها شكل خاص، الفارسية منحنية والهندية والأفغانية معتدلة وكذلك الدمشقية ولكنها شديدة الصقل، قبضتها من ذهب بعضها بحد واحد، والبعض الآخر بحدين، وقس على ذلك السروج وأشكالها. يعرف القراء غنى هذه المكتبة بالكتب العربية مما يقرءونه في تاريخ اللغة العربية عن الكتب الموجودة فيها، ويزيد عدد الكتب في هذه المكتبة على مليون كتاب في اللغات المختلفة، والمواضيع على اختلاف الأعصر، بينها مجموعة نفيسة من المخطوطات العربية، وفيها معرض لتاريخ الخطوط بينها خطوط مشاهير الملوك والقواد والعلماء، منها توقيع ملوك إنكلترا من ريكاردوس الثاني إلى الملكة فكتوريا، وتوقيع ملوك آخرين، غير المخطوطات القديمة للكتب الهامة، ولا سيما التوراة في العبرانية والسامرية واليونانية. وهناك مجموع لتاريخ الطباعة فيه أمثلة من المطبوعات من أول عهد الطباعة إلى الآن، منها نسخة من التوراة باللغة الألمانية طبعها غوتنبرغ سنة ١٨٩٧ بمبلغ ٤٠٠٠ جنيه، وهي أقدم المطبوعات على الإجمال. ثم قاعات لتاريخ الطباعة في كل مملكة على حدة. وفيها أمثلة من الكتب المصورة بالألوان، بعضها كُتب حوالي العاشر للميلاد، ومن المخطوطات الشرقية أقدمها إنجيل في العربية والسريانية كُتب على رق غزال في القرن العاشر للميلاد. وأقدم الكتب المخطوطة في العربية القرآن، ومنه نسخة في المكتبة الخديوية يُظن أنها كُتبت في القرن الثامن. ومن المخطوطات العربية المصورة بالمتحف البريطاني مقامات الحريري كُتبت في القرن الثالث عشر، وقد نشرنا صورة لها في الجزء الثالث من تاريخ آداب اللغة العربية. وفي لندن متاحف أخرى عديدة يطول بنا وصفها، أهمها «تيت كاليري»، ويُسمى متحف الصناعة الإنكليزية، وهو يشبه متحف لوكسنبرج في باريس، فيه أمثلة من صنع أمهر المصورين والنحاتين الإنكليز، أكثرها خيالي يُراد به الفن من حيث تشخيص العادات والأخلاق، أو الوقائع التاريخية تصويرًا بالألوان أو نحتًا على الرخام. ومن أجمل المنحوتات المتقنة فيه تمثال ولنتن على جواده وصورة منحوتة تمثل حادثة الابن الضال، ونحوها من الوقائع الشهيرة. ومن الصور صورة المارشال روبرتس على جواده، ونابليون على الباخرة التي حملته إلى منفاه، وأخرى تمثل الطوفان وغير ذلك. ومتحف ويلز: أصله من المتاحف الخصوصية أهدته الليدي ولس المتوفاة سنة ١٨٩٧ للأمة الإنكليزية، وهو يساوي ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه واشترت الحكومة المنزل لوضع المتحف فيه بثمانين ألف جنيه سنة ١٩٠٠، ويمتاز عن سائر المتاحف بدقة ما يحويه من المصنوعات، ويظهر للمتأمل في تحفه أن جامعها تأنَّق في انتقائها وسَخِي في ابتياعها، وأنه ذو ذوق سليم في الصناعة. ومن جملة ما شاهدناه فيها طاولة كتابة من زمن لويس الخامس عشر، وصورة الملك جورج الرابع، ومصنوعات مختلفة من القرن ١٧ و١٨، وهناك مجموعة صور محفورة في العاج أو الذهب أو العظم أو منزلة من ميناء في غاية الدقة. ومجموع ساعات وأسطرلابات وإبر مغنطيسية من صنع القرون الأخيرة وآلات هندسية. ورأينا مصباحًا عربيًّا عليه كتابة عربية منقول من أحد جوامع القاهرة. فهناك قاعة للأسلحة والأدراع والمدافع، بينها بنادق قبضاتها منزلة بالعاج عليها نقش جميل مدهش، وأدراع مذهبة نحو ما شاهدناه في برج لندن، لكنها أتقن وأثمن؛ وقاعات عديدة للصور الزيتية، منها صورة تمثل رحيل يعقوب مع أبنائه إلى مصر، وغير ذلك من الصور والمحفورات والمصنوعات. ومتحف مدام تيسو: وهو كثير الشبه بمتحف جريفن في باريس، فيه مشاهد تاريخية ممثلة بالشمع كما حدثت؛ حتى يتوهم الناظر أنه يرى الحقيقة كما هي. كل مشهد في غرفة خاصة منها موقف ولنتن عند سرير نابليون وهو ميت، وتمثيل موت نلسن، ومقتل غوردون في الخرطوم، وتولية الملكة فكتوريا. والملك جون يوقِّع ما يسمونه «ماجنا كارتا»، ومشاهد أخرى شاهدنا مثلها في متحف غريفن. وتماثيل حديثة منها الملك إدوارد وقبطان التيتانيك، وسان يتسان صاحب الانقلاب الصيني. وجمهور من عظماء الإنكليز منهم: غلادستون، وسالس بوري، وتشمبرلن، ولويد جورج، واسكويث، وإمبراطور الروس، ومفاتيح قلعة متس. ومشاهير أمريكا مثل روزفلت وتافت وغيرهما، وإذا وقع نظرك على أحدهم ظننته ينظر إليك يوشك أن يخاطبك. ومتحف فكتوريا وألبرت: وهو أثري تاريخي فيه مصنوعات إيطالية قديمة أكثرها ديني، بينها أمثلة من طرز البناء الإيطالي، ومصنوعات إيطالية من البرونز والطاسات والأباريق والتماثيل والأصنام الصغيرة. وصور صنع بلنسية بإسبانيا في أوائل القرن الخامس عشر، وهناك مصنوعات يونانية أكثرها كنائسي. وفي بعضها مصنوعات عربية منها قطعة من إفريز كتبوا عليه أنه منقول من جامع المؤيد بمصر. وساعة شمسية عليها كتابة عربية كاملة طولها متر وعرضها نحو نصف متر لم يذكروا مكانها. وقطعة من عتبة سبيل وغير ذلك. ومن التماثيل الضخمة في هذا المتحف تمثال من عمود تراجان في رومية في قطعتين طول كل منهما نحو ٢٠ مترًا، وعرض قاعدتهما ٢١ قدمًا بقدمنا. وهناك عدد كبير من الآثار الدينية، وأمثلة عديدة من آثار رومية منقولة بالجبس بينها رءوس عشرات من القواد الرومانيين والقديسين. وعدة قاعات فيها أنواع من النسج والتطريز نحو ما شاهدناه في متحف كليني في باريس. ولا شك أن أصحاب الأزياء (المودة) يستفيدون من الاطلاع عليها لوضع الزي الجديد. ومنحوتات تمثل حوادث دينية في القرنين ١٣ و١٤ وعلب وأقفال من العاج المخرم في جملتها علبة صُنعت في صقلية في القرن ١٣م على النمط العربي عليها صور مذهبة. وفيها مصنوعات أخرى دقيقة تشبه ما في متحف ويلس. وقاعات للأزياء والملابس حسب الأعصر والبلاد، وهي مجموعة نفيسة لتاريخ الألبسة الشرقية والغربية. ويمتاز هذا المتحف عن سواه بهذه المصنوعات وإتقانها. ومنها سجادة طولها نحو ١٣ مترًا كُتب عليها «٩٤٦ للهجرة» وأنها حُملت من جامع أردبيل، وقس على ذلك. ومن المتاحف التي تستحق الذكر في لندن المتحف الوطني (نيشنال كاليري)، وهو مجموع مصورات ومنوعات مثل متحف لوكسنبرج بباريس. جمعت لندن أهم المتاحف والآثار، ولكنَّ في غيرها كثيرًا مما يستحق الذكر. ونذكر منها ما وفِّقنا إلى رؤيته في أثناء هذه الرحلة في كامبردج وأكسفورد ومنشستر. كامبردج: وجدنا كامبردج بلدًا عامرًا بالمدارس والكليات يكاد يكون قوام عمرانه على تلامذة المدارس، وأساتذتها ومَن يلحق بهم. وربما بلغ عددهم جميعًا نحو ٤٠٠٠ نفس. أما أهل البلد فلا يزيدون على ٤٥٠٠٠ نفس. ومما استلفت انتباهنا أبنية تلك المدارس التي يتألف من مجموعها «جامعة كامبردج» الشهيرة فإنها متشابهة الشكل قديمة الطرز، وهو طرز الأجيال الوسطى. والبناء عبارة عن مربع كل ضلع منه مؤلف من غرف متناسقة صفًّا واحدًا في ثلاث طبقات بعضها للتعليم والبعض الآخر للأكل أو النوم. ووسط المربع حديقة أو فسحة خالية. وفي كل مدرسة كنيسة، وتتألف المدرسة الواحدة من ثلاثة مربعات، أو أربعة متقاربة يستطرق بعضها إلى بعض. وأبواب الغرفة صغيرة على نسق واحد بسيط كثيرة الشبه بالأبنية الشرقية، وقد سهل علينا الأستاذ براون مشاهدة أجزاء هذه الأبنية، واستلفت انتباهنا إلى باب غرفته وهو ثخانة الحائط، فإذا كان الأستاذ في غرفته أغلق الباب الداخلي فقط، فإذا خرج أغلق البابين جميعًا. والسبب في بقاء هذه المدارس على الطرز القديم أنها تأسست في الأجيال الوسطى، فبُنيت على طرزها، وحافظ أصحابها على ذلك الطرز. وقد وصفنا جامعة كامبردج وعدد مدارسها وتلامذتها غير مرة في الهلال. وفي كامبردج متحف لا يُذكر بالنظر إلى متاحف لندن، لكننا شاهدنا فيه ترسًا مستديرًا عليه نقوش فارسية، بينها اسم السلطان نادر شاه، فإذا كان المراد به القائد الفارسي المشهور بهذا الاسم كان هذا الترس من التحف الثمينة. أكسفورد: وهي تشبه كامبردج من أكثر الوجوه، وقد عُرفت بجامعتها واشتهرت بمكتبتها المعروفة بمكتبة بودليان؛ فإنها من المكاتب النفيسة في الآثار الشرقية. وقد جاء ذكرها مرارًا عديدة في أثناء ذكر أماكن الكتب بتاريخ آداب اللغة العربية. وفي كامبردج مكتبة نفيسة لكن هذه أوسع وأغنى. وقد سهل علينا الأستاذ مرجليوث رؤية كتب عربية نادرة فيها ذكرناها في أماكنها من تاريخ آداب اللغة. وفي مكتبة أكسفورد كتب خطية إنكليزية وأيرلندية دينية مصورة من القرن الثامن للميلاد. منشستر: هي مدينة صناعية تكاد تكون معملًا كبيرًا لكثرة ما فيها من المعامل والمتاجر، يتوسم القادم فيها ذلك قبل وصوله إليها بما يشاهده من الدخان المتكاثف فوق أبنيتها؛ ولذلك كان أكثر سكن أهلها في الضواحي. وهي مثال للجد والعمل وتنافس المواهب الصناعية والتجارية، وقد أُتيح لنا مشاهدة معمل للغزل بجوارها فيه نحو ١٠٠٠٠٠ مغزل و٢٠٠٠٠ مغزل مزدوج و٩٠٠ عامل. ويدير مغازله آلات بخارية قوتها ٢٥٠٠ حصان. رأينا القطن يدخل بآلات ويخرج مغزولًا خيوطًا دقيقة في غاية الضبط. ويضيق بنا المقام عن وصف تجارة هذه المدينة، وفي شهرتها ما يغني عن الإطناب. وقد سرَّنا ما شاهدناه فيها من تقدم إخواننا السوريين؛ فقد عرفنا منهم طائفة حسنة من كبار التجار كما شاهدنا في باريس، وبينهم غير واحد من أصحاب الثروة والتجارة الواسعة، وهم على الإجمال أهل سمعة حسنة، وقد تخلَّق أكثرهم بأخلاق الإنكليز من المحافظة على الوقت والصدق في المعاملة، والتأني في الحكم، وهي ميزة للسوري على سواه، نعني مقدرته العجيبة في تطبيق أحواله على الوسط الذي يعيش فيه. فتجده في فرنسا كأنه فرنساوي بحركاته وكلامه ومعاملته وسائر أحواله، وهكذا بإنكلترا أو أمريكا. والتجار السوريون في منشستر لهم معاملات واسعة مع أبناء بلادهم في أقطار العالم شرقًا وغربًا ولعملائهم ثقة عظيمة فيهم مثل ثقتهم بالتجار الإنكليز. ومن البيوت التجارية السورية في منشستر: محلات كحلا، وغبريل، وجبارة، ومطر، ومجدلاني، وخوري حداد، وفرح، وبحمدوني، وغيرهم. ضاق المقام عن الإفاضة في وصف سويسرا، وقد زرنا منها: جنيف، ولوزان، وإيفيان. وهي من أحسن مصايف العالم لوقوعها حول بحيرة من أكبر البحيرات، تحف بها الشواطئ المكسوة بالغابات الغضة والقرى العامرة. وكنا لمَّا زرنا الآستانة منذ بضعة أعوام أدهشنا بوسفورها بما على شاطئيه من التلال المكسوة بالأشجار والقصور، وقلنا إنها فريدة في العالم، فلما شاهدنا جنيف وضواحيها إذا هي كثيرة الشبه بالبوسفور من حيث مناظره الطبيعية. وفي جنيف بعض المتاحف والمعارض. وفيها جامعة شهيرة، وكذلك لوزان فإن جامعتها كبيرة. وأما إيفيان فقد عُرفت بمائها العذب يُحمل بالقناني المختومة إلى أنحاء العالم المتمدن. إلى فولتير المحسن لفرناي. وقد عمر لأهلها أكثر من مائة بيت، وبنى لهم كنيسة، ومستشفى، وحوضًا للماء، وسبيلًا، وكان يقرضهم النقود بلا ربا. وقد جفف المستنقعات، وأنشأ أسواقًا للبيع والشراء وأطعم أهلها في مجاعة سنة ١٧٧١. وقفنا عند هذا التمثال برهة، ونحن نعيد قراءة ما نُقش عليه. وإن ما أدهشنا منه قوله «وبنى لهم كنيسة.» والقراء يعرفون فولتير ونظره في الكنائس، وما يتبعها، فكيف يبني للناس كنيسة؟ إنه لم يبنها لما يرجونه هم منها لأخراهم، بل بناها لاعتقاده أنها من أهم أسباب سعادتهم، وأنهم لا يستغنون عن الدين في معاملاتهم. وفي ذلك عبرة للذين يتوهمون استغناء الناس عن الدين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/0/
مقدمة الطبعة الأولى
هذه الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة روايات تاريخ الإسلام — غير رواية الانقلاب العثماني الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة التي قدمنا صدورها لغرض ذكرناه في مقدمتها. ونحن نزداد تحققًا كل يوم أننا أحسنَّا في إصدار هذه الروايات؛ لما فيها من اللذة والفائدة، فإنها تشوق إلى مُطالعة تاريخ الإسلام وتشرح أحوال الأعصُر والأُمم الاجتماعية والأدبية والسياسية وتمثلها تمثيلًا لا تتسع له كُتُب التاريخ. ولذلك كان وضع الروايات التاريخية أكثر وعورة من تأليف التاريخ ولا سيما لمن يتوخى التحقيق وضبط الوقائع والمحافظة على الأصل التاريخي مع تطبيقه على حديث الغرام كما نفعل نحن. اللغة الفارسية: نشر فيها إلى الآن روايات فتاة غسان وأرمانوسة المصرية و١٧ رمضان وغادة كربلاء والحجاج بن يوسف وفتح الأندلس وأبو مسلم الخراساني. اللغة الهندية (الأوردية أو الهندستانية): ظهر فيها حتى الآن فتاة غسان وأرمانوسة المصرية وفتح الأندلس. لغة التاميل من اللغات الهندية الدورية في سنقابور وغيرها: نقلت إليها فتاة غسان والمملوك الشارد. اللغة التركية العثمانية: نقلت إليها رواية أبي مسلم الخراساني. وهي تنشر تباعًا في جريدة إقدام. اللغة التركية الأذربيجانية في باكو وأذربيجان: نقلت إليها عذراء قريش. اللغة الروسية: نقلت إليها رواية المملوك الشارد (لم تطبع بعد). اللغة الفرنساوية: نقلت إليها رواية العباسة أخت الرشيد وهي تنشر في الفيغارو تباعًا. وأسير المتمهدي لم تنشر بعد. اللغة الإنكليزية: نُقلت إليها فتاة غسان وعذراء قريش وستنشران قريبًا. هذه هي اللغات التي عرفنا نقل بعض هذه الروايات إليها، وقد يوجد غيرها مما لم نطلع عليه. ونحن باذِلون الجهد في إتمام هذه السلسلة مع تحرِّي الحقيقة والمحافظة على الوقائع التاريخية من حيث زمانها ومكانها ودمجها في القصة الغرامية على أسلوب يشوق للمطالعة. والغرض من هذه الروايات ليس تقريرَ الحقائق التاريخية ليرجع إليها في التحقيق وإنما المراد بها التشويقُ لمطالعة التاريخ وبسط الأحوال الاجتماعية والسياسية المحدقة بالوقائع مع تمثيل عادات الأُمم وأخلاقهم وآدابهم وبالله التوفيق.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/1/
الشيعة العلوية في المغرب والدولة الفاطمية
قاسى الشيعةُ في زمن بني أمية في الشام عذابًا شديدًا من القتل والصلب. وكذلك في الدولة العباسية — ولا سيما في أيام المنصور والرشيد والمتوكل — فحملهم ذلك على الفرار إلى أطراف المملكة الإسلامية، فهاموا على وُجُوههم شرقًا وغربًا، وكان في من جاء منهم نحو المغرب إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى أخو محمد بن عبد الله الذي بايعه المنصورُ ثم نكث بيعتَه. فأتى إدريس مصر وهي يومئذٍ في حوزة العباسيين فاستخفى في مكانٍ أتاه إليه بعض الشيعة سرًّا ومنهم صاحب البريد فحمله إلى المغرب في أيام الرشيد فتلقاه الشيعة هناك وبايعوه فأنشأ دولةً في مراكش عُرفت بالدولة الإدريسية من سنة ١٧٢–٣٧٥ﻫ على أن هؤلاء لم يسموا أنفسهم خلفاء. أما ظهور الشيعة وتغلبهم وارتفاع شأنهم حقيقةً فالفضلُ فيه للدولة الفاطمية نسبة إلى بنت النبي؛ لأن أصحابها ينتسبون إليها، وتسمى أيضًا الدولة العبيدية نسبة إلى مؤسسها عبيد الله المهدي. وكان شأن الشيعة قد بدأ بالظهور في المشرق على يد بني بويه في أواسط القرن الرابع للهجرة. ولما تغلب البويهيون على بغداد كانت الدولةُ الفاطميةُ قد اشتد ساعدُها في المغرب وهَمَّتْ بفتح مصر. وكان آل بويه يغالون في التشيُّع، ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافةَ من مستحقيها فأشار بعضهم على معز الدولة البويهي أن ينقل الخلافة إلى العبيديين أو إلى غيرهم من العلويين فاعترض عليه بعض خاصته قائلًا: «ليس هذا برأي؛ فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، لو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلِّين دمه ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته فلو أمرهم بقتلك لقتلوك.» فرجع معز الدولة عن عزمه. على أن ظهور الشيعة في الشرق هَوَّنَ على الدولة العبيدية فتح مصر والانتقال إليها، وكانت قصبتها أولا المهدية بإفريقية وخلفاؤها ينتسبون إلى الحسين بن علي، وللمؤرخين في انتسابهم إليه أقوالٌ متناقضةٌ، فالذين يتعصبون للعباسيين ينكرون ذلك عليهم. ويغلب في اعتقادنا صحة انتسابهم إليه، وأن السبب في وقوع الشبهة طعنُ العباسيين فيه؛ تصغيرًا لشأنهم. والمصريون كانوا يحبون عليًّا من صدر الإسلام، وكانوا مِن حزبه يوم مقتل عثمان ولكن قَلَّمَا كان لهم شأنٌ في الشيعة العلوية؛ لأن العلويين استنصروا أولا أهل العراق وفارس. فلما قامت الدولة العباسية وتأثرهم المنصور بالقتل والحبس وقتل محمد بن عبد الله الحسني وبعض أهله من بني حسن وفر سائر العلويين مِن وجه الدولة العباسية كان في جملتهم علي بن محمد بن عبد الله فجاء مصر بأمر دعوته بعض رجال الشيعة لكنه ما لبث أن حمل إلى المنصور واختفى. وكان حال الشيعة العلوية بمصر يتقلب بين الشدة والرخاء بتقلب أحوال الخلفاء في بغداد، فإن تولى خليفةٌ يكره العلويين ضيق على الشيعة واضطهدهم والعكس بالعكس. فلما تولى المتوكل واضطهد الشيعة العلوية كتب إلى عامله بمصر بإخراج آل أبي طالب إلى العراق فأخرجهم سنة ٢٣٦ﻫ، ولما قدموا العراق أرسلوهم إلى المدينة واستتر مَن بقي في مصر على رأي العلوية؛ لأن عمال المتوكل كانوا يبالغون في إظهار الكُره للشيعة؛ تزلفًا من الخليفة. يحكَى أن رجلًا من الجند اقترف ذنبًا أوجب جلده فأمر يزيد بن عبد الله عامل مصر يومئذٍ بجلده، فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه فزاده ثلاثين ضربة. ورفع صاحب البريد إلى المتوكل ذلك الخبر فورد كتابه إلى العامل أن يضرب الجندي المذكور مائة سوط فضربه. وتتبع يزيد المشار إليه آثار العلويين فعلم برجل منهم له دُعاة وأنصار، فقبض عليه وأرسله إلى العراق مع أهله وضرب الذين بايعوه. ولما تولى المنتصر بن المتوكل سنة ٢٤٧ﻫ كتب إلى عامله بمصر أن لا يضمن علوي ضيعة ولا يركب فرسًا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطراف مصر، وأن يمنعوهم من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد. وإذا كان بينهم وبين أحدِ الناس خصومة قبل قول خصمهم فيهم بغير أن يطالب فقاسى العلويون عذابًا شديدًا بسبب ذلك. ولما استقل أحمد بن طولون بإمارة مصر سنة ٢٥٤ﻫ اضطهد الشيعة؛ لأنه تركي، ولأنه على رأي الخليفة العباسي فاقتص آثار العلويين وحاربهم مرارًا. حتى إذا ضعف أمر بنى طولون بمصر واختلَّت أحوال الدولة العباسية في بغداد وتغلب آل بويه عليها في القرن الرابع للهجرة أخذ حزب الشيعة ينتعش ويتقوى فلما جاءهم جند المعز لدين الله الفاطمي سنة ٣٥٨ﻫ بقيادة جوهر الصقلي كانت الأذهان متأهبةً لقبول تلك الدعوة ففتح جوهر مصر على أَهْوَن سبيل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/2/
القيروان والمنصورية
القيروان من المدن الإسلامية التي اختطها العرب. بعد الفتح كالبصرة والكوفة والفسطاط. اختطها عقبةُ بنُ نافع الفهري سنة ٦٠ للهجرة بما يقرب من تونس وهو الذي افتتح أكثر المغرب. وكانت القيروان في زمن روايتنا هذه «في أواسط القرن الرابع للهجرة» قصبة بلاد المغرب، وقد تقاطر الناسُ مِن أنحاء العالم لتعميرها فقطنها العرب من قريش وسائر البطون من مصر وربيعة وقحطان وأصناف من العجم من أهل خراسان وأصناف من البربر والروم وأشباه ذلك. وكان شربهم من ماء المطر ينصبُّ من الأودية إلى برك عظام يقال لها المؤاجل فمنها شرب السقاة ولهم وادٍ يسمى وادي السراويل في قبلة المدينة. وكان عبيد الله في أول الدعوة يُقيم في المهدية على ساحل تونس، ثم نقل إلى القيروان وتوفي سنة ٣٢٢ﻫ، فخلفه ابنه القاسم ولقب القائم بأمر الله وتوفي سنة ٣٣٤ﻫ، فخلفه ابنه المنصور أبو طاهر وتوفي ٣٤١ﻫ فخلفه المعز لدين الله وعلى عهده فتحت مصر على يد قائده جوهر الصقلي. وفي أيامهما جرت حوادث هذه الرواية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/3/
المعز لدين الله وقائده جوهر
خرج المعز في ليلة مقمرة من ليالي سنة ٣٥٧ﻫ إلى حديقة قصره في المنصورية قرب القيروان وفى الحديقة بركةٌ واسعةٌ يصب فيها الماء من نبع جر ماءه المعز إليها من جبل بقرب المنصورية، وفرقه بأنابيب الرصاص إلى قصور المدينة ومسجدها وأسواقها، وينصرف ما بقي من ذلك الماء إلى القيروان — وقد علمت أن المنصورية خاصة بالخليفة وأهله وحاشيته وأعوانه لا يشاركهم فيها أحد. وقد أحاطوها بسور ضخم عال فهي أشبه بالحصون منها بالمدن. وهو هناك في مأمن من غدر الغادرين لأنها محاطةٌ بسور منيع أبوابُهُ مصفحة بالحديد تقفل وتفتح عند الحاجة. خرج المعز في تلك الليلة وهو مطمئنُّ الخاطر لا يخاف غدرًا، حتى إذا توغل في الحديقة ولا شيء فيها مِن زخارف المدينة أشرف على تلك البركة وليست هي مما يستجلب النظر أو يستلفت الانتباه لكن لها حديثًا يطرب له المعز ولا يطرب له سواه إلا قائده جوهر البطل الصقلي. وكان قد أسكنه في مدينته واختصه بقصرٍ مِنْ قصورها وبالغ في إكرامه ورفع منزلته. وصل البركة والقمر قد تكبد السماء فأسرع البستاني إلى مقعد معد لجُلُوس الخليفة إذا نزل في تلك الساعة وأهل القصر نِيام حتى الخدم. وإنما أَرَّقَه أمرٌ شَغَلَ خاطرَه وأخذ بمجامع قلبه لم يكاشِف به أحدًا من أعوانه؛ لأنه كان حريصًا على سره لا يُطْلع عليه أحدًا إلا إذا نضج وآن إخراجُهُ إلى حيز الفعل. شأن رجال العمل وأهل الحزم. على أنه ضاق ذرعًا في تلك الليلة عن الاحتفاظ بذلك السر فخطر له أن يكاشف به قائده جوهرًا. وكان المعز عاليَ الهمة عظيمَ الهيبة واسع المطامع أدرك الأربعين من عمره وقد لبس في تلك الليلة رداءً أبيضَ بسيطًا والتف بالعباءة وجعل على رأسه عمامةً صغيرة. فلما استقر به الجلوس صفق ونادى «خفيف» وهو غلام صقلي كان قد اختصه بخدمته فحضر، فقال: «ادع قائدَنا جوهرًا.» فمضى خفيف وما عتم أن عاد ومعه جوهر. وهو كهلٌ في السادسة والخمسين مِن عُمره وقد وخطه الشيب، وكان طويلَ القامة ثابتَ الجأش عظيمَ الهيبة. وكان لما جاءه رسولُ المعز قد ذهب إلى فراشه فنهض وارتدى ثيابَه وبادر إلى مُلاقاة مولاه. فلما شعر المعز بقدومه تحفز للنهوض ورحب به وبش له فخجل جوهرٌ من ذلك الإكرام فأكب على يدي الخليفة فقَبَّلَهما وقبل ركبتيه وأوشك أن يُقبل قدميه فأَنْهَضَه المعز ودعاه للجلوس بجانبه فجلس متأدبًا فبادره المعز قائلًا: «مرحبًا بقائدنا الحازم وحبيبنا الباسل.» فتأدب جوهرٌ وقال: «إني عبد مولانا أمير المؤمنين ضارب بسيفه وأفديه بروحي.» قال: «بل أنت سيفنا المسلول وحامى دولتنا وإني لا أجلس إلى هذه البركة وأرى السمك يسبح فيها إلا ذكرت بلاءك في سبيل الحق. إن هذا السمك يشهد بما لك من الأفضال على هذه الدولة أليست هذه الأسماك مِن نسل ما حملته إلينا من سمك البحر المحيط في القلل يوم جردت وفتحت أفريقية وأخضعت قبائلها. لا أنسى يوم جئتنا بتلك القلل وفيها السمك من ذلك البحر العظيم إشارة إلى ما أدركته من تلك الفتوح العظيمة التي لم يسبق إليها سواك فلا غرو إذا اختصصتك بصداقتي وفضلتك على سائر بطانتي وأهلي …» فخجل جوهر من هذا الإطراء وقال: «العفو يا مولاي إني لم أفعل شيئًا إلا باسمك. والله إنما نصرني بك؛ لأنك سلالة أحق الناس بالخلافة ابن عم الرسول ﷺ وصهره، أنت ابن فاطمة الزهراء فكيف لا ينصرك الله ولو قام بهذه الدعوة غلامٌ لَأفلح؛ لأن الحق يعلو ولا يعلَى عليه.» فأسكته المعز قائلًا: «إن الحق لا يعلو دائمًا، وكم ظل أجدادي العلويون يجاهدون وقد ذاقوا أنواع العذاب ممن استأثر بالسيادة دونهم. ولو أُتيح لهم سيف مثل سيفك لغلبوا، ألم تفتح هذه البلاد من هنا إلى البحر المحيط وأخضعت أهلها — بارك الله فيك — وهذا ما لا ريب فيه فإذا رفعنا منزلتك فقد أعطيناك حقك.» وسكت وقد بدا الاهتمام في وجهه وجوهر ينتظر ما يبدو منه لاعتقاده أنه لم يدعه في تلك الساعة إلا لأمر هام. فاعتدل في مجلسه وتوجه بكليته نحوه كأنه يستفهم عما يُريده. أما المعز فمَدَّ يده واستخرج من تحت العباءة قضيبًا من عُود طوله شبر ونصف مكسوٌّ بالذهب. فلما رآه جوهرٌ علم أنه قضيب الملك فتأدب احترامًا له فابتدره المعزُّ قائلًا: «أليس هذا قضيب الملك يا جوهر؟» قال: «نعم يا مولاي إنه قضيب الحق وصاحبه صاحب الخلافة الحقة.» قال: «هل يكون في الدنيا خليفتان على حق؟» فأدرك جوهر أنه يشير إلى خلافة العباسيين في بغداد أنها على غير الحق، ولحظ ما وراء ذلك من الأمور، فقال: «كلا يا سيدي إن النبي واحد وخليفته واحد.» قال: «إلى متى نترك أولئك القوم في ظلمائهم؟» فأجاب جوهر على الفور: «نتركهم حتى يأمر مولانا أمير المؤمنين.» فأكبر المعز هذا الجواب الدال على حزم جوهر واستهلاكه في سبيل نصرة العلويين، فابتسم وقد أشرق وجهه — وكان القمر مواجهًا له بحيث يظهر ذلك لجوهر — وقال: «بارك الله فيك هذا ما كنت أرجوه منك، وقد جال هذا الفكرُ في خاطري منذ أعوام وأنا أتردد فيه أستطلع المنجمين ولا أبوح به لأحد حتى إذا كانت الليلة رأيت أن أسره إليك وكنت أحسبُهُ جديدًا عليك فإذا أنت أكثر تفكيرًا به مني. أما وقد اطلعت على سري — وأنت الوحيد الذي اطلع عليه مني — فأرجو أن تشير علي.» قال: «ليس لهذا العبد أن يُشير وإنما عليه أن يطيع … فوالله لو أمرتني أن أركب الأَسِنَّة وأذهب في الأرض فاتحًا لَفَعَلْت؛ لعلمي أني ذاهبٌ في نصرة الحق.» قال: «لله درك من قائد باسل وصديق حميم. ولكن الأُمُور مرهونةٌ بأوقاتها. فالآن اكتم ما دار بيننا وأخبرني عن رأيك في قوادنا.» قال: «إنهم نعم الرجال يستهلكون في نصرة مولانا ولا سيما شيوخ كتامة؛ فإنهم قاموا بنصرة أمير المؤمنين خير قيام وعليهم المعول في أمرنا …»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/4/
أبو عبد الله الشيعي
فسكت المعز برهة وعاد إلى الاهتمام وأخذ يلاعب قضيب الملك بين أصابعه وهو يتأمله، ثم قال: «ولكنني أخاف عليهم الجُنُوح إلى الترف فيأخذهم ما أخذ أعداءنا في بغداد من أسباب المدنية حتى صاروا إلى ما صاروا إليه من الذل فغلبهم مواليهم الأتراك والديلم ولم يتركوا لهم من الخلافة إلا اسمها — ولا أُخفي عنك أني لم أطمعْ بهم إلا لما بلغني مِن ترفهم وانهماكهم واسترسالهم في الملذات، فإذا أصاب رجالنا ما أصابهم صرنا إلى مصيرهم.» فأعجب المعز بِمَا سمعه منه فقال: «إن هذا لا يكفي يا أبا الحسين إني أخاف على رجالي الاستكثار من النساء. إني لا أرى للواحد منهم أن يقتني غير المرأة الواحدة؛ لئلا يتنغص عيشهم وتعود المضرة عليهم وتنهك أبدانهم وتذهب قوتهم. وكثيرًا ما أوصيتهم بذلك ليقرب الله منا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب.» قال: «إن سهر مولاي على دولته بمثل ما تقدم كفيل بالنجاة من الوقوع في ما تَخَوَّفَه ولكنني أخاف …» وسكت وهو يتشاغل بإصلاح عمامته وخماره. فلحظ المعز في وجهه شيئًا يكتمه فقال: «وما الذي تخافُهُ يا جوهر؟ قل!» قال: «أخاف الدسائس السرية.» قال: «وما تعني؟ أي الدسائس؟» قال: «أخاف قومًا لا نعرفهم ولا نعرف نياتهم.» قال: «مَن تعني … كيف نخافهم ونحن لا نعرفهم؟» قال: «لو عرفتهم لبددت شملهم ولكنني أتوسم خطرًا من جماعة يزعمون أنهم موتورون … لا أعرف مَن هم ولكنني أَتَنَسَّمُ رائحةَ ذلك من بعض الأحاديث …» قال: «صرحْ يا جوهر … إنك في مأمن.» قال: «ألا تعلم يا سيدي ما أصاب أبا عبد الله الشيعي الذي قام بالدعوة في أول أمرها ومهد الدولة لجدك المهدي — رحمه الله؟» فلما سمع اسم أبي عبد الله تغير لونه ولكنه أظهر الاستخفاف وقال: «أظنك تعني أن ذلك الرجل قتل مظلومًا.» قال: «لا أعني ذلك ولكن بين أصحابه الذين أعانوه في نصرة دعوة مولانا الملك مَن يتوهم أنه ظلم؛ لأنه جمع القبائل لنصرة مولانا ولما استتب له الأمر قتله وقتل أخاه أبا العباس. أما أنا فأعتقد أنه قتل حقًّا بعد أن غير نيته وطمع بالأمر لنفسه فلا بد أن يكون لأصحابه مطمعٌ في إفساد أمرنا وإن كنت لا أخاف فوزهم. ولو سألتني عن واحد منهم لاعترفت أني لا أعرف أحدًا وإنما هو سوء الظن لا بد منه في مثل هذه الحال.» فاعتدل المعز في مجلسه وقال: «صدقت ولكن لا خوف من ذلك غير أني أسمع إن ذلك المقتول كان عنده مالٌ خبأه في مكان لا أعرفه وقد تعجل جدي في قتله قبل معرفة مستودَع المال. سمعت أنه مال كثير. ولا يخفى عليك شدة الحاجة إلى المال في هذه الأحوال.» قال: «نعم يا سيدي سمعت بخبر المال المخبأ لكنني لا أعرف مكانه ولو عرفته لَاستخرجته ولا يبعد أنه قد تبعثر وسأُوالي البحث عنه.» قال: «ومع ذلك لا يهمنا المال وعندنا صناديقُ منه قد شَذَّ عني ترتيبُها لكثرتها قد ادخرتُها للقيام بذلك العمل؛ لعلمي أن أعداءنا قد أصابهم الفقر حتى تغيرت قلوب الناس عليهم.» قال جوهر: «صدق مولاي ولكني أرى مع ذلك أن نحتاط ونسيء الظن حتى برجالنا وأمراء القبائل البربرية، ولا سيما الذين كانوا حكامًا وعرفوا الدسائس. أخص منهم حمدون صاحب سجلماسة؛ فإن هذا الرجل حاربناه وهو صاحبُ دولة فأخضعناه وسلم لكني أحسبُهُ مكرهًا، فإذا رأى مولاي أن نقيده بِرَهْنٍ كان ذلك أقربَ إلى الصواب!» قال: «وما هو الرهن؟» قال: «لهذا الأمير ابنةٌ اسمها لمياء هو عالقٌ بها، وشاهدت منها في أثناء حربنا معه بسالة وأنفة لم أعهدها بفتاة قبلها؛ فقد كانت تحارب كأكبر القواد على جواد من خير الجياد. ولم نستطع القبضَ عليها إلا بعد الجهد الكثير، وقد أراد الفارس الذي قبض عليها أن يتخذها سبية فمنعتُهُ وأنقذتُها من السبي وأكرمتها. ولا ريب أن والدها يحبها ويضن بها فإذا اتخذناها رهنًا على تصرفه في طاعتنا لا يقدم على الخيانة.» قال: «قد رأيت حسنًا، وأين هي الآن؟» قال: «هي في فُسطاطِ أَبيها المضروب في هذا السهل خارج القيروان.» قال: «ولكني أخاف أن ننبهه إلى الحقد إذا طلبناها منه الآن.» قال: «لا خوف من ذلك؛ فإني أطلبها منه لتكون مكرمة معززة في قصر أمير المؤمنين في خدمة أُم الأمراء (زوجة المعز) وهذا الشرف لا يتأتى لأحدٍ سواه وأنا على يقين أن مولاتنا أُم الأمراء سترتاح إلى رؤيتها. فإن في وجهها مهابةً وجمالًا مع تعقُّل وبسالة، وقد تحققت مع ذلك أنها من أشد الناس غيرة على دعوة الحق فإنها تجل مقام الإمام علي وتنصر شيعته مما لم أره في سواها من جماعة البربر كافة، ومن الجهة الأخرى أرى أن نصاهره فنكتسب حزبه.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: «سأجعل القصد مِنْ نقل ابنته إلى قصر أم الأمراء أني أريد أن أتخذها زوجة لابني الحسين. وهو بلا شك سيكون سعيدًا بهذا الاقتران فنكسب الفتاة ونكسب قلب أبيها.» قال: «حسنًا. افعل بارك الله فيك ولا حرمنا سعيك الحميد.» وتزحزح الخليفة فنهض جوهر واستأذن في الانصراف.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/5/
حمدون
خرج جوهر من حضرة المعز، وقضى بقية ليلته مفكرًا بما سمعه، وكان شديد الاهتمام بأُمُور الدولة كثير الغيرة على الدعوة العبيدية. وإن لمح به للمعز عن الدساسين شيعة أبي عبد الله لم يكن وهمًا بل هو حقيقة. ولكن تلك الأحزاب لم تكن تستطيع الظهور لتغلب القوة فهي تتربص فرصة للوثوب بالدولة. وكان يخاف صاحب سجلماسة على الخصوص؛ لأنه صاحب سطوة وله حزبٌ كبيرٌ وهو مجازف لا يُقَدِّر العواقب. فرأى مِن حُسن السياسة أن يقيده بالرهن على تلك الصورة ثم يقربه بالزواج فيخطب ابنته لابنه فيكتسب ثقته ومساعدته أو يتخلص من شره — على الأقل. ولم يكن صاحب سجلماسة يشعر بشيء مما في خاطر جوهر عليه، بل كان يحسبه في غفلة عن حركاته وخطواته ففي صباح ذلك اليوم جاءه غلام جوهر يدعوه إليه في قصره بالمنصورية، فبادر إلى ذلك. وكان حمدون هذا كهلًا طويل القامة دقيقها أسود العينين غائرهما لا تستقر حدقاتهما على حال. ولم يكن عنده من الولد غير لمياء. وماتت والدتها فتزوج غيرَها وترك تربية الابنة إلى رجل من خاصته كان شديد التشيُّع لِأهل البيت. فشبت على ذلك. وأما حمدون فلم يكن تَشَيُّعُه إلا ظاهريًّا جريًا مع تيار القوة. ولو ترك لنفسه لاختار أن يكون مهديًّا يدعو الناس إلى نفسه فكانت مطامعه أعلى ما يخطر للبشر. وكان قد هَمَّ أن يدعي المهدوية وهو في سجلماسة ولكنه غلب على أمره وقيد أسيرًا إلى القيروان، فأظهر الطاعة على غل وشعر جوهر بشيء من ذلك — كما رأيت. وكان حمدون مع سعة مطامعه ليس من أهل الدهاء لكنه كان إذا خطر له أمرٌ بادر إلى تنفيذه لا يبالي بما قد يكون في سبيله من الخطر. وكان عرش سجلماسة قد اتصل إليه بالإرث من أجداده واتصل بخدمته شيخٌ اسمُهُ أبو حامد زعم أنه من أهل الكرامة نزل عليه منذ أعوام ومعه شاب جميل الصورة اسمه سالم قال انه ابن أخيه وهو فارسٌ شجاع. نزل كلاهما في دار صاحب سجلماسة وهو في إبان إمارته. وكان سالم يرى لمياء وهي تذهب وتجيء أو تركب الجواد — والبربر أقل حجبًا لنسائهم من سائر المسلمين — فوقعت من خاطره موقعًا جميلًا وتعارفا وتحابَّا، فتقدم أبو حامد إلى حمدون في خطبة لمياء إلى ابن أخيه سالم فأجابه. وقبل أن يحين الاقتران أتى جوهر القائد بجيشه وفتح سجلماسة وأسر أميرها وأهله وفي جملتهم لمياء وأبو حامد ولم يقفوا لسالم على خبر فظنوه قتل في المعركة فبكته لمياء وهي في ريب من أمره. أما حمدون فكان يعتقد أن سالمًا قتل لا محالة وكأنه شاهد شبحًا مثله ملقًى على الصعيد في أثناء القتال. ولم يمضِ على قيامهم من القيروان أيامٌ قليلةٌ حتى خطر لجوهر ما خطر له فبعث إليه في ذلك الصباح فأتاه في قصره وَحْده، فبالغ في إكرامه وتقديمه وهو لا يعلم سبب هذا الإكرام. ثم قال جوهر: «أتعلم لماذا دعوتك أيها الأمير؟» قال: «كلا يا سيدي.» قال: «أنت تعلم أننا كنا بالأمس أعداءً يستحل أحدنا دم الآخر فصرنا الآن إخوانًا نتعاون في نصرة الحق وخدمة أمير المؤمنين، وأحببت أن تزيد تلك الروابط متانة فأرجو أن توافقني على ذلك.» فلم يفهم حمدونُ قصده، لكنه بادر إلى الثناء على هذه الرغبة فقال: «إن ذلك غاية مُناي، وفيه شرفٌ لي.» قال: «لا شرف ولا تشريف … أتعرف ولدنا الحسين؟» قال: «نعم أعرفه، حفظه الله.» قال: «وأنا أعرف ابنتك لمياء، وقد شهدت منها في أثناء حربنا ما حبب إلي أن تكون زوجة لابني الحسين، وأنت تعلم مقدار حبي له، فبهذا المقدار سيكون حبي لها.» فلما سمع حمدون ذلك الطلب أطرق هنيهة يفكر، ثم أبرقت أسرتُهُ ليس رغبة في الشرف الذي سينالُهُ من مصاهرة أكبر قُوَّاد المعز الفاطمي ولكنه توسم من ذلك عونًا على أمر قام في نفسه فقال: «إن مثلى يا مولاي لا يطمع بمثل ذلك فكيف بأكثر منه.» فأثنى جوهرٌ على قبوله وقال له: «لكنني زيادة في رفعة قدرها أُحب أن يكون العقد عليها في منزل أم الأمراء زوج أمير المؤمنين؛ وخصوصًا لأن لمياء يتيمة الأم هل ترى بأسًا من ذلك؟» فنهض وهو يظهر الامتنان وقال: «أي بأس أرى فيه؟ إنه شرف عظيم.» قال: «إني مرسل الساعة غلامي إليك في الفسطاط، فترسل معه لمياء إلى دار أمير المؤمنين.» قال: «سمعًا وطاعة.» وخرج وقد أدهشه توفيقه إلى فرصة طالما تمناها وسار توًّا إلى صديقه أبي حامد فقص عليه ما دار بينه وبين جوهر وأظهر أنه يستشيرُهُ فصاح فيه: «يعرض عليك أن تكون لك يد وعينان في قصر المعز وقائده وتستشيرني؟ اقبل …» قال ذلك وهو يحك ذقنه ليخفي ما خامره من الفرح بتلك البشارة وله في ذلك غرض يشبه غرض حمدون فقال حمدون: «لم أتردد في قبول ذلك الطلب لحظة. ولكنني توقفت أولا؛ لأن ولدنا سالمًا أولى بها و…» فقطع أبو حامد كلامه قائلًا: «دع سالمًا الآن إنه بعيد ولا ندرى متى يعود.» فاطمأن حمدون؛ إذ ظهر له من ذلك القول أن سالمًا لا يزال حيًّا، وكان يحسبُهُ قُتل، فقال: «وأين هو سالم الآن؟» قال: «ليس هو قريبًا … وسأخبرك بمكانه. أما الآن فلا ترفض ما عرضه عليك القائد الفاتح …» وتنحنح. فذهب حمدون للحال وقص الخبر على ابنته وحسَّن لها الذهاب، فامتنعت في بادئ الرأي؛ لأنها عالقةُ القلب بسالم فأكد لها أن سالمًا قتل أو هرب ولا أمل برجوعه. ونظرًا لِما يعلمُهُ مِن تَعَلُّقها بأهل البيت ضرب لها على وتر الدين فقال: «إنك تكونين هناك قرب أمير المؤمنين ابن بنت الرسول.» فرضيت وذهبت مع الرسول إلى المنصورية حتى أتت قصر المعز.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/6/
لمياء فتاة القيروان
وكان المعز قد بات تلك الليلة وخف بلباله بعد ما دار بينه وبين قائده من الحديث. وفى صباح اليوم التالي قام بفروض الصلاة ثم ذهب إلى العمل، وبينما هو جالسٌ في ديوانه ينظر في أعماله ويقرأ كُتُب العمال، ويجيب عليها بنفسه جاء غلامُهُ خفيف الصقلي وأستأذنه في كلمة فقال: «ما وراؤك؟» قال: «إن مولاي القائد بعث فتاة قال إنها لقصر مولانا.» فقال المعز: «أدخلها … أين هي؟» فدخلت الفتاة وهي تنظر إلى ما في تلك القاعة من صناديق الكتب وليس فيها غير الخليفة وكاتب. وكانت لمياء طويلة القامة أشبه في مشيتها بالرجال منها بالنساء مع جمال وهيبة. سمراء اللون كبيرة العينين إذا نظرتَ فيهما توهمتَ أنهما تخاطبانك بصيغة الأمر. مقوسة الحاجبين متناسبة الملامح غليظة الشفتين قليلا عريضة الوجنتين مما يدل على القوة. حول رأسها عصابة تدل منها خيوط في أطرافها كرات من الذهب أو قطع أُخرى من المصوغات. وقد أرسل شعرها على كتفيها متجعدًا وأحاط به رداءٌ كالخمار عقد في أعلى الصدر بعروة من الذهب. وحول عُنُقها عقودٌ من الجزع ونحوه — كما ترى في الشكل. فلما وقع نظر المعز عليها لم يتمالك عن الإعجاب بها، وخصوصًا بعد ما سمعه عنها من قائده فاستدناها وهش لها تلطفًا وقال: «تقدمي يا فتاة … ما هو اسمك؟» قالت: «لمياء يا أمير المؤمنين.» قال: «ألعلك ابنة نصيرنا صاحب سجلماسة؟» قالت: «نعم يا مولاي.» قال: «وهل سرك أن تكوني في قصرنا؟» قالت: «هذا شرف لا أستحقه.» وابتسمت بامتنان. قال: «بل أنت أهل لأكثر من ذلك. ألعلك متزوجة؟» فلما سمعت سؤاله أطرقت وبان الخجلُ في محياها من الدم الذي تصاعد إلى وجنتيها ولم تُجب. فعلم أنها عذراء فاكتفى بذلك الجواب وقال لها: «اذهبي مع غلامنا هذا إلى أُم الأمراء؛ فإني أوصيتها بك خيرًا، وستحسن وفادتك. لكني أرجو أن تكوني حسنة الاعتقاد بنا.» فرفعت بصرها نحوه وقالت: «إذا كنت تعني غير الاعتقاد بصحة خلافة آل البيت فلا …» فأعجب بصراحة جوابها وقال: «إنك لَنِعم الفتاة العلوية، لولا ما أراه من كثرة الحلي على رأسك وصدرك؛ فإننا لا نرى الجُنُوح إلى شيء من أسباب الترف.» ولم يتم كلامه حتى أسرعت بيدها إلى رأسها وصدرها واستخرجت ما كان عليهما من الحلي والعقود ورمت بها إلى الأرض وقالت: «لم أكن أعلم ذلك يا سيدي … وقد كان لي بما شاهدته من بساطة ردائك عبرة وعظة … هذه جواهري أرميها تحت قدميك …» فازداد المعز فرحًا بها وابتسم لها ابتسام الرضا والإعجاب، وقال: «بُورك فيك، أنت ستنالين أضعاف ما نزعتِه من الجواهر. فضلًا عن سرور أم الأمراء بك.» وأشار إلى الصقلي فمشى بها وعاد المعز إلى عمله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/7/
أم الأمراء
وكانت أم الأمراء امرأةً عاقلةً حكيمة ذات مبرات وحسنات ولها رأيٌ وحزم. وكثيرًا ما كان المعز يباحثها ويستشيرها وكان قد أخبرها في ذلك الصباح عن لمياء وأوصاها بها. دخلت لمياءُ قصر أم الأمراء ولو كانت ممن دخل قُصُور الأمراء في مصر أو بغداد في ذلك العهد لحسبته منزل بعض الخدم؛ لأنه كان من البساطة بحيث يقرب من حال البداوة، تلك كنت سياسة المعز خوفًا من عواقب الترف؛ لعلمه أن الترف والرخاء من أكبر العوامل في سقوط الدولة — كما علمت من كلامه لقائده. وكانت أُمُّ الأمراء جالسةً في غرفتها على بساط من السجاد بلا وشي ولا تطريز، وعليه مساندُ من الديباج البسيط وقد لبستْ لباسًا بسيطًا واتشحتْ بمطرف وأرسلت شعرها مضفورًا بأبسط ما يكون. فسُرت لمياء لتسرعها في نزع حليها قبل الدخول على تلك الأميرة. فتقدم خفيفٌ الصقليُّ أولًا فأنبأ أم الأمراء بمجيء لمياء، فأمرتْها أن تتقدم، فتقدمت ولم يقع نظر لمياء على أم الأمراء حتى استأنست بها كأنها رُبيت في منزلها وأشارت إليها أم الأمراء أن تقعد فقعدت متأدبة وانصرف خفيف. فقالت أم الأمراء: «أهلًا بالضيفة الجديدة.» فقالت: «أشكرك يا سيدتي على هذا اللطف، إنما أنا جارية في قصرك.» فقالت: «بل أنت ضيفة مكرمة فإن قائدنا جوهرًا أثنى كثيرًا على أدبك وتعقلك وقال إنه لم يرض لك العبودية فأطلق سراحك.» قالت وهي تنظر في البساط مبالغةً في التَّأَدُّب: «إن ذلك فضلٌ كبيرٌ له لا أنساه في عمري. أما فضل مولاتي زوج أمير المؤمنين فلا أقدر على القيام بشكره.» فتجاهلت أم الأمراء عند سماع ذلك الإطراء وغيرت الحديث، فقالت: «لم أفعل شيئًا بعد، ولعلي أستطيع أن أفعله في المستقبل إذ يكون لك قصر مثل هذا القصر تعيشين فيه آمرةً ناهية؛ لأن مثلك ينبغي أن يكون لها أحسن نصيب من كبار الرجال.» فهمت لمياء أنها تشير إلى رغبتها في تزويجها من أحد الأمراء فلم يعجبْها ذلك؛ لأنها عالقةُ القلب بسواه، فبدا ذلك في وجهها وتساقطت من عينيها دمعتان تدحرجتا على خديها فمسحتهما بكمها وهي تبتسم إخفاء لِما ظهر من عواطفها فأدركت أم الأمراء ذلك فبادرتها قائلة: «يظهر أنك مشغولة القلب بسوانا.» فلم تتمالك لمياء عن البكاء وهي تخجل من بكائها فغَطَّتْ وجهها بيديها وكأنها استضعفتْ نفسها وأَنِفَتْ من ظهور ضعفها فتجلدت وتشاغلت بالابتسام وهي تنظر إلى أُم الأمراء والدمع يتلألأ في عينيها. فأحست أم الأمراء معها فأرادت استطلاع حقيقة حالها لعلها تنفعها في شيء فدنت منها وهي تُظهر الاهتمام بها، وقالت: «لا يشق عليك تعرضي لك في أمر تريدين كتمانه وإنما أردت أن أباسطك. ونظرًا أنك مشغولة الخاطر بسواه. ألا تجدين فيَّ الثقة لتطلعيني على سرك وإن كانت هذه أول مرة رأيتني فيها؟» فغلب الخجل على لمياء بعد هذا التنازُل وقالت: «العفو يا سيدتي إنك تتنازلين كثيرًا في مخاطبتي وما أنا أهل لشيء من ذلك …» فأحست أم الأمراء أنها ضايقتها في الحديث لأول مقابلة فرأت أن تتركها على أن تعود إلى هذا البحث في فرصة أُخرى فقالت: «بل أنت خير لأحسن منه … والآن قد آن لك أن تستريحي.» وصفقت فأتتها قَيِّمَةُ الدار فأمرتْها أن تعد غرفة خصوصية للضيفة وأن تساعدها في تبديل ثيابها وتؤانسها. فنهضتْ لمياء ومشت مع القيمة وقد تنبهت عواطفها وهاجت أشجانها. فأخذتها القيمة إلى غرفة من القصر تطل على الحديقة التي فيها البركة من ناحية وعلى المسجد الجامع من جهة أُخرى فساعدتها في تبديل ثيابها فألبستها ثوبًا من أثواب الأميرات وهو مع غلاء قيمته بسيطٌ في زِيِّهِ بلا زركشة ولا تأنق. وقد أعجبت لمياء بكل ما شاهدته هناك من أدلة البساطة والجُنُوح إلى العمل. وقلما وجدت شيئًا يراد به الزخرفة فقط. مع أن قصر أبيها في سجلماسة لم يكن يخلو من الترف والرخاء؛ يقلد بهما حضارة بغداد أو مصر أو الأندلس فيأتي من كل بأفخر مصنوعاتها. وأما المعز فكان يخاف ذلك الرخاء فيميل إلى التمسك بالبساطة والبعد عن الترف.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/8/
المناجاة
ولما خلت لمياء في تلك الغرفة تصورتْ ما أصابها من الانتقال في ذلك اليوم. باتت أمس في فسطاط أبيها خارج القيروان وهي الآن في قصر الخليفة المعز لدين الله معززة مكرمة. وتذكرتْ أَنَّ المعز من نسل الإمام علي وفاطمة الزهراء، فاختلج قلبُها من الفرح؛ لحصولها على الحظ بالتقرب من ذلك الدم الطاهر والشرف العظيم. ومشت إلى شرفة مطلة على الحديقة ولم تكد تجلس حتى تقاذفتْها الهواجسُ وتذكرت خطيبها سالمًا وكانت قد أحبته ووطنت النفس على الاقتران به. فلما آن وقتُ العقد أخذت أسيرة مع أبيها ولم تعد ترى سالمًا ولا علمت أين هو. وكانت تعلم مِن أسراره ما لا يعرفه عمه وكان في ما أطلعها عليه من أغراضه أُمُور تنكرها عليه ولا يعلم عمه أبو حامد باطلاعها على تلك الأسرار، ولعله لو علم لم يسمح بتقربها من المعز. فأطرقتْ حينًا وهي غارقةٌ في التفكير وجعلتْ تُناجي نفسها قائلة: «أين أنت يا سالم؟ لا، لا أصدق أنك قُتلت … لا. لم تُقتل بل أنت مختبئ أو متنكر … أو لعلك تفكر في ذلك الأمر … ليتني أستطيع أن أراك؛ لأطلعك على أُمُور تهون عليك العدول عن عزمك … وأتخلص مما يعرضونه علي … إني لا أحب الزواج إلا بك؛ لأني لم أحب سواك ولكنني مع ذلك لا أوافقك على عزمك؛ لأن فيه خطرًا. آه، أين أنت؟» وهي في ذلك سمعت حركةً وحديثًا في الحديقة، فتحولت مجاري أفكارها نحو ما سمعته، وجلست تتوقع أن ترى أحدًا — وكانت قد ضفرت شعرها ضفيرتين جانبيتين ولفَّت رأسها بخمار كبير كالحبرة يغطي كتفيها وجنبيها — وما لبث أن سمعت خفق نعال على مقربة من النافذة فتراجعت وهي لا تزال تنظر نحو الحديقة؛ وإذا هي برجلين عرفت منهما القائد جوهرًا وبجانبه شاب في مقتبل العمر يظهر من ملامحه أنه ابنُهُ الحسين، وتذكرت ما قيل لها عن رغبته فيها، فأحست بنفور وانزوت مخافة أن يقع نظرُهُ عليها. أما جوهر فكان ماشيًا وعليه الجبة والقفطان وفوق رأسه العمامة الصغيرة وحولها الخمار وقد تقلد السيف. وفى مشيته وثبات قدميه ما يدل على أنه قائدٌ عظيمٌ، وأما ابنُهُ فكان في مثل لباسه لكنه لا يزال يانعًا وفي محياه نضارة الشباب مع هيبة القُواد، والبسالةُ باديةٌ في عينيه وجبينه. ولحظت لمياء وهي منزويةٌ أن الحسين بن جوهر لما وصل إلى جانب غرفتها التفت كأنه يلتمسُ أن يرى أحدًا وسمعت أباه يقول له بصوت منخفض: «لا شك أنك لو رأيتها ما تمالكت عن الإعجاب بها؛ لأنها جمعت بين مهابة الرجال ولطف النساء.» فقال الحسين: «إني لا أراجعك في شيء تراه … وأنت أعلم مني وأوسع اختبارًا لكنني لا أثق بأبيها ولا أظنك تجهل ما في خاطره و…» وكانا يتكلمان وهما ماشيان، فلم تسمعْ لمياء مِن حديثهما إلا نتفًا فهمت منها أنهما يتحادثان بشأن خطبتها له فوقعتْ في حيرةٍ وخافت أن يطلب منها الزواج به وهي عالقةُ القلب بسالم وإن كانت لا تعرف مقره. وكانت لمياء مع بسالتها وقوة بدنها قويةَ العواطف إذا أحبت تمكَّن الحب من قلبها حتى يشغلها عن كل شاغل لا سيما وأن سالمًا أول شاب عرفتْه وأحبتْه. ثم عادت فسمعت جوهرًا يخاطب ابنه وقد عادا من حيث أتيا وأتما الحديث، فأصغتْ لعلها تسمع تتمة الكلام فسمعت جوهرًا يقول: «إن معاملة هؤلاء بالحسنى أولى بنا وأقرب إلى جمع القلوب، وصاحب سجلماسة من أولى الأمراء بذلك …» ثم انقطع الحديث من البعد فأصبحت لمياء أشد رغبة في الاطلاع عليه فأصغت لسماعه عبثًا. فقعدت وهي تصلح خمارها وتعمل فكرتها وإذا هي تسمع لغطًا فيه صوتُ أبيها فأجفلت ثم رأت أباها وجوهرًا ماشيين وجوهر يحتفي بحمدون ويلاطفه. ومن قوله له: «لا ريب أن مولانا المعز يقدر صاحب سجلماسة حق قدره وطالما ذكرك في غيابك وأثنى على علو همتك.» فقال حمدون: «نحن نفتخر أن نقوم بنصرة ابن فاطمة الزهراء.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/9/
لمياء وأم الأمراء
وكانت أم الأمراء قد أُعجبت بلمياء كل الإعجاب وأحبتها من كل قلبها. وكذلك لمياء؛ فإنها أحبت أم الأمراء واستأنستْ بها كأنها تعرفها من أعوام وقد هان عليها أن تكاشفها بما يكنه قلبها وتستشيرها في أمرها وتستعينها في حاجتها. فذهبت تطلبها في غرفتها فلم تجدها فلقيت حاضنتها — وهي امرأة رومية الأصل استجلبها المعز من صقلية لما دخلت في حوزته في جملة نساء حملهن للخدمة وتدبير المنزل. وقد استلطفتها لمياء ورأت منها انعطافًا نحوها — فسألتها عن أم الأمراء فقالت: «قد ذهبت في شغل وستعود قريبًا.» ودعتها للقعود. فقعدت وخاطِرها مشغولٌ بمسير والدها إلى المعز مع جوهر فأحبتْ أن تشغل نفسها ريثما تأتي أم الأمراء فقالت للحاضنة: «يا خالة يظهر لي مِن ملامحك أنك لست من أهل هذه البلاد …» قالت: «صدقتِ؛ إني من صقلية يا سيدتي.» قالت: «فأنت إذن رومية الأصل …» قالت: «نعم وأفتخر بأني من نفس البلد الذي منه أكبر قواد أمير المؤمنين.» فعلمت أنها تعني جوهرًا القائد، فقالت: «وهل القائد جوهر من صقلية أيضًا؟» قالت: «نعم يا سيدتي، إنه مِن نفس ذلك البلد. ألا يحق لي أن أفتخر به؟» قالت: «كيف لا؟ وهو موضعُ فَخْرِ أهل هذه الدولة. نصره الله على أعدائه.» وهي في ذلك جاءت أم الأمراء وهي تمشي مشية النشاط لا تتثاقل تثاقُل أهل الترف فتراجعتْ الحاضنةُ وخرجت. ووقفت لمياء وهي تبتسم وتنظر إلى أم الأمراء نظر شاكر بهج فأجابتها تلك بمثل ذلك، وتناولتها بيدها على غير كلفة ودخلتْ بها إلى مخدعها الخصوصي وهي تقول: «أحب أن أراك تستأنسين بي وأن تعدي نفسك ابنة لي.» فأكبتْ لمياء على يدها فقَبَّلَتْها ودموع الفرح تتساقط من عينيها، وقالت: «لقد غمرتني بفضلك يا سيدتي بما لم يعد في إمكاني القيام بشكره … كفى … إن ذلك فوق ما أستحقه أو يخطر ببالي.» قالت وهي تقربها مِنْ وسادة في صدر الحجرة وتُقعدها بجانبها: «إنك أهلٌ لِأَكْثَرَ من ذلك يا لمياء ولا فضل لي إذا أحببتك؛ فإني لم أسمعْ أحدًا ذكرك إلا أُعجب بك وبكمالِك وهيبتِك … هذا قائدُنا جوهرٌ شديد الإعجاب بك وقد رغب في تقريب والدك من أمير المؤمنين إكرامًا لخاطرك. وقد جاء به الآن وسيدخلان إليه ولا شك أن المعز سيُحل أباك محلًّا رفيعًا؛ إكرامًا لقائده …» وسكتت وبلعت ريقها وهي تنظرُ إلى لمياء وتتأمل ملامحها وما يبدو منها فرأتْها مصغية لا يبدو على وجهها شيء من الاضطراب. فعادت إلى إتمام حديثها فقالت: «وبلغ من افتتان قائدنا بك أنه أحب أن يأخذك إليه ويجعلك ابنة له …» فظهرت البغتة على لمياء وأطرقت حياءً، فابتدرتْها أم الأمراء قائلة: «لا أعني أن تصيري ابنة له دون أبيك بل هو ينوي أن يخطبك … إلى ابنه الحسين … هل رأيت هذا الشاب؟ لا ينبغي أن تخجلي مني … اتخذيني أُمًّا لك.» فتصاعد الدمُ إلى وجنتَي لمياء، وأبرقت عيناها من التفكير وقالت: «أشكر لك هذا الإحسان يا سيدتي. نعم أني يتيمة الأم ولكنني في حضن أم تتمنى كل فتاة أن تكون أمها، نعم ينبغي لي أن أخاطبك بحرية، أما من جهة رؤية الحسين بن جوهر فإني لم أره إلا في هذا النهار عرضًا وهو مار في الحديقة مع أبيه …» فقطعت أم الأمراء كلامها قائلة: «لم يكن مجيئُهُ عرضًا، ولكنه جاء عمدًا ليرى الفتاة التي حدثه أبوه عنها … طيب وماذا تضمرين بعد ذلك؟» فتنهَّدت لمياء وهمت بالكلام وأسكتها الحياء فأدركت أم الأمراء أنها تخفي شيئًا من قبيل الحب — والنساء يتفاهمن بلغات القلوب أسرع من تفاهُم الرجال — فقدمت لها مذبة كانت في يدها تروح بها على سبيل المؤانسة، وقالت لها: «لا ينبغي لك أن تستحي مني يا لمياء بعد ما لقيته من حبي لك. ويكفي دليلًا على هذا الحب أن أسعى في تزويجك بأحسن شاب في القيروان بعد أبناء الخليفة … وهؤلاء يا لمياء لم يبلغوا سن الزواج بعد.» وضحكت فازدادت لمياء خجلًا من هذا التلميح الممزوج بالتقريع على الكبرياء ولم تعد ترى باعثًا على الحياء فتناولت المذبة من يدها ثم أعادتها إليها بلطف وشكر، وقالت: «لا تظني يا سيدتي أني جاهلة حقيقة قدري أو أني لم أدرك مقدار فضلك في ما تعرضينه علي، فاسمحي لي أن أُصرح بحقيقة حالي. إني يا سيدتي مخطوبة …» وصبغ الحياء وجهها. لم تستغرب أم الأمراء قولها؛ لأنها لحظت ذلك فيها من قبل لكنها تجاهلت لتسمع منها هذا التصريح فأجابتها وهي تبتسم: «من هو ذلك الخطيب السعيد الذي حظي بك وما اسمه؟» فخجلت من هذا الإطراء وقالت: «إنه يا سيدتي شاب من أصدقاء والدي عرفته في سجلماسة وله عم كثير التودُّد لأسرتنا فخطبني إليه، واسمه سالم …» فقالت: «أين هو؟» فأجابت لمياء وهي تهز كتفيها إلى الأعلى إشارة الإنكار: «لا أدري أين هو ولكنني أعلم أنه كان في جملة مَن شهد المعركةَ الأخيرة التي قضي بها لأمير المؤمنين فقادوني ووالدي أسيرين. ولم أعلم أين ذهب سالم!» فضحكت أم الأمراء وقالت: «يظهر أنك تحبينه كثيرًا حتى إنك مع شكك بوجوده لا تزالين ثابتة في وده.» فتنهدت تنهدًا عميقًا وأطرقت وقد صبغ الحياءُ وجهها ولم تُجب. فتشاغلت أم الأمراء بإصلاح ضفائر الشعر المرسلة على صدرها من الخمار وقالت: «قد يصحُّ ذلك، ولكن هل تحسبينه ثابتًا في حبك لا يلتفت إلى سواك؟ إن هؤلاء الرجال لا يُركن إليهم. ولا تظني الحسين بن قائدنا جوهر يتأتى العثور على مثله في جيل من الناس … ومع ذلك فالخاطر لك. وأنا إنما أردت خيرك؛ لأنني أحببتك و…» قالت ذلك وبان العتبُ في عينيها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/10/
التصريح
فأثر ذلك التوبيخ في نفس لمياء تأثيرًا شديدًا، ورأت قولها معقولا ولكن قلبها لم يطاوعْها على العمل به ولا طاوعها عقلُها على الرفض. وهي مع ذلك لا تعلم أين هو سالم. ميت أو حي ولم تر فرجًا من تلك الحيرة إلا بالبكاء فجاشتْ خواطرُها وهمت بالبكاء ثم أمسكت عواطفها تجلدًا وسكتت وهي تبلع ريقها وتُغالب نفسها وقد أطرقتْ لا تبدي حراكًا. وأظهرت أنها تتفرَّس في جلد أسد مفروش هناك. فلم تُبال أم الأمراء بسكوتها فأتمت كلامَها قائلة: «ومع ذلك فقد سمعت قائدنا جوهرًا يطري شجاعتك وثباتك في حومة الوغى … فما لي أرى فيك هذا الضعف الآن؟» فلم تعد لمياء تستطيع التمالك فتنهدت تنهدًا شديدًا ورفعت عينيها إلى أم الأمراء والدمع يتلألأ فيهما وجلست جثوًا على سبيل التأدب وقالت — وهي تغص بالكلام: «لقد غمرتني بلطفك يا سيدتي … إني لا أستحق هذا الالتفات … نعم لا أستحق النعمة التي تعرضينها علي ولكنني … آه … لا أملك قياد قلبي … سامحيني على التصريح لك. لقد رأيت مِن عطفك ولطفك ما يخولني الدالة عليك وإن خالفت العادة والطبع أني يا مولاتي لا أملك من قياد نفسي شيئًا. نعم إني شُجاعة في الحرب لا أهاب لقاء الأبطال ولكنني مع سالم ضعيفة … لا أذكره إلا وأشعر بانحلال عزائمي وخفقان قلبي … ألعل ذلك ما يُعبرون عنه بالحب؟ وقد سألتني إذا كان يحبني، فكيف يُمكن أن لا يكون كذلك وأنا لا أرى للحياة قيمة بدونه؟» ولما وصلت إلى هنا انتبهت لنفسها وأحست أنها تورطت في التصريح بما لا يجوز لمثلها وإنما غلبت على عواطفها فلم تملك إمساك هواها. وخجلت من أم الأمراء فحولت وجهها نحو الحائط وأخذت في البكاء وقد بكت هذه المرة أسفًا على ضعفها وتطلعًا إلى رؤية حبيبها سالم وهي لا تعلم أين هو. أما أم الأمراء فاستغربت تعلق لمياء بخطيبها ولم تكن تتوقع أن ترى منها ثباتًا وشغفًا إلى هذا الحد. فلما آنست منها ذلك قالت: «يسرني يا بنية أنك تحبين خطيبك إلى هذا الحد؛ فإن المحبة من أكبر النعم. وأطلب إلى الله أن يجمعك به وإذا رأيت أني قادرة على مساعدتك في ذلك قولي … أما الحسين فإني استمهله؛ لنرى ما يكون — إذ لا يعلم ما في الغيب إلا الله …» فهَمَّت لمياء بتقبيل يدها شكرًا على صنيعها فأبتْ عليها ذلك وقبلتها برأسها ونهضت وهي تقول: «قد تعودت أن أذهب في مثل هذه الساعة إلى مقعد لي يُشرف على قاعة أمير المؤمنين التي يقابل الناس فيها أطل عليها من وراء حجاب فأشاهد مجلس الأمراء وأسمع ما يدور بينهم إني كثيرة الاهتمام بشئون الدولة …» فأعجبت لمياء بعلو همتها وقالت: «سمعت بذلك عنك.» وقد سَرَّهَا أن تبدأ هي بالعزم على ذلك ومالتْ إلى مرافقتها فقالت: «وهل ترين بأسًا مِنْ أن أكون معك؟» قالت: «كلا … وبالعكس فإني أستأنس بك.» ومشتا في دهليزٍ إلى غرفة في أحد جدرانها مقعدٌ على دكة يصعد إليه ببضع درجات، وراءه ستر يحجبه. وفى الستر ثقوبٌ إذا شاء الجالس أن يشرف على من في القاعة الكبراء رآهم وسمع أقوالهم. فتناولتْها أُم الأمراء بيدها حتى أجلستْها بجانبها على المقعد، وقالت لها: «انظري مِن هذا الثقب.» فنظرت فإذا هي تشرف على مجلس الخليفة مِن أعلى الحائط بحيث ترى الجلوس هناك ولا يرونها. رأت قاعة واسعة قد فرشت أرضها باللبود البسيط وقد جلس المعز لدين الله في صدرها على منصة كالوسادة الصغيرة وهو في لباس بسيط بالنسبة إلى سواه من الملوك والخلفاء. على رأسه العمامة وعلى كتفيه برنس كالعباءة يغطي أثوابه. وقد التف به وأقعد الأربعاء قعود مَن أتعبه العمل فتربع وألقى كوعيه على فخديه. وإلى جانبه حسام مغمد وفي يمينه قلم. وفى يساره ورقة من الكاغد ينظر إليها وكاتبُهُ واقفٌ أمامه ينتظرُ أمرَه فبعد أن تأمل الورقة وضع القلم بجانب دواة بين يديه ودفع الورقة إلى الكاتب وأشار إليه أن يذهب. ثم تنفس الصعداء وقال: «إذا شاء الأمراء والمشائخ الدخول فليتفضلوا.» فلما سمعت أم الأمراء قوله قالت للمياء: «إنه يدعو مشائخ كتامة وصنهاجة وهوارة، وهم رجال دولته من أمراء البربر؛ لعله يريد النظر في أمر هام!» فسُرت لمياء لهذه الفرصة؛ لترى كيف يعقد مجلس الملوك. على أنها ما لبثت أن رأت جماعة من المشائخ والأمراء دخلوا وألقَوُا التحية بصوت عال كالعادة. وأشار إليهم المعز فقعدوا على وسادات مثل وسادته محيطة بالقاعة. وجعلت لمياء تتفرس فيهم فرأت بينهم وجوهًا تعرفها من قبل ولما استقر بهم الجُلُوسُ جعل المعزُّ يُرحب بهم وهم يدعون له. ثم قال: «قد تكبدتم المشقة في المجيء إلينا، وإنما دعوتكم لأريكم حالي من العمل. إذ قد يتصور بعض الذين لا يعلمون أن الإمامة من أسباب الراحة والتنعُّم والانقطاع عن العمل. نعم هي كذلك لِمَن شغلوا بالترف عن مصالح الدولة كما يفعل صاحب بغداد وصاحب قرطبة وأمراؤهم في الأطراف؛ لأن الدنيا شغلتهم عن الإمامة الحقة فانغمسوا بالملذات وتقلبوا في المثقل والديباج والحرير والسمور والمسك والخمر مثل سائر أرباب الدنيا. وأما أنا فقد أحببت استقدامكم لأريكم كيف ينبغي أن يكون الإمام: انظروا إلى هذا الكساء والجبة وها أنا جالسٌ على اللبود وهذه الأبواب مفتحة تفضي إلى خزائن الكتب، وأنا أشتغل بمكاتبة الأطراف بيدي لا ألتفتُ إلى أُمُور الدنيا إلا بما يصون أرواحكم ويقمع أضدادكم، فافعلوا يا شيوخ في خلواتكم مثل ما أفعلُهُ ولا تُظهروا التكبر والتجبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلهما إلى غيركم.» فتصدى شيخ منهم — أكبرهم سنًّا — وقال: «يا أمير المؤمنين قدوتنا ونعم المثال هو.» فقال: «إذا فعلتم ذلك يقرب الله منا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب … انهضوا — رحمكم الله ونصركم.» فوقفوا وحيَّوه وخرجوا وقد امتلأت قلوبهم هيبة ولمياء تعجب لسرعة صرفهم وأدركت أم الأمراء فيها ذلك فقالت: «لا بد لسرعة صرفهم من سبب فقد تعودت أن أجلس هنا ساعات أسمع مباحثاتهم في أهم الأمور.» ولم تتم كلامها حتى سمعت المعز يصفق وهو يقول: «خفيف!» فحضر غلامه فقال: «ذكرت لي منذ هنيهة أن قائدنا يحب أن يرانا على حدة فأسرعنا في صرف شيوخ كتامة لنتفرغ له. ادعه.» فخرج الغلام وهمست أم الأمراء قائلة: «هذا هو السبب في سرعة صرفهم … أن جوهرًا قادمٌ إليه … لله دره من رجل باسل.» فلما سمعت لمياء اسمه تذكرت أنها رأته ذلك اليوم في الحديقة مع أبيها وخطر لها أنها رأته أيضًا مع ابنه الحسين فخفق قلبُها؛ لأنها أصبحت تخاف أن تراه بعد أن دار ما دار بينها وبين أُم الأمراء بشأنه وتخاف إذا تكرر الترغيب فيه أن يخونها قلبها فتميل إليه وهي لا تريد أن يكون لأحدٍ نصيب من فؤادها غير سالم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/11/
الخطبة
وما كادت تفكر في ذلك حتى رأت جوهرًا في وسط القاعة وقد أمسك أباها حمدون بيده كأنه يقدمه إلى المعز، وهو يقول: «أقدم لمولانا أمير المؤمنين الأمير حمدون صاحب سجلماسة صديقنا الجديد.» فنظر المعز إليه وابتسم ابتسام الملوك وقال: «أهلًا بصديقنا … أرجو أن لا يكون في خاطره شيء من نحونا.» فأسرع حمدون وترامى بين يدي المعز كالمستغيث، وقد فعل ذلك مبالغة بالتزلُّف وقال: «لقد أسعدنا الحظ بهذه الصداقة وهي شرف لنا ولو عرفنا مناقب الإمام من قبل لَجئناه بغير حرب.» فأنهضه المعزُّ بيده. وأشار إليه أن يجلس بجانبه على وسادة وهو يرحب به ويبتسم، وأشار إلى جوهر أن يقعد فقعد وهو مسرورٌ من نجاح مهمته في مصلحة الدولة بتقريب هذا الأمير للطاعة؛ لأنه صاحب جاه واسع وحزب كبير. جلس حمدون وهو يظهر التأدُّب بحضرة المعز لكن عينيه كانتا تجولان خلسةً في أطراف القاعة لا تستقران على حال كأنهما عينا لص. على أنه كان في وجهه هيبة الأمراء. أما لمياء فلما رأت والدها هناك سُرت لتقربه من المعز؛ لأنها كانت تعلم ما في خاطره عليه وأنه لم يكن أثقل على قلبه من ذلك الأسر. فسرها أولا أنه رضي بإرسالها إلى بيت الخليفة وزاد سرورها أنه تقرب منه. وهي تود ذلك من جملة وجوه أهمها اعتقادُها الكرامة بالمعز؛ لأنه مِن نسل فاطمة الزهراء وهي حسنة الاعتقاد بالشيعة. وإنما كان همها بعد ذلك أن يأتي سالم ويتقرب إلى المعز فيتم لها السرور. وان كانت من فطرتها عزيزة الجانب ميالة إلى الاستقلال وقد حاربت في سبيله ولم تسلم إلا قهرًا. لكنها لم تكن راضية عن أعمال والدها فإن بين أخلاقها وأخلاقه بونًا عظيمًا. وقد لقيت من المعز وامرأته كل رعاية وإكرام فوَطَّنَت النفس على التفاني في مصلحتهما وإنما ينقُصُها العثور على سالم وإقناعه بالتسليم معها. ومع علمها بصعوبة تسليمه كانت تعتقد أنها تقدر أن تتغلب عليه بالدالة والبرهان. أما المعز فالتفت إلى جوهر لفتةَ صديق معجب بصديقه وقال: «يسرني كثيرًا أن تجتمع كلمة شيعتنا على المطالبة بحقوقنا.» فقال جوهر: «إن ذلك هين بتوفيق مولانا — أعزه الله — وأنا أعدُّ تقريب أمير سجلماسة الباسل فألًا مباركًا؛ لأنه رجل حرب وله أعوان يتفانون في نصرته، فبمثله يعز الملك.» فقال حمدون: «إني أُفاخر سائر الأمراء بهذه الحظوة بين يدي أمير المؤمنين وقد أصبحت الآن سيفًا من سيوفه أناضل عنه إلى آخر نسمة من حياتي، أقول ذلك عني وعن رجال قبيلتي.» فابتسم المعز وقال: «إنك إذا فعلت ذلك إنما تنصر الحق كما أنصرُهُ أنا. وإن إمامتي على رجالي لا تميزني عنهم بشيء من مرافق الحياة. بل أنا أكثرُهُم تعبًا وسهرًا كما ترى مما بين يدي من الأعمال، إني أعمل بيدي ما لا يعمله صاحب بغداد ولا صاحب قرطبة. أنظر في كل شيء بنفسي، لا أقول ذلك افتخارًا ولكنني أقول الحق فما أنا إمامكم إلا بما خصني به الله من النسب الطاهر وأما فيما خلا ذلك فأنا واحد منكم.» فقال حمدون — وهو يظهر الإخلاص: «إني أحمد الله بما من علي به من نعم أمير المؤمنين وسيرى مني ما تقر به عينه وتنبسط نفسه.» فأبرقت أسرة جوهر فرحًا بنجاح مسعاه، ونظر إلى المعز نظرةً فهم المعز مراده منها، فالتفت إلى حمدون لفتة تودد وقال: «وما أنا راضٍ لأمير سجلماسة بما أردته لغيره من الأمراء المقربين. بل أنا أحب أختصه بإكرام لم ينله سواه. أنت تعلم منزلة قائدنا جوهر حامي حمى هذه الدولة. إنه صاحب المنزلة الأُولى عندنا فنحب أن نزيد أسباب القُربى بينك وبينه. وهي قُربى لنا أيضًا.» فأدرك حمدون غرضه ولكنه تجاهل، وقال: «إن أمر مولانا مقبولٌ على الرأس والعين … فليأمرْ بما يراه.» قال: «نحب أن نخطب ابنتك لمياء إلى الحسين بن قائدنا جوهر وهو من خيرة الشبان، فهل توافقني على ذلك؟» فبادر حمدون إلى الجواب بلهفة وقال: «إن هذا شرف عظيم لنا يا سيدي … إن لمياء لا تستحق هذه النعمة؛ لأن جوهرًا حفظه الله قدوة القواد، وإن لمياء جاريةُ أمير المؤمنين يضعها حيثما شاء … لأمير المؤمنين الأمر ولنا الطاعة.» وكانت لمياء وهي تسمع كلامهم من وراء الستر تخاف أن يفضي الحديث إلى هذه الغاية فلما سمعت اتفاقهما على الخطبة أجفلت وارتبكت والتفتت إلى أم الأمراء لفتة مستغيث. فضمتها إلى صدرها ولم تزد. فرفعت لمياء رأسها لتنظر في عينَي أم الأمراء لعلها تفهم مرادها من ذلك التحبب فرأتها تضحك ضحك من ظفر بغنيمة. فاشتبه عليها أمرها وهي لا تدري ماذا تعمل وأخذتها الرعدة وترقرق الدمع في عينيها. فهمست أم الأمراء في أذنها قائلة: «لم تقبلي ذلك الطلب مني فها قد اتفق عليه والدك وأمير المؤمنين فهل من سبيل إلى الرفض؟» فأجابتها لمياء بهز رأسها هز الإنكار ولسان حالها يقول: «إني لا أزال على عزمي.» فأشارت أم الأمراء بسبابتها على فمها: «إن اصبري الآن وسنرى.» فسكتت وإذا هي تسمع المعز يقول: «بارك الله فيك، إني أهنئ ابن قائدنا بهذه الفتاة كما أهنئها به؛ لأنه من خيرة الشبان فعسى أن تكون راضية بذلك.» فقال حمدون: «إنها لا شك راضية … كيف لا ترضى بما رضي به لها أمير المؤمنين ووافق عليه والدها؟» فلم تعد لمياء تصبر على سماع ذلك فنهضت تريد الانزواء؛ نفورًا من ذلك الحديث فأمسكتها أم الأمراء وأجلستها. فأطاعت وسكتت وهي تكاد تتميز غيظًا ولا تعلم ما تعمل. أما المعز فتزحزح من مجلسه إشارة للصرف. فوقف جوهر وحمدون واستأذنا بالانصراف فأذن لهما وهو يقول: «نترك تعيين وقت العقد لقائدنا ونحب أن يكون ذلك في حضرتنا إكرامًا للعروسين.» انصرفا وتركا لمياء على مثل الجمر وقد جمد الدمُ في عروقها وتولتها الدهشةُ وحق لها ذلك؛ فإنها مع شدة تعلقها بسالم لا ترى مندوحةً عن طاعة والدها وأمير المؤمنين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/12/
الحيرة
نهضت أُم الأمراء وأخذت لمياء بيدها تخفيفًا عنها. وقد شعرت بما هي فيه من الارتباك فمشت لمياء معها وهي مستغرقة في الهواجس لا تنبس ببنت شفة. حتى إذا وصلتا إلى حجرة أم الأمراء استأذنت لمياء بالانصراف إلى الغرفة التي أُعدت لمنامها. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فدعتها أم الأمراء إلى البقاء عندها فاعتذرت أنها تشعر بصداع شديد لا ترى وسيلة للتخلص منه بغير النوم. فأذنت لها حبًّا بإطلاق الحرية لها لئلا يؤثر الضغطُ على نفسها وأضمرت أن تتفقدها بعد هنيهة. سارت لمياء وهي تتعثر بأذيالها ولم تصلْ غرفتها حتى أحست بخوار قواها فاستلقتْ على فراشها وقد انقبضتْ نفسها وزادها غروبُ الشمس انقباضًا. وأخذت تفكر في ما هي فيه من الضيق فرأتْ أنها لولا حبها سالمًا لكانت في سعادة لا مثيل لها؛ لأنها ستخطب لابن أكبر القواد على يد أحسن الخلفاء في دار الملك وقد تقربت من أم الأمراء وتصادقتا. وهي تشعر أن هذه الملكة تحبها حقيقةً، فلم يكن أسعد حالًا منها لولا تعلُّقها بسالم وأرادت أن تُقنع نفسها بتركه والرضى بتلك النعم فلم تستطع. وحالما خطر لها ذلك الخاطر أحست بشيء كالملقط قبض على قلبها. وأخذت تُغالب عواطفَها وتُخاطب نفسها وهي جالسةٌ على الفراش قائلة: «لعل أم الأمراء مصيبةٌ في قولها عن الرجال إنهم لا يحفظون ذمامًا كالنساء … ولكن سالمًا ليس مثله سواه. كيف أُفكر في غيره وقد تعاقدنا … لله ما هذه الأفكار الشيطانية ليس في الدنيا أكبر نفسًا وأجمل خُلُقًا من سالم، ليست السعادةُ بالمال ولا في الجاه … إن السعادة في الحب … مهما عارضتني صروف الدهر وعاندتني وتراكمت علي فإذا تذكرت سالمًا وأنه يحبني شعرتُ بلذة وراحة لا مثيل لهما، ما أجمل الحب وأحلاه … ولكن هل سالم يحبني كما أحبه؟» وهي في ذلك طرق الباب فأجفلت فرأت صقلبيًّا يحمل مصباحًا وقف بالباب وهو يقول: «إن مولاتي أم الأمراء أمرتني أن أُنير لك هذا المصباح.» ووضعه على رف في الحائط مصنوع لهذه الغاية، وقال: «ألا تريد مولاتي أن آتيها بالطعام للعشاء.» قالت: «كلا، إني لا أشعر بالجوع، وأرجو أن تُبلغ مولاتنا أم الأمراء شكري الجزيل على أفضالها.» فانحنى وهَمَّ بالخروج. فاستوقفتْه وقد خطر لها خاطرٌ جديدٌ، فقالت: «هل أنت مِن خدم هذا القصر؟» قال: «نعم يا سيدتي هل تحتاجين إلى شيء؟» قالت: «أُحب أن أرى مولاتنا أين هي؟» فقال: «هي هنا يا سيدتي» وتنحى. فاستغربتْ قوله. وإذا بأُم الأمراء بالباب فبغتت لمياء لوجودها هناك وقالت: «كيف حضرت يا سيدتي … وأين كنت؟» فضحكت وأشارتْ إلى الخصي فانصرف وضمت لمياء إلى صدرها وقبلتها وقالت: «أتظنين أني غافلة عما أنت فيه؟ أذنت لك بالانصراف إلى مخدعك وقلبي يراعيك ولم أتمالك عن أن أجيء بنفسي؛ لأراقب حركاتك. وإنما أرسلت الصقلبي قبلي ليرى هل أنت نائمة؟» فلما سمعت كلامها أكبت على يديها وجعلت تقبلهما قائلة: «بالله يا سيدتي ما هذه النفس الكريمة ما هذه الأخلاق العالية ما هذا الحنو الوالدي … هل أستحق منك هذه العناية؟ إن شعورك معي في هذه المشاكل خففها»، وسكتت وهي تدعو أم الأمراء للجلوس على فراشها. فأجابتها: «قلت لك إني أحببتك وأنا لا أقول جزافًا. ثم إني أعلم الناس بما يكنه قبلك فقلت في نفسي لعلي إذا جئتها وكانت مضطربة أن أخفف عنها شيئًا.» فتنهدت لمياء وسبقتها العبرات وقالت: «لقد خففت عني كثيرًا ولكن …» فمسحت أم الأمراء دموع لمياء بمنديلها، وقالت: «إنك يا بنية حملت نفسك التعب باختيارك … إن النصيب الذي عرض عليك لو عرض على أحسن نساء العالمين لفرحت به وأنت لا …» وبلعت ريقها واستغنت عن التصريح بالإشارة. فقالت لمياء: «هذا كُلُّه أعلمه وقد حاولتُ أن أُقنع نفسي فإذا أنا عاجزةٌ عن ذلك … إني ضعيفة مسكينة … آه من الحب … سامحيني يا سيدتي على هذه الحرية في خطابي … أردت أن أقنع نفسي أن ما سيدعوني إليه والدي سعادة لا ترد فشعرت بقشعريرة ارتعدت لها فرائصي … لا أقدر … لا أقدر أن أتسلط على نفسي … إني لا أملك رشدي يظهر أني مجنونة …» فضحكت أُم الأمراء على سبيل المداعبة وقالت: «هل تشكين في ذلك؟ ألا تعلمين أن العلماء يسمون الحب الشديد جنونًا …» قالت: «مهما يكن فإني غير قادرة على التخلُّص من هذه الهواجس … بالله أشفقي علي وارفقي بي …» قالت: «إني مستعدة لما تريدينه. نعم أحب أن تكوني من نصيب الحسين بن جوهر ولكنني أفضل راحتك. فإذا كنت تظنين أني في قدرة على مساعدتك في شيء قولي.» فأطرقت وسبابتها على شفتها السفلى وهي تفكر وأم الأمراء تنظر إليها وتنتظر ما تقوله فإذا هي رفعت بصرها إليها وقالت: «إني أطلب منك أمرًا لا يصعب عليك إني أحب الذهاب إلى والدي لأراه وأُباحثه في الأمر الذي عُرض عليه اليوم؛ لعله إذا علم بما في خاطري يعفيني منه. وأنت تكملين فضلك في إرجاع أمير المؤمنين عن عزمه.» ففكرت أم الأمراء لحظة وهي تعلم أن زيجة لمياء للحسين يراد بها غرض سياسي لاكتساب قلب حمدون، فضلًا عن ملاءمة العروسين فلم تشأْ أن تعدها بإقناع زوجها لكنها طيبتْ خاطرها وقالت: «لك عليَّ ذلك … متى تذهبين إلى والدك؟» قالت: «الآن يا سيدتي … إني لا أستطيع رقادًا إن لم أره وأباحثه.» قالت: «كيف تذهبين الآن وقد داهمنا الظلامُ ووالدك في معسكره خارج المنصورية وقد أُقفلت الأبواب، ومثلك لا يؤذَن بخروجها من هذا القصر.» قالت: «أخرج متنكرةً وأنا لا أُبالي بالظلام إنما أطلب إليك أن تأمري بثوبِ أحدِ الصقالبة خدم القصر ألبسه وأخرج بحجة رسالة أحملها من أمير المؤمنين إلى صاحب سجلماسة.» ففكرت أم الأمراء لحظة ثم قالت: «ذلك هين علي، ولكنني أخافُ أن يستغشك الخفرُ على الأبواب.» قالت: «لا تخافي.» فقالت: «ها أنا ذاهبة إلى حجرتي وبعد قليل تعالي إليَّ تجدي الثوب حاضرًا.» فأكبت على يدها لتقبلها شكرًا على هذا الصنيع. فمنعتْها أم الأمراء من ذلك وتركتها وخرجت.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/13/
المعارضة
فمكثت لمياء برهة ثم مشت إلى أم الأمراء فرأتها قد أعدت الثوب فلبسته وأصلحت من شأنها حتى لا يشك من يراها أنها غلام صقلبي وودعتها. فأرشدتها إلى الطريق الأقرب المؤدي إلى باب البلد. فمشت وهي ثابتة القدم لا يعتريها خوف. فمرت في الحديقة لا يستغشها أحد وأهل القصر مشغولون في مهامهم حتى وصلت باب البلد فإذا هو موصَدٌ والخفر وُقُوف عنده بأسلحتهم. فطلبت إليهم أن يفتحوا لها الباب؛ لأنها ذاهبةٌ في مهمة مستعجلة إلى معسكر صاحب سجلماسة. ففتحوه ولا يشك أحد منهم أنها رسول صقلبي. ففرحت بانطلاء حيلتها وخرجت فإذا هي في الخلاء. ونظرت نحو معسكر والدها فعرفت مكانه من النار الموقدة عنده فمشتْ بسرعة والظلام حالكٌ والمكان خالٍ وكل شيء هادئ. فلم تمش يسيرًا حتى رأت شبحًا طويلا يدنو منها وعليه عباءة سوداء قد التف بها ومشى نحوها بهدوء فتحولتْ عن جهته لئلا يعترضها. فإذا هو قد وقف لها ونادى: «من الرجل؟» فقالت: «رسول من أمير المؤمنين إلى هذا المعسكر.» فقال: «قف عندك.» ولما سمعت الصوت اقشعرَّ بدنُها؛ لأنها تذكرت صوتًا تعرفه لكنها تجلدت وتجاهلت وقالت: «دعني … إني سائر لأمر مستعجل.» فناداها قائلًا: «لا يخرج الرسل من هذا القصر ليلًا.» قالت: «إنها رسالةٌ هامةٌ مستعجلةٌ وقد رآني الخفر بالباب ولم يعترضوني.» قال: «أنا أعترضك … قف عندك أو تعال معي إلى النور لأرى وجهك … إني أعرف غِلمان القصر جميعًا.» فتحيرتْ في أمرها وتفرست بمخاطبها وأخذت تفكر فيمن عساه أن يكون وصوته يشبه صوت الحسين بن جوهر واستبعدت أن يكون هو هناك وليست الخفارة مِن شأنه. فتجاهلتْ وظلت ماشية وهي تقول: «إني ذاهبٌ في مهمة سرية لا يجوز للخفر أن يطلع عليها ولا أن يعرف من أنا.» قال: «إذا كان ذلك لا يجوز لسواي فهو جائزٌ لي.» قال ذلك ومد يده يريد أن يمسكها من يدها فنفرت منه وخبأت يدها وراء ظهرها وقالت: «قل لي من أنت قبلا.» قال: «أنا الحسين بن القائد جوهر.» فلما تأكدت أنه هو بعينه ارتج عليها ولم تخف على نفسها منه لكنها خافت كشف سرها. فحولت وجهها عنه ومشت وهي تقول: «لا نعهد الحسين بن أكبر القواد ينتحل مهنة الخفر ليتعرض لرسول أمير المؤمنين … دعني وشأني وإلا فإن تأخري تعود عاقبتُهُ عليك.» فاعترضها وهَمَّ أن يمسك يدها فأفلتتْ يدها منه بجسارة فقال لها: «ليس مِن شأنك أن تعين لكل إنسان مهمته. نحن جميعًا نخدم مصلحة أمير المؤمنين نضرب بسيفه ونخفر قصره. دع عنك ذلك واتبعني وإذا كنت رسولًا كما تزعم فلا خوف عليك بل أكون لك عونًا في إبلاغ الرسالة.» فلم تجد لمياء بُدًّا من الطاعة فقالت: «ها إني واقف ما الذي تريده مني … اكشف اللثام عن وجهك أولا ثم خاطبني.» فأزاح اللثام فإذا هو الحسين بعينه فخفق قلبها واستغربت تلك المصادفة وقالت: «نعم أنت مولانا الحسين بن القائد جوهر فما الذي يريده مني؟» قال: «إني لا أرى وجه صقلبي ولا أسمع صوت صقلبي إني أسمع صوت امرأة.» فضحكت استخفافًا، وقالت: «أرأيت كيف أنك مخدوع؟ فحسبتني امرأة وأنا غلام؟» قال: «إذا كنت غلامًا صقلبيًّا فاصدقني ولا تخف.» فتماسكت لمياء ولم تجد بُدًّا من التصريح فقالت: «تأملْ في وجهي جيدًا» فتفرس فيها على شعاع النور وقال: «أنت فتاة … وكأني رأيت هذا الوجه في صباح هذا اليوم … ألست لمياء بنت صاحب سجلماسة؟» فلم تطاوعها نفسها على الإنكار فقالت: «نعم أنا هي وما الذي تريده مني؟» فتنهد وابتسم، ثم قال: «إن ما أُريده منك ليس هنا محل الكلام فيه يا لمياء. ولكنني أطمئنك أنْ لا خوف عليك مني لسبب سوف تعلمينه ولكنني أعجب لخروجك في هذا الليل متنكرةً ومثلك لا يؤذَن لها في الخُرُوج من قصر أمير المؤمنين! كيف خرجت؟» قالت: «ألم أقل لك إني خارجة في مهمة لصاحب سجلماسة.» قال: «أنت ذاهبة إلى أبيك.» قالت: «نعم … ها قد قلت لك … فأنت وشأنك.» قال بلحن التودُّد: «إن شأني شأن المأمور المطيع يا لمياء، ولو كان الخارجُ في هذا الليل سواك لكانت حياتُهُ في خطر. وأما أنت فإني في خدمتك حتى ترجعي إلى مأمنك، إنما أرجو أن تذكري هذا لي إذا ذكرت به.» فشعرت أنه يحمِّلها فضلًا سيطالبها به يومًا ما فقالت: «لم أخرج من هذا القصر في هذا الليل وحدي وأنا خائفة من أحد. فإذا شئت أن تبقى على اعتراضك فإني لا أبالي.» وكان الحسين قد علم في ذلك النهار أن أباه وأباها زارا المعز وأنه خطبها له من أبيها ورضي أبوها. ولكنه كان على يقين أنها لم تطلع على شيء من ذلك بعد. وتوسم في اجتماعها بوالدها في تلك الساعة خيرًا لنفسه إذ يبلغها أبوها ما كان من طلب أمير المؤمنين لها باسم الحسين، فقال: «قلت لك إن شأني معك أن أكون في خدمتك حتى تبلغي مأمنك وتشاهدي والدك. ولعلك وأنت راجعة يتغير لحن خطابك معي.» فأدركت كل ما جال في خاطره وفهمت ما يُشير إليه لكنها تجاهلت وقالت: «إني لا أقدر أن أذكر ابن القائد جوهر بعد هذه المكارم إلا بالشكر والثناء في كل حال فهل تأذن بانصرافي الآن؟» قال: «نعم ولكنني أكون في خدمتك لئلا يعترضك سواي فإن في هذه الطرق خفراء آخرين أقامهم والدي سرًّا لزيادة الحرص على سلامة أمير المؤمنين. ولا أحب أن يعرف أحدٌ منهم ولا سواهم بخروجك ولا أُريد أن يخاطبك أحد ولا أن يقول لك كلمة ولو كانت سلامًا واحترامًا … إني أكثر حرصًا عليك منك …» قال ذلك بلحن الحب. فظلت على تجاهلها وقالت: «بارك الله فيك فأنا واثقة بمروءتك وأحب أن تكتم ما رأيت عن كل أحد كأنك لم تشاهد أحدًا.» فاستأنس بهذه الوصية واستدل بها على ميل نحوه وقال: «قلت لك إني أحرص منك عليك … وهذا يكفي.» فلم تجبه ولكنها مشت ومشى هو في أثرها عن بعد حتى دنت من معسكر أبيها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/14/
أبو حامد
وكان ذلك المعسكر خيامًا مضروبة أكبرها فسطاط الأمير فلما دنت من الفسطاط صاح بها رجل من الواقفين للحراسة: «من القادم؟» فظلت على تنكرها وقالت: «رسولٌ من أمير المؤمنين إلى الأمير حمدون.» فنظر في أثوابها فحسبها غلامًا صقلبيًّا فدخل ليستأذن لها بالدخول. وكان حمدون قد عاد في ذلك بعد مثوله بين يدي الخليفة وصدرُهُ مملوءٌ بالأماني واختلى بصديقه أبي حامد مدة طويلةً ودعاه للعشاء معًا فقضيا ساعاتٍ وهما يتسارَّان لا يأذنان لأحد في الدخول عليهما. فلما دخل الحرس يستأذن لرسول من عند أمير المؤمنين قال حمدون: «ماذا عسى أن يكون من أمر هذا الرسول؟ فليدخل.» فدخلت لمياء ولم تقع عين أبيها عليها حتى عرفها فهَمَّ أن يناديها فأشارت إليه بالسبابة على فمها أن يكتم أمرها. فأشار إلى الحاجب أن يخرج ويبعد سائر الحُجَّاب عن الفسطاط. وكان فسطاط الأمير حمدون خيمة كبيرة من الأدم المدبوغ بلون أحمر وقد فُرشت ببساطٍ كبيرٍ حمله معه من سجلماسة وهو في الأصل مجلوبٌ من إسبانيا مما كان أمراء الأندلس يفرشونه في قصورهم؛ لأنه كان وهو أمير يقلدهم بأسباب المدنية. والخيمة قائمة على ستة أعمدة علقوا عليها الأسلحة والدروع وأُنيرت أطرافُ الفسطاط بالمصابيح. فدعا لمياء للجلوس على وِسادة بجانبه وأخذ يرحب بها وأبو حامد إلى جانبه الآخر، وهو كهل قصير القامة دقيق العضل كبير الرأس بارز الجبهة خفيف اللحية قد برز فَكَّاهُ ونتأت سناه المتوسطتان مِن فكه الأعلى نتوءًا كثيرًا وافترقتا. وله عينان غائرتان متقاربتان تبرقان دهاءً ومكرًا كأنهما مصباحان متجاوران قد اختلط نورُهُما. وفى إحداهما انحرافٌ نحو الأعلى وبينهم أنف كبيرٌ أعقفُ كأنف النسر وقد أرسل شاربيه على شفتيه ليخفي سنيه البارزتين. وأهمل لحيته الخفيفة بلا تمشيط. وكان قد تخفف بلباس الليل وغطى رأسه بعرقية سوداء زادت تلك السحنة غرابة. إذا لقيه الرجل استخف به واحتقره فلا يلبث أن يخاطبه حتى يهابه لقوة عارضته وفصاحة لسانه. فلما رأى حمدون يرحب بلمياء شاركه في الترحاب وهش لها وسبق والدها إلى مخاطبتها فقال: «بارك الله فيك لقد جئت في إبان الحاجة إليك … ولكن ما الذي جاء بك في هذا الليل؟» فضحك أبوها وقال: «يظهر أن روحنا خاطبت روحها عن بعد فلبت الطلب.» فقالت لمياء والاهتمام باد في عينيها البراقتين: «جئت يا سيدي لأمر همني كثيرًا.» قال وهو يبتسم: «ولعلهم أنبئوك بما دار بيننا وبين المعز في هذا الصباح!» قالت: «لم ينبئوني ولكنني سمعت الحديث في أذني.» فتصدى أبو حامد للكلام قائلًا: «أهنئك يا لمياء بهذا النصيب الحسن.» فنظرت إليه نظرة عتاب وقالت: «وأنت تقول ذلك أيضًا؟» قال: «كيف لا أقوله؟» ونظر إلى أبيها كأنه يستشيرُه. فقال حمدون: «نعم يحق لنا أن نهنئك يا بنية؛ فإن هذا النصيب لا يتأتى لأحد من أهل القيروان.» فالتفتت إلى أبي حامد وقالت: «وسالم؟» وهي تتوقع أن تفحمه بذلك الاعتراض. فقال: «سالم؟ حتى سالم يفرح لك بهذا النصيب …» فدهشت لهذا الجواب وقالت: «سالم؟ لا. لا. لا أظنه يفرح ولا أنا فرحت به.» فالتفت أبوها إليها لفتة استغراب وقال: «وأنت لم تفرحي به؟ يا لله ما الذي تتوقعينه أحسن من هذا؟» قالت: «أتوقع أن …» وغلب عليها الحياءُ فسكتت. فقال أبو حامد: «إن كنتِ ترفضين هذه النعمة مراعاة لخاطر سالم فأنا أضمن ارتياحه إليها.» قالت: «سالمٌ لا يرضى أن أكون لسواه؟ كلا.» فضحك أبو حامد مِلْء فيه وهز رأسه باستخفاف وقال: «يظهر أنك تنظرين إلى هذا الزواج من وجه واحد فقط.» فاستغربت هذا التعبير وقالت: «وهل ينظر في هذا الأمر من عدة وجوه؟» فأخذ حمدون وأبو حامد ينظر كُلٌّ منهما إلى صاحبه ويضحك. وأغرق أبو حامد في الضحك حتى كاد يستلقي على قفاه وقد برز سناه من بين شعر شاربَيه. فشق ذلك على لمياء فابتدرها أبوها قائلًا: «ألا يكفي لقبولك بهذا النصيب أن يكون قد تم الاتفاقُ عليه بين أبيك وأمير المؤمنين؟ وإذا كنت لا تبالين بخاطر والدك ألا تهابين أمر الخليفة؟» قال ذلك بلحن العتاب والتوبيخ. فخجلت من هذا التعريض لكنها لم تقتنعْ فسكتت وأطرقت وفي سكوتها إنكارٌ لما يطلبونه منها. فتَصَدَّى أبو حامد وهو يُظهر التلطفَ والاهتمام ويتشاغل بإصلاح طاقيته وقال لها: «أنا لا أشك في تعقُّلك وحكمتك؛ ولذلك فأنا أخاطبك بصراحة … أؤكد لك لو كان سالم هنا الآن لَأَمرك أن تطيعي والدك وتقبلي بما عرض عليك؛ ليس؛ لأنه لا يحبك ولكنه يرجو من ذلك خيرًا لنا جميعًا.» فلما سمعت قوله استغربت ما فيه من التلميح ولم تفهمْ مراده وهي تعلم أَنَّ سالمًا إذا كان يحبها كما تحبه لا يرضى أن تكون لسواه ولو أُعطي مال العالم كله … ولم تفهم ما هو النفعُ الذي يرجوه مِن قبولها. فوقعتْ في حيرةٍ وظلت ساكتة وقد بان الارتباكُ في عينيها فتنحنح أبو حامد فنهض والدها وخرج من الخيمة وهو يظهر أنه يريد حاجة عرضت له. فبقيت لمياء مع أبي حامد فتوجه نحوها باهتمام وقال: «أرجو أن تكوني قد فهمت مرادي.» فرفعتْ بصرها إليه، وقالت: «كلا يا سيدي … أعترف لك أني لم أفهم مرادك. وأنا أعلم أن سالمًا إذا كان يحبني — كما تقولون — لا يمكن أن يرضى بهذا الأمر … أقيس ذلك على نفسي.» وأطرقت وقد توردتْ وجنتاها من الخجل وأخذتْ بإصلاح المنطقة حول خصرها كأن ثوب الصقالبة قد ضايقها؛ لأنها لم تتعودْه. فقال أبو حامد وهو يخفض صوتَه كأنه يسر إليها أمرًا هامًا: «إني أجل ذكاءك عن أن يخفى عليك مرادنا … أم أنت الآن راضيةٌ بالقعود أسيرة كالجارية في بيت ذلك الأمير المغرور.» قال ذلك وفي صوته لحنُ الاحتقار. فتذكرت لمياء ما كانت تعلمه من نقمته على المعز قبل أن تغلب عليه. ولكنها كانت تحسبه غَيَّرَ عزمه واقتنع بما صار لعجزه عن مناهضته. وأحست لما سمعت أسلوب تعبيره بغيرة هبت في صدرها للدفاع عن نفسها وعن المعز فقالت: «لم أكن أتوقع منك يا عماه ما سمعته فما أنا جارية ولا المعز مغرور.» فقال: «لله أنت ما أطيب سريرك، إنهم خدعوك حتى حولوا قلبك عن والدك وأهلك وصرت تجدين الأسر عزًّا والذل سعادة … أين أنفة لمياء راعية الجواد الأدهم سليلة آل مدرار أصحاب سجلماسة؟ أم غَرَّكِ ما ناله أولئك من الظفر صدفة؟ إنهم غير أهل للملك والتحكم في الرقاب … ألم تري منازلهم لا تتميز عن منازل العامة يجلس أميرُهُم على اللبود ويلبس كسائر الناس؟ أين أبهة الدولة التي كانت لوالدك وأجدادك؟ إن آل مدرار وحدهم أهلٌ للسيادة وبهم وحدهم يليق الملك … أقول ذلك وما أنا لسوء حظي منهم ولكنني أعرف منزلتَهم ولا غرض لي غير الانتصار للحق، ولو كان والدك هنا لاتخذ هذه الحرية بمخاطبتك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/15/
التحميس
وكانت لمياء تسمع وتعجب ولم تستطعْ صبرًا على السكوت فقالت: «أراك يا عماه قد بالغتَ في التقريع ولا أرى حاجة إلى ذلك … إن المعز لدين الله لم يبلغ ما بلغ إليه من سعة الملك إلا لأنه أحق بهذا الأمر بما له من النسب الشريف؛ إنه من أبناء بنت الرسول وقد حاربَنا وحاربْناه ولو كان الحق في جانبنا لظفرنا به. كنت في مقدمة المحاربين المدافعين ولا أزال أحب الاستقلال، ولكنني لا أجد إليه سبيلا. وهذا أميرُ المؤمنين قد أكرم وفادتنا وأَحْسَنَ الظنَّ بنا وأخلصنا النية، فلا ينبغي أن نخونه.» فضحك ثم قطع ضحكته فجأة وقال: «لم أستغرب من قولك إلا اعتقادك صحة النسب الذي يدعيه هؤلاء لأنفسهم … أنا أعلم الناس بأنسابهم ولكن الإنسان إذا تغلب انتحل النسب الذي يريده. أما قولك إنهم تغلبوا وإن ذلك دليلٌ على حقهم في الخلافة فهو منقوض؛ لأنهم لم ينالوا هذا الأمر ببطشهم وأنت تعلمين أن أبا عبد الله الشيعي هو الذي سلم إليهم هذا السلطان وأنصاره هم أهل هذه البلاد. ثم كافأه هؤلاء الخلفاء بالقتل … أليس كذلك؟ وتقولين مع هذا إنهم أكرموا وفادتنا وأحسنوا الظن بنا؟ ما الذي أكرموكم به وقد سلبوكم سلطانَكم واغتنموا أموالكم ونهبوا منازلكم يكفي ما أخذوه من قصرك من التحف والأثاث والرياش، أين جوادك بل أين مرآتك الذهبية التي كانت في غرفتك؟ أين حاضنتك التي كانت تعتني بلبسك وتدبير شئونك أين ماشطتك ومربيتك ألم يكن الخدم عشرات في منزلك وإذا ركبت وقفوا وإذا مشيت تطامنوا وإذا أمرت أطاعوا. وكنت الملكة الآمرة الناهية لا يسمع في القصر غير أمرك ونهيك؟ نسيت كل ذلك وأعجبك أن تكوني رهنًا عند هذا الرجل وتقولين إنه أكرمك وأحسن وفادتك؟ إنهم لم يكرموا أحدًا مثل إكرامهم أبا عبد الله المأسوف عليه ثم قتلوه غدرًا …» قال ذلك وغص بريقه وكاد يشرق بدموعه. فتأثرت لمياء من خطابه وكانت تعلم غدر الفاطميين بأبي عبد الله لكن تعلقها بطهارة نسبهم كان يحببهم إليها مع اعتقادها عجز والدها عن التغلب وخُصوصًا بعد ما شاهدته من لُطف المعز وامرأته وقائده وسائر أهل ذلك القصر. على أنها لَمَّا سمعت تذكار سابق عزها ومجدها وشرف أسرتها وفخامة ملكهم تنبهتْ فيها شهوةُ الملك ونعرة السيادة فخفت لهجتها في المقاومة وأرادت أن تباحث أبا حامد في الأمر وهي لا ترى بأسًا من ذلك فقالت: «إن ما قلتَه صحيح لا شك فيه لكن ما الفائدة منه ونحن لا حول لنا ولا طول و…» فقطع كلامها قائلًا: «هذا شيء آخر سنبحث فيه وقد سرني أنك رجعت إلى ما هو جديرٌ بك من المحافَظة على شرف أبيك وعِز الملك. أنتم آل مدرار توارثتم السيادة كابرًا عن كابر. وأحرزتم الملك بحد السيف لا بالحيلة وادعاء النسب الشريف.» فتحيرتْ لمياءُ لِما سمعتْه من التناقض فقالت: «إذا كان الأمر كذلك فما بالكم ترغبونني في ابن ذلك القائد وهو مولى بن مولى وعنفتموني على ترددي في أمره؟!» فابتسم وقال: «إن شعرةً مِن رأسك تُساوي ملك هذا الخليفة وكل قواده … إن ذلك الطالب لا يساوي قلامة من ظفرك …» فاستغربت قوله وظنتْه يمزح فقالت: «لم أفهم مرادك يا سيدي.» فقال: «مرادي؟ ألم تفهمي مرادي؟ وعهدي بك الذكاء أو لعلك تتجاهلين … أتظنين سالمًا يرضى أن يحظى بك أحد من العالمين وهو حيٌّ؟» فازدادتْ دهشتُها وقالت: «قلت لكم ذلك فغضبتم عليَّ، لكنني لا أزال جاهلة مرادك …» فضحك ونظر نحو باب الخيمة وهَمَّ كأنه يتحفز للنهوض. فالتفتت ورأتْ أباها داخلًا ومعه رجلٌ ملثمٌ ملتفٌّ بعباءة لا يبدو منه إلا عيناه. فلم تعرفْه وابتدرها أبوها قائلًا وهو يهش لها: «ألعلك لا تزالين على تمسكك بالرفض ومقاومة أمر الخليفة وإرادة والدك.» قال ذلك وهو يتقدم حتى جلس في مكانه والرجل الملثم واقف بجانب أحد أعمدة الخيمة كأنه متكئ عليه. فشغل خاطرها به وخافت أن يكون في الأمر دسيسة لكنها لم تستغش والدها. ولما سمعته يطرح ذلك السؤال عليها قالت: «ولكن العم أبا حامد يقول إنكم تبخلون بي حتى على الخليفة ولا تعطون شعرة مني بكل مُلكه.» فضحك ضحكةَ تهكم وقال: «هل قال لك ذلك؟ هل صدقته؟ لا. لا. كيف نخرج من أسر أمير المؤمنين … كيف نُنكر فضله علينا؟ إننا مدينون له بحياتنا.» قال ذلك وتنحنح ونظرت لمياء في وجهه فرأتْ في عينيه معنًى غير الذي نطق به لسانه. والعين أصدق تعبيرًا من اللسان، فعلمت أنه يتهكم ولكنها تجاهلتْ وقالت: «لقد حيرتموني في أمري فلا أدري مَن أُصدق!» ونظرت إلى والدها فرأت الغضب في عينيه وهما تكادان تقدحان شررًا وشارباه يرقصان في وجهه وقد تعودت ذلك فيه إذا اشتد غضبُه فتهيبت وأثر منظرُهُ فيها وتَوَقَّعَتْ أن تسمع جوابه فرأته نهض مسرعًا وهو يتعثر بحمائلِ سيفه وأردان جُبَّتِهِ ومشى على البساط مشية ملك يتخطر تيهًا وعجبًا وليس في قدميه نعال — وكان قد نزعهما بباب الفسطاط كالعادة — فالتفتت نحوه وهي تراعيه في تخطره وتنظر خلسة إلى الرجل الملثم وقد ازدادت دهشة ولبثت صامتة. ووقع نظرها على أبي حامد فرأته ينظر إليها ويشير بسبابته على شفته السفلى أن «اسكتي لنرى.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/16/
عز الملك
أما حمدون فبعد أن خطر مرتين ذهابًا وإيابًا وهو يلاعب شاربيه وسيفه يجر على البساط وقد انحرفت عمامته من مكانها ولم ينتبه لها من الغضب وقف بين يدي لمياء وقال: «لمياء يا لمياء إلى متى تتجاهلين ومثلك لا يحتاج إلى إيضاح هل تصدقين أن أباك أمير سجلماسة سلالة آل مدرار السادة الفاتحين يرضى بمصاهرة عبد صقلي يُباع أمثالُهُ في الأسواق بدنانيرَ قليلة؟ هل صدقت أننا نعير طلب صاحب القيروان التفاتًا. وإنما نحن وافقناه حتى يتيسر لنا ما نريده … لا تكوني ساذجة وأنت ابنة حمدون صاحب سجلماسة قائدة الجُند في ساحة الحرب. ما أسرع ما نسيت مجدنا وملكنا نحن أصحاب سجلماسة ونُصاهر العبيد؟ لا يغرنك ما أُتيح لهم من النصر إنها فلتة لا تستقر لهم طويلًا … لا تستقر إلا ريثما توافقينني على ما أطلبه منك فيذهب ملكهم ونسترجع ملكنا. ونخضعهم لأسيافنا.» قال ذلك وهو يرتعش من الغضب. فتحمست لمياء وعادت إليها روح السيادة وحب الرئاسة وتأثرت مما ظهر من تحمس والدها لكنها أعملت فكرتها فلم تجد كلامه مبنيًّا على شيء واضح ثابت؛ لعلمها أنهم هناك كالأسرى عند المعز لدين الله وأن جند والدها وإن كثُر لا يُعد شيئًا في جانب جند المعز وأتباعه. ولكنها انصاعت لقوله بنفوذ الوالدية؛ فإن الولد كثيرُ التصديق لما يسمعه من والده ومعلمه ولو كان مستحيلا. ومع ذلك فهي لم تفهمْ حقيقة ما يريدونه من ذلك التناقُض فقالت: «صدقت يا أبتاه وهل ترى وسيلةً لإرجاع ما كان إلى ما كان؟ إني أبذل روحي في هذا السبيل.» فلما سمع قولها أكب عليها وضمها إلى صدره وقَبَّل رأسها وابتسم ابتسام من فاز بضالة كان يبحث عنها، وقال: «بُورك فيك من ابنة عاقلة … إنك جديرةٌ أن تكوني ملكة سجلماسة والملك سيئول طبعًا إليك؛ إذ ليس لي أبناءٌ سواك.» فأخذتْها عزة الملك وشغلتْها عن انعطافها إلى المعز وأهله وتذكرتْ ما كانت فيه من الرفعة والكلمة النافذة، وكيف كانت الرءوس تطأطئ لها واللحى ترتجفُ تَهَيُّبًا منها. فنهضتْ عن تَحَمُّس ووقفتْ بين يدي والدها قائلةً: «إنكم تخاطبونني بالألغاز والأحاجي. ما معنى هذا التناقُض قل يا أبتاه ما الذي تريدونه مني؟ وقبل كل شيء أحب أن أتحقق عدولك عن الرضا بطلب المعز لدين الله.» قال: «أما هذا فلا … لا أعدل عنه؛ إنها فرصة لا ينبغي أن نضيعها … إنها فرصة ثمينة لنيل مرادنا …» فلم تفهم قصده فقالت: «كيف تريدون أن أكون ملكة في سجلماسة وتطلبون إليَّ أن أتزوج أحد أتباع صاحب القيروان؟» فقطع كلامها قائلًا: «لا أعني أن تتزوجيه إن باعه أقصر من ذلك كثيرًا … كيف تتزوجينه وسالم حيٌّ؟ لو بلغ ذلك سالمًا ماذا يقول عنا بل ما يقول عنك وأنت راعية الجواد صاحبة السيف حامية حمى آل مدرار؟ أنا لا أعني بقبولك أن تتزوجي ذلك الرجل فعلًا … ولكننا نُريد أن يكون قبولك وسيلةً لاسترجاع ملكنا بكيفية سأشرحها لك، وإنما أُريد أن أعلم قبل كل شيء، هل فهمت مرادي؟» قالت: «ألم أفهمه بعد؟» قال: «إن مرادي أن نتخلص من صاحب القيروان وقائده … وإذا تخلصنا منهما لا يبقى في أفريقية كلها من يقف في سبيلنا ولا أن يمنع سيادتنا.» قالت: «وكيف نتخلص منهما؟» قال ويده على قبضة حسامه كأنه يستله: «نقتلهما.» فأجفلتْ وتراجعتْ واستغربتْ هذا التصريح وهي تعرف تهوُّر والدها واندفاعه ولم يكن يخطر لها أنه يتصور قدرته على هذا العمل ولكنها اعتقدتْ أنه لا يقول ذلك إلا وهو على ثقة من قدرته عليه. فالتفتتْ إلى أبي حامد — وكان لا يزال قاعدًا الأربعاء ويداه متصالبتان وقد أطرق في الأرض كأنه يفكر باهتمام — ثم حولت نظرها إلى الرجل الملثم بجانب العمود وقالت في نفسها: مَنْ عساه أن يكون هذا الملثم الذي شهد هذا التصريح الخطر لا بد أن يكون من الأقرباء وخطر لها أن يكون سالمًا نفسه وحالما خطر ذلك خفق قلبُها ولم تعد تستطيع صبرًا عن استطلاع الحقيقة فنظرتْ إلى والدها — وكان قد عاد إلى التمشي — فمشت نحوه حتى قبضت على يده وقالت بصوت ضعيف: «أراك تقول ما تقوله على مسمع من هذا الملثم فمن هو؟» قال: «ستعلمين حالًا … ولكن بعد أن توافقينني على ما قلته لك؛ إني لم أعد أستطيع صبرًا على الذل … يكلفوننا إذا دخلنا على صاحب القيروان أن نحييه تحية الإمارة وأن نؤمن على كل ما يقوله وأن ندعوَ له بطول البقاء وأن نقول له بأننا عبيدُهُ الطائعون. وإننا لَنضرب بسيفه ونجاهد في سبيله وإنه صاحب الحق في الخلافة. وإنه من نسل فاطمة الزهراء و… و… و… إن ذلك فوق طاقة البشر. نحن أصحاب سجلماسة من أجيال متوالية وقد تأصلت السيادة في عروقنا فلا نستطيع احتمال هذا الذل فإما التغلب وإما الموت.» فازدادت لمياء تحمسًا بهذا القول وتناستْ كل شيء في سبيل العود إلى مجدها وعِزِّها. وسرها فوق ذلك أنهم لا ينوون إكراهَها على القبول بابن جوهر بدلًا من سالم حبيبها. فاقتنعتْ بهذه النتيجةِ وفرحتْ لكنها لم تفهم سر ذلك التضاد إذ يريدونها أن تقبل الزواج بالحسين وهم لا يسمحون بشعرة منها له … كيف يتفق ذلك فقالت لوالدها «إن ما تطلبه يا سيدي هو غاية مرادي ولا بد من مراقبة الفرص للحصول عليه، أما الآن فأرجو أن تطاوعني على التخلص من طلبة المعز ليطمئن بالي.» فقطع كلامها قائلًا: «لن تسنح لنا فرصة أوفق من هذه.» قالت: «وأي فرصة تعني؟» قال: «قبولك بما طلبه صاحب القيروان … وقبل إتمام الزواج تذهب روحُهُ وروحُ قائده وابن قائده والسلام …» قال ذلك بعجلة ومشى مسرعًا إلى مجلسه وقعد وهو يفتل شاربيه وتركها واقفةً متحيرة، فأدركت بعض مراده ولحظتْ أنه يُريد أن يتخذ العقد عليها ذريعة للفتك بالمعز وقائده وابن قائده ولا يكون ذلك إلا غيلة. فأجفلت ولكنها تجاهلتْ ولم تَشَأْ أن تُباحثه في التفاصيل وإنما اقتنعت أنه وافقها على التخلُّص من الزواج بغير سالم — وعادت إلى التفكير بذلك الملثم وهو واقف كالصنم لا يتحرك فاقتربتْ منه وتفرستْ في عينيه ولم يكن ظاهرًا مِن وجهه سواهما وقد وقع نور المصباح عليهما فَأَبْرَقَتَا. ولم تتفرس فيهما قليلًا حتى اختلج قلبها في صدرها وصاحت: «سالم!» فمد يده إلى اللثام وأزاحه فإذا هو سالم بعينه. فلما بان وجهُهُ خجلت وأطرقت وتسارعت دقات قلبها وخارت قواها على عادتها معه وغلب الحياءُ عليها وأخذتْها البغتة؛ لأنها لم تكن تحسب سالمًا في تلك الديار فتراجعتْ وأطرقت.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/17/
التحريض
وكان سالم شابًّا جميل الخلقة ممتلئ الجسم وكانت قد أحبتْه كثيرًا فهي ترى فيه طبعًا كل الحسنات ولا ترى في الدنيا أجمل منه، وكانت قويةَ الإرادة مع كل إنسان إلا معه فإنها كانت أَطْوَعَ له من بنانه. فلما كشف وجهه وأطرقت قال لها: «بُورك فيك يا لمياء … كنتُ أعتقد أنك تحبينني ولكن ليس إلى هذا الحد. ولا فضل لك فإني أحبك مثل هذا الحب وأكثر … ولكن حبنا لا فائدة منه إن لم نسترجعْ مجدنا أو بالحري مجد والدك وسلطانه … بعد المسير على الخطة التي يرسمُها لك.» فلم تتمالكْ أن صاحت فيه: «وأنت أيضًا تريد أن أرضى بما عرضوه علي … عرضوا علي أن أكون لرجل سواك!» قالت ذلك وهي تتوقع منه أن ينكره ويعترض عليه فإذا هو يقول: «أُريد ذلك وقتيًّا … نعم أريد أن تُظهري قبولك به ونحن ندبر ما يلزم في حينه.» ومشى حتى قعد بجانب عمه أبي حامد وأشار إلى لمياء أن تقعد. أما هي فشغلها فرحها بتلك المقابلة عن كل خطر تتوقعه، ودهشة اللقاء تنسي المحبين كل شيء لاشتغال عواطفهم بالحاضر عن سواه. ورأى أبو حامد أن الطبخة أوشكتْ أن تنضج فبادر إلى إتمام معداتها فتزحزح مِن مكانه كأنه يستعد لحديث طويل ونظر في أطراف الخيمة ولسان حاله يقول: «هل يسمعنا أحد؟» فقال حمدون: «أنت في مأمن يا أبا حامد؛ لأني أمرت الحرس بالوقوف بعيدًا وأن يمنعوا أيًّا كان من الوصول إلينا.» فمسح شاربيه ولحيته بأنامله ونظر إلى لمياء باهتمام، وقال لها: «قد وصلنا الآن إلى الحد يا لمياء، هذا هو سالم صاحب الشأن وقد سمعت قوله، أنا غريب عن آل مدرار وإن كنت صديقًا لهم، ولكنني مستعد أن أبذل حياتي في سبيل نصرة الحق ومقاومة أولئك الخونة الذين نالوا هذه السيادة بالغدر والنفاق — كما تعلمين — فلا يغرك ما يُبدونه من التقشف باللباس والأثاث؛ فإن الذهب عندهم بالقناطير وإنما يموهون على الناس ليطيعوهم ثم يفتكوا بهم كما فتكوا بأبي عبد الله الشيعي.» وتنهد ثم عاد إلى الكلام فقال: «وهذا والدك صديقي الأمير حمدون أَوْلَى الناس بالإمارة ولا حاجة إلى دعوى كاذبة مثل دعواهم من الانتساب إلى فاطمة الزهراء وإنما يكفيكم الانتساب إلى آل مدرار وشرفُهُم معروفٌ لا يختلف فيه اثنان. لا تظني هذا الفكر حديثًا عندنا، ولعل والدك لم يقله لك ولكننا بحثنا فيه ونحن في سجلماسة ودَبَّرْنَا المهمات اللازمة للتغلُّب على أفريقية كلها ففسد تدبيرُنا لأسبابٍ قهرية وأفلح ذلك الصقلي وتغلب علينا ولكنَّ تغلبه لا ينبغي أن يُضعف عزمنا عن طلب حقنا. وقد تتوهمين أن رجالنا أضعف من أن يستطيعوا محاربة جُند القيروان! إن ذلك صحيحٌ بحسب الظاهر وقد ينخدع به غيرُ العارف، أما أنا فأؤكد لك أن هؤلاء الأمراء والمشائخ من كتامة وصنهاجة الذين يُظهرون الطاعة لهذا الرجل إنما يفعلون ذلك تَمَلُّقًا له، وهم يتوقعون فرصةً للخُرُوج عليه ولا بد مِنْ واحدٍ يبدأُ بهذا العمل فيتبعُهُ سائرُ الأمراء وتكون السيادة له فأحب أن يكون ذلك الشرف لوالدك؛ فإنه أَعْرَقُهُم حَسَبًا ونسبًا، فلا يكادُ ينهض حتى ينهضوا معه، فكيف إذا دَبَّرْنَا وسيلةً لقتل المعز وقائده وهما رُوح تلك القوة الموهومة، فإن القوم كلهم يأتون معنا، حتى أهل الخليفة أنفسهم؛ لأنهم ناقمون متحاسدون …» وتنحنح ومسح شاربيه بمنديله — تشاغل بذلك لحظة وهو ينتظر ما يبدو من لمياء. أما هي فكانت قد غلبت عليها شهوةُ الشرف وحب الاستقلال، وتذكرت ما كان لها من السيادة والأبهة في زمن والدها، فغشى ذلك على احترامها للمعز وحبها لأم الأمراء. وكان أبو حامد صاحب نفوذ في حديثه وسلطان في برهانه، فأقنعها كلامُهُ ورأت الحق في جانبه وتأثرت منه حتى شَغَلَها عن وُجُود سالم هناك. لكنها ما زالت ترى صعوبةَ ذلك العمل فظلتْ ساكتةً؛ لتسمع تمام الحديث وترى ما يراه سالم. وأدرك أبو حامد ما في خاطرها فقال: «إني أوجه الكلام لك يا لمياء لعلمي أنك عاقلة، وعليك المعول في هذا الأمر، فلا تغرك كثرة جند القيروان للأسباب التي قدمناها وعندنا مع ذلك جند يظهر عند الحاجة وعندنا أموالٌ مدفونةٌ لو أخرجناها لدهش العالم من كثرتها وهي مهيأةٌ قبل ولادتك وولادة سالم لمقاومة هؤلاء الغادرين وإرجاع الملك إلى أصحابه وليس في أفريقية أولى به من والدك.» فظهر لها من كلامه أُمُور كانت قد عرفت بعضها من أحاديثها مع سالم قبل الأسر — والمحب لا يؤتمن على سر لا يبوح إلى حبيبه فإذا شئت أن يبقى سرك مكتومًا احذرْ أن تستودعه محبًّا — لكنها أظهرت أنها لم تكن عالمةً بشيء من هذا القبيل إلا في تلك الساعة ونظرتْ إلى والدها فَرَأَتْهُ ساكتًا والتفتت إلى سالم فإذا هو ينظرُ إليها كأنه يتوقع أن يسمع رأيها فقالت: «إنكم تسعون في أمر هام تُقطع دونه الرقاب وتُزهق النفوس ولكن بذل الحياة في هذا السبيل لذيذ. إني يا عماه أبذل حياتي إذا كان في بذلها مصلحة لوالدي على أني أستميحكم عذرًا في كلمة أقولها وإن كنت فتاة ضعيفة العقل … أن ما تنهضون له من جمع كلمة القبائل تحت سلطان رجل واحد لم نسمع أنه تم لغير الخلفاء أصحاب النسب في قريش. إن الناس لا يخضعون لسواهم، حتى صاحب القيروان لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بهذا النسب سواء كان صحيحًا أو غير صحيح. وبغير ذلك لا يتم شيء و…» فقطع أبو حامد كلامها وهو يضحك ضحك الإعجاب بتعقُّلها وسداد رأيها، وقال: «بُورك فيك من حكيمة عاقلة؛ قد استدركت علينا أمرًا لم يستدركه أحد سواك ولا ينتبه له غير العقلاء الدهاة … صدقت، إن الأمراء لا تجتمع كلمتُهُم إلا باسم الدين، وهذا أمرٌ قد دَبَّرْنَاه وخابرنا بشأنه خلافة أرسخ قدمًا وأصدق نسبًا من هذه، كوني مطمئنة؛ لم يبق الآن إلا خطوة واحدة، وهي أن نتخلص من هذين الرجلين وثالثهما إذا أمكن، وهذا لا يتم إلا على يدك … لا أطلب إليك أن تباشري ذلك بنفسك وإنما يطلب منك أن تظهري أنك رضيت بابن جوهر ونحن ندبر ما بقي ونقول ما ينبغي.» فأطرقتْ هنيهة تفكر في ما رأته من الغرائب في تلك الليلة وكيف أتتْ وصدرها مملوءٌ من الإعجاب بالمعز والإخلاص له ولامرأته وما لاقاها به الحسينُ بنُ جوهر في الطريق من دلائل التعفف وصدق المودة وهي الآن تكاد تؤامر على قتلهم! فأجفلت وظهر التردُّد في عينيها فتلقاها سالم بالحديث قائلًا: «لم أكن أشك أنك لو طُلب منك أن تقتلي ذلك الرجل بيدك في سبيل إرجاع سلطة والدك لَفعلتِ، فكيف وهم إنما يطلبون سكوتك ورضاك؟ أطيعي؛ لئلَّا يُقال إنك وقفت عثرةً في طريقهم وأنا على يقين أنهم ظافرون، وسترين أن ما يبدو لك من مظاهر القوة في هؤلاء العبيديين إنما هو سحابةُ صيف.» وكان لكلام سالم وقعٌ خاصٌّ على أذني لمياء ولو خاطبها في أن ترمي نفسها في النار لَفعلت. فلم تجد بدًّا من إظهار الرضا واعتقدت أنهم على صواب، ومع ذلك تركت الأمر للمستقبل؛ فإن الوقت يفعل ما تعجز عنه حيلُ الرجال، فقالت لسالم: «إنما كنت أتمنع رغبة فيك عن سواك فإذا كنت تريد ذلك فأنا فاعلة.» فقطع كلامها بلحن الحب وقال: «لا أعني أن تقبلي إلى الآخر … ولكن اقبلي فإذا لم أستطع قَطْعَ الحبل قبل أن يقبضوا عليه فما أنا أهلٌ للحصول عليك، وتكونين قد حصلت على أعظم شاب عندهم.» قال ذلك وتنحنح وابتسم يُظهر المداعبة وهو بالحقيقة يعني ما يقول — وهو الواقع.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/18/
الرجوع
فتصدى والدها عند ذلك وقد سَرَّهُ اقتناعُ ابنته فقال: «بُورك فيك يا ابنة صاحب سجلماسة، انهضي الآن وارجعي إلى قصر المعز إذا شئت ومتى سئلت عن الرضا بالخطبة فاجعلي أنك رضيتِ لأن أباك وأمير المؤمنين رضيا … فهمتِ؟ هل أُرسل معك مَن يوصلك إلى المنصورة (قصر المعز)؟» فنهضت وهي تقول: «لا أحتاج إلى أحد.» فاعترض سالم على ذلك وقال: «كيف تذهبين وحدك في هذا الليل أنا أرافقك إلى هناك …» فتذكرت أنها لا تلبث عند خُرُوجها من معسكر أبيها أن تلتقي بالحسين بن جوهر، فكيف تجمع بين المتناظرين؟ فألحت على سالم أن لا يرافقها هو ولا سواه؛ لأنها أتت وحدها وتعود وحدها وهي متنكرةٌ بلباس خَدَم القصر ولا تخاف أحدًا. فقال لها أبوها: «ومع ذلك لا بأس من إرسال بعض الحرس في أثرك ولو عن بعد؛ لِأننا لا نعلم ما يحدث.» فاستحلفتْه أن لا يفعل فسكت وقَبَّلَها ووَدَّعَها وودعت سالمًا والعم أبا حامد — ولكُلٍّ منهم وداعٌ خاص على شكل خاص — وأصلحتْ هندامها وخرجتْ وقد اشتد الظلام والأرض خاليةٌ بين المعسكرين لا أنيس فيها. فمشت حتى خرجتْ من معسكر والدها فما لبثتْ أن رأت شبحًا يقترب نحوها عرفت حالًا أنه الحسين كان في انتظارها وجاء لتشييعها إلى المنصورة فأحست عند رؤيته بوخز في ضميرها واحتقرتْ نفسها؛ لأنها كانت منذ ساعة صادقةَ اللهجة شريفة النفس لا يخامر ذهنها غش أو خداع وهي الآن خادعةٌ غاشة، وهذا الشاب ينبغي أن تُظهر له أنها تُريده مكرًا وكذبًا وأصبحتْ تعد نفسها كالمؤامرة على قتله وقتل والده والخليفة المعز الذي هو ساهرٌ على سلامته يفديه بروحه. مرت هذه التصورات في ذهنها مرور البرق والحسين يمشي نحوها. فلما اقترب منها حياها باحترام ولم يزد على أن مشى بجانبها والإمام كالخادم المولج بإيصال مولاه إلى مقصد. فأكبرتْ منه هذا التلطُّف ولم تتمالكْ عَنْ أَنْ قالت: «لقد اتعبت نفسك يا سيدي في الانتظار طويلا في هذا الليل …» قال وهو يماشيها على مهل: «لم أتعب نفسي يا سيدتي؛ فإن ذلك فرض علي بل هو من بواعث سروري. كيف وجدت والدك الأمير؟ عساه أن يكون في خير!» قال ذلك وهو يشير إلى ما كان يتوقعه من أن يطلعها على خبر خطبته إياها ولم يكن يشك في أنها ستفرح به وتحسب نفسها سعيدة وأدركت هي غرضه من ذلك السؤال وأثر فيها تلطُّفُه كثيرًا فقالت: «إن والدي في خير، الحمد لله» وكانت تريد أن تزيد على ذلك أنه شاكرٌ راضٍ وأنه مشمول برضا أمير المؤمنين فلم تشأْ أن تكذب فاقتصرتْ على هذا الجواب المختصر. فحمل ذلك منها محمل الحياء فعمد إلى مداعبتها فقال: «يسرني أن يكون والدك مسرورًا ولكن يهمني أن تكوني أنت مسرورة أيضًا.» ففهمت مراده وشعرت بصدق طويته وخُلُوص نيته في حبها، وكيف هي تضمر غير ما تقول، فعظم ذلك عليها وشعرت بصغر نفسها وتلجلجت. لكنها تجلدت وأجابتْ «وأنا أيضًا مسرورة لما أراه من التفات أمير المؤمنين وأم الأمراء، إنها بالحقيقة قدوة الأميرات — حفظها الله.» وأراد الحسين أن يغتنم تلك الفرصة لمخاطبتها صريحًا بأمر الخطبة وليس هناك من يسمع، ومهما يكن من تحجب الفتيات عن طلابهن أمام الناس فإذا خلت إحداهُن بخطيبها يرتفع الحجاب ويتشاكيان. ولم يجد الحسينُ فرصةً أثمن من هذه ولا أَوْفَقَ منها وهما في غفلة عن الرقباء. ولم يكن يشك أبدًا أن أباها فاتحها بشأن خطبته، وأنها رضيت ولكن الحياء يمنعها من التصريح فعمد إلى تجريئها فقال: «أتشعرين يا لمياء بالسرور الذي أشعر به أنا؟» فشق عليها أن يفاتحها بالمشاكاة وأحاديث الغرام وهي فيما علمت من التردد والارتباك فقالت «لا أعلم مقدار سرورك ولا نوعه ولكنني أعلم أني مسرورة من حُسن وفادة أمير المؤمنين وأم الأمراء …» وأظهرت البغتة وهي تقول: «أظننا صرنا على مقربة من المنصورة فإني أرى أنوارها … فأشكرك شكرًا جزيلًا على تنازُلك يا سيدي فقد أتعبتك …» وهمت بفراقه فقال: «لا نزال بعيدين عن تلك المدينة وإن كنت ترين أنوارها فلا تتعجلي في الفراق، إلا أن أكون قد ثقلت عليك بالحديث، ولعلي تطوحت إلى وراء ما يجوز لي … سامحيني» قال ذلك بلحن العتاب. فخجلت لمياء وودت لو أنها لم تقابلْ أباها في تلك الليلة؛ لأنها كانت تعرف ما تُجيب على هذه الأسئلة بصراحة. فربما أجابت: أنها تحبه وتحترمه ولكنها مخطوبةٌ لسواه. أما الآن فمع اعتقادها أنها كذلك فهُم يطلبون منها إظهارَ رضاها به. وقد يهُون عليها إذا سألها عن ذلك الخليفة أو أم الأمراء وأما هو فيصعب عليها الكذب عليه وهي تشعر أنه يحبها من كل قلبه، فكيف تخادعه؟ ولما سمعت عتابه غلب عليها طيب عنصرها فقالت: «العفو يا سيدي إنك تُبالغ في توبيخي فهل أسأت الأدب في خطابك؟ أو كان ينبغي لي أن أعرف حَدِّي فأقف عنده؟» فغلبته في العتاب وأحس أنه أساء إليها وجرح إحساسها بكلامه فقال: «إني لا أستحق هذا التقريع يا لمياء، وإنما أنا أحتال في سماع كلمة تدل على رضاك وكفى.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/19/
صُدفة غريبة
فلم تجد لمياء خيرًا من السكوت المطلَق؛ لأن الكلام يجرُّ الكلام وهي لا تعرف ما تقول. وسكت هو تهيبًا من سكوتها. وهُما في تلك الحالة سمعا وقع حوافر فرس مسرع وراءهما فالتفتت فرأت فارسًا قادمًا من معسكر أبيها ولم يقترب منها حتى علمت أنه سالم فأجفلت من ذلك الاتفاق الغريب وخافتْ على سالم أن ينكشف أمرُهُ؛ لأن أهل قصر المعز يعلمون أنه غائب، والمعز يحب القبض عليه، وهو لم يلحق بها إلا مبالغةً في إكرامها لتثبت في وعدها وهم يبنون على ذلك الوعد العلالي والقصور، ولكنه أَظْهَرَ أنه جاء ليخفرها. فلما رأى الحسين بلبس الخفر وهو يمشى في خدمتها ظَنَّهُ من الحُرَّاس ولم يخطر له مطلقًا أنه الحسين بن جوهر نفسه. فوقعت لمياء في حيرة لكنها تجاهلت. أما الحسين فالتفت إلى الفارس وصاح فيه: «من أنت؟» فقال سالم «وما يعنيك من أمري؟ سِرْ في طريقك.» فقال: «بل يعنيني … قف حالًا.» وكان سالم قد وصل إلى لمياء فلم يجبه لكنه خاطب لمياء قائلًا: «لمياء من هو هذا الرجل الذي تُسايرينه.» فارتبكت في أمرها وهي لا تعلم هل يريدُ الحسين أن يذكر اسمه أم يحب أن يبقى مكتومًا. فتلجلجتْ في الجواب لحظة وهي تنظر إلى الحسين كأنها تنتظر أن يكون الجوابُ منه. أما هو فاستغرب خطاب الرجل بهذه الدالة على لمياء مما لا يكون إلا بين الأقرباء فتبادر إلى ذهنه أنه مِن أقاربها الأقربين فخَفَّ غضبه إكرامًا لها وسألها قائلًا: «من هو هذا ألعله من بعض أهلك؟» قالت: «نعم يا سيدي إنه من أبناء عمي ويظهر أنهم رأوني ماشية مع رجل لا يعرفونه فظنوا علي بأسًا فجاء أحدهم لنجدتي …» فوجه الحسين خطابه إلى سالم وقال: «لا تخف يا صاحبي إني صديق محب وأنا في خدمة ابنة عمك حتى أوصلها إلى مأمنها.» فلم يرض سالم بهذا الجواب؛ لأن لمياء متنكرة بلباس الصقالبة فكيف تَأَتَّى لهذا الرجل أن يعرفها ويماشيها على انفراد؟ فسبق إلى ذهنه سوء الظن فقال: «من أنت يا صاحب ألعلك متنكر مثلها ومن أخبرك أنها فتاةٌ وأنها لمياء؟» فاستنكف الحسينُ من لهجته في خطابه وهَمَّ أن يخبره عن حقيقة حاله لكنه فضل الكتمان؛ حفظًا لكرامة لمياء فقال: «أنا أيضًا في خدمة قصر أمير المؤمنين وعرفت بخروجها بمهمة إلى والدها الأمير فجئتُ لمرافقتها في ذهابها وانتظرتُ عودتها وها أنا معها إلى مأمنها — كما قلت لك.» فاستحسنتْ لمياء منه هذا الأسلوب وتوقعت أن ينتهي الجدال هنا؛ لكنها ما لبثتْ أن رأتْ سالمًا تَرَجَّلَ عن جواده وهو لا يزال ملثمًا ووقف بين لمياء والحسين وولى وجهه نحوها وقال لها: «لا حاجة إلى مُماشاة الخدم إني أسير في خدمتك … ألم أقل لك أني مزمع على إيصالك فأبيتِ؟» فتجلدت وهي تخاف أن يغضب الحسين لهذه الجسارة وقالت: «لم أرض أن يأتي منكم أحد معي؛ لأني على يقين من وُجُود هذا الرفيق.» قالت ذلك ومشت فمشى سالم بجانبها بينها وبين الحسين وهو يقول «لماذا لم تقولي لي عنه من هناك.» فاستثقلت ذلك الاعتراض وتحيرت في أمرها وقالت: «لم أجد حاجة إلى ذلك.» قال: «كيف؟ إنك بنت الأمير حمدون صاحب سجلماسة لا ينبغي أن يُستهان بك وأن يكون رفيقك في هذا الطريق المظلم أحد الغلمان … قولي له أن ينصرف وأنا أسير معك.» فارتبكت في أمرها وخافت أن يغضب الحسين ويجر الجدال إلى القتال أو إلى كشف أمر سالم. وصارت ترتعد من التأثر وهي لا تدري ماذا تعمل، فأجابه الحسين برزانة ولطف قائلًا: «إن مسيرك معها لا يخلو من الخطر عليك يا سيدي؛ لأن حراس المدينة يستغشونك وربما آذَوك أو قبضوا عليك.» فضحك ضحك الاستهزاء وقال بتهكُّم: «لا. لا يقبضون علي. فأنت لا تعرف من أنا سِرْ بطريقك ودعني …» قال ذلك ومشى وهو يقود الجواد وراءه وأومأ إلى لمياء أن تتبعه فأغضبها عناد سالم ولم تعرف كيف تتخلص من هذه الورطة وهي تتوقع أن يغضب الحسين ويفتضح أمرها. فرأته ظل ساكنًا فعلمت أنه سكت إكرامًا لها وصيانة لشرفها؛ لئلا يقال إنهم رأوه معها في ذلك الظلام. فتراجعتْ وقالت لسالم: «لا حاجة بي إلى من يحرسني وخصوصًا أني صرت على مقربة من السور بالله إلا رجعت وخليتني أسير وحدي.» فلم يجبها بل ظل ماشيًا، وظل الحسين واقفًا مكانه لا يُبدي حراكًا. ولم يمشيا يسيرًا حتى سمعا دبدبة وقرقعة وإذا بكوكبة من الفُرسان خارجين من السور مسرعين نحوهما فقالت: «لماذا فعلت بنا هذا يا سالم؟ إنني أخاف عليك … لأن الأوامر شديدةٌ في القبض على من كان يرونه خارج السور وأنت تعلم أن القوم يطلبونك فلا أُحب أن نفتح بابًا للقِيل والقال. عزمتُ عليك ألا رجعت من هنا … اركب جوادك إلى معسكر والدي …» فعظم عليه قولها واستخف بإنذارها وقال: «إنهم لن يدركوا مني وطرًا.» قالت: «ولكنهم ربما آذوني بسببك … بالله ارجع … ارجع … رباه ما هذا العناد!»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/20/
الشهامة
والتفتت نحو الحسين فلم تره فظنت الظلام حجبه لبعده فوقفت وأعادت التوسل إلى سالم أن يرجع فأبى خجلًا من نفسه أن يفر. فازدادت حيرتُها وقد دهمها الوقت؛ لأن الفرسان — وهم عشرة — أصبحوا على مقرُبة منها. وتقدم واحدٌ منهم وصَوَّبَ سنان رمحه نحوهما، وقال: «مَنْ أنتم.» فتصدتْ لمياء لهم وقالت: «إني رسول أمير المؤمنين — كما تعلمون.» فقال: «ومَن هذا» وأشار إلى سالم. فقالت: «أحد فرسان الأمير حمدون جاء لمرافقتي في هذا الطريق.» قال: «قد ذهبت بالرسالة بلا حارس … وكيف يحتاج غلام أمير المؤمنين إلى من يحرسه في بلده … وقد يكون هذا الرفيقُ جاسوسًا فلا بد من القبض عليه.» قال ذلك وأشار إلى رِفاقه الفرسان فأحاطوا بسالم وقد صَوَّبُوا الأسنة نحوه وأمروه أن يمشي أمامهم. وتقدم اثنان ليأخذا الفرس منه. أما سالم فانتتر منهما وصاح «اخسئوا. لا يقترب مني أحد إلا أرديته.» وهَمَّ أَنْ يَسْتَلَّ سيفه. فصاح فيه مقدمهم وقال: «لا تُتعبْ نفسك بالمحال إنك في قبضتنا، ولا نريد بك سوءًا وإنما نطلب إليك أن تدخل معنا وتمكث عندنا إلى الصباح فنعرضك على القائد جوهر فإذا أمر بإطلاقك أطلقناك وليس لك وجهٌ آخرُ.» فوقع الرعبُ في قلبه وندم؛ لأنه لم يُصغ لنصيحة لمياء ورفيقها ولكنه أكبر الرضوخ وهو يخاف أن يكون في القبض عليه خطرٌ على حياته، فوقع في حيرة. والتفت إلى لمياء لفتة استغاثة فتقدمت نحو الفارس وقالت: «ألا تعرفني أيها الفارس؟ أنا أضمن ما تريدونه. احبسوني مكانه إلى الغد وقدموني إلى القائد. وأنا المسئول لديه عن هذا الفارس.» فقال: «قد كان ذلك ميسورًا لولا ما أبداه من الوقاحة وهو ملثم ويَظهر من كلامه أنه من أهل سجلماسة فلا بد من القبض عليه.» قال ذلك وأشار إلى سالم إشارة التهديد أن يمشي أمامهم. فقال: «لا أمشي …» فترجل بضعةٌ منهم وهَمُّوا أن يوثقوه ولمياء تتقدم إليهم أن يتركوه، ولعلها لو كانت على جوادها ومعها سلاحها لم تُبالِ بهم. ولكنها كانت راغبةً في التستر ولعنت الساعة التي جاء بها سالم. وهي في ذلك وعيناها نحو الجهة التي تركت الحسين فيها وإذا بشبح يتقدم من تلك الجهة نحوها مسرعًا. فعرفتْ أنه الحسين فلبثتْ صامتةً لترى ما يكون وخافت أن يتعمد البحث عن سالم ويكشف وجهه. لكنها رأته حَالَمَا وصل إلى المكان صاح في الفرسان قائلًا: «خلوا هذا الفارس؛ فإنه من الأصدقاء.» فأجفلوا والتفتوا إليه وقالوا: «ومن أنت؟» فتقدم خطوة أُخرى حتى صار بينهم وقال: «اتركوه أنا أعرفُه.» فلما دنا منهم عرفوه من صوته فتلملموا وتأدبوا وتراجعوا وتقدم رئيسُهُم وتفرس في وجه الحسين وهو ملثم فلم يعرفْه وإن كان قد عرف صوته. فلما رآه الحسين يتفرس فيه أزاح اللثام عن وجهه وقال: «اتركوه.» فصاحوا جميعًا: «مولانا الحسين بن القائد جوهر! أنت هنا يا مولانا؟» وابتعَدوا عن سالم ورئيسهم يخاطبه قائلًا: «أرجو المعذرة يا سيدي لم أكن أعرف أن ابن قائدنا الأكبر يعرفك.» وأكب على يد الحسين يريد تقبيلها وهو يقول: «العفو أننا تجاسرنا …» فقطع الحسين كلامه قائلًا: «لا حاجة إلى الاعتذار فقد فعلتم ما عليكم، وستنالون الجوائز على سهركم. ولكنني أتفق أني أعرف هذا الفارس، وهو من الأصدقاء فأطلقوا سراحه.» واقترب من سالم وهمس في أذنه وقال: «ألم أقل لك إني أخاف عليك من حرس المدينة؟ لأنهم لا يعرفونك … ولا أنا أعرفك ولكنني صدقت شهادة هذا الرسول … سِرْ بحراسة الله.» ومد إليه يده ليصافحه مصافحة الصديق.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/21/
الفشل
فمد سالم يده وقد غلب على أمره وأخذ الخجل منه مأخذًا عظيمًا. واستغرب تلك المقابلة وكيف التقى بالرجل الذي كانوا يتحدثون عنه ويدبرون المكيدة له وخامرتْه الغيرة من الجهة الأُخرى ولم يفهم سببًا لوجود الحسين مع لمياء غير تواطؤهما على ذلك. وكيف يتواطآن على الاجتماع سرًّا في ذلك الليل هناك وهي تزعم أنها لا تُريده خطيبًا لها. فدارت الهواجس في رأسه لكنه لم يستطعْ غير إظهار الامتنان من محاسنة الحسين وكبر نفسه؛ وخصوصًا؛ لأنه لم يسألْه عن اسمه ولا طلب منه أن يكشف وجهه فوَدَّعَه ورجع ولم يصدق أنه نجا قبل انكشاف أمره. وأشار الحسين إلى الفرسان فرجعوا إلى السور وتقدم إلى لمياء وقال لها: «أفلت صاحبُنا بلثامه وهو يعتقد أنني لم أعرفه. وإنما أطلقته إكرامًا لك وحرصًا على كرامتك.» فأجفلت من قوله وأرادت أن تغالطه فابتدرها قائلًا: «أليس هذا سالمًا طلبة أمير المؤمنين إنهم يبحثون عنه ولو علم والدي بوجوده لبعث الجُيُوش للقبض عليه ولكنني رأيت فيك ميلًا إلى كتمان أمره فأطعتُك وأخليتُ سبيله رغم ما أبداه من الوقاحة، لا يخامرك شك في أني عرفته، وكيف أجهلُهُ وقد رأيته في حربنا مع والدك وتبارزنا في سجلماسة وفر مني؟ وها قد نجا الآن من أجلك، ولكنني أتقدم إليك أن تكتمي أمره وأحب أن لا يطلع أحدٌ على ما جرى.» فنظرت إليه نظر إعجاب وامتنان وقالت: «لقد غمرتني بفضلك يا سيدي وأشكرك على مروءتك وكرم أخلاقك … إنها أخلاقُ كبار القواد. وقد عرفت ذلك لك.» فمد يده نحوها وهو يقول: «إنها أخلاق المحبين … أتأذنين لي أن أُصافحك وأودعك.» فلم تستطع الرفض بعد أن غمرها بفضله مع ما أبداه من الأريحية وسعة الصدر وكبر النفس رغم ما كان من عجرفة سالم وخشونته فاحتمل منه الإهانة وصفح عنه وأنقذه من الموت وهو مع ذلك يطلب من لمياء كتمان ذلك حرصًا على كرامتها وكرامة رفيقها. فمدتْ يدها نحوه وهي لا تبدي غير الاحترام ولكنها شعرت عند المصافحة شعورًا جديدًا تَمَشَّى في مفاصلها. فأسرعتْ في جذب يدها منه وأظهرت أنه قد آن وقتُ انصرافها وأشارتْ برأسها إشارة الوداع وتحولت نحو المنصورية. فودعها هو بقوله: «بحراسة الله يا لمياء!» فارقتْه ومشتْ وهي تائهةُ الأفكار مِن هَوْلِ ما شاهدته. وقد قدرت مروءة الحسين حق قدرها وأَحَسَّتْ نحوه بشيء غير الإعجاب والامتنان. أحست بميل وانعطاف لم تشعر بهما من قبل لكنها غالطت نفسها وكذبت عواطفها؛ لأنها لا تريد أن يكون في قلبها محل لغير سالم حبيبها الأول. دخلت باب السور فوسع لها الحراس لاعتقادهم أنها غلامٌ صقلبيٌّ من غلمان القصر يحمل رسالة إلى أمير المؤمنين. وما زالت حتى دخلت القصر وسارت توًّا إلى غرفتها وقد انقضى معظم الليل. فدخلت الغرفة وأقفلت الباب وراءها كأنها تفر من شبح يطاردها. فلما خلت بنفسها لم تشأْ أن تُنير المصباح مبالغة في الانزواء والتستر — ولا باعث على التستر وهي في مأمن ولكن هواجسها حدثتها بذلك. وجدتْ نفسها تحاول عبثًا؛ لأنها تريد الفرار من شُعُور في داخلها لا يحجبه الظلام ولا تمنعه الأقفال، بل رأت الظلام يضاعف هواجسها ويجسم خوفها؛ لأنها لم تكد تقعد على الفراش حتى تَصَوَّرَ لها سالمٌ بأقبح الصور، رأته دنيئًا غادرًا خائنًا وقحًا جبانًا ورأت الحسين شهمًا فاضلًا واسع الصدر كبير النفس، فَاقْشَعَرَّ بدنُها وتوهمتْ أنها ارتكبتْ ذنبًا بذلك التصوُّر؛ لأن سالمًا حبيبها الأول وقد أحبته وتركت كل شيء لأجله وعرضت نفسها لغضب أبيها والخليفة حبًّا به فكيف ترى فيه تلك الخسة حتى يحملها على التواطؤ معه لقتل أَعْظَمِ الناس قدرًا وأفضلهم نسبًا ومروءة؟ وتذكرت كيف رجع سالمٌ في تلك الليلة مرذولًا بعد أن عرف أَنَّ خصمه هو الحسين بن جوهر، وبماذا عساه أن يعلل وجودها مع الحسين في ذلك الليل هناك؟ وراجعت ما دار بينها وبين والدها وأبى حامد من الحديث، فأظلم قلبُها ووَدَّتْ لو أنها لم تذهب في تلك المهمة. ولكنها صبَّرت نفسها إلى الغد؛ لترى ما يكون، وأخذت في تبديل ثيابها طلبًا للرقاد … وكيف تنام وهي في تلك الحال وقد تراكمتْ عليها الهواجسُ وأحست بصدمة عنيفة زعزعت أوتار قلبها وشوشت أفكارها. وأصبحت لا تجد راحةً إلا في النوم لعلها إذا أفاقت في الصباح وجدت ما مر بها حلمًا مزعجًا، وكثيرًا ما يقضي الإنسان أمثال هذه الاضطرابات في نومه وتظهر له في الصباح أضغاث أحلام. فتوسدت الفراش وتغطت إلى فوق رأسها وقضت تلك الليلة في أشد الاضطراب والقلق. أما سالم فلما انفرد بعد رجوعه أحس بصغر نفسه وعظُم عليه ما أصابه من الفشل بين يدي خطيبته وخصوصًا مع مُناظره عليها — وكان منذ ساعة يحرضها على احتقاره واحتقار والده وخليفته — وزعم أنه قاتلهم على أهون سبيل ليعيد الملك إلى والدها فتصير هي الملكة … وغير ذلك مما دار بينها وبينهم في تلك الليلة غير ما أظهرته هي من التفاني في حبه والثقة ببسالته. كل هذه الهواجس خطرت له وهو عائدٌ على جواده يمشي الهويناء ويتوهم — لفرط خجله — أَنَّ الحسين يتبعه، وأخذ يفكر في ما دار بينهما في ذلك الموقف ويزن أقواله ليرى هل فرط بكرامته وهل له عذرٌ مقبولٌ بذلك الرجوع البارد؟ وأخذ يئول ما قاله أو ما سمعه وينتحل الأعذار ويهيئ الأسباب ويقدِّر العواقب لو أنه ظل على جسارته. فاقتنع أنه أحسن بالرجوع محافظةً على كرامة لمياء وأنه لو تمسك بقوله وأراد تخليصها من أيدي أولئك القوم لانفضح أمرها وهي قد تقدمت إليه أن يقتصر ويعود. فارتاح عند هذا العذر السفسطي — وكذلك الإنسان قد يصدق المحال تبريرًا لعمله وردًّا لكرامته وحفظا لمنزلته عند نفسه. ولما اطمأن خاطره من هذه الوجهة عاد إلى التفكير في سبب تلك العلاقة بينها وبين الحسين حتى يصطحبها في ذلك الليل على موعد وتواطؤ. فلما تصور ذلك اقشعرَّ بدنُهُ وهَبَّت الغيرة في بدنه. والغيور سيئ الظن ويتعاظم سوءُ ظنه كلما تعاظم حُبُّه — قد يرى بعض الرجال رجلًا يخاطب امرأة في ريبة فيغار منه وتُحدثه نفسه أن يعترضه، وقد يسيء الظن به لكنه لا يلبث أن يلتمس عُذرًا ويحسن الظن. أما إذا كان الخطاب مع فتاة يحبها فإنه يبني العلالي والقصور على ما رآه أو سمعه ويتعاظم سوءُ ظنه كثيرًا ولا يقبل عذرًا. وكان سالمٌ يحب لمياء ويُعجب ببسالتها وجمالها ويرتاح إلى الاقتران بها، ولكنه لم يكن يعشقها كما كانت تعشقه هي، وإنما صمم على خطبتها لغرض سياسي سيظهر بعد قليل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/22/
الحقيقة
دخل سالم معسكر حمدون وتجاوز فسطاطه وهو لا يشعر، وكان في عزمه أن يعود إلى ذلك الفسطاط ليقص ما رآه على أبيها، فما شعر إلا وهو بباب خيمة عمه أبي حامد فأراد أن يثني عنان جواده نحو فسطاط حمدون وإذا بأبي حامد قد خرج من تلك الخيمة وأشار إليه أن يدخل فترجل ودخل. فرأى أبا حامد وحده هناك وقد أحمرت عيناه وبان الاهتمامُ في وجهه. وكان قد تعود أن يرى ذلك فيه إذا طال التفكيرُ في أمر عظيم. فلما دخل ابتدره أبو حامد قائلًا: «قد وصلنا يا سالم إلى الغرض المطلوب اقعد.» وأشار إلى وسادة على البساط فقعد وقعد أبو حامد إلى جانبه وهو يقول له: «أين كنت؟» قال: «ذهبت لأشيع لمياء إلى المنصورية وليتني لم أذهب.» فقال: «ولماذا؟» فقص عليه ما جرى من حيث وجود الحسين هناك وكيف كان في انتظار لمياء وقد رافقها على غير كلفة ولم يذكر فشله. فقال أبو حامد «وهل ساءك ذلك؟» قال: «كيف لا؟ وقد كنا منذ ساعة نتحدث في إقناعها أن تقبل به وهي تُظهر أنها لا تريده، فكيف تكون على موعد منه وترافقه في هذا الليل؟» فضحك ضحكة اغتصابية لا تلتئم مع ما كان فيه من الاهتمام، وقال: يظهر أنك لا تزال تهتم بهذه الصغائر … هل يحول ذلك الاجتماع دون غرضنا الذي أوقفنا حياتنا من أجله؟ كلا بل هو يُهَوِّنُهُ علينا، وخفض صوته وقال: «أم نسيت الغرض الأصلي من علاقتنا مع هذا الأمير المغرور؟» فسكت سالمٌ وأطرق كأنه يفكر في حديث دار بينه وبين أبي حامد من عهد بعيد. فقال أبو حامد: «لا أُنكر أن لمياء فتاةٌ شجاعةٌ وجميلة، وهي تجلك ولكن هل خطبناها؛ لأننا لم نجد بين نساء هذه القبائل من يليق بك؟ إنك ستجد خيرًا منها ولا سيما بعد أن ننال بغيتنا ونتخلص من أولئك الخائنين … كن رجلًا واعملْ عمل الرجال وانظرْ إلى الغاية التي نحن سائرون إليها. يكفي أننا أقنعنا هذه الفتاة أن تمهد لنا السبيل لقتل ذلك الرجل وقائده، فإذا قتلناهما لا يبقى لهذا الغلام حظٌّ من الحياة فتكون لمياء لك عند ذلك.» وسكت وهو يتلفت يمينًا وشمالا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، وقال: «ألا تعلم متى تزوجت لمياء بعد ذلك كنت أنت صاحب القيروان؟» وكان لأبي حامد سلطة عظيمة على أفكار سالم، فإذا قال قولًا صدقه — ولو كان مستحيلا — لكنه أحب الاستفهام فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «ما هو الغرض الذي أوقفت حياتي من أجله؟» قال: «هو الأخذ بثأر أبي عبد الله، المقتول ظلما.» قال: «وهل نكون قد أخذنا بالثأر إن لم نُخرج هذا السلطان من أيدي هؤلاء الخونة؟» قال: «أنت أعلم.» قال: «أنا أقول لك إن عظام أبي عبد الله — رحمة الله عليه — تُنادينا من ظلمة القبر أن نأخذ بثأره ونُخرج الملك من أيدي هؤلاء الخائنين، وأنت تعلم أننا كنا ندبر ذلك قبل أن يؤخذ صاحب سجلماسة أسيرًا. وكنت أحسبه رجلًا يعول عليه في العظائم فإذا هو ثرثارٌ مغرورٌ بنفسه يقول ما لَا يفعل، وليس هو أهلًا لغير الادعاء الفارغ ولا يغرك ما سمعته مِن إطرائي أجداده ومبالغتي في مدحه … لو كان رجلًا لَمَا صار إلى الأسر واضطر إلى طاعة هذا الرجل. وإنما أنا أداجيه لنستخدم ابنته في تمهيدِ السبيلِ لقتل المعز وقائده فنجعله صاحب القيروان، وإذا تزوجت أنت بابنته وهو ليس له ذكرٌ يرثُهُ صارت الإمارة إليك أو نجعلها إليك قبل موته بما أعددناه من الأحزاب والأموال وسائر المعدات … وعند ذلك نكون قد انتقمنا لذلك المقتول.» ورغم ما غُرس في ذهن سالم من مقدرة أبي حامد العجيبة لم يَفُتْه ما يحول دون الوصول إلى تلك الغاية من العقبات، فقال: «اسمحْ لي يا سيدي أن أستفهم عن أمر …» فقطع كلامه وقال: «لا تخف يا سالم؛ إني لا أخطو خطوة قبل أن أقدر ما وراءها، إنك تقول في نفسك كيف تنتهي مهمتنا بقتل ذينك الرجلين وهذه قبائلُ البربر من كتامة وصنهاجة وهوارة كلها من أنصارهما — وهم يعدون بمئات الألوف — ونحن ليس عندنا غير رجال صاحب سجلماسة … إن تلك القبائل يا ولدي لم تذعن للمعز إلا لتخاذُل أمرائها وتفرُّق كلمتهم مع اعتقادهم صحةَ انتسابه إلى الإمام علي، وهذا على تدبيره. أَلَا يكفيك أني عالمٌ بهذا الاعتراض؟ أم أنك تخاف أن أُسيء التدبيرَ ولا أُحسن الحيلة؟ ألا يكفي هؤلاء الأمراء من هذه الغنيمة أن يعود كُلٌّ منهم أميرًا مستقلًّا بحكومته، وأَنَّ مَنْ يفوز بقتل صاحب القيروان يكون له الحقُّ بامتلاكها؟ وهي ستكونُ حصةَ صاحب سجلماسة. وهل تظن أهل القيروان يرمون نبلًا علينا بعد قَتْلِ خليفتهم؟ إن رجال سجلماسة معنا، وهم أشداء قادرون على أَخْذ القيروان وإن لم يساعدهم أحدٌ من سائر القبائل، فكيف إذا ساعدوهم؟» فازداد إعجابُ سالم بدهاء عمه، وقال: «لله درك مِنْ ملكٍ قادر … إنك — والله — أَوْلَى بهذا الأمر مني ومن سواي.» فأسرع أبو حامد فوضع كفه على فم سالم يُريد إسكاته عَنْوَةً وقال: «لا تقل ذلك إن هذا الملك مقدر لك هذه وصية إمامنا المرحوم وكفى.» قال ذلك ونهض وهو ممسك بيد سالم لينهض معه، فنهض وقد تهيب وود لو يستزيده بيانًا؛ لأنه مع طول صحبته لم يسمع منه التصريح بالوصاية، وأما أبو حامد فقال وهو يُصلح عمامته: «لا حاجة بي إن أُوصيك بالكتمان، حتى الحديث الذي ذكرته عن لمياء والحسين أَخْفِه واجعل أنك لم تر شيئًا» ثم سكت وبان الاهتمام في وجهه وقال: «أما أنت فلا ينبغي أن تبقى هنا بعد هذه المقابلة لا بد مِن سفرك إلى مصر في صباح الغد باكرًا لمهمة مثل التي أتيت منها بالأمس … فتقابل ذلك العبد الأسود أميرها (كافور) وتعقد معه عهدًا على هؤلاء الفاطميين؛ فإنه يخافهم — كما تعلم — وسيكون عونًا لنا في تأييد دولتنا مع صاحب بغداد … إذ لا بد من خلافة ثابتة تتأيد بها دعوتُنا. أظنك فهمت مرادي. ولا ينبغي أن يعلم حمدون بهذه المساعي ولا غيرها … فهمت؟» فأشار بعينيه أنه فهم، وهَمَّ بالخروج فاستوقفه وقال: «لابد من سفرك في الصباح خلسة فإني أخاف من دسيسة عليك …» قال: «سأُسافر.» ثم وقف أبو حامد فجأة وقد تذكر أمرًا هامًا ونظر في عيني سالم. وحدق فيهما طويلا كأنه يستطلع ما يجول في خاطره. فأطرق سالم تهيبًا فقال أبو حامد: «أخاف أن تكون قد بحت لأحدٍ بما أعددناه في فج الأخيار هناك. هناك في فج الأخيار قوتنا التي سيتم لنا بها الأمر فتنشئ دولة تخفق أعلامها على ضفاف النيل وضفاف الفرات.» فلما سمع قوله اختلج قلبُهُ في صدره؛ لعلمه أنه لم يحافظ على ذلك السر لكنه أسرع إلى طمأنته بأنه يستحيل أن يبوح بذلك السر، فهَزَّ رأسه وقال: «كيف أبوح به وعليه معولنا؟ كن مطمئنًّا.» فصدقه وقال: «فاذهب إلى فراشك … ولا تثقْ بأحد سواي.» فهَمَّ بتقبيل يده، وخرج وظَلَّ أبو حامد وحده وقد أصبح بعد هذا الحديث كالجمل الهائج. وازداد احمرارُ عينيه حتى صارتا مثل عينَي المحموم من شدة ما هاج في خاطره من البواعث. فلما خَلَا بنفسه جعل يخطر بالغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يقضم أطراف شاربيه بأسنانه. وقد جعل يديه متصالبتين وراء ظهره وأخذ يناجي نفسه قائلًا رحمك الله يا أبا عبد الله … قد آن لي أن أنتقم لك من هؤلاء الغادرين … فج الأخيار … فج الأخيار في جبل إيكجان … هناك دار الهجرة التي جعلها أبو عبد الله هجرةً للأحزاب التي نصر بها العبيديين … هي الآن هجرتنا وفيها الأموالُ التي ضربها أبو عبد الله عند أول الفتح … هناك قوتنا … وضحك ضحكةَ ظافر وقال: «أُحب أن يبعث أبو عبد الله ويرى نجاحنا … ولكن …» وسكت وبلغ ريقه وأخذ في تبديل ثيابه للرقاد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/23/
الضمير
أما لمياء فإنها قضت تلك الليلة وهي تتقلب كأنها على فراش مِن شوك القتاد ولم يغمض جفنها إلا في الفجر فنامت وتوالت عليها الأحلام المزعجة، واستغرقت في النوم من شدة التعب حتى صار الضحى فأفاقتْ على قرع الباب فاستيقظت مذعورة وتحركت عيناها وتذكرت حالها أمس فأسفت أنه لم يكن حلمًا. وبادرت إلى الباب ففتحته فرأت حاضنة أم الأمراء وحالَما وقع بصرها عليها قالت: «كيف أم الأمراء عساها في خير!» قالت: «قد استبطأتْك فأرسلتني في السؤال عنك.» فأحست بوخز ضميرها من ذلك التلطُّف؛ لعلمها بما دبروه لزوجها من المكائد لكنها تجلدت وقالت: «كان ينبغي لي أن أسرع إليها باكرًا لكنني استغرقت في النوم.» قالت: «لا بأس يا سيدتي فأنا ذاهبةٌ لأطمئنها عنك.» قالت: «وقولي لها إني مسرعة لتقبيل يدها حالًا.» فعادت الحاضنة وعمدت لمياء إلى تبديل ثيابها وخرجت تطلب غرفة أم الأمراء ولحظت وهي سائرة في الدهليز أن أهل القصر في حركة غير اعتيادية كأنهم يتأهبون لاحتفال. ثم علمت أنهم يتأهبون لصوم رمضان فتذكرتْ أنهم دخلوا في شهر رمضان وقد أصبحوا في ذلك اليوم صائمين. وصلت غرفةَ أم الأمراء فرأتها جالسة على مقعد. وحالَما دخلت لمياء نهضت لها وهي تبتسم كأنها تستقبل بعض أولادها فلم تتمالك لمياء من فرط امتنانها لذلك التلطف أن أَكَبَّتْ على يدها تقبلها وقد سبقتْها العبرات. فاستغربت أُم الأمراء بكاءَها لكنها ظنتها تبكي لأمر يتعلق بخطبتها للحسين، وهي إنما تبكي أسفًا لما فرط منها في حق الخليفة من المؤامرة. فضمتها أم الأمراء إلى صدرها وقالت: «ما بالك تبكين يا بنية؟» فأغرقت في البكاء وغلبت على أمرها حتى لم تعد تستطيع إمساك نفسها. فجعلت تخفف عنها وقالت لها: «أرجو أنك لم تنجحي في مهمتك؟» وهي تُشير بهذه المداعبة إلى رغبتها في زفافها إلى الحسين. فتماسكت وتجلدت وقالت وهي تمسح عينيها: «نعم يا سيدتي إني لم أنجح والظاهر أن الله قد أراد ما أراده أمير المؤمنين.» فبان السرور في وجه أم الأمراء وأجلست لمياء إلى جانبها وقالت: «ألذلك تبكين يا لمياء؟ لا ينبغي أن تحزني وسوف تتحققين أنك أحرزت نصيبًا حسنًا. وأحمد الله؛ لأنه قدر لك أن تكوني زوجة لهذا الشاب النادر المثال. وبرهانًا على سروري بذلك فإني سأجعل لك مهرًا لم تنله فتاةٌ من أهل القيروان؛ لأنك عزيزة علينا. ومتى علمت أني سأقوم بتأدية مهرك يطمئن خاطرك أنه سيكون مهرًا يليق بك … وسأجعل أمير المؤمنين يهبك قصرًا من قصوره الفخمة أفرشه أحسن فرش وأملأه بالتحف والجواري بحيث يجعلك تنسي ذلك الرجل الذي كاد يسبقنا إلى نيلك.» فلم يزدها هذا الكلام إلا غيظًا مِن نفسها وندمًا على ما فرط منها، ولكنها تجلدت وقالت: «أشكرك يا سيدتي على هذه النعم إني لا أستحق شيئًا من ذلك.» وهي تعني حقيقة ما تقوله. ولكن أم الأمراء حملت قولها محمل التواضُع فقالت: «بل أنت أهل لأكثر منه ولكن لا بد من الانتظار إلى انقضاء رمضان؛ لأننا دخلنا في هذا الشهر المبارك من صباح اليوم وأظن أمير المؤمنين يؤجل الزفاف إلى عيد الفطر أو ما بعده وسننتظر في ذلك.» فسَرَّهَا أن يطول أجل الاقتران لعلها تتمكن في أثنائه من تدبير طريقة للتخلص من هذه الورطة. فبان الارتياح في محياها وقالت: «إني أمتك ولساني قاصرٌ عن أداء حق شكرك جزاك الله خيرًا.» فقالت: «إنما يهمني يا لمياء أن تكوني مسرورة وأحب أن يكون قرانك بالحسين سعيدًا لأفرح أنا أيضًا. وقد أخذتُ أشعر منذ الآن أنك صرت من أهلنا وأصبح والدك يفضُلُ سائر أمرائنا بحقوق القربى من قائدنا. وأنت تعلمين منزلة جوهر من نفس أمير المؤمنين، فإنه يفضله على كثيرين من آله وذوي قرابته. وسترين في هذا المساء متى جلسوا للإفطار عند الغروب كيف يُجلسه بجانبه ويقربه إليه دون سائر العبيديين. ولا ريب أنه سيقرب الأمير حمدون والدك أيضًا إكرامًا لك.» فلم تعد لمياء تستطيع سماع هذا الإطراء وودت لو أنها تسمع عكسه عسى أن يخف بعض ما بها من وخز الضمير. فأحبتْ تغيير الموضوع فقالت: «سندخل الليلة في شهر رمضان جعله الله شهرًا مباركًا عليك وزادك من نعمه ومتعك بأبنائك. ما هي العادة في تناوُل الإفطار عندكم؟» قالت: «إن لأمير المؤمنين عنايةً خصوصيةً في هذا الشهر. يأمر أصحاب المطابخ بإعداد طعام الإفطار لأهل القصر فتُمد الأسمطة للخليفة وأهله وقواده وأمرائه وسائر رجال حكومته حسب درجاتهم فيأكلون معًا وتمد الموائد أيضًا للنساء من أهل هذا القصر فأتولى أنا تدبيره على أيدي الجواري. وستكونين أنت في من يفطر معي وسأجعل مجلسك بالقرب مني؛ لأستأنس بك. وكذلك نفعل في طعام السحور أحيانًا وأما أنت فستكونين معي كل هذا الشهر في السحور والفطور. وسأريك في ساعة الغروب كيف تمد الأسمطة وكيف يجلس الخليفة والأمراء عليها وسترين والدك معهم.» فشكرت لها فضلها وأحبت الاستئذان في الذهاب إلى غرفتها فرارًا من ذلك الحديث ولكي تريح دماغها؛ لأنها أحست بألم في رأسها بسبب ما قاستْه أمس من الانزعاج. وزادها حديثُ أم الأمراء انزعاجًا فأظهرت التعب ولم تكن تحتاج في إظهاره إلى تكلُّف؛ لأنه كان باديًا في وجهها وقالت: «ألا تأذن مولاتي في انصرافي فقد شغلتُها عن شئونها وأنا أحس بحاجة إلى الراحة.» قالت: «إني أقرأ ذلك في عينيك وهو طبيعي في مثل هذه الحالة ولكنني أرجو أن تنسي ذلك بعد قليل …» وصفقت فجاءت حاضنتها فقالت: «أحب أن تكون عزيزتي لمياء في غرفة قريبة من غرفتي. قولي لقيمة القصر أن تهيئ لها الغرفة بما تحتاج إليه؛ فإنها ذاهبةٌ بعد قليل للراحة فيها.» فأشارت مطيعةً، وخرجت ولم تفرح لمياء بهذا الإكرام؛ لأنها كانت تود البقاء بعيدة على انفراد خوفًا من أن يظهر شيء منها على حين غفلة فيفضح أمرها. لكنها لم تجد بدًّا من الثناء على ذلك الإنعام. وبعد قليل جاءت الحاضنة وقالت: «إن الغرفة مهيأة.» فنهضتْ لمياء وودعت. فقالتْ لها أُم الأمراء: «سنلتقي هنا قبل الغروب.» فأومأتْ لمياء مطيعة ومشتْ إلى غرفتها الجديدة وهي تعرف طريقها إليها، لكنها لا تدري ماذا تعمل. فلما وصلت الغرفة رأتها أحسن أثاثًا وفرشًا من تلك. وفيها مرآةٌ جميلةٌ من الفضة الصقيلة مستديرةُ الشكل. وهناك منضدةٌ عليها المكحلة والمشط والسواك وسائر ما تحتاج إليه المرأةُ في إصلاح شأنها. وسريرُها من الأبنوس وهو مع بساطته ثمينٌ وكل ما في الغرفة ثمينٌ وبسيطٌ، على أنها لم تنتبه إلى شيء؛ لفرط قلقها، وما صدقت أنها دخلت الغرفة حتى أغلقت بابها وتوسدت الفراش واستغرقتْ في الأفكار. وقد سَرَّهَا تأجيلُ الزفاف شهرًا كاملا؛ إذ يكون لها فرصة للتفكير والتدبير. وأخذت تُفكر في استنباط طريقة تُريح بها ضميرها، فتبقى هذه النعمة لها وتعرف حق المعز وامرأته وفضلهما عليها فلَا تخونهما، ومع ذلك تُريد أن تحفظ كرامة والدها. وأما سالمٌ فحالَما تَصَوَّرَ لها خفق قلبُها لما تذكرته من أمره في أمس وكيف عاد خائبًا وما أظهره الحسينُ من المروءة وكبر النفس في شأنه وأحست بانعطافٍ نحو الحسين، فكذبت نفسها وأخذت في تحويل فكرها عنه وصورتُهُ لا تغيب عن مخيلتها كما رأته في آخر لحظة وهو يودعها ويوصيها بكتمان ما جرى لسالم. وقدرت تلك الأريحية حق قدرها وجعلت تقنع نفسها أن ما تُحس به من الانعطاف نحوه إنما هو مِن قبيل الامتنان؛ لأنها لم تكن تريد بدلًا من سالم وهو أول من طرق حبه قلبها وهي صغيرة، تسرب حُبُّهُ إليها تدريجًا؛ لأنهما تعارفا منذ الصغر فلم يأتها الحب دفعة كما أصابها هذه المرة. ولذلك لم تقتنع أن شعورها نحو الحسين مِن قبيل الحب الذي لا يلبث أن يتمكن. وخصوصًا أنها أصبحت تنتظر ساعة الإفطار بفارغ الصبر لكي تراه جالسًا على السماط في جملة الجالسين — كما قالت لها أم الأمراء.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/24/
إفطار رمضان
على أن التعب غلب عليها فنامتْ واستغرقتْ في النوم. وما أفاقتْ إلا على أصوات المؤذنين في العصر فنهضت وأصلحت من شأنها ونظرت إلى وجهها في المرآة فإذا هي قد امتقع لونها قليلًا وذبلت عيناها. فأحبت أن تتشاغل عن تلك الهواجس فخرجت لملاقاة أم الأمراء فرأتها في انتظارها فهشت وسألتها عن صحتها. فقالت إنها في خير فأشارتْ إليها أن تتبعها لتطلعها على ما يعدونه من أسمطة الإفطار. فمشت معها حتى دخلتا روشنًا يُشرف على ساحة بعيدة الأطراف في جانب الحديقة قد نُصب فيها سُرادقٌ كبير وأخذ الخدم في مد الأسمطة والموائد. فأشارت إليها أم الأمراء فقعدتْ على مقعد أمامه ستر فيه منافذُ صغيرةٌ تأذن للجالسين هناك في رؤية كل حركة في تلك الساحة بدون أن يراهم أحد من أهلها. وقعدتْ أم الأمراء إلى جانبها وجعلت تقص عليها ما تعوَّدوه في الإفطار. وهي ترى الخدم يهيئون الأسمطة على شكل خاص. أعلاها في الصدر سماطٌ يسع بضعة عشر رجلًا يجلسون على الوسائد حوله، وقد وضعت عليه أنواع الأطعمة والأثمار. ونحو ذلك في أسمطة أخرى بين يدي ذاك هنا وهناك. وعليها الأطعمة من اللحوم والأفاويه وقد تصاعدتْ عنها روائحُ البهارات وغيرها. وما زالتْ رائحةُ الند المحروق في أطراف الحديقة غالبةً على سواها حتى تكامل وضعُ أطباق الطعام فتغلبتْ رائح الأطعمة وبهاراتها. واشتغل جماعةٌ من الخدم السود في إنارة المصابيح المعلقة بأعمدة السرادق. وأما الصقالبة البيض فأكثر اشتغالهم في حمل أطباق الأطعمة. ووقف جماعة منهم يحملون الأباريق الفضية والأقداح الزجاج حول الأسمطة يسكبون الماء لمن يريد حسب الطلب. أعد كل شيء قبل الغروب ولمياء تتشاغل برؤية الخدم يذهبون ويجيئون في ترتيب تلك الموائد وهي صامتة. وشاركتْها أم الأمراء بالصمت ثم قالت: «إذا شئت أن نذهب إلى مائدتنا هلمي إليها؛ فإنهم يعدونها كما يعدون هذه.» فأظهرت أنها تفضل البقاء هناك حتى يجلس الخليفة والأمراء على الطعام ثم تنصرف فأطاعتها. وبعد قليل أصبح أهلُ الحديقة في هرج واهتمام يتسابقون إلى التأدُّب في مواقفهم استعدادًا لاستقبال أمير المؤمنين. ثم أَطَلَّ الخليفةُ ماشيًا الهويناء وبجانبه القائد جوهر. ووراءهما ابنُهُ الحسينُ ثم أولادُ الخليفة وأهله. ثم جماعة الأمراء والقواد فتفرقوا إلى مقاعدهم على الوسائد حول الأسمطة. فجلس المعز في صدر السماط الأول وأومأ إلى جوهر أن يجلس إلى يمينه ونادى الحسين فأجلسه بجانب أبيه. ثم جلس أبناء الخليفة وأهله حول ذلك السماط. وجلس سائرُ الأمراء والقواد حول الأسمطة الأُخرى. وبعد قليل عَلَتْ أصواتُ المؤذنين فأخذ القُرَّاء يتلون الفاتحة وضَجَّ المكان بتلاوتها. وجعلتْ لمياء تتفرس في الوجوه فرأتْ والدها في جملة المدعوين وقد دعاه المعز إلى أقرب الأسمطة إليه وهو يبش له ويرحب به. وظنت أم الأمراء أن لمياء لم تنتبه إلى ذلك فقالت لها: «هذا والدك قد جاء … ويسرني ما أراه من إكرام أمير المؤمنين له.» وكانت لمياء مشتغلةَ الخاطر بالتفرُّس في الوجوه ولا سيما في وجه الحسين. وكانت حالَما وقع نظرُها عليه خفق قلبُها وتصاعد الدمُ إلى وجهها رغم إرادتها. ومع رغبتها في رؤيته وأنها أتت إلى هناك لتراه فلما أحست بخفقان قلبها ندمت وحولت نظرها عنه وأخذت تُغالب عواطفَها ونهضت وأظهرت أنها مستعدة لمرافقة أم الأمراء إلى مائدتها متى شاءت. فأظهرت أنها تود البقاء هناك وقالت: «هذا الحسين أراه جالسًا بجانب والده إن هذا المنظر يغنيني عن الإفطار. كيف أنت؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة. فسكتت لمياء وصبغ الحياء وجهها ولم يصبغه الحياء بل الارتباك أيضًا. ولم تجد سبيلًا إلى إخفاء عواطفها إلا بالتحول من ذلك المكان فأطاعتْها أم الأمراء فتحولتا إلى قاعة مد فيها سماطها الخاص فجلست إليه وأجلست لمياء إلى جانبها وتناولتا الإفطار على نحو ما وصفناه من إفطار الخليفة وأمرائه. ولحظت أم الأمراء أن لمياء تسرع في تناول الطعام وهي ساكتة والاهتمام بادٍ في عينيها فأدركت أنها تود الرجوع إلى الروشن فاختصرت في الأكل حتى إذا فرغت منه قالت لها: «هلم بنا إلى الروشن لنسمع ما يدور من الحديث هناك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/25/
حديث الزفاف
فنهضتْ ومشتْ معها وتناستْ ندمها — وإنما سيقت إلى هناك بدافع لا سلطان للعقل عليه فيأتيه المحب رغم إرادته وقد يرتكب في سبيل ذلك أمورًا يوبخ نفسه عليها ولا يرى مندوحةً له عنها — قعدتا فرأتا الأسمطة قد رُفعت وانصرف معظم المدعوين وجلس مَن بقي منهم بين يدي المعز وفيهم جوهر وحمدون والحسين وقد جلس حمدون بقرب جوهر وهما يتحادثان كَأَعَزِّ الأصدقاء. ويتخلل حديثهما ضحكٌ وتودد. فأصاخت لمياء بسمعها لتسمع ما يدور. فسمعت الخليفة يقول لأبيها: «قد سرني ما تَجَدَّدَ بيننا من روابط القرابة بخطبة لمياء إلى ابن قائدنا وإنهما لَنِعْمَ العروسان. وسرور أم الأمراء لا يقل عن سروري وهي تَوَدُّ أن تختص عروسنا لمياء بالتفات هي أهلٌ له وستؤدي لها المهر عن قائدنا. وسنسوقه إليكم قريبًا وسنخص العروسين بقصرٍ من قصورنا فيكونان مثل بعض أهلنا.» فأسرع جوهر إلى مقابلة هذا الإنعام بالنهوض ثم أكب على يدي المعز ليقبلهما علامةً للشكر فمنعه المعز وقال: «إن الحسين ابننا ولمياء بنتنا لا موجب للشكر وإنما يهمنا أن يكون زفافُهُما سعيدًا مباركًا.» فقال حمدون — وهو يُظهر الامتنان: «إن نعم مولانا فوق ما نستحق ويكفي شرفًا لنا أن يكون ذلك العقد على يده. فهو لا شك يكون مباركًا ويزيد بركة إذا تنازل مولانا بحضور حفلة الزفاف. وإن كان ذلك مما لا يطمع فيه أحدٌ ولكني تجرأْتُ عليه لما ظهر من تلطف المولى في محاسنتنا.» فلما سمعتْ لمياء هذا القول أكبرتْه وخافتْ أن يكون أبوها قد تطوح في طلبه إلى ما لا يُمكن الإجابة عليه. ورأتْ مثل هذا الاستغراب مِن جوهرٍ أيضًا. أما المعز فابتسم وقال: «إن ذلك هينٌ علي، ولا مانع عندي منه؛ لأن قائدنا جوهرًا أهلٌ لِما هو فوق ذلك. وإنما أخاف أن يكون فيه ثقلة عليكم.» فترامَى جوهر على رُكْبة المعز وقبلها وهو يقول: «قد غمرني أميرُ المؤمنين بفضله وإحسانه، وكان الأميرُ حمدون قد خاطبني بهذا الأمر فلم أجسر على عرضه والتماسه، فكان هو أحسن مني تقديرًا لِلُطْف أمير المؤمنين.» فأسرع حمدون إلى الكلام قائلًا: «لم أقل ما قلته إلا وأنا أعرف منزلةَ القائد جوهر عند مولانا — أعزه الله — وقد جرأني على ذلك أن أمير المؤمنين جعل نفسه بمنزلة والد الحسين وخطب له جاريته ابنتنا لمياء، فسبق إلى ذهني أنه لا يرفض طلبنا ولا شك فإن ذلك تنازلٌ كبيرٌ منه. أما ما أشار إليه من الثقلة علينا فأي ثقلة فيه ونحن لو مشينا على رءوسنا بين يديه لا نكافئه على إنعامه.» فكانت لمياء تسمع هذا الحديث وقلبها يطفح سرورًا لما توسمت فيه من تغير رأي والدها في المعز فظنتْه يعدل عن الفتك … ولما تصورت ذلك اعترضها شبح سالم كأنه يوبخها على رضاها بالحسين دونه؛ لأنها إذا تم الزفاف بلا فتك صارت عروسًا للحسين فارتبكت في تفكيرها ولبثت صامتةً وأفكارها تائهةٌ وأم الأمراء تراعي حركاتها فلحظت ارتباكها لكنها لم يخطر لها ما كان يجول في خاطرها. ولما فرغ حمدون من قوله أجابه المعز وهو يبتسم قائلًا: «إن ظنك في محله أيها الأمير، ولكن قائدنا لم يعرف حقيقة منزلته عندنا، إننا سنحضر حفلة الزفاف معه ولا بد أن يكون ذلك في معسكركم حيث تُقيم العروس قبل زفافها إلى عريسها» وسكت … فأجاب حمدون: «أينما كنا فنحن في ظل أمير المؤمنين، وليس لأحد منا معسكر ولا قصر إلا من نعمه. وإذا تنازل المولى بأن يكون ذلك في ظاهر المنصورية أريناه عادة السجلماسيين في الاحتفال بأعراسهم. وسيجري الفرسان هناك في حلبة السباق ويلعبون على ظهور الخيل، ولعله يسر أن يرى رجاله وعبيده يتسابقون على الأفراس بين يديه. ولو كان في المنصورية متسع لهذه الألعاب أو لو أمر سيدي بذلك؛ فإننا مطيعون.» قال المعز: «بل نذهب إلى معسكركم ونُشاهد احتفالَكم. إني كثير الشغف برؤية الفرسان يتسابقون ولا سيما فرسان سجلماسة المشهورين بالفروسية والمهارة في ركوب الخيل. فمتى ترى أن يكون ذلك؟» فقال حمدون: «ليس لأحدٍ منا رأي؛ فإن الأمر في ذلك لمولانا.» فنظر المعز إلى جوهر كأنه يستشيرُهُ فبادر إلى الجواب قائلًا: «الأمر لمولاي.» فقال المعز: «أما وقد دخلنا في شهر رمضان المبارك فلا أرى أن يتم الزفاف قبل انقضائه. فنجعله في عيد الفطر؛ تبركًا به، ويكون احتفالنا بالزفاف في جملة احتفالنا بالعيد.» فبان البِشر في وجهَي حمدون وجوهر عند هذا الاقتراح وأخذا في تنميق عبارات الثناء أما لمياء فلم يكن ذلك جديدًا عليها، وكانت قد سمعته من أم الأمراء ولحظت من خلال تلك الأحاديث أن المعز عمل بما أوحتْه إليه امرأتُهُ فتأكدتْ حينئذٍ اهتمامها بأمرها وشدة حبها لها. والتفتت إليها لفتةً ملؤها الامتنان والشكر. ففهمت أم الأمراء من تلك اللفتة ما لا تقوى الألسنة على بسطه. وكان جوابها أنها ضمتها إلى صدرها وقبلتها فأكبت على يدها لتقبلها فمنعتها وقالت: «تأكدي يا بنية أن فرحي بتمام هذا الأمر يكفيني … ولكنهم أطالوا أجل الاقتران أليس كذلك؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة. فأطرقتْ لمياء حياءً فابتدرتْها أُمُّ الأمراء قائلة: «أعني أنهم أطالوه علي أو على الحسين … ألا ترينه ساكتًا مطرقًا لا يكلم أحدًا … تأكدي أني أعد هذا الشاب من أولادنا وأنت ابنتنا … ولذلك لا أرى أن يأخذوك إلى بيت أبيك إلا قبل الاقتران ببضعة أيام … أريد أن أشبع منك …» وكانت لمياء في أثناء ذلك قد عادت هواجسها إليها وأصبحت شديدة الرغبة في مُلاقاة والدها؛ لترى هل تغير رأيُهُ وعول عن الفتك بعدما لاقاه من إكرام المعز أو هو يقول ما قاله مداجاةً. لكن سبق إلى ذهنها أنه يظهر ما يعتقده؛ لأن الصادق الحر لا يقدر أن يتصور نفاق الكاذبين. ثم هي من الجهة الأخرى يشق عليها أن تقبل بالحسين وتعد ذلك خيانةً فضلًا عن داعي قلبها. وهي في ذلك رأت الخليفة يتحفز للنهوض وقد نهض الجلوسُ واستأذنوا في الانصراف. ونهضت أم الأمراء ومشت لمياء معها وهي تود أن لا تعود إلى محادثتها بشأن ذهابها إلى أبيها؛ لأنها تحب أن تترك الأمر للتقادير لترى ما يكون في أثناء رمضان. وتحب أن تخلو بنفسها بعدما تقرر لتفكر في أمرها وتحل هذه المشكلة حلًّا معقولًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/26/
المناجاة
ودَّعت لمياء أم الأمراء وذهبت إلى غرفتها وهي غارقةٌ في بحار هواجسها، ولم تكد تخلو بنفسها حتى طرق ذهنَها فكرٌ أحست بارتياحٍ إليه، وذلك أنها قابلت بين ما دار بينها وبين والدها أمس في فسطاطه بحضور أبي حامد وما ظهر منه بين يدي المعز في هذا المساء فوجدت فرقًا كبيرًا. فتبادر إلى اعتقادها أن أبا حامد هو الذي حَرَّضَه على الفتك بالخليفة، وأنه لو ترك لنفسه لم يرض بذلك، وتذكرت ما تعرفه من ظواهر هذا الرجل في أثناء إقامته بسجلماسة وما كان يسر إليها سالم أحيانًا من الأغراض السياسية التي يرمي إليها فترجَّح لديها أن أبا حامد هو علة المفاسد وأنها لو انفردت بأبيها وباحثتْه في أمر المعز لأقنعتْه أن يرجع عن عزمه. فارتاحت لهذا الفكر، لكنها لم تكد تشعر بالراحة حتى تصورت أنها تصير عند ذلك زوجةً للحسين تقيم في المنصورية … وما تفعل بسالم؟ فوقف ذهنُها عند هذه النقطة فرأتْ عُدُول أبيها عن الفتك بالمعز يحرمها من سالم وهي تحبه ولا ترضى عنه بدلًا. فأخذت تخاطب نفسها قائلةً: ما العمل إذن؟ أرضى بقتل المعز وهو سلالة فاطمة الزهراء وصاحب الفضل الأكبر علي وأسلم بقتل جوهر القائد العظيم؟ وهَبْ أني رضيت فهل تفلح هذه المكيدة؟ ألا يعقل أن تعود عاقبتها وبالًا علينا؟ بأي شيء نُحارب جُند الخليفة؟ كيف نُحارب الحسين ذلك الشهم صاحب المروءة ونقتله أيضًا؟ ما هو ذنبُه؟ بل ما هو ذنب الخليفة وقائده؟ إنها مكيدة ملؤها الخداع والغش. كيف ترضين يا لمياء بهذه الرذيلة؟ يكفي ما أراه من كرم أخلاق هذه المرأة التي تحبني محبة الوالدة، أأرضى أن أكون وسيلةً لسقوطها؟ أنا أفعل ذلك؟ كلا … كلا … إني إذن قاتلةٌ خائنة. وأحرم من حبيبي … ماذا أفعل؟ أطلع أم الأمراء على سر الأمر ليتحذروا منه؟ عند ذلك أكون قد عرضت سالمًا للقتل وعرضت والدي أيضًا للموت … هل أسمح بقتل والدي وحبيبي؟ كلا … ويلاه ما هذه المشكلة التي لا حل لها؟» وكانت جالسةً على الفراش تفكر في ذلك وعيناها شاخصتان إلى نور المصباح فلَمَّا وصلت إلى هذا الارتباك نهضتْ كالواثبة وقد هاجت أشجانُها وأخذ القلقُ منها. وجعلت تتمشى في الغرفة وتُعيد النظر في المسألة طردًا وعكسًا فلا تجد لها حلًّا إلا بارتكاب الخيانة أو القتل، فضلًا عن محاربة العواطف، وهي أشد وطأة مِن كليهما. قضت في التفكير ساعةً أو ساعتين حتى ملت التردُّد، وأغلق عليها الأمر فوقفتْ تجاه المرآة فرأتْ ما أصاب سحنتها من التغيير لفرط التفكيرِ فقالت: «إني أرى لمياء في هذه المرآة غير لمياء في مرآةِ أبيها بسجلماسة. ويلاه ما كان أغناني عن هذه القلاقل بل ما أغنى أهل القيروان عن هذه السحنة العائدة عليهم بالشؤم والخراب … هل العيب في المرآة وهي التي غيرت لمياء؟ لا ذنب لها إنها تريني وجهي كما هو. وإنما العيب في … بل العيب في من شوَّش أفكاري وأدخل القلق على قلبي، كان الأولى بي أن أبقى على رفض هذا النصيب وليتسابق هؤلاء إلى القتل على غير يدي. هل أقدر على ذلك الآن؟ بأي لسان أقوله! وبأي وجه أقابل أم الأمراء؟ هل أبوح لها بسري وأستشيرها في أمري؟ لا أقدر … ويلاه يا ربي ماذا أفعل؟ وتحولت عن المرآة إلى السرير واستلقت عليه وقد أظلمت الدنيا في عينيها فلم تجد لها فرجًا بغير البكاء فأطلقت لنفسها العنان فيه وأغرقت في البكاء حتى كاد يغمى عليها وصارت تشهق وتندب نفسها. ثم عادت إلى المناجاة فقالت: «إلهي قد لذَّ لي الموت خذني إليك … هل أقتل نفسي وأخلص من هذه الحياة؟ إن موتي أحسن حل لهذه المشكلة فينجو المحسنون إلي من القتل وأتخلص من التردُّد القبيح. ولكن هل أقتل نفسي بيدي! … لا … لا … بل الأفضل أن أفر من هذا المكان إلى حيث لا يراني أحد حتى تأتي ساعتي … لمياء! لمياء أنت راعية الحصان. تلاقين الأعداء في حومة الوغى وترزخين تحت هذه الأوهام؟ بل أعود فأرفض الحسين وأعتذر له أني لا أريد الزواج … كيف أفعل ذلك! مسكين الحسين إنه ذو فضل ويظهر أنه أحبني، آه يا سالم يا حبيبي كيف أموت أو أفر وأتركك! بارزت الفرسان واستقبلت النبال في ساحة القتال فلم أجدْ أصعب مراسًا من الحب إنه يملك ناصية القلب … ويلاه هل في الدنيا فتاة أشقى حالًا مني!» ثم سكتت وكأن البكاء خفف مصابها وقشع السويداء عن عينيها وتذكرت أن لديها شهرًا كاملًا لإعمال الفكرة فقالت: «فلنصبر إن الله مع الصابرين.» وذهبت إلى فراشها وقد أخذ التعب منها مأخذًا عظيما.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/27/
المراوغة
أما حمدون فإنه خرج من قصر المعز بعد العشاء وقد أدهشه ما رآه هناك من الأبهة والعظمة وأكبر الإقدام على تنفيذ تلك المكيدة ولا سيما بعد الذي لقيه من الإكرام والمؤانسة من الخليفة وقائده وسائر أمرائه، وأحس بخطارة الأمر الذي هو مقدم عليه. فقضى مسافة الطريق إلى معسكره وهو يفكر في ذلك — وتحريض أبي حامد لا يزال غالبًا على عقله — فوصل خيمته وهو يحب الخلو بنفسه ليعمل فكرته ويرجح أحد الوجهين ولم يكد يستقر به الجلوس حتى جاء أبو حامد، وحالما وقع نظره على حمدون استطلع ضميره وكشف عما يجول في خاطره، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «كيف لقيت أمير المؤمنين؟» فأجابه وهو يُحاول إخفاء ما يجول في خاطره: «لقيته كما أعهده وكما تعهده أنت.» فلما رآه لم يستغرب منه تلقيب المعز بأمير المؤمنين توسم صدق فراسته فيه فقال: «أعني هل لقيت منه أنسًا.» قال: «لقد جاملنا وآنسنا وأكرم وفادتنا ووددت لو أنك كنت معنا.» قال: «أنا أعلم اقتدارَ هذا الرجُل وسعة صدره، ولولا ذلك ما تمكن من التغلُّب على سائر الأُمراء حتى سَمَّى نفسه أمير المؤمنين.» قال: «صدقت. إنه واسع الصدر كبيرُ العقل ورأيت منه انعطافًا خصوصيًّا؛ لأنه أصبح يعدني من أهله. ورأيت قائدَه أيضًا مثله.» فتنحنح أبو حامد وقد تَرَجَّحَ ظنه في تغيير عزمه وقال: «أظنك أدركت الليلة خطارة الأمر الذي نحن عازمون عليه …» قال: «قد أدركت ذلك من قبل … ألم تكن أنت مدركه أيضًا؟» قال: «كيف لا وقد دان لهذا الرجل الأمراء والقُواد، وأصبح صاحب الكلمة النافذة؟ إن تنفيذ ما عزمنا عليه لا يخلو من الخطر طبعًا.» فاستمسك حمدون بهذا التصريح وتَوَهَّمَ ضعف العزيمة في أبي حامد، فقال: «هل ترى الخطر يربو على الأمل بالنجاح؟» قال: «أراه أضعافَ أضعافه، ولكن ما العمل وقد رأيتك عازمًا على استرجاع مجدك حتى فضلت الموت على التسليم.» فجعل السبب في تدبير المكيدة رغبة حمدون في استرجاع ملكه فهان على حمدون الانسحاب بنظام، فقال: «لكن الرجل العاقل ينبغي أن يقدر العواقب ويعمل بالرأي السديد وما لا يستطيعُهُ اليوم قد يستطيعُهُ غدًا.» فتحقق أبو حامد ما توسمه في صديقِه مِنْ ضعف العزيمة فعمد إلى استطلاع ما دار في تلك الجلسة وهل أقبل الخليفةُ أن يحضر الاحتفال بالزفاف في معسكرهم، فقال: «هل وافقك على أن تزف لمياء من معسكرنا ويكون هو حاضرًا؟» قال: «لم أطلب منه طلبًا إلا وافقني عليه، وقد وافق على هذا وأكثر منه؛ ولذلك قلت لك إنه جاملنا وأحسن وفادتنا. وهذا ما غير رأيي فيه.» فعمد أبو حامد إلى المداهنة فقال: «بارك الله فيك … إن المصلحة مشتركة بيننا، فإذا كنت قد رأيت ما أراه أنا أيضًا من الخطر في هذا العمل الآن وأحببت أن تؤجله فإني أوافقك على تأجيله — ولكل أجل كتاب.» فانطلت حيلةُ أبي حامد على حمدون وصدقه فقال: «يعجبني حزمك وتعقلك فأنا أرى التأجيل أقرب إلى الحكمة ريثما نتمكن من فرصة أبرك من هذه.» وكان أبو حامد لا يزال واقفًا يتشاغل في تدبير مكان يجلس عليه، فلما سمع قول حمدون ابتسم وأظهر الارتياح وجلس إلى جانبه ووضع يده على ركبته وقال: «ولكن ألا ترى صعوبةً في تغيير فكر لمياء؟» قال: «إن لمياء أكثرُ رغبةً منا في العدول عن قتل الخليفة ولا سيما بعد أن تبرع بأنْ ينوبَ هو وامرأته عن العريس في تقديم المهر ولا بد أن تكون أم الأمراء قد أخبرت لمياء بذلك وهو يزيدها تعلقًا بها … بالحقيقة إن المعز وامرأته قد بالغا في مجاملتنا وإكرامنا … أظنني لم أخبرك بما عزما على تقديمه من المهر …» فقطع أبو حامد كلامه وهو يروغ كالثعلب، وقال: «أظنهما وعدا بمال كثير وببعض الحلي الثمينة.» فضحك حمدون وقال بلحن الفائز المعجب: «المال والحلي؟ إن أم الأمراء ستقدم للعروس أحسن ما يرجَى تقديمه لمثلها من الأثاث والحلي والثياب وستملأ بيتها من الجواري والخدم و… و…» فقال أبو حامد — وهو يظهر الاستغراب: «والخدم أيضًا والجواري؟» فابتدره حمدون وهو يقول: «وفوق ذلك أن الخليفة نفسه سيهديها قصرًا في المنصورية تقيم فيه مع عريسها … وسيعدها من أقرب الناس إليه.» فقال أبو حامد وهو يهز رأسه ويرفع حاجبَيه استغرابًا: «إن مثل هذا الرجل لا تقدم النفس على أذيته … صدقت … ولكن …» فسبقه حمدون إلى الكلام قائلًا: «ولكن لمياء عالقة القلب بسالم وإذا تم اقترانها ربما تنغص عيشها …» فأظهر أبو حامد التألم من فكر خطر له كأنه ابن ساعته، وقال: «سالم … سالم دعني من سالم، إنه لا يليق بلمياء، وهي لو علمت بما فعله لكرهته … حتى أنا مع أنه بمنزلة ولدي فقد كرهته.» فاستغرب حمدون كلامه وقال: «وكيف ذلك؟» قال: «أتعلم أين سالم الآن؟» قال: «كلا … أليس هو هنا؟» قال: «لا أعلم مقره … ولكن يظهر أنه فر من هذا المعسكر … أظنه خاف مغبة الأمر الذي أقدمنا عليه ففضل الفرار.» قال حمدون: «لا أظنه يفر وهو رجل باسل.» فقال أبو حامد: «لا يليق بي أن أكشف عيبه لكنني لا ينبغي لي أن أكتمك أمرًا بعد ما علمته من صداقتي وإخلاصي وأنا أغار على لمياء وأُجل مناقبها فلا أغشها …» وتنحنح كأنه يستنكفُ من التصريح بذلك الأمر الفظيع. فقال حمدون: «ماذا جرى؟» قال: «أَتَذْكر خُرُوجَ سالم مساء أمس في أثر لمياء؛ ليرافقها إلى المنصورية؟» قال: «نعم، أذكر أنه أراد أن يرافقها فتقدمت إليه أن لا يفعل.» قال: «ليته لم يفعل … لكنه أصر على الذهاب فعاد بالفشل والعار.» قال: «وكيف علمت ذلك؟» قال: «لأنه عاد إلي في آخر الليل وقص علي ما لقيه وحاول إخفاء الحقيقة لكنني قرأتها من خلال حديثه.» قال: «ماذا عمل؟» قال: «ذهب في أثر لمياء فوجدها مع رجل عرف بعد ذلك أنه الحسين بن جوهر، وكان في انتظارها حتى يسير في خدمتها إلى مأمنها، فأنكر سالم عليه ذلك وأمرها أن تتركه وتسير معه، ففعلت، فلما أشرفوا على المنصورية خرج عليهما الحراس وكادوا يقبضون عليه ويسوقونه إلى السجن لو لم يبادر الحسين إلى إنقاذه، فعاد والفشل يقطر من أردانه. وشفع ذلك الفشل بالكذب فاقتضب الحديث ولم يذكر فشله. ولكن أبا حامد لا تنطلي عليه هذه الألاعيب. فوبخته على جبنه فغضب وخرج من عندي ولعله فر خوفًا من غضبي … ولو فتشت عنه في المعسكرين لم تقف على خبره.» قال ذلك بلحن الصدق وهو يُظهر الأسف على ما جرى فصدق حمدون كلامه، وقال: «لله درك إنك تطلع على خفايا القلوب فلا أعجب من اطلاعك على سر سالم، ولكنني لم أعهد فيه شيئًا من ذلك قبلًا.» قال: «هذا هو الواقع، ولعلك لو سألت لمياء عن هذا الأمر لصادقت عليه، وربما صرحت هي بالعدول عنه؛ لأنها شهدت فشله بنفسها.» قال: «غدًا نبعث إليها ونستطلع رأيها.» قال: «حسنًا تفعل، وأنا واثقٌ أنها تُوافقك على ما ذكرت. وعند ذلك تتحول مهمتنا إلى ما هو أقربُ لخير لمياء ونترك أمر الانتقام حتى تسنح لنا فرصة أخرى. وقد نرى من الحكمة السكوت عن هذا الأمر بالكلية، إذا رأينا القوم يعرفون قدرك ولا يبخسونك حقك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/28/
رأي لمياء
فارتاح بال حمدون إلى هذا الرأي وهو على ثقة من رضى لمياء وقد عزم على إقناعها به … فبات تلك الليلة وهو يحلم بما سيكون له من المنزلة الرفيعة بعد تلك المصاهرة ونسي أنفة آل مدرار وعز سلطانهم! والحقيقة أنه لم يفطن لذلك العز لو لم يحرضه عليه أبو حامد الداهية. وأما حمدون فقد علمت ضعفه وسرعة تقلبه وأنه إنما كان يُساق إلى طلب الانتقام بتحريض صاحبه هذا. فلما رآه قد وافقه على السكوت والرضا بالخضوع؛ فرح وبات تلك الليلة مطمئنًّا، وعزم على أن يبعث في استقدام لمياء إليه ليبشرها بذلك الرأي الجديد. وأيقظه الغلام للسحور قبل الفجر، ولم يكد يفرغ من سحوره حتى أتاه الحاجب ينبئه بقدوم رسولٍ من صقالبة القصر فأذن بدخوله فإذا هو لمياء متنكرةٌ، فرحب بها وقَبَّلها وقد توسم القلق في عينيها فعلم أنها مبكرة إليه بشأن ما كان فيه أمس، فابتدرها قائلًا: «أراك مبكرةً يا لمياء!» قالت والدمع يترقرق في عينيها: «إني لم أذق منامًا في هذا الليل.» قال: «ولماذا؟» قالت: «أتسمح لي أن أقول ما في خاطري؟» قال: «قولي … ولكني أحب أن تسمعي ما أقوله أنا قبلًا.» قالت: «تفضل.» قال: «قد كنت في مثل قلقك أمس ولكنني اهتديت إلى حل جميل ارتاح له خاطري.» قالت: «وما هو؟» قال: «هل علمت أني تناولت طعام الإفطار أمس في قصر أمير المؤمنين؟» فلما سمعت قوله: «أمير المؤمنين» استبشرت وقالت: «نعم علمت وقد سمعت ما دار بينك وبين الخليفة والقائد.» قال: «هل علمت بما عزم عليه الخليفة من إكرامك بالمهر؟» قالت: «سمعت … أمثل هذا الرجل ﻳ…» فقطع كلامها قائلًا: «دعيني أتم حديثي … إن ما لقيته من ذلك الإكرام وما آنسته من سعة صدره وطيب عنصره وحب أم الأمراء لك قد أثر في كثيرًا.» فأبرقت أسرتها وضحكت والدموع تتدحرج على خديها من الدهشة وقالت: «هل أثر فيك ذلك؟ هل يليق أن؟» قال: «اسمعي … إني وجدت الأمر الذي كنا قد عزمنا عليه خيانةً لا تليق بنا.» فلم تتمالك عن الإسراع إلى يده فتناولتْها وأخذتْ تقبلها ودموع الفرح تتساقط من عينيها وقالت: «الحمد لله … قد فرجت كربتي … صدقت يا أبتاه إن أمير المؤمنين لا يستوجب هذه الخيانة ولو عرفت مقدار حب أم الأمراء لي لازددت حرصًا على حياتهما … بالله قل هل عدلت عن عزمك؟» قال: «رجعت عن مائدة المعز وأنا أحدث نفسي بذلك، وكنت أحسب أبا حامد لا يوافقني عليه فوجدته أشد رغبةً مني فيه؛ لأنه رأى ما رأيته وأنت تعلمين ذكاء هذا الصديق وتعقله.» فتضاعف استغرابُها؛ لأنها لم تكن تتوقع هذا الفرج المزدوج وكانت عازمةً على تحريض أبيها أن يوافقها ولو خالف أبا حامد. فلما رأت أبا حامد موافقًا له على العدول انبسطت نفسها وتولتها الدهشةُ لهذه المفاجأة فقالت: «وقد وافقك أبو حامد على العدول أيضًا؟» قال: «وليس ذلك فقط لكنه خلصنا من أمر آخر يتعلق بسالم.» فلما سمعت اسم سالم انقبضتْ نفسها؛ لتذكُّرها المشكل الذي لم تجد له حلًّا أمس فقالت: «وكيف خلصنا من أمر سالم؟ أين هو الآن؟» قالت ذلك وقد صبغ الحياء وجهها وعلاه قلقٌ واضطراب. فقال: «نعم إنه أنقذنا من مشكل عظيم، وقد سألت عن سالم أين هو … إنه ليس هنا … وقبل أن أقول شيئًا بشأنه أسألك سؤالًا أرجو أن تصدقيني فيه.» قالت: «وما هو؟» قال: «لما لحق بك سالم في تلك الليلة ما الذي جرى له؟» فتذكرت وصية الحسين بالكتمان وهي تضن بسالم أن يُهان فقالت: «ماذا جرى له؟ لم يجر له شيء.» قال: «أصدقيني … إني قد اطلعت على فشله وجبنه فلا تنكري شيئًا.» فاستغربت تصريحه وقالت: «من قال ذلك؟ لم يكن معنا أحدٌ سوى الحسين، وهذا لم يقص عليك الخبر.» فقال: «ما أدراك أنه لم يقصه علينا؟» قالت: «لأنه أمرني بالكتمان.» قال: «لماذا أراد كتمان الواقع إن لم يكن في ظهوره عيبٌ على سالم؟ قولي الصدق.» فلم تُطعها نفسها على الإنكار، فقالت: «إنه أساء التصرف مع الحسين؛ لأنه لم يكن يعرفه … ولكن مَن قص عليك الخبر؟ سالم؟» قال: «لا. إن سالمًا خجل من قول الصدق، ولكن أبا حامد قَصَّه علي أمس، وقد استطلعه بفراسته ووبخ سالمًا عليه حتى أغضبه وخرج من المعسكر لا ندرى إلى أين.» فصاحت رغم إرادتها «ويلاه إلى أين ذهب؟» فقال حمدون: «يظهر أنك لا تزالين على حُسن ظنك به وعمه نفسه قد رذله واحتقره وكدره، وقد قال لي إنه ليس أهلًا للمياء الشريفة الصادقة … إن خطيبًا يرجع من بين يدي خطيبته بمثل هذا الفشل لا يليق بها.» فقالت وصوتها مختنق: «أبو حامد قال لك ذلك.» قال: «نعم. إذا كنت لا تصدقين فإني أدعوه ليقول ذلك أمامك.» فغصت بريقها وأطرقت وقد تولتها الحيرة وتحرك قلبها فتذكرت منزلة سالم عندها وهي تجله وتنزهه عن كل عيب فكيف تسمع هذا القول وتسكت فصاحت «كلا … إن سالمًا شهم لا يستحق هذه الإهانة … إن عمه قد ظلمه.» وشرقت بدموعها. فقال: «لله أنت يا لمياء … بل لله من الحب ما أقوى سلطانه … إن أبا حامد هو الذي رغبنا في سالم ثم هو اليوم يقول إنه جبان لا يليق بك … ومع ذلك فإن وصولك إليه لا يكون إلا بقتل المعز وقائده فهل نعود إلى عزمنا الأول؟» فأجفلت وقالت: «لا … لا … إن أمير المؤمنين لا يستحق ذلك.» قال: «وهل جوهر يستحقه؟» قالت: «لا.» قال: «وهل الحسين يستحقه؟» فلما سمعت اسم الحسين شعرت بإحساس يشبه ما شعرت به ساعة وداعه تلك الليلة — إذ ودعته وقد سحرها بمروءته وسعة صدره — فسكتت وتوردت وجنتاها وتسارعت دقات قلبها وغلبت على أمرها. فأطرقت والدموع تتساقط من عينيها وأبوها يراعي حركاتها ثم قال: «لا بد من قتل الخليفة وقائدة أو التخلي عن سالم الجبان …» فصاحت وقد تحيرت في أمرها: «لا هذا ولا ذاك … لا تقل الجبان إن سالمًا … آه ويلاه كيف أسمع هذا القول فيه؟» وعادت إلى البكاء.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/29/
الثعلب
وهي في ذلك سمعت وَقْع خطوات مسرعة خارج الخيمة، فالتفتت فإذا بأبي حامد قد دخل وهو متزمل بعباءته، وعلى رأسه عمامةٌ صغيرةٌ قد لاكها حول رأسه على غير نظام كأنه ناهضٌ من الفراش. فحالما دخل لم تستطع لمياء عند رؤيته غير النهوض احترامًا، فأسرع إليها وأقعدها وهو يقول «لا تذكري سالمًا بفيك. إنه ابن أخي بل هو بمنزلة ابني ولكنني أنكرته منذ أمس وهو غير أهل لك وأنت أعلم الناس بالسبب … ومع ذلك فهو ليس هنا. ومن كان مثل لمياء التي جمعت شجاعة الرجال إلى لطف النساء وقد عرفناها صادقة اللهجة مخلصة الطوية يجب أن تتغلب على قلبها وتعمل بعقلها وكفى …» قال ذلك وقعد بجانب حمدون. فقالت — وهي تغص بريقها: «مهما يكن من الأمر إني لا أطيق أن أسمع مثل هذا القول في سالم … دعونا منه.» فقال أبوها: «وهذا ما أدعوك إليه الآن …» وأظهر الاهتمام وتطاول نحوها كأنه يُريد أن يهمس في أذنها، وقال: «هذا أخي أبي حامد قد رأى مثل رأيي في هذا الأمر وقد وجد القرار الذي سبقنا إليه لا يليق تنفيذه فعزمت على أن أستقدمك؛ لأقص عليك ما جرى وكنت أعتقدُ أنك تتلقينه مسرورةً، فإذا أنت تجادليننا في سالم فإذا لم يعجبك رأينا الجديد عدنا إلى القديم.» فخافت أن يغضب أبوها فيرجع إلى سوء رأيه فقالت: «قد رضيت لكنني أتقدم إليكم أن لا تذكروا سالمًا بسوء … لنرى ما يأتي به القدر.» فقال أبو حامد: «نسكت عن سالم ولكننا فرحون بما اجتمع عليه رأيُنا، وسنحتفل بقرانك في هذه الساحة احتفالًا لم يُسمع بمثله ونزفك إلى الحسين بن جوهر بحضور الخليفة وإذا كان سالم أهلًا لك فليأت ويأخذك بنفسه … وقد عهدنا المحبين يتفانون في هذا السبيل ولا يفعلون ما فعله سالم من الفرار الذي تعلمينه … دعينا منه. لا أُحب أن أعود إلى ذِكْره إكرامًا لك.» فسكتت وهي ترى الصواب في العدول عن سالم بعد ما رأتْه من تصرفه فضلًا عن البواعث القاهرة التي ألجأتْها إلى القبول بغيره لكن قلبها لم يطاوعها على الارتياح لذلك الاقتراح فجعلت قبولها مشفوعًا بانتظار ما يأتي به الغد أو ما تدبره الأقدار. انفضَّت تلك الجلسةُ على هذه الصورة فرجعت لمياء إلى المنصورية تنتظر أمر والدها في القدوم عليه قبيل الزفاف، ومكث حمدون وقد اطمأن خاطرُهُ ووطن نفسه على الاكتفاء بالقُربى من المعز لدين الله ولو مؤقتًا وقد شفع قبوله أيضًا بانتظار ما يأتي به الغد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/30/
أبو حامد
أما أبو حامد فخرج من تلك الجلسة وقد ضاقت نفسُهُ مِن حبس إرادته وأتعبتْه المراوغة وتكلُّف الظهور بعكس ما يضمره. فما صدق أنه عاد إلى فسطاطه وخلا بنفسه حتى تنفس الصعداء وقد هاجت ضغائنه وغلت مراجلُ صدره وأصبح يزمجر كالشبل الجريح. وأمر حارسه أن لا يدخل عليه أحدًا وجعل يخطو في الفسطاط ذهابًا وإيابًا وهو مطرقٌ يعمل فكرته ويستحث قريحته في تدبير حيلةٍ ينال بها غايته. وقد عظُم عليه عُدُول حمدون عن قتل المعز ولم يكن أسهل عليه من أن يقنعه بما له من السلطة على أفكاره لكنه خاف رُجُوعه مرة أُخرى على غرة وربما باح بسره فيعود ذلك وبالًا عليه. فأظهر ارتياحَه إلى رُجُوعه، وأضمر أن ينفذ غرضه بنفسه فيقتل المعز وقائده وقد يقتل حمدون وابنته وزوجها؛ فإنه لا يبالي من يقتل أو لماذا يقتل في سبيل غرضه. قضى مدة في هذا التفكير وهو يخطو ذهابًا وإيابًا، ثم جعل يناجي نفسه قائلًا: «أنا أبو حامد حامل سيف النقمة … اطمئن بال هذا الأمير المغرور وسكن خاطره واعتقد أني أطعتُهُ في العدول عن قتل ذلك الطاغية كما اعتقد أولًا أني أسعى في هذا القتل إكرامًا لخاطره لأعيده إلى سرير ملكه في سجلماسة وصدق أنه من آل مدرار أصحاب تلك المملكة العظيمة. وهو يعلم أنه دعي في نسبهم؛ لأنهم انقرضوا منذ أعوام. ولكنه حسبني أقول ما أعتقد فوافقه قولي ورضي بذلك النسب وبنى عليه حقه في إمارة سجلماسة ووافقني أيضًا على الفتك بالمعز وقائده وأنا أعلم ضعفه وتردده وطالما خفت رجوعه. فأحمد الله لرجوعه الآن قبل أن أدبر طريقة الفتك وأطلعه عليها فإذا انقلب بعد ذلك أخاف أن يبوح بها لصديقه ومولاه المعز فيذهب سعيي عبثًا … أما الآن فإني أكتم تدبيري عن كل إنسان وسأجعلُهُ قاضيًا عليهم أجمعين … أبا عبد الله! إني ثائر لك. نم هادئًا إن دماء أعدائك سأجريها في قناة حتى تدرك قبرك فترتوي أنت منها كما أرتوي أنا هنا. في فج الأخيار مستودع القوة فإذا فرغت مِن قتل هؤلاء الأعداء عدت إلى إتمام مهمتي. أنا أبو حامد ويل لهم من نقمتي.» وكان يناجي نفسه وهو يمشي، ثم يقف، ثم يمشي كالحيران ويعبث تارة بشاربيه وطورًا بلحيته أو يقضم أظافره بين أسنانه حتى كاد يدمي أنامله من عظم ما هاج في خاطره. ولو نظر إلى وجهه في المرآة لرأى سحنته مرعبة؛ إذ احمرت عيناه وانتفش شعره لكثرة عبثه به وقد أفسد نظام عمامته ولحيته وشاربيه كأنه خارجٌ من عراك طويل. ثم تمالك وأخذ يُصلح مِن شأنه ويتظاهر بالسكون وهدوء البال. وأمر غلامه أن يسرج له الجواد. ركب أبو حامد والغلام ماشٍ في ركابه والشمس في الضحى. وقد تعود الركوب للرياضة فلم يستغشه أحد. ولما صار خارج المعسكر أمر الغلام بالرجوع وقد عوده الكتمان فلا حاجة به إلى التنبيه عليه أن يكتم أمر سيده وجهة مسيره. أما هو فإنه ساق جوادَه وأوغل في الصحراء وقد حميت الشمس وانعكست أشعتُها على الرمال فظهرت لامعةً تتوهج. وأرسل نظره إلى الأُفُق ليتطلع إلى الجبل الذي يقصده فوجد السراب قد حجبه. ورغم ما تعوده من مشاهدة السراب في البادية في مثل تلك الساعة فقد خدع به. فكان يتوقع أن يرى في أقصى ما يقع عليه بصره من الأفق جبلًا مخروطي الشكل مميزًا عما يحف به من الجبال. فأوهمه السراب أن هناك بحيرة تتراءى في مائها صور أشجار تظهر مقلوبة وخيل له أنه يرى قوارب سابحة على سطح البحيرة. شغله ذلك المنظر برهة وإن لم يصدقه وكلما اقترب من المكان انجلى له حتى وصل إلى الجبل وأكثره أجرد وفيه كثيرٌ من الكهوف والشقوق على شكل يندر بين الجبال. فساق جواده في منعطف صاعد يصعب سلوكُهُ لِضيقه حتى دار من وراء الجبل وهو لا يسمع غير وقع حوافر جواده أو صهيله. وإذا أطل أشرف على سهل رملي ليس فيه شيء من العمارة. وكان وهو سائق يتلفت إلى الوراء حذرًا من أن يكون أحد في أثره حتى اقترب من مغارة عظيمة لها باب كبير منقور في ذلك الجبل فتنحنح نحنحة خاصة فسمع مثلها في قاع المغارة فساق فرسه حتى وقف في الداخل. فسمع مناديًا يقول والصدى يردد قوله: «ادخل يا مسعود.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/31/
التدبير
فترجل ودخل وهو يقود الفرس بزمامه وراءه. وكأن الفرس أحس برطوبة المكان فتوالى عليه العطاس ودوى صوت عطاسه دويًّا يزيده إجفالًا واستغرابًا. وبعد مسير بضع دقائق انتهى إلى بقعة منيرة فيها ما تقشعرُّ له الأبدان من أشكال الحيوانات المتضادة في طبائعها مما لا يخطر ببال كالثعابين والسحالي وأنواع الضب والطير والحمام بين سارح ومنساب وواثب. وبينها حيةٌ مهولةٌ قد التفت على جزع شجرة منصوب لها هناك ورأسها يتلوى ذات اليمين وذات اليسار. وأُخرى تنساب بين الأحجار الملقاة على الأرض. ولو لم يكن قد تعود المجيء إلى ذلك المكان ومشاهدة تلك المناظر واعتقاده أن تلك الدبابات لا تؤذيه؛ لأنها مسحورة لأجفل وخاف. أما الفرس مع أنه كان يصطحبه كل مرة فلم يألف ذلك المنظر المريع فاضطرب وضرب الأرض بحافره وصهل وتراجع وأبو حامد ممسك بزمامه ينتظر أن يأتي من يتناوله منه. وإذا بعبد عظيم الجثة برز من بعض أطراف تلك البقعة وألقى التحية فرد عليه أبو حامد. فتقدم العبد وقبل يده وتناول زمام الفرس ومشى به إلى مكان يربطُهُ فيه. ثم مشى أبو حامد في طريق تجنب فيه العثور بشيء من تلك الحيوانات حتى دخل دهليزًا منقورًا بالصخر، ولو زار ذلك المكان أحد علماء الآثار اليوم لَتحقق أن تلك المغارة مِن بقايا الأبنية القديمة في العُصُور الغابرة؛ لأنها منقورةٌ في الصخر وربما كانت في الأصل قبورًا أو هياكلَ وتُنوسي خبرها حتى أصبحت مسكنًا لكاهنة ساحرة لا يصطلَى لها بنار. وكان أبو حامد قد عرفها منذ أعوام واستعان بها في كثير من شئونه. وهي من خلفاء كهان البربر قبل الإسلام، اتصلت إليها هذه الصناعةُ مِن أجدادها وهي تخاف الظهور فاستترت هناك ولا يصلها إلا القاصد. ولم يمش أبو حامد قليلًا حتى دخل حجرةً منقورةً في الصخر أيضًا وفي صدرها دكة من الحجر قد تربعتْ عليها عجوزٌ شمطاء بلباس غريب الشكل فيه من كل لون قطعة. شعرها ناصعُ البياض وقد انتفش واشتبك فأصبح منظرُها مخيفًا. وهي في الأصل سمراء اللون ولكن الشيخوخة جعلتْ لونها أقرب إلى السواد وتجعد جلدها وغارت عيناها وتدلى حاجباها الغليظان نحو الأمام فأصبحت عيناها كالمصباح يتراءى من وراء نافذة مظلمة. تحتها أنفٌ غليظٌ قصيرٌ فيه حلقة من العاج أُدخلت في أنفها كالخزام منذ صباها على يد ساحرة كان لأهلها ثقةٌ في علمها واعتقدوا أن وجود ذلك الخزام من أكبر أسباب مهارتها. وناهيك بما في أذنيها من الأقراط وفي عنقها من العقود وحول زندها من الأساور وفيها الذهب والفضة والعاج. وقد جلست على جلد دب وألقت على كتفيها جلد نمر وفي حجرها ثعبانٌ غليظ قصير تتلاهى بملاعبته. فلما أطل أبو حامد عليها رحبت به بصوت جهوري وقالت: «أهلًا بولدي مسعود … قد أطلت الغياب علي … أين كنت؟» وأشارت إليه بعصًا طويلة — كانت بجانبها — أن يقعد على دكة بين يديها فقعد وهو يقول: «كنت في عملي الذي تعلمينه.» فقالت: «قد آن لك الظفر يا مسعود …» وهو الاسم الذي تعرفه به فأبرقت أسرته؛ لأنه كان يعتقد صدق فراستها واقتدارها على كشف المخبآت حتى جعلها مستودع أسراره من أيام أبي عبد الله الشيعي. وكانا يأتيانها أحيانًا ولها دخل في جمع كلمة قبائل البربر الذين نصروا أبا عبد الله في تأييد العبيديين. فكان أبو حامد لذلك عظيم الثقة بها لا يأتي عملًا هامًّا إلا شاورها فيه. فتنصحه وهو لا يزداد إلا ثقةً بها. وقد جاءها في ذلك اليوم لأمر لا يخفى على القارئ، ولا هو يخفى على تلك الكاهنة الشمطاء؛ لأنها كانت مشرفة على أخباره — ليس مما ينقله هو إليها ولكن لها جواسيس مبثوثين في البلاد لمثل هذه الغاية — فلما قالت له ذلك استبشر واعتقد صدق قولها؛ لأنها كانت متسلطةً على أفكاره مثل تسلُّطه على أفكار الآخرين، فقال لها: «هل علمت ذلك يا خالة أم تسألينني؟» فنظرتْ إليه شزرًا وقالت: «ومتى كنت أستشيرك يا جاهل.» فضحك وجعل يعتذرُ لها عن جسارته، وكانت وقاحتُها هذه من أسباب تمكين هيبتها فيه، فمد يده إلى جيبه واستخرج صرةً فيها نقود دفعها إليها وهو يقول: «بارك الله فيك … صدقت قد دنا الفرج … اقبلي هذه الدراهم طعامًا لأولادك هؤلاء.» وأشار إلى الثعبان الذي في حجرها وهو يُظهر المزاح. فمدتْ يدها وتناولت الصرة وهي تهز رأسها هز الإعجاب وتقول: «لا تَقُلْ دنا الوقت بل قل أتى … لم يبق إلا خطوة صغيرة.» قال: «نعم يا سيدتي إنها خطوة ولكنني أراها شاقة …» قالت: «أين صرت الآن؟» قال: «سأجمع الرجلين في مكان واحد وإنما أحتاج إلى رأيك في كيفية القتل … بالخنجر أم بالسم.» فضحكت ضحكةً دوى لها المكان وكشرت في أثناء القهقهة فبانت نواجذها وأصبح فمها كالمغارة المظلمة. ثم أطبقت فاها فجأة وأطرقت وقد تغيرت سحنتُها وأبرقت عيناها ومدت يدها إلى علبة صغيرة بجانبها تناولتْ منها مسحوقًا وضعت بعضه في فيها وجعلت تتلاهى بامتصاصه ومضغه. ثم رفعت بصرها إلى أبي حامد وكانت الصرة لا تزال بيدها فرمتها إليه وقالت: «لا حاجة إلى أولادي بدراهمك.» فأدرك أنها استقلت المبلغ فاستخرج صرتين أخريين ودفع الكل لها وهَمَّ بتقبيل يدها تزلفًا واسترضاءً، وهي تتجنى وتترفع. لكنها تناولت النقود وقالت: «إن طلبك لا يقدر بالمال وأنا أعينك فيه إكرامًا لذلك المقتول ظلما … انظر … سأعطيك مسحوقًا الذرةُ الصغيرة منه تقتل فيلًا كبيرًا … وإذا لم تصدق جرب …» وضحكت وليس ضحكها إلا عبارة عن تكشير شفتيها بدون أن يرافق ذلك ملامح الضاحكين. ثم أمرت الثعبان الذي في حجرها أن ينصرف فانساب إلى وكره. فنهضت وهي تتوكأ على عكازها الغليظ وأشارت إلى أبي حامد أن يمكث في مكانه ريثما تعود. فمكث على مثل الجمر وهو يتبع الساحرة ببصره وقلبُهُ يختلج خوفًا من أن يثب عليه الثعبان وهو يعتقد أن الموت في نابيه رغم اعتقاده أنه مسحور. وفاته أن تلك الثعابين قد أقلعت أنيابها السامة ولولا ذلك لقتلت صاحبتها؛ لأنها لا ترعى ذمامًا. فاستبطأ الساحرة فقال في سره: «ألا يخشى أن تخونني هذه الملعونة إذا أغراها سواي بمال كثير؟ فيجب أن أقتلها قبل خروجي من هنا.» ولكنه يعلم أن لها أعوانًا ربما كانوا مختبئين هناك فعدل عن القتل وعزم على إطماعها بالمال الكثير خوفًا من غدرها. وبعد قليل عادت وفي يدها حق من الأبنوس فتحته وأرته فيه مسحوقًا أبيض وقالت: «احذر أن تمسه بيدك؛ لأن ما يعلق منه بطرف إصبعك كاف لإزهاق الروح.» ثم أقفلت الحق ودفعته إليه. فتناوله وقبَّل يدها، وقال: «لا تظني أني أنسى فضلك فإني معد لك هدية ثمينة سأدفعها إليك بعد الفراغ من هذا العمل.» قالت: «لا حاجة بي إلى هدية … خذ هذا الحق وامضِ إلى سبيلك.» فتناوله وخبأه في جيبه وودعها وخرج. فرأى العبد في انتظاره فركب الجواد وعاد إلى فسطاطه وهو يمنِّي نفسه بالفوز.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/32/
الاستعداد
أما حمدون فقضى ذلك اليوم في فُسطاطه وذهب في الغُرُوب لتناوُل الإفطار على مائدة المعز كأمس وقد أخلص النية في مصادقته. وهكذا كان يفعل كل يوم من أيام رمضان ولمياء في قصر المعز معززة مكرمة وأم الأمراء تواليها بالإكرام والإيناس. وقبل انقضاء رمضان ببضعة أيام أرتها القصر الذي ستعيش فيه بعد الزفاف وقد ملأته لها بالرياش والأثاث والتحف والجواري والغلمان. غير ما أهدتها إياه من المجوهرات والثياب الثمينة. ولَمَّا دنا عيدُ الفطر أخذ حمدون يُهَيِّئ معدات الاحتفال في معسكره وهو لا يعمل إلا بمشورة أبي حامد، فأشار عليه هذا أن ينصب السرادقات على مرتفع بين يدي المعسكر، فنصبها على أكمات مشرفة على ساحةٍ كبيرة ليلعب فيها الفُرسان على الخيول، وفي مقدمة السرادقات سرادقٌ كبيرٌ نصب فيه المقاعد للمعز وقائده ومن يختار أن يكون معه من خاصته. وسرادق للمطابخ تقام فيه الموائدُ وبينها مائدةٌ خاصةٌ بالخليفة وقائده وابنه وحمدون. واختص خدمتها بغلام صقلبي من غلمانه الخصوصيين أصله من صقالبة قصور قرطبة. وكان أبو حامد قد عاهده سرًّا على أُمُور تطمحُ أنظارُهُ إليها وحمدون لا يعلم. وزعم أنه اختاره لهذه المائدة لمهارته في خدمة الموائد؛ لأنه تَعَوَّدَ ذلك في قصور المروانيين في قرطبة وقد أتقن معالجة الأطعمة. وكان هذا الصقلبيُّ قد استسلم لأبي حامد وأصبح يتفانى في تنفيذ أغراضه ولا يبالي بعواقبها. وكان لأبي حامد سلطة خصوصية عليه من قبيل ما يعرف اليوم بالتنويم المغنطيسي، ولم يكن يُعرف يومئذٍ بهذا الاسم. ولكن أبا حامد كان إذا أحب أن يستهوي هذا الغلام اختلى به وسقاه شرابًا مخدرًا ينعشه ويضعف إرادته ثم يأمره بما يُريد فيصبح أَطْوَعَ له من بنانه. وهو ينسب ذلك التأثير إلى فِعْل الشراب، والحقيقةُ أنه يستهويه بقوته المغنطيسية فإذا أمره بعمل وعَيَّنَ له وقته؛ لا بد من تنفيذه. فلما عزم أبو حامد على ما نحن فيه استهواه قبل يوم الاحتفال ودفع إليه الحق وأمره أن يضع منه شيئًا في الأقداح التي يسكبها للخليفة وقائده وحمدون والحسين بن جوهر. ونظر أبو حامد في ما يعمله إذا نفذت حيلتُهُ فأرسل خاصتَه إلى مكانٍ بعيد عن المعسكر من جهة الطريق المؤدي إلى مصر أعد فيه ما يحتاج إليه من وسائل النقل حتى إذا نجحت مكيدتُهُ فَرَّ إلى مصر يُلاقي فيها سالمًا ويتممان مهمتهما بمساعدة صاحبها بفتح القيروان وإدخالها في حوزة الخليفة العباسي. ويكونُ ذلك سهلًا عليه بعد قتل الخليفة العبيدي وقائده. لكنه ظل خائفًا من لمياء؛ لئلا تكون مطلعةً على بعض سره من حيث مخابئه ومعداته فأعد لهلاكها وسيلةً أُخرى.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/33/
موكب الخليفة والسباق
دبر أبو حامد ذلك كله خلسةً ولم يشعرْ به أحدٌ وظل مشتغلًا مِن جهةٍ أُخرى بإعداد مهمات الاحتفال. وقبل يوم الفطر ببضعة أيام نُقلتْ لمياء إلى فسطاط أبيها على أن تُزَفَّ من هناك إلى الحُسين في المنصورية على العادة الجارية عندهم. وفى صباح يوم الفطر كان معسكر حمدون غاصًّا بالسرادقات والأعلام. وبعد الظهر خرج الخليفةُ بموكبه من قصره في المنصورية وعليه لباسُ العيد تحفُّ به حاشيته من الأمراء والصقالبة. وقد امتطى فرسًا من جياد الخيل ومشى بين يديه الأمراءُ والقوادُ إلا قائده جوهر فإنه أمره أن يسير راكبًا بجانبه. فلما أَطَلَّ موكبُ الخليفة على ذلك المعسكر خرج حمدون لاستقباله بالاحترام ومشى بين يدي الجواد حتى وقف أمام السرادق المعد لجلوسه. فترجل الخليفة وقائدُهُ وأومأ إلى الحسين بن جوهر أن يصعد معهما إلى دكة في صدر السرادق مفروشة بالبسط والوسائد. وقد أوقدت مباخرُ الند والعود في جوانب السرادق وغرست الأعلام ببابه. فجلس المعزُّ في الصدر وأمر قائده أن يجلس إلى جانبه والحسين بين يديه. وكان الحسين أكثرهم فرحًا وقلبه يطفحُ سرورًا لِما اتفق له من الحفاوة في عرسه مما لم يتيسرْ لسواه. كيف لا وقد خرج الخليفةُ المعزُّ لدين الله من قصوره إلى تلك الساحة إكرامًا له ولم يبق في الأمراء والقواد إلا مَن حسده على هذه النعمة. وتقدم حمدون للترحاب بالخليفة عند جلوسه وأكب على يده كأنه يهم بتقبيلها اعترافًا بما خوله من الالتفات بتلك الزيارة وقد أخلص النيةَ في طاعته. ثم سأل الخليفة عمن يريد أن يجالسه في سرادقه من الشعراء فاكتفى بابن هاني (متنبي الغرب) وكان حمدون قد أعد له ولأمثاله مقاعد في جوانب السرادق. جلس المعز ووراء مقعده صقلبيان يحملان المذاب من ريش النعام كالمظلة فوق رأسه. وهو ينظر إلى ما يشرف عليه من السرادقات الأخرى. التي أُعدت لجلوس خواصه ورجال حاشيته. واختص بعض أمرائه بالجُلُوس معه في سرادقه وأمام ذلك السرادق ساحةٌ فسيحةٌ قد سُويت أرضها وفرشت بالرمال للعب الخيل. ووقف حمدونُ بين يدي المعز وجعل يقدم له أمراء سجلماسة واحدًا واحدًا ويسميهم بأسمائهم وفي جملتهم أبو حامد واختصه عند التعريف بعباراتِ الإعجاب به وأعرب عن إخلاصه للخليفة. فأمر المعز أن يكون من جملة الجُلُوس في ذلك السرادق. ولم يقصر أبو حامد في تأكيدِ ولائه وولاء سائر أُمراء البربر لأبناء فاطمة الزهراء. وبالغ في الإطراء وهو — كما علمت — فصيح اللهجة قوي الحجة رغم ما في سحنته من الغرابة. فأعجب المعز به وتوجه نحوه وأبدى ارتياحَه إلى مجالسته. فلما استقر الجلوس بالقوم تصدى أبو حامد للترحيب بالخليفة بالنيابة عن صديقه حمدون، فقال: «إن صديقي أمير سجلماسة يحق له أن يُفاخر سائر الأمراء بما أوتيه من تنازلكم لوطء بساطه. بل يحق له أن يفاخر الناس كافة وقد وطئ بساطه ابن بنت الرسول ﷺ ولعل صديقي حمدون؛ لفرط امتنانه لا يقوى على تأدية حق الشكر.» فأعجب المعز بحديث أبي حامد وقطع كلامه على سبيل التواضُع وقال: «إننا نقدر الرجال أقدارهم ونحن نعلم فضل صاحب سجلماسة، ومَن أخلص الصحبة لنا جعلناه واحدًا منا وإن مصاهرته لقائدنا الباسل جعلت له منزلة خاصة من نفسنا.» فتقدم حمدون عند ذلك وقال نحو ما قاله أبو حامد من عبارات الشكر وأكد للخليفة أنه مخلصٌ في خدمته واستأنف الحديث قائلًا: «ألا يأمر أمير المؤمنين بشيء يسر بمشاهدته من الألعاب.» فأحب المعز أن يزيده استئناسًا به، فأجابه باللغة البربرية؛ لأنه كان يُحسنها وقال: «كثيرًا ما سمعتُ بمهارة فرسان سجلماسة بركوب الخيل فهل يتيسر لنا أن نراهم يتسابقون؟» وتبسم. ففرح حمدون بذلك الانعطاف وأسرع وهو يُشير بيديه فوق رأسه إشارةَ الطاعة. والتفت نحو الوقوف بباب السرادق من الرجال وأومأ بإصبعه إلى واحد منهم فهرع، ولم يمض قليل حتى غصت تلك الساحة بالخيول عليها الفرسان بالألبسة الفاخرة على زي أهل سجلماسة وأكثرهم باللثام على رءوسهم يغطي معظم الوجه. وعلى أكتافهم البرانس الواسعة نحو ما يلبسه أهل تلك البلاد إلى اليوم. وعلى خُيُولهم السروج المختلفة وفيها القرابيزُ الفضة المذهبة أو المنزلة بالعاج وبينها خيولٌ عاريةٌ لا سرج عليها وإنما يزينها جمالُها الطبيعيُّ. على أَنَّ العارفين بطبائع الخيل لا يلتفتون إلى ما على الأفراس من الكساء وإنما ينظرون إلى صدورها وأعناقها وأكتافها، ويتفرسون في عيونها. وكان المعز من أكثر الناس معرفةً بالخيل فأخذ يتأمل تلك الأفراس ويجيل نظرَه فيها كما يفعل العارفُ الخبير. وقف الفرسان صفًّا واحدًا عند السرادق وخيولُهُم لا تستقر في مواقفها ريثما أَدَّوْا واجبَ الاحترام. ثم أشار حمدونُ إليهم فأخذوا في اللعب على ظُهُورها ألعابًا مدهشة تشغل الخاطر لغرابتها، وفيها ما يبعث على الإعجاب الكثير؛ لأن بعض الفرسان كان يسوق فرسه حتى لا تكاد حوافره تطأ الأرض ويعمد وهو في تلك السرعة فيدور حوله حتى يلتصق ببطنه ثم يعودُ إلى ظهره ورأى غيره يركب فرسًا ويسوق آخر إلى جانبه وينتقل من ظهر الواحد إلى ظهر الآخر والفرسان في أشد السرعة وغير ذلك. فلم يتمالك المعز عن إطراء تلك المهارة ووجه خطابه إلى أبي حامد وقال: «بالحقيقة إن أهل سجلماسة من أمهر قبائل البربر في الفروسية حتى نساءهم فقد بلغني أن فيهن ماهرات يسابقن الرجال.» فتصدى القائد جوهر للجواب وقال: «نعم يا مولاي إني رأيت ذلك منهن رأي العين في بلادهن.» والتفت إلى ابنه الحسين وابتسم ابتسامة فهم الجميع مراده منها — وهو يعني لمياء على الخصوص — فقال أبو حامد: «أظنك تعني لمياء وهز رأسه هز الإعجاب» فالتفت المعز وقال: «عرفنا لمياء عاقلةً حكيمةً وسمعنا ببسالتها في ساحة الوغى … فهل تُحسن ركوب الخيل أيضًا؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/34/
لمياء بين المواشط
وكان حمدون واقفًا يسمع ذلك الإطراء بابنته فلم يخطر له أن يعرض على الخليفة رؤيتها على الجواد. لكن أبا حامد غمزه أن يفعل فقال: «هل يُريد مولانا أن تخرج لمياء على فرسها؟» فقال المعز وهو يحك عثنونه: «لا نريد أن نزعجها اليوم؛ لأنها فيما هو أهم من ذلك»، وضحك. فتصدى أبو حامد للجواب وقال: «إنها لم تركب الخيل من زمان بعيد وإذا ركبت اليوم فلعلها آخر مرة يتأتى لها ذلك، ومتى صارت في بيت القائد ربما لا يعود يتيسر لها.» فأشار المعز بالقبول وقال: «طبعًا نحن نحب أن نراها ولكن لا نعلم إذا كان الحسين يوافقنا …» والتفت إلى الحسين وابتسم فعد الحسين التفاته نعمةً أخرى فأطرق خجلًا. فوقف جوهر بالنيابة عن ابنه وقال: «إنها أمة مولانا أمير المؤمنين، وسيكون لها الحظُّ كما يكون لنا في سبيل طاعة أمير المؤمنين.» فأسرع حمدون إلى فُسطاطه ليخاطب لمياء بما جرى وهو يعلم أن خروجها في تلك الساعة مِن أصعبِ الأُمُور؛ لأنها ساعة التبرج والتزيين. وتصور أنه سيجدُها بين أيدي المواشط والحواضن يزينَّها ويصلحن من شأنها، ولكن خاب ظنه؛ لأن لمياء لما تحققت إتمام الاقتران وآن الزفاف هاجت عواطفها الكامنة وعادت إلى ذكرى سالم حبيبها الأول. ورغم ما ظهر من ضعفه وتردده فإنها ما زالت تحبه وتتفانى في مرضاته. وإنما كان قبولها بالحسين مؤقتًا تنتظر ما يأتي به الغد في أثناء شهر رمضان. فلما جاء عيد الفطر ولم يجدَّ شيء وانتقلت إلى بيت أبيها لتزف إلى الحسين أظلمت الدنيا في عينيها وتحققت أنها لا تلبث أن تصير زوجةً لرجل وإن كانت تحبه وتعجب بمناقبه لكنها لا تزال ترى سالمًا أولى بقلبها منه. واعتقدت أن قبولها بالحسين يعد في شرع المحبين خيانةً. فوقعتْ في حيرة وظهرت الحيرةُ فيها على الخصوص في صباح ذلك اليوم لما أتت المواشط لتزيينها وإصلاحها. فاستمهلتهن وانزوت في فُسطاط أبيها تعمل فكرتها فلما جاء أبوها ليخاطبها بشأن الركوب أخبروه بما فعلت فذهب إليها فوجدها قاعدةً على وسادة وحدها وقد أطرقت وبانت الحيرة في عينيها فقال: «ما بالك يا لمياء، لماذا أنت هنا؟» فأرادت الجواب فسبقتها الدموع فسكتت. فدنا منها وأمسك بيدها فأحس ببرودتها وارتعاشها وقد بالغت في الإطراق فلحظ الدمع في عينيها فاستغربه. وهو لا يقدر أن يتصور عواطف المحبين؛ لأنه لم يذق طعم الحب، فقال لها: «ما هذا الجنون … ما بالك؟ لماذا تبكين؟» فأفلتت منه وقالت وصوتها مختنق: «أبكي على سوء حظي … يا لتعاستي!» فقال: «وأي تعاسة؟ هل في الدنيا فتاة أسعد حالًا منك؟ ستُزفين بعد ساعات قليلة إلى أنبل الشبان. وهذا أمير المؤمنين قد جاء بنفسه؛ ليكون زفافك على يده. إن ألوفًا من الأميرات يحسدْنك على هذا الحظ وأنت تشكين من سوئه؟» فقالت: «إني سيئة الحظ … دعني الآن …» قال: «كيف أتركك وأنا قادمٌ إليك بمهمة من المعز لدين الله … بلغه أنك ماهرة في ركوب الخيل فطلب أن يراك على الجواد.» فلما سمعت قوله شعرت بارتياح؛ لأن خروجها على الفرس ينجيها من مضايقة المواشط. وكانت إذا ركبت الفرس اعتزت على صهوته ونسيت كل مصائبها. وهي مع ذلك تحترم إرادة الخليفة. لكنها لم تجد في نفسها ميلًا إلى الخروج في تلك الساعة وهي غارقة في القلق والاضطراب فقالت: «كيف يخرج مثلي إلى ساحة السباق؟ إن هذا لم يُسمع به.» قال: «صحيح لكن أمر الخليفة لا يُمكن رَدُّهُ. وقد وافق عليه القائدُ جوهرٌ وابنه الحسين.» فلما سمعت اسم الحسين عادتْ إلى هواجسها وندمتْ؛ لأنها لم تقطع في هذه المسألة مِن أول الأمر، مِن يومِ خاطبوها بهذا الشأن … كان ينبغي أن ترفض أو تقبل أو تهرب أو … ولا ترضخ لذلك التردُّد شهرًا كاملًا حتى إذا أزفت الساعة ضاقتْ بها الحيلةُ … فلما طال سُكُوتها ظنها آسفةً لخروجها من بيت أبيها ودخولها بيت رجلٍ غريب كما يصيب أغلب البنات في مثل هذه الحال. فأمسكها بيدها وأنهضها وهو يقول لها: «اركبي جوادك وانزعي الأوهام عنك … إنك ذاهبةٌ إلى بيت أعظم من بيت أبيك وستزفين إلى شاب هو أعظم شبان هذه الديار … قومي … هيا بنا … إن الخليفة في انتظارنا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/35/
لمياء على الجواد
فوقفت ورأت خُرُوجها على الجواد خيرًا من بقائها هناك، وخطر لها أنه قد يرميها فتقتل وتنجو من ذلك التردد، فأطاعتْه ولبست ثوبًا يليق بالركوب ولفَّت رأسها بلثام تعودت أن تلتف به إذا ركبت. وأتوها بفرس من أحسن الأفراس فركبت وساقتْه إلى الساحة أمام السرادق والجواد يقطر عرقًا. فتقدم إليه بعضُ الغلمان الواقفين هنا لتلبية الفرسان بما يحتاجون إليه من التقاط حربة سقطت أو إبدال رمح كسر، وفيهم من يمسح عرق الخيل أو يغسل وجوهها تنشيطًا لها. فتقدم أحدهم وبيده وعاء فيه ماء وإسفنجة بَلَّهَا بالماء ومسح وجه الجواد وأخذ بتنشيفه ولمياء على ظهره كالجبل الراسخ. ولم يكد الغلام يفرغ من عمله والخليفة يتوقع أن تبقى لمياء واقفةً تنتظر أمره. فرآها أشارت إليهم إشارة الوداع كأنها راجعةٌ إلى خدرها. وإذ بالجواد قد عاد بها عدوًا سريعًا عن غير إرادتها كأنها وخزته بحربة في جنبه. ولم تشأْ أن توقفه؛ لئلا يظهر ذلك مظهر الخوف منها فأطلقت له العنان على أن توقفه هناك وهي بعيدة عن سرادق الخليفة. فظنها أهل السرادق أنها فعلت ذلك عمدًا على أن تعود رأسًا إلى فسطاطها. أما هي فأرادت أن توقف الفرس فلم تره يزداد إلا عدوًا على غير هدًى كأنه أُصيب بجنة. وعبثًا حاولت كبح جماحه. ثم رأته يتوغل بها في الشعب والجبال وهو يشخر ويصهل ويهز رأسه. وأرادت أن تحوله نحو المعسكر فلم يطعها. وبعد قليل التفتت إلى ورائها فرأت أنها صارت على مسافة بعيدة من المعسكر وقد توارى عنها المعسكر والمنصورية جميعًا والجواد سائرٌ فيها شرقا جنونيًّا. مرت بها دقائقُ رهيبةٌ خطر لها في أثنائها خواطرُ عديدة. وفى جملتها أَنَّ جُمُوح ذلك الجواد قاتلها لكنه قد ينقذها من ترددها ووخز ضميرها، وكانت الشمسُ قد مالتْ إلى المغيب وأخذت الظلال تستطيل ولمياء توغل في الوعر وتبعد عن العمران. فثبَّتت نفسها على الجواد كأنها قطعةٌ منه وهي لا تخاف الوقوعَ عنه لكنها تحققت أنه أُصيب بشيء كالجنون أو أنه أهيج بوخز أو عقار مهيج؛ لأنه لم يكن يعدو في طريقٍ معروف بل كان تارةً يهبط واديًا وطورًا يصعد جبلًا والحجارة تتطاير من بين حوافره. ولم يقع بصرها على أحد تستنجده أو تستأنس به. فعزمت على التحوُّل عن الجواد وهو راكض — ولا يعجزها ذلك لتعوُّدها مثله — ولكنها لم تكن تجد أرضًا رملية أو ترابية تثب إليها. وهي تفكر في ذلك اصطدم الجواد بصخر فانتثرت هي عن ظهره بقوة الاستمرار وقُذفت إلى مسافة بضعة أذرع، فوقعت في حفرة هناك قليلة العمق فغابت عن رشدها. ولم تنتبه إلا وقد أظلمت الدنيا وظهرت النجوم فأرادت النهوض فأحست بألم في جنبها فلم تجد فيه كسرًا وإنما هي رضوض. ثم أحست بشيء يسيل على عنقها فتلمسته فإذا هو دم بارد. فعرفت أنها أصيبتْ بجروح فتجلدت وتماسكت، ثم توكأت على ما بين يديها ونهضت وهي تستند إلى جدار الحفرة. والتفتت إلى ما حولها فرأت أنها في بلقع، ولم تقو على الوقوف فسقطت، فأخذت تفكر بما حل بها وصبَّرت نفسها ريثما تستريح وجعلت تجس أعضاءها لتتحقق نجاتها من كسر أو صدع، فوجدت أنها سليمة ليس فيها غير الرضوض. وشغلها اضطرابُها عن خوف الحشرات المؤذية وهي كثيرةٌ هناك. وأخذت تناجي نفسها قائلة: «ألم يكن من الحكمة أن أُصاب بكسر في عنقي بهذه الصدمة فأموت وأنجو من متاعبي؟ فيكون الله قد استجاب دعائي وأنقذني من عذاب التردد؟ يا ربي ما العمل الآن؟» ثم تزحزحتْ لتجرب قوتها فسمعت خشخشة ثعبان ينساب بين الأحجار وراءها. فقف شعرها وهمت بالنهوض لتخرج من ذلك المكان — ولم تكن تخاف الثعابين إذا قابلتها في النور لكنها خافت الغدر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/36/
رسول غريب
وهي تهم بالنهوض سمعتْ وَقْعَ حوافر مسرعة فأسرع الثعبان في الانسياب حتى توارى وخفق قلبها فالتفتت فرأت أشباحًا كالفرسان يزيد عددُهُم على عشرة يسوقون أفراسهم. فحدثتها نفسها أن تستغيث بهم ولم تكد تهم بذلك حتى سمعت بينهم صوتًا يقول: «هل رأيتم أحدًا؟ لا شك أنها قُتلت.» فأجابه الآخر: «لا بد من ذلك؛ لأننا رأينا الجواد مقتولًا فهل تبقى هي حية؟» وتوسمت في صوت الأول لحن أبي حامد فغالطتْ نفسها وأحبت أن تتحقق ظنها فانزوت في مكانها حتى اقترب القومُ منها فقال أحدهم: «لقد تمت حيلتُنا ولا يلبث ذلك الدعي أن يموت هو وقائدُهُ قبل أن يتناولا العشاء انظروا هذا هجان قادم من طريق مصر … تربصوا له.» فأصبحت لمياء من شدة تأثرها تنتفض كالعصفور بَلَّلَه القطر. وخانتها قواها وأدركت أن القوم أبو حامد ورجاله وأنه الذي دبر لها هذه المكيدة بشيء وضعوه للجواد في أنفه عند غسل وجهه. وحدثتْها نفسها أن تصيح فيهم فعلمتْ أنها إذا فعلت قتلوها لا محالة وهي لا تريد أن تموت على أيديهم، فتجلدت، وأخذت تنظر إلى الجهة التي تظن الهجان قادمًا منها. فرأت هجانًا مسرعًا سرعة البرق فاعترضه الفرسان وأوقفوه وسأله أحدهم قائلًا: «إلى أين يا رجل؟» قال: «إلى المنصورية.» قال: «ومن تريد؟» قال: «أريد أمير المؤمنين المعز لدين الله.» قال: «وما الذي تحمله إليه؟» قال: «أحمل إليه رسالة من مصر.» قال: «أين هي؟ هاتها … إننا من رجاله.» قال: «لا أُسلمها إلا إليه … دعوني أسير في طريقي.» قال ذلك وأدار زمام هجينه فاعترضوه ومنعوه وألحوا عليه أن يدفع إليهم الرسالة وهو لا يرضى. فقال له أبو حامد: «إنك كاذب، لست قادمًا من مصر؛ لأن القادم منها لا يأتي منفردًا في هذه الصحراء … اصدقنا وإلا قتلناك.» قال: «كنت قادمًا في قافلة نزلت عند الغروب على ماء هناك وأسرعت وحدي لتبليغ الرسالة؛ لأنها مستعجلة لا بد من إيصالها قبل انقضاء هذا اليوم.» فقال أبو حامد: «لا شك أنك كاذب، بل أنت لص أو جاسوس، ونحن من رجال الخليفة فإذا كنت صادقًا فادفعْ لنا الرسالة، والخليفة الآن في قصره، لا تدركه إلا وقد نام.» قال: «إن الرسالة خصوصية له، وقد أُمرت أن لا أسلمها إلى أحد سواه ولو كان ابنه. وقد أُوصيت أن أدفعها إليه حالَ وصولي، وإذا كان نائمًا أيقظته، وإذا كان متكئًا لا أُمهله أن يجلس قبل أن أدفعها إليه. هذا ما أمرت به، فإذا كنتم من رجال الخليفة كما تزعمون، فدعوني أذهب في سبيلي.» فقال أبو حامد: «أعطنا الرسالة وإلا قتلناك.» فقال: «اقتلوني ولا أسلمها إلى لصاحبها.» ولم يتم كلامه حتى سمعت لمياء استلال الحسام ورأت أحدهم ضرب ذلك الهجان بالسيف على رأسه فسقط عن الجمل قتيلًا. وصاح أبو حامد وهو يقهقه من الضحك: «أوصل إليه الرسالة، أو تمهل، إنكما ستلتقيان في السعير بعد قليل.» والتفت إلى القاتل وقال له: «فتشْه واستخرج الرسالة منه وأدركنا فإننا سائقون إلى موضع القافلة.» قال ذلك وساق جواده وتبعه رجالُهُ إلا القاتل؛ فإنه تَرَجَّلَ عن جواده ووضع سيفه المسلول على الأرض بجانبه حتى يمسحه من الدم بعد الفراغ من تفتيش القتيل. فتحققت لمياء أن تلك الرسالة هامة ولولا ذلك لم يفضل حاملها القتل على تسليمها، وأعجبتْها أمانتُهُ وثباتُهُ. وكانت كثيرةَ الإعجاب بالأخلاق العالية. فأسفت لموته وأحست بميل إلى الانتقام له. وكانت قد تجددت قواها أو لعل حماستها نشطتها فتلملمت ونهضت وخرجت من الحفرة خلسة وهي تتسرق والرجل مشتغلٌ بالتفتيش حتى دنت من السيف المطروح بجانبه فتناولته بأسرع من البرق وأطلقته على عنقه فسقط فوق الهجان وثنت عليه بضربة أُخرى حتى تحققت موته ثم أزاحتْه وأتمت التفتيش، فوجدت الرسالة، وهي عبارة عن أسطوانة من القصب الفارسي فيها الكتاب وكان قد خبأها بين أثوابه، وهمت بالجواد فامتطت صهوته وكانت قد عرفت جهة المنصورية منذ رأت الهجان قادمًا، وحولت شكيمة الجواد نحو معسكر أبيها، وقد عادت إليها قواها تحمسًا في مصلحة المعز وأسرعت في إيصال تلك الرسالة لاعتقادها أنها لو لم تكن عظيمةَ الأهمية لم يؤمر حاملها بإيقاظِ الخليفة من نومه لتسليمها إليه، وكانت قد تنسمت من كلام أبي حامد أنهم أعدوا مكيدةً لقتل المعز. فعلمت أنها إذا أسرعت أنقذت ذلك الخليفة الذي تحبه وتحترمه، فأحست بنشاط وفرح فهمزت جوادها نحو معسكر أبيها وهي لا تراه لكنها علمت مما حولها أنها متجهة نحوه وقد نسيت حالها ولم تعد تفكر بالدم الذي يسيل على عنقها وكان قد جمد وانسد الجرح ولم يضرها؛ لأنه سطحي. أما أهل ذلك المعسكر فكانوا لما رأوا لمياء أشارت إليهم إشارة الوداع وركض بها الفرس توهموا أنها عزمت على شوط تركض به فرسها ثم تعود إلى فسطاطها الذي كانت فيه كما تقدم. وكان أبو حامد هو الذي دبر تلك المكيدة للمياء فدَسَّ أحدَ غلمانه بين الموكلين بمساعدة الفرسان وأوصاه أن يدس في أنف جواد لمياء مادة حريفة تهيجه وتحمله على الركض بغير هدًى، فهو عند ذلك لا يهدأ حتى يتحطم هو وراكبه. فلما تحقق عمل العقار ورأى لمياء غابت عن أعيُنهم وسمعهم يتساءلون عن مصيرها أكد لهم أنها ودعتهم ولا تلبث أن تعود إلى فسطاطها، وأخذ يشاغلهم بالحديث وطلب إلى حمدون أن يأتيهم ببعض الألعاب الغريبة ليتسلى الخليفة برؤيتها مما لا مثيل له في القيروان واحتال في الخروج من السرادق، وكان قد أمر رجاله أن يهيئوا أحمالهم ويخرجوا بها من ذلك المعسكر إلى مكان يعرفونه بجانب الطريق المؤدي إلى مصر كما تقدم. فلما بعُد عن المعسكر ركب هو ورجالُهُ وأخذوا يبحثون عن لمياء ليتحققوا قتلها وشاهدوا جوادًا في الطريق قد وقع قتيلًا بعد أن اصطدم بذلك الصخر وتراجع ودمه يسيل من صدره حتى وقع. فلما رأوه ولم يعثروا بلمياء تأكدوا قتلها في مكان رماها به.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/37/
المائدة
أما حمدون فلما دنا الغروب دعا الخليفة إلى العشاء الذي أعده له في السرادق الخاص بمائدته … وذهب الأمراء إلى موائدهم في السرادقات الأخرى ومشى الخليفةُ إلى المائدة وقد أضيئت السرادقات بالشموع وأُحرق البخور في أطرافها ومُدت الموائد في أواسطها وعليها أنواع الأطعمة، وذهب حمدون إلى الطاهي القرطبي — الذي تقدم ذكره — وبالغ في وصايته حتى يحسن الوقوف في خدمة الخليفة. وقبل التقدم إلى المائدة أزفت الصلاة فصلى الخليفة وصلى القوم وراءه، ثم جلس كُلٌّ منهم في مكانه، ومائدة الخليفة لم يجلس عليها إلا هو وقائدُهُ وابن قائده ووقف حمدون يخدمهم بنفسه بمساعدة الطاهي المشار إليه وبعض غلمانٍ آخرين يحملون الأطباق من المطابخ، ووقف سائرُ الغلمان بأباريق الفضة والقوارير فيها الجوارشنات أو الأشربة الهاضمة وقد شغل حمدون بأضيافه عن التفكير بلمياء؛ لاعتقاده أنها عادت إلى فسطاطها. فبعد أن تقدمت ألوانُ الأطعمة — وهي كثيرة ومتقنة — أحس الخليفة بالعناية التي بذلها صاحب سجلماسة في إكرامهم وظهر له الفرقُ بين الأطعمة التي تَعَوَّدَ تناولها في قصره وما تناوله تلك الليلة؛ لأن العبيديين كانوا إلى ذلك الحين لا يزالون ميالين إلى السذاجة في الطعام واللباس لأسباب تقدم بيانها، أما حمدون فقد تعود وهو بسجلماسة الترف والتأنُّق بالأطعمة؛ تقليدًا للمروانيين في قرطبة. وكان يبتاع أمثال آنيتهم للمائدة من الأباريق والأطباق الفضة والذهب ويوصي الطُّهاة بمعالجة اللحوم والألوان كما كان الخليفةُ الناصر يفعل في قصر الزهراء. فلما صار حمدون في الأسر لم يعد يستطيع ذلك التأنُّق لكنه في تلك الليلة أوصى الطهاة أن يبذلوا الجهد في إصلاح الأطعمة؛ ليدهش الخليفة ويؤكد له حفاوته وإكرامه — ذلك ما أوعز به أبو حامد وأوصى الطاهي الخصوصي أن يجعل في جملة الأشربة الهاضمة الشراب الذي أمره أن يضع السم فيه. فلم يتمالك المعز لدين الله عن إبداء إعجابه بتلك الحفاوة وذكر على الخصوص لذة الأطعمة، فقال له حمدون: «إننا تجاسرنا في إخراج أمير المؤمنين عن عادته في الاقتصار على الأطعمة البسيطة التي اقتضاها تقشُّفُه إلى ما تعوده غيرُهُ من الملوك المنغمسين في ملذات الدنيا، وإنما فعلنا ذلك على سبيل التجربة فقط.» فقال المعز: «قد علمنا ذلك ولا بأس به … ولكن كيف تَأَتَّى لك هذا وأنت هنا؟» فقال: «عهدت بذلك إلى طاهٍ كان من جملة طُهاة صاحب قرطبة، وهو كثير التفنن.» وأشار إلى الطاهي الواقف في جملة الواقفين وقال: «هذا الطاهي يا سيدي أتقن من عرفت من الطهاة للأطعمة.» فالتفت المعز إليه فرآه في أنظف ما يكون من الثياب وقد حمل بيده إبريقًا من الذهب وقدحًا فابتسم المعز ابتسام من عرف الحق وأغضى عنه وقال: «بمثل هذه الأطعمة أوهنت عزائم أولئك … لكن لا خوف علينا؛ لأننا لن نعود إلى مثلها بعد الآن … ما الذي تحمله بهذا الإبريق؟ لم يبق لنا قدرةٌ على طعام.» فتقدم الطاهي وقال: «هذا يا سيدي شرابٌ هاضمٌ لا تلبث أن تتناول منه قدحًا حتى تذهب التخمة وتشعر بالرغبة في الطعام ثانية.» قال ذلك وصب منه في قدح من الزجاج منقوش وناوله إلى حمدون؛ فأخذ حمدون القدح وجعل يتفرس في ما عليه من النقوش — وهو من جملة آنية ابتاعها من تاجر حملها من قرطبة. ثم نظر إلى الخليفة وقال: «هذا الشراب الهاضم لم أذقه قبل الآن فإنه من استنباط هذا الطاهي؛ ولذلك ينبغي أن أذوقه قبل تقديمه لأمير المؤمنين.» أو هي عادتهم في الشروع بالطعام قبل ضيوفهم ويعدون ذلك مبالغةً في الحفاوة. ثم أدنى القدح من فيه وشربه وأخذ يتلمظ ويبدي الإعجاب. وأمر الساقي فصب في قدح آخر ناوله إلى الخليفة وآخر ناوله إلى القائد جوهر وآخر للحسين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/38/
قادم مفاجئ
وهَمَّ الخليفة أن يتناول الشراب مجاراة لحمدون؛ لأن معدته قد امتلأتْ بالأطعمة والأشربة؛ فأزعجه دبيب جواد مسرع وقف بباب السرادق وعليه راكبٌ ملثم والجواد يلهث لهثًا شديدًا وقد تصبب العرق منه من الجهد. وترجل فارسه وهم بالدخول بلا استئذان فمنعه الحجاب فلم يبال واخترق الصفوف ركضًا وبيده أسطوانة من الغاب الهندي حتى دنا من المعز، فخاف القوم أن يكون من جسارته خطرٌ على الخليفة فنهض القائد جوهر والقدح بيده وأمره أن يرجع، فلم يبال بل ظل مسرعًا وبانت بقع الدم على لثامه، فلما دنا من الخليفة دفع إليه الأسطوانة وأشار بإصبعه أن يقرأها حالًا؛ فتناولها منه وهو يتفرس فيه، وكان الحضور منذ دخل الرسول قد استأنسوا بثوبه وخصوصًا؛ حمدون فإنه عرف ابنته من ثوبها فصاح: «لمياء!» فلم تُجبه فلما سمعه الخليفة يناديها انتبه أنها قد تكون هي فقال: «هل أنت لمياء؟» قالت: «لا تعمل عملًا يا سيدي قبل أن تقرأ هذه الرسالة.» فلما سمع صوت ابنته عرفها فأراد أن يدنو منها لمخاطبتها فخانته قدماه وأحس بدوار شديد فسقط على الأرض؛ فاشتغل الغلمانُ بإسعافه ونقلوه إلى فسطاط قريب، والخليفة ينظر إلى الكتاب وهو يقول للمياء: «من أين هذا؟» ولم يكترثوا لدوار حمدون لاعتقادهم أنه بنج من كثرة الأكل فقالت لمياء: «هو من مكان بعيد وقد أُمر حامله أن يعطيه للخليفة حال وصوله … وإذا كان نائمًا يوقَظ، وإذا كان متكئًا لا يُمهل حتى يجلس قبل قراءته؛ وهذا ما جرأني على إزعاجكم وأنتم على المائدة …» فدفع الخليفة الأسطوانة إلى القائد جوهر ففضها وأخرج منها لفافة عرف من شكلها أنها من مصر لكنه لم يعهد بينه وبين أميرها صداقة أو علاقة توجب مخابرة ودفع جوهر الرسالة إلى المعز؛ لعلمه أنه يحب أن يقرأ المراسلات بنفسه، وكان القدح لا يزال في يده فأدناه من فيه ليشربه قبل قراءة الرسالة، فأسرعت لمياء وأبعدت القدح عن فيه، وقالت: «قد أمر حامل الرسالة أن يمنع أمير المؤمنين عن كل عمل قبل قراءتها.» فاستغرب المعز ذلك وأخذ بالقراءة لنفسه والحضور ينظرون في وجهه وخصوصًا جوهرًا، فرأوا الخليفة قد تغيرتْ سحنتُهُ وبدا الغضب في وجهه وخامره القلقُ، وأما الحسين فكان في أثناء ذلك لا يرفع بصره عن لمياء وقد أدهشه ما رآه مِن حالها والدم قد لطخ نقابها وبعض ثوبها، ولم يتجاسر أن يخاطبها في حضرة الخليفة ولاسيما بعد أن رأى تغير وجهه … وأطال المعز نظره في الكتاب وأعاد تلاوته وهو كالمستغرب لما يقرؤه. وتطاول الحضور بأعناقهم لمعرفة ما حواه الكتاب، لكنهم لم يجسروا على التماس ذلك. وبعد هنيهة أشار الخليفة إلى جوهر وابنه أن يضعا الأقداح ودفع الكتاب إلى جوهر ونظر إلى لمياء وقال لها: «أين حامل هذه الرسالة؟ ادعيه إلى هنا.» قالت: «إن حاملها قُتل يا سيدي وكدت أُقتل معه ولكن الله أعانني لإيصاله إليكم وأنا على آخر رمق.» فأشار إلى من في السرادق أن يخرجوا إلا جوهرًا ولمياء، وأمر الحجاب أن يمنعوا الناس من الدخول حتى الأمير حمدون نفسه ففعلوا، وكان جوهر مستغرقًا في تلاوة الكتاب لنفسه وقد أصابه من الدهشة أضعاف ما أصاب المعز، فلما خلا السرادق من الغرباء التفت الخليفة إلى لمياء وقال: «اكشفي عن وجهك وقُصي علينا خبرك، إني أرى عجبًا وأقرأ أعجب منه.» فلم يسعها إلا الطاعة فرفعت اللثام عن وجهها وقد لصق بعضه بعنقها من الدم وتغيرتْ ملامحها من عظم ما أَلَمَّ بها في تلك الليلة وازدادت عيناها حدة وبسالة وإبراقًا. فقال الخليفة: «ما خبرك؟ من أين أتيت؟» فقصت عليه ما جرى لها من أوله إلى آخره وهو يسمع ويستغرب، وينظر في أثناء الحديث إلى قائده كأنه يستطلع رأيه في ما يسمعانه من الغرائب.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/39/
نص الرسالة
أما بعدُ فإنني ما برحت أذكر نعم المولى وفضله علي وعلى آبائي وأنا أَتَرَقَّبُ الفُرَص للقيام بما فُرض عليَّ في سبيل نصرته؛ لأني وإن كنت ذميًّا لم أتشرف بالإسلام فإني قادر على أن أرى وجه الحق بالنظر إلى تنازُع المسلمين على الخلافة — وهي حق صريح لآل علي أبناء عم النبي وأبناء بنته. وإنما اختلسها سواهم طمعًا بالدنيا، لكن الحق عاد إلى نصابه بفضل أجدادك الكرام وسيتأيد على يد الإمام المعز لدين الله؛ ولذلك رأيتني لا أدخر وسعًا في نصرة الحق وأراقب الفرص في تأدية خدمةٍ تعود على الإمام بالنصر وقد علمت بدسيسة أَعَدَّهَا المبغضون لإيقاع الأذى بالإمام وقائده — أعزهما الله — علمت ذلك بطريقة غريبة في ليلة من ليالي القدر، فلم أنم قبل أن كتبت هذا وبعثت به على جناح السرعة مع رسول غيور، أوصيته بجد السير حتى يصل قبل فوات الفرصة. فأرجو أن يكون قد فاز بذلك وسلم كتابي هذا إلى المولى — أعزه الله ونصره على أعدائه. وجلية الخبر يا سيدي أني علمت من قرائنَ مختلفة أن بين أمرائك العائشين تحت جناحك أُناسًا يسعون في الكيد لك ولقائدك ويخابرون صاحب مصر لفتح القيروان وإلحاقها بخلافة العباسيين، وكنت إذا سمعت ذلك استبعدتُهُ؛ إذ لا يعقل أن يسعى أحد في إبدال دولة بالية خربة من دولة جديدة زاهية، وحدثتني نفسي أن أكتب إليكم بذلك وترددت حينًا حتى وقفت بالصدفة على أمر أطار صوابي وأقلقني، وهو ما بعثني على كتابة هذا بوجه السرعة وقلبي يخفق خوفًا من تأخُّره عن الوقت اللازم. علمت يا سيدي من مصدر وثيق — وقد سمعت بأذني — أن صاحب سجلماسة المقيم في جوارك ورجلًا من خاصته اسمه أبو حامد اتفقا على الكيد بك وبقائدك الباسل على أن ينفذ الحيلة في عيد الفطر المبارك وبعثا إلى مصر شابًّا من رجالهما اسمه سالم يزعم أنه ابن أبي حامد أو ابن أخيه، فهذا الشاب سمعتُهُ بأذني يقص خبر المكيدة وهو في حال سكر على امرأة تَعَشَّقَها. ولكي تتأكد صدق قولي فأنا أذكر من أسماء الأشخاص الذين استعان بهم في هذه المكيدة فتاة أظنها ابنة صاحب سجلماسة اسمها لمياء أظهر لها سالمٌ أنه يحبها ليستخدمها في إتمام هذه المكيدة؛ لأنها من المقربين في قصر مولاي أمير المؤمنين. ولا يطيعني قلمي على التصريح بما دبر أولئك الملاعين — وقى الله مولانا الخليفة من كيد الكائدين — وإذا بلغ كتابي هذا إلى سيدي الخليفة قبل عيد الفطر فهو ناجٍ بإذن الله. والرسول رجلٌ من المولعين بالحق أنصار العلويين — أيد الله ملكهم — وأنا يا سيدي خادم مطيع لكم أبذل نفسي في سبيل الحق ولا غرض لي غير ذلك، والسلام ا.ﻫ. ولم يبلغ جوهر إلى آخر الكتاب حتى استولت الدهشةُ على لمياء وأصابها شبه الدوار من الحيرة؛ لاستغرابها ما تسمعه عن سالم. وانكشفت لها مكيدتُهُ وتحققت أنه كان يُخادعها؛ فأحست من تلك اللحظة بكرهه وتحول حبها الشديد إلى كره شديد وأصبحت لا تصبر عن الانتقام لنفسها منه … وأطرقت كأنها أصيبتْ بجمود وشعرت كأن الدم جمد في عروقها واصطكت ركبتاها وتولتها الرعدة. وقد خجلت مما تُلي عليها من دخولها في تلك المكيدة. وكيف أن يهوديًّا يبعث بخبرها من مصر غيرةً على الخليفة، وهي في قصر المعز وقد اطلعت على المكيدة منذ شهر ولم تخبرْه بها، لكنها التمست لنفسها عذرًا أنها دافعت حتى انتهت المسألة على هذه الصورة. مرت هذه الخواطر على ذهنها في لحظة سمعت في أثنائها الخليفة يقول: «أين صديقنا صاحب سجلماسة.» فلما سمعت لمياء نداءه تحققت أنه أراد أن يسأله عن المكيدة وخافت وقوعه في الأذى لكنها سكتت لترى ما يكون. فأجاب أحد الغلمان: «إن الأمير حمدون نائم منذ نهض عن المائدة.» فقال وقد بان الغضب في وجهه: «أيقظوه.» ثم التفت إلى القائد جوهر وقال: «وأبو حامد؟ أليس هو ذلك الرجل الذي قدمه لنا حمدون؟ أحب أن أرى الأمير حمدون لأسأله عن تلك المكيدة وإن كنت لا أُصدق دخوله فيها ولكنه سيُفصح عن التفاصيل ونرى ما يكون … أين هو؟ أيقظوه.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/40/
حمدون
وإذا بغلمان حمدون يتراكضون وقد أخذتهم البغتةُ وتقدم أحدهم إلى المعز وقال وهو يغص بريقه: «لم يستيقظ يا سيدي.» وأخذ في البكاء؛ فلما سمعت لمياء بكاءه أسرعت إلى حيث رقد أبوها، فوجدته مستلقيًا على مقعد هناك وقد تغير لونه، فازرقتْ بشرتُهُ وغارت عيناه وبانتْ أدلة الموت في وجهه فصاحت: «وا ولداه! ماذا جرى لك؟» وجعلت تجس يديه ووجهه فإذا هو ميت لا حراك به. فأخذت تناديه وسمع الخليفة بكاءها فأسرع ومعه القائد جوهر فلما رأيا حمدون تحققا موته وعجبا لما أصابه فأمر المعز أن يؤتى بالطبيب حالًا فأتى. وحالما وقع نظره عليه صاح: «مات الأمير مسمومًا. ماذا شرب؟» فقال المعز أكلنا معًا من طعام واحد إلا شرابًا صبه الغلام لنا جميعًا فشربه هو ولم نشربه نحن ولا تزال أقداحُهُ مملوءة على المائدة … ومشى الخليفة إلى غرفة المائدة ودل الطبيب على الأقداح فتناول الطبيب قدحًا منها وتأمل السائل الذي فيه قليلًا وشمه ثم استخرج من جيبه مسحوقًا وضع شيئًا منه في ذلك الشراب وجعل يتفرس بما يحدث فيه والجميع وقوفٌ ينظرون. فلم تمض برهة حتى تحول ما في القدح إلى راسب أصفر وتغير لونُ الماء فصاح: «إن هذا الشراب سام … مَن صنعه؟» فأمر المعز بالقبض على الطاهي الذي تولى تلك الوليمة، فلم يقفوا على خبره وأطرق المعز في أثناء ذلك وأعمل فكرته في ما رآه من الغرائب في ذلك المساء؛ فاتضح له سلامة نية حمدون؛ لأنه لو اشترك بالمكيدة وعلم أن الشراب مسموم لَما تناوله. وأسف المعز لموت حمدون وأمر أن يجهز ويناح عليه ويدفن. والتفت إلى لمياء فإذا هي قد وقفت لا تحير خطابًا كأنها أصيبتْ بجمود، فقال لها: «تعالي يا بنية، رحم الله والدك إنه مات مظلومًا، والله يتولاه برحمته فأنتِ الآن ابنتُنا، لا نقول ذلك تعزيةً لك لكنك أتيت في مصلحتنا ما لا يأتيه الابن الغيور.» ومد يده إلى كتفها وربت عليه بحنو وعطف وقال: «هيا بنا إلى قصرنا في المنصورية واحسبوا أن هذا الفرح لم يكن … وستجدين هناك أم الأمراء وتأنسين بها …» فلم تجبه لكنها أخذت في البكاء وهي صامتة تناجي نفسها بأمور لا تخطر لأحد من الحاضرين، لكنها أحست بغضب شديد على سالم وجاشت عواطفها ورأت في نفسها ميلًا للانتقام منه. ومن قواعد الحب وطبائعِ المحبين أن المتفاني في حب شخص يحتمل منه ما شاء من التجني والدلال والإعراض ولا يزداد إلا شغفًا وتفانيًا، لكنه لا يحتمل الخيانة … فإذا تأكد أنه خانه في عواطفه أو خادعه أو داجاه لغرض في نفسه انقلب حُبُّه بغضًا وصار تفانيه نقمة، فأحست لمياء بميل شديد إلى الانتقام من سالم وقد تحققتْ خيانته؛ لأنه كان يُظهر حبه حيلة للفتك بأعظم المحسنين إليها وإليه. وأمر المعز أن تقوَّض الفساطيط والسرادقات ويؤجَّل العرس إلى وقتٍ آخر فالتفتتْ لمياء عند ذلك وقد هاجتْ أشجانُها وقالت: «نؤجلُهُ يا سيدي حتى ننتقم لنفسنا من الكائدين، فإذا وافقني أمير المؤمنين على ذلك ضاعف فضله علي.» فقال: «سننظر في ذلك.» وأمر رجاله بالرجوع إلى المنصورية فاشتغلوا بتقويض الخيام، وركب المعز وقائدُهُ ولمياء والحسين وسائر الحاشية إلى المنصورية والغلمان يحملون المشاعل بين أيديهم. وفى صباح اليوم التالي احتفلوا بدفن حمدون وبكتْه لمياء بكاءً مرًّا لسبب لا يعرفه سواها، وهو اعتقادها أنه قتل بسذاجته وسلامة نيته ودهاء ذلك اللعين أبي حامد. وكانت لمياء حال وصولها إلى القصر في ذلك المساء دعتْها أُمُّ الأمراء إلى غرفتها وأخذت في تعزيتها بعبارات الحنو والحب كما تخاطب الوالدةُ ابنتها، فأحست لمياء براحة وزادت تعلقًا بها. وأيقنت أنها كانت على هدًى بإخلاصها لتلك الملكة وإنما شوشوا عليها أفكارها بمكائدهم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/41/
لمياء وأم الأمراء
ولم تطل الملكة الحديث تلك الليلة والميت لم يدفن بعد. ففي الصباح التالي لما علمت بدفنه بعثت إلى لمياء وأمرتْها أن لا تفارقها وبالغتْ في إكرامها وتعزيتها وذكرت الحسين في أثناء حديثها، فتذكرت لمياء أنها لم تشاهدْه في ذلك اليوم ولا رأتْه بعد عودته معهم في المساء. فاشتغل خاطرُها بشأنه وشعرتْ بميل إلى رؤيته ووَدَّتْ أن تلتقي به في خلوة لتبث له أُمُورًا تُحب أن تساره بها بعدما أصابها من قتل والدها وتغيُّر قلبها على سالم، فلما سمعت أُمُّ الأمراء تذكره أحبت أن تغتنم الفرصة وتسأل عنه فغلب الحياء عليها فسكتت. ولحظت أم الأمراء خجلَها فقالت: «إن الحسين سيئ الحظ يا لمياء؛ انظري كيف اتفق له في يوم عرسه؟» فقالت — وهي تغص بريقها: «بل أنا التعسة يا سيدتي لأني فقدت سندي الوحيد وهو والدي فأصبحت يتيمة الأبوين.» ومنعها البكاء من إتمام الكلام. فهَمَّتْ بها أم الأمراء وضَمَّتْها إلى صدرها وقالت: «لست يتيمة يا لمياء و…» فقطعت لمياءُ كلامها قائلةً: «صدقت يا سيدتي إن مَن كان تحت ظلك وظل سيدي أمير المؤمنين لا يكون يتيمًا … وكفاني حظًّا وشرفًا أن يدعوني الخليفة — حفظه الله — ابنته … إنها نعمةٌ لم أكن لأحلم بها … ولكن …» فقالت أم الأمراء: «لا لوم عليك إذا بكيت أباك إنه كان بارًّا وكان يحبك …» فتذكرت لمياء ما كان يضمره أبوها من السوء للخليفة وقائده فأحست بوخز الضمير فأرادت أن تصرف ذهنها عن ذلك الحديث؛ لأنه يؤلمها فقالت: «رحمه الله … وأنا الآن لا أعرف أبًا غير أمير المؤمنين ولا أُمًّا سواك.» وسكتت وهي تتشاغل بإصلاح شعرها وفى خاطرها شيء يمنعها الحياء من ذكره. وكأن أم الأمراء أدركت مرادها فقالت: «إني لم أر الحسين جاء معكم في مساء أمس ولا رأيته اليوم أين هو يا ترى؟» قالت: «لا أعلم رأيته ركب معنا من المعسكر ثم لم أره.» فقالت أم الأمراء: «أتظنين الخليفةَ أرسله في مهمة مستعجلة؟» قالت: «أنت أعلم مني بذلك.» قالت: «لا ريب عندي أن أمير المؤمنين يحب أن يراك فهل نذهب إليه وهو يُخبرنا عن الحسين؟» فسَرَّهَا هذا الاقتراحُ لكنها لم تُظهر الرغبة في الإجابة؛ حياء، ولم تنتظر أم الأمراء جوابها فنهضت وأمسكتها بيدها ومشت بها وهي تقول: «إن أمير المؤمنين وحده في قاعته وقد أخبرني في هذا الصباح أنه لا يُريد أن يرى أحدًا من الأمراء.» فقالت لمياء: «لعله طلب ذلك لرغبةٍ في الخلوة، فهل يجوز أن نُزعجه بحضورنا؟» فابتسمت وقالت: «لا يزعجه حضوري أو حضورك ولا هو أراد الخلوة للعمل على ما أظن ولكنه أراد الراحة من عناء ما لاقاه أمس، وهو — بلا شك — كثير التفكير فيك هلمي بنا إليه … وانزعي حجاب الكُلفة معه بعد أن دعاك ابنته ونعم الابنة.» وبعد هنيهة وصلتا إلى غرفة الخليفة، فبادر الحاجبُ إلى إلقاء التحية باحترام، فقالت أم الأمراء: «ألعل أمير المؤمنين وحده؟» قال: «كلا يا سيدتي إنه في خلوة مع القائد جوهر.» فأرادت أن ترجع وإذا بالمعز يناديها من الداخل: «إذا كانت لمياء معك ادخلي.» فأجفلت لمياء عند سماع اسمها على هذا الأسلوب، وتصاعد الدم إلى وجنتيها فقالت لها أم الأمراء «ألم أقل لك أنه يسر برؤيتك، حتى أكثر من رؤيتي! وقد قال بصراحة أن لا أدخل إلا إذا كنت معي …» وضحكت وهي تظهر المداعبة، ووسع لهما الحاجب فدخلتا. وكان المعز جالسًا على مقعد والقائد جوهر على وسادة بين يديه وعلى وجهيهما أمارات الاهتمام، فلما دخلت أم الأمراء أظهرت الاحتشام لوجود القائد فابتدرها المعز قائلًا: «إن قائدنا كواحد منا فلا ينبغي الاحتشام من وجوده وأنت يا لمياء ابنتنا وهذا القائدُ أبوك أيضًا.» وأشار إليهما بالجلوس وكان القائد قد وقف عند دخول أم الأمراء فأشار إليه الخليفة أن يجلس وقال له: «نحن في أمر هام نحب أن نشرك القادمتين به … أنت تعلم تعقل أم الأمراء … وهذه فتاتُنا لمياء قد عرفتَ ذكاءها وغيرتها على مصلحتنا فلا بأس من دخولهما في الحديث …» فجلستْ لمياء وهي مطرقةٌ حياءً لهذا الإطراء، فقال لها الخليفة: «لا ينبغي التهيب يا بنية بين يدينا وقد أصبحت ذات شأن في أُمُورنا؛ لِما تأكدناه من تعقُّلك وصدق محبتك لنا وقد شق علينا ما أصاب والدك ولكن ذلك أمرٌ من الله لا سبيل إلى دفعه … طيبي نفسًا سنأخذ بثأره.» فلما سمعت ذكر الثأر تغير وجهها وبان الاهتمامُ في عينيها ونظرت إلى الخليفة وابتسمت ابتسام الامتنان وقالت: «أشكر لك يا مولاي انعطافك نحوي، ولكني أرى الواجب الأول أن ننتقم لأمير المؤمنين؛ لأن ذلك الخائن أراد إيصال الأذى إليه. وقد حماه الله؟» فابتسم وقطع حديثها قائلًا: «وكان الفضل لك بذلك يا لمياء … فهل يكثر علينا أن نثأر لوالدك — رحمه الله؟» فأطرقت وسكتت ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «لكنني أرغب إلى أمير المؤمنين أن يدخلني في هذا الانتقام فإني موتورة.» قالت ذلك وقد قطبت حاجبيها وبان الغضبُ في عينيها. فقال: «لم نكن لنكلفك شيئًا من هذا يا لمياء، كفاك ما أصابك.» والتفت إلى القائد جوهر وقال: «إني لم أشاهد الحسين في هذا الصباح أين هو؟» قال: «قد ذهب في مهمة مستعجلة هي من قبيل ما نحن فيه.» قال: «إلى أين؟» قال: «أنفذته إلى الجهة التي قالت لمياء إنها شاهدت ذلك الخائن فيها. وذكرت هناك قافلة أو معسكرًا فأمرت الحسين أن يذهب بكوكبة من الفرسان لعله يدرك القوم قبل رحيلهم فيأتينا بذلك الغادر ويكفينا مئونة البحث عنه.» فقال المعز «بارك الله في همتك وتيقظك.» والتفت إلى أم الأمراء وابتسم وهو يقول: «كيف نُلام على تقديم هذا القائد وهو لا يغفل عن مصلحتنا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/42/
الحسين
أما لمياء فأطرقت وبان الارتباك في وجهها فلحظ الخليفة فيها ذلك، فقال: «ما بالك ساكتة يا لمياء؟ هل شق عليك ذهاب الحسين … ولماذا؟» قالت: «كيف يشق علي ذهابه في خدمة هذه الدولة وصيانة أمير المؤمنين؛ إن أرواحنا فداه.» قال: «إني أرى في وجهك قلقًا.» قالت: «قد همني ذهابه لعلمي بغدر أولئك الخائنين ومكرهم.» فقطع القائد جوهر كلامها قائلًا: «لا خوف على الحسين من غدرهم … ولا يلبث أن يأتي ظافرًا بإذن الله. وعند ذلك يحق له أن يكون عريسًا لك.» فخجلت وتوردت وجنتاها وأحبت أن تصرح بما في خاطرها من هذا القبيل فقالت: «هل يأذن مولاي أمير المؤمنين بكلمة أقولها جوابًا على ما سمعته.» قال: «قولي.» قالت: «أما وقد سمعت من القائد الأكبر ما قاله فأتقدم إلى مولاي أن …» وأسكتها الحياء والتفتت إلى أم الأمراء كأنها تستنجدها أن تنوب عنها في التعبير عن فكرها ولم تكن أم الأمراء تعلم مرادها فنظرت إليها تستفهمها فأسرت إليها أنها تحب تأجيل الاقتران. فقال المعز: «سمعت ذلك منها في أمس … طبعًا أننا نؤجله مراعاة للحداد.» فقالت لمياء: «كلا يا سيدي إنما أعني أنه لا ينبغي أن يتم شيء قبل الانتقام من الخونة.» وتشاغلتْ برفع كمها عن أناملها ويظهر من وجهها أنها لم تتم حديثها. فقال جوهر: «إن هؤلاء الخونة لا يمضي كثير قبل أن يكونوا في قبضتنا كما قلت لكم، فهل تعنين غيرهم؟» قالت: «نعم … إنهم كثيرون وبعضهم لا يتيسر الوصولُ إليهم إلا بعد أشهُر؛ لأنهم بعيدون … إن هذه الخيانة يجب أن يقوم صاحب مصر بتحمل عواقبها.» وأشرق وجهها بما بدا فيه من الحماسة. فأدرك الخليفة أنها تعرض بفتح مصر انتقامًا من صاحبها فالتفت إلى القائد جوهر وابتسم؛ لأنه كان يحادثه في شيء من ذلك قبل مجيء لمياء فنظر القائد إلى الخليفة وابتسم ابتسامة الظافر؛ لأنه كان يرى العزم على فَتْحها والخليفة يتخوف ويتردد فسَرَّهُ أن تقترح لمياء مثل اقتراحه. وأدركت لمياء ذلك فقالت: «لا ينبغي لنا أن نتردد في تحميل صاحب مصر عواقب هذه الخيانة؛ فإنه شريك فيها، ولا خوف منه فإنه الآن عبدٌ ذميم (كافور) وأحوال مصر في غاية الاختلال.» فرأى المعز أن يقطع الحديث في هذا الموضوع ريثما يفكر في الأمر وهو لا يحب أن يقول قولا إن لم يكن مصممًا عليه، فقال: «إن أمر مصر لا يزال بعيدًا وربما فكرنا فيه في فرصة أخرى … فنحن نحب أن نعجل بالعقد عليك للحسين.» قالت: «لا أظن رأي الحسين إلا موافقًا لرأيي؛ لأنه ليس أقل غيرةً على مصلحة أمير المؤمنين مني … أرجو من مولاي أن يجعل أمر مصر مقدمًا على كل شيء وأنا أضمن الظفر بإذن الله.» فأعجب بتلك الحمية وقال: «ليس ضمان ذلك بالأمر السهل يا بنية … إنه يحتاج إلى المال والرجال.» فنظرت إلى الخليفة وقد تغيرتْ سحنتُها وبانت البسالة في جبينها، وقالت: «إن الرجال موجودون يا سيدي ومن كان في قواده مثل القائد جوهر لا يخشى بأسًا؛ فقد فتح المغرب على أهون سبيل، وهل يظن أمير المؤمنين فتح مصر أعظم مشقة؟» فاستحسن المعزُّ إطراءها قائده وقال: «هذا مسلم ولكن ما قولك بالمال إنه لا بد منه لهذا العمل.» قالت وفى صوتها لحن التأكيد «والمال موجود أيضًا.» فبغت الجميع من تأكيدها وتوجهوا نحوها بأبصارهم وقال الخليفة «مِن أين لنا المال الكافي ونحن لم نفرغ من الحروب إلا بالأمس.» قالت: «قلت لمولاي إن المال موجود وسأُبين له ذلك متى شاء، فإذا فعلت هل يبقى لديه مانع؟» قال: «يبقى أن نستطلع حال المصريين ونتعرف داخليتهم وشئونهم؛ لأننا لم نعلم عنهم إلا ما نتلقفه من أفواه الناس.» قالت: «أما وقد أشركني أمير المؤمنين بهذا الحديث فأستأذنه في أن أقول إني أضمن له أيضًا كشف ما يريد أن يعرفه من الأحوال.» فرأى الخليفة من لمياء فوق ما كان يتوقعه ولم يصدقه بحذافيره وإنما حمله محمل الاندفاع كما يفعل الراغب في أمر؛ فإنه يراه سهلًا لرغبته في الحصول عليه. وهَمَّ أن يستزيدها بيانًا وإذا بالحاجب دخل وقال: «إن مولاي الحسين بالباب.» فأمر بإدخاله. أما لمياء فلما سمعت اسمه خفق قلبُها ولم تعد تخاف خفقانه للحسين بعد أن نفضت يديها من محبة سالم، لكنها تماسكتْ والتفتتْ فرأت حسينًا دخل وعلى وجهه غبارُ السفر فعلمتْ أنه عائدٌ من تلك المهمة. أما هو فحَيَّا، فأمره الخليفةُ بالجلوس فجلس ووقع بصره على لمياء فتجاذب قلباهما وتخاطب بصراهما، ولكنه شغل بالتوجُّه نحو الخليفة، فقال له المعزُّ: «ما وراءك؟ قد أخبرني قائدنا أنك تعقبت أولئك الخائنين … فعسى أن تكون قد ظفرت بهم وحملتهم إلينا.» قال: «قد حملت إليكم أناسًا وجدتهم قرب المكان الذي كان الخائنون فيه، ولكنهم ليسوا منهم.» فقال جوهر: «وكيف ذلك يا بني؟» قال: «قضيت ليل أمس وأنا أبحث في الأماكن التي ينزل فيها الناس أو القوافل في طريق مصر حتى بعدت كثيرًا عن القيروان فلم أجد أحدًا …» فقطع أبوه كلامه قائلًا: «أخشى أن تكون قد أخطأت الطريق.» قال: «بل هي الطريق ذاتها والدليل على ذلك أني رأيت جثة ذلك الرسول وبجانبها جثة قاتله كما قصت خبرها لمياء، وأمعنت في تلك الجهات وبثثت رجالي في كل جهة فأخبرني بعضهم في هذا الصباح أنه رأى آثار معسكر. فسرتُ إليه فرأيت بقايا قوم كانوا هناك ورحلوا من عهد قريب، ولعله المعسكر الذي كان فيه أولئك الخونة ومع ذلك لم أقنعْ بما رأيت فواصلتُ السير إلى عين ماء تنزل عندها القوافلُ فرأيتُ قافلةً قادمةً من مصر أتيت بأصحابها معي؛ لعلنا نستفيد منهم خبرًا، إذ توسمت من زخرف فساطيطهم وخيولهم وسائر أحوالهم ما لم أعهده في سواهم من أصحاب القوافل.» فقال الخليفة: «أين هم؟» قال: «أتيت برئيسهم معي وهو بالباب إذا شاء مولاي أمر بإدخاله.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/43/
بنت الإخشيد
فصفق المعز فدخل الحاجب فقال: «أدخل الرجل الواقف خارجًا.» وأشار إلى أم الأمراء ولمياء بالتنحي إلى مجلس تقعدان فيه بحيث تريان وتسمعان ولا يراهما أحد. ثم عاد الحاجبُ ومعه صاحبُ القافلة وهو كهل عليه لباس المصريين من العمامة والجبة وقد أخذ الاضطرابُ منه مأخذًا عظيمًا؛ لهول ذلك الموقف. فقال له الخليفة: «لا تخفْ يا رجل وإنما نُريد منك أن تصدقنا الخبر. قل من أنت؟» قال: «أنا يا مولاي من أهل مصر.» قال: «ما هي صناعتك؟» قال: «تاجر رقيق.» قال: «ما الذي جاء بك إلى هذا البلد؟» قال: «جئتُ لأبتاع رقيقًا أحمله إلى مصر، وهي عادتي، في كل عام أو بضعة أعوام آتي القيروان لهذه الغاية، فأبتاع المولدات الحسان وأنصرف.» قال: «ولكن رسولنا يقول إن حالكم تدل على غنًى وترف لا يعهده بتجار الرقيق الذين يفدون على القيروان!» فبانت البغتة في وجه الرجل عند هذا الاعتراض ولكنه قال: «نحن يا مولاي تجار رقيق كما قلت لكم فإني لا أكذب.» قال: «هذا لا يكفي قل لنا السبب الذي أوجب مجيئكم في الفساطيط الفاخرة ومعكم الخيول المطهمة كأنما أنتم من رجال الدولة أو الأمراء.» قال: «السبب في ذلك يا مولاي أننا نبتاع الجواري بأمر خاص ونحن ننفق على حساب مرسلنا.» فقال الخليفة: «لمن تبتاعون الجواري، ومَن هو مرسلكم اصدقني وإلا فلا تنجو من القتل.» فخاف الرجل واصطكت ركبتاه وارتعدت فرائصه وقال: «إننا نبتاع الجواري لمولاتنا ابنة الإخشيد صاحب مصر.» فضحك الخليفة والتفت إلى جوهر وهو يقول: «ألا ترى التلون في كلامه؟ يقول إنه يبتاع الجواري الحسان لابنة الإخشيد ولو قال إنه يبتاعها للإخشيد نفسه لصدقناه.» والتفت إلى الرجل وقال: «قل الصدق … لماذا لم تقل إنك تبتاع الجواري للإخشيد أو غيره من الأمراء؟ هل خفت أن يكون عليك من ذلك بأس.» قال: «كَلَّا يا مولاي بل أنا أقول الصدق. قد مر علي عدةُ أعوام وأنا آتي القيروان بأمرها لأبتاع لها الجواري الحسان بالأثمان الباهظة.» قال: «ماذا تفعل بهن؟» فتوقف الرجل عن الجواب وبان الارتباكُ في وجهه، لكنه خاف السكوت فقال: «لتستمتع بهن.» فبغت الخليفة والقائد والحسين وأخذوا ينظرون بعضهم إلى بعض فقال القائد: «تشتري الجواري لابنة الإخشيد لتستمتع بهن هي؟» قال: «نعم يا سيدي … وهذا مشهور يعرفه أهل مصر؛ لأنها كثيرًا ما تنزل سوق الرقيق في الفسطاط بنفسها على حمار فتساوم صاحب الرقيق على الجارية إذا أعجبتها وتشتريها لنفسها. وإذا كانت لا تجد هناك ما يعجبها من الجواري الحسان تبعث بي في قافلة خاصة لهذه الغاية وتنفق في سبيل ذلك الأموال الطائلة.» فتقدمت أم الأمراء وأجابت عنها قائلة: «إن ابنتنا لمياء قد قصت علي خبر المال الذي أشارتْ إليه وهو مضمونٌ وإنما يحتاج إلى نظر خاص.» فقال المعز: «هل ترين بأسا من التصريح به بين أيدينا وليس فينا غريب؟ قولي يا لمياء قولي …»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/44/
فج الأخيار
فتقدمت ووقفت وقفة رجل جسور وقالت: «إن المال يا سيدي مخبأٌ في مكان بعيد، وكان قد خزنه عدوك هناك ليحاربك به، ولكن الله قَدَّرَ أن يكون لك وتحارب به أعداءك وأنت ظافر — بإذن الله.» فاستغرب الجميع قولها وتطاولوا بأعناقهم لسماع حديثها فقالت: «سأقول لكم ما أعرفه، ولكن قبل كل شيء أرجو من أمير المؤمنين أن يوافقني على طلبي الأول وإن كان لا يحسن بي التصريح به.» فعلم أنها تشير إلى تأجيل الاقتران فقال: «أنا أوافقك ولكن الشأن في هذا الأمر هو للحسين.» والتفت إليه فوقف الحسين متأدبًا. فقال له المعز: «إن لمياء الشجاعة الباسلة تطلب تأجيل العقد إلى ما بعد فتح مصر والتنكيل بالخائنين، فماذا تقول؟» قال: «هذا ما كنت أتمناه ولم أجسر على طلبه، أما وقد طلبتْه هي فأنا أُوافق عليه وأشترط أن أكون في مقدمة المحاربين في هذا السبيل.» فقالت لمياء: «طبعًا، كلانا يجب أن يكون في مقدمة المحاربين، ولا أعني المحاربة استلال الحسام أو الهجوم على صفوف الأعداء فقط؛ فإن هناك أعمالًا تقدم على امتشاق الحسام سنأتي على ذكرها.» ثم وَجَّهَت خطابها إلى الخليفة وقد أبرقت عيناها وبانت الحماسةُ في طلعتها، وقالت: «هل أقول يا سيدي؟» قال: «قولي — بارك الله فيك — والله إن كلامك لَيبث الحماسة في قلوب الرجال … وقد هونت على اقتحام الأهوال في سبيل الفتح … قولي.» قالت: «سمعت مولاي يقول إننا لا بد لنا قبل الإقدام على فتح مصر من شيئين هامين الأول المال والثاني استطلاع أحوال القوم وقواتهم وداخليتهم، أما المال فَأَقُصُّ عليكم ما عرفتُهُ عنه، ولذلك حديثٌ سمعته عرضًا من ذلك الخائن القاتل ولم أكن أفهم مغزاه، فلما ظهرت خيانتُهُ أدركتُ مكايده. علمت منه أن في جبل إيكجان من بلاد كتامة مكانٌ يُقال له فج الأخيار كان فيها بلد يسمى دار الحجرة بناه أبو عبد الله الشيعي وخزن الأموال فيه.» ولما قام أبو عبد الله بدعوة جدك المهدي — رحمه الله — وجمع كلمة القبائل في نصرته وتمكن من التغلب على أعدائكم أتى فنزلها وقسم البلد على كتامة ونادى بالإمام المهدي خليفة وحمل إليه الأموال التي كانت مخزونة في جبل إيكجان، ولكن يظهر أنه كان ينوي الخروج من الطاعة فضرب نقودًا جديدة لم يذكر فيها اسم الإمام المهدي وإنما اكتفى بأنْ ضرب على أحد وجهَي الدينار (بلغت حجة الله) وعلى الآخر (تفرق أعداء الله) وضرب على السلاح (عدة في سبيل الله) ووسم الخيل سمة (الملك لله) ثم ذهب إلى سجلماسة في طلب المهدي، وما زال حتى أَتَمَّ الفتح وسلم الأمر إليه. ويظهر أنه ندم على عمله فبعث الأموالَ إلى إيكجان سرًّا، واختزنها هناك حتى يعودَ فيقلب ظهر المجن ويطلب الأمر لنفسه، فعلم الإمامُ بذلك وما زال عليه حتى قتله — كما تعلمون — لكنه لم يعرف خبر تلك الأموال فبقيتْ مطمورةً هناك. ولعله أَسَرَّ أمرها إلى أبي حامد اللعين، فقام يسعى سرًّا في إخراج الملك من أيديكم على أن يُفسد قلوب القبائل عليكم ويستعين بذلك المال عند الحاجة. وآخر مكائده قد فشلت أمس وإنما أصابت المأسوف عليه والدي، فهرب ذلك اللعين والأموال لا تزال في فج الأخيار. فإذا بعث المولى مَن يأتي بها أَعَانَتْهُ في نصرة الحق. هذا ما أعرف من أمر الأموال. ولم تتم كلامها حتى كَلَّلَ العرقُ جبينها، وبان الاهتمام في محياها والخليفة ينظر إليها ويتفهم كلامها وقد أعجب بما كشفتْه مِنْ أمر هذا السر العظيم، فقال: «بُورك فيك يا لمياء إننا سنبعث في طلب ذلك المال، ولكنني أفكر في مكيدة هذا الرجل كيف انطلتْ علينا وعلى والدك كل هذه الأعوام، إن فضلك في كَشْف هذا السر يربي علي فضلك في إنقاذنا من القتل؛ لأنك أطلعتنا على مساعٍ متواصلة لو نَجَوْنَا من تلك المكيدة ولم نطلع عليها لظلت الدولة في خطر من مكيدة أخرى، أما الآن فسنتعقب الخائنين حتى نفنيهم بعد أن نأخذ أموالهم.» فأطرقت لمياء حياءً عند سماع ذلك الثناء. فتَصَدَّى الحسينُ للكلام، فقال: «هل يأذن لي مولاي أن أذهب في طلب هذا المال؟» قال: «لك ذلك، ولكن هل علمت بما يعتور هذا العمل من المشاق؟ إن جبل إيكجان في أواسط بلاد كتامة في البادية والذهاب إليه بعيد شاقٌّ.» قال: «فليكن حيثما كان … كل ذلك هينٌ في خدمة أمير المؤمنين.» فضحك الخليفةُ ضحك الاستحسان. فقالت لمياء: «هذا من حيث المال أَمَّا مِنْ حيث استطلاعِ دخائلِ القوم بمصر فأنا أقوم به.» فبغت الخليفةُ لهذا الاقتراح، وقال: «كيف تفعلين، أليس ذلك شاقًّا عليك؟» قالت: «إنه هين، وأستأذن مولاي أَنْ لا يسألني كيف أصنع وإنما أتعهد له أن آتيه بالخبر اليقين وأرغب إليه أن يستزيدني بيانًا.» فاستغرب القوم رغبتها في كتمان سعيها، ولكنها لم تدع لهم بابًا للاستفهام، فسكتوا، فقال الخليفةُ: «لم يمر بي يوم اطلعت فيه على أُمُور هامة مثل هذا اليوم، والفضل لك يا لمياء — بارك الله فيك وقوَّاك في نصرة الحق …»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/45/
الحسين ولمياء
وتزحزح الخليفةُ فنهض القائدُ وانصرف ومعه الحسين وانصرفت أم الأمراء ولمياء مِنْ جهةٍ أُخرى. وعلمتْ أُم الأمراء أَنَّ لمياء تُحب الاجتماع بالحسين بعد ما وقع من الغرائب، وأن الحياء يمنعُها مِن طلب ذلك، فلما وصلتْ غرفتها معها بعثت أحد الصقالبة يدعو الحسين إليها وأمرت لمياء بالجلوس، وأخذت تحادثها في ما دار من الحديث في تلك الجلسة وهي تُريد استبقاءها ريثما يأتي الحسين. وبعد قليل جاء الصقلبي وقال: «إن القائد حسينًا أتى.» فلما سمعت لمياء ذِكره فأول ما تبادر إلى ذهنها أن تنهض وتنصرف. فأقعدتْها أم الأمراء وقالت: «إلى أين؟» فقعدت وهي ترتعد من تلك المفاجأة، وأَحَسَّتْ أم الأمراء بذلك لما أمسكت يدها لتقعدها؛ فإنها كانت باردة كالثلج، فقالت: «ما بالك ترتعشين مِن سماع اسم الحُسين؟ ألا تزالين تفكرين في سواه؟ ماذا جرى بمناظره القديم أين هو؟» ولم تسمع لمياء ذلك حتى اقشعر بدنها وامتقع لونها وأخذها الغضب؛ لتذكُّرها خيانة سالم. فاكتفتْ بالتنهُّد ولم تُجبْ. فقالت أم الأمراء «لم تقولي لي عن اسمه بعد، ألعله كان في جملة أولئك الخائنين؟ أرجو أن يكون كذلك فنكون قد خلصنا منه.» فلم تزد لمياء على الإطراق وقد ترقرقت الدموع في عينيها وتذكرت أن الحسين يعرف سالمًا من تلك الليلة، أما أم الأمراء فقالت: «لقد أبطأنا في الإذن للحسين في الدخول.» والتفتت إلى الصقلبي وقالت: «يدخل.» وبعد لحظة دخل الحسين وهو لا يزال بثياب الركوب كما كان ساعة وصوله، دخل وهو لم يكن يتوقع أن يرى لمياء هناك وإنما ظن أم الأمراء تحتاج إليه في خدمة وكثيرًا ما كانت تدعوه وتكلفه ببعض المهام، فلما دخل ووقع بصرُهُ على لمياء أجفل كما أجفلت هي ووقف فألقى التحية على أم الأمراء، ثم حيا لمياء عن بُعد بإحناء الرأس. فقالت أم الأمراء: «لا يلذ لي أن أراكما بعيدَين وأنا قد بذلت الجهد في جمعكما؛ فإنك ابنُ قائدنا، وهذه لمياء ابنتي. ومع ذلك فقد جعلت نفسي والدتك وقمت بتأدية المهر عنك.» قالت ذلك بلُطف ومداعبة. فتَلَعْثَمَ لسان الحسين عن الجواب ولكن الامتنان بَانَ في ملامحه. وتقدم نحو لمياء وهو يقول: «إن لمياء ذات فضل كبير علي؛ لأنها أنقذت والدي من القتل فلا أدرى بم أكافئها.» فقالت لمياء: «إني لم أفعل شيئًا يستحق الذكر، وإذا كنت قد فعلت شيئًا فهو في سبيل خدمة مولاي أمير المؤمنين الذي نفديه بأرواحنا، ولا أراك أقل تفانيًا في سبيل مصلحته مني …» فأشارت أم الأمراء إلى الحسين أن يقعد على وسادة أمام الوسادة التي كانت لمياء جالسة عليها، وأظهرت أنها ذاهبةٌ في أمر ذي شأن خَطَرَ لها فجأة، وهي إنما فعلت ذلك رغبة في انفراد الحبيبين؛ لأنها وجدت نفسها ثقيلة بينهما. وكانت من أرق الناس إحساسًا وأكثرهم تعقلًا لا تفوتها ملاحظة. فهل شعر الحبيبان أنها خرجتْ عَنْوَة مراعاة لإحساسهما؟ هَبْ أنهما أدركا ذلك لكن الحب يشغل المرء عن سواه أو أن صاحبه يرى ما يمر به من الأحوال مغشاه كأنه ينظر إليها من وراء حجاب، هو الحب، وقد يأتي في سبيل حبه أعمالًا يحسبها خافيةً على الناس وهم يرونها بأَجْلَى مما يراها هو، ولكنهم لا يقولون فيحسبهم غافلين. جلس الحسين وهو ينظر إلى لمياء، وهي مطرقةٌ حياءً وقد مَرَّ في خاطرها تاريخُ حياتها منذ عرفت سالمًا وكيف علقت به وتَعَشَّقَتْه حتى أبت أن تجيب دعوة سواه وتذكرت الليلة التي لقيت فيها حسينًا لأول مرة وما أبداه من الشهامة في معاملتها وكيف انتهت ليلتُهُم بفشل سالم، وخطر لها حالًا ما قاله الحسين عند وداعها من كتمان أمر سالم وأنه عرفه وعفا عنه. وكيف أنها رضيتْ بالحسين أولًا طوعًا لأمر سالم ثم أصبح هذا أعدى أعدائها، فأحستْ بانعطافٍ إلى الحسين وأساسُ انعطافها الإعجاب بشهامته ومروءته. مَرَّ ذلك كُلُّهُ في خاطرها سريعًا والحسينُ جالسٌ بين يديها ويهم أن يخاطبها ولا يعرف بماذا يبدأ، ثم خطر له أن يعزيها على والدها ويشجعها. فقال: «لقد ساءني يا لمياء ما أصاب أباك الأمير — رحمه الله — ولكننا سنثأرُ له من ذلك الخائن، واعلمي أني غير راجع حتى أذيقه حتفه.» فرفعت بصرها إليه وقد ذبلت عيناها وقالت: «عرفت شهامة الحسين من قبل على غير تعمد، عرفته عفوًا، ولا أنسى تلك الأريحة التي قيدني بها، لا أنسى قولك تلك الليلة وقد أدركنا ذلك الرجل الملثم وأوشك أن يقع فريسة — فأنقذته وطلبت كتمان أمره …» فقطع كلامها قائلًا: «لا أزال أُريد كتمانَ أمره دعينا منه، إنما أُحب أن أعلم: هل للحسين مكان عندك؟» قال ذلك وعيناه تبرُقان فرآها ساكنةً ولحظ دمعتَين انحدرتا على خديها خلسةً فأحس بنار اتقدت في بدنه وهَبَّ جسمه كأنك صببت عليه ماءً غاليًا. فندم على سؤاله مخافةَ أن يكون في غير أوانه وهي في حال الحزن على أبيها فابتدرها قائلًا: «أظنُني تعجلْت في الحديث وأنت في شاغلٍ من أمر والدك — رحمه الله — فاصفحي عن جسارتي …» فمسحت عينيها بمنديل أخرجتْه من جيبها، وقالت: «إن حزني على والدي شديد لكن خطابك تعزية كبيرة لقلبي الكسير.» وتَنَهَّدَتْ والتفتتْ نحو الباب كأنها تحاذر أن يدخل أحدٌ عليهما. فقال الحسينُ: «هل في الدنيا أرق عاطفة وأطيب قلبًا من هذه الملكة إني لا أظنها تركتنا وحدنا إلا عَنوة فلا ينبغي أن نضيع هذه الفرصة هل أعددت للحسين مكانًا في قلبك؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/46/
التعاهد
فتنهدت ورفعت بصرها إليه وهي تهم بالكلام فلم تستطعْه فأطرقت وتشاغلتْ بمنديلها تطويه بين أناملها وقد تصاعد الدم إلى وجنتيها. فلحظ تلبُّكها فأراد مداعبتها فقال: «لم يكن عهدي بلمياء الفارسة الشجاعة أنها ترتبك في حديث مثل هذا، ولكنني أقرأ الجواب في عينيك، لم أكن أجهل نظرك إلي من قبل ونظرك إلي اليوم، كنت أشعر أنك تُساقين إلى حبي كرهًا، لعل قلبك كان مشغولًا بسواي … لا أدري. أما الآن فإني أقرأُ شيئًا آخرَ في عينيك. إنما أطلب إليك أن تقولي كلمة ونحن منفردان هنا بإذن أُم الأمراء وهي لم تُخل لنا المكان إلا باختيارها. قولي هل تحبينني؟ وإنما أسألك ذلك؛ لأننا سنفترق وربما طال فراقُنا، فإذا سمعت منك الكلمة التي أُريدها كانت لي ذخرًا في أثناء الفراق أتعلل بها ريثما نلتقي.» فتنهدتْ ثانية وتجلدتْ وقالتْ: «إنك تقول عني وتعبر عن أفكاري، أما لمياء الفارسة الشجاعة — كما تقول — إنما تكون كذلك في حومة الوغى وأما في هذا الموقف فإني أسيرةٌ مسكينة. سألتني سؤالا لا أُجيبك عنه إلا بعد أن تجيبني على سؤالي.» فاستبشر وقال: «سمعًا وطاعة إني رهين إشارتك يا حبيبتي.» قال ذلك وقد أخذ منه الهيام مأخذًا عظيمًا. قالت: «إني أسألك هل تعاهدني على التفاني في مصلحة المعز لدين الله حتى ننتقم له أو نموت؟» فأعجب بتفانيها في حب المعز وكيف أنها فضلت التعاهُد على نصرته قبل كل شيء فقال: «نعم أعاهدك أن أكون طوع إرادتك في كل شيء وهذا من الجملة، إني أحبك يا لمياء وأعجب بخلالك ومروءتك … كنت أحسبني مؤديًا ما يجب علي في خدمة أمير المؤمنين، فلما رأيت ما أنت فيه من الغيرة عليه رأيتني مقصرًا عاجزًا … ها قد أجبتُكِ على سؤالك فأجيبيني على سؤالي.» قالت: «وما هو؟» قال: «تحبينني؟ هل تعاهديني على الحب حتى نلتقي؟» قالت: «نعم إني أحبك وهذا يكفي، وأما الثبات في الحب حتى نلتقي فإنه متعلقٌ بما نحن آخِذون به من نُصرة أمير المؤمنين، ونصرتُهُ هي واسطةُ عقدنا، وقد تعاهدنا على ذلك ويسرني أنك أخذت على نفسك الذهاب إلى جبل إيكجان لحمل الأموال المدفونة هناك … ولكن …» وسكتت وقد ظهر التفكيرُ في عينيها. فقال: «ما بالك … ما الذي خطر لك حتى سكت … أظنك خفت علي ما يعتور هذه المهمة من المشاق …» قال ذلك ونظر في عينيها ففهم منها أنها تُجيب: نعم. فقال: «لا تخافي علي يا لمياء إني لا أهاب الموت ولا سيما بعد أن زودتِني بتلك الكلمة الثمينة … إنها ستكون تعزيتي في أشد ضيقي، وهي تشجعني في المخاوف … لا تخافي علي من شيء …» فتنهدتْ وقالت: «آهٍ من الحب ما أحلاه وأمره! إن الأحباء يبذلون كل مرتخص أو غالٍ في سبيل الاجتماع أما نحن فنتعاهد على الفراق، ولكن خدمة أمير المؤمنين واجبة … إني أشعر بفضله علي وإني يجب أن أنصره و…» وسكتتْ وقد خَطَرَ لها أنها تطلب شيئًا آخر غير نصرة أمير المؤمنين؛ تطلب الانتقام من ذلك الحبيب الخائن فلم يدرك الحسين مرادها وانصرف خاطرُهُ إلى مهمتها فقال لها: «قد علمت مهمتي إلى فج الأخيار لحمل ما فيه من المال لكنني لم أفهم مهمتك …» فتحركت واعتدلت في مجلسها، وقالت: «قد قلت لأمير المؤمنين إني سأسعى في استطلاع دخائل المصريين وأحوالهم وإني سأفعل ذلك بطريقةٍ لا أقولها الآن … لا تغضب يا حبيبي إذا لم أقل لك.» فلما سمعها تناديه «حبيبي» اختلج قلبُهُ في صدره ونسي ما كان يبحث عنه ولم يشأْ أن يستزيدها بل تهيب من الإلحاح عليها، وكان منذ خاطبها وهو يشعر بسلطانٍ لها عليه، فلم يجسر على تكرار السؤال فقال: «افعلي ما بدا لك وكفاني أنك ناديتني بلفظ الحب وهذا تذكارٌ سأحفظه، ربما لا يُتاح لنا الاجتماع في مثل هذه الفرصة مرة أخرى قبل سفري؛ ولذلك فإني أحب أن لا تَنْقَضي هذه الساعة … ما ألطف أم الأمراء وما أكثر فضلها.» قالت: «إن هذه الساعة مباركة سنذكرها ما حيينا، وعسى أن يكون اجتماعنا الثاني في مصر تحت ظل أمير المؤمنين.» فأعجب بتعبيرها وكِبر نفسها وشدة رغبتها في فتح مصر واستهانتها بفتحها، وقال: «أرجو أن نوفق إلى ذلك يا حبيبتي، إنها أُمنية نتمناها جميعًا، وخصوصًا أنا؛ لأن ذلك الاجتماع سيكون أكيدًا لنا لا نخاف بعده فراقًا بإذن الله إذ تكون لمياء حينئذ لي وأنا لها.» فقالت وهي تبتسم: «ألا تشعر بارتياح عند تفكيرك بذلك النصر ألا يلذ لك أن تتصور راية المعز تخفق على ضفاف النيل وقد امتد سلطانُهُ إلى هناك؟ أَمَّا أنا فأكاد أسكر بمجرد تفكيري بدُخُول جيش أمير المؤمنين إلى الفسطاط وأسمع أهله يؤذنون بحي على خير العمل ويصلون على علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وسائر الأئمة الطاهرين. ولا بد أن ينصر الله أبناءَ فاطمة الزهراء؛ فإنها بنت الرسول وهم أصحابُ الحق في الخلافة، ولا بد أن يملكوا الدنيا كلها …» قالت ذلك وقد أشرق جبينُها وأبرقتْ عيناها كأنها منيت بنعمة لم تكن تتوقعها. فازداد إعجابًا بمروءتها وغيرتها، ووَدَّ لو تكون أُمُّ الأمراء حاضرةً لتسمع ما قالتْه لمياء ولكنه عزم أن ينقله إليها في فرصةٍ أخرى فقال: «إني أحسبني أخاطب ملاكًا هبط من السماء وأعد قولك وحيًا لا بد من إتمامه بإذن الله.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/47/
أم الأمراء
وهما في ذلك سمعا خفق نعالٍ في الخارج، عرفا أنها نعال أم الأمراء. وسمعاها تخاطب أحد الغلمان بشأن من شئون القصر، وهي إنما تريد بذلك أن تنبه الحبيبين إلى قدومها قبل دخولها عليهما حتى لا تدخل فجأة — وفي ذلك مِن دقة الإحساس وسلامة الذوق ما فيه. فاستعدَّا لاستقبالها، ثم دخلت وهي تهش لهما وبادرت إلى الاعتذار بأن أمير المؤمنين شغلها فلم تقدر على البقاء معهما، فقال الحسين: «كم كنت أحب أن تكوني هنا لتسمعي ما قالته لمياء … أنت تعلمين تعلقي بمولاي أمير المؤمنين وأنا صنيعته وعبده وابن عبده لكنني رأيت من تعلق لمياء أضعاف ما أعرف في أحدٍ من الناس.» فضحكتْ أم الأمراء وقالت: «تعني تعلقها بك؟» قال: «كلا، إنما أعني تعلقها بأمير المؤمنين والاستهلاك في خدمته حتى اشترطت علي أن أول شيء نتعاهد عليه إنما هو التفاني في نصرته.» فقالت: «ألم أقل إنك لا تجد مثلها في القيروان ولا في المغرب كله؟» فأجاب على الفور: «ولا في مصر أو بغداد.» فظلت لمياء ساكتة من الحياء فنهض الحسين وودع أم الأمراء، ثم تقدم إلى لمياء وقال: «أستودعك الله إلى أن نلتقي.» ومَدَّ يده لمصافحتها. فمَدَّت يدها ونظرت إليه وصافحتْه وهي تقول: «في مصر إن شاء الله.» فوقع قولُها وقعًا جميلًا في أذنَي أم الأمراء وفهمت منه ما يكفي. فأكبتْ عليها وضَمَّتْها وقبلتها وقالت: «بارك الله فيك يا ابنتي يا حبيبتي، لله أنت من فتاة نادرة المثال.» ثم تحوَّل الحسين وهو يقول: «لا أظنني أستطيع مثل هذا الاجتماع قبل سفري إلى فج الأخيار ومتى عدت أين أراك؟» قالت: «في الفسطاط في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل — إن شاء الله.» فكان لقولها تأثيرٌ في قلب أم الأمراء؛ لِما ينطوي عليه من التفاؤل الحسن مع التفاني الصحيح، والتفتت إليها ثم نظرتْ إلى الحسين وابتسمتْ، وقالت: «المراد أن تجتمعا وتَسْعَدَا معًا، وذلك غاية ما يرجوه أمير المؤمنين.» ثم أومأت إلى الحسين مودعة فودعها وهَمَّ بالخروج وهو ينظر إلى لمياء نظرة المحب الولهان ولم تكن هي أقل تأثرًا منه، لكنها قد هاجت فيها عواطفُ الغيرة والنقمة، فقالت له: «إلى أين يا حسين؟» فرجع إليها وقال: «إلى فج الأخيار.» قالت: «وهل أنت على بينة من مكانه وسائر أحواله؟» فبغت من هذا السؤال وأطرق خجلًا؛ لأنه كان عازمًا أن يسألها عنه فشغل بذلك الحديث، ثم رفع رأسه وقال: «أعرف قليلًا وسأبحث وأسأل، فهل تخبرينني عنه شيئًا، وهل تعرفينه؟» قالت: «لا أعرفه؛ لأني لم أصلْ إلى ذلك المكان، لكنني أسمع أنه في بلدٍ بعيدٍ في أواسط الصحراء من بلاد كتامة، ولا يهمني بُعده وإنما يهمني ما هناك من وسائل الدفاع عنه؛ لأني كثيرًا ما سمعتُ بما اتخذه أصحابُهُ من الطرق لإخفاء الأموال وصيانتها.» فقطع كلامها قائلًا: «لا تبالى يا لمياء بشيء من ذلك؛ فإن ما رأيته من حماستك وغيرتك ومروءتك يصغر كل كبير ويهون كل صعب … كوني مطمئنة.» ومد يده لمصافحتها وهو يقول: «أعود فأودعك ثانية وأطلب إليك أن تفكري في أحيانًا، وهذا يكفيني لنجاح مسعاي.» ثم ودعها وخرج وهي تقول: «سِرْ بحراسة المولى؛ فإنه آخذٌ بيدك في نصرة الحق وكبت الظالمين.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/48/
الكتاب
وبعد خُرُوجه أرادت لمياء أن تودع أم الأمراء فأمسكتها وأقعدتها، فقعدت وهي تنظر إليها كأنها تستفهمها عما تريده. فقالت أم الأمراء: «هذا الحسين قد عَرَفْنَا وجهته وخطته أما أنت ﻓ…» فقطعت لمياء حديثها رغم إرادتها وقالت: «أستأذنك يا سيدتي أن لا تسأليني عن ذلك.» قالت: «ولماذا هذا التستُّر؟» قالت: «أرى فيه فَأْلًا حسنًا، وماذا يهمك إذا عرفت خطتي أو وجهتي؟ وإنما يهمك أن آتي مولاي أمير المؤمنين بأخبار تلك الدولة.» قالت: «ولكن أمرك يهمني؛ لئلا تلقي بنفسك في تهلكة نظرًا لِما في مهمتك هذه من الأخطار مما يربي على مهمة الحسين.» قالت: «لا تخافي يا سيدتي؛ لأن نصير أمير المؤمنين سلالة بنت الرسول لا بد من أن ينجيه الله وينصره على أعدائه، غير أني أتقدم إليك بأمر هو واجبٌ بحد ذاته.» قالت: «قولي ماذا تريدين.» قالت: «إن يعقوب بن كلس اليهودي المقيم بمصر أرسل تلك الرسالة المستعجلة إلى سيدي المعز لدين الله؛ فهو صاحبُ فضل كبير. أليس كذلك؟» فحنت أم الأمراء رأسها إذعانًا للحق، وقالت: «نعم إنه صاحبُ الفضل الأكبر، ولولاه لنفذت حيلةُ ذلك الشرير.» فقالت: «أَلَا ترين أن يكتب أميرُ المؤمنين كتابًا يشكره فيه ليستمرَّ على خدمته في مصلحة هذه الدولة!» قالت: «صدقتِ، وأظنه فاعلًا ذلك.» قالت: «مع من يرسل الكتاب؟» فانتبهت أم الأمراء لغرض لمياء من هذا السؤال فقالت: «لا أدري، وأظنه يرسلُهُ مع أحد غلمانه في قافلة أو بطريق آخر … وهل يهمك هذا الأمر؟» فقالت وهي تحك وراء أذنها: «لا … لكن …» وأطرقت. فقالت أم الأمراء: «قولي يا لمياء ماذا يخطر لك … لا تخفي عني شيئًا.» قالت: «أُريد أن أسارك في أمر يهمني حِفْظه مكتومًا … هل أفعل؟» قالت: «افعلي ولا تخافي بعد أن ارتفع حجاب الهيبة من بيننا وأنت بمنزلة ابنتي تمامًا كما قلت لك مرارًا، بل لا أرى ابنةً أو ابنًا يعامِل والديه بما تعامليننا به يا لمياء.» قالت ذلك وبان الاهتمامُ في جبينها. فابتسمت لمياء وأبرقت عيناها عند سماع ذلك الإطراء وقالت: «إن سري يا سيدتي يتعلق بالطريق المؤدي إلى خدمة أمير المؤمنين.» قالت: «قولي يا عزيزتي.» قالت: «أحب أن أكون أنا رسول أمير المؤمنين إلى يعقوب هذا. ولا أريد أن يطلع سيدي الخليفة على ذلك … دبري طريقة.» فاستغربت أم الأمراء هذا الطلب على هذا الشكل، وقالت: «وما هو غرضُك من هذا التكتُّم، ولماذا؟» قالت: «لعلمي أن السر إذا جاوز الاثنين شاع، ولولا حاجتي إلى مساعدتك في نيل الكتاب لكتمت هذا عنك؛ ولذلك أتقدم إليك بإلحاح أن تكتمي خبري. وقد قلت لأمير المؤمنين إني سأسعى في استطلاع حال مصر بطريقةٍ لا أُحب أن يعرفها أحد … وكنت أَوَدُّ أن أفعل ذلك بدون أن أُكاشفك بأمر الكتاب … فلا تسأليني يا سيدتي عن الأُسلوب الذي سأتخذُهُ في البحث. إنما أتقدم إليك أن تستحثي سيدي أمير المؤمنين على كتابة الكتاب واجعلي أنك سترسلينه مع أحد الغلمان أو أوصي الرسول إذا أخذ الكتاب أن يأتي به إليك، أو كما تشائين. والمراد أن تسلمي إلي الكتاب وتطلقي سبيلي بدون أن يعلم أحدٌ بجهة سفري.» فضحكتْ أُمُّ الأمراء، وقالت: «إني لا أحتاج في ما أطلبه من المعز لدين الله إلى حيلةٍ أو وسيلةٍ، وسأفعلُ ذلك إكرامًا لخاطرك … ولكنني سأشتاق إلى رؤيتك؛ فقد تعودت جوارك و…» ودمعتْ عيناها. فأثر ذلك المنظر في لمياء وأحست بشيء يجتذبُها نحو تلك المرأة فلم تتمالكْ عن الترامي على كتفها وقد سبقتْها دُمُوعُ الامتنان، فضمتْها أُمُّ الأمراء إلى صدرها وقَبَّلَتْها وقالتْ لها: «ولكن عسى أن تعودي سالمةً ظافرةً ويعود الحسين أيضًا فائزًا فتزفان في هذا القصر وننسى ما قاسيته من الشقاء …» فتجلدت لمياء واعتدلت وقد بانت الحماسة في عينيها، وقالت: «إنما يكونُ ذلك في الفسطاط — بإذن الله.» فأُعجبتْ أُمُّ الأمراء بغيرتها وضحكتْ وضمتْها ثانيةً ووَدَّعَتْها على أن تدبر أمر الكتاب. وانصرفت لمياءُ إلى غرفتها وأخذتْ تفكر في ما هي مُقْدِمَةٌ عليه من الأمر العظيم — سفرٌ وخطرٌ وبعدٌ وشوق — لكنها تجلدت واستحثت عاطفة الشجاعة وقالت في نفسها: «لا بد لي من الصبر حتى أنتقم لوالدي وأثأر لنفسي من ذلك الخائن الذي خدعني وأراد أن يجعلني ضحية مطامعه.» وسكتت وأطرقت وهي واقفةٌ أمام المرآة تنزع ثيابها. وتصورت ما كان لسالم من المنزلة عندها فخفق قلبُها وسبق إلى ذهنها حُسن الظن به، فقالت: «قد يكون ابن كلس منافقًا أو مخطئًا … هل يُمكن أن يكون سالمٌ خائنًا إلى هذا الحد ويخدعني عدة سنين؟ لا … لا … إذن كيف أفسر عمله؟ ولو كان صادقًا في حبه لم يوافق على الفتك بأبي … ولكن سأتحقق ذلك بمصر قريبًا.» وكانت قد فرغتْ مِنْ نزع ثيابها فاستلقتْ على الفراش للراحة والتأمُّل وأَجَّلَت الحكم في كل شيء إلى ما بعد وصولها إلى مصر. وبعد بضعة أيام أتتها أم الأمراء بكتاب المعز لدين الله إلى يعقوب بن كلس، فتناولته وودعتها سرًّا وكان وداعًا مؤثرًا، وكانت لمياء قد أعدت كل ما يلزم للسفر من الخدم والأدلاء؛ لأن الطريق من القيروان إلى مصر بعيدةُ الشقة لا تقطعُهُ إلا القوافل وقد أعدت شبه بريد مؤلف من أربعة أفراس مع ما يلزم من الخدم والحرس وجعلت أن ذلك البريد يحمل غلام أمير المؤمنين إلى مصر، ولما أتاها الكتاب تنكرت بثوب غلام صقلبي وركبت ولا يشك من رآها في أنها غلام الخليفة يحمل رسالةً في مهمة. وسار الركب قاصدًا مصر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/49/
الفسطاط
كانت الفسطاطُ عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة منذ بَنَاهَا عمرو بن العاص، فلما تولى أحمدُ بن طولون جعل مقره في القطائع — كما تقدم في رواية أحمد بن طولون — ثم ذهبت الدولة الطولونية وأفضت الإمارة إلى محمد الإخشيد، فجعل مقره الفسطاط، فعادت إلى رونقها وزادتْ عمارتُها وتزاحمت الأقدام فيها حتى فاقت البصرة والكوفة في كثير من الوجوه وبلغ طولها على ضفة النيل ثلاثة أميال. وذكر مؤرخو العرب من مقدار عمارتها أنه كان فيها ٣٦٠٠٠ مسجد و٨٠٠٠ شارع مسلوك و١١٧٠ حمامًا، وقد يستبعد ذلك ولكن إيراده يدل في كل حال على العظمة والعمران. ومما نظمه الشعراء في مدحها قولُ الشريف العقيلي: وبلغ مِن تزاحُم الناس في الفسطاط حتى جعلوا المنازلَ طبقات عديدة، بلغ بعضُها خمس طبقات إلى سبع، وربما سكن في البيت الواحد ٢٠٠ من الناس، وبلغت نفقةُ البناء على بعضها ٧٠٠٠٠٠ دينار، وهي دار الحرم لخمارويه. واشتهر من تلك الأبنية دار ضرب المثل بعظمتها وغِنَى أهلها تُسمى «دار عبد العزيز»، كانت مطلةً، على النيل، بلغ من سعتها وكثرة ساكنيها أنهم كانوا يصبون فيها أربعمائة راوية ماء كل يوم، ونقل بعضهم أن الأسطال التي كانت بالطاقة المطلة على النيل بلغ عددها ١٦٠٠٠ سطل مؤيدة ببكر وأطناب لها تُرخى وتملأ، وذكر رجلٌ دخلها في أواخر القرن الثالث للهجرة في زمن خمارويه بن أحمد بن طولون قال: «طلبت بها صانعًا يخدمني فلم أجدْ فيها صانعًا متفرغًا لخدمتي وقيل لي إن كل صانع معه اثنان يخدمهما وثلاثة، فسألت كَمْ فيها من صانعٍ فأخبرت أن بها سبعين (كذا) صانعًا قل من معه دون ثلاثة سوى من قضى حاجته وخرج.» وفى ذلك دليلٌ على غنى أهل الفسطاط وترفهم، ومن هذا القبيل استكثارهم من الفرش؛ فقد يقتني أحدهم ألف فرشة أو عشرة آلاف فرشة، وذكروا أن رجلًا من أهل الفسطاط عنده ثلاثمائة فرشة كل فرشة لحظية. وكذلك كانوا يفعلون بالثياب ونحوها، وقد تكون أثمانُها فاحشةً، فلا يُبالون لغناهم. قال القضاعي إن قطر الندى ابنة خمارويه كان في جملة جهازها ألف تكة، ثمن كل واحدة عشرة دنانير، فبلغ ثمنها كلها عشرة آلاف دينار. فإذا كان ذلك شأن الفسطاط في زمن آل طولون ودار الإمارة في القطائع فكيف بعد أَنْ عادتْ دارُ الإمارة إليها في عهد الدولة الإخشيدية؟ وأشرفتْ لمياء على مدينة الفسطاط من جهة الشمال الغربي في صباح يوم صَفَا جَوُّهُ، فوقع بصرُها على المدينة عن بُعد فلَفَتَ إعجابها جامع عمرو في وسطها، وحوله الأبنيةُ الكبيرةُ بينها المآذن العديدة ووراءها النيل قد رست فيه السفن في ميناء الفسطاط من جهة الغرب، وبانت سواريها مصطفةً كالرماح إذا تقلدها صفٌّ مِنَ الفرسان وقف بنظام، وبين الفسطاط والمقطم البساتين والغياض وفيها الأشجارُ الغضة وأنواعُ الرياحين والأزهار، أجملها بين المقطم والخليج بستان الإخشيد أو البستان الكافوري (في محل الأزهر والسكة الجديدة من أبنية القاهرة اليوم) وإلى جنوبي الخليج ناحية المقس ومناخ المهراني وأرض الطبالة، (وهي الأماكنُ التي عمرت فيها بعد ذلك الفجالة والظاهر والتوفيقية والأزبكية وغيرها)، فأخذت لمياء تسأل دليلَ الركب عَمَّا يقعُ بصرُها عليه من البساتين، وهو يقص عليها. ثم استوقف بصرها بستانٌ واسعٌ، فيه بقعةٌ كالميدان قد نُصبت فيها الخيام، فقالت للدليل: «ما هو هذا البستان؟» قال: «هو بستانُ الإخشيدي يا سيدي.» قالت: «أراه جميلًا. فلنعرجْ إليه للراحة ثم نواصل السير.» قال: «لا يمكننا ذلك الآن ولو جئنا في غير هذا اليوم ربما استطعنا دخوله.» قالت: «ولماذا؟» قال: «ألم ترَي يا سيدي الخيام المنصوبة في وسطه وعليها الأعلام؟» قالت: «بلى، وما هي؟» قال: «هذه سرادقاتٌ نصبوها للأمير كافور الإخشيدي صاحب مصر الآن؛ لأنه منحرف الصحة وأشار عليه طبيبُهُ أن يُقيم في الخلاء؛ لعله ينتفع.» قالت: «هل كافور هو أمير مصر الآن.» قال: «نَعَم يا مولاي هو أميرها منذ عامين … ونِعْم الأمير.» فسكتتْ وتحولتْ إلى مرتفَع بجانب المقطم يطل على ما تحته إلى النيل، فأعجبها ما رَأَتْهُ من العمارة التي لا تعهدها في القيروان ولا في غيرها من البُلدان التي مَرَّتْ بها. ولفت انتباهها — على الخصوص — لَمَعان سطح النيل وراء الفسطاط. ووراء النيل بساتين الروضة والجيزة ووراءها الأهرام تناطح السحاب، وقد اكتنف النيل على ضفتيه بساتينُ النخيل الباسقة تختلط رءوسها برءوس السواري البارزة عن السفن السابحة في مياه الفسطاط، تحمل إليها الغلات والسلع وضروب الأنسجة من كل صقع وبلد، فزادتْ رغبتها في أن تصير هذه البلاد إلى المعز لدين الله، وتصورت الخليفة قد دخلها فاتحًا ورفع أعلامه فوقها فاختلج قلبها فرحًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/50/
الشيعةُ بمصر
ثم ما لبثتْ أن عادت إلى التفكير في المهمة التي قطعت تلك الصحراء من أجلها، فكان أول همها أن تبحث عن منزل يعقوب بن كلس، ولكنها أمرت صاحب الركب أن يسوق الأفراس إلى فندق أو خان فينزلون فيه. فأخذهم إلى فندق قديم يعرف بفندق ابن حرمة بأول سوق العدسيين. وكانوا وهم يمرون في الأسواق لا يلفتون الأنظار؛ لكثرة من يدخل الفسطاط يومئذٍ من القوافل القادمة من الشام والعراق والمغرب والسودان وغيرها تحمل البضائع والغلال والريش والصمغ والجواري والغلمان على البغال أو الأفراس أو الجمال غير ما ينقل بحرًا عن طريق النيل. وما زالوا حتى أتوا الفندق فأمرت لمياء صاحب الركب أن يهتم بالأفراس وهو لا يشك في أنها غلام، وبعد الاستراحة قليلًا توجه هَمُّها إلى السؤال عن بيت يعقوب بن كلس فطلبت صاحب الخان إلى غرفتها، فجاء، فرحبت به وكانت قد بالغت في إكرامه ودفعت إليه أضعاف ما طلبه من الأثمان أو الأجور فأصبح طوع إرادتها، فلما دعته إليها وقف بين يديها وأدهشه جمال ذلك الغلام الصقلبي وما في عينيه من الذكاء. وكان الخاناتي (صاحب الفندق) شيخًا لطيف المحضر قد عركه الدهر وشهد تقلب الدول على مصر من أواخر جولة آل طولون. وكان في جُملة مَن شاهدوا الفتك بالطولونيين وخرائب القطائع. وعاصر الإخشيد لما جاء حاكمًا ونزل الفسطاط. وكثيرًا ما مر به النزلاء من سائر الطوائف والعناصر من الأتراك والأرمن والشوام والمغاربة والفرس والشراكسة والسودانيين وغيرهم. وأصحاب الفنادق والحانات والقهوات ونحوها من الأماكن العمومية أقربُ إلى اللطف ودماثة الخلق من سائر طبقات العامة؛ لأنهم يتعودون الصبر على الضيم وسعة الصدر باضطرارهم إلى مسايرة الناس على اختلاف أهوائهم وطبائعهم، فيأتيهم السكران والمعربد والثقيل والبارد والمتكبر والمحتال، وهم مضطرون — بحكم الارتزاق — أن يُرضوهم كما يرضون سواهم، فإذا لم يكن فيهم استعدادٌ للقيام بذلك هجروا تلك المهنة وعدلوا عنها إلى سواها. وإذا ظلوا فيها فلا تزال الحوادثُ تعركهم والتجارب تحنكهم حتى تصير أخلاقُهُم كالعجين لينًا ودماثة. فكان صاحبنا الخاناتي من هذا القبيل، فلما رأى لمياء وهو يعتقد أنها غلامٌ صقلبي (وأكثر ما كان يأتي الصقالبة يومئذٍ من جهات المغرب) عرف أنها قادمةٌ من بلاد المغرب فضلًا عما دله على ذلك من ملابس رفقائها وكلامهم. فقالت له: «يظهر أنك قديم في هذا البلد يا عماه.» قال: «أنا يا سيدي قديم جدًّا.» قالت: «وقد مر بك ألوف من الزائرين من سائر المِلل، أليس كذلك؟» قال وهو يمشط لحيته بأنامله: «نعم يا سيدي إني أعرف من أحوال الناس أكثر من شعر هذه اللحية»، وضحك. فارتاحت لمجونه مع شيخوخته وهمت بالسؤال عما يفيدها فقالت: «أتعرف رجلًا اسمه يعقوب بن كلس؟» فهز رأسه هز الإعجاب وقال: «كيف لا أعرفه وهو من كبار رجال الدولة وقد رأيته أمس مارًّا على بغلته. ويندر بين اليهود من يؤذن له بركوب البغال.» فقالت: «وكيف أذن له بذلك؟» قال: «لأن كافورًا أميرنا فتن بذكائه ومهارته، فجعله مِن خاصته وعظمت منزلته عنده حتى أصبح لا يمضي أمرًا إلا بتوقيعه.» فاستغربت ذلك وقالت: «أين يقيم الآن؟» قال: «يقيم في منزل فخم بجانب زقاق اليهود على مقربة من هذا المكان.» قالت: «هل ترسل معي مَن يرشدني إلى منزله؟» فنهض الشيخ وقال: «أنا أسير في خدمتك إلى منزله.» فقالت: «لا حاجة إلى تعب سرك يكفي أن تدلني عليه من هنا.» فمشى — وهو يظن أنه يكرمها بهذه الخدمة — وقال: «لا … لا … بل أمشي في خدمتك يا سيدي … ولهذا المنزل طريقان أحدُهُما قصيرٌ لكنه ضيقٌ مظلمٌ، والآخر طويلٌ منيرٌ جميل … والأحسن أن نسير في الطريق الطويل.» قال ذلك ومشى وهو يتوكأ على عكازه. فأطاعته لمياء ومشت في أثره وهي بلباسها الخاص بغلمان الصقالبة؛ وإنما اختارت ذلك اللباس لأن أصحابه أقرب بوجوههم وأصواتهم إلى النساء فلا يستغشُّها من يتوهم في صوتها غنة النساء. فمشيا بزقاق ينتهي إلى رحبة واسعة رأت لمياء فيها الجماهير يتزاحمون ويتراكضون فسألتْه عن المكان فقال: «هذا جامع عمرو بن العاص يا سيدي.» قالت: «قد سمعت به كثيرًا، وكنت أود أن أصلي فيه لكنني سأفعل ذلك في فرصة أخرى.» فقال: «تفضل يا سيدي لأريك الجامع ثم نسير في طريقنا.» ومشى أمامها مسرعًا وهو ممسك بطرف ثوبها كأنه يجرها إلى هناك. ولم يكد يصل بها إلى الباب حتى سمعت صوتًا أدهشها ورأت شيخًا واقفًا بالباب ينادي: «معاوية خالي.» فيرد عليه شيخ آخر في الجانب الآخر بمثل قوله. وهم يفعلون ذلك نكاية في الشيعة؛ لأنها تحتقر معاوية. فأحست لمياء عند سماع ذلك بغضب؛ لأنها تجل الشيعة إكرامًا للمعز وأم الأمراء وحدثتْها نفسها أن تصيح بالشيخين وتسكتهما، فتذكرت أنها غريبة وليس هذا وقت خصام. وهي تعلم تعصب حكومة مصر وأهل مصر يومئذٍ على الشيعة. لكنها كانت تسمع ذلك عن بُعد فلما رأته رأي العين استغربتْه فتحولتْ عن باب الجامع والخاناتي يتبعها ويقول: «ما بالك يا سيدي لم تدخل الجامع لتراه على الأقل؟» فقالت: «سأرجع للصلاة في فرصة أخرى. ولكن ما بال هذين الشيخين يناديان هذا النداء.» قال: «يناديان بذلك إغاظة للشيعة.» قالت: «ألعلك شيعي؟» فصاح «أستغفر الله … لماذا تقول لي ذلك يا مولاي كأنك تريد أن توقعني في مصيبة؟» قالت: «ولماذا؟ ألعل الشيعي كافر؟» فأشار بسبابته على شفته السفلى كأنه يطلب سكوتها أو يستمهلها في الجواب إلى فرصة أُخرى. فسكتت حتى إذا دخلا في زقاق منفرد قال الشيخ: «احذر يا سيدي أن تجاهر بأمر الشيعة … يظهر أنك منهم …» فقالت: «نعم إني منهم، وهل مِن بأس علي؟» قال: «كلا … ربما هابوا لباسك وقيافتك. وأما الفقير إذا كان شيعيًّا ضربوه وأهانوه. وقد يضربون الكبراء ويسجنونهم ويهينونهم بلا شفقة.» فلما سمعت ذلك الكلام لم تتمالك أن صاحت: «ويل لهم … ألا يخافون الله؟» فتقدم الشيخ وقال بصوت ضعيف: «أنصح لك يا سيدي أن تغض النظر عما تراه ولا تعرض نفسك للإهانة.» فقالت: «أليس في هذا البلد أحدٌ من أهل الشيعة ذو مقام؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/51/
يعقوب بن كلس
تقدم الشيخ إلى الباب ودقه بحلقة من الحديد في وسطه فرد عليه البواب وفتح خوخه الباب وأخرج رأسه منها وهو يقول: «من هذا؟» فقال الخاناتي: «ضيف يسأل عن المعلم يعقوب.» فأجال البواب نظره في الطريق فرأى لمياء واقفة بثوب الرجال فأعجبه هندامها فقال: «تفضل يا سيدي، إن المعلم في المنزل.» قال ذلك وفتح الخوخة على مداها وتنحى حتى دخلت لمياء بعد أن أشارت إلى الخاناتي إشارة الوداع وابتسمت. فمضى الخاناتي معجبًا بلطف ذلك النزيل الكريم. أما لمياء فأشار إليها البواب أن تقعد على مقعد في مندرة عند الباب وذهب لينادي يعقوب. وبعد قليل سمعت صوت يعقوب يقول لبوابه: «أين الضيف؟» فأجابه: «في المندرة.» ثم أقبل يعقوب على المندرة فوقفت له لمياء فحياها بلطف وقال: «مرحبا بالضيف الكريم، تفضل اجلس.» وجلس على كرسي بين يديها وهو ينظر إلى نظافة ثوبها وهي تنظر إلى سحنته وتتبين ملامحه فرأته على أبواب الكهولة وقد لبس الجبة والعمامة الصغيرة وأرخى سالفيه أمام أذنيه. ويظهر من شكل أنفه وحاجبيه أنه يهودي ولكن الشرر يكاد يتطاير من عينيه لفرط ذكائه وحدة ذهنه. فأول شيء تَبَادَرَ إلى ذهنها أن تطلب الخلوة به لكنه سبقها إلى الكلام: «من أين الضيف؟» قالت من بلدة بعيدة: «هل تأذن بخلوة؟» قال: «نحن في خلوة.» قالت: «بل أريد خلوة أبعد عن أبصار الناس ومسامعهم.» فعرف من لحن صوتها أنها من بلاد المغرب وحدثته نفسه لأول وهلة أن يكون لمجيء هذا الصقلبي علاقة بكتابه إلى المعز. وكان ينتظر ورود الجواب عليه كل يوم. فلما طلبت الخلوة نهض ومشى أمامها في حديقة كبيرة إلى مصطبة صعد عليها إلى بيت دخلا غرفة منفردة منه وأوصى يعقوب أن لا يقرب أحد من بابه. وفى تلك الغرفة بساط من السجاد ومساند ومقاعد. فأشار يعقوب إلى ضيفه أن يقعد على الوسادة. وجلس هو بين يديه وعيناه شائعتان؛ ليرى ما وراء هذه الخلوة، فقالت لمياء: «إني رسول إليك من الإمام المعز لدين الله.» فلما سمع يعقوب اسم الخلفية تأدب في مقعده مبالغة في الاحترام وقال: «مرحبًا بك يا سيدي … كيف أمير المؤمنين كيف صحته.» قالت: «إن مولاي أمير المؤمنين بعثني إليك لأحمل شكره لك ورضاءه من رسالتك التي أَنْفَذْتَها إليه.» قال: «أرجو أن تكون قد أتت بفائدة … وأنا في قلق؛ لأن رسولي لم يعد بعد.» فقالت: «ولن يعود؛ لأنه قتل.» فأجفل وقال: «وكيف وصلت الرسالة إلى الخليفة؟» قالت: «وصلت بالاتفاق الغريب … أنا أوصلتها إلى أمير المؤمنين وهو على وشك الوقوع في الفخ (وتنهدت؛ لأنها تذكرت مقتل والدها) ولكن وصول الرسالة نجاه وحاشيته من الموت.» فأبرقت أسرة يعقوب من نجاح مهمته؛ لما يتوقعه من الارتقاء على أيدي الفاطميين، وقال: «وكيف حدث ذلك. ألا تقص علي الخبر؟ قُلْ بالله، قل.» قالت: «أحب قبل كل شيء أن أكاشفك بسر آخر يخصني.» قال: «تفضل يا سيدي.» قالت: «أنت تخاطب فتاة لا رجلًا.» قال: «أصحيح ذلك؟ قد توسمت في هذا الصوت لطف النساء لكنني رأيت في هاتين العينين قوة الرجال … أما وقد أطلعتني على هذا السر فهل تتممين جميلك وتفصحين لي عن حديث رسولي وكيف وصلت الرسالة إليك؟» قالت: «لذلك حديثٌ طويلٌ سأقصه عليك باختصار، وفيه أشياء كثيرة لا تهمك ولكنني سأقولُها لك وثوقًا بذمتك واعتمادًا على غيرتك وشرفك؛ لأستعين بك في بعض الأُمُور التي تهمني شخصيًّا.» قال: «قولي يا سيدتي وثقي أني خزانة أسرار وأني أبذل كل ما في وسعي للأخذ بيدك في كل ما تريدينه.» فأخذت تقص عليه خبرها مع سالم مختصرًا إلى أن غلب أبوها على بلده وصار في حوزة المعز وكيف خطبها لابن جوهر وما ظهر من كيد أبي حامد حتى فشل على يده بوصول الرسالة. وكيف قتل رسوله وقتلت هي قاتله. وأنها قادمة لاستطلاع الأحوال وللانتقام لنفسها إلى آخر الحديث — وهو مصغ كل الإصغاء — فلما فرغت من حديثها قال لها: «أنت إذن لمياء المسكينة.» قالت: «نعم أنا لمياء ولكنني لست مسكينة؛ لأني سأنتقم لنفسي من ذلك الخائن الغادر.» قالت ذلك وحرقت أسنانها وبان الغضب في عينيها وأدرك يعقوب أنها فتاة ليست كسائر الفتيات فقال لها: «كوني على ثقة أني أبذل وسعى في سبيل رضاك. إن أمة في نسائها فتاة مثلك أحر بها أن يتسع سلطانها، وستقيمين هنا وتعرفين كل شيء في مدة قصيرة.» قالت: «بلغني أن في هذا البلد رجلًا من الشيعة اسمه مسلم بن عبيد الله، هل تعرفه؟» قال: «إنه من أعز أصدقائي وهو الذي حبب إلي الأخذ بناصر الشيعة، مع أني إسرائيلي لكني صرت أعتقد أن الحق بجانب الإمام علي.» فهزت رأسها وقالت: «الحق يعلو ولا يعلى عليه وسوف يظهر أصحاب الحق أبناء بنت الرسول.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت لفافةً من الحرير استخرجت منها رقًّا ملفوفًا وقدمتْه إليه وقالت: «هذا كتابٌ من أمير المؤمنين إليك.» ثم استخرجتْ حجرًا من الألماس كبير الحجم كان قد وقع للمعز في بعض غزواته وهو يساوي بضعة آلاف دينار، وقالت: «وهذا هدية من مولاي الخليفة إليك.» إن إخلاصك الصحيح قد تأكد لنا من رسالتك التي وصلتْنا في إبان الحاجة إليها، فوجب علينا شكرُك، وقد بعثنا إليك هذا الشكر شفاهًا مع رسولنا حامل هذا الكتاب، وسنذكر لك هذه الأريحية والغيرة الحقيقية في وقت يكون لك منه نفعٌ صحيح. وإذا زدتَنا مِن عنايتك وصِدْق إخلاصك تضاعفتْ يدك لدينا والله يتولاك بنعمته.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/52/
مسلم بن عبيد الله الشيعي
فلما أتم القراءة قَبَّلَ الكتاب ووضعه على رأسه ثم أعاده إلى اللفافة وخبأه في جيبه، فنهضت لمياء فأحس يعقوب أنها تريد الذهاب للتعرف بمسلم بن عبيد الله الشيعي فنهض ومشى بين يديها فقالت: «ألعل منزل الشريف بعيد من هنا؟» قال: «هو جارنا لا نحتاج في زيارته إلا إلى خطوات قليلة بعد خروجنا من هذا الزقاق.» فاغتنمت وجودها معه في الطريق وقالت: «لم أحادثك بشأن سالم بعد.» فقال: «لا حاجة إلى زيادة الإيضاح يا سيدتي كوني مطمئنة.» ولم يسيرا طويلا حتى وصلا إلى بيت مسلم المذكور فتقدم يعقوب فطرق الباب وخاطب البواب. فلما عرفه فتح له ورحب به. ودخلت لمياء معه ومشى في الحديقة أمامها حتى بلغ خبر قدومه إلى مسلم فناداه من الداخل «ادخل يا معلم.» فأسرع يعقوب إسراع المحتفي بمخاطبه وقال: «لست وحدي يا سيدي إن معي ضيفًا تُسر بمشاهدته.» فقال: «تفضل ومن معك.» وكانت لمياء قد صارت على مقربة من باب الغرفة التي فيها مسلم، فحالَما وقع بصره عليها تزحزح من مكانه كأنه يهم بالنهوض فأسرع يعقوب إليه وأقعده وهو يقول: «لا تقم يا سيدي.» فقال: «أهلًا وسهلًا بالقادم … من معك؟» قال: «رسول ابن عمك صاحب القيروان.» فقال: «من أمير المؤمنين المعز لدين الله؟» قال ذلك ووقف وهو يقول: «فلماذا منعتني عن الوقوف؟ إن كنت لا أقف لرسول صاحب الحق فلِمَن أقف؟» وترقرقت الدموع في عينيه فرحًا. فأكبت لمياء على يده فقبلتها وهي تقول: «العفو يا سيدي هذا إكرام لا أستحقه.» فقال: «بل يجب عليَّ الوقوف إكرامًا لابن عمنا صاحب القيروان. طالما تمنيت أن أحظى بهذه اللقيا … كيف فارقت أمير المؤمنين؟» وقعد وهو يُشير إليها بالجلوس فجلست متأدبةً وقالت: «فارقته في خير وسلامة … إن قلبي يطفح سرورًا بهذه المقابلة في هذا البلد السعيد.» وأشار مسلم إلى يعقوب فقعد وهو يقول: «وأزيدك علمًا يا سيدي أن هذا الرسول فتاة تتفانى في نصرة أمير المؤمنين. وقد كانت السبب في حفظ حياته من كيد الكائدين.» فقال: «وكيف ذلك يا يعقوب؟» قال: «ألا تذكر يا سيدي ما قصصته عليك عن المكيدة التي كادها بعض الخونة للفتك بابن عمك — حفظه الله؟» قال: «بلى وعلمت أنك بعثت رسولًا ينذره بذلك.» قال: «نعم ولكن الرسول قُتل قبل وصوله إلى القيروان فأُتيح لهذه الباسلة أن تتناول الرسالة وتوصلها إلى صاحبها. ولو تأخرتْ لحظة لنفذت حيلة أولئك الكائدين.» وقص عليه الخبر باختصار. فلما علم بما تكنه جوارح لمياء من الغيرة على الشيعة وعن غرضها من القدوم إلى مصر قال: «بارك الله فيك يا بنية … كيف فارقت أمير المؤمنين؟» فطمأنتْه عنه وأخبرته بما أوتيه من النصر وما ترجوه من تغلبه وفوزه. فأبرقت أَسِرَّتُهُ، وقال: «الحمد لله الذي نصر قومه ونتوسل إليه تعالى أن يتم فضله علينا وينقذنا من القوم الظالمين … ألم يعزم الإمام على القدوم إلينا؟» قالت: «إنه فاعل بإذن الله. وإنما جئت لاستطلع الأحوال وأرى حال الشيعة في هذه البلاد.» فتنهد تنهدًا عميقًا وقال: «إن شيعتنا في ضنك شديد. إن هؤلاء الظالمين يسومونهم مر العذاب من الإهانة والضرب والحبس بسبب وبلا سبب …» قالت: «قد تفطر قلبي لِما شاهدته من ذلك في هذا الصباح، وأنا قادمة إلى منزل المعلم يعقوب … رأيت شيخين جالسين بباب المسجد يصيحان «معاوية خالي.» يقولان ذلك بكل وقاحة.» فقال: «لم تري شيئًا بعد يا بنية … إن شيعتنا مغلوبون على أمرهم يذوقون العذاب ألوانًا من الحبس والقتل.» فقالت: «الحبس والقتل! ولماذا؟» قال: «بغير سبب … إنهم يسومون شيعتنا ذلك؛ لأنها تجل أبناء الرسول … لو قصصت عليك بعض الخبر لبكيت على حالنا.» قالت: «أحب أن أعرف شيئًا أنقله إلى مولاي أمير المؤمنين؛ لعله يعجل خطواته في إنقاذهم.» قال: «أذكر لك مثالا صغيرًا من مظالمهم. كان في الفسطاط منذ سنوات رجل من الشيعة اسمه ابن أبي الليث الملطي بلغ خبره إلى صاحب مصر، فبعث في طلبه، فحملوه إليه فأمر بضربه، فضربوه مائتي سوط ووضعوا في عنقه غلًّا ثقيلًا وحبسوه وجعلوا يبصقون في وجهه وهو في السجن حتى مات — رحمه الله.» قال ذلك وغص بريقه فلم تتمالك لمياء عن البكاء.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/53/
الحيرة
كانت لمياء تسمع ذلك القول وبدنها يقشعر وعيناها تذرفان الدموع ومسلم يغص بريقه من فرط التأثر ويعقوب يُظهر التألم مما يسمعه، ثم تصدت للكلام وقد أبرقت عيناها من التفكير وقالت: «لا تحزن يا سيدي قد دنا الوقت لإنقاذ هذه الشيعة المظلومة … إن الله مع الصابرين.» فتنهد الشريف مسلم وقال: «لقد طال صبرُنا يا بنية ولا نظننا نصل إلى ثماره — كأنه قد كُتب علينا الاضطهادُ وكتب على الخلافة أن تبقى في غير أهلها لحكمة لا نفهمها!» فقالت لمياء: «أليست الخلافة الآن في بيت الرسول بالقيروان، إنها ستبقى فيهم مدى الزمان … قد كتب لهم النصر ولا يمضي كثيرٌ حتى ترى أعلامَهم تخفق على سائر البلدان — بإذن الله.» وكانت لمياءُ تتكلم ومُحَيَّاها يشرق سرورًا كأنها تقول ما تقوله عن ثقة. فأعجب الشريف بما بدا من حماستها، وقال: «إن وجود مثلك بين أنصارنا يبشرني بفوز عظيم.» قالت: أنا مسكينة حقيرة، إنما الأنصار هم القواد والأمراء، وفيهم جوهر الصقلي الذي دوخ المغرب بسيف العبيديين … إن ذلك الفتح سيكون على يده وأيدي الأمراء من كتامة وصنهاجة وغيرهم من البربر الذين باعوا أنفسهم في سبيل الحق، ثم اعترضت مجاري أفكارها صورة أبي حامد وسالم وما كان من كيدهما حتى قتل أبوها فانقبضت نفسها وسكتت وهي مطرقة تفكر في سالم وأنها تحب أن تطلع على حقيقة حاله وتود أن تسمع خيانته بأذنها وعلمت أنه لا يُستحسن ذكره بين يدي الشريف فرأتْ أن تستأذن في الانصراف حتى تخلو بيعقوب وتطلب منه ذلك، فتزحزحت وأظهرت أنها تحب الذهاب فاستوقفها الشريف قائلًا: «إلى أين يا ابنتي؟ إنك ستقيمين عندنا بين أهلنا على الرحب والسعة.» فقطعت كلامه قائلة: «كان يجدر بي ذلك، وهو حظ كبير لي ولكنني — لأسباب قهرية — لا أقدر على الإقامة هنا. وأتوسل إليك بجدك سبط الرسول أن تكتم أمري عن كل إنسان حتى عن أهلك فهل تعدني بذلك؟» قال: «نعم كوني مطمئنة. والآن أين ستذهبين؟» قالت: «إني سائرة مع المعلم يعقوب، وسأذهب إلى الخان أو غيره كما يتفق ولا غنًى عنك في كل حال، فإذا بدت لنا حاجة أسرعنا إليك. فادعُ لنا الآن.» فقال: «بحراسة المولى … ومهما يخطر لك من أمر فإنك تجدينني ملبيًا مطيعًا، ولا حاجة بي أن أوصيك بالتكتم؛ لأني رأيت من حزمك وتعقلك ما يضمن ذلك.» ثم قبلت لمياء يده وخرجت، وخرج أيضًا يعقوب. ولما صارا خارجًا قال يعقوب: «إلى أين يا لمياء الآن؟» قالت: «قد استأنست بك يا سيدي ولعل السبب في ذلك أنك مطلع على بعض أمري من قبل أن نتقابل» وتنهدت وسكتت.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/54/
يعقوب وكافور
فلحظ يعقوبُ أنها تعني خبرها مع سالم وكان يعقوب قد أخلص النية للمياء؛ لأنها وقعتْ من نفسه موقعًا عظيمًا وأعجِب بما رآه من صدق غيرتها ومروءتها وهو شريكها في غرضها السياسي؛ أي أنه يرى إبدال الدولة الإخشيدية بالفاطمية ليس حبًّا بالشيعة أو انتصارًا للحق لكنه كان ذا مقام عند كافور وكان يتوقع انقلاب الأحوال ولا سيما بعد مرض كافور، وقد أسر إليه الطبيب أن كافورًا سيموت قريبًا، وهو يعلم تغير قلوب الإخشيدية واضطراب أحوالهم، فرأى أن يصادق الفاطميين فيمسك الحبل من الطرفين. ونظرًا لثروته ووجاهته كان يخاف مطامع الإخشيديين وهو يرى قُرب زوال دولتهم من ضعفهم. فلم ير بأسًا أن يكون وسيلةً لنقل هذا الوادي إلى دولة جديدة فتية فإذا جرى ذلك على يده أتته المنافع من وجوه كثيرة. وعدوه اللدود في ذلك الحين ابن الفرات الوزير، وكان يعقوب يخافه، على الخصوص إذا مات كافور؛ لأنه كان يحسده على منزلته عند كافور وينافسه على النفوذ. أما كافور وهو أمير مصر فكان يقرب يعقوب ويكرمه وقد جعله موضع ثقته. فلما أشارت لمياء إلى أمر سالم ورغبتها في استطلاع حقيقته رأى أن يسهل عليها ذلك وأن يُطلعها على الأحوال من حيث السياسة وأحزابها فقال: «أظنك تعنين أمر ذلك الخائن.» وعلمت أنه يعني سالمًا فأجفلت ولم تطق أن تسمع تلقيبه بهذا اللقب مع أنها حكمت عليه بالخيانة من تلقاء نفسها، لكن ما رسخ في قلبها من حبه لا يزال له صدًى في خاطرها ريثما تتحقق الأمر فقالت: «اسمح لي يا سيدي أن أعترض على ما ذكرته عن سالم؛ فإنه يشق علي أن أسمعه وإن كان صحيحًا. وزد على ذلك أني لم أتحققه بعد.» فقال: «أما أنا فقد تحققته كما ذكرت في كتابي إلى المعز لدين الله.» قالت: «أليس من سبيل إلى تحقيق ذلك بنفسي؟» وكانا قد خرجا من الزقاق واقتربا من منزله وسمعا المؤذن في جامع عمرو يؤذن صلاة الظهر. فقال يعقوب: «هذا وقت الغداء فلندخل إلى منزلنا نتغدى ثم ننظر في هذا الأمر.» دخل منزله وهي في أثره فأمر غلامه أن يهيئ المائدة في المندرة ولم يحضر معها أحد من أهل يعقوب — ذلك ما أرادته لمياء — وبعد الغداء جلسا وكلٌّ منهما يفكر في أمره ويعقوب يدبر وسيلة لإجابة طلبها. وهما في ذلك طرق الباب وأتى الخادم يقول: «الطبيب شالوم بالباب.» فلما سمع اسمه أبرقت أسرته كأنه كان في ضيق وأفرج عنه وقال للخادم: «أدخله إلى ردهة الاستقبال ريثما آتي.» وبعد خروج الخادم قال يعقوب للمياء: «تعبت وأنا أفكر في إجابة طلبك بحيث أريك خيانة ذلك الرجل فأتى هذا الطبيب ففتح باب الفرج.» قالت: «من هو؟» قال: «هو طبيب الأمير كافور يتردد عليه كثيرًا، ولا سيما في هذه الأيام بسبب انحراف صحته. ولكافور ثقةٌ في علمه وطبه وكانا صديقين قبل أن صار هذا العبد أميرًا.» قالت: «أي عبد تعني؟» قال: «أعني كافورًا، ألا تعلمين أنه عبد! فلا بد إذن من أن أقص عليك خبره ليتيسر لك تفهم أحواله. اعلمي يا بنية أن كافورًا هذا كان في شبابه عبدًا لبعض أهل مصر ثم اشتراه محمد بن طغج الإخشيد مؤسس هذه الدولة هنا منذ بضع وأربعين سنة، فخدم عنده وترقَّى في خدمته حتى صار أتابك ولديه؛ أي مربيًا لهما. وصار يعرف بالأستاذ كافور. وتمكنت قدمُ الإخشيد بمصر وصار أميرًا مستقلًّا تحت رعاية الدولة العباسية كما هي حالنا الآن وتقدم كافور معه. وتوفي محمد الإخشيد سنة ٣٣٤ﻫ فخلفه ابنه الأكبر أنوجور ومعناه بالعربي (محمود) فزاد نفوذ كافور في الدولة؛ لأنه كان مربيًا لأنوجور فصار وزيرًا له فقام بتدبير دولته أحسن قيام. ولما توفي أنوجور سنة ٣٤٩ تولى بعده أخوه علي بن الإخشيد فاستمر كافور على وزارته أو نيابته حتى توفي منذ سنتين (٣٥٥) فلم ير بين الإخشيديين من يليق بالحكم.» ثم خفض صوته وقال: ولعله طمع بالاستقلال، فاحتال في إظهار خلعة قال إنها جاءتْه من العراق، وهي شارة الولاية عندهم يرسلها الخليفة العباسي لكل والٍ جديد فيلبسها باحتفال شائق. وزعم أنه لقب بأبي المسك فاستبد بأُمُور الدولة واستوزر رجلًا شديدًا اسمه أبو الفضل جعفر بن الفرات هو وزيره الآن، ولولا ابن الفرات هذا لكان كافور من أحسن الأمراء. فأعجبها ما سمعته عن أصل هذه الدولة ومن هو كافور، لكنها ما زالت تحب أن تستزيد من خبره فقالت: «قلت إن كافورًا كان عبدًا. وهل تعني أنه كان أسود اللون، أو هو مملوكٌ أبيضُ؟» فقال: «هو أسود اللون شديد السواد بصاصًا، لكن سواده لم يمنع من خُضُوع القوم له وإن لم يخضعوا له جميعًا … قد طال بنا الكلام والطبيب شالوم في انتظارنا. لكن لا بأس من إتمام الحديث باختصار إذ ربما لا نقدر على ذلك في حضوره …» قال ذلك ونهض فنهضت لمياء معه فأتم حديثه وهما واقفان فقال: «اعلمي يا لمياء أن أمراء هذه المملكة وجُندها الآن قسمان قسم مع كافور ينصرونه ويأخذون بيده ويقال لهم الكافورية، وقسم مع آل الإخشيد يعدون كافورًا مختلسًا ويُقال لهم الإخشيدية وهم كثيرون. والنقطة الهامة اليوم أن كافورًا مريض ولا ندري هل مرضه خطر أم لا. فإذا انتهى هذا المرض بالموت فإن أحوال مصر تضطرب وتتضعضع؛ إذ ليس مَن يتولى الإمارة من أصحاب الحق بعده إلا غلام لا يتجاوز عمره ١١ سنة. وسنعرف حال كافور أو صحته من الطبيب شالوم، هيا بنا إليه.» قال ذلك ومشى فمشت لمياء معه وهي تتأمل في ما سمعته عن اضطراب أحوال هذه الدولة وقد استبشرتْ بنجاح مهمتها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/55/
الطبيب شالوم
وأطلَّا على الطبيب شالوم في ردهة الاستقبال فتقدم يعقوب مسرعًا نحوه ولمياء وراءه تمشي الهوينى لتبقى بعيدة ريثما يدعوها. لكنها جعلت تتفرس بالطبيب عن بُعد فإذا هو كهلٌ والذكاء يتدفق من عينيه، وعليه زِيُّ الأطباء في ذلك العصر وألبستُهُ ثمينةٌ لتقربه من أمير البلاد وحظوته عنده وحول خصره مِنطقة مذهبة فيها دواة من عاج وقد التحف رداء كالعباءة من حرير عنابي اللون. وعلى رأسه كساء كالقبعة أو الطاقية عليها طرازٌ مزركشٌ وقد أرسل لحيته وسالفيه بلا هِندام كما كان يفعل كبراء اليهود. وكان شالوم جالسًا على وسادة في صدر القاعة وفى يده كتابٌ يطالع فيه باهتمام. فلما سمع خطوات يعقوب نهض وحياه وابتسم له والاهتمام بادٍ في عينيه فدعاه يعقوب للجلوس وهو يقول: «ما لي أرى حبيبنا شالوم في شاغل؟ ما هذا الكتاب؟» وقبل أن يجيبه لمح لمياء بلباس الغلمان في الحديقة واقفة تتلاهى بقطف زهر وهو يعرف غلمان يعقوب فاستغربها. وأدرك يعقوب استغرابه فابتدره قائلًا: «هذا غلام صقلبي جاءني برسالة في هذا الصباح.» قال: «من أين؟ يظهر لي من زيه أنه من بلاد المغرب. فهل أتاك برسالة من صاحبك المعز؟» فعض يعقوب على شفته السفلى إشارة التكتم وقال: «صاحبي! وهل تعتقد ذلك في؟ وأنا في خدمة الأمير كافور … ما لنا ولهذا … قل لي، رأيتك تقرأ في هذا الكتاب باهتمام … اقعد … قل ما هو سبب اهتمامك؟ كيف صحة مولانا؟» فقعد وقعد يعقوب بين يديه، فقال الطبيب «إن صحة الأمير في خطر وقد أعيتْني الحيل في تطبيبه. وهذا كتاب جاءني أمسِ ألفه طبيب من أشهر أطباء العراق …» فقطع يعقوب كلامه قائلًا: «أظنك تعني الرازي، فهل هذا كتابه الحاوي؟» قال: «هو جزء منه يتعلق بالعلة التي يشكو الأمير منها.» قال: «هل وجدت شيئًا جديدًا.» فأومأ برأسه نحو الأعلى أن «لا.» فقال يعقوب: «فأنت إذن يئس من شفاء الأمير؟» قال: «تقريبًا.» فأطرق يعقوب وبان الانقباضُ في جبينه، وعرف الطبيب سبب انقباضه فقال له: «أنت الآن تنظر في ما سيئول إليه أمرُك إذا مات هذا الرجل … كم قلت لك أن تساير الوزير ابن الفرات وتداجيه فإنه شديد الوطأة حسود وله مطمع لا يخفى عليك.» فتنهد وقال: «إنه لا يداجَى … ولا فائدة من مداجاته؛ لأن الحسد يعمي ويصم.» وأطرق وهو يعمل فكرته ثم قال: «لا أُبالي به … إن الأمر لا يطول في يده بل أنا لا أرى مصر يطول أمرها في قبضة هذه الدولة و…» وتوقف عن الكلام بغتة. وكان يعقوب يسمع كلامه ويعتقد صحة كل كلمة منه ويعلم أن ميله إلى الفاطميين لم يَخْفَ على صديقه الطبيب. وهو لم يفعل ذلك ليغدر بمولاه كافور ولكنه توسم قُرب سقوط هذه الدولة ويعلم أن ابن الفرات يكرهه حسدًا منه لتقدمه وأنه حالَما يموت كافورٌ يصبح هو في خطر على ماله وحياته؛ لذلك أحب أن يصل حبله بحبل الفاطميين مع البقاء على ولاء كافور لكنه كان يشق عليه أن يصرح بذلك بين يدي أحد. فلما سمع تصريحَ الطبيب شالوم هان عليه الدخولُ في الموضوع فقال: «أراك يا صاحبي سيئ الظن في هذا الرجل كثيرًا.» قال: «كلا، أنا لا أسيء الظن به خاصة، لكنني لا أرى شيئًا يجمعني به غير المصلحة وأرى أسباب التفريق كثيرة؛ فنحن الآن لا ينبغي لنا أن نخون هذا الأمير أو نقصر في خدمته لكنني أخاف على حياتنا بعده … أليس كذلك يا معلم؟ قُلْ، لا تَخَفْ إني أسر إليك أشياء كثيرة ومع ذلك لا يهمني صرحت أم لم تصرح؛ فأنت صديق المعز لدين الله الفاطمي وهذا الغلام رسولُهُ إليك في شأن يتعلق بالدولة. اصدقني؛ لعلي أستطيع خدمتك.» فلم ير يعقوب بُدًّا من الكلام وهو يثق بصديقه فقال: «انظر يا صاحبي شالوم. لا تظن توقفي عن التصريح لك من ضعف ثقتي بك؛ فأنت تعلم ما بيننا من الأسرار القديمة والحديثة. ولكني مضطرب الرأي في الأمر. إن هذا الغلام رسول من المعز. نعم. ولكن كن على يقين أني لم أصاحب المعز لأخون كافورًا؛ فإني خادمُهُ، مقيمٌ على ولائه ما دام حيًّا. أما إذا مات فإني أخاف خلفاءه، كبيرهم وصغيرهم، بل أخافهم على مصر وأهلها؛ إنهم لا يصلحون للحكومة لِما تعلمه من انقسامهم واضطراب أحوالهم، فلا بد من خروج هذه البلاد من أيديهم … وإذا لم يكن بد من خروجها فمن تراه أَولى بها؟ إن القوم في بغداد مشغولون بأنفسهم، إن بغداد مسقط رأسي وأحبها كثيرًا لكنني أراها بعيدة عن مصلحة مصر، وهؤلاء الفاطميون دولةٌ جديدةٌ رشيدةٌ، كثيرًا ما سمعت عن تعقُّل خلفائها وعدلهم. فإذا تَوَلَّوْها كان ذلك من أسباب سعادتها …» ثم تدارك ما قاله بلهفة قائلًا: «أما إذا اتفق الإخشيديون وولَّوْا مَن يصلح للولاية ولم يؤذونا بأموالنا وأرواحنا فمن ضعف الرأي أن نستبدلهم بسواهم … ألا توافقني على ذلك؟» فأبرقت أسرة الطبيب شالوم من سماع ذلك الكلام؛ لأنه لسان حاله تمامًا، فابتسم وقال: «بارك الله فيك يا معلم لقد نطقت بلساني وعبرت عن جناني. نحن متفقان و…» فقطع كلامه قائلًا: «لم أشاهد الأمير كافورًا منذ أمس؛ لأني شغلت عن الذهاب إليه بسببٍ سأقصه عليك … كيف هو اليوم … كيف حاله؟» قال وهو يرفع حاجبيه «إنه ليس على ما يرام … كانت الحمى عليه شديدة في هذا الصباح، وكنت أتوقع هبوطها فلم تهبط رغم ما اتخذتُهُ من الوسائل المرطبة. ولَمَّا أعيتني الحيلة رجعت إلى كتاب الرازي وأخذت أُطالع فيه. وخطر لي ما نتوقعه من تبدُّل الأحوال فرأيت أن آتي إليك فحملت الكتاب معي ولم أكلف غلامي حمله في جملة ما يحملُهُ من الأدوات والعقاقير.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/56/
غلام الطبيب
فلما ذكر الطبيب غلامه انتبه يعقوبُ لأمرٍ يتعلق بلمياء فالتفت نحوها فرآها تتمشى في الحديقة كأنها تتشاغل بمشاهدة الرياحين والمياه المدبرة في الأقنية وبينها الحصى مرصوصة صفوفًا وهناك طوائفُ من الطيور الأهلية بألوانها الزاهية بين سارحٍ وحبيسٍ، ولا نظن لمياء كانت ترى ما بين يديها كما يراه المتفرج؛ لاشتغال خاطرها بسالم والطريقة المؤدية إلى مشاهدته. ثم التفت يعقوبُ إلى الطبيب وقال له: «لقد أذكرتني أمرًا أتوسل إليك في قضائه. أترى هذا الغلام؟» قال: «نعم أراه، أليس هذا الرسول الذي نتكلم عنه؟» قال: «بلى. وأحب أن أكلفك أمرًا يتعلق به هل تقضيه؟» قال: «حبًّا وكرامة. ما هو؟» فقال يعقوب: «أتعرف ذلك البربري الذي يتردد على مجلس الأمير؟» قال: «أظنك تعني الرجل الغريب الأطوار ذي العينين البراقتين الغائرتين والأنف الأعقف والشاربين المسترسلين …» قال: «نعم أعنيه وأعني شابًّا يرافقُهُ في أكثر الأحايين …» قال: «هو ابنه أو ابن أخيه سالم — على ما أظن — نعم أعرفهما، وإنهما يترددان على الأمير كثيرًا كما تعلم، وأنا أستغرب أمرهما ولا أعلم لهما محلًّا سوى …» فقطع يعقوبُ كلامه قائلًا: «أنا أعلم أنهما يحرضان أميرنا على فتح القيروان …» فدهش الطبيب، وقال: «أين نحن والقيروان! أَلَا يكفينا ما يشغلنا من أنفسنا، ما الذي تريده مني؟» قال: «إن هذا الغلام يُريد أن يحضر مجلس كافور ويسمع ما يدور فيه خصوصًا عند وجود سالم وعمه … ولكيلا أخفي عنك شيئًا أخبرك أن هذا الرسول ليس غلامًا، وإنما هو فتاة بلباس الغلمان، احفظ ذلك سرًّا، ولها شأن خاص مع سالم هذا. وقد بلغها عنه أقوال قالها لكافور لم تصدقها فأحبتْ أن تسمعها بأذنيها. فالذي أراه أن تأخذها معك بدل غلامك الذي يحمل لك الأدوات والعقاقير وتجتهد بأن تُدخلها معك دار الأمير؛ لتكون بمشهد ومسمع.» فاستغرب شالوم كونها فتاة وقال: «لابد لهذه الفتاة من حديثٍ هام، وقد تاقتْ نفسي لرؤيتها، ادعُها وقدمها لي وأَوْصِها أن تضع ثقتها بي، ثم أَخْبِرْها ماذا ينبغي أن تعمل ليتم لها ما تريده.» فحول يعقوبُ بصره نحوها، فانتبهت لمياء، فأشار إليها بالقُدُوم إليه، فأسرعت وقد توردت وجنتاها فظهرت الأنوثة فيها. ولكن القوة كانت بادية في وجهها وسائر حركاتها فأعجب الطبيب بهيبتها وجمالها وبريق عينيها. فلما دخلت قال يعقوب: «هذا الطبيب شالوم طبيب مولانا الأمير كافور، وهو صديقٌ حميمٌ أَثِقُ به كثيرًا، وقد أطلعتُهُ على قصدك واتفقنا على طريقة تحضرين بها مجلس كافور وتُشاهدين كل ما تريدينه هناك …» وضحك. فأدركت من مخاطبته إياها بصيغة التأنيث أن الطبيب مطلعٌ على حقيقة أمرها، فبانت البغتة في عينيها وأطرقت. فابتدرها يعقوب قائلًا: «لا تخجلي يا بنية من اطلاع الطبيب على حقيقتك؛ فإنه على رأيي من كل وجه. والمطلوب الآن أن تكوني هنا بعد قليل وسيأتيك بالثياب اللازمة تتنكرين بها فلا يظن من يراك إلا أنك غلامُ الطبيب شالوم وتمكثين هنا حتى يأتي هو فتذهبين معه في أصيل هذا اليوم وأكون أنا قد سبقتُكما إلى هناك. ولا بد لي من الذهاب حالًا؛ لأني أطلتُ الغياب عن المجلس، وإنما شغلني عنه القيام بأمرك، فامكثي هنا ريثما تأتي الثياب وتلبسينها وسأوصي قيمة المنزل بك خيرًا، وكل ما تطلبينه يقضَى.» فلم يسعها إلا السكوت وقد شغل خاطرها بهذه المهمة بما فيه من التجسس، وهو يخالف ما فُطرت عليه من استقلال الفكر وحرية القول. ولكنها تحملت ذلك في سبيل كشف حقيقةِ ذلك الرجل الذي خانها في عواطفها. ثم نهض الطبيبُ وودعهما وانصرف على أن يبعث بالثوب والأدوات والعقاقير، وودعها يعقوبُ بعد أن لبس الثوب الذي يلقَى به الأمير ومضى إليه. وبعد قليل أتت تلك الأشياء فلبست لمياء ثوب غلام الطبيب — كما كانت العادة يومئذٍ — وعلقت جرابًا من الديباج بعنقها وفيه أدواتُ الجراحة وبعض العقاقير الضرورية، فأصبح مَن يراها لا يشك أنها غلامُ الطبيب شالوم. فمكثت بانتظاره وكانت الشمس قد مالت نحو الأصيل، وكافور في سرادقه بالبستان الكافوري — كما تقدم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/57/
سرادق كافور
ثم جاء الطبيبُ على بغلته وأومأ إلى لمياء أن تتبعه على بغلة ساقها إليها، فركبت وعلقت الجراب في عنقها. ولم يمض كثيرٌ حتى أشرفا على البستان الإخشيدي وفيه السرادقات والأعلام وقد وقف الحُجَّاب ببابه والجند حول السرادقات بين ماش وواقف. ولم يدن الطبيب من باب البستان حتى تصدى له كبيرُ الحجاب بلهفة، وقال: «إن الأمير في انتظارك على أحر من الجمر.» فقال: «كيف هو الآن؟» فهز الحاجب كتفيه وقال: «يقولون إنه أحسن.» فارتاب الطبيبُ بهذه الإشارة لكنه ترجل، وأشار إلى غلامه (لمياء) أن تترجل وتتبعه ففعلت ومشت وهي تراقب كل شيء. فرأت الوجوه متغيرة والقوم هناك يجتمعون ويتفرقون زرافاتٍ كأنهم يتساءلون عما سيكون إذا مات كافور. فمرت بين السرادقات في طريق مستقيم يؤدي إلى سُرادق كبير مبطن بالحرير الأحمر وقد أرخيت عليه الأستار المزركشة ونصب العلم في قمته. ووقف ببابه حاجبان بلباسٍ خاص وفي يد كُلٍّ منهما رمح قناتُهُ مكسوة بالديباج. فلما دنا الطبيبُ من باب السرادق وسع له الحاجبان بدون استئذان؛ لأنهما يعلمان شدة حاجة الأمير إليه فدخل وأشار إلى غلامه (لمياء) أن تدخل معه فلما دخلت كان أول شيء استلفت انتباهها سعة ذلك السرادق (الصيوان) واحمرار باطنه وقد فرشت أرضه بالبسط الجميلة وأقيمت في جوانبه منائرُ من الفضة قد غرست فيها الشموع ومواقف عليها المباخر يتصاعد البخور من بعضها. وقد علقت على أعمدته الأسلحة من السيوف والأتراس والحراب والأقواس. وفى وسط السرادق دكة فوقها قبةٌ قائمةٌ على أربعة أعمدة كالمظلة، وقد استرسلت الستائر مِن جوانبها الثلاثة وترك صدرها مكشوفًا ليظهر سرير الأمير للداخل من باب السرادق. والسرير مصنوعٌ من الأبنوس المنزل بالعاج مكسو بالفرش الوثير وأصله من أسرة بني طولون. وكان كافور متوسدًا على ذلك السرير، ولكن لمياء لم تره؛ لأنه كان غارقًا في الفراش المصنوع من ريش النعام. ورأت إلى جانبَي القبة جماعةً واقفين باحترامٍ واهتمام علمت أنهم خاصتُهُ وأحباؤُهُ غير الغلمان والأعوان. فأجالتْ نظرها فيهم؛ لعلها تجد سالمًا بينهم فلم تجدْه وأدركت اهتمامَ القوم مِنْ وقوفهم على الأقدام مع وُجُود المقاعد والأرائك والوسائد لجلوسهم. أما الطبيب فظَلَّ ماشيًا نحو السرير وقبل أن يدنو منه برز له من جانب القبة رجلٌ عرفت لمياء أنه يعقوب بن كلس وقد لبس ثوبًا يليق بذلك الموقف. وتقدم يعقوب لملاقاة الطبيب بلهفة كأنه لم يره من قبل وقال له: «لقد أبطأت علينا أيها الطبيب.» فقال: «فارقت مولانا الأمير وأنا أرجو تقدمه نحو الصحة، فهل طرأ عليه طارئ؟» فأجاب يعقوب: «لا بأس عليه إنه اليوم أحسن من ذي قبل …» قال ذلك بصوتٍ عالٍ؛ ليسمعه كافور على عادتهم في طمأنة المريض وتخفيف جزعه. لكنه أشار إليه همسًا أَنَّ الحال تدعو إلى القلق. فتقدم شالوم حتى دنا من السرير وأشار إلى غلامه أن يتبعه ليكون قريبًا منه في حين الحاجة إلى عقار. فدنت لمياء من ذلك السرير المغشى بالأغطية المزركشة بالألوان الزاهية تكسوه كله إلا بقعة صغيرة عند الرأس سوداء مظلمة هي وجه كافور قد أُزيح عنه الغطاء؛ لأنه كان شديد السواد بصاصًا جلده يلمع لكن شدة الضعف أذهبتْ لمعانه حتى تكاد ترى الاصفرار يخالط ذلك السواد، وكان قد أقفل عينيه كأنه نائمٌ وقد برز فَكَّاه من الضعف فافترقتْ شفتاه وبرزت أسنانُهُ البيضاء من بينهما. فلما أحس كافور باقتراب الطبيب منه فتح عينيه وأجال بصره حتى وقع نظره على الطبيب فبان الاهتمام في تينك العينين الحمراوين. وكأنه أراد أن يبتسم فلم يزددْ منظره إلا تكشيرًا فأسرع الطبيب إلى يده فاستخرجها من تحت الغطاء باحترام وجس نبضها وهو يظهر الانبساط من حال النبض. والتفت إلى كافور وقال: «إن مولاي أحسن حالًا من أمس — بحمد الله.» والتفت إلى أحد الغلمان الوقوف في خدمة كافور وقال: «أين قارورة الماء؟» يعني زجاجة البول. فأتوه بزجاجة فيها السائل فتأمله وتفحصه، ثم عاد نحو السرير وهو يبتسم ويُظهر الانبساط وقال: «كيف ترى نفسك يا سيدي؟» فقال: «إني أشعر بضعف ودوار.» قال: «هذا أمر بسيط … إليَّ يا غلام»، وأشار إلى لمياء. فتقدمت وفتحت الجراب فاستخرج الطبيب منه قارورةً صغيرةً فتحها وأدناها من أنف كافور. فاستنشقها فأحس براحة وانتعاش، وبان ذلك في عينيه وجبينه، فتحرك في فراشه كأنه يُريد الجلوس فأعانه الطبيب على ذلك وساعدهما يعقوب، وأسنداه بوسادة من الوراء. فجلس وتناول مذبة كانت بجانبه ليتلاهى بها ويطرد الذباب عنه — وهو كثير في تلك الساعة — ولم يشأْ أن يتولى ذلك عنه أحد. فتقدم يعقوب وهو يبدي الاهتمام وقال: «إن الذباب كثيرٌ في هذه الساعة وسيدي الأمير منحرفُ المزاج ألا تأذن لي أن آخذ المذبة (النشاشة) عنك أو تأمر أن يقوم هذا الغلام باستخدامها؟» وأشار إلى لمياء. والتفت نحو الطبيب كأنه يستشيرُهُ بهذا الاقتراح. فتقدم الطبيب وقال: «إن الأمير في حاجة إلى الراحة.» ومد يده وتناول المذبة من يده ودفعها إلى لمياء وأشار إليها أن تقف وراء السرير تطرد الذباب عن وجه كافور بدون أن تزعجه. فأطاعتْ وقد وافقها ذلك؛ إذ تكون قريبة منهم. وأدار كافورُ عينيه في جوانب السرادق كأنهما سراجان موقدان. ثم نظر إلى شالوم وقال: «بارك الله فيك أيها الطبيب إني أشعر بانبساط الآن.» فقال الطبيب «وستشعر بأحسن من ذلك بعد قليل …» ومد يده إلى الجراب فاستخرج منه قارورة فيها سائلٌ صب منه قليلًا في قدح ودفع القدح إلى كافور فشربه فازداد انتعاشًا والتفت إلى يعقوب وقال: «إننا لا ننسى فضل طبيبنا هذا — بارك الله فيه — إنه صديق محب.» فقال يعقوب: «كلنا عبيدُ مولانا نفديه بأرواحنا، فالحمد لله على سلامته، ولا أرانا الله مكروهًا به.» قال: «لله أنت يا يعقوب! إنك موضع ثقتنا، وسوف نكافئك على مودتك وصدق خدمتك …» فقال: «إنما نطلب أن يتعافى الأمير وهذا خير مكافأة.» فقال الطبيب «إن حال مولانا — بحمد الله — حسنة جدًّا، ولا يلبث أن يخرج على جواده في البساتين أو يركب حراقته يصعد فيها على النيل.» فهز كافور رأسه وقال: «إن شاء الله … إن شاء الله.» وفى غنة صوته أنه غيرُ مصدق. ثم بدا الاهتمام في وجهه وأشار إلى الوقوف بالخروج ولم يبق إلا الطبيب ويعقوب ولمياء واقفة عند رأسه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/58/
أبو حامد وسالم
فلما خلا بهم المكان التفت كافور إلى يعقوب، وقال: «إن الطبيب — حفظه الله — طمأنني وخفف عني وقد صدقته لكنني ضعيف وأخاف …» واختنق صوته. فابتدره الطبيب قائلًا: «لا ينبغي لمولانا أن يشك في قولي ولا أن يفكر في أمر يسوءه، ولا أعول في ما أقوله على فعل العقاقير ولكني استبشرت أيضًا من دلالة النجوم؛ فقد تفقدت الطالع في مساء أمس فوافق ما أتوقعه. أنت يا مولاي في صحة، والتوفيق خادم لك.» قال: «ذلك الذي أريده، ولكن كيف أطمئن لحالي وأنا أرى ما أراه من الضعف؟» ثم وجه كلامه إلى يعقوب، وقال: «بل كيف يرتاح خاطري وأنا أرى أحوال هذه الدولة … أنت تعلم يا يعقوب ما في قلبي، وأحب أن أُشرك طبيبنا في الأمر لوثوقي به، وقد سلمت إليه روحي أفلا أبوح له بسري؟ أنا لا أثق بأحد من هؤلاء الذين ترونهم حولي؛ إنهم لا يلبثون إذا لفظت نفَسي الأخير أن ينقلبوا علي، لا يهمني ذلك، ولكني أخاف على هذه الدولة، إذا مت أنا فإن الإمارة تفضي إلى غلام في الحادية عشرة من عمره وهو صاحب الحق فيها. أو يتنازعها أعمامُهُ والقواد فتفسد الأُمُور و…» وتنحنح وكأنه ندم على ما قاله، فعاد وقال: «ولكن لا … إني سأعيش ريثما أدبر شئونها … أليس كذلك أيها الطبيب؟» فأسرع إلى الجواب بلهفة قال: «بلى يا سيدي هذا هو اعتقادي.» فتزحزح كافور في فراشه فنهض الطبيب وقال: «يحب مولاي أن ينام؟» قال: «لا … لا أرى فيَّ ميلًا إلى الرقاد لكني أحببت أن أغير وضعي … هل رأيت وزيرنا أبا الفضل (ابن الفرات) اليوم يا يعقوب؟» قال: «كلا يا سيدي لم أره … هل تأمر بشيء أبلغه إياه؟ أم تحب أن ندعوه إليك إلى هنا؟ أم ماذا؟» قال: «لا … لكنني استبطأته، ولعله لم يشأْ أن يأتيني؛ لئلا يشغل ذهني بأمور الدولة ففضل لي الراحة … لا بأس من ذلك.» وهَمَّ يعقوب أن يجيبه فرأى الحاجب دخل ووقف في المكان الذي يقف فيه إذا كان آتيًا بخبر، فقال له كافور «ما وراءك؟» قال: «إن أبا حامد بالباب يا سيدي.» فلما سمعت لمياء اسمه أجفلتْ وتسارعتْ دقاتُ قلبها حتى كاد ذلك يظهر عليها، ولحظ يعقوب اضطرابَها فأومأ إليها تتجلد. ولم يكن أسرع منها إلى التجلُّد؛ لِما فطرت عليه من قوة النفس ورباطه الجأش. فانزوتْ وراء عمود القبة والمذبة بيدها بحيث لا يظهر وجهها ولا ينتبه لها أحد. وكان كافور يستأنس بالطبيب لِما في كلامه من الذكاء وما يبسطه بين يديه من الآمال فقال له: «هل نُدخل هذا الرجل علينا الآن … هل ترى بأسًا من ذلك؟ إنه طلي الحديث حاد الذهن ولا يختار من الأحاديث إلا ما يسرنا، وكلما زدناه اهتمامًا بسماع حديثه زادنا مغالاةً في غرائبه، لا بأس به … إنه لطيف المعشر.» فقال الطبيب «إنك يا مولاي في حاجة إلى من يؤانسك بالأحاديث اللذيذة المفرحة فإذا كنت تجد في حديثه شيئًا من ذلك فادعُه …» ونظر كافور إلى يعقوب كأنه يستشيرُهُ فقال: «إذا شاء مولاي أن يدخله فليشترطْ عليه أن يقص علينا نحو ما قصه مرة من الأخبار المفرحة.» قال: «لكنه قصها علينا سرًّا …» فتصدى الطبيب للكلام قائلًا: «أما أنا فإذا كان وجودي مانعًا مِن سماع الأخبار المفرحة فإني منصرف»، وتحفز للانصراف. فأشار إليه كافور بكلتا يديه أن يبقى، وقال: «إذا استغنيتُ عن رجال الدولة جميعًا لا أستغني عنك. ولا أرى بعد ما رأيته من صدق مودتك وعظيم فضلك أن أخفي عنك سرًّا كهذا. فليدخلِ الرجل ويقص ما يقصه وأنت حاضر ولنفرحْ معًا إذا كان فيه ما يفرح»، وأشار إلى الغلام أن يدخله. فقال الغلام «أدخلْه وحده، أو مع رفيقه؟» قال: «ليدخل الاثنان.» فأدركت لمياء أن رفيقه إنما هو سالم بعينه فأخذت تتجلد. وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب وأخذ الفراشون بإنارة الشموع فأصبحتْ لمياء في موقفها تخفيها ظلالُ الستائر بحيث لا ينتبه لها أحد وهي ترى كل حركة وتسمع كل صوت، ولم تبق حاجة إلى المذبة بعد الغروب وقد خَفَّتْ وطأة الذباب. ونسي كافور وجودها عند رأسه فوقفت لا تتحرك. وبعد قليل دخل أبو حامد وقد تزيا بغير زيه المعهود ودخل سالمٌ في أثره وقد تغير شكلُهُ وهندامُهُ حتى كادت تنكره، لكنها ما لبثتْ أن سمعته يلقي التحية حتى تحققتْ أنه هو بعينه. فخفق قلبُها وارتعدتْ فرائصُها وهي تتجلَّد وتتمالكُ لترى ما يكون. على أنها لم يكدْ يقع بصرها عليه حتى تذكرت تاريخ معرفتها به وكيف كانت تستهلك في حبه، وودت في تلك الساعة أن يخرج بريئًا من تلك التهم واستعاذتْ بالله أن يكون كما قيل لها عنه، وندمت على مجيئها إلى ذلك المكان لتسمع أقواله بأُذُنها. وخافتْ إذا سمعت شيئًا يثير غضبها أن لا تقوى على إمساك عواطفها فيفتضح أمرُها، لكنها استجمعت قواها وتجلدت.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/59/
الحديث
فلما دخل الرجلان ألقيا التحية، فأشار إليهما كافور بالجلوس إلى كرسيين بين يديه، فجلسا متأدبين، وتصدر أبو حامد للكلام، فقال: «كنا في قلق عظيم على صحة مولانا الأمير — أعزه الله — ونرجو أن يكون قد تعافى.» فناب الطبيب شالوم بالجواب عن كافور تخفيفًا للتعب عنه وقال: «إن سيدي الأمير في خير وهو أحسن اليوم من ذي قبل ولا يلبث أن ينهض من الفراش.» فقال كلاهما معا: «الحمد لله، الحمد لله على ذلك. إن اعتلال الأمير تعتل به الأمة كلها، ولا سيما الآن وقد دنا الوقت الذي يظهر به نجمُهُ ويتسعُ سلطانه.» فقال الطبيب: «إن مولانا الأمير في حاجة إلى التسلية بما يفرحه وهو العلاج الذي يفيده، حقيقة فهل عندك شيء من هذا القبيل؟» وتقدم يعقوب فقال: «لا أنسى حديثًا سمعتُهُ منكما في حضرة الأمير، رأيت مولاي انبسطت نفسه منه.» فقال أبو حامد «أظنك تعنى حديث …» والتفت نحو الطبيب ولسان حاله يقول: «إن هذا الحديث لا يتلى جهارًا.» وكان كافور يسمع ويرى، فلما رأى إشارة أبي حامد قال: «لا تحتشمْ من وجود طبيبنا إنه موضع ثقتنا.» فوقف الطبيب وأظهر أنه مستعد للخروج. فأشار إليه كافور أن يجلس فجلس والتفت إلى يعقوب كأنه يستشيرُهُ هل يقول. فقال: «تفضل يا سيدي قل.» فاعتدل أبو حامد في مجلسه وقال: «إن حديثنا في المرة الماضية لا يحلو تكرارُهُ إن لم يكن مشفوعًا ببشائر النجاح. وقد جئنا الليلة نحمل بشارة يفرح لها كل مسلم يُريد أن يستقر الحق في نصابه.» فقال يعقوب: «وما ذلك؟» قال: «قصصت عليكم بالمرة الماضية ما دبرناه في سبيل نصرة الحق بإنقاذ الدولة الإسلامية من أدعياء الخلافة في المغرب؛ أعني القوم الذين انتحلوا لأنفسهم نسبًا كاذبًا في القيروان وزعموا أنهم من نسل فاطمة الزهراء وهم أدعياء في هذا النسب. إن زعيمهم الذي سمى نفسه المعز لدين الله قد أصبح الآن في عالم الأموات، ولا بد من اضطراب دولته وقيام أمراء كتامة وصنهاجة عليه وإنما نحتاج إلى جُند يبعث به الأمير — أعزه الله — إلى أولئك الأمراء هناك حتى يلتفُّوا حوله ويسلموا الأمر إليه، فيدعى له على منبر القيروان كما يدعى له الآن على منابر مصر والشام والحجاز وحلب وأنطاكية وطرسوس. فيستقيم له الأمر وحده ولا يبقى لمنافسيه هنا مطمع في شيء؛ لأن الباقين من آل الإخشيد غلمانٌ ونساءٌ لا يستطيعون عملًا.» وكان كافور جالسًا ينظر إلى أبي حامد وقد بدا الانبساط في وجهه فلما سمع قوله زاد انبساطًا لكنه تنهد وقال: «إني لا ألبث أن أعمل بذلك حالَمَا أنهض من الفراش — بإذن الله»، والتفت إلى الطبيب كأنه يستشيره في ذلك. فقال الطبيب: «قريبًا إن شاء الله»، والتفت الطبيب إلى أبي حامد وقال: «يظهر أنك واثق بنجاح هذه المهمة …» فقال: «إني لا أقول غير الحق وأنا منذ أعوام أُعد المعدات وأهيئ الأحزاب وأجمع الأموال. إني على ثقة من انضمام قبائل البربر كلها في نصرة الأمير أبي المسك — أعزه الله — وإنما كان ينقصنا أن نتخلص من رجلين هناك خدمهما الحظ حينًا فغلب عليهما الغرور وقد ماتا الآن.» قال يعقوب: «من تعني؟» قال: «أعني المعز وجوهرًا قائده. إنهما ماتا الآن ولا يمضي إلا بضعة أيام حتى تأتينا كتب الأمراء بذلك.» فأحب يعقوب أن يُسمع لمياء كلام سالم عن نفسه فوجه الخطاب قائلًا: «إن الفضل في هذا النجاح ليس للأمير أبي حامد فقط وإنما هو لك أيضًا … وإن حيلتك التي قصصتها في المرة الماضية غريبة في بابها.» وضحك تحريضًا له على التصريح. فقال سالم: «إن الفضل الأكبر لهذا الأمير، وهو صاحب الرأي الأعلى وعنده الرجال والأموال. وأما أنا فعملي مقصورٌ على إغراء فتاة جاهلة توهمتْ أني أحبها فاتخذناها وسيلةً لخدمة مصلحة صاحب مصر — أيده الله.» ولا تسل عن لمياء وما أصابها عند سماع هذا الكلام. ورغم تجلدها وتمالكها أحست أنها مدفوعةٌ لتكذيب ما سمعتْه وحدثتْها نفسها أن تتقدم في تلك اللحظة وتكشف الحقيقة. وكان يعقوب يلاحظ حركاتها ويشير إليها خلسة أن تتجلد. وهم في ذلك رأوا كافورًا يتحرك في سريره حركة غير اعتيادية وقد تغيرت سحنتُهُ فانتبه له الطبيبُ ونهض إليه فرآه قد أُصيب بنوبة سعال شديدة. فأومأ إلى القوم بالانصراف حالًا، فنهض أبو حامد وسالم وخرجا واشتغل الطبيب بمعالجة كافور فنادى غلامه (لمياء) أن يأتي بالجراب فأسرعت وفتحت الجراب ويداها ترتعدان من التأثر وقد احمرتْ عيناها من الكظم فتناول الطبيب قارورةَ الاستنشاق وقربها من أنف كافور وأعانه يعقوب بإسناده وهو لا يزداد إلا سعالًا حتى كاد يغمى عليه. وشغلت لمياء بذلك المنظر عما جال في خاطرها، وقضوا ساعةً وهم يُسعفون الأمير بالعلاج حتى سكن السعالُ ومال إلى الرقاد، ثم جَسَّ الطبيب نبضه وقال: «إنه مرتاح الآن فينبغي أن نتركه نائمًا.» فقال يعقوب: «فنذهب نحن إذن.» قال: «نعم. أما أنا فلا ينبغي أن أتركه؛ إذ أخشى أن تعاوده النوبة.» فقال يعقوب: «أنا ذاهبٌ مع غلامك هذا وسأترك عندك أحد غلمان الأمير يقدم لك الجراب إذا مست الحاجة.» ففهم الطبيب مراده فوافقه فدفعت لمياء الجراب إليه وخرجتْ مع يعقوب وركبتاها ترتعدان من هول ما سمعته ورأته، وعيناها شائعتان خارج المعسكر تبحث عن أبي حامد وسالم فلم تر لهما أثرًا. ولحظ يعقوبُ فيها قلقًا، وأدرك ما يجولُ في خاطرها فأشار إليها أن تتبعه. فوقفت وهي تكاد تسقط من شدة الاضطراب والغضب، وقالت: «لا أستطيعُ المشي يا سيدي … بالله ماذا رأيت … ويل لك يا خائن …» فالتفت يعقوبُ إليها فوجد وجهها قد امتقع وتغيرت سحنتها ومشت وهي تتساند وتخاف السقوط. فأشار إلى السائس أن يقدم الدابة فأسرع إلى تقديمها وأعانها حتى ركبتْ وركب هو على دابة أُخرى في أثرها ولحظ في أثناء الطريق أن لمياء منزعجةٌ فأحس أنه مسئولٌ عن سبب انزعاجها؛ لأنه هو الذي جمعها بذلك الخائن وإذا أصابها سوءٌ فمِن شدة تأثُّرها مما سمعتْه ورأتْه. وبعد قليل وصلا إلى منزل المعلم يعقوب، فترجل والتفت إلى لمياء، فإذا هي لا تزال على بغلتها لا تتحرك ولم يعهد بها ذلك التواني، فتقدم نحوها ومد يده ليعينها على النزول. ولما لمست يده أحس بسخونتها وجفافها فاقشعرَّ بدنُهُ فناداها أن تنزل فنزلت وهي لا تستطيع حراكًا فنادى بعض الخدم فأعانوه على حملها إلى دار النساء وهي غائبةٌ عن رُشدها كالمائتة، فتأسف يعقوب لما أصابها ونادى قهرمانة منزله وأشار إليها أن تُسعف الفتاة بالتدابير المستعجلة ريثما يأتي الطبيب. وبعث رجلًا يدعو الطبيب شالوم؛ إذ لا يريد أن يطلع أحد على وجودها عنده. ظلت لمياءُ غائبة رغم ما استخدموه في إيقاظها من المنعشات والمنبهات وأبطأ الطبيبُ عن الحضور؛ لاشتغاله بالأمير كافور فاشتد القلقُ بيعقوب وأصبح لا يدري ماذا يعمل فخطر له أن يطلع الشريف مسلم على حالها؛ لأنه ذو شأن في الأمر فبعث إليه — وقد أظلم الظلام — فجاء ولمياء لا تزال في تلك الحال فسأله عن أمرها فقص عليه حقيقة خبرها. فجس نبضها فإذا هو يسرع كثيرًا فعلم أنها مصابةٌ بحمى شديدة ورأى الأَولى أن ينقلها إلى منزله ليخدمها أهله ريثما يأتي الطبيب ويرى ما يكون. وكان قد استلطف الفتاة قبل أن يطلع على حقيقة أمرها مع الحسين بن جوهر وغيرتها على المعز وخبرها مع سالم، فلما اطلع على الحقيقة أحس بانعطاف شديد نحوها. وأمر بمحفة حملوها عليها إلى منزله وأخذ على عاتقه أن يعالجها طبيب منزله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/60/
الحلم
قضت لمياء في تلك الغيبوبة أيامًا لا تأكل ولا تشرب غير ما يسقونها إياه رغم إرادتها، ثم أفاقتْ وقد شحب لونها وبان الضعف في عينيها وحالَما أفاقت التفتت إلى ما حولها وقد استغربت كل شيء لكن الناظر في عينيها يرى أنها لا تزال ضائعةً رغم حركتها والتفاتها. وكان في الغرفة ساعتئذٍ الشريف مسلم نفسه وامرأة من أهله فتقدمت المرأةُ نحوها وقالت: «ماذا تريدين يا حبيبتي؟» فلم تجبها لكنها عادت إلى استغراقها. وكانوا قد أعدوا لها لبنًا تشربه فلم تستطعْ ذلك لأنها عادت إلى الرقاد فأمر الحكيم أن تُسقى اللبن كرهًا. وكانت الحمى قد انخفضت والغيبوبة هذه المرة لم يطل مكثها. ففي صباح اليوم التالي سمعوها تئن أنينًا شديدًا كأنها تشكو ضيقًا. فأسرع مسلم إليها فسمعها تقول بأعلى صوتها: «حسين! حسين! تبًّا لهم قبضوا عليك … دعوه قبحكم الله. أما كفاكم ما فعلتموه بأبي؟ آه آه …» وسكتت ثم فتحت عينيها فجأة والتفتت إلى مسلم وهو واقف إلى جانبها وتفرست فيه وقد عاد إليها رشدها فعرفتْه فقالت: «العفو يا سيدي؟ أنت هنا. أين أنا؟ ماذا جرى لي. أين الحسين؟ قد قبضوا عليه؟ ويل لهم …» وشرقت بدموعها. ثم تراجعت وكأنها انتبهت أنها في يقظة وليس هناك حسين فخجلت فتقدم الشريف نحوها بلطف وقال لها: «ما بالك يا بنية. إنك تهذين أو تحلمين لا تخافي إنك في منزلي وأنتِ أعز من ولدي …» فأخذت تفرك عينيها بكلتا يديها وهي تنظر إلى ما حولها وقالت: «لست خائفة يا سيدي … لست خائفة … ولكن الحسين بن جوهر. رأيتهم أخرجوه مغلولًا في فج الأخيار … وأولئك اللصوص حوله كالزبانية … رأيتهم رأي العين …» فقال: «أنت يا لمياء في الفسطاط. وبيننا وبين فج الأخيار عدة أيام … خففي عنك. وعودي إلى رشدك … لا بأس عليك. وبعد هنيهة يأتي الطبيب ويشير بما يجب أن تفعلي.» قالت: «الطبيب! وأي طبيب؟ إني لا أشكو مرضًا ولكنني أشكو ظلما وخيانة …» قالت ذلك وغصت بريقها وأغرقت في البكاء حتى ملأ نحيبُها الدار. فبعث الشريف يتعجل الطبيب فأتى والفتاة مستغرقةٌ في البكاء فجس نبضها ثم أشار عليهم أن لا يخاطبوها ولا يَقُصُّوا عليها خبرًا بل يكتفوا بالغذاء الخفيف. ووصف لهم ما ينبغي عمله ولكنه أَلَحَّ عليهم أن يتركوها هادئة ساكنة — بقدر الإمكان. ظلت لمياء في الفراش عدة أسابيع لا يُخاطبها أحدٌ إلا بالضروري وهي تصحو تارة وتغيب أُخرى، والطبيب يترددُ عليها ويصف الأدوية والأغذية حسب الحاجة. ويعقوب يأتي كل يوم للسؤال عنها ويأسف أشد الأسف لِما أصابها على يده، رغم اشتغاله في تلك الأثناء بأُمُور ذات شأن أهمها موتُ كافور وانتقال الإمارة إلى أحمدَ بنِ علي بن الإخشيد، وهو غلامٌ لم يتجاوز الحادية عشرة، وتحول النفوذ إلى جعفر بن الفرات وزير كافور المتقدم ذكره. ولم يكن ابن الفرات يستطيع عملًا في حياة كافور، فَلَمَّا صارت الإمارةُ إلى ذلك الغلام استبد هو في الأمر وأخذ في مطاردة رجال الدولة ومصادرة الأغنياء. وكان يعقوب من جملة المهددين وخاف أن يصل الدور إليه فاستتر، وكان يقضي أكثر أوقاته عند الشريف مسلم بن عبيد الله المُشار إليه بحجة السؤال عن لمياء ويتحادثان في شئون الدولة ويرون قُرب سقوطها لكنهما لا يتحدثان في شيء من ذلك أمام لمياء عملًا بإشارة الطبيب. وبعد مدة تقدمت لمياء نحو الصحة وأصبحتْ في شوقٍ إلى استطلاع الأحوال، والحكيم يأمرها أن تُلازم الصمت، وبعد مدة أُخرى أذن لهم أن يخاطبوها في الشئون التي تريدها. وكانت لا تزال تترددُ إلى الفِراش وتنزل إلى الحديقة أو تمشي في المنزل. ورأت وجهها بالمرآة فانزعجتْ مما صارتْ إليه من الضعف، فبكت، وعاد إليها رشدها فتذكرت ما انتابها في تلك المدينة وكيف خلفتْ أهل القيروان على مِثل الجمر في انتظار أخبارِها من مصر. وتذكرت أنها رأت الحسين خطيبها مغلولًا أو رأتهم يوثقونه ويضربونه كأنها رأتْ ذلك في يقظة. كانت هذه الخواطر تمر بذهنها في أواخر أيامِ النقه ولا تجسر على مفاتحة أحدٍ بها. فَلَمَّا أذن لها الطبيبُ بذلك طلبتْ يعقوب وسألته عما جرى في أثناء مرضها، فقص عليها ما كان من موت كافور وتنصيب أحمد بن علي. فقالت: «ألم تبعثوا بذلك إلى القيروان؟» فابتسم ونظر إلى مسلم فابتسم أيضًا وفي وجهيهما علاماتُ البشر فقالت: «ما الخبر؟» قال يعقوب: «الخبر خير يا لمياء … إن أهل القيروان علموا بكل ما جرى هنا، وقد جاءوا إلينا بخيلهم ورجلهم.» فصاحت: «أتوا إلى هنا؟ القائد جوهر أتى؟ المعز أتى؟ أين هم؟» فقال: «المعز لم يأت ولكن القائد جوهرًا جاء بجُند كثيف ونزل الإسكندرية ووقع الرعب في قلوب المصريين … ولا ندري ما يكون.» فأطرقتْ لمياء — وقد بان البشر في مُحَيَّاهَا — وأحستْ بنشاطها الأول كأنها كانت في رقاد وأفاقتْ. وتذكرتْ مهمتها التي جاءتْ مِنْ أجلها وأنها لم تستطع عملًا تخدم به المعز؛ لأن المرض أعاقها. وتذكرتْ — للحال — ما رأتْه من سالم فاقشعرَّ بدنها فقالت: «وماذا جرى بذلك الخائن وعمه؟» قال: «لا أدري؛ لأني لم أعدْ أراهما من تلك الجلسة وأظنهما يشتغلان في دَسِّ الدسائس في قصر السيدة زينب بنت الإخشيد بعد موت كافور وضياع أملهما …» فلما سمعت اسم بنت الإخشيد تذكرت أشياء أُخرى هاجت أشجانها فأطرقت ومسلم ويعقوب يلاحظانها ولا يتكلمان. ثم انتبهت فجأة، وقالت: «ماذا جرى بأمتعتي وجوادي؟» قال يعقوب: «أي أمتعة تعنين؟» قالت: «أعني ما حملته معي من الثياب والأمتعة من القيروان وتركته في الفندق مع الجواد والخادم والدليل.» قال يعقوب: «أي فندق إن الفنادق كثيرة هنا …» فقالت: «في الفندق الذي هداني صاحبه إلى منزلك.» قال: «لم أنتبه له.» قالت: «أنا لم أعرفه وقد آن لي أن أخرج من البيت ولا خوف علي … أخرج بالثوب الذي يعرفني صاحب الفندق به فألاقيه وأدفع له أجرته وآتي بالأمتعة … والحق يقال إني أحس بقصوري في خدمة أمير المؤمنين وقد شُغلت عن خدمته بخدمة نفسي ثم شغلني المرض.» قالت ذلك ووقفت وقد عاد إليها نشاطُها والتفتتْ إلى مسلم وعيناها تنطقان بالشُّكر على ما أبداه من الغَيرة. فأجابها على الفور «إنك ستعودين إلينا وتنزلين في دارنا … أو الأفضل أن تمكثي هنا فنرسل مَن يأتي إليك بالأمتعة والجواد.» قالت: «بل أُفَضِّلُ الذهاب بنفسي وسأعود الليلة أو في صباح الغد — إن شاء الله.» فقال مسلم «بل تأتين الليلة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/61/
في اليقظة
فأشارتْ مطيعة واختلتْ في غرفة لبست فيها ثوب الصقالبة الذي دخلت به الفسطاط واستأذنت بالانصراف وخرجت وهي تذكر الطريق التي جاءت بها وتتوهم أنها مرتْ في تلك الطريق منذ بضعة أيام وقد مر على ذلك عدةُ أشهُر. وصلت الفندق فرآها صاحبه بالترحاب وأبدى غاية الاستغراب لما رآها فيه من النحول وسألها عن سبب غيابها وأن خاطره شغل عليها كثيرًا حتى خاف أن تكون قد ماتت — قال ذلك بين الجد والهزل — فاستلطفتْ مجونه وقالت: «الحمد لله أني لا أزال حيًّا (لأنه يعرفها غلامًا صقلبيًّا) ولو مت ما الذي كنت تصنعه بالجواد؟» قال: «أي جواد يا سيدي.» قالت: «الجواد الذي جئت عليه.» قال: «إن الجواد أخذه رفيقاك ومضيا» يعني الدليل والخادم. قالت: «وكيف أذنت بذهابهما؟» قال: «لما استبطآ قدومك استأذنا في الانصراف»، وضحك لهذا التعبير. فقالت: «وماذا فعلتم بثيابي وأمتعتي؟» قال: «هي باقية في الغرفة التي كنت نازلًا فيها ضمن صندوق مقفل ولكن جاء بعض المسافرين واستأجروا الغرفة مني فأبقيت الصندوق في بعض جوانبها — على ما أظن.» قالت: «أعطني الأمتعة، أين هي؟» قال: «هي هنا، تفضل يا سيدي.» ومشى نحو الغرفة التي باتت فيها ليلة وصولها الفسطاط وهو يتثاقل في مشيته وهي تتبعه. فلما دنا من الغرفة هز بابها فإذا هو مقفل فقال: «لا أدري لماذا يقفلون الغرف كأنهم يخافون أن أسرق ثيابهم …» قالت: «أَلَا يمكن الحصولُ على الأمتعة الآن؟» قال: «كلا … أخاف أن أفتح الباب في غيابهم فيتهموني بالسرقة. ليس كل الزبائن لطفاء الأخلاق والوجوه مثلك يا سيدي. لكن لا يلبثون أن يأتوا … تفضلْ واجلسْ في غرفتي … يظهر أنك تشكو تعبًا على أثر المرض.» فمشتْ في أثره إلى غرفة بجانب تلك وفتح الباب وأشار إليها بالدخول، وقال: «إن هذه الغرفة لي وحدي وقد تركتها لك، تفضل استرح.» وكانت تعبت من المشي؛ لأنها أول مرة خرجت بها من المنزل فدخلت واستلقت على مقعد هناك وأغلقت الباب خوفًا من انكشاف أمرها واستلذتْ تلك الخلوة، فأخذت تفكر بما أصابها بالفسطاط. وطرق ذهنَها خصوصًا الحلم الذي رأتْه وهي مريضةٌ إذ رأت الحسين مغلولًا في أشد الضيق وقد حاولت أن تُقنع نفسها أنه حلم لكنها لا تتصوره إلا واقعا. وتذكرت تلك الجلسة في بيت كافور وما تحققته من خيانة سالم، فاقشعر بدنُها ولم تكد تتصوره حتى سمعت صوتًا مثل صوته يرنُّ في أذنها فذعرتْ وأصغت فإذا هي حقيقة تسمع صوته، فجلست على المقعد، وأصاخت بسمعها وهي تحسب ذلك حلمًا آخر. فإذا هي تسمع وَقْعَ أقدامٍ ببابِ الغرفة فنهضتْ وتهيأتْ للوثوب واستعدت للمقاومة فإذا بالخُطى تتجه نحو الغرفة الأُخرى التي كانت لها وسمعت صوتًا مثل صوت أبي حامد فتسارعتْ دقاتُ قلبها وأسرعتْ إلى باب غُرفتها فأوصدتْه وجعلت أنها نائمةٌ ووجهت انتباهَها؛ لتتحقق هل هي في يقظة. فسمعت أبا حامد يقول: «أوصد الباب يا بني وتعال.» وسمعته يوصده، ثم سمعت قائلًا يقول: «أوصدته … هات ما عندك؟» وهو صوتُ سالم. فتأكدتْ أنهما نازلان في تلك الغرفة ففرحتْ بتلك الفرصة لكن تأثرها كاد يذهب بنفسها لتسارُع دقات قلبها. فتجلدتْ وتذكرت ما كان من بسالتها ورباطة جأشها ومواقفها في ساحة القتال فتماسكتْ وأصغتْ. فسمعتْ أبا حامد يقول: «ذهب ذلك الأَسْوَدُ ولم ننل منه وطرًا … ولكن ذلك من سوء حظه.» فقال سالم «وسوء حظنا أيضًا يا عماه.» قال: «ما أضعف عزمك يا سالم … أتحسب قدوم ذلك المملوك الصقلي (جوهر) يغير عزمي؟ إنه لا يلبث أن يعود على أعقابه …» قال: «كيف يعود؟ وقد أتى بجيش جرار ولحظت القوم هنا خائفين.» فقهقه أبو حامد فتصورت لمياء ما يرافق قهقهته من التكشير عن سنيه البارزتين، ثم سمعتْه يقول «لا يلبثُ خوفُهُم أن يذهب متى وصل ذلك الغلام مغلولًا.» قال: «وأي غلام؟» قال: «أي غلام! صحيح أنك لم تعلم بعد بالقبض على الحسين.» فلما سمعت لمياء ذكر الحسين اختلج قلبُها وتسارعتْ دقاتُهُ حتى شوشت عليها سماعَ الحديث فإذا سالم يقول: «قبضوا على الحسين؟ لا لم أعلم بذلك بعد. أين قبضوا عليه؟» قال: «في فج الأخيار … لأن لمياء اللعينة أفشت السر وأخبرت المعز بوجود المال هناك فتبرع هو بالذهاب ليحمل ذلك المال إليهم. وجاءني الرسول أمس أن رجالنا هناك قبضوا عليه وأوثقوه وسألوني عما يفعلونه به فأجبتهم أن يحملوه إلى هنا. فإذا جاء حبسناه وجعلناه رهنًا … ما قولك؟» فقال: «لم أكن أعلم ذلك … بارك الله فيك. كيف لم تخبرني به حتى الآن …» قال: «لأني لا أثق بأحد ولو لم أر خوفك لم أخبرك به. لكنني لم أعلم أين ذهبت تلك الفتاة المفتونة. فقد أخبرني الجواسيس أنها خرجت من القيروان ولكني لم أعلم إلى أين؛ لأنها أخفت جهة مسيرها.» قال: «ما ظنك بها؟» قال: «أظنها أتت إلى هنا؛ لأن يعقوب اليهودي هو الذي أنبأ المعز بعزمنا على قتله فنجا بذلك. ويغلب على ظني أن لمياء أتت إلى الفسطاط لكنني لم أستطع البحث عنها في حياة كافور؛ لأنه كان يقرب ذلك اليهودي ويصغي إليه … أما الآن وقد مات كافور فإني أوغرت صدر ابن الفرات عليه فأصبح يطارده ولا يلبث أن يصادره. وهو يسعى الآن في إقناع القواد أن يسلموا لجوهر. ولكنه لن يفلح؛ لأنهم مختلفون لا رابطة لهم وكُلٌّ منهم يطمع بالمال لنفسه وهم طوائفُ أهمها الإخشيدية والكافورية والأتراك، وليس عليهم أميرٌ حازمٌ يجمع كلمتهم. وفى عزمي أنْ أجمع شتاتهم بواسطة السيدة زينب بنت الإخشيد؛ لأنها كانت نافذةَ الكلمة عندهم، لكنها امرأةٌ ولا تعلم كيف تعمل فضلًا عن اشتغالها بأمر نفسها … لا تخف يا بني … كُنْ على ثقة مِن تدبيري.» وكانت لمياء تسمع كلامه وفرائصُها ترتعدُ فإذا بسالم يقول: «قد أدهشتني يا عماه بهذا التدبير … بارك الله فيك.» فقال: «كيف لا وقد قضيت عمري في دس الدسائس عملًا بوصية ذلك المقتول ظلما … إني منتقم له كن في راحة … ولكن تلك الملعونة أين ذهبت لا أدري.» قال سالم: «ما لنا ولها فلتكن حيثما شاءت.» ثم استولى السكوتُ كأن الرجلين ناما وأخذت تفكر بما سمعته فرأت أنها استطلعت أشياء كثيرة لم تكن تعرفها وخصوصًا أمر الحسين والقبض عليه وأن المصريين يسعَون في مصالحة جوهر والتسليم له وأن الأمر موقوفٌ على بنت الإخشيد. وقد صدقت أنهم قبضوا على الحسين؛ لأنها رأت ذلك رأي العين في أثناء الغيبوبة فلم تعد تستطيع البقاء هناك واحتالت في الخروج فلقيها صاحب الفندق فسألته عن الثياب فقال: «هل أتى الأضياف؟» قالت: «أظنهم أتوا؛ لأني سمعت حركة.» فقال: «قبحهم الله يدخلون كاللصوص!» وأسرع وعاد إليها بالثياب. فتناولتْها ودفعت إليه أجرته وانطلقت تطلب بيت الشريف مسلم بن عبيد الله. وكان الليل قد سدل نقابه، فأسرعت حتى وصلت فرأت الخيول متزاحمة في الباحة والناس وقوفٌ بالباب فاستأذنتْ في الدخول فأذن لها وسألت عن الشريف فقِيل لها إنه في خلوةٍ مع جعفر بن الفرات. فجلستْ وهي في غاية الاضطراب وأصبحتْ في شوق لمعرفة ما يدور بين الرجلين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/62/
الصلح
وهي جالسةٌ رأت جماعةً عليهم ألبسةُ المصريين الوطنيين من التجار والمزارعين، وقد تجمعوا أزواجًا وأثلاثًا وهم يتذمرون ويتأوهون وسمعت أحدهم يقول: «ما لنا وللحروب لقد خربت البلاد واختنق الناسُ من القحط والغلاء حتى فرغت أيدينا من النقود وهؤلاء الجند لا يزيدوننا إلا ضرائب. وهم منعمون لا يهمهم إلا أخذ الأموال … إنهم معذورون طبعًا إذا خافوا على سيادتهم وأَحَبُّوا محاربة أولئك المغاربة.» فأجابه آخرُ: «ما لنا ولهم … الأفضلُ لنا أن نُصالح. وهذا الوزير قد وافقنا على طلب الصلح. إن هذه الدولة الجديدة رشيدةٌ وقد سمعت الثناء على خليفتها وزهده في الأموال ورغبته في راحة رعيته …» فتقدم ثالث وقال: «وقد بلغني أن هذا الجند قادم إلينا وقد حمل الذهب على الجمال كالأرحية … أين ذلك من استبداد جُندنا وحكومتنا بأموالنا؟» ثم سمعت رجلًا يضحك — وفي وجهه هيئة المجون — وقال: «كيف تدعون الفقر يا قوم أليست الأموال مخزونة في بيت الإخشيدية والكافورية؟ هذه بنت الإخشيد قد فرشت منزلها بما لم تبلغ إليه زبيدة زوج الرشيد وعندها الجواري بالمئات … وتقولون مع ذلك إننا فقراء؟» فضحك الجميعُ من مجونه، ثم شغلوا بحركة وضوضاء ظهرتْ هناك فالتفتتْ لمياءُ فرأت ابن الفرات خارجًا وقد خرج الشريف مسلم لوداعه وابن الفرات يُبالغ في احترامه والثناء عليه. ولَمَّا ودعه قال ابن الفرات: «أتعدني يا سيدي بالذهاب غدًا إلى الإسكندرية؟» قال: «كن مطمئنًّا أني باذل جهدي في إقناع القائد أن يقبل بالصلح وأنا ضامنٌ ذلك — بإذن الله.» ففهمت أن ابن الفرات يسعى في المصالحة، وتذكرت ما سمعتْه مِن أبي حامد في هذا الشأن. وأرادتْ أن تخاطب الشريف فرأتْه تحول إلى غرفته كأنه في شاغل عن المقابلات، فأجلت مقابلته إلى فرصة أُخرى، وذهبت إلى دار الحريم وقد تعبتْ واستلقتْ على الفراش ومالتْ إلى الخلوة وأخذت تفكر بما سمعتْه فغلب عليها النعاسُ فنامتْ رغم إرادتها. أما هي فإنها ما زالت في قلق؛ لِما علمته من مساعي أبي حامد، وأسفت لأنها لم تستطع مقابلة مسلم قبل ذهابه. وهي في ذلك رأت يعقوب داخلًا، فأحست براحة وأسرعتْ إليه فلما رآها هش لها وتقدم نحوها فأومأت إليه أن يجلس وقصت عليه ما سمعته أمس. فاستغرب قولها وأدهشه عزم أبي حامد وما دبره فقالت: «لا حاجة بي أن أخبرك عن أهم ما قصصت عليك.» قال: «أما مِن حيث الحسين فإذا صح ما قالوه عنه وأنه آتٍ إلى هنا فهو في مأمن، ولا شك أن ذلك الغادر مغرور.» ثم أطرق وهو يحك عثنونه وقال: «ولكن …» وسكت. فقالت: «ولكن ماذا؟ هل أستطيع أن أعمل عملًا … إني أشعر بتقصيري في مهمتي لأني شغلت بنفسي عن خدمة مولاي المعز ما بالك؟ قل.» قال: «فهمت من حديثك أن ذلك الملعون يهدد سعينا في الصلح بدسائسه عند بنت الإخشيد ولا سبيل لي إلى هناك وأنا رجل فلا أستطيع التنكر …» فأدركت أنه يلمح إلى استطاعتها؛ ذلك لأنها فتاة، فأطرقت ثم قالت: «هل أقدر أنا على ذلك؟» قال: «طبعا ولكن …» قالت: «ماذا قل … قد أدركت الآن مركز بنت الإخشيد في هذه الدولة ويظهر أن الكل يثقون بها رغم ما بَلَغَنا من تهتكها وانغماسها، فما الذي ترى فيَّ القدرة عليه؟» قال: «ليس أقدر منك على ذلك … أرى أن تدخلي دار بنت الإخشيد وتتسلطي على عقلها حتى تصير أطوعَ لك من بنانك.» فعلمتُ أنها لا بد لها من التجسُّس وهي أكبر نفسًا من ذلك. فتوقفت عن الجواب لحظة وهي تنظر في مرآة معلقة في الحائط أعجبها شكلُها؛ لأنها صنع مصر ولم تكن رأت مثلها من قبل. كانت تنظر إلى المرآة وهي تفكر في أمر تنكرها. فابتدرها يعقوب قائلًا: «لا تترددي يا بنية … إذا كنت تحبين المعز وتريدين الفوز لجوهر فالأمر في يدك ولا يستطيع عليه سواك.» فلما سمعت قوله تحمست، وهان عليها كل صعب فقالت: «روحي فداء أمير المؤمنين وأحسب أني مت في مرضي هذا. فما العمل؟» قال: «هل تعلمين شغف بنت الإخشيد باقتناء الجواري الحِسَان؟» فقالت: «نعم، أعلم ذلك.» قال: «أرى أن تتنكري بثوب جارية مغربية، وأن أجعلك هديةً لبنت الإخشيد ولا ريب عندي أنها لا تلبث أن تخاطبك حتى تستسلم لرأيك والأمر بعد ذلك لفطنتك.» فنهضت وقالت: «أنا مستعدة للذهاب من يأخذني وكيف أصنع؟» قال: «تمهلي … إني عائد بعد قليل وإنما أتقدم إليك أن تلبسي ثوبًا مثل أثواب الجواري …» قال ذلك وخرج. فلبست وأصلحت شعرها وغيرتْ هندامها حتى أصبح من يراها لا يشك في أنها جارية وقد زادها الضعف جمالًا وهيبةً. ثم جاء يعقوب ومعه رجل عرفت أنه تاجر الرقيق الذي قبضوا عليه في القيروان ووقف بين يدي المعز واعترف أنه جاء ليبتاع جواري لبنت الإخشيد فتجاهلت. ثم تقدم يعقوب وقال: «هذه هي الجاريةُ يا سيدي … كيف تراها؟» قال: «لا بأس بها.» فضحك يعقوبُ وقال: «لا تَقُلْ لا بأس، بل قل إنها جميلة، وأظنها تُعجب مولاتنا كثيرًا؛ نظرا لما فطرت عليه من الذكاء والأدب فضلًا عن الجمال.» فقال الرجل «ما اسمها وكم ثمنها؟» قال: «اسمها سلامة وأما الثمن فإني لا أُتاجر بالرقيق كما قلت لك وإنما أردت أن أفعل ذلك خدمة لمولاتنا. خذها إليها ويكفيني أن تقبل هذه الهدية مني، ولكن هذه الفتاة عزيزة علي؛ لأني أعرف منشأها، فلا ينبغي أن تعامل مثل سائر الجواري. أوص السيدة بنت الإخشيد بذلك إذا شئت.» قال: «سأفعل» وأشار إلى لمياء فتبعته وهي تتجلد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/63/
بنت الإخشيد
وكانت بنت الإخشيد تُقيم في قصرٍ قُرب دار عبد العزيز أكبر دور الفسطاط وقد تقدم ذكرها. وذكرنا ما فيها من الغُرف وعدد ما فيها من الناس، وهي واقعةٌ على ضفة النيل الشرقية، يُقابلها في المغرب جزيرةُ الروضة. وقصر بنت الإخشيد فخمٌ يطل على النيل قد فُرش بأثمن الرياش. والدولةُ الإخشيديةُ يومئذٍ في إبان بذخها تقلد العباسيين بما في دُورهم من الرياش الفاخر والأثاث الثمين بالأبسطة المطرزة والأستار المزركشة قد شدت إلى الجدران بمسامير الفضة وفرشوا غُرَفَ النوم بالأَسِرَّةِ الذهب أو الأبنوس المنزل بالعاج ونصبوا منائرَ الفضة عليها الشموع العنبرية إذا أُوقدت فاحتْ رائحتُها حتى تملأ الفضاء. تلك كانت طريقة الحكومة في تلك الأيام، ولا سيما في أواخر الدولة. إنما يهم الحاكم أن يجمع المال لنفسه ويتلذذ بالشهوات وقد يبلغ من تمتعه بالملذات أن يموت من التخمة والرَّعايا حوله يموتون من الجوع. وكانت بنت الإخشيد في حدود الكهولة تظهر لأول وهلة أنها قوية الخلق وهي بالحقيقة ضعيفة الرأي لكنها جسورة لا تبالي ما تفعل ولا تقدِّر العواقب، وكانت مثالًا لطبقة المترفين من أهل ذلك العصر، لا يفوتها ضربٌ من ضروب الملذات، وكانت وجيهةً نافذةَ الكلمة ليس في رجال الدولة مَن لا يَخشى بأسها، ولا سيما في تلك السنة وقد مات كافور وصارت الأُمُور إلى أحمدَ بن على حفيد أخيها — وهو غلام — فأصبح طبعًا طوع إرادتها هو وكل رجال دولته إلا جعفر بن الفرات، فأحب أن يستأثر بالنفوذ فأغضبها وأغضبته فمال مع الأهلين الراغبين بالتسليم لجوهر قائد جند المعز. وأما سائر الأجناد فكانوا يلتمسون رضاها لا يُبرمون أمرًا إلا برأيها. وكانت جميلةَ الخلقة لا تزال الملامح التركية ظاهرةً في محياها؛ لأن أباها فرغاني، ويظهر أنها لم تتزوج رغبة في استبقاء عصمتها في يدها فانصرفت قواها إلى التمتع بالحياة والتماس النفوذ والشهرة، فجعلت قصرها مباء لرجال الدولة. وكانت في تلك الأثناء مشغولةَ الخاطر؛ لِما بلغها من عزم المصريين على التسليم ومعهم ابن الفرات، لكنها لم تكن تتوقع حدوث ذلك فعلًا إذ لم تكن على بينة من حقيقة حال الوطنيين ولا مقدار ما بلغوا إليه من الضنك. ولم يخطر لها أنهم يجسرون على مخابرة الأعداء وكان ينبغي أن لا يفوتها ذلك ولكن حكام ذلك العصر لم يكونوا يحسبون للأمة حسابًا، وإنما يهمهم احتلابها وابتزاز أموالها. أصبحتْ بنتُ الإخشيد في ذلك اليوم وهي تتوقع أن يأتي رجال الدولة يشكون إليها ما فعله ابنُ الفرات. وقبل نهوضها من الفراش أتتْها المواشطُ والولائدُ يخدمنها في ما تحتاج إليه من الغسل أو اللبس أو تسريح الشعر وتصفيفه. قضين في ذلك ساعة وَهُنَّ يتسابقن إلى استرضائها بالإطراء أو المجون. وهي في ذلك أَتَتْها جاريةٌ تقول: «إن صاحب الرقيق يستأذن على مولاتي.» قالت: «دعيه ينتظر في البهو الكبير ريثما أخرج. وهل هو وحده؟» قالت: «معه فتاة لعلها جارية.» قالت: «جارية سوداء؟» قالت: «كلا، بل جارية بيضاء جميلة لم أشاهد مثلها قبل الآن.» فاهتمت بنت الإخشيد بذلك الخبر وأمرت الماشطة أن تسرع في إلباسها، أما لمياء فكانت قد أقبلتْ مع ذلك النخاس على قصر بنت الإخشيد — وهو يمتاز بفخامة بنائه وبوقوف الحجاب ببابه — فمرت إليه في حديقة طُرُقها مرصفة بالحصى الملونة على أشكال الطير والوحوش فتقدمها النخاس وهي تتبعه حتى دخل باب القصر إلى ردهة واسعة فُرشت بالسجاد. وبعض السجاجيد عليها وشي جميل بأشكال الزهور أو بعض الحيوانات أو أبيات من الشعر، فاستقبلتْها القهرمانة قيمةُ القصر وعليها الأساورُ والدمالج وحول عُنُقها العقود حتى تكاد تنوء تحت أعبائها. فقالت لمياء في نفسها: «إذا كانت هذه القيمة فكيف تكون السيدة؟» فدعتهما القهرمانة إلى بهو الاستقبال فدخلا ولمياء تزداد شوقًا لمشاهدة بنت الإخشيد، وذهبت القيمة لإبلاغ الخبر وبعد قليل أقبلت السيدة وهي تجر ذيل ردائها الوردي وراءها وعلى رأسها عصابة مرصعة قلدت بها العالية أخت الرشيد وصفَّفت شعرها تصفيفًا خاصًّا لا يجسر أحدٌ من أهل الفسطاط على تقليده وشبكته بإكليل من الذهب بشكل طائر. وتمنطقت بمنطقة مزركشة لها عروةٌ مرصعة على شكل الكروبيم؛ قلدوا به بعض ما على الآثار المصرية من الرسوم. وأدركتْ لمياءُ قدومها من حركة الخدم في الدهليز، ومما تضوع من الطيب فوقفتْ ووقف النخاس وتقدم حتى أَكَبَّ على يد الأميرة كأنه يقبلها وفعلت لمياء مثل فعله فظهر التكلُّف في حركاتها؛ لأنها لم تتعودْ مثل ذلك. فحالَما رأتها بنت الإخشيد وقعت من نفسها موقعًا جميلًا وأعجبها ما في عينيها من المعاني السحرية والضعف زادها سحرًا. فتقدمت إلى لمياء ووضعت يدها على كتفها كأنها تحاول ضمها فاستأنست لمياء بها ووقفت مطرقةً، فأشارت إليها أن تجلس وجلست على مقعد من الأبنوس فرشُهُ مكسوٌّ بالحرير، وقالت: «من أين لك هذه الفتاة؟» قال: «هذه هدية مِن عبدك يعقوب بن كلس رآها لا تليق بأحدٍ سواك؛ نظرًا لِما هي عليه من الأدب والذكاء. وقد كلفني أن أنوب عنه في تقديمها.» فلما سمعت اسم يعقوب مر في ملامحها شيء من الانقباض، لكنها أظهرت الامتنان، وقالت: «إنها هديةٌ نفيسةٌ لا أظن يعقوب أهدى مثلها في حياته، فالظاهر أنه يلتمس منا خدمة بعد أن أغضب الوزير جعفر (ابن الفرات) … إن أولئك اليهود أمرهم عجيب … قد قبلنا هذه الهدية مع الشكر بارك الله فيك!» قالت ذلك ومدت يدها فاستخرجت خاتمًا من إحدى أصابعها ودفعتْه إليه فتناوله وقبله ومضى. وظلت لمياء صامتة، وقد أدهشها ما رأته من التبايُن العظيم بين حال الأمة المصرية وحال حكامها أو أهلهم، وقابلت بين بنت الإخشيد بمصر وأم الأمراء في القيروان. وترجَّح عندها قُرب سقوط هذه الدولة. وهي في ذلك أتى الحاجب فوقف قرب الباب فعلمتْ بنتُ الإخشيد أنه يُريد مخاطبتها في أمر فأومأتْ إليه فتقدم فقالت: «ما وراءك؟» قال: «إن بعض القواد الإخشيدية يلتمسون المقابلة.» فأظهرت استنكافَها وقالت: «دعهم ينتظرون.» ونهضتْ وأشارتْ إلى لمياء أَنْ تتبعها وسألتها «ما اسمك؟» فبغتت وأوشكتْ أن تقول اسمها الحقيقي، فبلعتْ ريقَها وقالت: «سلامة يا سيدتي.» فقالت: «اسمك جميل.» وصفقت ونادت القهرمانة فأتتْ فقالتْ لها: «كيف تَرَين هذه الفتاة المغربية؟» فنظرتْ إليها وهي تبتسمُ وقالت: «ما شاء الله إنها جديرةٌ أن تكون في قصرك.» قالت: «فإليك هي أفردي لها غرفةً خاصة ولتسترح الآن.» فأشارت مطيعة وانصرفت ولمياءُ تتبعها حتى أَدْخَلَتْها غرفةً بها نافذةٌ تطل على النيل فاستأنستْ بمجرى الماء، لكنها لم تأتِ إلى ذلك القصر وتركب ذلك المركب الخشن لتتمتع بالمناظر الطبيعية فأخذت تفكر فيما ينبغي أن تفعل، وتذكرت أن الحاجب أنبأ بنت الإخشيد وهي في حضرتها عن قُدُوم بعض القُوَّاد لمشاهدتها، وهي فرصةٌ ينبغي لها أَنْ لا تفوتها والوقت ضيقٌ لا يأذن بالتأجيل فأخذتْ تفكرُ في حيلة تستنبطها لحضور تلك الجلسة، لعلها تستطلع شيئًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/64/
الطعام
وإذا بالقهرمانة دخلتْ وهي تتهادى بمشيتها تيهًا وتشمخ بأنفها عجبًا. ولما دَنَتْ من لمياء وقفتْ لها تَأَدُّبًا فقالت القهرمانةُ «يظهر أنك وقعت من نفس مولاتنا موقعًا جميلًا لم توفق إليه غادة قبلك.» قالت ذلك وضحكت فبانت أسنانها متفرقة؛ لأن الزمان ذهب بنصفها. وكانت تلك القهرمانة جميلة في صباها لكن عيشة الرخاء أسمنتها وداهمتها الشيخوخة فجعلت جلدها طيات يتقطر العرق من بينها. وإذا مشت خطوتين لحقها التعب، لكنها — مع ذلك — كانت خفيفةَ الروح فاستأنستْ لمياء بها وسَرَّها ما سمعتْه مِنْ إعجابِ بنت الإخشيد؛ لأن ذلك يعجل ما ترجو الاطلاع عليه أو الوصول إليه في سبيل خدمة المعز. فأطرقت وقالت: «ليس في ما يدعو إلى إعجاب سيدتي الأميرة، ولكنها ربما أشفقت على الضعف الظاهر في وجهي.» فقطعت القهرمانة كلامها قائلة: «إن هذا الضعف يزيدك جمالًا ولطفًا … والآن فإن مولاتنا الأميرة كلفتني أن أُصلح من شأنك وآخذك إليها لتتناولي الغداء معها.» فشغلها ذلك التلطُّف عن التفكير بأبي حامد ورفيقه، واشتغلت القهرمانةُ بالإصلاح مِن شأنها فأَتَتْها بثوبٍ من الحرير الناعم الملون نسيج مصر وعليه صور تأخذ بالأبصار وحوله منطقةٌ مذهبة. وأخذت الماشطةُ في إصلاح شعرها وتضفيره على نسق خاص، فضايقها ذلك وتقدمت إلى القهرمانة أن تعفيها من هذا التصفيف فأجابتْها: «هكذا تريد مولاتنا.» فقالت: «اسأليها لعلها تعفيني؛ لأن ذلك يضر برأسي.» فمضت ثم عادت وهي تقول: «وهذا دليلٌ آخرُ على حب مولاتنا لك فإنها سمحت أن تكوني كما تشائين وأن تُسرعي في الذهاب إليها؛ فإن المائدة قد أعدت.» فسرحت شعرها بيدها تسريحا بسيطا وضفرته ضفيرتين أرسلتهما إلى الوراء إلا خصلًا صغيرة أرسلتها على الصدغين وأبت الاكتحال أو التزجج وبين يديها جارية سوداء تحمل لها المرآة فنظرت إلى وجهها فيها فرأت أنها أجمل مما كانت تظن، ثم مشت في أثر القهرمانة في دهليز يؤدي إلى قاعة واسعة في صدرها دكةٌ مرتفعةٌ قد نصبت عليها المائدةُ ويُشرف الجالسُ إليها على ضفافِ النيل فيرى السفن ذاهبةً جائيةً ووراءها جزيرةُ الروضة وفيها الأبنية الفخمة وفي جملتها المقياس. ووراء ذلك بر الجيزة إلى الأهرام والقاعة مفروشةٌ بالبسط والسجاد مثل أكثر غُرَف تلك الدار غير الأرائك والوسائد والمقاعد وكلها مذهبةٌ أو منزلة وقد أُرخيت الأستار المزخرفةُ على الجدران التي تكسوها، ومنها ستارةٌ في عرض القاعة مرفوعة بأمراس من الحرير ترخى عند الحاجة فتحجب مجلس الأميرة عن سائر الجلوس. دخلت لمياء وبنت الإخشيد متكئةً على ذلك المقعد والمطرف على جنبيها يأخذ لمعانه بالأبصار، والمائدة بجانبها عليها الأطعمة وقد وقف الخدم من الجواري يحملن الأطباقَ فيها الحلوى أو الفاكهة، وهُنَّ في أجمل ما يكون من الأثواب وتصفيف الشعور إلا لمياء، فإنها على بساطتها. فتقدمت القهرمانة أولًا وأنبأت السيدة بنت الإخشيد بقدومها وانصرفت فدخلت سلامة (لمياء) وعليها ذلك الثوب الباهر الذي زاد وجهها إشراقًا وهيبة. ولم تتمالكْ بنت الإخشيد عند دخولها عن الجلوس ووسعت لها مجلسًا على المقعد ودَعَتْهَا إلى القُعُود بجانبها فقعدتْ فرحبتْ بها وقالت: «إن هدية بن كلس اليوم قد كفَّرت عن سيئاته وسيئات شيعته.» وضمتها وقبلتها ولمياء مطرقة وقد زادها الحياء وقارا، والحياء من أجمل ما تزدان به المرأة بل هو أجمل أثواب زينتها الحقيقية. ثم تقدمتْ بنتُ الإخشيد إلى لمياء أن تتناول الغداء معها، وأشارتْ إلى خادمٍ بيده طبقٌ أن يضعه على المائدة بين يديها وفيه سكباج، فتناولت قطعةً وناولت لمياء قطعة؛ تشجيعًا لها فأطاعتها وتناولت مما حضر من الألوان. ولم يكن بينها شيء لم تعرفه إلا لونًا في جام أنكرته ولم تستلذ طعمه. ولحظت بنت الإخشيد ذلك فقالت: «يظهر أنك لم تستطيبي هذا اللون مع أَنَّ الدرهم منه يكلف مئات الدنانير، إنه مصنوعٌ من أدمغة نوع من الطير لا يوجد في غير مصر، ونحن ننفق في جمعه الأموال الطائلة؛ لأن دماغه كثير الغذاء واللقمة منه تغني عن عدة أطباق من أطعمة أخرى.» ثم أمرت بالحلوى فأتَوا بعشراتٍ من أشكالها بين معاجين ومطبوخات وفاكهة، ويقدمون في أثناء الطعام باقات الأزهار الطيبة الرائحة غير ما يَرُشُّونه في أرض القاعة من ماء الزهر أو العطر وما يحرقونه في المباخر المنصوبة بين الأبواب من الندا أو العود. وكان في جملة ما قدموه على المائدة سائلٌ محمرُّ اللون (خمر) لم تعرفْه لمياء ولا مدت يدها إليه، بل هي حالَما وقع بصرُها عليه اقشعرَّ بدنُها؛ لأنها تذكرت الشراب الذي ذهب بحياة أبيها. على أنها كانت تنظر إلى كل ذلك بعين الاستغراب وتقابل بين ما كانت تراه من تقشف المعز وأم الأمراء والأموال عندهم في الخزائن وسلطانهم في إبانه وبين ذلك الرخاء — والبلاد في ضيقٍ والناس يتضورون جوعًا. وكانت بنت الإخشيد تأكل بنهم ولذة وتعجب لتعفف لمياء وتحسبها تفعل ذلك من علة؛ لأنها تعودتْ أن ترى غاية الإنسان في دنياه أن يتمتع بالملذات على اختلاف أشكالها وضروبها. ولا تقدر تتصور أحدًا يمتنع عن لذة إلا إذا عجز عن نيلها، ذلك شأن المنغمسين في الشهوات، وهم يكثرون في أواخر الدولة قرب سقوطها؛ إذ تذهب ملذاتُهُم العقلية أو الأدبية بذهاب مجدهم ونفوذهم فلا يبقى لهم غير الملذات البدنية فينصرفون إليها فلا تَزيدُهُم إلا ضعفًا وانحطاطًا. إن ملذات الرجال في أوائل الدولة تقوم بالنصر أو الفوز والمسابقة في الفتح أو نيل المناصب وتقويمها وتوسيع دائرتها، لا تهمهم الملذات البدنية إلا قليلا، فإذا ذهب المجدُ وأخذ أصحابه بالتقهقر لا يبقى غير هذه الملذات. أمرت بنتُ الإخشيد برفع المائدة وقد امتلأتْ معدتُها وانتفختْ عروقها وأسرعت دورتها وبان ذلك في عينيها واستلقت على ذلك المقعد. وأحبت لمياء أن تنتقل إلى المقعد الآخر فأمسكتها وأقعدتها بجانبها وأخذت تحادثها فبدأت بالسؤال عن بلدها فقالت: «من أين أنت يا سلامة؟» فلم تعرف ما تجيب؛ لأنها لا تُريد أن تكذب ولا أن تقول مَنْ هي فأجابتْ جوابًا وسطًا، فقالت: «إني من إفريقية (بلاد المغرب).» فوقع اسمُ إفريقية وقعًا شديدًا على سمعها؛ لأنه شغلها الشاغل منذ عدة أشهُر فتصاعد الدمُ إلى وجهها لكنها تجاهلتْ وابتسمت وقالت: «إن إفريقية واسعةٌ فمِن أي قسم منها؟» فقالت: «إن الجواري يا سيدتي لا يُطلب منهن معرفة أنسابهن؛ لأنهن ينتسبن إلى مواليهن فأنا الآن في دار السيدة بنت الإخشيد وإنما أنتسب إليها وكفى.» فاستحسنتْ جوابها الدال على الذكاء، وأحبتْ تبديل الحديث وإذا بالحاجب دخل وقال: «القواد الإخشيدية لا يزالون في انتظار الإذن لهم بالمقابلة يا سيدتي …» فتأففتْ وهزتْ رأسها، وقالت: «أقلقوا راحتي بمقابلاتهم … ما أصنع لهم؟ هذا أميرهم أحمد فلْيقابلوه …» قالت ذلك ونظرت إلى لمياء. فرأت لمياء أن لا تضيع هذه الفرصة فابتسمت ابتسامة مسايرة وقالت: «صدقت يا سيدتي إن هذه المقابلات تزعجك، لكنك تعلمين أن الرأس كثيرُ الأوجاع، ولولا ثقتهم بتعقُّلك وسداد رأيك لم يطلبوا مقابلتك. فإذا جاز لي أن أُشير عليك أرى أن تأذني بدُخُولهم وتشجيعهم وتنصحي لهم فإن أميرهم صغير السن …» فقطعت بنتُ الإخشيد كلامها قائلةً: «أحسنت يا سلامة، لكنني لا أستطيع مجالستهم الآن بعد الطعام فأرى أن أؤجل الاجتماع إلى المساء.» فقالت: «ذلك لك إذا شئت، لكنني لا أظنهم يلحون للاجتماع في هذه الساعة إلا وهم في أشد الحاجة إليه وإذا استثقلت الانتقال إلى قاعة أُخرى ادعيهم إلى هنا وأنزلي هذا الستر بينك وبينهم وخاطبيهم بما تُريدين.» فأعجبها هذا الرأي كثيرًا؛ لأنها يمكنُها أن تتمتع براحتها في الجُلُوس أو الاتكاء، وقالت: «هذا الرأيُ صوابٌ على شرط أن تبقي أنت معي.» ففرحت لمياء بتلك الدعوة — وهي غاية مناها — لكنها قالت: «إذا لم يكن بأسٌ من وجودي فإني باقيةٌ حسب أمرك …» قالت: «إن وجودك يؤنسني … ولا تستغربي ما ترينه من إعجابي بك لأول مرة رأيتك فيها فإني لم أجد هذه الأخلاق في واحدة من الجواري فأنت أميرةٌ بأخلاقك.» ثم التفتتْ إلى الحاجب وقالت: «إذا شاء القُوَّاد فليتفضلوا إلى هنا.» وأمرت بعضَ الخدم أن يُرخوا الستر فأصبحت القاعةُ قاعتين بينهما ذلك الستر، وهو من الديباج المطرز، وفيه ثقوبٌ تَرى منها مَن شاءت من الجلوس ولا يرونها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/65/
الجلسة
ولبثتْ لمياء جالسة وهي تنظر من أحد الثقوب؛ لتتعرف الداخلين وما لبثتْ أن سمعت وقع الأقدام وقلقلة السيوف وإذا بثلاثة عليهم الألبسة الفاخرة والعمائم الصغيرة والدراعات المزركشة مما يلبسه كبار القواد. وقد تقلد كُلٌّ منهم سيفًا يجر إلى جانبه وحالما دخلوا ألقَوُا التحية فأمرتهم بنت الإخشيد بالجلوس وهمست للمياء: «هؤلاء ثلاثةٌ مِنْ قُوَّادِ جُنْدِنا المخلصين، ويعرفون بالإخشيدية نسبةً إلى والدي الإخشيد — رحمه الله.» فأظهرتْ لمياء الإعجاب، فقالت بنت الإخشيد بصوت عالٍ: «مرحبًا بقوادنا الأجلاء، عسى أن يكون مجيئكم لخير.» فأبطئوا في الجواب هنيهة لحظت لمياء في خلالها أن كلًّا منهم يدعو الآخر للكلام. ثم تصدى أكبرهم سنًّا وقال: «إننا جئنا لخير — إن شاء الله — ونأسف أننا أزعجنا مولاتنا بمجيئنا، ولكننا لم نَرَ بُدًّا من ذلك والعدو على الأبواب وهؤلاء الكافورية لا يزالون ينازعوننا على هذه الدولة. وكُنَّا نحسب مبايعةَ مولانا الأمير أحمد تُوقفُهُم عند حدهم فيكفون عن تعدياتهم فإذا هم على ما كانوا عليه يفسدون الجُند علينا ويُوغِرُون القلوب على مناوأتنا والوزير جعفرٌ لم يَزْدَدْ إلا استبدادًا في الدولة وقد قبض على الأموال فلم يترك بيضاء ولا صفراء. وقد بَلَغَنا أنه كَاتَبَ العدوَّ بالتسليم فهل ترضى مولاتنا بهذا العمل، أم هو استخف بأميرنا؛ لأنه صغير السن؟» فقالت بنت الإخشيد: «أنا لا أرضى بذلك … هذا لا يكون أبدًا … نسلم البلد إلى العدو وعندنا الجند والقواد؟ كيف يفعل الوزير ذلك. لا بد من عزله.» فأجاب أحد القواد: «إنما فعل ذلك بإيعاز الكافورية؛ لأنهم على رأيه وقد ساءهم كما ساءه أن يعود الأمر إلى نصابه ويتولى الملك أهله وأصحابه وقد خرج من أيديهم فأرادوا أن يخرج من يد أميرنا ولو صار إلى عدونا …» قال ذلك والحنق بادٍ في كلامه. ولم تكد بنت الإخشيد تتدبر كلامه حتى سمعتْ ضوضاءَ ببابِ القاعة، ثم دخل بضعةُ رجال عرفتْ أنهم مِن قواد الكافورية، وكأنهم كانوا بالباب وقد سمعوا الطعن بهم وأرادوا الدخول فمنعهم الحجابُ، فدخلوا قهرًا وتصدى واحدٌ منهم للكلام ووجهه إلى الطاعن وقال: «تقولون إنا أفسدنا الدولة وإنها لكم وقد اختلسناها مدة. إننا لم نختلسها ولولا أميرنا كافور — رحمه الله — لصارتْ هذه الدولة في خبر كان. فهو الذي حفظها ونظمها وثَبَّتَ دعائمها مِن أول أمرها منذ تولاها مولانا الإخشيد — رحمه الله — فقد كان له خير نصيح ومشير ولو ظل كافور حيًّا إلى الآن لم يجسر العدو على حربنا. وها أنتم ولاة الأمر الآن، فأخرجوا العدو من الدار.» فأجابه الإخشيدي: «نعم إننا نخرجهم إذا تركتمونا ولم تمالئوهم وتطلبوا صلحهم … دعونا إننا نعيدهم على أعقابهم …» فصاح فيه قائد آخر: «ويحك تقول ذلك بجسارة بين يدي مولاتنا. تقول إننا نمالئ الأعداء؟» فأجاب: «نعم إنكم تمالئونهم ألم يكن الوزير جعفر سيدكم ونصير أميركم وهو الآن يخابر الأعداء في طلب التسليم …» فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «إنه يفعل ذلك برأينا … ومع ذلك فقد أحسن صنعًا … إن دولتكم قد شاخت وإذا أنكرتم ذلك هلم إلى العدو وحارِبوه وأخرجوه.» فحمي غضب الإخشيدية وصاحُوا بصوت واحد: «إننا لا نقبل هذه الإهانة وخصوصًا بين يدَي مولاتنا ومولاتكم.» وتقدم أحدُهُم ويدُهُ على قبضة حسامه وقال: «والله لولا حرمة هذا المكان لضربْت أعناقكم بهذا الحسام وألحقتكم بأميركم العبد الأسود الذي تفاخروننا به … صدق فيه المتنبي (إشارة إلى هجوه إياه).» فتصدى رجل من الكافورية واستل حسامه وقال: «ويحك تطعن في الأموات … إنها وقاحةٌ لم يكن لمولاتنا بنت الإخشيد أن تسكت عنها.» وعلت الضوضاء فصفقت بنت الإخشيد وصاحت: «ويحكم ما هذا؟ تتشاتمون في حضرتي! وأغرب من ذلك أن نسمع الطعن في أسلافنا بأذننا هذا أمرٌ لا نرضاه وليس هذا وقتَ الخصام والعدو بالباب … وأنتم يا أصحاب كافور إن كافورًا كان خادمًا أمينًا — رحمه الله — فما بالكم تفاخروننا به أما إمارته فقد كانت فلتة انتحلها لنفسه أو انتحلها له بعضُ أصحاب الأغراض، وزعم أن الخلعة أتتْه من بغداد … ما لنا ولهذا الآن إنه خصام في غير أوانه …» فوقف الكافورية جميعًا، وقال كبيرُهُم: «أما وقد سمعنا هذه الإهانة مِن فم مولاتنا فلم يَبْقَ لنا إلا أن نخرج ونترك الأمر لأصحابه وولاة أمره.» قالوا ذلك وانسحبوا بعجلة والغضب بادٍ في كل حركة من حركاتهم. وكانت لمياء في أثناء ذلك لا تزداد إلا وثوقا بنجاح جُند المعز. فقد رأتْ بعينها وسمعتْ بأذنَيها اختلال أُمُور الدولة وانقسام قُوَّادها وتباغضهم مما لا سبيل إلى إصلاحه. فلما خرج الكافورية التفتتْ بنت الإخشيد إلى لمياء كأنها تستشهدها على هذه الوقاحة، وقالت: «أرأيت أجهل من هؤلاء … ويلاه كيف نحارب الأعداء … إننا لا نقوى على حربهم …» فاستبشرت لمياء بالفوز وقالت: «يسوئني يا سيدتي أن تكوني قد نطقت بالصواب وعسى أن تكوني مخطئة.» وكأن بنت الإخشيد ندمت على ما فرط منها فاستأنفت الكلام قائلة: «بل أنا مخطئة لا … لا أُريد أن أتصور ذلك ولو بالحلم. يدخل البلاد عدوٌّ غريبٌ يحكم في رقابنا؟» ورأت أنها كان ينبغي لها أن تستعطف الكافورية باللين وأنها أخطأتْ بما قالتْه فأرادتْ أن تلقي التبعة على سواها شأن ضعيف الرأي في مثل هذه الحال. فالتفتتْ إلى الإخشيدية وكانوا لا يزالون واقفين يتحدثون بما أتاه الكافورية، وقالت: «لم يكن ينبغي لكم أن تُجافُوهم بمثل هذا الكلام وهم إخوانُكُم وعليهم المعول في الحرب فأغضبتموهم.» فأجابها أحدُهُم: «وأنت يا مولاتنا تلقين هذه التبعة علينا؟ وقد سمعت الإهانة التي لحقتْ بنا وبك وبسائر آل الإخشيد. فليكن ما تشائين … أو لعلنا أخطأنا بمبايعة الأمير أحمد مع صِغَرِ سنه، لكننا لم نفعل ذلك إلا اعتمادًا على نصرتك، فإذا كنت ترين أننا غير كفء لشيء فلنذهب.» قال ذلك وتحول وتبعه رفاقُهُ. فأحستْ بنتُ الإخشيد عند ذلك بضعف العزيمة، وأنها أصبحتْ منفردة لا نصير لها إلا إذا تذللت واستعطفت فانقبضتْ نفسُها وبان الانقباضُ في وجهها وسكتت هنيهةً ولمياء تراقب حركاتها وتقرأ ما يجول في خاطرها. فلما رأتْها في تلك الحال قالت: «ما بال سيدتي كئيبة … أمن أجل كلمة تنقبض نفسك؟» فتنهدت وقالت: «آه يا سلامة ليس من أجل كلمة ولكن هؤلاء لا يقدرون العواقب وقد خرجوا من هذه الجلسة أخصامًا يتوعد بعضهم بعضًا وهم يدُنا وساعدُنا وجندُنا، فبمن نحارب عدونا؟ لا نصالح ولا نقدر أن نحارب. ويلاه ما العمل!» ودمعت عيناها. فأكبت لمياء عليها وضمتها وقبلتها وقد أشفقت عليها وقالت: «لا بأس عليك يا سيدتي لا تخافي.» فاستأنست بذلك الحنو وقالت: «كيف لا أخاف؟ وإذا كان العدو كبيرًا كما يظنون وقدر له الغلب ماذا يصيبني؟» قالت: «لا يصيبك شيء يا مولاتي.» قالت: «لا تلطفي الأمر علي …» قالت: «إني لا ألطفه ولا يجب مع ذلك أن تيأسي من النصر، ولكن هبي — لا سمح الله — أن العدو اغتنم هذا الضعف وتغلب فأنت في أمان؛ لأن هؤلاء المغاربة مع كونهم أعدائكم أقربُ إلى الضن بكم من هؤلاء الأجناد المتمردين.» فرأتْ في لهجتها شدةً وعزيمةً فقالت: «وكيف عرفت ذلك؟» قالت: «أعرفُهُ بالاختبار؛ لأني من بلاد المغرب — كما تعلمين — وكان سيدي الأول له علاقةٌ كبيرةٌ بأهل القيروان وتعرَّف إلى المعز وقائده، وكثيرًا ما سمعتُهُم يتحدثون وعرفتُ طباعَهم، إنهم أقرب إلى الخير من هؤلاء الأجناد و…» فقطعت كلامها قائلة: «هل تعرفين المعز وقائده؟» قالت: «نعم يا سيدتي أعرفهما معرفة جيدة وهما يعرفانني أيضًا.» فضحكت من السرور بهذه البشارة وأحست بنفوذ تلك الفتاة وأحبت أن تقول شيئًا فمنعها الحياء وحالت دونه الأنفة فأدركت لمياء غرضها فبادرتها قائلة: «انظري يا مولاتي … إن ما لقيته من لطفك ومحبتك يوجب علي أن أغار على مصلحتك، فإذا أذنت لي أقول كلمة.» قالت: «قولي.» قالت: «إنكم الآن في حرب مع المغاربة وسمعت الآن أن ابن الفُرات ساعٍ في الصلح فإذا وفق إليه كُوني على ثقة أنك تكونين معززة مكرمة، فإني أعرفُ أُم الأمراء زوج المعز، وهي مِنْ أَلْطَفِ خلق الله وتُحبني حبًّا جمًّا. فأنا ضامنةٌ كرامتك. وإذا لم يُفلح ابنُ الفُرات بالصلح وجرتْ حربٌ فإذا فاز المصريون فأنتِ صاحبةُ السيادة طبعًا. وإذا غلبوا على أمرهم فأنا أفديك بروحي وأكون وسيلة لحفظ كرامتك وأموالك، كوني براحة.» ففرحت بنت الإخشيد بهذا الوعد، ولكنها أحست بصغر النفس وندمت على تصريحها بما قالتْه وخافت أن تستضعفها لمياء أو تحتقرها فقالت: «ولكن الفوز مع ذلك راجح لنا بإذن الله.» فقالت لمياء: «إن النصر مِن عند الله يؤتيه من يشاء … لكني قلت لك ما أستطيع أن أخدمك به والأمر لله.» فضمتها بنت الإخشيد إلى صدرها وقالت: «إني أشكرك يا عزيزتي في كل حال …»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/66/
جلسة أخرى
وكانت الشمسُ قد مالتْ إلى الأصيل وتحفزتْ بنتُ الإخشيد للنهوض، فوقع بصرُها على قارب يجري في النيل بسرعة فالتفتتْ لمياء وتفرست بمَن فيه فلم يَطُلْ تفرسها حتى رأت فيه جماعة فيهم أبو حامد وسالم، فخفق قلبُها وارتعدت فرائصها وعلتها البغتة وتوردت وجنتاها لكنها تجلدت وتجاهلت فقالت بنت الإخشيد: «هل ترين ذلك القارب؟ يظهر أنه قادمٌ إلينا وقد تعبنا اليوم من المقابلات.» قالت ذلك ونهضت حتى أَطَلَّتْ من الشرفة ولمياء معها فرَأَتَا القارب وقف عند المسناة بقُرب باب القصر فقالت: «إنهما قادمان إلينا — بلا شك — فهل أقابلهما؟» قالت لمياء: «تسألينني يا سيدتي؟ إني لا أرى بأسًا من المقابلة من وراء هذا الستر لعل مع القادمين خبرًا جديدًا، فإذا أعجبنا استفدنا منه، وإلا أهملناه.» قالت: «لله درك من حكيمة عاقلة … يا ليتني ظفرت بك من قبل.» وبعد هنيهة جاء الحاجبُ يستأذنُ لرجلين مِن أعيان المغرب. فأذنت بنتُ الإخشيد في إدخالهما وأخذ قلبُ لمياء بالخفقان حتى خافت أن تخونها عواطفها فتشاغلت بالالتفات إلى النيل لئلا يبدو ارتباكُها. ثم دخل الرجلان فرأت من وراء الستر أنهما أبو حامد وسالم فجعلتْ تُغالب عواطفها لترى ما يكون، وهي تتوقع أن ترى شيئًا جديدًا يتم لها به ما كشفتْه في تلك الجلسة، وكان قد أقلقها ما سمعته من القبض على الحسين. فلما دخلا ألقيا التحية — كالعادة — فأمرت لهما بنت الإخشيد بالجلوس ورحبت بهما ولمياء تتفرس فيهما فرأتْ سالمًا على غير ما تعرفُهُ من الجمال فظنتْ أن السفر غَيَّرَه والواقع أن ما عرفته من خيانته وغدره قَلَّلَ كثيرًا من جماله، بعضه من تأثير الاحتقار والبعض الآخر من تأثير العواطف على الملامح. فإن الرجل ضعيف الخلق قد ينشأ وفي وجهه هيبة وأنفة فإذا توالى عليه الذل ظهر في سحنته شيء منه. فلا غرابة لما ظهر لها من تغير سحنته وقد مضت سنة وبعض السنة وهو ينقاد لأبي حامد ويظهر بما يريده له من المظاهر المختلفة، أما أبو حامد فقد كان أقوى خلقًا وأثبت عزيمة. يدلك على ذلك بقاؤه على المطالبة بدم أبي عبد الله الشيعي دهرًا لا يرى لنفسه عنه متحولًا رغم ما لقيه من الفشل على أنواعه، وآخر فشله في أمر كافور وقد أوشك أن ينجح لو بقي كافور حيًّا ولم يصب جند مصر ما أصابه من الانقسام. ومع علمه بانقسام الجند وضعفه فإن عزمه لا يزال ثابتًا ولم يرجع عما عزم عليه منذ أعوام وهو يسوق سالمًا معه فيطيعه ويقول بقوله. فلما جلسا بعد إلقاء التحية قالت بنت الإخشيد: «مرحبًا بالأضياف، من أين أتيتم؟ ومتى كان قدومكم؟» قال أبو حامد: «أتينا مصر منذ بضعة أشهُر، ونحن من أمراء المغرب في سجلماسة، أصابنا ما أصاب سائر أمراء المغرب من ظلم العبيديين ففتحوا بلادنا واستبدوا فينا وطلبوا إلينا التسليم فلم نقبل فأتينا مصر لنعيش في ظل الإخشيديين حيث لا يقع بصرُنا على أحد من أعدائنا ولعلنا نستطيع خدمة لهذه الدولة. وقد بلغنا أمس أن دعاة الخلافة بالمغرب زحفوا على مصر بقيادة المملوك الصقلي فصرنا نتوقع أن تجتمعوا لدفعهم؛ لأن هذا الأمر يهمنا كثيرًا وعدو عدوى صديقي. لكننا سمعنا بما أصاب قُلُوب بعض القواد والوزراء من الخوف حتى تحدث بعضُهُم بطلب الصلح. فاستغربنا هذا الضعف وأحببنا أن نُبرهن للأجناد خطأهم فلم نر أوجه من بنت الإخشيد؛ لأن الأمير حفيد أخيها وهو غلام فهي صاحبة الصوت الأقوى.» وتنحنح أبو حامد ومسح شاربيه بيده وأرسلها على لحيته وحك عثنونه. فقالت بنت الإخشيد: «بارك الله فيك ما الذي جئتنا به من أسباب الاطمئنان؟» قال: «إن ما جئتك به يا مولاتي إنما هو أن أسعى في التوفيق بين القواد الإخشيدية والكافورية. وهذا لا يكون إلا أن أُثبت لهم أن جُند المغاربة لا يستطيع أن يفتح هذه البلاد؛ لأن انقسامهم إنما وقع بسبب خوفهم من الفشل وهذا طبيعي في كل زمان ومكان، لا يختصم شريكان إلا إذا خسرت تجارتهما. فإذا برهنتُ لهم — على يدك — أن أولئك الدعاة لا يمكن أن يفتحوا مصر تشددوا واتحدوا وطردوا العدو عن بلادهم.» فأُعجبت بنت الإخشيد بفصاحته وقوة حجته ونظرتْ إلى لمياء فوجدتها مصغية بكليتها ولم تنتبه إلى ارتباكها فقالت لأبي حامد: «وما هو دليلك؟» قال: «دليلي أن قائد جند المغاربة رجلٌ اسمُهُ جوهرٌ الصقلي، ولهذا الرجل غلام اسمه الحسين وهو عزيز عليه، فعلم الحسين هذا بمال كنا قد خبأناه في بعض الأماكن قرب سجلماسة لنستعين به على استرجاع ملكنا، فاغتنم غيابنا وذهب بشرذمةٍ من الجند ليقبض ذلك المال، لكن رجالنا هناك قبضوا عليه وأرسلوه إلينا مغلولًا، فإذا شئت دفعناه إليك ليكون رهنًا تهددون به أباه إن توهم اقتداره على مصر.» وتذكرت بنت الإخشيد قول لمياء إنها تعرف المعز وقائده وسائر رجال الدولة في القيروان، فلما سمعت ما قاله أبو حامد عن الحسين بن جوهر التفتت إليها فوجدتْها لا تزال شاخصة تتطاول بعنقها لسماع بقية الحديث فقالت لها همسًا: «هل تعرفين الحسين بن جوهر؟» قالت: «نعم أعرفه وأحب أن تأمري بإحضاره لئلا يكون هذا الرجل كاذبًا.» قالت: «وهل تعرفين هذين الرجلين؟» قالت: «نعم رأيتهما في القيروان، وسمعت عنهما ما يُضعف الثقة بهما، فإذا أمرتِ بإحضار أسيرهما لنراه كان ذلك أقرب إلى التحقيق.» فالتفتت بنت الإخشيد من وراء الستر وقالت: «أين هو ذلك الأسير.» قال أبو حامد: «هو عندنا وإذا شاءت مولاتي أتيناها به.» قالت: «افعل، ولك الفضل.» فأشار أبو حامد إلى سالم أن يمضي لاستقدامه فمضى، ولبثت لمياء على مثل الجمر تتماسك وتتجلد؛ لئلا تغلبها عواطفها وهي تحب أن يكون كاذبًا في قوله فيكون الأسير المزعوم رجلًا آخر، لكنها ما لبثت أن سمعت ضوضاء قرب الباب وسالم يقول: «تقدم يا جبان لتراك مولاتنا بنت الإخشيد.» فتطاولت لمياء بعنقها حتى وضعت عينها على ثقب الستر وإذا بالحسين نفسه داخل والأغلال الحديدية في عنقه ويديه لكنه مشى بقدم ثابتة والتفت إلى سالم وقال له: «متى رأيتني أحاول الفرار حتى تدعوني جبانا؟» فالتفتت بنت الإخشيد إلى لمياء لتستطلع رأيها في الرجل فرأتها ترتعد وقد احمرت عيناها وكادت تغلب على أمرها فقالت: «هل هذا هو الحسين كما يقول؟» فأشارت برأسها أن «نعم» ولم تَفُهْ بكلمة؛ لئلا يختنق صوتها فينفضح أمرها فاستغربتْ بنت الإخشيد ما بدا من اضطرابها لكنها وجهت خطابها إلى الحسين قائلةً: «هل أنت الحسين بن جوهر قائد جند المعز؟» فأجابها وهو رابط الجأش ثابت الجنان: «نعم أنا الحسين بن جوهر، فاتح أفريقية وقائد جند المعز، وسيفتح مصر عن قريب.» فوخزه سالم بيده وقال: «اخرس يا نذل، أبمثل هذه الوقاحة تخاطب مولاتك؟» فرفسه الحسين برجله وقال اخرس أنت إنها مولاتك أنت، ولعلها لو عرفتك تبرأتْ من هذه الولاية أما مولاي فهو المعز لدين الله الفاطمي.» فتصدى أبو حامد للكلام — وهو يضحك ضحك الاستخفاف — وقال: «ألا تزال تسمي ذلك الدعي فاطميًّا وفاطمةُ بريئةٌ من نسبه؟» فقال الحسين: «إنه فاطمي رغم خيانتك وغدرك.» فقالت بنت الإخشيد: «الذي أوقعك في هذا الأسر، ما كان أغناك عنه.» قال: «وقعت فيه تفانيًا في خدمة مولاي المعز، وقد فزت — والحمد لله — بما أردت فأخذت المال الذي خزنوه في فج الأخيار وبعثت به إلى القيروان وهو الآن مع والدي وقد صبوه قطعًا كالأرحية حملوها معهم على الجمال …» قال أبو حامد: «لا تكذب!» قال: «إنما الكاذب أنت! إني قد فعلت ما يُطلب مني وأرسلت ذلك المال إلى مولاي المعز، وسيستعين به في فتح مصر، ولا يغرنك ما أتاه رجالُك من الخيانة في القبض عليَّ؛ فإن ذلك غير ضائري. قد قمت بما علي وإذا مت الساعة لا أبالي؛ فإن الأعلام الفاطمية لا تلبث أن تخفق فوق الفسطاط وإذا لم أوفق إلى رؤيتها وأنا حي فإن عظامي تراها وتفرح.» فأُعجبت بنت الإخشيد بتلك الجسارة التي لا تقدر أن تتصورها ولا سمعت بمثلها لما نشأت عليه من الخمول والرخاء، فالتفتت إلى لمياء فرأتْها — مع عظم تأثرها — قد غلب البشر على محياها فقالت لها همسًا: «أستغرب ما أسمعه.» قالت: «لا تستغربي يا سيدتي؛ فإن ذلك شأن أولئك الأقوام وهم لم يفتحوا أفريقية إلا بمثل هذا التفاني.» قالت: «ومع ما سمعته من هذا الشاب فإني شعرت بانعطاف إليه ولم يعجبني تطاوُل هذا السجلماسي.» فلم تتمالك عن الانتصار لحبيبها فقالت: «فكيف لو علمت الفرق بين الرجلين بالأخلاق.» قالت: «هل تعرفين شيئًا عنهما؟» قالت: «إن أهل القيروان يتحدثون بذلك … أما الآن فإذا شئت فمري أن يكون هذا الأسير في دارك ولينصرف ذانك وتري ما يأتي به الغد.» قالت: «أحسنت الرأي وقد أصبحت لا أُطيق أن أرى الحسين مغلولًا.» وصفقت فأتى بعضُ غلمانها فقالت: «خذ هذا الأسير إلى غرفة يقيم فيها حتى ننظر في أمره لكن احللْ وثاقه؛ إذ لا خوف من فراره.» فتناوله الغلام بيده وخرج فوقع هذا العمل من لمياء موقعًا جميلًا وكاد قلبها يطير من الفرح. ولحظت بنت الإخشيد ذلك فيها فظنتْها فعلتْه لشعور مثل شعورها فعذرتها والتفتت إلى أبي حامد وقالت: «سننظر في ما عرضته علينا وسأقص ما رأيته على قوادنا فعسى أن ينفعنا ذلك.» ففهم أبو حامد أنها تطلب انصرافهما فنهض وخرج مع سالم وقد سقط في أيديهما وإن لم يفهما ما جال في خاطرها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/67/
الرأي
ونهضت بنت الإخشيد للحال وهي تتثاءب وتقول: «ما أشغل هذا اليوم وما أثقله؛ فقد تعبت من المفاوضات، إن هذا لا يستطيعُهُ إلا كبار الرجال وقد أخطأنا بتولية هذه الإمارة غلامًا صغيرًا.» فنهضتْ لمياء معها والشمسُ قد غربت وأخذت الظلال تتكاثف وتتحول إلى ظلام؛ وأصبحت تود الاختلاء بنفسها للتفكير في ما تراكم في ذهنها من الحقائق الجديدة وما أصاب قلبَها من الصدمات المتوالية فرأتْ بنت الإخشيد تحولت إلى غرفتها وأشارت إليها أن تتبعها فأطاعتْ وقد أدهشتها تلك الغرفة بما فيها من الرياش الثمين وفي صدرها سريرٌ من الأبنوس المنزل بالعاج والذهب فوقه ناموسية من الحرير الشفاف (الملس) وكل ما في الغرفة زاهٍ زاهر عكس قلب صاحبته المسكينة، فإنها تحولت من تلك الجلسة وقد تراكمت عليها الهموم والمخاوف ولم تكن تشعر بشيء من ذلك قبلًا. وأصبحت شديدة التعلق بلمياء ولا سيما بعدما آنستْه من تعلقها والخدمة النافعة التي عرضتها عليها فأحبت أن تتوثق منها. فجلست على سريرها وأمرتْ لمياء أن تقعد بجانبها فقعدت، وهي تفضل الخلوة لكنها أطاعتها ولحظت ما هي فيه من القلق فاشتركت معها في إحساسها وشعرت أنها امتلكت قلبها، ظلتا هنيهة صامتتين وبنت الإخشيد مطرقة ويمناها على كتف لمياء واليسرى على قلبها كأنها تتقي صدعًا أصابه. ثم تنهدتْ ونظرت إلى حولها لتتحقق خلو المكان من الناس ثم التفتت إلى لمياء وضمتها إلى صدرها وقبلتها في عنقها وأطالت تقبيلها فشعرت بسائل حار يقع على عنقها فأجفلت وعلمت أن بنت الإخشيد تبكي وهي تحبس نفسها لئلا تلحظ لمياء ضعفها. فتلطفتْ لمياء ورفعتْ رأسها وضمتها وهي تقول: «ما بالك يا سيدتي؟ خففي عنك … إني لا أرى باعثًا على ذلك … ومن كان في ما أنت فيه من الوجاهة والنفوذ لا يستغني عن أمثال هذه المشاكل.» فرفعت رأسها وتنهدت ثانية وقالت: «لا تعجبي من إبداء ضعفي بين يديك في أول يوم عرفتك فيه فإني أشعر كأني أعرفك منذ أعوام. وقد اطلعت على حالنا الليلة فأشيري علي … أشيري يا حبيبتي.» فسُرَّت لمياء من وثوق تلك المرأة بها وأحست فعلًا بالعطف عليها، واستغربت انقلابها بهذه السرعة عما كانت عليه من الزهو والتيه لَمَّا قابلتها في ذلك الصباح. وشاركتها بالبكاء وليس أسهل عليها من إرسال الدمع فإن مصائبها تترى وإحساسها حي فقالت: «هوني عليك يا مولاتي إني لا أرى باعثًا على هذه الشكوى. وقلت لك ما أقدر أن أخدمك به وقد فتح لنا باب جديد بوجود الحسين بن جوهر أسيرًا في قصرك وتحت رعايتك ولا ينفعك أن تُثقليه بالقيود والأغلال؛ فإن ذلك لا يؤذيه. ولا أقول لك أَطْلِقِيهِ؛ فإن في ذلك خيانة لبلدك. ولكنني أقول لك لاطفيه وأحسني وفادته فإذا قدر النصر لجند مصر كان الحسينُ هذا من جملة أسرى الحرب. وإذا فاز القيروانيون وانهزم المصريون عرف الحسين فضلك وسعى في صيانتك وحفظ كرامتك.» فدهشت بنت الإخشيد لهذا الرأي الذي لا يقبل التعديل فقالت: «بورك فيك … ولعلك علمت أني غضبت لهذا الشاب من تلقاء نفسي وساءني ما أتاه ذلك السجلماسي من الفظاظة في معاملته وشعرت بما علمته منك بعد ذلك من التباين في أخلاقهما فأنا ميالة إلى محاسنة الحسين وسأفعل …» فأطرقت لمياء لحظة ثم قالت: «وعندي رأي أظنك توافقينني عليه أعني أننا إذا صارت حالنا إلى الخطر استكتبناه كتابًا إلى أبيه في الوصاية بك وبمن في دارك.» فأظهرت امتنانها ونهضت تُظهر رغبتها في الانصراف، فأحست بنت الإخشيد أنها أتعبتها في ذلك اليوم فنهضت وودعتها بقبلة وقالت: «اذهبي إلى فراشك يا عزيزتي واستريحي فقد أتعبتك في هذا اليوم.» فودعتها وانصرفت إلى غرفتها وقد امتلأ صدرُها بالفوز وأصبح همها أن تنقل ما شاهدته من فساد أحوال الدولة والجند إلى يعقوب حتى ينقله إلى معسكر جوهر بالإسكندرية فلبثت تتربص الفرص. أما الحسين فإنه كان قد ذهب إلى فج الأخيار في شرذمة من الفرسان وتمكن من استخراج الأموال وإرسالها إلى القيروان، ثم غافله حفاظ ذلك المخبأ واستفردوه فعقروا فرسه وبعد معركة جاهد فيها جهاد الأبطال تكاثروا عليه حتى سقط فشدوا وثاقه ووضعوا الأغلال في يديه ورجليه وعنقه وبعثوا به إلى أبي حامد بمصر ولم يخبروه أنه تمكن من حمل المال قبل القبض عليه. أو لعلهم أخبروه وتجاهل. وثم وصل الحسين بأغلاله ومصر في تلك الحال فرأى أبو حامد أن يتخذه تتمة لمساعيهم فحمله إلى بنت الإخشيد كما رأيت لكنه أحس قبل خروجه مِن حضرتها أنه لم ينجح بتلك الحركة، ولكنه تجاهل بين يدي سالم، وأوهمه أنهما نائلان ما يريدان عن قريب وأن الجند القيرواني سيعود بالفشل. وكان يحسب التوفيق بين الأجناد أسهل مما رآه على أثر ذلك النزاع في مجلس بنت الإخشيد. أما الحسين فشعر أنه سِيقَ إلى ذلك القصر لحسن حظه. وفاتحة الفرج حل أغلاله فبات تلك الليلة مرتاحًا وفى صباح اليوم التالي أتوه بثياب نظيفة وفرشوا له غرفةً خاصةً ووقفوا خادمًا للقيام بما يحتاج إليه من طعام وشراب كل ذلك باسم السيدة بنت الإخشيد. فلم يكن ينقصه شيء غير الخروج من ذلك القصر، فهذا كان محظورًا عليه فكان يقضي أوقاته مفكرًا في ما مر به ولم تبرحْ صورة لمياء من ذهنه. ولم يكن يعرف إلى أين ذهبتْ وكلما تصور معاملة سالم وأبي حامد له يغضب ويتوعد. وكان وهو في أثناء الطريق قد علم بحملة أبيه على مصر ونُزُوله الإسكندرية وسمع وهو في قصر بنت الإخشيد أن بعض المصريين خابروه بشأن الصلح والتسليم ووَدَّ لو أنه مطلَق ليشترك في المعارك. وبقدر ما كان من نقمته على أبي حامد وسالم بقدر ذلك وأكثر منه كان امتنانه من بنت الإخشيد لإكرامها إياه بلا سبب يعلمه. وبعد أيام جاء رسولٌ يدعوه إلى مقابلة بنت الإخشيد في قاعتها فلبس ثيابه وصعد فأدخله الحاجب إلى تلك القاعة ونادى السيدة من وراء الستر قائلًا: «هذا يا سيدتي الحسين بن جوهر في حضرتك وها أني خارج وقد تركته وحده كما أمرت.» فتقدم الحسين وألقى التحية، فردت السلام وقالت: «كيف ترى نفسك يا حسين.» قال: «أراني مقيدا.» قالت: «ألم تحل قيودك؟» قال: «بلى وهذا فضلٌ لا أنساه لك وقد فعلت ما هو أليق بالكرام ولكنني لا أزال أراني مقيدًا … إني كالحبيس في هذا القصر.» قالت: «لا ألومك لضجرك من هذا الحبس ولكن لو كنت في مكاننا هل كنت تفعل غير ذلك؟ إن أباك حاملٌ علينا بخيله ورَجْله ووقع لنا ابنه وبلغنا أنك من خير القواد فهل نطلقك لتكون عونًا لعدونا علينا ألا يكفي أننا حللنا قيودك وأطلقنا لك الحرية وقمنا بما تحتاج إليه من أسباب الراحة …» فأعجب بتلك الحجة الدامغة وقال: «لا أنكر فضلك يا مولاتي والحق يقال إنني لا أنسى هذا الجميل … والدنيا دول …» فقالت: «عسى أن تنتهي هذه الحرب بالمصالحة ونجتمع على مودة، وقد بعثت إليك الآن لأطمئن على راحتك فإذا كنت ترى تقصيرًا في ما تحتاج إليه؛ فأخبرْنا.» قال: «كلا، إني لا أرى تقصيرًا قط.» قالت: «تقدم قليلًا لأقول لك كلمة.» فتقدم حتى دنا من الستر فقالت له: «سأرسل إليك بعد قليل جاريةً من قبلي اسمها سلامة تطلب منك أمرًا فاقضه لها … وقد لا أحتاج إلى إرسالها فاذهب بسلام.» فتراجع حتى فتح الباب فلقيه الحراس فرافقوه إلى محبسه باحترام وإكرام وقد شغل باله ما اقترحته عليه وكان ذلك بتدبير لمياء لزيادة طمأنته حتى إذا احتاجوا إلى كتاب توصية لا يكون ثم مانع من الإجابة حالًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/68/
الحرب
قضت لمياء أيامًا وهي عالمة بقرب الحبيب وقدرتها على الوصول إليه لكنها لم ترض أن تلقاه؛ لأنها عاهدت نفسها على الصبر حتى تفرغ الحربُ، وهي تخاف من الجهة الأخرى إذا عرف الحسين بوجودها هناك أن يحدث ما يعرقل مساعيها فتجلدت وهي تبحث طبعًا عن راحته وكرامته. ومع شجاعتها ورغبتها أن يشترك الحسين في ذلك الفخر كانت نفسها تميل في باطن سرها إلى صيانته من خطر الحرب. وكانت على ثقة من قدرة جند المعز على الفتح بدون الحسين فلماذا تعرضه للسهام؟ وقد يجيئه سهمٌ يصيب منه مقتلًا وهي حريصةٌ على بقائه. وفي ذلك من التعقُّل والحكمة والتسلط على العواطف ما هو جدير بعروس روايتنا. لكن الفرصة لم تبطئ فأفاقت ذات يوم على أصوات المنادين في أسواق الفسطاط، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا لأمر هام يريدون نشره سريعًا مما يعلن عنه في الصحف أو تنشر به المنشورات الرسمية في هذه الأيام. فكانت حكومة ذلك العصر تذيعه على أيدي المنادين. فسمعت لمياء صوت المنادي وله لحن خاص ينادي به وعبارات خاصة ينادي بها تدل على فحوى ما بعده كما يقرأ الكتاب من عنوانه. سمعته يقول: «يا أهل الفسطاط قد جاءنا عدو من أفريقية يتعدى على بلادنا بلا ذنب اقترفناه سوى طمعه في الاستيلاء علينا. وبلغ مولانا الأمير أن بعض الخونة المارقين أغرى جماعة من الأعيان على التسليم، وكتبوا بذلك كتابًا بعثوا به إلى الإسكندرية. فاعلموا أن هذه الخديعة إنما الغرض منها الإيقاع بالدولة. واعلموا أن الأمير — أعزه الله — وسائر رجال الدولة والقواد الإخشيدية والكافورية والأتراك وغيرهم لا يقبلون بصلح أو تسليم وإنما يتحاكمون إلى السيف، ولذلك اقتضى الإعلان حتى يكون الناس على بينة فلا يخدعون بقول ولا يصغون لوشاية. وهذه جنودنا المظفرة قد خرجوا بمضاربهم إلى بر الجيزة لملاقاة العدو إذ قد جاءت الأنباءُ أنهم يتقدمون إلى هناك. فيا أهل الفسطاط عليكم أن تأخذوا بأيدي الجُند وتقدموا ما في طاقتكم من الإسعافات المالية. تقدمونها إلى من يأتيكم من قبل الوزير أو الأمير ولا تضنوا بالمال فإنه أقل ما يُبذل في سبيل الدفاع عن الدولة والملة. والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء وهو على كل شيء قدير …» فأطلت لمياء من نافذة عالية تشرف على الشارع فرأت ذلك المنادي يسير ووراءه الجماهير من الرجال والأولاد وقد علت الضوضاء وساد الاضطراب، فقالت في نفسها: «لا بد أن يكون لذلك اللعين أبي حامد دخلٌ في جمع قلوب الجُند على الدفاع، ولكنه باطلٌ والقلوب متنافرةٌ والنياتُ فاسدة والضغائنُ متبادلة.» وهي في ذلك أتتها القهرمانة تدعوها إلى بنت الإخشيد، فأسرعت، فرأتها جالسة على شرفة من ذلك القصر تطل على النيل وما وراءه إلى الجيزة فابتدرت لمياء قائلة: «يظهر أن ذلك السجلماسي قد أفلح في جمع قلوب الأجناد … انظري كيف يعدون النيل في القوارب إلى الجيزة وهذا الجسر بين الفسطاط والروضة يكاد ينكسر من تزاحم الأقدام عليه ولا بد أن يكون الجسر الآخر بين الروضة والجيزة كذلك أيضًا. وهذه الجسور مصنوعةٌ من السفن متلازمة جنبًا لجنب وفوقها سقايفُ من الخشب وطبقةٌ من الرمال والحصى يتوهم غيرُ العارف أنها ضعيفةٌ وهي متينة … هل ترين معسكر الأعداء؟ إني لا أراه.» وكانت لمياء في أثناء ذلك تبحث ببصرها عن ذلك المعسكر ولم تفرغ السيدة من كلامها حتى ظفرت لمياء بمكانه فصاحت: «انظري يا سيدتي إلى ذلك الغبار المخيم إلى اليمين والأعلام تخفق في خلاله وقد نصبت الخيام والفساطيط. هل ترينها؟» فقالت وقد امتقع لونها: «نعم قد رأيت، ويظهر أنهم جند كثيف … ما العمل الآن؟ ماذا ترين هل تظنين جندنا يغلب؟» قالت: «أما سمعت قول المنادي إن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء؟» قالت: «ما العمل الآن؟» قالت: «أما نحن هنا فلا خوف علينا — كما قلت لك قبلًا.» قالت: «هل أخذت الكتاب من الحسين.» قالت: «هذا وقته. هل تأذنين لي بتدبير ذلك.» قالت: «افعلي ولكن من يوصله إلى القائد جوهر؟» قالت: «أنا أوصله كوني في راحة وإنما أحتاج إلى ثوب أتنكر به بزي الرجال فأْمري لي بذلك وبفرس أركبه.» قالت: «وهل تستطيعين رُكُوب الخيل؟» قالت: «نعم … وقد تعودتها منذ صباي.» فأمرت لها بما طلبته فلبستْ ثوب أحد الأجناد وتلثمتْ ونزلت إلى الحسين وقلبها يخفق من هول تلك المقابلة لكنها صممت على التكتم. وكان الحسين قد سمع المناداة كما سمعها غيره وأصبح كالأسد الهائج إذا رأى الفريسة وهو مقيد. وقد قعد على سريره منفردًا وإذا بذلك الجندي قد دخل عليه فقال: «من أنت وماذا تريد؟» فخفضت لمياء صوتها واجتهدت في تغييره وقالت: «أنا سلامة الجارية أتيت لأطلب إليك ما وعدت به مولاتي بنت الإخشيد.» فقال: «وما ذلك.» قالت: «أن تكتب كتابًا إلى والدك تقول فيه إذا قدر له النصر ودخل الفسطاط ظافرًا أن يأمر رجاله بحماية هذا القصر جزاء لما لقيته من رعاية أصحابه. هل تفعل؟» قال: «نعم … إن لصاحبته فضلًا عليَّ لا أنساه …» قال ذلك وتَنَاوَلَ قرطاسًا وكتب عليه بخطه رسالةً في هذا المعنى، ودفعها إلى لمياء فتناولتْها وأسرعتْ في الذهاب خوفًا من أن تُغلب على أمرها ويتسلط قلبها على عقلها. وركبتْ جوادَها وخرجتْ تخترقُ الصفوفَ تطلبُ منزل مسلم بن عبيد الله، وهي تراقب ما تراه من أحوال الناس في أثناء تلك الغوغاء. فرأتْ تلك الحماسة مقصورة على الأجناد وأنهم قد اتخذوا ذلك النداء ذريعةً لابتزاز الأموال. والمصريون لا يُريدون حربًا؛ لأنهم مَلُّوا استبدادَ هذه الدولة ومالوا إلى استبدالها بدولةٍ أُخرى قد تكون أكثر استبدادًا منها، لكنهم يُحبون الجديد. فرأتْ بعض الأجناد يسوقون جماعةً من أعيان التجار ويضربونهم ويهينونهم؛ لأنهم لم يؤدوا الإعانة والناسُ يصيحون ويستغيثون ويشكون فراغ جيوبهم. ثم أجفلت لسماعها صوتًا كصوت سالم، فالتفتت فرأتْه ومعه عمه في جماعة من القواد سائرين على أفراسهم نحو الروضة وهم يحرضون الناس على الطاعة وسمعتْ سالمًا يقول لبعض الأغنياء من الأهلين رآه يستغيث مِنْ تطاوُل الجند عليه في طلب المال «أخرجوا الأموال؛ فإن هذا الجند يدافع عن أرواحكم وأموالكم ألا تسعفونهم بالمال على الأقل؟» فعلمت أَنَّ لهذين الرجلين دخلًا في جمع كلمة الجُند ونكث الصلح. وبعد قليلٍ وصلتْ إلى بيت الشريف مسلم فرأتْ بابه مزدحمًا بالناس بين راكبٍ وواقف وأكثرُهُم من الأهلين جاءوا يتظلمون أو يستظلون وسمعت نقمتهم على الأجناد وغضبهم لنقض الصلح. فاخترقت الصفوف حتى وصلت الباب فوَسَّعوا لها رغم إرادتهم وهم يحسبونها جنديًّا جاء بمصادرة أو اغتصابٍ حتى دخلت الباب وطلبت أن ترى الشريف فقيل لها إنه في شاغلٍ فقالت: «قد جئت في رسالة مستعجلة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/69/
الرسالة
فوَسَّعُوا لها حتى دخلتْ عليه بعد أن تَرَجَّلَتْ وسلمت الجواد إلى بعض خدمه. وكان مسلم مختليًا في غرفته مع بعض الأعيان والتجار وقد عَلَتْ أصواتهم من النقمة على نقض الصلح. فلما قيل لهم جاء أحدُ الأجناد سكتوا، فدخلت لمياء بلثامها وأشارتْ إلى مسلم أنها تُريد مقابلته على حِدَة. فدخل معها إلى غرفة فأوصدت الباب وراءها ثم أزاحت اللثام فدهش لرؤيتها وقال: «ما وراءك؟ من أين أتيت؟» فقَصَّتْ عليه خبرها كما هو وأخبرتْه عن وُجُود الحسين في القصر بمأمنٍ، وأنها احتالت في المجيء إليه بحجة تلك الرسالة وإنما غرضها أن تبلغ القائد جوهر حال الدولة من الاختلال والضعف حتى لا يغتر بهذا الصياح. فأعجب الشريف بحميتها وبسالتها وقال: «لله درك مِن فتاة صادقة باسلة هل تريدين الذهاب إلى القائد بنفسك؟» قالت: «نعم … لأني أستطيعُ بذلك أن أَزيده بيانًا شفاهيًّا.» قال: «تفعلين حسنًا، وسيفرح بلقياك؛ لأنك تنقلين إليه خبر الحُسين وأنه حي آمنٌ وقد سمع بوقوعه في الأسر ولا يدري أين هو.» قالت: «أين المعلم يعقوب؟» قال: «ألم تسمعي بما أصابه؟» قالت: «كلا … ماذا جرى له؟» فقبلتْ ذلك منه وخرجتْ، فامتطتْ فرسَها وركب معها بضعةٌ من رجال الشريف وسارُوا يطلبون معسكر القائد جوهر من ورائه، فقطعوا جسرًا على النيل أسفل الفسطاط والشمس قد مالتْ عن خَطِّ الهاجرة فوصلوا المعسكر قُبيل الغروب، وكان رفاقها قد عرفوا فسطاط جوهر فسارُوا توًّا لا يعترضُهُم معترض. وكان جوهر جالسًا في فسطاطه وقد أُوقدت الشموع، واجتمع قوادُهُ حوله وهم جُلُوسٌ وجوهرٌ مطرق يفكر في ضياع ابنه الحسين، وكان قد سمع من الذين حملوا إليه الأموال مِن فَجِّ الأخيار أنه تخلف عنهم ولعله قتل أو وقع أسيرًا. وهم في ذلك دَخَلَ الحاجب وقال: «إن بالباب رسولًا من الفسطاط يشترط أن يلقى القائد في خلوة.» فأشار إلى الحضور بالانصراف وأمر بإدخال الرسول فدخلت لمياء بثوبها ولثامها وأزاحت اللثام وأكبت على يده تقبلها فلم يتمالك عن النداء «لمياء، لمياء!» فأشارت بأصبعها على شفتها أن يكتم أمرها فضمها إلى صدره كأنها ابنتُهُ — وهو يحبها كما يحب الحسين — لكنه تذكر الحسين فانقبضتْ نفسُهُ وكادت الدموع تترقرقُ في عينيه، فقالت: «جئتُك يا سيدي ببشرَى مزدوجة.» قال: «ما هي … قولي.» قالت: «الأولى أن سيدي الحسين في أمان ولو عرفني عندما حملني رسالته هذه إليك لكلفني بإلقاء التحية، ولكني اضطررت للتستر. والثانية أن عدوكم الذي يحاربكم وتسمعون صياحه ونداءه كالقصبة المرصوصة أو كالطبل، صوته قوي وقلبه فارغ.» قال: «ماذا أرى أنت لمياء جئت بهاتين البشارتين وأهمهما وجود الحسين حيًّا بعد أن يئست من وجوده، ولكن أين هو، وكيف عرفت ذلك؟ أخبريني.» فجلستْ وقصتْ عليه ما رأتْه وقاستْه منذ برحت القيروان إلى أَنْ أخذت تلك الرسالة من الحسين ودفعتْها إليه فقرأها وقال: «سأفعل ذلك حبًّا وكرامة، وأين ذلك الخائنُ وعمه؟» فتنهدت وقالت: «رأيتهما مع الجند يحرضانهم على الحرب وسينالان الجزاء … كيف فارقت مولانا المعز وأم الأمراء؟» فهز رأسه هز الإعجاب وقال: «إن مولانا المعز — أعزه الله — وأتم نصره من معجزات الزمان …» قالت: «ومن أكبر أسباب سعادته أنك قائده.» قالت: «صدقت والله إنه نابغة الخلفاء. وهل أنسى أنا ما أكرمني به حتى كان يناديني ابنته. وهل مثل هذا الخليفة يكون نصيبه من حربه غير النصر؟ وهل تصلح الدولة إن لم يكن رجالُها قلبًا واحدًا في طاعة أميرهم؟ أين ذلك من جُنُود مصر ودولتهم؛ فقد سمعتهم يختصمون على أُمُور تافهة ورأيتهم يضربون الناس لاستخراج المال منهم، وهذا أمير المؤمنين قد بعث المال معك بشكل الأرحية. لا شك أن الله أذن بانقضاء دولة الإخشيديين … هل ترى أن أعود إلى الفسطاط. وما هي العلامة التي تجعلها على دار بنت الإخشيد حتى لا يقربها أحد بسوء؟» فضحك وقال: «كأنك واثقة من دخولنا ظافرين؟» قالت: «لا شك عندي في ذلك.» فربت على كتفها بيده وقال: «بارك الله فيك انصبوا بباب القصر علمًا أخضر وسأوصي الجُند أن يتجنبوا ذلك الباب.» قالت: «أتأذن بانصرافي …» قال: «تبيتين الليلة هنا ونرى ما يكون في الغد ولا باعث إلى العجلة في الذهاب.» فأطاعت. أما أهل الفسطاط فقد رأيت ما كان من اضطرابهم وما سامهم الجُندُ من الخسف والإهانة والسلب حتى أصبحوا يفضلون الفاطميين عليهم، وأما بنتُ الإخشيد فإنها مكثت بعد ذهاب لمياء وقد تَوَلَّتْها الدهشة؛ لِما شاهدته من مروءة هذه الفتاة وبسالتها. ولبثتْ تنتظرُ رُجُوعَها، وقضت أكثر أوقاتها في الشرفة المطلة على الجيزة؛ لتراقب حركات الجنديين وقلما كانت ترى شيئًا منهما لبعدهما عن مجال البصر لكنها كانت تتلاهى بذلك ووجهت عنايتها خصوصًا للحسين وأمرت بإكرامه ورعايته.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/70/
العلم
وكان الحسين بعد ذهاب لمياء قد أحس بشيء أذكره حبيبتَه فلم تعد تذهب صورتُها من ذهنه وهو لا يدري السبب الذي بعث على ذلك. ولكن السبب أن صوتها وهي تخاطبُهُ لم يَخْلُ من غنة تَعَوَّدَ قلبُهُ أن يطرب لها يوم اجتماعه بها فطرب لها الآن وهو لا يعلم أن مخاطبته خطيبته — وكثيرًا ما يحدث ذلك والناس لا ينتبهون له — قد يخطر لك أمر يتردد في ذهنك وأنت لا ترى باعثًا على تَذَكُّرِهِ. وإنما تذكرته؛ لأنك رأيت أو سمعت شيئًا تعودت أن تراه أو تسمعه مرافقًا لذلك الأمر. قضى الحُسينُ ليلتَه وهو يفكر في لمياء وأين هي، وتذكر قولها يوم وداعه أنها ستُلاقيه في الفُسطاط وتصور تَحَمُّسَها ووثوقها بالظفر من ذلك الحين. فاختلج قلبُهُ وأَحَسَّ بشوقٍ إلى رؤيتها أو معرفة خبرها ولم يكن نَسِيَها من قبل لكنه تذكرها على الخُصُوص في ذلك اليوم. مضت أيامٌ ولم ترجع لمياء بالجواب من جوهر فقلقت بنت الإخشيد وهي في كل يوم يترجَّحُ عندها النصر للفاطميين فأصبحتْ تخاف على حياتها وإنما طمأنها كونُ الحسين بن جوهر أسيرًا عندها تحتمي به عند الحاجة ولما اشتد قلقها بعثت إليه فجاءها فسألته عما يراه من أمر تلك الحرب. فقال: «لا ريب عندي بفوز جندنا يا سيدتي.» قالت: «عَجَبًا … كيف تؤكد ذلك؟» قال: «لأننا متحدون قلبًا وقالبًا في خدمة أمير المؤمنين نساءً ورجالًا ليس فينا إلا من يفدي أمير المؤمنين بروحه فهل أنتم كذلك؟» فقالت وقد غلبت على عواطفها «لا يا بني … لسنا كذلك لسوء الحظ …» وغصت بريقها. قال: أما نحن فإن أحدنا لا هم له إلا التفاني في نصرة الخليفة. أضرب لك مثلًا عن ذلك فتاة خطبتها في القيروان وجاء ذكر الحملة على مصر فأبت أن يتم الاقتران إلا في الفسطاط بعد فتحها. ثم هي هجرت بيتها وسافرت في خدمة مصلحة الدولة تمهيدًا لهذا النصر لا يعلم أحد أين هي. ولا أنسى قولها ساعة الوداع: «سنلتقي في الفسطاط في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل. ذلك هو مقدار وثوقها بالنصر والجند لم يتحرك من القيروان. واعترف لك يا سيدتي أني أعتقد صحة قولها وإن ذلك لا بد من إتمامه.» فاستغربت بنت الإخشيد قوله وقالت: «لله درها من فتاة نادرة المثال وأين هي الآن؟ وكيف قلبك عليها؟» قال: «قلبي على مثل الجمر ولكنني أثق أننا سنلتقي هنا.» قالت: «يظهرُ أن نساء بلادكم أقوى من نساء بلادنا وأشد حماسة؛ فإني عرفت جارية مغربية أهداها إليَّ يعقوب بن كلس بالأمس لم تر عيني أَعْقَلَ منها ولا أَطْيَبَ من قلبها، وهي مع ذلك شجاعةٌ باسلةٌ لا تبالي بارتكاب الأخطار وقد قالت إنها تعرفُك وتعرف أباك والخليفة وتعرف أيضًا الأميرين السجلماسيين اللذَين حملاك إلينا أسيرًا.» قال: «ما اسمها.» قالت: «سلامة …» قال: «هي التي أتتني متنكرة بثوب جندي وأخذت الكتاب إلى والدي.» قالت: «نعم هي بعينها لله درها … إني لم أعهد مثل هذه الحماسة والبسالة في النساء حتى قلت لها مرة: ليست هذه الأخلاق من أخلاق الجواري.» فرأى الحسين مشابهة بين أخلاق لمياء وما سمعه عن سلامة وتذكر خُرُوجَ لمياء من القيروان لخدمة المعز … فأطرق وهو يقول في نفسه: «هل يُمكن أن تكون سلامة هي لمياء متنكرة؟» واستبطأتْ بنتُ الإخشيد جوابَه ورأتْ إطراقه فتصورتْ أنها جددتْ ذكرى خطيبته وهو بعيد عنها فلم ترد أن تشغله عن تأملاته فحولت بصرها نحو النافذة المطلة على النيل والجيزة وراءه فرأت الروضة تعج عجيجًا بالناس وفيهم الفرسان بالرماح والسيوف والمشاة بالحراب في غير زي المصريين وقد تطايرت السهام وأبرقت السيوف فصاحت: «ويلاه هذه هي الحرب … قد دخل العدو بلدنا.» فالتفت الحسين إلى الروضة وأجال نظره في تلك الجهات فقال: «قضي الأمر يا مولاتي هذا جندنا يقطع الجسر وهذه أعلامنا ولا يلبث أن يدخل الجند الفسطاط ظافرًا … لكن كوني مطمئنة أني أفديكم بدمي ها أني نازل لأقف بالباب وأمنع رجالنا من دخوله طمئني أهل القصر جميعًا.» قال ذلك وأسرع نحو الباب الخارجي الكبير وكان مقفلًا وقد أوصدوه. فرأى جنديًّا مغربيًّا يتسلقه وخدم القصر يستغيثون به ويتقدمون إليه أن لا يفعل؛ لأنهم لا يحاربون وهو لا يبالي، فصاح فيه الحسين: «أنزل يا رجل إن الذي يخاطبك هو الحسين بن جوهر.» فلم يكترث الجندي لقوله بل ظل في عمله حتى وصل إلى عتبة الباب العليا فاستخرج من جيبه علمًا أخضر نصبه فوقها، وتحول إلى الداخل، وأشار إلى أهل القصر أن يتركوا الباب مقفلًا. فنظر الحسين في وجهه فرآه ملثمًا فقال له: «من أنت يا رجل؟ لماذا لم تجبني.» فأومأ إليه بوضع السبابة على شفته: «أن اسكت الآن.» ودخل مسرعًا فتذكر الحسينُ الجارية سلامة كيف تركته متنكرة بثوب جندي مصري وما خامره من الشك فيها عند سماع خبرها من بنت الإخشيد. فأصبح شديدَ الميل إلى تحقيق ذلك، فلحق بها ولم ينتبه له أحدٌ من أهل القصر؛ لاشتغالهم بالحذر والخوف وبما قام من الضوضاء في المدينة بين عويل وصياح. ودخول ذلك الجندي المغربي أرعبهم لكنهم ما لبثوا أن رأوه ينصب الراية الخضراء حتى اطمئنوا ولكن الذين رأوه داخلًا يعدو ولم يروا الراية؛ ذعروا. أما الحسين فما زال مسرعًا حتى دخل القاعة وطلب إلى الحاجب أن يدعو له السيدة بنت الإخشيد، فناداها فأتت ولم ترسل الستر بينها وبينه وإنما اكتفت بالنقاب وحالما وقع نظره عليها استغرب ما عليها من الأثواب الثمينة والحلي وهو يسمع بما عليه أهل مصر من الضنك. أما هي فحالما رأته صاحت: «ماذا جرى؟» قال: «كل شيء في أمان وهذا علم والدي قد نُصب فوق الباب وهو علامةُ الأمان فلا يجسر أحد أن يمس هذه الدار بسوء، كوني في اطمئنان.» قالت: «ومن غرسه هناك.» قال: «جندي مغربي أظنه نفس الجندي الذي حمل رسالتي إلى والدي وقد أسرعت لأراه …» قال: «أتظن سلامة رجعت؟ أين هي …» وصفقت فأتت القهرمانة وهي تلهث من الخوف فضحكت بنت الإخشيد من منظرها وقالت لها: «ما بالك يا خالة لماذا تلهثين؟» قالت وهي تقطع صوتها: «إن الأعداء دخلوا … الفسطاط … و… و… دخل رجل منهم هذه الدار …» قالت: «لا تخافي إن هذا الجندي جاءنا بعلم الأمان من قائد جند المغاربة. كوني مطمئنة لا بأس علينا. وهذا الحسين بن ذلك القائد … أين سلامة الجارية.» قالت: «لم أعد أراها منذ أيام.» قالت: «ابحثي عنها في غرفتها الآن وادعيها إلينا حالًا.» وقعدت وأشارت إلى الحسين أن يقعد فقعد وعيناه شائعتان نحو الباب ينتظر وُصُول تلك الجارية ولحظت بنتُ الإخشيد قلقه فقالت: «ما لي أراك قلقًا كأنك تنتظر أن تأتيك سلامة بكتاب من والدك؟» قال: «كلا، فإن هذا العلم يكفي جوابًا … ولكنني أتوقع أن تكون سلامة هذه غير ما تتوهمينها.» قالت: «وكيف ذلك؟» قال: «تمهلي ريثما نرى.» وإذ بالقهرمانة عادتْ وهي تقول: «لم أجد سلامة هناك ولكنني رأيتُ جنديًّا فخفت ورجعت.» فنهض الحسين وقال: «أين هو ذلك الجندي؟ أوصليني إليه.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/71/
النصر
فمشت القهرمانة وبنت الإخشيد والحسين حتى وصلوا الغرفة، فوجدوا ذلك الجندي واقفًا إلى النافذة يراقب حركات المتحاربين لا ينتبهُ إلى أحدٍ في الدار فمشى الحسينُ بخفة حتى وقف وراءه بحيث يرى ما يراه. فرأى المغاربة تكاثروا والإخشيدية يفرون مِن أمامهم إلى المدينة وقد تراكم القتلى منهم على الجسر وتجاوزهم بعض المغاربة على خيولهم وظهر الفوز واضحًا لهم فصاح (الجندي): «الحمد لله قد كتب النصر لنا.» والتفت فوجد الحسين وراءه فبغت ووقف لا يبدي حراكًا فصاح فيه الحسين قائلًا: «من أنت.» فلم يجب وإنما أشار إلى ثوبه أنه جندي فقال: «أنا الحسين بن جوهر فانزع هذا اللثام عن وجهك.» فأطرق ولم يجب. فقالت بنت الإخشيد: «هذه سلامة حبيبتنا … اكشفي وجهك للحسين يا بنية؛ إنه حامي ذمارنا.» فلم تجب فتقدمت بنت الإخشيد ورفعت اللثام بيدها فأرادت لمياء تحويل وجهها حتى لا يراها الحسين فرآها وعرفها وصاح «لمياء …» وأمسك بيدها وأدارها نحوه ليتحقق ظنه وهي تحول وجهها عنه حياء، فدهشت بنت الإخشيد لَمَّا رأته وتذكرت ما قاله عن خطيبته، فعلمت أنها هي نفسها، فتقدمت وساعدت الحسين عليها وأمسكت بيدها الأخرى وقالت: «أنت لمياء خطيبة هذا البطل وتزعمين أنك جارية؟ تكلمي …» فالتفتتْ إلى الحسين لفتة تَعَوَّدَها منها، فأثرت في قلبه تأثيرَ السهم وقال: «تكلمي ما بالك؟» فقالت وعيناها تلمعان: «قد تعاهدنا أن نلتقي هنا بعد فتح مصر … فهل فتحت؟» قال: «أوشكت أن تفتح …» قالت: «اصبر لا تفرح قبل تمام النصر … أنت هنا منذ أيام وأنا عالمة بذلك ولم أشأْ أن أطلعك على وجودي؛ لئلا نشتغل بالقلوب عن السيوف، ولا أزال على ذلك حتى الآن. إن خدمة المعز مقدمة على كل شيء فإذا فرغنا منها وفتحنا البلد استقر لنا الأمر فإني أمتك أترامى عند قدميك.» قالت ذلك وغصت بريقها وأبرقت عيناها وبان الهيام فيهما واسترخت عزائمها … والحسين ينظر إليها نظر الإعجاب والخجل وقال: «أبيت يا لمياء إلا أن تكوني السابقة إلى الفضل في خدمة أمير المؤمنين إني متفانٍ في خدمته ولكنني دهشت لرؤيتك هنا وأنا أعهد مقرك منذ افترقنا بالقيروان، الحمد لله على هذا اللقاء.» فنظرت إليه نظرة عتاب وقالت: «وذانك الرجلان اللذان ساقاك إلينا في القيود والأغلال … إني لا أعد النصر واقعًا وهذان الرجلان في قيد الحياة … وأنا في شوق إلى سماع ما جرى لك في أثناء هذا الغياب، وأنت مشتاق إلى حديثي فإذا تم النصر كما نريده نتحادثُ كثيرًا.» فلما تذكر أبا حامد وسالمًا هاج الدم في عروقه فقال: «أين هما؟» قالت: «سأخبرك عن ذلك بعد قليل.» والتفتت بنت الإخشيد إلى لمياء وقالت لها: «سنتركك هنا تبدلين ثيابك.» قالت: «كلا يا سيدتي لا أُريد أن أغير شيئًا قبل الفراغ من هذا العمل. وهل ترين منظرًا أجمل مما أرى هنا … ليس في الدنيا ألذُّ من النصر في ساحة الحرب … لا صبر لي عن هذا المنظر هيا بنا إلى المعركة.» قالت ذلك وأسرعتْ فتبعها الحسينُ، وهو يقول: «المعركة … لست أشد مني غيرة على الدولة ولكنك شغلتني …» ونزلا فركب كُلٌّ منهما فرسه وتَسَلَّحَا وبنت الإخشيد ترى وتعجب. فلما خرجا قالت في نفسها «إن قومًا أنصارهم مثل هذين أحر بهم أن يفتحوا العالم.» ولم يسيرا إلا قليلًا حتى رَأَيَا رجلًا مِنْ أتباع الشريف مسلم حاملًا علمًا أبيض يؤمن الناس فنادته لمياء فوقف فقالت: «من أرسلك بهذا العلم، وكيف الحال؟» قال: «لما غُلب الإخشيدية وقتل منهم خلق كثير ارتدوا إلى مصر وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه وانهزموا فخرج حرمهم مشاة إلى الشريف أبي جعفر وكلفنه أن يكاتب القائد جوهرًا بإعادة الأمان. فكتب إليه يهنئه بالفتح ويسأله إعادة الأمان، وهذا جوابُهُ معي يؤمنهم وهذا العلم الأبيض شاهدٌ على ذلك. فاطمأنَّ الناسُ وخرج الأشرافُ والعلماء ووجهاء البلد بموكبٍ حافلٍ يتقدمه الوزير ابن الفرات وجماعة الأعيان إلى الجيزة لملاقاة القائد عند دُخُوله الفسطاط ولا يلبثون أن يعودوا به. أَلَمْ تسمع المنادي ينادي بذلك؟» فالتفتت لمياء إلى الحسين وقالت: «قد تم النصر والحمد لله … فلا حاجة إلى الخروج بل ننتظر وصول الموكب.» فالتفت الحسين إلى لمياء يستشيرها فيما ينبغي أن يفعلا، فقالت: «هلم بنا إلى مقر ذينك اللعينين في الفندق أظنهما هناك.» فتبعها وساقا الجوادين وقد قاربت الشمس الغروب حتى أتيا الفندق فلما رآهما صاحبه رحب بهما خوفًا منهما وإن كان المنادون قد نادَوا بالأمان، ثم وقع نظره على لمياء فعرفها ورآها بلباس جُند المغاربة فاستأنس بها وتقدم إليها وهو يقول: «هذا صديقنا الصقلبي!» فضحكت له وقالت: «إننا في حاجة إلى تلك الغرفة الآن.» قال: «قد دخلها الرجلان في هذه الساعة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/69729647/
فتاة القيروان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «فتاة القيروان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي رواية تاريخية غرامية، يتناول فيها زيدان الوقائع التاريخية من خلال قصة حب رومانسية، والرواية تتضمن ظهور دولة الفاطميين في إفريقيا، وتُعدِد مناقب المعز لدين الله وقائده جوهر الصقلي، كما تتناول سقوط الدولة الإخشيدية بعد انغماس حكامها في الترف والملذات واستبدادهم بالرعية وانقسام جندهم. كما تقدم الرواية وصفا لبرابرة إفريقيا وعاداتهم وأخلاقهم في ذلك الوقت، وتروي قصة صعود الفاطميين تماسكهم ووصولهم للحكم بتأسيس الدولة الفاطمية بعد سقوط الدولة الإخشيدية.
https://www.hindawi.org/books/69729647/72/
أبو حامد وسالم
فالتفتت إلى الحسين وقالت: «قد تم سعدنا» وساقا الجوادين إلى داخل الفندق حتى صارا في وسطه وترجلا وأسرعا إلى الغرفة فطرقا بابها فسمعا لغطًا ولم يفتح الباب فاستل كُلٌّ منهما خنجره وصاح الحسين: «افتح.» فأجابهما أبو حامد من الداخل «لن أفتح لكما … ليس خوفًا على حياتي، ولكنني لا أريد أن أموت بيد أحدكما … ولا ينبغي أن أبقى حيًّا بعد هذا الفشل. وأخاف أن يجبن هذا الغلام فيستعطف ويتذلل وأنا أعرف ضعفه وجبنه. فأنا الآن قابضٌ على عنقه وها أني أطعنه في قلبه … قد طعنته فمات وهذه طعنة في قلبي وهذا الباب قد فتحته لكما فاستلما جثتين بلا روح.» ثم سمعا وُقُوع الجثة وفتح الباب فوجدا الرجلين يختبطان بدمهما فغطت لمياء عينيها حتى لا ترى ذلك المنظر الرهيب ولا تريد أن ترى سالمًا حبيبها الأول في تلك الحالة رغم ما رأت منه أو سمعت عنه. وتحولت إلى فرسها وهي تقول للحسين: «هلم بنا إلى المعسكر لنرى قائدنا العزيز. فقد قضي الأمر وتم النصر.» فتبعها وهو يقول: «كنت أود أن أقتلهما بيدي.» قالت: «قتلهما الفشل.» وهما خارجان اعترضهما صاحب الفندق وهو يبكي ويقول: «قتلتما الرجلين … وذهبتما … الآن يقبضون علي ويتهمونني بقتلهما … بالله لا تذهبا.» فتقدمت لمياء إليه وقالت: «قُتلا بأمر القائد جوهر … وهذا هو الحسين بن جوهر القائد، لا تخف.» فأكب على ركاب الحسين يقبله ويقول: «اعذرني يا سيدي على جسارتي … والله إن هذا الصقلبي رجل طيب … مع السلامة يا سيدي مع السلامة.» وانصرفا حتى أتيا المعسكر وقد أظلم الليل ولكن الأنوار كانت تسطع في تلك الأنحاء وقد أقبل المصريون زرافات ووحدانًا على جوهر يهنئونه بالنصر وعرفا فسطاطه من كبره وكثرة من حوله من الحُجَّاب فما زالا حتى وقفا بالباب واستأذنا بالدخول. فلما قيل لجوهر إن الحُسين يستأذن عليك نهض له وضَمَّهُ إلى صدره وقَبَّلَه فقبل الحسين يده. ثم تقدمت لمياء بثوب الجند فقبلت يد القائد فدعاها إلى الجلوس هي من جانب والحسين من الجانب الآخر. وكان في جملة الحضور هناك أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الشريف، فعرفهم إليه، فرحب بهما وهنأهما بالنصر، وإذا بصوت خرج من جوانب الخيمة يقول: «ويعقوب؟» فعلمت لمياء أنه صوت يعقوب بن كلس فالتفتتْ إلى جوهر وقالت: «لا أقدر أن أصف لك الفضل الذي أولاني إياه الشريف أبو جعفر والمعلم يعقوب فإننا مدينون لهما بكثير من أسباب هذا النصر وبحياتي أيضًا ولولاهما لكنت الآن في عالم الأموات.» فقال الحسين: «فالفضل إذن علي أنا.» وبعد قليل انصرف المهنئون وبقي جوهرٌ ومسلمٌ ويعقوبُ والحسينُ ولمياءُ، وكان اجتماعهم لذيذًا على أثر ما عانوه من التعب حتى كتب لهم النصر، فقص كُلٌّ منهم ما عاناه في أثناء الغياب والتفت جوهر إلى لمياء وقال: «قد صَحَّتْ نبوءتك يا بنية، فالتقينا في الفسطاط بعد فتحها ألم يئن العقد عليك.» فقالت: «الحمد لله على ذلك لكن العقد اشترطت فيه أن يكون في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل …» قال: «ألم تصر الفسطاط كلها قصرًا له.» قالت: «بلى، لكنني أريد قصره الخصوصي.» فضحك جوهر وقال: «إنك تريدين أن يؤجل الاقتران حتى يحضره المعز بنفسه فإنك أهل لذلك … وفي الغد نبدأ ببناء القصور لمولانا وبعد قليل يأتي إلى مدينته ويعقد لكما بيديه المباركة.» وأخذ جوهر في اليوم التالي في بناء القاهرة ثم بنى القصور وبعث إلى المعز بأخبار الفتح فانتقل المعز إلى مدينته وأقام بها وتوارثها أعقابه بعده على ما هو مدون في كُتُب التاريخ. وكان أول عمل عمله أنه عقد للحسين على لمياء باحتفال لم يسمع بمثله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/0.1/
مقدمة
هذا كتاب صغير في بحث جديد، تنبَّهْنا له ونحن ننشر الطبعة الثانية من كتابنا «الفلسفة اللغوية»، لأن موضوعه تابع لموضوعها، أو هي خطوة ثانية في تاريخ اللغة باعتبار مَنشَئِها وتكوُّنها ونموِّها. فالفلسفة اللغوية تبحث في كيف نطق الإنسان الأول، وكيف نشأت اللغة وتولدت الألفاظ من حكاية الأصوات الخارجية كقصف الرعد، وهبوب الريح، والقطع، والكسر، وحكاية التف، والنفخ، والصفير … ونحوها، ومن المقاطع الطبيعية التي ينطق بها الإنسان غريزيًّا كالتأوُّه، والزفير. وكيف تنوَّعت تلك الأصوات لفظًا ومعنًى بالنحت، والإبدال، والقلب، حتى صارت ألفاظًا مستقلة وتكوَّنت الأفعال والأسماء والحروف، وصارت اللغة على نحو ما هي عليه. العصر الجاهلي: ويتناول تاريخ اللغة من أقدم أزمانها إلى ظهور الإسلام. أوردنا فيه أمثلة مما دخلها من الألفاظ الأعجمية من اللغات الحبشية، والفارسية، والسنسكريتية، والهيروغليفية، واليونانية وغيرها، وأسندنا ذلك إلى أسباب تاريخية. وذكرنا القاعدة في تعيين أصول تلك الألفاظ، وأمثلة مما تولَّد في اللغة نفسها من الألفاظ الجديدة، وأيَّدنا ذلك بمقابلة العربية بأخواتها، أو بالنظر إلى ألفاظها بحد ذاتها. العصر الإسلامي: ونريد به ما حدث في اللغة بعد الإسلام من الألفاظ الإسلامية مما اقتضاه الشرع، والفقه، والعلوم اللغوية، ونحوها. الألفاظ الإدارية في الدولة العربية: وتشمل ما دخل اللغة العربية من الألفاظ الإدارية التي اقتضاها التمدن الإسلامي عند إنشاء دولة العرب، وهي إما دخيلة وإما مُولَّدة. ويتخلَّل ذلك بحث في كيفية انتقال اللفظ من معنًى إلى آخر. الألفاظ العلمية في الدولة العربية: ويدخل فيها الألفاظ والتراكيب التي اقتضاها نقل العلم والفلسفة من اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية في العصر العباسي. الألفاظ العامة في الدولة العربية: وهي الألفاظ التي تولَّدت في اللغة، أو دخلتْها بغير طريق الشرع أو العلم، كالألفاظ الاجتماعية ونحوها. الألفاظ النصرانية واليهودية: وهي ما دخل اللغة العربية من الألفاظ والتراكيب السريانية أو العبرانية، بنقل الكتب النصرانية إلى العربية. الألفاظ الدخيلة في الدول الأعجمية: وتتناول ما اكتسبتْه اللغة من الألفاظ الأعجمية بعد زوال الدول العربية وتولِّي الدول التركية والكردية وغيرها. النهضة الحديثة: وفيها ما اقتضاه التمدن الحديث من تولُّد الألفاظ الجديدة، واقتباس الألفاظ الإفرنجية للتعبير عما حدث من المعاني الجديدة في العلم، والصناعة، والتجارة، والإدارة، وغيرها. وصدَّرنا الكتاب بتمهيد في نواميس الحياة وخضوع اللغة لها، وختمناه بفصل في لغة الدواوين، وخلاصة في مجمل ما تقدَّم. على أننا نَعُدُّ ما كتبناه في هذا الموضوع الجديد خواطر سانحة، فتحنا بها باب البحث لأئمة الإنشاء وعلماء اللغة. فنتقدَّم إليهم أن يوفوا الموضوع حقه أو يزيدونا منه، لأنه يحتاج إلى بحث كثير ودرس طويل، وقد أصبحت اللغة بعد هذه النهضة في العلم والأدب والشعر في غاية الافتقار إليه، ليعلم حَمَلة الأقلام أن اللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، تتجدد ألفاظها وتراكيبها على الدوام، فلا يتهيَّبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب له، وقد يكون تهيُّبهم مانعًا من استثمار قرائحهم، وربما ترتَّب على إطلاق سراح أقلامهم فوائد عظمى تعود على آداب اللغة العربية بالخير الجزيل. ولا بد من اعتبار القواعد العامة والروابط الأساسية مما أشرنا إليه في محلِّه، ناهيك بما ينجم عن معرفة أصل الكلمة وتاريخها من تفهُّم معناها الحقيقي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/0.2/
تمهيد
من أهم نواميس الحياة النمو أو التجدد، وهو ينطوي على دثور الأنسجة وتولُّد ما يحلُّ محلَّها، ومعنى ذلك أن الجسم الحي مؤلَّف من خلايا لكلٍّ منها حياة مستقلة إذا انفضَّتْ ماتت الخلية وانحلَّت أجزاؤها وانصرَفَت، وتولَّدت في مكانها خلية جديدة تتكون من العصارات الغذائية كالدم ونحوه، فالجسم الحي في انحلال وتولُّد دائمَيْن، حتى قالوا: إن جسم الإنسان يتجدد كله في بضع سنين، أي لا يبقى فيه شيء من المواد التي كان يتألَّف منها قبلًا. وبغير هذا التجدد لا يكون الجسم حيًّا، وإذا حدث في جسم الحيوان ما يمنع من تجدد الأنسجة أسرع إليه الفناء، فالتجدُّد ضروري للحياة. وحياة الأمة مثل حياة الفرد بل هي ظاهرة فيها أكثر من ظهورها فيه، لأن الأمة إنما تحيا بدثور القديم وتولُّد الجديد، فكأن أفراد الأمة خلايا يتألَّف منها بدن تلك الأمة، وهو يتجدد في قرن كما يتجدد جسم الإنسان في عَقْد من عقود تلك القرون. وإذا تتبَّعنا نمو الأمة بتوالي الأجيال رأيناها تتفرع وتتشعب، فتصير الأمة الواحدة أممًا يتفاوت البُعْد بينها بتفاوت الأزمان والأحوال. وكل أمة من هذه تتشعَّب بتوالي الدهور إلى أمم أخرى وهكذا إلى غير حدٍّ، وهو ما يعبِّرون عنه بناموس الارتقاء العام. ويتبع الأحياء في الخضوع لهذه النواميس ما هو من قَبِيل ظواهر الحياة أو توابعها، وخاصة ما يتعلق منها بأعمال العقل في الإنسان كاللغة، والعادات، والديانات، والشرائع، والعلوم، والآداب، ونحوها. فهذه تُعَدُّ من ظواهر حياة الأمة، وهي خاضعة لناموس النمو والتجدد ولناموس الارتقاء العام. ولكلٍّ من هذه الظواهر تاريخ فلسفي طويل، نعبِّر عنه بتاريخ تمدُّن الأمة أو تاريخ آدابها أو علومها أو حكومتها أو أديانها أو نحو ذلك، وهي أبحاث شائقة فيها فلسفة ونظر، ومن هذا القَبِيل تاريخ اللغة وآدابها. ••• وهذا التقسيم تقريبي، إذ لا تجد حدًّا فاصلًا بين هذه الأقسام. وإذا تدبرتَ تاريخ كل ظاهرة من ظواهر الأمة كالآداب أو اللغة أو الشرائع أو غيرها، باعتبار ما مرَّ بها من الأحوال في أثناء نموِّها وارتقائها وتفرُّعها؛ رأَيْتَها تسير في نموها سيرًا خفيًّا لا يشعر به المرء إلَّا بعد انقضاء الزمن الطويل. ويتخلل ذلك السير البطيء وَثَباتٌ قوية تأتي دفعة واحدة فتغير الشئون تغييرًا ظاهرًا، وهو ما يعبِّرون عنه بالنهضة. وسبب تلك النهضات على الغالب احتكاك الأفكار بالاختلاط بين الأمم على أثر مهاجرة اقتضتها الطبيعة من قحط أو خوف، أو يكون سبب الاختلاط ظهور نبي أو مشرِّع أو فيلسوف كبير، أو نبوغ قائد طَموح يحمل الناس على الفتح والغزو، أو أمثال ذلك من أسباب الاختلاط. فتتحاكُّ الأفكار وتتمازج الطباع، فتتنوَّع العادات والأخلاق والأديان والآداب، واللغة تابعة لكل ذلك بل هي الحافظة لآثار ذلك التغيير، فتحتفظ بها قرونًا بعد زوال تلك العادات أو الآداب أو الشرائع، وإذا تبدَّل شيء منها حفظت آثار تبدُّله. وسنقتصر في هذا البحث على تاريخ اللغة العربية في دورها الثاني، وهو تاريخ ألفاظها وتراكيبها بعد تكوُّنها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/1/
أدوار تاريخ اللغة
العصر الجاهلي: وفيه ما لحق اللغة من التنوع والتغير في ألفاظها وتراكيبها قبل الإسلام. العصر الإسلامي: أي أثر الإسلام في ألفاظ اللغة وتراكيبها. الألفاظ الإدارية في الدولة العربية. الألفاظ العلمية في الدولة العربية. الألفاظ الاجتماعية ونحوها. الألفاظ النصرانية. الألفاظ الأعجمية في دول الأعاجم. النهضة الحديثة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/2/
العصر الجاهلي
ويراد به الزمن الذي مرَّ على اللغة العربية قبل الإسلام، ولا يمكن تعيين أوله لضياع ذلك في ثنيات الدهور التي مرت قبل زمن التاريخ. ولكننا نعتقد أن اللغة العربية نشأت ونَمَت، أي تميَّزت فيها الأسماء والأفعال والحروف، وتكوَّنت فيها معظم الاشتقاقات والمَزِيدات؛ وهي لا تزال في حجر أُمِّها، أي قبل انفصالها عن أخواتها الكلدانية والعبرانية والفينيقية، وغيرها من اللغات السامية. وبعبارة أخرى إن أم هذه اللغات، ويسمُّونها اللغة السامية أو الآرامية، تمَّ نموُّها فتكوَّنت أفعالها وأسماؤها وحروفها واشتقاقاتها ومَزِيداتها، قبل أن تشتَّتَ أهلها أو نزحوا إلى فينيقية وجزيرة العرب وما بين النهرين، حيث اختلفت لغة كل قوم منهم بعد ذلك النزوح باختلاف أحوالهم، فتولَّدت منها اللغات السامية المعروفة. فالساميون الذين نزلوا جزيرة العرب تنوَّعت لغتهم تنوُّعًا يناسب ما يحيط بهم من الأحوال أو يجاورهم من الأمم، فتميَّزت عن أخواتها بأمور خاصة هي خصائص اللغة العربية. وتشعَّبت هذه اللغة في أثناء ذلك إلى فروع يختلف بعضها عن بعض باختلاف الأصقاع، وهي لغات الحجاز واليمن والحبشة، وتفرَّعت لغة كلٍّ من تلك البقاع إلى فروع باعتبار القبائل والبطون مما لا يمكن حصره، كلُّ ذلك حدث قبل زمن التاريخ. ويكفينا في هذا المقام البحث في لغة الحجاز وحدها، وهي اللغة العربية التي وصلت إلينا. لقد كانت قبل تدوينها — أي قبل الإسلام — لغات عديدة تُعرَف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب، كلغات تميم وربيعة ومُضَر وقَيْس وهُذَيْل وقُضاعة وغيرها كما هو مشهور. وأقرب هذه اللغات شبهًا باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الاختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام وخاصة أهل مكة، وبالأخص قريش فقد كانوا أهل تجارة وسفر شمالًا إلى الشام والعراق ومصر، وجنوبًا إلى بلاد اليمن، وشرقًا إلى خليج فارس وما وراءه، وغربًا إلى بلاد الحبشة. فضلًا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة، وفيهم الهنود والفرس والأنباط واليمنية والأحباش والمصريون، عدا الذين كانوا ينزحون إليها من جالية اليهود والنصارى. فدعا ذلك كله إلى ارتقاء اللغة بما تولَّد فيها أو دخلها من الاشتقاقات والتراكيب مما لا مثيل له في اللغات الأخرى. وزاد ذلك الاقتباس خاصة على أثر النهضة التي حدثت في القرنين الأول والثاني قبل الإسلام بنزول الحبشة والفرس في اليمن والحجاز، على أثر استبداد ذي نواس مَلِك اليمن وكان يهوديًّا فاضطَهَد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد وخاصة أهل نجران، فطلب إليهم اعتناق اليهودية فلما أَبَوْا قتلهم حرقًا وذبحًا، فاستنجد بعضهم بالحبشة فحَمَل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينًا وأذلُّوا ملوكها أعوامًا، ثم أَنِف أحدُ ملوكها ذو يَزَن فاستنجَد بالفرس على عهد كسرى أنوشروان فأنجَدَه طمعًا في الفتح، فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملَكوها ٧٢ عامًا. وكانوا في أثناء ذلك يترددون إلى الحجاز وحاولوا فتحه في أواسط القرن السادس، فجاءوا مكة بأفيالهم ورجالهم ولم يفلحوا، واهتمَّ أهل الحجاز بقدوم الحبشة إلى مكة حتى أرَّخوا منه وهو عام الفيل. ولما فتح الفرس اليمن أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطَّنوا، وكانوا يَقدَمون إلى الحجاز وأهل الحجاز يترددون إليهم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/3/
الألفاظ الأعجمية
فكان لهذه النهضة تأثير كبير في اللغة العربية فتكاثرت ألفاظها ومشتقاتها، فلما جمعوا اللغة بلغت صِيَغ أبنية الأسماء فقط بضع مئات، ثم صارت بعد ذلك ببضعة قرون ألفًا ومائتين وعشرة أمثلة، ناهيك بما دخلها من الألفاظ الغريبة وما اقتبسه من التراكيب الأجنبية، ولكن أكثره ضاع فيها وتنوع شكله ولم يَعُدْ يتميَّز أصله. على أننا نستدل على تكاثر الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية بخلو أخواتها من أمثال تلك الألفاظ، فإذا رأينا لفظًا في العربية لم نرَ له شبيهًا في العبرانية أو الكلدانية أو الحبشية ترجَّح عندنا أنه دخيل فيها. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير أو الأدوات أو المصنوعات أو المعادن أو نحوها، مما يُحمَل إلى بلاد العرب من بلاد الفرس أو الروم أو الهند أو غيرها ولم يكن للعرب معرفة به من قبل، أو في أسماء بعض المصطلحات الدينية أو الأدبية، وأكثر ذلك منقول عن العبرانية أو الحبشية لأن اليهود والأحباش من أهل الكتاب. ويقال بالإجمال إن العرب اقتبسوا من لغة الفرس أكثر مما اقتبسوا من سواها، ولذلك رأينا أئمة اللغة إذا أشكل عليهم أصل بعض الألفاظ الأعجمية عدُّوها فارسية. ومن أمثلة ما ذكره صاحب «المُزهِر» من الألفاظ الفارسية: «الكوز، الجرة، الإبريق، الطشت، الخوان، الطبق، القصعة، السُّكُرُّجة، السَّمُّور، السنجاب، القَاقُم، الفَنَك، الدَّلَق، الخز، الديباج، التَّاخُتْج، السندس، الياقوت، الفيروزج، البِلَّوْر، الكعك، الدَّرْمَك، الجَرْدق، السَّمِيذ، السِّكْباج، الزيرباج، الإسفِيذاج، الطَّبَاهِج، الفالُوذَج، اللَّوْزِينَجُ، الجَوْزِينَج، النَّفْرِينَج، الجُلَّاب، السَّكَنْجُبِين، الجَلَنْجُبِين، الدَّارَصِيني، الفلفل، الكراويا، الزنجبيل، الخُولِنْجان، القرفة، النرجس، البنفسج، النسرين، الخِيرِي، السوسن، المَرْزَنجوش، الياسمين، الجُلَّنار، المسك، العنبر، الكافور، الصندل، القرنفل.» ا.ﻫ. وعندنا أن بعض هذه الألفاظ غير فارسي كما سترى. ومما اقتبسوه من اليونانية واللاتينية: الفردوس، والقسطاس، والبطاقة، والقَرَسْطون، والقبان، والأصطرلاب، والقسطل، والقنطار، والبطريق، والترياق، والقنطرة، وغيرها كثير. وأما ما نقلوه عن الحبشية فأكثره لا يدل على أصله لتغير شكله ولأن الحبشية والعربية أختان تتشابه الألفاظ فيهما، والمشهور عند علماء العربية من الألفاظ المقتبسة من الحبشية ثلاثة: كفلين، والمشكاة، والهرج. لكننا لا نشك في أنهم اقتبسوا كثيرًا غيرها وخاصة ما يتعلَّق منها بالاصطلاحات الدينية، من ذلك قولهم «المنبر» وهو عند العرب «مكان مرتفع في الجامع أو الكنيسة يقف فيه الخطيب أو الواعظ»، وقد شقَّه صاحب «القاموس» من «نبر» أي ارتفع وفي ذلك الاشتقاق تكلُّف، وعندنا أنه مُعرَّب «ومبر» في الحبشية أي كرسي أو مجلس أو عرش. ومن هذا القبيل لفظ «النفاق» وهو عند العرب «ستر الكفر في القلب وإظهار الإيمان»، وقد شقُّوه من «نفق» راج أو رغب فيه، وليس بين المعنيَين تناسب، واضطُرُّوا لتعليله إلى استعارة خروج اليربوع من نافقائه فقالوا: «ومنه اشتقاق المنافق في الدِّين.» وهو تكلُّف نحن في غنًى عنه إذا عرفنا أن «نفاق» في الحبشية معناها الهرطقة أو البدعة أو الضلال في الدين، وهي من التعبيرات النصرانية التي شاعت في الحبشية بدخول النصرانية فيها. وكذلك لفظ «الحواريِّ»، شقَّه صاحب «القاموس» من «حار» بمعنى البياض، وقال في معنى الحواري إنه سُمِّي بذلك لخلوص نية الحواريين ونقاء سريرتهم، أو لأنهم كانوا يلبسون الثياب البيض. والأظهر أن هذه اللفظة مُعرَّب «حواري» في الحبشية ومعناها فيها «الرسول»، وهو المعنى المراد بها في العربية تمامًا. وكذلك «برهان»، وقد شقَّها صاحب «القاموس» من «برهن»، وشقَّها غيره من «بره» بمعنى القطع وأن النون زائدة فيها. وهي في الحبشية «برهان» أي النور أو الإيضاح، مشتقة من «بره» عندهم أي اتَّضح أو أَنَار. وقس على ذلك كثيرًا من أمثاله، كالمُصحَف فإنه حبشي من «صحف» أي كتب، والمصحف الكتاب. ناهيك بأسماء الحيوانات أو النباتات أو نحوها، فإن «عنبسة» من أسماء الأسد عند العرب وهي اسم الأسد بالحبشية. وقد أخذوا عن العبرانية كثيرًا من الألفاظ الدينية كالحج والكاهن والعاشوراء وغيرها، وأكثرها نُقِل إلى الصيغ العربية لتقارب اللفظ والمعنى في اللغتين لأنهما شقيقتان. ويضيق هذا المقام عن إيراد الأمثلة. ولا ريب أن العرب اقتبسوا كثيرًا من الألفاظ السنسكريتية ممن كان يخالطهم من الهنود في أثناء السفر للتجارة أو الحج، لأن جزيرة العرب كانت واسطة الاتصال بين الشرق والغرب فكل تجارات الهند المحمولة إلى مصر أو الشام أو المغرب كانت تمرُّ ببلاد العرب، ويكون للعرب في حملها أو ترويجها شأن. وقد عثرنا في السنسكريتية على ألفاظ تُشبِه ألفاظًا عربية تغلب أن تكون سنسكريتية الأصل لخلوِّ أخوات العربية من أمثالها كقولهم «صبح» و«بهاء»، فإنهما في السنسكريتية بهذا اللفظ تمامًا ويدلَّان على الإشراق أو الإضاءة، ولا يُعقَل أنهما مأخوذان عن العربية لأن السنسكريتية دُوِّنت قبل العربية بزمن مديد. ونظن لفظ «سفينة» سنسكريتي الأصل أيضًا، وكذلك «ضياء». ولعلنا بزيادة درسنا اللغة السنسكريتية ينكشف لنا كثير من أمثال ذلك. على أننا نرجِّح أن العرب أخذوا عن الهنود كثيرًا من المصطلحات التجارية وأسماء السفن وأدواتها وأسماء الحجارة الكريمة والعقاقير والطِّيب مما يُحمَل من بلاد الهند، والعرب يعدُّونها عربية أو يلحقونها بالألفاظ الفارسية تساهلًا كالمسك مثلًا، فقد رأيتُ صاحب «المُزهِر» يعدُّه فارسيًّا وهكذا يقول صاحب «القاموس»، وهو في الحقيقة سنسكريتي ولفظه فيها «مشكا». وذكروا «الكافور» بين الألفاظ الفارسية، وهو هندي على لغة أهل ملقا ولفظه عندهم «كابور». وقد ذكروا أيضًا أن القرنفل فارسي، والغالب عندنا أنه سنسكريتي لأن أصله من الهند. وقِسْ عليه. وتعيين أصل اللفظ لإلحاقه باللغة المأخوذ منها يحتاج إلى نظر لا يكفي فيه المشابهة اللفظية، إذ كثيرًا ما تتفق كلمتان من لغتين في لفظ واحد ومعنًى واحد ولا تكون بينهما علاقة، وإنما يقع ذلك على سبيل النوادر بالاتفاق، إلَّا إذا دلَّتِ القرائن على انتقال إحداهما من لغة إلى أخرى وسَاعَد الاشتقاق على ذلك. فإذا اتفق لفظان متقاربان لفظًا ومعنًى في لغتين، وكان بين أهل تَيْنِك اللغتين علاقات مُتبادَلة من تجارة أو صناعة أو سياسة؛ فإن لنا الظن أن إحداهما اقتبست من الأخرى. فإذا كان ذلك اللفظ من أسماء المحاصيل أو المصنوعات أو الأدوات فيُرَجَّح لحاقه باللغة السابقة إلى ذلك، كلفظ «المسك» مثلًا فإنه موجود في العربية وفي الفارسية وفي السنسكريتية وفروعها، فإذا عرفنا أن المسك يُحمَل إلى العالَم من تونكين وتيبت ونيبال والصين، وأن الهنود القدماء كانوا يَحمِلون الطِّيب إلى الأمم القديمة ويمرُّون بسفنهم ببلاد العرب؛ ترجَّح عندنا أن العرب أخذوا هذه اللفظة عن الهنود كما أخذها الفرس منهم، أو لعلها انتقلت إلى الفارسية من العربية لأن الفرس يعدُّونها عربية كما يعدُّها العرب فارسية، أو هي في الفارسية باعتبار أنها فرع من السنسكريتية كما هي في الإنجليزية بطريق التفرع، وكما هي في اللاتينية لأنها أخت السنسكريتية، ومن اللاتينية انتقلت إلى الفرنسية لأنها فرع من اللاتينية. ويقال نحو ذلك في «كافور» فإن العرب يعدونها فارسية والفرس يقولون إنها عربية، وهي موجودة أيضًا في السنسكريتية واللاتينية وفروعهما، فبأيِّها نُلحِقها؟ في مثل هذه الحال يجب البحث في مصدر الكافور، فإذا علمنا أنه يُصَدَّر من اليابان والصين ومن ملقا وأن اسمه باللغة الملقية «كابور»، ترجَّح عندنا أنه ملقي الأصل. وكذلك «الزنجبيل» — الجذور المعروفة — فإن العرب يقولون إنها تعريب «شنكبيل» في الفارسية والفرس يقولون إنها عربية، ولم نجد «شنكبيل» في القاموس الفارسي. وإذا بحثنا عن اسم هذا العقَّار في اللغات الأخرى رأينا اسمه في اليونانية «زنجباريس» وفي اللاتينية «زنجبار»، فأول ما يتبادر إلى الذهن أنه من «زنجبار» البلد المعروف وأنه سُمِّي بذلك لأنه كان يُحمَل منه أو لسبب آخر، فإذا رجعنا إلى منبت هذا العقَّار رأيناه هنديًّا ورأينا اسمه في اللغة السنسكريتية «زرنجابيرا» مشتقة من «كرينجا» أو «زرنجا» أي القرن لمشابهة جذوره به، فيترجَّح عندنا أنه سنسكريتي الأصل. ومن هذا القبيل «الفلفل»، فإن العرب يقولون إنه فارسي والفرس يقولون إنه عربي، وهو موجود أيضًا بمثل هذا اللفظ في الإنجليزية والألمانية واللاتينية، ويوجد أيضًا في السنسكريتية ويُلفَظ فيها «ببالا» أو «فيفالا». ولمَّا كان الفلفل من محاصيل الهند وأجوده يَرِد من مالابار، نرجِّح أن هذه اللفظة سنسكريتية الأصل، ومعنى «ببالا» عندهم أيضًا «التينة المقدَّسة». ويقال عكس ذلك في الألفاظ الدالَّة على محاصيل بلاد العرب أو حيواناتها، كالقهوة مثلًا فإنها موجودة في الفارسية وفي كل لغات أوروبا، فالأرجح أنها عربية الأصل لأن هذه اللفظة كانت عند العرب قبل اصطناع القهوة اسمًا من أسماء الخمر، فأطلقوها على قهوة البن. ومثل ذلك أسماء الجَمَل والزرافة والغزال وغيرها من أسماء الحيوانات العربية، وربما كان بعضها مأخوذًا في الأصل من لغة غير عربية. وإذا كانت اللفظة المشتركة بين لغتين من قَبِيل المصنوعات، فإلحاقها بأصحاب تلك الصناعة من الأمتين أولى، فقد اختلط العرب بالفرس وخاصة بعد الإسلام وأخذوا منهم كثيرًا من الملابس والأنسجة، ولم ينقلوها إلى لسانهم بل عرَّبوها وأبقَوْها على ما هي، كالسراويل والقَبَاء (ومنها الجبة) والتُّبَّان والجورب والدِّيباج والأرجوان والسرموج والقفطان والطربوش والبابوج، كما فعل أهل هذا العصر بأسماء الملابس الإفرنجية التي اقتبسوها من الإفرنج في تمدُّنهم الأخير كالبنطلون والجاكت واللستيك وغيرها. ••• واقتبس العرب من الفرس كثيرًا من ألوان الأطعمة وأنواع الأسلحة والفرش والأدوات وأبقَوْها على لفظها الأعجمي، وهي كثيرة يضيق هذا المقام عن ذكرها، ومنها الجلاب والجلنار والبنفسج والخشاف والخوذة والدسكرة والدولاب والدهقان والسرجين والسرداب والطنبور والفرسخ وغيرها كثير، فإلحاقها بلغاتها الأصلية يسوِّغه أولًا التاريخ لأنه يدلُّنا على أن العرب اقتبسوا تلك المواد من الفرس، فإذا تأيَّد ذلك بالاشتقاق اللغوي كان الدليل أثبت، مثل: «جلاب» فإنها مؤلَّفة في الأصل الفارسي من «كل آب» أي ماء الزهر، و«خشاف» من «خوش آب»، و«سرداب» من «سرد آب»، أو «سردابه» بيت الثلج من «سرد» أي بارد و«آب» ماء، والطربوش من «سربوش» أي غطاء الرأس، والبابوج من «بابوش» أي غطاء القدم. وقد لا يهدينا التاريخ مطلقًا، كما في لفظ «جاموس» فإن التاريخ لا يساعدنا على معرفة أصلها هل هي عربية أو فارسية، فإذا رجعنا إلى الاشتقاق لم نرَ لها اشتقاقًا في العربية، أما في الفارسية فإنها مركَّبة من لفظين: «كاو» ثور أو بقرة، و«ميش» كبش، ولكن الجاموس هندي الأصل ومعنى «جاوميشا» في السنسكريتية «البقرة الكاذبة». وبالجملة فقد دخل العربية ألفاظ كثيرة من معظم اللغات التي كانت شائعة في التاريخ القديم، ممن خالط العرب كالمصريين القدماء والحيثيين والفينيقيين والكلدان والهنود والفرس، حتى الزنوج والنوبة وغيرهم مما لم يَعُدْ تمييز أصله ممكنًا لتقادم عهده واختلاف شكله. ومن أمثلة ما أخذوه عن اللغة المصرية القديمة الهيروغليفية لفظ «قبس» بمعنى الشعلة، فهي في الهيروغليفية «خبس» ومعناها مصباح. وبعض تلك الاقتباسات أخذها العرب رأسًا عن أصحابها والبعض الآخر حُمِلتْ إليهم على يد الأمم الأخرى، كما نقل لهم اليهود لفظ «نبي» من اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» وأصل معناه فيها «رئيس العائلة» أو «رب المنزل»، وكما نقل لهم الفرس «الشطرنج» عن اللغة الهندية السنسكريتية فحسبها العرب فارسية، وقالوا إنها تعريب «شتررنك» بالفارسية ومعناها ستة ألوان، ولعلهم يريدون «ششرنك»، والصواب أنها لعبة هندية قديمة كانت تُسمَّى في اللغة السنسكريتية «شتورنكا»، أي الأجزاء الأربعة التي يتألَّف منها الجند عندهم وهي الأفراس والأفيال والمركبات والمشاة، فأخذها الفرس عنهم نحو القرن السادس للميلاد، ثم أخذها العرب عن الفرس فحسبوها فارسية وتكلَّفوا في تعليلها كما رأيتَ. ولم يقتصر العرب على اقتباس الألفاظ من اللغات الأخرى واستبقائها على حالها، ولكنهم صرَّفوها وشقُّوا منها الأفعال ونوَّعوا معناها على ما اقتضتْه أحوالهم، فقد شقُّوا من لفظ النبي «نبأ» و«تنبأ» و«نابأ». وشقُّوا من «قبس» أفعالًا وأسماء عديدة. ومن هذا القَبِيل «اللجام» وهو من «لكام» في الفارسية، فشقوا منه أولًا «ألجم الدابة» ألبسها اللجام، و«الْتَجَمَتِ الدابة» مطاوع «أَلْجَمَ»، وجمعوا «لجام» على «لُجُم» و«أَلْجِمة»، ثم استخدموه مجازًا فقالوا: «لجمه الماء»، أي بلغ فاه. وقالوا: «لفظ لجامه»، أي انصرف من حاجته مجهودًا من الإعياء والعطش. وقولهم «التَّقِيُّ مُلجَّم» أرادوا به أنه مقيَّد اللسان والكفِّ. و«المهر» الخاتم في الفارسية، استعاره العرب وبَنَوْا منه فعلًا فقالوا: «مهر الكتاب»، أي ختمه بالمهر. ومن ذلك ما شقُّوه من لفظ «ديوان» وهي أعجمية فقالوا: «دوَّن»، أي كتب اسمه في الجندية. وقِسْ على ذلك كثيرًا من الألفاظ الدخيلة التي يعتقد العرب أنها عربية، وقد شقوا منها الأفعال والأسماء، مثل: «سراب» وهي تعريب «سيرآب» في الفارسية، أي مملوء ماء. والزمهرير من «زم أريز» بالفارسية، أي ضباب بارد. وجزاف من «كزاف» بالفارسية، أي العبث من الكلام. والضنك من «تنك» في الفارسية ضيق، وقد شقُّوا منها أفعالًا وأسماء ترجع إلى هذا المعنى. ثم إن أكثر ما أدخله العرب إلى لغتهم من الألفاظ الأجنبية، لم يكن له ما يقوم مقامه في لسانهم. على أن كثيرًا منه كانت له عندهم أسماء مشهورة لا يبعد أن يكون بعضها دخيلًا أيضًا، فغلب استعمال الدخيل الجديد وأُهمِل القديم. من ذلك أن العرب كانوا يسمون الإبريق «تامورة» والطاجن «مقلى» والهاوون «منحاز» أو «مهراس» والميزاب «مثقب» والسُّكُرُّجة «الثقوة» والمسك «المشموم» والجاسوس «الناطس» والتوت «الفرصاد» والأُتْرُج «المُتْك» والكوسج «الأَثَطُّ» والباذنجان «الأنَب» والرصاص «الصَّرَفَان» والخيار «القَتَد». فهذه الأسماء وأمثالها أهملها العرب قبل الإسلام بعد أن استبدلوها بأسماء دخيلة، فعلوا ذلك عفوًا بلا تواطؤ أو قصد وإنما هو ناموس النمو يقضي عليهم بذلك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/4/
التغيير في الألفاظ
ذكرنا فيما تقدم أمثلة مما دخل اللغة العربية من الألفاظ الأجنبية قبل زمن التاريخ الذي عبَّرنا عنه بالعصر الجاهلي، ونذكر الآن ما لَحِق ألفاظها الأصلية من التنوع والتفرع في ذلك العصر، والأدلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بالواضح الصريح، فنذكر أولًا ما نستدل عليه من مقابلة العربية بأخواتها العبرانية والسريانية، ثم ما تشهد به حال اللغة العربية نفسها. من الحقائق المقررة أن العربية والعبرانية والسريانية كانت في قديم الزمان لغة واحدة، كما كانت لغات عرب الشام ومصر والعراق والحجاز في صدر الإسلام. فلما تفرق الشعب السامي أخذت لغة كل قبيلة تتنوع بالنمو والتجدد على مقتضيات أحوالها، فتولدت منها لغات عديدة أشهرها اليوم العربية والعبرانية والسريانية، كما تفرعت عربية قريش بعد الإسلام إلى لغات الشام ومصر والعراق والحجاز وغيرها، ولكن الفرق بين فروع اللغة السامية أبعد مما بين فروع اللغة العربية لتقيُّد هذه بالقرآن وكتب اللغة. فإذا راجعتَ الألفاظ السامية المشتركة في العربية وأخواتها، رأيتَ مدلولاتها قد اختلفت في كل واحدة عما في الأخرى. والأدلة على ذلك لا تُحصَى، إذ لا تخلو المعجمات من شاهد أو غير شاهد في كل صفحة من صفحاتها، فنكتفي بالإشارة إلى بعضها على سبيل المثال: فلفظ «الشتاء» في العربية مثلًا هو أصل مادة «شتاء» في «القاموس»، وكل مشتقاتها ترجع في دلالتها إلى معنى الشتاء (الفصل المعروف)، فقالوا: شتا في المكان: أقام فيه شتاءً، وشتا فلان: دخل في الشتاء، وأشتى القوم إشتاءً: أجدبوا في الشتاء … إلخ. ولم يدلَّنا صاحب «القاموس» على أصل هذا المعنى في هذا اللفظ، ولكنه أورد رأي المُبرِّد في ذلك، فقال إن الشتاء جمع شتوة، وإن الشتوة «الغبراء التي تهبُّ فيها الرياح والأرض يابسة فيهيج الغبار.» وفي قوله تكلُّف. على أننا إذا راجعنا هذه المادة في اللغات السامية رأينا الأصل في دلالتها «الشرب» أو «الري» أو «الصب»، فهي كذلك في العبرانية والسريانية إلى اليوم، وقد شقوا منها الأفعال والأسماء لمعانٍ كثيرة ترجع إلى الري ونحوه، إلا فصل الشتاء فإنهم شقوا له كلمة من أصل آخر يقرب منه لفظًا. ويُؤخَذ من مراجعات كثيرة أن المادة الأصلية «شتا» كانت تدل على الرطوبة أو الري في اللغة السامية، فلما تفرقت القبائل كما تقدَّم تولَّدت منها المشتقات وتنوعت معانيها على مقتضى الأحوال، فتولد منها لفظ الشتاء للمعنى المعروف له في العربية وأُهمِل معنى الشرب أو الري منها. ومع ذلك فلو تدبَّرتَ مشتقات هذه اللفظة في أخوات العربية لرأيتَها تختلف الواحدة عما في الأخرى. وإذا بحثنا عن لفظ «شهر» في العربية بالمقابلة مع أخواتها، رأينا الأصل فيه الدلالة على الاستدارة، ثم سموا القمر به لأنه مستدير، ثم أطلقه العرب على الشهر لأنهم كانوا يوقِّتون بالقمر، على أن دلالته على القمر لا تزال باقية في العربية إلى اليوم، وكذلك في السريانية «سهرا» تدل عندهم على الشهر والقمر. وأما العبرانية فإن للقمر فيها لفظًا مشتقًّا من مادة أخرى هي «يرَح» والأصل في معناها «الدوران»، فاشتقوا منها «يارح» للدلالة على القمر وعلى الشهر. ومن هذه المادة في العربية «رواح» أي العشي، فكانوا يقولون: «راح فلان» أي جاء أو ذهب في العشي، أي إن أصل المعنى راجع إلى «العشي» بغير تقييد بالذهاب أو المجيء مثل قولهم: أصبح وأمسى، ثم غلبت فيها الدلالة على الذهاب في العشي، ثم صارت للدلالة على مطلق الذهاب. حدث كل ذلك التنوع بلا قصد ولا تواطؤ. ومن بقايا «يرَح» في العربية مادة أشكل على أئمة اللغة معرفة أصلها، فعدَّها بعضهم فارسية وعدَّها آخَرون يونانية واكتفى غيرهم بأنها غير عربية، وهي في الحقيقة سامية الأصل نعني بها لفظ «آرخ» أو «ورَخ» أو «أرَّخ» بمعنى وقَّت. والأظهر عندنا أنها من بقايا اسم الشهر عندهم «يرح» — والإبدال بين الخاء والحاء هيِّن — ومنه «التاريخ» تعريف الوقت، ثم تنوَّع معنى هذه اللفظة فصاروا يدلون بها على علم التاريخ، أي ذكر الوقائع والحوادث. ومن هذا القَبِيل «كتب»، فإن الأصل في دلالتها «حفر في الحجر أو الخشب»، فالظاهر أنهم استعملوها في أول عهدهم بالكتابة وكانوا يكتبون على الحجارة أو الخشب حفرًا أو نحتًا شأن الكتابة عند الأمم القديمة، فلما صاروا يكتبون بالمداد على الرقوق أو الأقمشة تحوَّل معناها إلى الكتابة المعروفة ولم يَبْقَ لدلالتها على الحفر أثر في العربية، وإنْ كنَّا نرى أثر ذلك في «قطب» ونحوها من تفرعات «قط» حكاية صوت القطع. فيلوح لنا أن الأصل في دلالة كتب (أو قطب) على الحفر أنهم كانوا يقولون مثلًا: «قطَّ بالخشب»، أي قطع في الخشب أو حفر الخشب، ثم ألصقوا الباء بالفعل فصار «كتب» أو «قطب»، كما ألصق عامتنا الباء المذكورة بفعل المجيء فبدلًا من أن يقولوا: «جاء به»، قالوا: «جابه»، وصرَّفوه فقالوا: «يجيبه، وجابوه، ويجيبوه» بدلًا من «يجيء به، وجاءوا به، ويجيئون به …» ومثل «كتب» أيضًا «سطر»، فإنها كانت تدل في الأصل على الحفر، ثم تحوَّل معناها للدلالة على الكتابة للسبب عينه، ولا تزال «سطر» تدل على الحفر أيضًا في العبرانية، وأما في العربية فقد بقيت الدلالة على ذلك في لفظ مجانس لها هو «شطر» أو نحوها. وكثيرًا ما تحوَّل المعنى في بعض الألفاظ بانتقاله من الكل إلى الجزء أو من الصفة إلى الموصوف مثل «اللحم» في العربية، فإن معناها في اللغات السامية «الطعام» على إجماله، ثم خصَّصه العرب بالدلالة على أهم الأطعمة عندهم وهو اللحم، وصار في السريانية يدل على الخبز. والأصل في «طبخ» الدلالة على «الذبح» واللفظان متشابهان، فتحوَّل معناها في العربية إلى مُعالَجة اللحم للطعام، واستعملوا للذبح كلمة تقرب منها لفظًا. و«الملح» أصل دلالته في اللغات السامية كلها من «ملح أو ملأ» أي نبع الماء، ثم تحوَّل معناها إلى أكبر مستودعات الماء وهو «البحر»، ونظرًا لظهور الملوحة في مياه البحر أكثر من سائر صفاتها ولأن الملح يُستخرَج منها سمُّوا الملح بها. والظاهر أن هذه اللفظة كانت في أمهات اللغات السامية والآرية قبل تفرقها، فإن اسم البحر في اليونانية يشبه أن يكون مبدلًا من «ملح» أو أن تكون «ملح» مبدلة منه، وكذلك في اللغة السنسكريتية. و«إنبو» كانت تدل في اللغة السامية الأصلية على «الثمر» عمومًا، وما زالت تدل على ذلك في اللغة الآشورية، والآرامية. أما في العبرانية فقد أُدغِمت النون في الباء وعُوِّض عنها بالتشديد فصارت «آبه» بتشديد الباء، عملًا بقاعدة جارية في نحو ذلك باللغة العبرانية، ثم شقوا من هذه اللفظة فعلًا فقالوا: «أبب» بمعنى أثمر. وأما في السريانية فقد أصاب هذه اللفظة نفس ما أصابها في العبرانية، وصارت «آبا» وهي تدل عندهم على الفاكهة كالتين والبطيخ والزبيب واللوز والرمان. وأما في العربية فقد حدث نحو ذلك، ولكن «الأب» صار عندهم للدلالة على الكلأ والمرعى أو ما أنبتت الأرض، وقالوا: «الأبُّ للبهائم كالفاكهة للناس.» ••• وتحولت «إنبو» أيضًا بالإبدال إلى «عنبو»، ومنها «عنب» للدلالة على نوع واحد من الأثمار هو ثمر الكرم، وهذه دلالتها الآن في اللغات العربية والعبرانية والسريانية، بعد أن كانت تدل في أقدم أزمانها على الثمر عمومًا. ويقال نحو ذلك في «عبَد»، فإنها في اللغات السامية تدل على العمل وخاصة الحرث في الحقل، ولم يبقَ من مشتقات «عبَد» في العربية ما يدل على معناها الأصلي إلَّا «المعبَدَة»، أي «المجرَفة» أو «المحراث». وفيما خلا ذلك فإن «عبَد» ومشتقاتها إنما تدل على العبادة، ومنها «العبد» أي الرق و«التعبُّد»، لأن خَدَمة الحقول كان أكثرهم من الأرقاء، ولما كان أكثر الأرقاء من الزنوج دل المولدون بلفظ العبد على الزنوج السود خاصة. ومن هذا القبيل «الثلج»، والأصل فيه الدلالة على البياض ثم أُطلِق على أشهر المواد البيضاء. ••• ومن أمثلة ما فُقِد أصله من الألفاظ السامية في اللغة العربية وبقي فرعه لفظ «الشعر» بمعنى المنظوم، فقد شقَّه صاحب «القاموس» من «شَعَر الرجل» بمعنى فَطِن وأحسَّ، فقال: «وسُمِّي الشاعر شاعرًا لفطنته وشعوره.» ويلوح لنا من خلال هذا التعليل تسامح لا يرتاح إليه العقل، والأظهر عندنا أن «الشعر» مشتق من أصل آخر فيه معنى الغناء أو الإنشاد أو الترتيل فُقِد من العربية وبقي في بعض أخواتها، ففي العبرانية أصلٌ فعليٌّ لفظه «شور» ومعناه صات أو غنَّى أو رتَّل، ومن مشتقاته «شير» قصيدة أو أنشودة، وبها سُمِّي نشيد الأناشيد في التوراة وأمثاله من القصائد أو الأناشيد التي رتَّلها اليهود في أسفارهم أو حروبهم، واليهود أقدم اشتغالًا بالنظم من العرب. فالظاهر أن العرب أخذوا عنهم كلمة «شير» للقصيدة أو الأنشودة، كما أخذوا غيرها من أسماء الآداب الدينية والأخلاقية، وأبدلوا باءها عينًا على عادتهم في كثير من أمثال هذا الإبدال فصارت «شعر»، أطلقوها على الشعر بإجماله، فلما جُمِعت اللغة عدُّوا هذا اللفظ من مشتقات «شعر». وأما أصل مادة «شور» فقد ذهب من العربية، والقياس في مقابلة الألفاظ بين العربية والعبرانية يقضي أن تُلفَظ هذه الكلمة في العربية «سور» بالسين، ولا نجد في هذه المادة عندنا ما يماثل هذا المعنى، إلا إذا اعتبرنا تسمية فصول القرآن سُوَرًا واحدتها «سورة» فيكون المراد بها الأنشودة أو الترتيلة من قَبِيل التجويد. ومن أمثلة تنوع المعاني أن لفظ «الورق» في العربية أصله من «يرق» اخضَرَّ، ومنه ورق الشجر لاخضراره، ولا يزال من هذه المادة في العربية «اليرقان» للمرض المعروف، وهو اخضرار الجلد أو اصفراره، وقد شقَّه صاحب «القاموس» من «أرق». وقس على ذلك مئات من الأمثلة تشهد على ما لحق ألفاظ اللغة العربية من تنوع معانيها ومدلولاتها قبل زمن التاريخ، باعتبار مقابلتها بألفاظ أخواتها السامية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/5/
اللغة العربية وحدها
على أننا لو اقتصرنا على مراجعة المعجمات العربية وحدها لاتضح لنا هذا الناموس بأجلى بيان، إذ نرى للمادة الواحدة أو اللفظ الواحد عدة معانٍ متفرِّعة من معنًى واحد، ثم يتنوع المعنى على مقتضيات الأحوال. ولا نحتاج في إثبات ذلك إلى إيراد الشواهد لأنه بديهي، وإنما يحسن بنا أن نشير إلى أسباب ذلك التنوع وهي كثيرة، وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم من الكلام في مقابلة الألفاظ العربية بألفاظ أخواتها كاشتقاق معنى الملح من البحر ومعنى الثلج من البياض، وغير ذلك مما بَيْنَه تناسب في المعنى. وقد تكتسب الكلمة معنًى جديدًا من عادة أو عقيدة، مثل قولهم: «بنى على أهله أو بأهله» بمعنى تزوَّج، وليس في أصل فعل البناء هذا المعنى، وإنما اكتسبه من عادة كانت جارية عند العرب، وهي أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة الزفاف. ومن هذا القَبِيل تحوَّل معنى القمر إلى الشهر لأنهم كانوا يوقِّتون بالقمر. ومن أسباب زيادة النمو في اللغة العربية غير النحت والإبدال والقلب «التصحيف»، وهو التبادل بين الحروف المتشابهة شكلًا كالباء والتاء والثاء والنون والياء، أو الجيم والحاء والخاء، أو الدال والذال، أو الراء والزاي، أو السين والشين. وقس عليه. فمن أمثلة ما ورد بمعنًى واحد وسببه التصحيف قولهم: رجل صلب وصلت، والدبر والدير، والكرت والكرب، ورغات ورغاب، والجلجلة والحلحلة، وجاض وحاص، والنافجة والنافحة … وهو كثير، وقد ذكر منه علماء اللغة مئات. والغالب أن ذلك التصحيف لم يحدث إلَّا بعد تدوين اللغة، لأنه خطأ بقراءة الخطوط. ومما اختصت به لغة العرب من نتائج هذا النمو ورودُ الألفاظ الكثيرة للمعنى الواحد، فعندهم للسنة ٢٤ اسمًا، وللنور ٢١ اسمًا، وللظلام ٥٢ اسمًا، وللشمس ٢٩ اسمًا، وللسحاب ٥٠ اسمًا، وللمطر ٨٤ اسمًا، وللبئر ٨٨ اسمًا، وللماء ١٧٠ اسمًا، وللبن ١٢ اسمًا، وللعسل نحو ذلك، وللخمر مائة اسم، وللأسد ٣٥٠ اسمًا، وللحية مائة اسم، ومثل ذلك للجَمَل، أما الناقة فأسماؤها ٢٥٥ اسمًا … وقس على ذلك أسماء الثور والفرس والحمار وغيرها من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسيف والرمح وغيرهما، ناهيك بمترادف الصفات فعندهم للطويل ٩١ لفظًا، وللقصير ١٦٠ لفظًا، ونحو ذلك للشجاع والكريم والبخيل مما يضيق المقام عن استيفائه. ومن خصائص اللغة العربية أسماء الأضداد، فإن فيها مئات من الألفاظ يدل كلٌّ منها على معنيَين متضادين، مثل قولهم: «قعد» للقيام والجلوس، و«نضح» للعطش والري، و«ذاب» للسيولة والجمود، و«أفسد» للإسراع والإبطاء، و«أقوى» للافتقار أو الاستغناء. ومن خصائصها أيضًا دلالة اللفظ الواحد على معانٍ كثيرة، فمن ألفاظها نيِّف ومائتا لفظ يدل كلٌّ منها على ثلاثة معانٍ، ونيف ومائة لفظ يدل الواحد منها على أربعة، وكذلك التي تدل على خمسة معانٍ. وقِسْ على ذلك ما يدل على ستة معانٍ فسبعة فثمانية فتسعة إلى خمسة وعشرين معنًى، كالحميم والفن والطيس. ومما تزيد مدلولاته على ذلك «الخال»، فإنها تدل على ٢٧ معنًى، وللفظ «العين» ٣٥ معنًى، وللفظ «العجوز» ٦٠ معنًى. فتكاثر المترادفات والأضداد ودلالة اللفظ الواحد على معانٍ كثيرة، لا يحدث إلَّا من تفرع ألفاظ اللغة ومعانيها بالنمو والتجدد وتكاثر الدخيل، وبالطبع لم يتكون للشيء الواحد مائة اسم أو مائتان إلا بتوالي الأجيال، وأحدث تلك الألفاظ أكثرها استعمالًا، وأقدمها أقربها إلى الإهمال.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/6/
الألفاظ الإسلامية
نريد بالعصر الإسلامي في صدد اللغة العربية الزمن الذي مر باللغة بعد ظهور الإسلام حتى كُتِبت العلوم الإسلامية، كالتفسير والحديث وسائر العلوم الشرعية واللغوية ونحوها، إلى عصر النهضة العباسية. ولا مشاحَّة في أن الإسلام أثَّر في اللغة تأثيرًا كبيرًا كان تابعًا لتأثيره في العادات والآداب والاعتقادات. ويدخل في ذلك ما طرأ على اللغة من الاصطلاحات الدينية والفقهية واللغوية والأدبية، وما دخلها من الألفاظ الإدارية على أثر إنشاء الحكومة ودوائرها وفروعها، ثم الألفاظ العلمية والفلسفية بترجمة كتب اليونان والفرس والهنود إلى العربية. ولذلك قسمنا الكلام في العصر الإسلامي إلى ثلاثة فصول، نقتصر في هذا الفصل على ما دخل اللغة العربية من التغيير بسبب العلوم الإسلامية، وهو ما عبَّرنا عنه بالألفاظ الإسلامية، ونُفرِد لكلٍّ من التغييرات الإدارية والأجنبية فصلًا خاصًّا. فتأثير العلوم الإسلامية على اللغة يكاد يكون محصورًا في تنويع الألفاظ العربية وتغيير معانيها للتعبير عما أحدثه الإسلام من المعاني الجديدة، بلا إدخال ألفاظ أعجمية إلا نادرًا. وأشهر ما حدث من التنوعات في الألفاظ العربية في العصر الإسلامي المصطلحاتُ الدينية والشرعية والفقهية واللغوية، وكانت ألفاظها موجودة قبل الإسلام ولكنها كانت تدل على معانٍ أخرى، فتحولت للدلالة على ما يقاربها من المعاني الجديدة، فلفظ «المؤمن» مثلًا كان معروفًا في الجاهلية ولكنه كان يدل عندهم على الأمان أو الإيمان وهو التصديق، فأصبح بعد الإسلام يدل على المؤمن وهو غير الكافر، وله في الشريعة شروط معينة لم تكن من قبل، وكذلك المسلم والكافر والفاسق ونحوه. ومما حدث من المصطلحات الشرعية الصلاة وأصلها في العربية الدعاء، وكذلك الركوع والسجود والحج والزكاة والنكاح فقد كان لهذه الألفاظ وأشباهها معانٍ تبدلت بالإسلام وتنوعت. وقس على ذلك في الاصطلاحات الفقهية، كالإيلاء والظهار والعدة والحضانة والنفقة والإعتاق والاستيلاء والتعزير واللقيط والآبق والوديعة والعارِيَّة والشفعة والمناسخة والفرائض والقسامة وغيرها. ويقال نحو ذلك في الاصطلاحات اللغوية التي اقتضتها العلوم اللغوية، كالنحو والعَروض والشِّعر والإعراب والإدغام والإعلال والحقيقة والمجاز والنقض والمَنْع والقَلْب والرَّفع والنصب والخفض والمديد والطويل، وغيرها من أسماء البحور وضروب الإعراب والتصريف وهي كثيرة جِدًّا ولها فروع واشتقاقات … حتى لقد أصبح للفظ الواحد معنًى فقهي، وآخر لغوي، وآخر عروضي، وآخر ديني، مما لا يمكن حصره. وسنذكر أمثلة أخرى عند الكلام على اصطلاحات المنطق وعلم الكلام. وأحدث الإسلام تغييرًا كبيرًا في أساليب التعبير كقولهم: «أطال الله بقاءك!»، فإن أول من قالها عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب. وكما أحدث الإسلام ألفاظًا جديدة للتعبير عن معانٍ جديدة اقتضاها الشرع الجديد والعلم الجديد، فقد محا من اللغة ألفاظًا قديمة ذهبت بذهاب بعض اعتقادات الجاهلية وعاداتهم، منها قولهم «المرباع» وهو ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية، و«النشيطة» وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى بيضة القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل الوصول إلى الموضع الذي قصدوه، و«المكس» وهو دراهم كانت تُؤخَذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، وكذلك الإتاوة والحلوان. ومما أُبطِل قولهم: «أَنعِم صباحًا» و«أَنعِم ظلامًا»، وقولهم للملك: «أَبَيْتَ اللَّعنَ!»، وقول المملوك لمالكه: «ربي»، وتسمية من لم يحج «صرورة»، وغير ذلك. وقد نرى بعض هذه الألفاظ مستعملًا في اللغة الآن، فهو إمَّا مستعمل في غير معناه الأصلي، وإمَّا أنه قد أُرجِع إليه بعد إهماله. على أننا لا نشك في إهمال كثير من الألفاظ العربية في القرنين الأولين للهجرة، ولا سبب لذلك غير ما يقتضيه النمو من التجدد والدثور. يكفي لتحقيق ذلك مراجعة المعجمات وتدبر ألفاظها، فإنك ترى فيها مئات وألوفًا من الألفاظ التي بطل استعمالها، ولا نظنهم جمعوها في صدر الإسلام إلَّا لأنها كانت شائعة على ألسنة العرب. وقد يُعترَض على ذلك أن تلك الألفاظ إنما أُهمِلت في العصور الأخيرة، فلا ننكر إهمال بعضها في هذه العصور، ولكن جانبًا كبيرًا منها أُهمِل في العصور الأولى فضلًا عما قَلَّ استعماله قبل الإسلام، حتى لقد كان أحدهم يسمع أعرابيًّا يتكلم فإذا ذكر ألفاظًا مهملة أُغلِق على السامع فهمها ولو كان لغويًّا: ••• يُروَى عن أبي زيد الأنصاري أنه قال: «بينما أنا في المسجد الحرام، إذ وقف علينا أعرابي فقال: يا مسلمون — بعد الحمد لله والصلاة على نبيه — إني امرؤٌ من هذا المِلْطَاط الشرقي، المُوَاصِي أسيافَ تِهَامة، عَكَفَتْ علينا سنون مُحُش، فاجْتبَّتِ الذُّرَى، وهشَمَتِ العُرَى، وجَمَشَتِ النَّجْمَ، وأعْجَتِ البَهْم، وهَمَّتِ الشَّحْمَ، والْتَحَبَتِ اللحمَ، وأَحْجَنتِ العظمَ، وغادَرَتِ الترابَ مَوْرًا، والماء غَوْرًا، والناسَ أَوْزَاعًا، والنَّبَط قُعَاعًا، والضَّهْل جُزَاعًا، والمُقام جَعْجَاعًا، يُصبِّحنا الهاوي، ويَطرُقنا العاوي. فخرجتُ لا أتلفَّع بوَصِيده، ولا أتقوَّت بمَهِيده، فالبَخَصَات وقِعة، والرُّكبات زَلعة، والأطراف فَقِعة، والجسمُ مُسْلَهِمٌّ، والنظر مُدْرَهِمٌّ، أَعْشُو فأغْطَشُ، وأَضْحَى فأَخْفَشُ، أُسْهِل ظالعًا، وأُحْزِن راكعًا! فهل مِن آمِرٍ بمَيْر، أو داعٍ بخير، وقاكم الله سطوة القادر، وملكة الكاهر، وسوء الموارد، وفضوح المصادر؟!» قال أبو زيد: «فأعطيته دينارًا، وكتبتُ كلامه واستفسرتُ منه ما لم أعرفه.» وأبو زيد الأنصاري من فطاحل أئمة اللغة. وأمثال هذه كثيرة في أخبار العرب.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/7/
الألفاظ الإدارية
كانت مصالح الدولة قبل الإسلام عبارة عن مناصب كبار الأمراء من قريش في الكعبة، كالسدانة والسقاية والرفادة والقيادة والمشورة والأعنة والسفارة والحكومة والعمارة وغيرها، وكلها عربية يدل لفظها على معناها. فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون الشام والعراق ومصر وفارس، أنشَئوا على أنقاض دولتَي الروم والفرس دولة دوَّنوا فيها الدواوين، ونظَّموا الجند، وسنُّوا القوانين على ما اقتضاه تمدنهم مما لم يكن له مثيل في جاهليتهم، فاضطُرُّوا للتعبير عن ذلك إلى ألفاظ جديدة فاستعاروا بعضها من لغات القوم الذين أقاموا بينهم وخاصة الفرس واليونان والرومان، واستعملوا لما بقي ألفاظًا عربية حوَّلوا معانيَها حتى تؤدِّي معاني تلك الموضوعات، كما فعلوا في الاصطلاحات الشرعية واللغوية. ولو شئنا ذكر كل ما استُحدِث من تلك الألفاظ لما وسعه غير المجلدات، فنكتفي بالأمثلة. أول الألفاظ الإدارية التي استُحدِثت في الدولة العربية «الخليفة»، فإنها كانت تدل في الأصل على من يخلف غيره ويقوم مقامه بدون تخصيص، ثم انحصر معناها فيمن يخلف النبي وأول الخلفاء أبو بكر، ومنها صارت تؤدِّي معنى «السلطان يحكم بين الخصوم، والسلطان الأعظم، والمحكم الذي يستخلف من قبله.» ويُقال نحو ذلك في سائر مناصب الدولة، كالوزارة والإمارة والنقابة والكتابة والحجابة والشرطة ونحوها. فإن الوزارة كانت تدل على المعاونة، ثم تغير معناها باختلاف الدول واختلاف حال الوزراء فيها، ويشتق دار مستتر لفظ الوزير من أصل فارسي قديم (بهلوي) هذا نطقه «ويجيرا»، ومعناه حكم أو أقر. ••• ومثل ذلك «الكاتب»، فقد رأيت فيما تقدم أن الأصل في دلالة «كتب» الحفر على الخشب أو الحجر لأنهم كانوا يكتبون بالحفر، فلما كتبوا بالمداد صار معناها الكتابة المعروفة. ولما ظهر الإسلام احتاجوا إلى من يكتب السُّوَر فكان الذين يكتبونها يُسمَّوْن كَتَبَة الوحي، وكان بعضهم يكتبون بين الناس في المدينة. فلما تولَّى أبو بكر استخدم كاتبًا يكتب له الكتب إلى العُمَّال والقُوَّاد، ولمَّا تولَّى عمر ودوَّن الدواوين استخدم الكَتَبة لضبط أسماء الجند وأعطياتهم، فصار الكاتب يدل على الكتابة والحساب. ولما استبدَّ الكُتَّاب في الدولة المصرية وغيرها صار الكاتب بمعنى الوزير، ويراد بالكاتب الآن العالِم المنشئ. ومن ذلك لفظ «الدولة»، فقد كانوا يريدون «انقلاب الزمان، والعقبة في المال، والفتح في الحرب»، ثم دلوا به على المَلِك ووزرائه ورجال حكومته، ولم يكن لها هذه الدلالة قبلًا. و«الحجابة» تدل في الأصل على السر والمنع فالحاجب الساتر أو المانع، فكان حاجب الخليفة من أصغر رجال الدولة. فلما ضعف الخلفاء واستبدَّ الحُجَّاب صار معنى الحاجب عندهم مثل معنى الوزير. ••• وقِسْ على ذلك سائر مناصب الدولة، كالإمارة والشرطة والقضاء والحسبة والنقابة والإمامة، وغيرها من اصطلاحات الجند كالمسترزقة والمتطوعة والعلوفة والعسكر، وضروب الحرب وأبواب الهجوم كالزحف والكر والفر والبيات والكفاح والغرة، وصنوف الأسلحة كالدبابة والكبش والعرادة وغيرها. ناهيك باصطلاحات الدواوين على إجمالها، كقولهم الثغور والعواصم والإقليم والقصبة والعمل والولاية والضياع والحكومة والسكة والتوقيع والوظيفة والخراج والجزية والعشور والمرافق والصوافي والجوالي والجباية والوقف والمصادرة والمستغَلات والصدقة والمكوس والمراصد ودار الضرب والضمان والدفاتر والجرائد والخرائط والإيغار والراتب والجاري والعطاء والبيعة والدعوة والختم والخطط والمطالعة والمؤامرة، وغير ذلك كثير جدًّا. فالألفاظ المذكورة عربية الأصل وأكثرها معروف قبل الإسلام، ولكن مدلولاتها تغيرت بتغير أحوال المسلمين بعد إنشاء دولتهم، إذ حدث بإنشائها معانٍ جديدة اضطُرُّوا في التعبير عنها إلى ألفاظ جديدة، فنوَّعوا ما عندهم إمَّا عمدًا أو عفوًا فصارت إلى ما هي عليه. ﻓ «الخراج» مثلًا كان معناه في الجاهلية الكراء والغلة، ويدل ذلك على معنى ضرب الخراج في الإسلام، فإنهم كانوا يعدون الأرض ملكًا لهم وقد سلَّموها لأهلها على سبيل الإيجار بالكراء، فصار معنى الخراج بعد ذلك «ما وُضِع على رقاب الأرض من حقوق تُؤدَّى عنها»، ثم صار الخراج مقاسمة أو مساحة أو سَيْحًا أو سقيًا، وأكثرها ألفاظ جديدة لمعانٍ جديدة. و«الحكومة» كانت تدل في الجاهلية على الفصل بين المتخاصمين لأنها مصدر حَكَم أي قَضَى، وتلك كانت أعمال صاحب الحكومة في الجاهلية، ثم تحوَّل معناها إلى «أرباب السياسة أو رجال الدولة». و«السكة» في الأصل الحديدة المنقوشة التي كانوا يضربون عليها النقود، ثم سُمِّيَت النقود بها، واشتقوا منها الأفعال والأسماء لهذا المعنى. ••• و«التوقيع» الأصل فيه «التأثير»، من قولهم: «وقَّع الوبر ظهر البعير توقيعًا»: أثَّر فيه، ثم استعملوه في الإسلام لما يوقِّعه الكاتب على القصص المرفوعة إلى الخليفة أو السلطان أو الأمير، فكان الكاتب يجلس بين يدي السلطان في مجالس حكمه، فإذا عرضت قصة (عرضحال) على السلطان أمر الكاتب أن يوقِّع عليها (يؤشِّر) بما يجب إجراؤه، ثم تحوَّل معناها إلى اسم علامة السلطان كالإمضاء عندنا. وعلى نحو هذا النمط تحوَّل معنى «الإمضاء» اليوم إلى التوقيع ومعناه في الأصل «التنفيذ»، فكان توقيع السلطان على القصة عبارة عن أمر رجال الدولة في إمضائها أي تنفيذ توقيعه، ثم تحوَّل معناها إلى التوقيع أي وضع العلامة على الصكوك ونحوها. ومن هذا القَبِيل «الوظيفة»، فإن الأصل في معناها «ما يُقَدَّر من عمل وطعام ورزق وغير ذلك»، ومنها «وظَّف عليه الخراج ونحوه» أي قدَّره، فاستعملها كُتَّاب الدولة العربية لهذا المعنى مع بعض الانحراف فقالوا: «وظَّف الرجل توظيفًا: عيَّن له في كل يوم وظيفة»، فالموظف هو الذي يأخذ الوظيفة أو الراتب، ثم توسَّعوا في لفظ الوظيفة فدلُّوا بها على المنصب أو الخدمة المعينة، والمشهور أن استعمالها لهذا المعنى من اصطلاحات هذا العصر، ولكنه أقدم من ذلك كثيرًا فقد استعملها لهذا المعنى جماعة من فحول الكتبة، كابن خلدون في مقدمته والمقريزي في خططه وغيرهما. وتولَّد في أثناء تحوُّل هذه اللفظة إلى هذا المعنى ألفاظ أخرى تقوم مقامها في معناها الأول، كالراتب والجاري والماهية (وهذه فارسية الأصل من «ماه» شهر، والماهية الشهرية.) واستحدثوا لفظة أخرى للمنصب لم يكن لها هذا المعنى من قبل وهي «الخطة»، فمعناها في «القاموس» «الأرض التي تنزلها ولم ينزل بها نازل قبلك»، و«الخطة» بالضم «الخصلة وشبه القصة والأمر والجهل» فاستعملوها بمعنى المنصب لعلاقة لا نعلمها، ومن ذلك قول ابن خلدون: «الوزارة أُمُّ الخُطَط الإسلامية والرُّتَب الملوكية.» دخول كلمة أعجمية لفظها يشبه لفظ كلمة عربية فيجعلونها من مشتقاتها، كما فعلوا بالبلاط بمعنى القصر فإنهم أخذوها عن اللاتينية، فأشبهت لفظ البلاط الحجر المعروف فجعلوها من مشتقات «بلط». ومثل قولهم «تباشير»، فقد شقها «القاموس» من «بشر» فقال: «التباشير البشرى … وتباشير الصبح أوائله، وكذلك أوائل كل شيء، ولا يكون منه فعل.» واللفظة فارسية مركبة من «تبا» مثل، و«شير» لبن، أي أبيض كاللبن. وكان الفرس يدلون بها على بياض الصبح عند أول شروق الشمس، فاقتبسها العرب منهم ودلوا بها على أوائل كل شيء وعلى البشرى. استعمال لفظين معًا لمعنًى ثم إهمال أحدهما بالاستعمال التماسًا للاختصار، فيَبقَى الآخَر للدلالة على ذلك المعنى، مثل قولهم: «ارتفاع» بمعنى جباية، فيقولون: «ارتفاع الدولة» ويريدون مقدار جبايتها أي مجموع دخلها. وليس في هذه اللفظة ما يُلمَح منه هذا المعنى ولا ذكره لها «القاموس»، وأصل هذه الدلالة أنهم كانوا يستعملون «ارتفاع» مع لفظ «جباية» فيقولون: «ارتفاع جباية الدولة»، أي مقدار ما بلغت إليه جبايتها (من «ارتفع السعر» أي غلا)، ثم أسقطوا «الجباية» للاختصار فظلت «ارتفاع» وحدها لنفس ذلك المعنى. ومثل ذلك قولهم: «أشفى العليل» بمعنى «امتنع شفاؤه» (أي ضد معنى المادة الأصلي الشفاء.) وسبب هذا التضاد أن «أشفى» من مشتقات «شفا» الواوية بمعنى الإشراف أو الاقتراب، وليس من مشتقات «شفى» اليائية كما أوردها «القاموس»، فكانوا يقولون: «أشفى المريض على الموت» أي أشرف عليه، ثم اختصروه فقالوا: «أشفى المريض» لنفس هذا المعنى، والتبس على صاحب «القاموس» أصل مادتها فعدَّها من مشتقات «شفى». وكذلك قولهم «عَقَد له» بمعنى «ولَّاه»، وليس في مادة «عقد» ما يقرب من هذا المعنى، ولا رأينا في «القاموس» أنها تُستعمَل لمعنى الولاية، ولكنها كثيرة الورود في كتب التاريخ لهذا المعنى. والأصل في هذه الدلالة أن الخلفاء في صدر الإسلام كانوا إذا وجَّهوا جيشًا إلى حرب عقدوا له الألوية وسلَّموها إلى الأمراء لكل أمير لواء، وكان توجيههم إلى الفتح يتضمن معنى الألوية على البلاد التي يفتحونها، ثم صار الخلفاء بعدهم يعقدون ذلك اللواء للأمراء عند توليتهم بعض الإمارات فيُقال: «عقد له اللواء على البلد الفلاني»، أي ولَّاه إياه، ثم اختصروا فقالوا: «عقد له.» ولمثل هذا السبب يستعمل كُتَّابنا اليوم «برهة» بمعنى الزمن القصير وهي تدل في الأصل على الزمن الطويل، فالظاهر أنهم كانوا يقولون: «برهة قصيرة» أو «برهة وجيزة» للزمن القصير، ثم استعملوا «برهة» وحدَها لهذا المعنى. تفرع اللفظ الواحد بالقلب والإبدال إلى ألفاظ كثيرة تدل على تفرعات المعنى الأصلي، وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة لا حاجة إلى ذكرها. ولكن قد يتنوع المعنى ويبقى اللفظ على حاله فيندر أن يُهْتَدَى إلى سبب ذلك التنوع، ومن أغرب الأمثلة على ذلك «جن» ومشتقاتها، فإنها تدل على معانٍ كثيرة ترجع إلى الظلمة والاختفاء والجنون والجن والجنة، ولا يَخْفَى ما بين هذه المعاني من التباين والتناقض. فلنتبع هذه اللفظة إلى أصلها لعلنا نهتدي إلى تعليل هذا الاختلاف: يظهر لنا أن هذه المادة قديمة في تاريخ اللغة، بدليل وجودها في جميع اللغات السامية وأمهات اللغات الآرية، فهي في العبرانية والسريانية على نحو ما هي في العربية لفظًا ومعنًى، وفي السنسكريتية «جان» الروح وكذلك في الفارسية. ويَظهَر أنها حدثت والإنسان في أول أدوار حياته، أي يوم كان المغول والآريون والساميون وغيرهم عائلة واحدة، لأن الصينيين يدلون على الروح بنحو هذا اللفظ أي «تسن»، وأما في اليونانية واللاتينية فتدل على الولادة أو التسلسل وهما من فروع المعنى الأصلي. و«جانا» في السنسكريتية «مسكن الأرواح أو الآلهة»، ولعل هذا هو الأصل في دلالة لفظ «الجَنَّة» (الفردوس) في اللغات السامية أيضًا. ثم تُنُوقلت حكاية الخليقة عند الساميين أجيالًا قبل تدوينها، فعرض في أثناء ذلك انتقالهم إلى اعتقاد التوحيد فأثَّر هذا الانتقال على معنى تلك اللفظة وتحول إلى ما نعلمه. فلما كُتِب سفر الخليقة كان المعنى الأول قد تُنُوسِي من اللغة العبرانية فضاع كما ضاع معنى لفظ «عدن»، فأدَّى ذلك إلى الرجم في تفسيرهما بعد ذلك. أما في السنسكريتية فلفظ «أدن» أو «عدن» معناه الأكل أو الطعام، وربما كان هذا هو المراد بجَنَّة عدن في حكاية سفر الخليقة، لأن الله خلق الإنسان ووضعه في «جنة عدن» وغرس له فيها الأشجار ليأكل ومنعه من شجرة الخير والشر، كأنه أقامه في جَنَّة فيها أكل. ••• ثم إن دلالة مادة «جان» أو «جن» على الروح في اللغات السامية لا يزال أثرها باقيًا في لفظ «الجان» العربية، والأصل في دلالتها «كل ما استتر عن الحواس من الملائكة أو الشياطين» أي الأرواح على إطلاقها. وكان اعتقاد الناس في سبب الجنون أنه حلول تلك الأرواح في المجنون، فعبَّروا عن الجنون بلفظ مشتق من «الجان» فقالوا: «جُنَّ الرجل، على المجهول: زال عقله أو فسد أو دخلته الجن.» ونظرًا لاختفاء الأرواح عن حواس البشر وخاصة عن أنظارهم، دلوا بتلك اللفظة على الظلمة والاختفاء أو الاستتار، فقالوا: «جَنَّ الليل: أظلم، وجَنَّه الليل: سَتَرَه»، فتَعلَّل بذلك تنوع معنى هذه اللفظة إلى المعاني الخمسة التي ذكرناها، وكل ما لمشتقات هذه اللفظة من المعاني يرجع إلى أحدها. ولم تخسر لفظة «جان» دلالتها على «الروح» إلا بعد أن تولَّد ما يقوم مقامها، لأسباب ترجع إلى تغيير حدث في عادات الأمم أو اعتقاداتهم. وأهم ما حدث في اعتقادات البشر الانتقال من الشرك إلى التوحيد، فلما اعتقد الساميون بالتوحيد أصبحت الأرواح السماوية عندهم أي الملائكة خدَمًا للإله العظيم ينفذها حيث شاء لتبليغ أوامره أو نواهيه، فعبروا عن الروح بلفظ «الرسول»، وهذا معنى «الملاك» في اللغات السامية فإنه اسم مفعول من «مالك» أرسل، وأصل المادة «ملك» مشى أو سار، ومنها قولهم في التوراة «ملاك الرب» أي رسول الله. وقد فُقِدت هذه المادة في العربية، ولا يزال أثرها باقيًا في «ألوكة» أي الرسالة. اكتساب اللفظ معنًى جديدًا من عادة شائعة، كما اكتسب لفظ «بَنَى» معنى الزواج من ضرب القباب على العروس ليلة الزفاف، وجملة «عقد له» معنى «ولَّاه» وقد تقدم ذكرها. وبالجملة، فقد حدث في أثناء التغيير الإداري في الدولة الإسلامية نهضة عظيمة، أحدثت تغييرًا كبيرًا في اللغة لفظًا ومعنًى، وليس ما ذكرناه إلا أمثلة قليلة. أما الألفاظ التي اقتبسها العرب في أثناء إنشاء دولتهم فكثيرة أيضًا، نأتي بأمثلة منها: من أقدم ما اقتبسوه من الألفاظ الإدارية الفارسية «الديوان» على عهد عمر بن الخطاب، فإنه أول من دوَّن الدواوين في الإسلام، فوضع الديوان على نحو ما كان عند الفرس واستعار له اللفظ الفارسي، فاستعمله أولًا للدلالة على ديوان الجند فكانوا إذا قالوا «الديوان» أرادوا ديوان الجند فقط، ثم أطلقوه على سائر الدواوين وألحقوا به ألفاظًا تميز بينها، كديوان الإنشاء وديوان العرض وديوان الضياع وديوان الخراج … وهي كثيرة. ودلوا به على الكتاب الذي تُدوَّن فيه أسماء الجنود، فكانوا إذا قالوا: «فلان من أهل الديوان» أرادوا أنه ممن أُثبِتت أسماؤهم في ذلك الكتاب، ثم أُطلِق على كل كتاب، ثم انحصر في الدلالة على الكتب التي تُجمَع فيها الأشعار، فإذا قالوا: «ديوان فلان» أرادوا به مجموع أشعاره. ولما كان أهل الديوان يجتمعون في مكان واحد سموا ذلك المكان ديوانًا، وأطلقوا لفظ الديوان على كل مجلس يُجتمَع فيه لإقامة المصالح أو النظر فيها، والعامة تعبر بالديوان عن المقعد. وقس على ذلك كثيرًا من الألفاظ الفارسية المتعلقة باصطلاحات الحكومة وخاصة الجند والأسلحة ونحوها، كالخوذة والجامَكِيَّة والجزية والدولاب والدَّلَق ودِهْقان والدَّانِق ورُسْتَاق وسَبَاهِيٍّ والبريد وزنديق وكسرى ونيشان ويَلْمَق والطراز ونحوها. والألفاظ اليونانية الإدارية قليلة في اللغة العربية، ومنها الأسطول والمنجنيق والدرهم والبطاقة والقُنْداق والكردوس والليمان. وإذا تدبرت تاريخ هذه الألفاظ في لغاتها الأصلية أو بعد انتقالها إلى العربية، رأيت مدلولاتها تنوعت بتنوع الأحوال، فالدرهم مثلًا الأصل فيه الدلالة على الوزن ثم دلوا به على نقدٍ وزنه درهم، ثم أُطلِق على النقود كلها. وأما الألفاظ اللاتينية فمنها: البلاط (بمعنى قصر الملك) والدينار والدُّمَسْتق. وربما أدخلوا ألفاظًا تركية أو هندية أو كلدانية أو نبطية أو نحوها، مما يضيق المقام عن استيفائه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/8/
الألفاظ العلمية
نريد بالألفاظ العلمية ما اقتضاه نقل كتب العلم والفلسفة إلى اللغة العربية في العصر العباسي من الألفاظ الجديدة، لتأدية ما جَدَّ من المعاني مما لم يكن له مثيل في لسان العرب، كالمصطلحات الطبية والكيماوية والفلسفية والطبيعية والرياضية والفلكية والمنطقية، وما أُلْحِق بذلك من مصطلحات علم الكلام والتصوف ونحوهما. وشأن أهل العصر العباسي في نقل تلك العلوم من اليونانية والفارسية والهندية وغيرها، مثل شأننا في نقل علوم هذا العصر من الفرنسية والإنجليزية والألمانية وغيرها، بل هم كانوا أحوج منا إلى اقتباس الألفاظ الأعجمية وتنويع المعاني العربية، لاستغنائنا عن كثير من ذلك بما وصل إلينا مما اقتبسوه ونوَّعوه من تلك الألفاظ. ولم تقتصر تلك النهضة العلمية على تنويع الألفاظ وتبديلها، ولكنها أحدثت تنويعًا في التعبير يسهل علينا تصوره لكثرته في نهضتنا هذه مما سنذكره في حينه. فالتغيير الذي أصاب اللغة العربية بنقل كتب العلم والفلسفة قسمان؛ أحدهما في المفردات والآخر في التراكيب، والتغيير اللفظي إما بتنوع الألفاظ العربية أو باقتباس ألفاظ أعجمية. هي ألفاظ عربية تنوعت معانيها للدلالة على ما حدث من المعاني الجديدة العلمية والفلسفية، التي تنوعت من قبل للدلالة على المعاني الشرعية واللغوية والأدبية في صدر الإسلام. وأول تلك الألفاظ أسماء العلوم التي نُقِلت إلى لساننا أو حدثت فيه على أثر ذلك، كالطبيعيات والإلهيات والرياضيات والمنطق والهيئة والجبر والمقابلة ونحو ذلك، مع ما في كل علم من الاصطلاحات الخاصة به وهي كثيرة جدًّا. إليك أمثلة منها: فالألفاظ الطبية العربية لم يكن منها في الجاهلية إلَّا مفردات قليلة كالحجامة والكي ونحوهما، فحدث منها ما يدل على فنون الطب كالكحالة والصيدلة والتشريح والجراحة والتوليد. ومنها ما يختص باصطلاحات كل فن كأسماء الرطوبات والأمزجة، والاختلاط من الحار والبارد والجاف واليابس، والسوداء، والصفراء، والبلغم، والنبض، والتخمة، والإنذار، والهضم، والبُحْران، والمشاركات. وأسماء الأدوية: كالمسخنات، والمبردات، والمرطبات، والمجفِّفات، والمسهِّلات، والتطولات، والمخدرات، والاستفراغات، والسعوطات، والأدهان، والمراهم، والأطلية. والكلمات الدالة على أثر تلك الأدوية، مثل: مُلطِّف، ومحلِّل، ومنضِج، ومخشِّن، وهاضم، وكاسر الرياح، ومخمِّر، ومحكك، ومقرِّح، وأكَّال، ولاذع، ومفتِّت، ومعفِّن، وكاوٍ، ومبرِّد، ومقوٍّ، ومخدِّر، ومرطِّب، وعاصر، وقابض، ومسهِّل، ومدِرٌّ، ومعرِّق، ومُزْلِق، ومملِّس، وترياق، وغير ذلك. ومن الألفاظ الجراحية: الفسخ، والهتك، والوَثْي، والرَّضُّ، والخلع، والفتق، وتفرق الاتصال، ومفارقة الوضع، والجبار وغيره. ناهيك بأسماء الأمراض أو أعراضها: كالصداع، والكابوس، والصرع، والتشنج، واللَّقْوَة، والرعشة، والاختلاج، والسرطان، والسُّلَاق، والشَّتَرة، والشرناق، والخانوق، والذبحة، والربو، وذات الجنب، وذات الرئة، والجهر، والضمور، والخفقان، والغثيان، واليرقان، والاستسقاء، والدبيلة، والإسهال، والزحير، والسحج، والسدد، والهَيْضَة، والبواسير، ونحو ذلك مما لا يمكن حصره. ومن أوصاف الأمراض: أنواع الحميات كالمزمنة، والحادة، والمختلطة، والغب، والمطبقة، والربع، والدق، وغيرها. غير الألفاظ التشريحية: كأسماء الأوعية الدموية، ورطوبات العين، وسائر الأعضاء الباطنة التي لم يكن العرب يعرفونها. ولأكثر الألفاظ الطبية العربية معانٍ لغوية عرفها العرب قبل عصر العلم، فلما احتاجوا إلى المعاني الجديدة استعملوا من تلك الألفاظ ما يقرب معناه من المعنى المقصود. ويقال نحو ذلك في الألفاظ الكيماوية، والرياضية، والفلكية، وسائر العلوم الطبيعية مما يضيق هذا المقام عن استيفائه، وقد يلزم لاصطلاحات كل علم كتاب بذاته. فمن أمثلة الألفاظ الفلكية أكثر أسماء الأبراج، والأفلاك، والمصطلحات الفلكية، والأزياج، وما يحلق ذلك كالرصد، والتعديل، والتقويم، والخسوف، والكسوف. ومن الألفاظ الرياضية في الهندسة والحساب والجبر ما لا يُحصَى كالمماس، والمخروط، والمثلث، والمربع، وغير ذلك. وأما الفلسفة والمنطق فاصطلاحاتهما تفوق الحصر. ومن العلوم التي اقتضاها التمدن الإسلامي بعد نقل الفلسفة والمنطق إلى لسان العرب، علم الكلام والتصوف مع التوسع في الفقه والأصول، وقد كان لهذه العلوم تأثير كبير في اللغة العربية فنوعت ألفاظها وأحدثت فيها ألفاظًا جديدة، وذلك كقولهم: الكون، والظهور، والقدم، والحدوث، والإثبات، والنفي، والحركة، والسكون، والمماسة، والمباينة، والوجود، والعدم، والطفرة، والأجسام، والأعراض، والتعديل، والتحرير، والمصاف … من اصطلاحات علم الكلام. والهاجس، والمريد، والمراد، والسالك، والمسافر، والسطح، والقطب، والهيبة، والأنس، والبقاء، والعناء، والشاهد، والفترة، والمجاهدة … من اصطلاحات التصوف. وقد تكاثرت الاصطلاحات الكلامية والصوفية والفقهية والأصولية حتى صارت تُعَدُّ بالألوف، فاضطُرُّوا إلى وضع المعجمات الخاصة لتفسيرها وشرح ما اكتسبته من المعاني المختلفة باختلاف تلك العلوم. ومن أشهر تلك المعجمات كتاب «التعريفات» للجرجاني في نيف ومائة صفحة، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي في نحو ألفَي صفحة كبيرة، و«كليات أبي البقاء» في أربعمائة صفحة، و«اصطلاحات الصوفية» الواردة في الفتوحات المكية، وغيرها. فإذا ذكروا لفظًا أوردوا معناه اللغوي ثم معناه الاصطلاحي في الفقه أو الكلام أو التصوف أو الأصول، مع ما يناسب ذلك من المعاني الرياضية أو الطبيعية أو النحوية، وقد يغفلون المعنى اللغوي على الإطلاق. فيقول الجرجاني في لفظ «القياس» مثلًا: «القياس في اللغة عبارة عن التقدير، يقال: «قِسْت النعل بالنعل» إذا قدرته وسويته، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره. وفي الشريعة عبارة عن المعنى المستنبَط من النص لتعدية الحكم من المنصوص عليه إلى غيره، وهو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم. وفي المنطق: قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر، كقولنا: «العالم متغير وكل متغير حادث»، فإنه قول مركب من قضيتَين إذا سلمتا لزم عنهما لذاتهما: «العالم حادث»، هذا عند المنطقيين. وعند أهل الأصول القياس إبانة مثل حكم المذكورين بمثل علته في الآخر، واختيار لفظ الإبانة دون الإثبات لأن القياس مظهر للحكم لا مثبت، وذكر مثل الحكم ومثل العلة احتراز عن لزوم القول بانتقال الأوصاف واختيار لفظ المذكورين، ليشمل القياس بين الموجودين وبين المعدومين.» ثم ميز الجرجاني بين أنواع القياس بألفاظ تلحق به، كالقياس الجلي والخفي والاستثنائي والاقترابي وقياس المساواة، ولكل منها معنًى اصطلاحي خاص. وفي الاصطلاحات الصوفية: «الهاجس» يعبرون به عن الخاطر الأول وهو الخاطر الرباني، وهو لا يخطئ أبدًا. وقد يسميه سهل «السبب الأول» و«نقر الخاطر»، فإذا تحقق في النفس سموه «إرادة»، فإذا تردد الثالثة سموه «همة»، وفي الرابعة سموه «عزمًا»، وعند التوجه إلى القلب إن كان خاطر فعل سموه «قصدًا»، ومع الشروع في الفعل سموه «نية». و«المريد» هو المتجرد عن إرادته، وقال أبو حامد: «هو الذي فُتِح له باب الأسماء ودخل في جملة المتوصلين إلى الله بالاسم.» و«المراد» عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلها والمقامات من غير مكابدة. و«السالك» هو الذي مشى على المقامات بحاله لا بعلمه فكان العلم له عينًا. و«المسافر» هو الذي سافره بفكره في المعقولات والاعتبارات، فعبر عن عدوة الدنيا إلى عدوة القصوى. و«السفر» عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى بالذكر. وقس على ذلك. حينما قام العرب بتعريب العلوم نقلوا من اصطلاحاتها إلى لسانهم ما استطاعوا نقله، ونوَّعوا الألفاظ على مقتضى المراد كما تقدم. وما لم يستطيعوا تعريبه نقلوه بلفظه إلى لسانهم. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير، والأمراض، أو الأدوات، أو المصنوعات التي لم يكن لها شبيه في بلادهم. فمما اقتبسوه من أسماء العقاقير: الأَفْسَنْتِين، والبقدونس، والزيزفون، والسقمونيا، والقنطاريون، والمُصْطَكى من اللغة اليونانية. والبابونج، والبورق، والبنج، وخيار شمبر، والراتينج، والزرجون، والزرنيخ، والزاج، والسرقين، والإسفيداج، والشاهترج، والشيرج، والمرداسنج من اللغة الفارسية. ومن أسماء الأمراض ونحوها من الاستعمالات الطبية: القولنج، والترياق، والكيموس، والكيلوس، وقيفال، ولومان، وملنخوليا من اليونانية. وسرسام، ومارَستان من الفارسية. ومن المصنوعات والأدوات: الأصطرلاب، والقيراط، والأنبيق، والصابون من اليونانية. والبركار، والبوتقة، والجنزار، والدَّسْكَرَة، والأسطوانة من الفارسية. ومن الاصطلاحات الفلسفية ونحوها: الهيولى، والأسطقس، والفلسفة، والطلسم، والمغنطيس، والإقليم، والقاموس، والقانون من اليونانية. غير ما اقتبسوه من اللغة الهندية وأكثره من أسماء العقاقير ونحوها. فترى مما تقدم أن أهل تلك النهضة لم يكونوا يستنكفون من اقتباس الألفاظ الأعجمية، ولم يتعبوا أنفسهم في وضع ألفاظ عربية لتأدية المعاني التي نقلوها عن الأعاجم، بل كانوا كثيرًا ما يستخدمون للمعنى الواحد لفظين من لغتين أعجميتين، فالسرسام مثلًا اسم فارسي لورم حجاب الدماغ استعمله العرب للدلالة على هذا المرض، ولما ترجموا الطب من لغة اليونان استخدموا اسمه اليوناني وهو «قرانيطس»، ولو استنكفوا من استخدام الألفاظ الأعجمية لاستغنوا عن اللفظين جميعًا. هذا مطلب بعيد الأطراف يستغرق درسًا طويلًا وبحثًا عميقًا لا يأذن بهما المقام، فنكتفي بالتنبيه إليه ونأتي ببعض الأمثلة لتأييد قولنا. لكننا بالقياس على ما دخل اللغة العربية من التراكيب الأجنبية في أثناء نهضتنا الأخيرة بما نقلناه من علوم الإفرنج إلى لساننا، نقطع بحدوث مثل ذلك في النهضة العباسية ونقلة العلم يومئذٍ من غير أهل اللسان العربي. استخدام فعل الكون بكثرة على نحو ما يستعمله أهل اللغات الإفرنجية. كثرة الجمل المعترضة الشائعة عندهم. الإكثار من استعمال الفعل المجهول. استعمال ضمير الغائب «هو» بين المبتدأ والخبر حيث يمكن الاستغناء عنه. إدخال الألف والنون قبل ياء المتكلم في بعض الصفات، كقولهم: روحاني، ونفساني، وباقلاني ونحو ذلك، مما هو مألوف في اللغات الآرية ولا يُستحسَن في اللسان العربي. تركيب الألفاظ مع لا النافية وإدخال أل التعريف عليها، كقولهم: اللانهاية، واللاأدرية، واللاضرورة. صوغ الاسم من الحروف أو الضمير، مثل قولهم: اللمية، والكيفية، والكمية، والهوية. نقل الألفاظ من الوصفية إلى الاسمية، كقولهم: المائية، والمنضجة، والخاصة. ومن هذا القبيل اقتباسهم بعض التعبيرات الفارسية الإدارية، مثل قولهم: «صاحب الشرطة» و«صاحب الستار» وهو تعبير فارسي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/9/
الألفاظ العامة
كل ما ذكرناه من أمثلة نمو اللغة العربية في العصر الإسلامي، إنما هو قاصر على تفرع ألفاظها وتجددها بما اقتضاه الشرع، والعلم، والفلسفة، والإدارة، والسياسة. وهناك تغييرات أخرى نتجت عما طرأ على الآداب الاجتماعية من التغيير، فضلًا عن التجارة والصناعة وما اقتضاه كلٌّ منها من تنوع الألفاظ العربية أو اقتباس الألفاظ الأجنبية كأسماء الأنغام الموسيقية والألحان وفروعها، عدا ما اقتبسه المسلمون من العادات الأجنبية وما يتبع ذلك من أسماء الملابس والأطعمة والاحتفالات مما تغني شهرته عن إيراده. وهناك تغييرات أخرى أصابت ألفاظ اللغة بغير داعٍ من الدواعي التي قدمناها، بل هي جرت في ذلك على ناموس الارتقاء العام القاضي على الأحياء بالتجدد والتنوع والتفرع، لأسباب بعضها معلوم وبعضها غير معلوم. والغالب في هذا التنوع أن يكون بالانتقال من معنًى كلي إلى معنًى جزئي، أو من معنًى إلى ما يشبهه أو يتعلق به مما يعبرون عنه بالتوليد، فالألفاظ المولَّدة هي التي أحدثها المولَّدون بعد أن دُوِّنت اللغة وضُبِطَت ألفاظها في أوائل الإسلام. والألفاظ المولَّدة أكثر كثيرًا مما يظن اللغويون، بل هي تتولد على الدوام بلا انقطاع، وكل ما تقدم ذكره من الألفاظ الإسلامية والإدارية والعلمية والتجارية، إنما هو من قبيل المولد ولكنهم قلَّما يسمونها مولدة. وعندهم أن القاموس هو الحَكَم الفصل في العربي والمولَّد العامي، فما لا يذكره القاموس بين الألفاظ العربية عدوه عاميًّا أو مولَّدًا وحظروا استعماله. ولكن القاموس وحده لا يكفي للحكم في ذلك، لأنه لم يتضمن كل ما تناقلته ألسنة البلغاء أو تداولته أقلام الكتاب ولا كل ما نطقت به العرب، وقد فطن إلى ذلك أئمة اللغة في العصر الإسلامي وما بعده ونبهوا إليه؛ قال ابن فارس: «إن لغة العرب لم تنتهِ إلينا بكليتها، وإن الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير»، وقال السيوطي: «ومع كثرة ما في «القاموس» من النوادر والشوارد فقد فاته أشياء ظفرتُ بها في أثناء مطالعتي لكتب اللغة، حتى هممت أن أجمعها في جزء مذيِّلًا عليه.» فعدم ورود اللفظ في القاموس لا يدل دائمًا على أنه عامي أو ضعيف، ناهيك بألفاظ كثيرة اكتسبت بالحضارة معاني جديدة لم يدوِّنها القاموس لأن الأئمة اعتبروها من قبيل الألفاظ العامية، ولكن الكُتَّاب استعملوها وفيهم المشاهير المشهود لهم بالبلاغة وسلامة الذوق. ••• فالأصل في معنى «البيت» في القاموس البناء المعروف والشرف والشريف، فكانوا يقولون «بيت بنى تميم» أي شرفهم، و«فلان بيت قومه» أي شريفهم، و«بيت القصيدة» أحسن أبياتها، قال: «والعامة تقول: هو من بيت فلان، أي من عائلته.» مع أن استعمال البيت بمعنى العائلة مما تداولته أقلام البلغاء وفي مقدمتهم ابن خلدون، وقد عرَّفه بقوله: «البيت أن يعد الرجل في آبائه أشرافًا مذكورين تكون له بولادتهم إياه والانتساب إليهم تجلة في أهل جلدته»، وقال: «وكان بنو إسرائيل بيتًا من أعظم بيوت العالم.» و«الحضارة» الأصل في معناها سكنى المدن أي ضد البداوة، فلما تحضَّر العرب وكثر الترف في مدنهم صار معنى الحضارة عندهم «التفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والفرش وغيرها.» ويقال نحو ذلك في «العمران»، فإن أصل معناها من «عمَّر الرجل في المكان» سكن فيه، ثم صارت تدل على معنى المدنية والحضارة. وهذا ما أصاب لفظ «التمدن»، فإنها من «تمدن الرجل» أي تخلَّق بأخلاق أهل المدن، ثم دلوا بها على مثل ما تدل عليه الحضارة أو العمران أو المدنية. وقد استعملوا «ركاب السلطان» بمعنى موكبه، ولا تجد لهذه اللفظة هذا المعنى في القاموس ولكن الكُتَّاب استعملوها له. وكذلك «كافة»، فقد نبَّه «القاموس» أنها تُستعمَل في مثل «جاء الناس كافة» أي كلهم، وأنها لا تدخل عليها أل التعريف ولا تضاف، ولكن بلغاء الكتاب قد استعملوها في الحالين مرارًا: قال ابن خلدون: «لما كان الجهاد فيها مشروعًا لعموم الدعوة وحمْل الكافة على دين الإسلام»، وقال صاحب «أدب الدنيا والدين»: «وفرض جميعه على الكافة كان أولى مما لم يجب فرضه على الأعيان ولا على الكافة». ••• وقال أبو إسحاق الصابي الكاتب الشهير من نسخة عهدٍ كتبَها عن المطيع لله إلى الغضنفر بن ناصر الدولة: «أمره أن يعرف لركن الدولة أبي علي وعز الدولة أبي منصور موليَي أمير المؤمنين تولَّاهما الله حق منزلتهما من أمير المؤمنين وغنائهما عن كافة المسلمين!» ومن الألفاظ التي استعملها الكتاب القدماء واقتدى بها كتابنا مع أن استعمالها يخالف قول القاموس: تخصيص «القينة» بمعنى المغنية والأصل إطلاقها على الأَمَة مغنيةً كانت أو غير مغنية. و«المقراض» و«المقص»، فإن الأصل في استعمالهما بالمثنى لأنهما مقراضان ومقصان أي شفرتان، فيقال: «قرضتُه بالمقراضين» و«قصصته بالمقصين». وقلما نرى بين الكتَّاب القدماء أو المحدثين من يستعملهما كذلك، بل هم يقولون: «قرضته بالمقراض» و«قصصته بالمقص.» والأصل في «المأتم» الاجتماع على العموم، ثم خصصوه بالاجتماع في مجتمع النياحة. و«أرق» في الأصل للسهر في مكروه، ثم صار عامًّا. ومن الاستعمالات الجارية على أقلام الكتاب وهي خطأ باعتبار القواعد المدوَّنة قولهم: «بدأ به أولًا»، والصواب «بدأ به أول» مثل قولهم «قبلُ» وحكمهما واحد. ومن هذا القبيل جمع «حاجة» على «حوائج» و«عادة» على «عوائد»، وهما شائعتان عند الكتاب مع مخالفتهما للقاعدة. وكذلك جمع «ريح» على «أرياح» خطأً، ولكن الحريري استعملها. ومثله جمع «أرض» على «أراضي» وجمع «الجواب» على «أجوبة». وقولهم: «شفعه بثالث» غلط، إذ لا يقال شفعه إلا للثاني، من «الشفع». والأصل في «القافلة» الرُّفْقَة الراجعة، فصارت تُطلَق على الرفقة المسافرين ذهابًا أو إيابًا. ••• وقس على ذلك تنوعات كثيرة يعدها القاموس خطأ، وقد نبه إلى خطئها جماعة من فطاحل البلغاء وألفوا في تصحيحها الكتب. وأشهر ما ألفوه كتاب «درَّة الغوَّاص في أوهام الخواص» لأبي محمد الحريري صاحب المقامات، وقد شرحها وعلَّق عليها كثيرون، ومنهم: ابن برِّي بن عبد الجبار النحوي المتوفَّى عام ٥٨٢ﻫ، وأبو عبد الله المعروف بحجة الدين الصقلي المتوفَّى عام ٥٥٥، وابن المظفر المكي المتوفَّى عام ٥٦٨، وابن الخشاب النحوي، وأبو بكر الأنصاري، وأحمد الخفاجي المصري، وغيرهم. وكلٌّ من هؤلاء أضاف إلى ذلك الكتاب ألفاظًا من هذا القبيل فاتت صاحب الدرة ونبهوا إلى خطأ استعمالها، ومع ذلك فالطبيعة غلبت على آرائهم وأقوالهم لأن ما عدوه خطأً إنما هو من نتائج النواميس الطبيعية التي لا بد منها، سنة الله في خلقه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/10/
الألفاظ النصرانية واليهودية
نريد بالألفاظ النصرانية واليهودية ما دخل اللغة العربية من الاصطلاحات الدينية لأهل الكتاب، وخاصة بعد أن نُقِلت التوراة والإنجيل إلى اللسان العربي، فقد كانت لغة الدين المسيحي قبل الإسلام السريانية واليونانية والقبطية ولغة اليهود العبرانية، على تفاوت في استخدام الواحدة دون الأخرى واختلاف ذلك باختلاف العصور والأماكن. فلما جاء الإسلام وانتشر المسلمون في العراق والشام ومصر وتسلطت اللغة العربية، أخذت تلك اللغات تتقهقر حتى توارت ولم يبقَ منها إلا آثار قليلة في بعض الطقوس، فالمسيحيون أصبحت العربية لغتهم ولكنهم لم يستطيعوا التعبير بها عن كل اصطلاحاتهم الدينية، ولما ترجموا التوراة والإنجيل إلى العربية أبقوْا كثيرًا من الألفاظ الدينية على لفظها ومعناها. على أن كثيرًا من الألفاظ النصرانية دخلت اللغة العربية في العصر الجاهلي، كالقسيس والدير والتوراة والإنجيل وغيرها. وإليك أشهر الألفاظ النصرانية واليهودية التي دخلت اللغة العربية وأصلها سرياني أو كلداني مرتبةً على حروف الهجاء، وقد يشتبه بعضها بالأصل العبراني أو ربما كان بعضها عبرانيًّا وقد وصل العربية على يد السريان: فضلًا عن أسماء الشهور الشمسية مثل: كانون، وتشرين، وأيلول. ومن الألفاظ النصرانية ما هو من أصل يوناني دخل العربية إما رأسًا أو بواسطة اللغة السريانية، مثل قولهم: إنجيل، وهرطقة، وأسقف، ومطران، وطقس، وطغمة. وقس على ذلك. نريد بهذه التراكيب ما دخل العربية من أساليب اللغة السريانية والعبرانية واليونانية وخاصة بعد ترجمة التوراة، وهي كثيرة نأتي بأمثلة منها: فمن التراكيب العبرانية قولهم: قال في قلبه: أي افتكر. واستراح الله من جميع عمله الذي عمله. من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا … وإذا أكلت موتًا تموت. وحدث بعد أيام أن قايين قدَّم أثمارًا … وحدث إذ كان في الحقل أن قايين قام على أخيه … إلخ. فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته. صنع له خيرًا وصنع له شرًّا. (بدل أحسن إليه وأساء إليه.) ورفع عينيه ونظر. وصار كلام الرب إلى أبرام قائلًا. قد وجد نعمة في عينيه. حسن ذلك في عينَي الله، وقبح ذلك في عينَي الله. فتح فاه وعلمهم. ومن التراكيب اليونانية قولهم: هكذا مكتوب بالنبي. وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان. ثم أصعد يسوع إلى البرِّيَّة من الروح ليجرب من إبليس. وفيما هو خارج من الطريق ركض واحد وجثا له. تكلم الرب بفم أنبيائه. وربما كان في بعض هذه التراكيب مسحة غير يونانية، لاعتماد أكثر مترجمي الأناجيل على بعض ترجماتها في اللغات الأخرى فضلًا عن الأصل اليوناني. على أننا لا نعد هذه التراكيب مما يُستحسَن اقتباسه والنسج على منواله، وإنما هو خاص في لغة الكتاب المقدس أدخله المترجمون لاضطرارهم إلى المحافظة على النص الحرفي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46813707/
اللغة العربية كائن حي
جُرجي زيدان
كان جرجي زيدان على دراية واسعة بالحقل اللغوي نظريًّا وعمليًّا، فمن الناحية النظرية اهتم زيدان بالدراسات المتعلق بفلسفة اللغة وتاريخها، بالإضافة إلى دراسته لفقه اللغة المقارن، كما أنه كان على اطلاع بالنظريات اللغوية الحديثة في زمنه، أما من الناحية العملية، فقد أجاد العربية، والعبرية، والسريانية، واللاتينية، والإنجليزية، والفرنسية، الألمانية، كما كان على دراية بالإيطالية والإسبانية تمكنه من فهم ما يقرأ، وقد دفعه هذا الإلمام الكبير بالميدان اللغوي، إلى تقديم هذا الكتاب الذي يتناول فيه تاريخ اللغة العربية، وما طرأ عليها من التغيير بالتجدد أو الدثور، فبين لنا كيف تندثر ألفاظ وتراكيب وتولد أخرى، وكيف تقضي الأحوال بهذا المولد الجديد وذاك الدثور القديم. وهو يقسم المتابعة التاريخية للغة العربية في هذا الكتاب إلى عدة نقاط هي: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والألفاظ الإدارية في الدولة العربية، والألفاظ العلمية في الدولة العربية، والألفاظ العامة في الدولة العربية، والألفاظ المسيحية واليهودية، والألفاظ الدخيلة من اللغات الأعجمية كالتركية والكردية، والنهضة الحديثة التي اقتبست فيها العربية من اللغات الإفرنجية.
https://www.hindawi.org/books/46813707/11/
الألفاظ الدخيلة والمولَّدة في عصر التدهور
ما برحت اللغة العربية منذ الفتح الإسلامي وهي تكتسب الألفاظ الأعجمية والتراكيب الأجنبية كما رأيت، مما دخلها من الألفاظ الإدارية والعلمية في العصر العباسي وغيره حتى في العصر الجاهلي. ولكن المراد بالألفاظ الأعجمية في هذا الفصل ما خالط اللغة من الألفاظ والتراكيب الأعجمية بعد انقضاء دولة العرب، وإفضاء الملك إلى السلاطين والأمراء من الفرس والديلم والترك والأكراد والجركس، في العراق وفارس والشام ومصر وغيرها، لأن اللغة العربية ما زالت سائدة في تلك الدول على اختلاف نزعاتها ولغاتها، وكانت في أكثرها هي اللغة الرسمية التي تتخاطب بها الحكومات. ولم تكن الدول الأعجمية أقل عناية بآداب اللغة العربية من الدول العربية، بل كانوا أكثر اهتمامًا منهم في إنشاء المدارس وتعليم الفقراء واستنساخ الكتب، ولكن حال العمران على إجماله يومئذٍ قضى على اللغة بالانحطاط فدخلها التكلف والتجمل والتصنع، وتكاثرت فيها ألفاظ التفخيم والتبجيل، وشاع التسجيع في الإنشاء، وحدث في تلك الدول وظائف جديدة، وتنوعت الوظائف القديمة، فحدث في اللغة ألفاظ جديدة أو تنوعت الألفاظ القديمة للتعبير عن تلك المستحدثات. فالتفخيم والتبجيل والتمليق اقتضت العناية في تنميق العبارات وتحشيتها، وكان السجع قد اشتُهِر على أقلام الكتاب فبالغوا في تنميقه وتوسيعه. والتزام السجع يدعو إلى استخدام الألفاظ الوحشية المهجورة حتى يصير إلى ما تنفر منه الأسماع. والسجع حسن إذا جاء عفوًا بلا تكلف، لا أن يتعمده المسجعون بالتعمُّل والتصنُّع حتى يمجه الذوق وينفر من السمع. وأصبح التسجيع في ذلك العصر كثيرًا يتفاخر به أكبر الكتاب والناس يومئذٍ يعدون ذلك مستحسنًا، ونحن نراه قبيحًا ولو كان قائله من أشهر الكتبة، كالعماد الأصفهاني فإنه تعمد التسجيع في كلامه عن فتح بيت المقدس في كتابه المسمى الفتح القسي وهو من أشهر كتبه. وإليك عبارة منه تدل على باقيه، وهي قوله في رحيل صلاح الدين للفتح: «رحل من عسقلان للقدس طالبا، وبالعزم غالبا، وللنصر مصاحبا، ولذيل العز ساحبا، وقد أصحب رَيض مناه، وأخصب روض غناه، وأصبح رائج الرجاء، أرج الأرجاء، سيِّب العُزْف، طيب العرف، طاهر اليد، قاهر الأيد. سنا عسكره قد فاض بالفضاء فضاء، وملأ فأفاض الآلاء، وقد بسط عثير فَيْلقه مُلاءته على الفلَق، وكأنما أعاد العجاج رَأدَ الضحى جنح الغسق، فالأرض شاكية من إجحاف الجحافل، والسماء حاظية بأقساط القساطل … إلخ.» هو أستاذ الأساتذة، وجهبذ الجهابذة، الولي العارف، ينبوع العوارف والمعارف، الإمام الوحيد، والهمام الفريد، العالم العلَّامة، والحجة الفهَّامة، البحر الكبير، والحبر الشهير، شيخ الإسلام، صدر الأئمة الأعلام، قطب الأقطاب، الذي لم تنجب بمثله الأحقاب، العارف بربه، والفائز بقربه وحبه، ذو الكرامات الظاهرة، والمكاشفات الباهرة … إلخ … إلخ. ولم يكن ذلك التطويل قاصرًا في وصف رجال الفضل كالنابلسي، بل كان شاملًا كل إنسان. وما زالت الركاكة تتوالى على الإنشاء العربي حتى بلغت منتهاها في أول القرن الماضي، وكثرت الألفاظ العامية والدخيلة. فمن أمثلة ذلك ما جاء في الجبرتي في أثناء كلامه عن حرب الفرنسيين وهي قوله: «وفي الثلاثة حضر هجان وباش سراجين إبراهيم بك، وأخبر أن الجماعة عزموا على الارتحال والرجوع وفك الجسر، فعمل الباشا ديوانًا … إلخ»، وقوله: «وفي ذلك اليوم وصل ططري من الديار الرومية وعلى يده مرسومات، فعملوا في صبحها ديوانًا وقُرِئَت المرسومات … إلخ.» هذا ما يقال من حيث التراكيب، وأما الألفاظ فقد كثر فيها الدخيل والمولَّد، وأكثرها في الألفاظ الإدارية المتعلقة بالحكومة ونظمها وما يتعلق بها. وقس على ذلك سائر الرتب المحدثة في الدول التركية والكردية كأمير السلاح، ومقدم المماليك، وأمير علم، ونقيب الجيش، والعامل وهذا غير العامل في الدولة العربية، فإنه في الدولة التركية يراد به منظم الحسابات، ومثلها الصيرفي، وكاتب السر، والناظر وهو خاص في الأموال، وصاحب الديوان، والشاهد، وغيرها. هذه أمثلة قليلة مما تولَّد في اللغة العربية من الألفاظ التي اقتضاها عصر الدول الأعجمية، وأكثرها كان له معنًى وتنوع على ما اقتضته الأحوال عملًا بناموس الارتقاء. وقس على ذلك ما دخل اللغة في ذلك العصر من الاصطلاحات العسكرية والمالية والتجارية، ومن هذا القبيل الاصطلاحات العسكرية والإدارية في الدولة العثمانية وبعضها تركي أو فارسي صرف، وبعضها مركب من التركي أو الفارسي والعربي كالجاويش، واليوزباشي، والبكباشي، والسرعسكر، والمابين، والسركي، والياور، وأميرالاي، والأوردي، والآلاي، والطابور، والباشا، والبيك، والأغا. ومنها ما هو عربي بصيغة تركية كالمكتوبجي، والمابنجي، والمحاسبجي، والباشكاتب، والسلاملك. وما ينتهي بلفظ «خانة» كالرصدخانة، والكتبخانة. أو بلفظ «دار» كالدفتردار، والخزندار. ناهيك بالألفاظ العربية المولدة التي اكتسبت معاني جديدة في الدولة العثمانية كالناظر، والمتصرف، والمحتسب، والتابعية، والمسئولية، والصدر الأعظم، والمدعي عمومي، والقائمقام، ونحو ذلك وهو كثير جدًّا، وسيأتي ذكر بعضه مفصلًا في أثناء كلامنا على النهضة العلمية الأخيرة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.