BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/34/
حيلة جديدة
انتبه عبد الرحمن بغتة ونظر إلى هانئ، فلما رآه مطرقًا أدرك أنه يفكر في أمر غير الذي يفكر فيه، فعذره في استغراقه في التفكير في مريم بعد ما شاهده منها، ولكنه خاطبه بلطف وإيناس قائلًا: «بورك لك في هذه الفتاة، فإنك والله جدير بها، ولكنني لا أزال أتوقع منك رأيًا لا يتم لنا أمر بدونه.» فلما سمع هانئ كلامه عاد إلى رشده وفاته لأول وهلة إدراك مراد عبد الرحمن، فقال: «وأي أمر تعني أيها الأمير؟» قال عبد الرحمن: «أعني بسطامًا وقتله لا أنكر أنه نال ما يستحقه، ولكنك لا تجهل حاجتنا إلى بقائه إذا لم يكن للاستعانة بسيفه فللاحتفاظ بولاء قبيلته، وأنت تعلم شأن أولئك البرابرة معنا، وخصوصًا رجال بسطام فانهم إنما أعانونا طمعًا في الغنائم ولم يذعنوا لأوامرنا إلا وفي نفوسهم ضغائن علينا، لاعتقادهم أن العرب ظالموهم ومستأثرون بالسلطة والأموال دونهم، فإذا علموا بمقتل أميرهم أخشى أن يبدو منهم ما يفسد أمرنا ويفرق كلمتنا، ونحن في أشد الحاجة إلى الاتحاد فما رأيك؟» فبادر هانئ بالجواب كأنه شغل بتنميقه وإعداده منذ أيام، وقال: «ليس أهون عليَّ من إرضاء أولئك البرابرة، فقد قلت إنهم لم يعاونونا في هذه الحرب نصرة للإسلام، وإنما أرادوا كسب الأموال، وأقول لك إنهم لم يطيعوا بسطامًا إلا لمثل هذه الغاية؛ لأنه واسطة بيننا وبينهم، فإذا تحققوا من ذلك الكسب ظلوا على الطاعة وزد على ذلك أننا نستطيع أن نوهمهم بأن ذهابه سيدعو إلى زيادة أنصبتهم من الغنائم؛ لأنه كان كثير الطمع لنفسه، ثم نمنح أولئك الأمراء هدايا خاصة ونطلب إليهم أن يختاروا رئيسًا منهم بدل بسطام وإذا عهدت إليَّ بتدبير ذلك فعلته وأنا ضامن السلامة بإذن الله، فإن من كانت مطامعه الأموال لا يصعب إرضاؤه.» فأعجب عبد الرحمن بسداد ذلك الرأي، وعهد إليه بتدبير الأمر بحكمة، وفوض إليه إجراء ما يراه ولم يكن ذلك صعبًا عليه. وفي صباح اليوم التالي، تفاوض الأمراء في أمر الأخبية فأجمعوا على حملها إلى هناك، فبعثوا جندًا لنقل المضارب وخيام الغنائم التي كانت باقية في المعسكر القديم، وأتم هانئ مهمته على نحو ما قال، ومكثوا هناك يتأهبون للمسير نحو نهر لوار بعد رجوع سالمة من مهمتها ليعلموا كيف يتصرفون؛ لأن عبد الرحمن كان يتوقع فوائد كبرى من مساعي سالمة، لعلمه أن اتحاد جنده لا يبقى طويلًا لاختلاف عناصره وتضارب مقاصد أمرائه فإذا لم يتخذ وسائل أخرى خشي العاقبة فضلًا عما يترتب على مشروع سالمة من حقن الدماء وسهولة الفتح. أما ميمونة، فقد علمت ما كان من حيلتها، وما دبرته لفشل جند المسلمين، وكيف أنها لم تنجح لأسباب تقدم ذكرها ولكنها كانت بدهائها ومكرها قد حفظت لنفسها خط الرجوع، فأظهرت أنها أسيرة بسبب مريم وقد سرها مقتل بسطام؛ لأنه مطلع على بعض أسرارها، وفي مقتله أمان من إفشائها فلما خرجت مريم على الجواد الأدهم في ذلك اليوم أرسلت ميمونة أحد الرجلين في أثرها، فلما عاد من المعركة وأنبأها بهزيمة جند الإفرنج أمرت الرجلين بالفرار، وظلت في أغلالها هناك على أمل أن تبعث مريم من يخلصها، ولم يخطر لها أن تأتي هي بنفسها، فلما جاءتها مريم وجدتها وحيدة، فحلت قيودها وسارت بها إلى معسكر العرب. وقد رأيت مبالغة ميمونة في امتداح شهامة مريم؛ لأنها رأت الأميرين معجبين بها فأرادت مجاراتهما تمويها لما قد يظنان، وفي الواقع لم يخطر لهما شيء من سوء الظن بها من هذا القبيل، أما هي فقد كظمت ما في نفسها وعزمت على اتخاذ وسيلة ناجحة كانت قد ادخرتها في ذهنها لحين الاضطرار، فلما ذهبت مع مريم إلى الخيمة تلك الليلة ظلت على إظهار إعجابها بها والإشادة بما شاهدته من سجاياها، حتى إذا خلت بنفسها لبثت تنتظر عدلان الأحول لتفاوضه في الحيلة التي دبرتها وهي لا تشك في نجاحها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/35/
سالمة في بوردو
فلندعهم يدبرون وينتظرون، ولنعد إلى سالمة ومهمتها فقد طال بنا السكوت عنها تركناها وقد ركبت من خباء المسلمين تلتمس بوردو وحسان العجوز في ركابها، فلما بعدا عن الخباء وأطلا على بوردو التفتت سالمة إلى حسان وقالت: «هل كان يخطر لك يا حسان أن نوفق إلى مثل الأمير عبد الرحمن بعد طول انتظار، عملًا بالوصية؟» فقال: «أما وقد ذكرتني بالوصية يا مولاتي، فهل لي أن أسأل إذا كنت ما تزالين محتفظة بتلك المحفظة فقد رأيتها بين يديك، وكان عهدي أنك تحفظينها في مكان لا يراها فيه أحد.» قالت: «صدقت يا عماه إنها كانت في يدي في أثناء خروجنا من الأسر؛ لأني كنت قد أخرجتها من مخبئها ساعة يئست من الحياة، وحسبت أن هؤلاء العرب سيقتلونني فهممت قبل أن تفيض روحي أن أضم هذه الوصية اليَّ وأتنسم ريح صاحبها منها، ثم أعهد إليك أو إلى سواك أن يوصلها إلى صاحب هذا الجند أما الآن فلا تقلق؛ لأني تأبطتها تحت أثوابي، وما ظنك في مريم وهي وحدها في خباء العرب؟» قال: «لا بأس عليها يا مولاتي والعرب شديدو العناية بنزلائهم وخصوصًا من كان منهم في ضيافة الأمير الكبير، وقد لحظت من أهل ذلك الخباء ترحيبًا كبيرًا بمريم، فالنساء أحببنها واحتفلن بها وخصوصًا ميمونة، وقد سمعت من الخصيان الصقالبة الذين يخدمونها أنها أحبت مريم وبذلت كل ما في وسعها لراحتها.» وكان حسان يتكلم وهو يعدو عدوًا خفيفًا بجانب ركاب سالمة، وهي تسمع كلامه ممتزجًا بشخير الفرس وطقطقة حوافره، فلما قال ذلك جذبت لجام الفرس ليسير بها الهوينا، والتفتت إلى حسان وقالت: «لا أخفي عليك يا حسان أني أخاف على مريم من هذه المرأة أكثر من سائر أهل هذا الجند نساء ورجالًا.» فبغت الرجل وكان يتكلم وهو يتفرس في الأرض ليتقي الحجارة والأشواك، فلما سمع قولها رفع بصره إليها وقال: «وما هو سبب خوفك يا مولاتي؟» قالت: «لأني شاهدت هذه المرأة التي تسمى ميمونة فإذا هي داهية دهياء، وأظنني عرفتها وأخشى أن تكون قد عرفتني، ولذلك فإني لم أطل الكلام معها ولا شك أن بقاءها في هذا المعسكر خطر، فإذا انتهيت من مهمتي هذه في بوردو وما وراءها فسأعود إلى الأمير وأطلعه على حقيقة هذه المرأة لئلا تخدعهم وتفسد شئونهم؛ لأنها ذات شأن عند الإفرنج ويهمها أن يكون النصر لهؤلاء، وإني أعجب أن تكون في خباء الأمير عبد الرحمن، وعهدي بها في غير هذه البلاد وسننظر في شأنها عند رجوعنا.» فلما سمع حسان قولها مال بكليته إلى استطلاع الحقيقة، ولكنه لم يجرؤ على السؤال عن اسمها فقال: «وهل أعرفها أنا؟» قالت: «لا شك في ذلك دعنا من هذا الآن.» فسكت حسان، وكانا قد أشرفا على أسوار بوردو فرأيا الناس خارج السور زرافات ووحدانًا وقد خرجوا لافتداء أسراهم، وكلهم فرحون بما أوتوه من الرفق، وأكثر الناس غيظًا من ذلك الرفق اليهود، وخصوصًا الذين كانوا قد ابتاعوا الأسرى وهموا بحملهم للاتجار بهم، فلما جاءهم أمر الأمير بالتخلي عنهم غضبوا واستغربوا ذلك وأرادوا الامتناع عن التسليم ثم أذعنوا، فلما رأت سالمة تزاحم الناس هناك تحولت إلى باب من أبواب المدينة بعيدًا عن ذلك الزحام، وسارت توا إلى أسقف بوردو فترجلت بباب القلاية، وتركت حسانًا عند الفرس، ودخلت تلتمس الأسقف، فرأت أهل ذلك المكان من القسس والرهبان وغيرهم في حركة، وقد تجلت في وجوههم أمارات السرور لما جاءهم به هانئ في مساء الأمس من آنية الكنيسة مع الأمر بافتداء الأسرى، وكان أكثر القسس يعرفونها فرحبوا بها وبشروها بما كان، فهنأتهم وطلبت إليهم أن يستأذنوا الأسقف في مقابلة خاصة، فالتمسوا لها الإذن فلما دخلت عليه تلقاها بترحاب واحترام، مع أنه لم يكن يعرف حقيقة أمرها ولكنه كان يحترمها لحكمتها وسداد رأيها. فلما دخلت قبلت يده فباركها، وجلست إلى جانبه فسألها عما تريد، فقصت عليه مختصر ما جرى لها حتى انتهت إلى أمر الأسرى فأكدت له أن العرب أكثر الأمم رفقًا برعاياهم وأسراهم، وأنهم إنما امتد سلطانهم في الشرق والغرب لما آنسه أهل البلاد على اختلاف مذاهبهم من حرية الدين والعمل على غير المألوف عند أمم الإفرنج في ذلك العصر، وأن ما أصاب كنيسة بوردو من النهب إنما وقع سهوا من بعض ذوي المطامع من أتباع جند المسلمين غير العرب. فلما سمع الأسقف كلامها تذكر أنه كثيرًا ما كان يسمع منها إطراء العرب من قبل ولم يكن يصدق ما يسمع، وكان يظنها تقول ذلك عن هوس مثل هوسها بتعليم ابنتها اللغة العربية وهي مقيمة ببلاد الإفرنج مع كونها غير عربية، فلما سمع قولها بعد ما شاهده من الرفق آمن بصدقها فجاراها في الإطراء، فاغتنمت تلك الفرصة وانتقلت إلى الحديث المقصود فقالت: «لا أنسى يا سيادة الأسقف ما كنت ألقاه من نفورك إذا امتدحت العرب بين يديك حتى شاهدت ذلك بنفسك عن بعد، ولو أتيح لك معاملتهم ومعاشرتهم لزدت ارتياحًا لهم ولذلك فإني أستغرب محاربة أهل هذه البلاد لهم، والوقوف في سبيلهم.» فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، إننا كثيرًا ما سمعناه بعدلهم غير أننا رأينا من بعضهم من القسوة ما يشيب لهوله الأطفال حتى كاد يثبت عندنا ما كنا نسمعه من أنهم يعبدون الأوثان ولا يعرفون عبادة الله.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/36/
رأي الإفرنج في المسلمين
فابتسمت سالمة ابتسام الاستغراب، وقالت: «يعبدون الأوثان؟ إن ذلك من الأراجيف التي يشيعها أعداؤهم، فإنهم يعبدون الإله الواحد، ويحترمون الديانة النصرانية احترامًا كبيرًا ويكرمون السيد المسيح كثيرًا، ولا يعقل أن تنسب إليهم الوثنية ونبيهم إنما قام لإبادة الأصنام التي كان العرب يعبدونها من قبله فكسرها ومحا الصورة التي كانت في معبد الوثنية في مكة، وبَغَّض الوثنية إلى أتباعه حتى حرم عليهم التصوير ونحت التماثيل فما يبلغكم من هذا القبيل إنما هو حديث مقصود لغرض من الأغراض، ولا أنكر عليك ما قد يبديه بعضهم من سوء التصرف أو الطمع أو نحو ذلك، فهذا لا يصح القياس عليه كما لا يصح أن نقيس كل أعمال الأساقفة بعمل واحد منهم شذ عن المنهج القويم، وزد على ذلك أن العرب مهما يكن من أمرهم فهم أرفق بأهل هذه البلاد من هؤلاء الإفرنج الذين جاءوا بقبائلهم واستبدوا بهم واستعبدوا الناس واستخدموهم في أشق الأعمال ولم يقلدوا واحدًا من أهل البلاد وظيفة من وظائفها، فهم القابضون على زمام الحكومة، وهم المغتصبون لخيرات البلاد، وما الغاليون إلا مثل العبيد أو الأقنان الذين يشتغلون في الحقول، هل رأيت غاليا تقلد منصبًا كبيرًا، أو هل رأى الغاليون راحة منذ وطئ هؤلاء الإفرنج بلادهم؟ أما العرب فإذا فتحوا بلدًا أطلقوا حرية الأديان والمذاهب والمعاملات، حتى الحكومة والقضاء فإنهم يتركونهما لأهله ويقتصرون هم على قيادة الجند وحماية الأهالي من الأعداء، لا يلتمسون أجرًا على ذلك إلا مالًا يسمونه الجزية وهي لا تساوي بعض ما يقتضيه أولئك الإفرنج من الضرائب الفادحة، ناهيك بالحرية التي يتمتع بها الأهلون تحت عنايتهم، وسيادتكم تعلمون حال أهل هذه البلاد مع الإفرنج الفاتحين فإنها أصعب مما كانت تحت سلطان الرومان قبلهم، أليس معظم الناس هنا عبيدًا، فحكامهم يتصرفون فيهم تصرف المالك فيما يملك؟ نعم إن العرب عندهم العبيد والموالي ولكنهم أشد رفقًا بهم من أولئك، فإن الرق عند المسلمين غير مستحسن، وكان الإسلام يدعو إلى إبطاله ولو لم يرَ نصارى الشرق والغرب ما رأوه من الرفق والعدل تحت ظل المسلمين ما فضلوهم على الروم والفرس لقد أطلت عليك الشرح، إن غرضي أن تسعى في حقن الدماء، فهل تساعدني على ذلك؟ إن المسلمين فاتحون هذه البلاد لا محالة، فبدلًا من أن يفتحوها عنوة ويسفكوا فيها الدماء ويهدموا المنازل والقصور، فليكن فتحها صلحًا ويحفظ لكل واحد ماله وعرضه والسعي في هذا السبيل من واجبات سيادتكم أكثر مما هو من واجبات أمثالي.» وكانت سالمة تتكلم وأمارات الجد والاهتمام ظاهرة في كل كلمة وحركة. وكان الأسقف يسمع أقوالها ويعجب بسعة علمها عن العرب كأنها عاشرتهم وساكنتهم زمنًا طويلًا، وكأنها أطلعت على علومهم وآدابهم، ومع كل ما في أقوالها من المخالفة للاعتقاد الذي كان متسلطًا على عقول أهل تلك البلاد يومئذ فإنه أحس بالاقتناع بقولها، ونبهه ضميره إلى واجب يقضي عليه بالسعي في حقن الدماء على ما سمعه من سالمة فقال لها: «جزاك الله يا ابنتي على سعيك في مصلحة شعب الله، ونطلب إليه تعالى ونتضرع إلى السيد المسيح أن يقدم ما فيه الخير.» فلما آنست منه اقتناعًا، عمدت إلى تحقيق هدفها بلباقة وحسن سياسة فقالت: «لا أريد من سيادة الأسقف أن يكلف إخواننا المسيحيين تسليم البلاد إلى هؤلاء المسلمين عفوًا، ولا أن يساعدوهم على أخذها بالسيف وإنما أرى أن يتركوا الأمر لمن غلب بغير أن يساعدوا أحد الفريقين على الآخر، فإذا غلب الإفرنج فهم أصحاب السيادة والبلاد في أيديهم، وإذا انتصر العرب فلا يضرنا انتصارهم بل هم خير لنا من أولئك.» فارتاح الأسقف إلى قولها وكان روماني الأصل، وقد رأى من الإفرنج استبدادًا في دائرة نفوذه حتى كادت السلطة أن تخرج من يده، فقال لها: «أود أن يعلم إخواني الأساقفة بهذه النصيحة في البلاد الأخرى، ولكنني أخشى أن يطلع الحكام الإفرنج على ذلك فيعود وبالًا علينا.» قالت: «عليَّ إبلاغ ذلك إلى من شئت، وإنما أطلب منك كتابًا ترسله معي إلى أسقف بواتيه لا تذكر فيها شيئًا غير التعريف البسيط، وأني من أبنائك المخلصين، فإذا أنا لقيته أطلعته على ما أراه من هذا الموضوع، وأتوسل إلى مولاي أن يبث هذه الروح في رجال بطانته على ما يراه، ولا أظن واحدًا من أهل بوردو لا يشهد هذه الشهادة عن العرب وقد أعادوا إليهم أسراهم وآنية كنيستهم.» فقال الأسقف: «صدقت يا ابنتي، ولا يجوز لنا إنكار هذا الجميل.» قالت: «لذلك أرجو إذا لقيت حاكم البلد أن تبث هذه الروح فيه، إذ ربما طلب إليه الكونت أود نجدة لمساعدته في قطع الطريق على العرب؛ لأني علمت أن الكونت المذكور معسكر في مضيق دردون، وعلى كل حال فقد تركت تدبير هذا الأمر إليك، وإني مسافرة إلى بواتيه في هذه الساعة، فهل تأذن لي في كتاب إلى أسقفها؟» قال: «نعم» ثم نهض وكتب على منديل من حرير سطرين للغرض المقصود، فتناولت الكتاب وقبلت يده فباركها، وقبل خروجها تذكرت المسافة بين بوردو وبواتيه، وهي نحو مائة ميل لا يمكن قطعها في أقل من ثلاثة أيام أو أربعة، وحسان لا يقدر على السير في ركابها ماشيًا كل هذه المسافة، فطلبت إلى الأسقف أن يأمر لها بفرس يركبه حسان فأمر لها بواحد، فخرجت شاكرة وأهل القرية يتباحثون فيما عسى أن يكون من أمر هذه السيدة ومجيئها على تلك الصورة، أما هي فإنها خرجت فرأت حسانًا والفرسين في انتظارها فركبت وركب حسان وخرجا من بوردو يلتمسان بواتيه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/37/
الدير
وكان حسان يعرف أكثر من طريق يؤدي إلى بواتيه، فسار في أسهل الطرق بحيث لا يكون عليهما بأس وقد دبر أن يصلا كل مساء إلى دير ينزلان فيه ويبيتان ثم ينهضان في الصباح التالي فمشيا بقية ذلك اليوم، وقلما تكلمت سالمة لانشغال خاطرها بالمهمة التي تسعى إليها فلما أمسى المساء أشرفا على دير لا يعد من الأديرة الكبرى، فتحولا إليه وهو قائم على سفح جبل فوق نهر تجري مياهه في معظم السنة، وحول الدير مغارس الكرم والزيتون وأشجار الليمون والتفاح وغيرها، وهو كسائر الأديرة في تلك الأيام، يتألف من بناء محاط بسور عالٍ له باب صغير للدواب ونحوها، فلما أشرفا على الباب تقدم حسان وقرعه بجرس معلق فوقه، فأطل عليه راهب من كوة فوق الباب سأله عن غرضه فقال له: «نحن غرباء نبغي المبيت عندكم، فهل من مكان؟» قال حسان ذلك بلغة أهل البلاد، ولكن ظهر من لهجته أنه غريب عنها ففتحوا لهما، فدخلت سالمة وتركت حسانًا لينظر في أمر الفرسين ثم يدخل في جملة خدم الدير، فلما رآها الراهب البواب توسم في منظرها وفي زيها هيئة الجلال والوقار فأسرع إلى الرئيس فأخبره بذلك فأمر أن يدخلها إليه، فعاد وهو يقول: «تفضلي إلى حضرة الرئيس وهو يأمر بغرفة تقيمين فيها ما شئت.» فمشت سالمة في صحن الدير فرأته مزدحمًا بالناس من الرجال والنساء والأطفال، وأكثرهم من أهل بوردو وضواحيها، فأدركت أنهم لجئوا إلى الدير خوفًا من العرب، فظلت في طريقها حتى أقبلت على غرفة الرئيس، فلما دخلت وقف لاستقبالها ورحب بها وأمر لها بالطعام، وسألها عن مسيرها في ذلك الطريق، فقالت: «إنها قادمة من بوردو، وسائرة إلى بواتيه.» فلما علم أنها قادمة من بوردو قال: «لعلك في جملة الذين فروا في أثناء الحرب على أثر نهب الكنيسة والفتك بالأسرى؟» قالت: «لقد أخطأ الذين فروا؛ لأن نهب الكنيسة إنما كان تعديًا من بعض الغوغاء المرافقين لجند العرب، ولما علم الأمير بذلك أمر بإعادة الآنية إلى مكانها ورد الأسرى إلى أهلهم بالفدية القليلة، وأحاطوا أهل بوردو بكل وسائل الرفق.» فلما سمع الرئيس قولها، بدا الاستغراب على وجهه وقال: «وهل يعرفون الرفق؟ وما الذي يدعوهم إليه، أو يردعهم عن الفتك والقتل ولا دين لهم ولا ذمام؟» فقالت وهي تبتسم: «هل رأيت أحدًا منهم يا مولاي؟» قال: «كلا ولكنني سمعت ذلك من كثيرين.» وأرادت سالمة أن تدفع تلك التهمة بالبرهان فسمعت ضوضاء وصياحًا في بهو الدير، فوقف الرئيس بغتة وصفق فجاءه أحد الرهبان يعدو، فصاح فيه الرئيس: «ما هذه الضوضاء؟» قال الراهب وهو يضحك والبغتة ظاهرة في وجهه: «هذا داتوس يا سيدي.» قال الرئيس: «داتوس؟ وما الذي فعله؟ لقد عهدناه معتزلًا لا يخاطب أحدًا ولا يقوم إلى الطعام إلا كرهًا!» قال: «ذلك هو عهدنا به أيضًا، ولكننا نراه قد أصيب بجنون مؤقت فهجم على خادم الأميرة (وأشار إلى سالمة) وأوسعه ضربًا وصفعًا، وهو يصيح: يا أماه! يا أماه! حتى كاد أن يقتله لو لم نتدارك الأمر ونمسكه منه.» فلما سمعت سالمة ذكر خادمها قالت: «وأين هو حسان؟ وما الذي جرى له؟ هل عليه من بأس؟» فقال الراهب: «هو في خير وسلامة، ولكننا لم نستطع منع داتوس من الهجوم عليه، فبعد أن أرجعناه عنه هجم عليه ثانية بهراوة كانت بيده، ولما أمسكناه عنه بالعنف رمى بالهراوة على حسان وسقط هو على الأرض وقد أغمي عليه من شدة الغيظ، وقد تركته وهو يختلج ويرتعد، ولا يزال يذكر أمه.» فنهض الرئيس وهو يهز رأسه كأنه يستعيذ من شر يخافه، وتبعته سالمة وقد استغربت ما سمعته عن ذلك الشاب، وتبادر إلى ذهنها أنه مصاب بخبل في عقله، وبعد هنيهة أشرف الرئيس وسالمة على مكان الحادثة، وكانوا قد أدخلوا حسانًا إلى حجرته ليغسلوا جراحه، فوقع نظرها على شاب في عنفوان الشباب مطروح على الأرض، وقد تطايرت قبعته واشتبك شعره، وكان جميل الصورة واسع العينين شديد بياض الوجه أشقر الشعر، وكان قد فتح عينيه وتحفز للوقوف كأنه أفاق من سكرة، وجعل يلتفت يمينًا وشمالًا كأنه يبحث عن شيء ضائع، فأشار الرئيس إلى الرهبان أن ينقلوا حسانًا إلى مكان لا يراه فيه داتوس، وأمسك بيد الشاب وخاطبه بلطف وباركه ودعا له وأشار إليه أن يمضي إلى غرفته، فمضى وهو لا يزال يلتفت ولكنه أمسك عن الكلام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/38/
داتوس
فلما رأت سالمة ذلك الشاب ترجح عندها أنه أصيب بجنون أو سكنه شيطان لكنها أحبت أن تتحقق من ظنها، فلما عاد الرئيس عادت هي معه وقد توسمت في وجهه تغيرًا زادها رغبة في السؤال عنه، وأنساها البحث عن حسان، على أنها لم تكد تبدأه بالسؤال حتى سمعته يخاطبها بصوت منخفض قائلًا: «ألا تزالين تجادلينني في شأن أولئك العرب وتزعمين أنهم أهل ديانة ورفق؟» فاستغربت سالمة قوله هذا أكثر من استغرابها عمل داتوس وقالت: «لم أفهم يا أبتي صلة هذا الحادث بالمسلمين أو العرب، بل أرى هذا الإفرنجي قد تعدى على خادمي؛ لأنه عربي حتى كاد يقتله.» وكانا قد دخلا الغرفة فأغلق الرئيس بابها وأومأ إلى سالمة فجلست على وسادة فوق طنفسة، وجلس هو على وسادة أخرى بالقرب منها وقال: «لو عرفت قصة هذا الشاب وسبب ما ظهر من هياجه وتعديه لثبت لك صدق قولي في العرب، وأقلعت عن اعتقادك فيهم الخير.» فأصاخت بسمعها ولسان حالها يقول: «ما هي قصة هذا الشاب يا ترى؟» فقال الرئيس: «اعلمي يا ابنتي أن هذا الشاب من جملة الإفرنج الذين تجندوا لمحاربة أولئك العرب حين بلغهم إقدامهم على فتح هذه البلاد، وكانت له والدة لا يعرف من الأهل سواها ولا هي ترجو سواه، فتركها في بيتها وسار إلى الحرب فاتفق في أثناء غيابه أن جاء المسلمون إلى ذلك البلد، ونهبوا بيت المرأة وساقوها في جملة السبايا إلى قلعتهم في تلك المنطقة فلما عاد الشاب إلى بلده وأخبروه بما حدث لأمه، ساق جواده إلى تلك القلعة ومعه جماعة من الرفاق، فأطل على القلعة وكانت موصدة، فأشرف عليه أحد المسلمين من فوق السور وسأله عن غرضه، فقال له: «أطلب والدتي فإنها أسيرة عندكم.» فأجابوه: «لا نرد لك أمك إلا إذا أعطيتنا الجواد الذي تركبه، وإلا فإننا نذبحها أمام عينيك.» فغضب داتوس لذلك غضبًا شديدًا وقال لهم: «لا أعطيكم جوادي، وافعلوا بوالدتي ما تشاءون.» قال ذلك وهو يظن أنهم يخوفونه بتهديده بقتلها، وأنهم لا ينوون إعدامها فعلا، ولكنه ما لبث أن رآهم اجتزوا رأسها ورموه إليه وهم يقولون: «هذه والدتك فإليك هي.» فلما رأى رأس والدته صعد الدم إلى رأسه وغاب عن رشده، ولما عجز عن الوصول إلى القاتلين لتحصنهم وراء الأسوار جعل يلطم وجهه ويصفق ويبكي ويركض فرسه يمينًا وشمالًا كالمجنون، ثم انقطع عن أصحابه وأقام عندنا وقد قص عليَّ خبره فاعتقدت من ذلك الحين أن العرب أهل ظلم وعسف لا دين عندهم ولا رحمة، وقد مضى على داتوس هنا بضعة أعوام لا يتكلم ولا يجالس أحدًا كأنه أصيب ببله ويبدو أنه رأى خادمك واستشف من مظهره أو كلامه أنه عربي، فهاج به الغضب وتذكر مصيبته فاندفع إلى ما كان منه.» وكانت سالمة تسمع ذلك الحديث وهي في دهشة شديدة فلما أتم الرئيس رواية القصة أحست بضعف حجتها في الدفاع عن العرب ولكنها تجلدت وقالت: «لا أنكر على مولاي الرئيس حدوث مثل ذلك من بعض العرب، كما قد يحدث من الإفرنج وغيرهم ولكن المعول في الأمر على أغراض الجند بجملته.» فقطع كلامها قائلًا: «وما عسى أن تكون أغراضهم وقد شاهدنا من أعمالهم في أثناء فتوحهم ما لم يبقَ معه حاجة إلى دليل ألم ينهبوا الأديرة ويأخذوا آنيتها؟ ألم يأسروا الرهبان ويختاروا أجملهم خلقة ويبيعوهم بيع الأرقاء في إسبانيا، وعهدنا بذلك لا يزال قريبًا؟» فسرت سالمة لاحتجاج الرئيس بهذه الحجة، وقالت: «نعم إن بعض العرب نهبوا بعض الكنائس والأديرة ولكن أمراءهم لم يكونوا يقبلون ذلك، وكثيرًا ما كانوا يعيدون الآنية إلى أصحابها ويطلقون سراح الأسرى وخصوصًا الرهبان؛ لأن نبيهم أوصاهم بهم خيرًا، وآخر ما حدث من هذا القبيل أن بعض الملحقين بجند العرب من البرابرة ونحوهم نهبوا كنيسة بوردو فلما علم أميرهم بذلك رد ما أخذ واعتذر وأوعز إلى جنده ألا يعودوا إلى مثل ذلك، فالعرب أهل رفق وعدل، وفي اعتقادي أنهم خير لأهل هذه البلاد من أولئك الإفرنج، أقول ذلك بين يديك على سبيل الاعتراف السري وأرجو ألا يطلع عليه أحد، فإذا قضت الأحوال بانتصار العرب تحققت من صدق قولي.» فبغت الرئيس لقولها وصاح: «ينتصر العرب! معاذ الله.» فضحكت سالمة لبغتته وقالت: «والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وتحققت من أن الرئيس ممن لا يرجى إقناعهم بفضل العرب فسكتت، ولكنها خشيت أن يكون عليها بأس مما جاهرت به من ميلها إلى العرب، فألحت عليه أن يعتبر كلامها في هذا الشأن من قبيل سر الاعتراف، فوعدها بذلك وهو صادق في وعده؛ لأنهم شديدو المحافظة على ذلك السر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/39/
الجرح
وأرادت سالمة — بعد خروجها من عند الرئيس — أن تفتقد حسانًا لكنها ظنته قد نام، فمضت إلى الغرفة التي أعدوها لها فباتت تلك الليلة، ونهضت في الصباح وهي تعتزم المسير فبعثت إلى حسان، فقيل لها إنه لا يستطيع السفر لجرح أصابه في رأسه فذهبت إليه بنفسها تتفقد شأنه، فرأته راقدًا وقد شد رأسه بمنديل والتعب ظاهر في وجهه، فسألته عن حاله فقال: «لقد أصاب ذلك الشاب مني مقتلًا بهراوته، ولولا لطف الله لذهب بحياتي فورًا ولست أدري مع ذلك سببًا لهذا التعدي.» ولم تكن سالمة تخفي عن حسان أمرًا وهو خزانة أسرارها، فقصت عليه حكاية الشاب واستطردت إلى ما ترتب على ذلك من مناقشات بينها وبين الرئيس إلى أن قالت: «ولا بد من الإسراع في المسير إلى بواتيه، ثم إلى تورس، قبل أن يفسد الأمر علينا، والمسلمون في انتظارنا على أحرِّ من الجمر.» فقال: «لو استطعت الحركة ما أمسكت عن السفر، ومع ذلك فإذا شئت المسير وحدك على أن ألحق بك حين أستطيع الركوب فعلت.» فأطرقت سالمة وأخذت تفاضل بين أن تمكث هناك بضعة أيام ريثما يشفى حسان فتفوتها الفرصة، أو أن تذهب وحدها وتعرض نفسها لأخطار الطريق وبعد التفكير مدة رأت أن تتصرف تصرفًا وسطًا فقالت لحسان: «إني باقية في انتظارك هنا إلى الغد فإذا شفيت واستطعت الركوب سرنا معًا وإلا فإني أسير وحدي.» فأثنى عليها وقال: «غدًا ستظهر نتيجة الجرح فإذا لم تصبني الحمى كان الشفاء قريبًا بإذن الله.» فعملت سالمة على الاهتمام بجرح حسان كأنه كان في بدنها؛ لأنها كانت تحترمه وتكرمه لانقطاعه لخدمتها أعوامًا، ولأنها في حاجة إليه، خصوصًا في هذا السفر فذهبت إلى الرئيس وطلبت إليه الاهتمام بحسان فأذعن لها؛ لأنه شعر بأنه مظلوم، فاستدعى راهبًا كان قد تفقه في الطب، وكان أهل الدير يرجعون إليه في مثل هذه الحوادث، وأوصاه بمعالجته والعناية به، فذهب إليه ومعه سالمة، فلما نزع الرباط وشاهد الجرح زم شفتيه وأبرزهما ورفع حاجبيه، وكانت سالمة ترقب ما يبدو منه، فلما لمست قلقه خفق قلبها خوفًا على حسان، ولكنها لم تظهر اضطرابها فسكتت لترى ما يقوله الطبيب فإذا به قد التفت إلى راهب آخر كان في خدمته، وأومأ إليه أن يأتي بالزجاجة فذهب ثم عاد ومعه زجاجة وكأس، وكان الطبيب في أثناء ذلك قد قص شعر رأس الجريح وأكثره متلبد متلاصق من الدم المتجمد عليه، فاشتمت سالمة رائحة كريهة، ثم صب الطبيب من الزجاجة شيئًا كالخمر لونًا ورائحة، واستعان بالراهب الآخر على غسل الجرح به، فوقع نظر سالمة على الجرح فإذا هو طويل عميق فازداد خوفها عليه ولكنها تجلدت لتسمع قول الطبيب على حدة. وبعد الغسيل شد الطبيب الجرح باللفافة وأشار إلى حسان أن يستلقي ويستريح ليرى ما يكون من جرحه في الغد، وتركوه نائمًا وخرجوا، فلما صاروا خارجًا تقدمت سالمة إلى الطبيب تستطلع رأيه فقال: «لقد أبطأنا عليه في العلاج، وكان يجب علينا أن نعجل بتطهير الجرح حينما أصيب، وعلى كل حال لا يمكننا معرفة النتيجة الآن.» فاستعاذت سالمة بالله وصبرت نفسها إلى الغد، فجاءته في الصباح فإذا هو لا يزال نائمًا فنادته فلم يجبها فجست يده فرأتها شديدة الحرارة فعلمت أنه يعاني من شدة الحمى، فاستدعت الراهب الطبيب فلما جاء وفحصه، قال: «إن الرجل في غمرة الحمى وفي خطر حتى يفيق.» فقالت: «ومتى يفيق؟» قال: «لا بد من الانتظار يومًا أو يومين وعلى الله الشفاء.» فارتبكت سالمة، ووقعت في حيرة من أمرها، وخافت على حسان؛ لأنه يسوءها أن يصاب بسوء لما له من الأيادي البيضاء في خدمتها، فضلًا عن حاجتها إليه، فقضت ذلك اليوم أيضًا كأنها على جمر الغضا وهي تصلي وتتضرع إلى الله أن يشفيه، وقضت ليلها وهي تفكر في هل تنتظر شفاءه أو تسير وحدها، فرأت أنها لو بقيت عند حسان لم تنفعه؛ لأن أهل الدير أكثر عناية به منها، فعزمت على السفر في الغد على أي حال بعد أن توصي الرئيس والطبيب به. فلما أصبحت سارت توًّا إلى حسان فرأت الراهبين في خدمته وهو لا يزال غائبًا عن رشده فسألتهما عن حاله فقال أحدهما: «أراه قد تندى بالعرق قليلًا، وهذه علامة حسنة تبشر بالخير.» فذهبت إلى الرئيس وأخبرته عن اضطرارها للسفر العاجل وأوصته بحسان فبعث إلى الطبيب وبالغ في توصيته فلما خرج الطبيب طلبت من الرئيس أن يرسل معها من يصحبها إلى بواتيه، وأخرجت من جيبها دنانير دفعتها إليه باسم الدير، فأجابها الرئيس إلى رغبتها وأمر راهبًا من رهبانه أن يرافقها إلى حيث تشاء، ولما تأهبت للمسير ذهبت إلى حسان كي تراه قبل سفرها، فوجدته على حاله، وخرج الرئيس لوداعها بباب الدير فكررت على سمعه الوصية وقالت: «إذا منَّ الله عليه بالشفاء فأبقه عندك ريثما أعود، فإني عائدة على عجل.» فأجابها بالإيجاب وقد نزلت من نفسه منزلًا رفيعًا لهيبتها وحكمتها وكرمها، وكان خدم الدير قد أعدوا فرسها وأعدوا لرفيقها الراهب بغلة من بغال الدير عليها خرج فيه بعض الأطعمة الجافة زادًا لهما في الطريق، وركبا وسارا والراهب دليل الطريق، على أن البغلة لو تركت لنفسها لم تخطئ الطريق إلى بواتيه، ومنها إلى تورس، لكثرة ما يركبونها إلى تينك المدينتين لنقل لوازم الدير من الآنية والأطعمة وما إليها، وكانت سالمة قبل خروجها من الدير قد التفت برداء أسود فأصبحت كأنها من راهبات تلك البلاد وزادها شبهًا بهن اصطحابها ذلك الراهب، وكان على رأس الراهب قبعة كالخمار تكسو كل رأسه إلا وجهه وقد تجمعت لحيته بين جناحي الخمار وبرزت إلى الأمام مع شاربه فأصبح فمه غائرًا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/40/
شبح غريب
تواريا عن الدير وقد صارت الشمس في الضحى وتوجها شمالًا في طريق بعضه مطروق وبعضه غير مطروق، وكانت سالمة تعجب لما تراه من المنازل المهجورة والكروم المتروكة، وهي تعلم أن أهل القرى إذا نشبت الحرب لجئوا إلى المدن يحتمون بأسوارها، ولكنها رأت ما يدل على الهجرة القريبة كأن أهل تلك الحقول تركوها بالأمس، فقالت في نفسها: «لا بد أن حادثًا طرأ على هذه البلاد.» فالتفتت إلى الراهب وهو على بغلته بجانبها وقالت: «مالي أرى الحقول مهجورة على هذه الصورة؟» قال: «لا أظنك تجهلين ما نحن فيه من الضيق بسبب هجوم العرب على بلادنا، وأهل القرى لا حصون تحميهم من السلب والنهب.» فقالت: «ولكن العرب لا يزالون بعيدين عن هذه القرى، وربما لا يستطيعون الوصول إليها فكيف هجرها أهلها عفوًا؟» قال: «إن خوف أهل القرى يا ابنتي ليس من جند العرب فقط، بل هم يخافون جند الإفرنج أنفسهم؛ لأنهم إذا مروا بقرية نهبوها وأذلوا أهلها وخربوا منازلها وليس من يردعهم، والظاهر أنهم علموا بقرب مجيء ذلك الجند ففروا من وجوههم، لا أدرى إلى أين ولعلهم لجئوا إلى البلاد البعيدة عن الطريق ريثما يمر الجند فيعودون إلى حقولهم.» وكانت سالمة تسمع كلام الراهب وترى فيه ما يبشرها بنجاح مهمتها، ولكنها كانت منشغلة الذهن بشبح وقع نظرها عليه عن بعد وهو راكب على جواد وقد ساقه نحو الجهة التي يسيران إليها، ولما رآها الراهب تنظر إلى ذلك الشبح وجه هو التفاته إليه، فلما رأت سالمة انتباه الراهب للأمر قالت له: «ما ظنك بهذا الفارس؟» قال: «يظهر من زيه أنه من الإفرنج ولا يمكننا أن نحكم على ذلك حكمًا قاطعًا إلا بعد رؤية وجهه وأراه يقترب منا، فإذا دنا رأيناه وعرفناه أو سألناه عن حاله.» وظل للفارس يقترب منهما حتى وقعت العين على العين فإذا هو ملثم لا يظهر من وجهه إلا العينان، فحياه الراهب فلم يرد التحية، ولكنه تفرس في سالمة وثوبها وفرسها وحول عنان جواده وارتد راجعًا إلى الوراء، فلما رأت سالمة ذلك اضطربت وحسبت لذلك الرجوع ألف حساب، وخشيت أن يفطن الراهب إلى ذلك فيسيء الظن بها فتجلدت وتظاهرت بعدم الاهتمام، وقالت وهي تضحك: «يظهر أن الرجل خاف من أثواب الرهبنة؟» فقال الراهب وهو يظهر الاهتمام: «لا أدري يا ابنتي ما الذي أخافه، ولكنني أعلم أنني تخوفت من رجوعه على هذه الصورة، كأنه جاء للبحث عنا أو عن أحدنا فلما رأى ضالته عاد لإبلاغ النبأ.» ولم تكن سالمة تظن غير ذلك، ولكنها ظلت على تجاهلها وركزت تفكيرها في محاولة الإفلات مما قد ينصبونه لها من الشراك قبل الوقوع فيها فتظاهرت بتغيير الحديث، فقالت: «وهل نحن بعيدان عن بواتيه؟» قال: «إذا أسرعنا وسرنا ليلًا ونهارًا فربما وصلناها في صباح الغد.» فاستحسنت ذكره المسير ليلًا وقالت: «وهل ترى أن نسير ليلًا؟ يظهر أنك تستعجل الرجوع إلى الدير لأشغال عندك هناك، فإذا لم يكن علينا بأس من ذلك فلا مانع عندي.» فقال: «لست مستعجلًا وإنما ذكرت لك ذلك على سبيل تقدير المسافة، وأما المسير فلا خطر منه علينا وخصوصًا؛ لأني أعرف أهل البلاد ويعرفونني، وزيدي على ذلك أن الليلة مقمرة، فإذا شئنا نزلنا عند العشاء في دير أعرفه بجانب الطريق، فنتناول الطعام ونستريح وننام قليلًا ثم ننهض في نصف الليل ونركب توًّا إلى بواتيه فنصلها في الضحى، وإذا كان ذلك متعبًا لك فافعلي ما تشائين؛ لأني إنما أمرت أن أكون في خدمتك إلى حيث تسيرين.» فأعجبها رأي الراهب وسرها السبيل الذي نفذت به إلى ذلك، وفي اعتقادها أنها متى وصلت بواتيه كان لها من أسقفها ما يقيها غائلة الجواسيس أو غيرهم، وخصوصًا؛ لأنها تحمل له وصية من أسقف بوردو، ومتى دخلت القلاية أو الدير الذي فيه الأسقف لا يجرؤ أحد على أن يؤذيها. فأظهرت أنها تساير الراهب في رأيه، واستحسنت أن يبيتا تلك الليلة في الدير الذي أشار إليه فسار وسالمة تتلفت وراءها خلسة، وهي تتوقع أن ترى أناسًا مسرعين في طلبها، أما الراهب فكان مستغرقًا في صلاة يتلوها وهو على ظهر بغلته، وقد قضيا بقية ذلك اليوم وهما يركضان الدابتين فغابت الشمس ولم يدركا الدير المقصود، وكان القمر في ربعه الثالث فجاءت العشاء ولم يطلع بعد، فمشيا في الظلام وسالمة تسوق جوادها وراء بغلة الراهب وهي لا ترى الطريق وقد سكتا وسكنت الطبيعة، ولم يكن يسمع هناك إلا وقع الحوافر تارة على الحصى وطورًا على العشب وقد تعب الفرس ولم يعد يستطيع العدو، وأما البغلة فظلت نشيطة والراهب يمسكها عن العدو لئلا تسبق الفرس.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/41/
المسافة طويلة
مضى جانب من الليل وهما في ذلك وأبصارهما شاخصة إلى ما يتراءى لهما من رءوس التلال، وإذا هما بنور قد ظهر على مرتفع، فلما رأته سالمة أرادت أن تسأل الراهب عنه فابتدرها قائلًا: «ها نحن على مقربة من الدير يا سيدتي.» ففرحت سالمة بذلك رغبة في الراحة، وكادت تنسى ما كانت فيه من الاضطراب التماسًا للسرعة. وصار مسيرهما صعودًا على الآكام والبغلة دليلهما في ذلك الظلام، كأنها تسير وبين يديها المشاعل والأنوار، والفرس يتبعها وسالمة ممسكة بزمام الفرس خوفًا من أن تزل قوائمه، فزادها ذلك تعبًا، وبعد مسير ساعة على هذه الصورة، وصلا إلى سفح ذلك الجبل ولا يزال النور الذي شاهداه على نحو المسافة التي كان عليها عندما رأياه لأول مرة، وكانت سالمة تسمع في أثناء ذلك الصعود صدى حوافر فرسها فتتوهم أن فرسانًا سائرين في أثرها، ولم يكن يسليها في تلك الحال إلا ذكر السيد المسيح ورسم إشارة الصليب، وقد أصبحت لفرط قلقها لا تجرؤ على الالتفات إلى الوراء. وأما الراهب فكان قد عاد إلى الصلاة واستغرق في الدعاء وبعد قليل رأت سالمة النور يقترب منهما، فتحققت أنهما صارا على مقربة من الدير فنشطت، ونسيت التعب ونادت الراهب قائلة: «لعلنا في آخر رحلتنا يا حضرة الأب؟» قال: «وصلنا الدير يا ابنتي فاطمئني.» ثم وصلا إلى سطح منبسط ينتهي ببناء عالٍ عرفت سالمة من شكله أنه دير فتحققت أنهما وصلا إلى المكان المقصود، ثم رأت نفسها تقترب من ذلك البناء حتى صارت بجانب الباب، وقد توارى النور الذي كانت تراه عن بعد، وإذا بالراهب قد ترجل ومشى نحو الدير وزمام البغلة في يده، وهي لا تزال على فرسها حتى وقف الراهب بجانب باب الدير، فأمسك بحبل مدلى بجانبه وشده فسمعت قرع الجرس ثم أطل بواب الدير من كوَّته وقبل أن يسمعا نداءه صاح الراهب باللغة اللاتينية قائلًا: «افتح سريعًا.» فكان كلامه بتلك اللغة أحسن وسيلة للتعريف، ولم تمضِ برهة وجيزة حتى فتح الباب وخرج منه راهب طويل القامة دقيق العضل، خاطب الراهب باللاتينية واستقبله فترجلت سالمة ودخلت إلى غرفة الضيوف، وهو يرحب بهما ويسأل الراهب عن سبب تأخره حتى دخلا الغرفة، ورجع البواب ثم عاد بشمعة مضيئة مغروسة في شمعدان من خشب عليه أثر الشمع القديم فوضعه في الغرفة وخرج ثم جاءهما بطعام، فجلست سالمة وقد أخذ التعب منها مأخذًا عظيمًا ونسيت ما هي فيه من الجوع، فقدم لها الراهب الطعام في قصعة فتناولت منه شيئًا ونفسها تطلب النوم أكثر من الطعام، فأكلت وشربت قليلًا من الخمر مع الماء وتوسدت الفراش، ولم توص الراهب بإيقاظها طمعًا في الراحة اللازمة، وتغافلت عن رغبتها في السرعة اعتمادًا على ما يتراءى للراهب من انتهاز الوقت. وأما الراهب فلما رآها تنام صعد إلى غرفة البواب فجلس عنده قليلًا، وتحدثا في شئون كثيرة معظمها خارج عن موضوع المهمة التي ترغب سالمة في البحث فيها، وفي آخر السهرة استفسر الراهب، رفيق سالمة، عن أقرب الطرق إلى مدينة بواتيه. فلما أجابه الراهب علم أنه كان على هدى من رأيه في خط ذلك المسير، وذهب إلى فراش أعدوه له في غرفة أخرى فنام، ولم يكد يتوسد الفراش حتى أحس بالتعب وغلب عليه النعاس فاستغرق في النوم ولم ينهض إلا عند الفجر، فهرول إلى سالمة فأيقظها وذهب إلى مربط البغال، وأحضر الفرس والبغلة فركبا وسارا يلتمسان بواتيه. وأشرقت الشمس وهما لا يزالان بين الجبال لا يريان ما وراءها، وسالمة تحسب نفسها تائهة، ولولا ثقتها بمعرفة الراهب تلك الجهات لتحققت أنهما ضلا الطريق، ووصلا عند الضحى إلى رابية أطلا منها على سهل بعيد، رأيا في أحد جوانبه مدينة في منتصفها قبة عالية في قمتها صليب علمت سالمة أنها قبة كنيسة بواتيه، فانشرح صدرها ونسيت تعبها وقلقها وانبسط وجهها وقالت: «أليست هذه بواتيه؟» فقال الراهب: «نعم يا ابنتي هذه بواتيه، وبعد قليل نصلها وندخلها بإذن الله.» فقالت: «من أين ندخلها؟ إني أرى سورًا.» قال: «ندخلها من بابها الجنوبي الذي ترينه وأمامه تلك الشجرة الكبيرة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/42/
خطر آخر
فانشرح صدر سالمة لوصولها ونجاتها من الخطر لاعتقادها أنها إذا دخلت مدينة بواتيه فلا خوف عليها ولكنها لم تكد تصل إلى الباب حتى رأت جماعة على خيول بملابس جنود الإفرنج قد خرجوا من الباب، وفي مقدمتهم فارس ملثم، وعلى رءوسهم الخوذ وعليهم الدروع، وقد تقلدوا السيوف المستقيمة بمناطق من جلد وتحت الدروع جبب قصيرة إلى الركب، وقد لفوا على سيوفهم لفافة من جلد وعلقوا بأكتافهم جعب النبال وتلثموا بخمر من الحلق المشتبك، ولم يظهر من وجوههم إلا العيون والأنوف والأفواه وبعض اللحى، فلما رأت سالمة ذلك الفارس الملثم عرفت أنه جاسوس الأمس فخفق قلبها لرؤيته، ثم ما لبثت أن رأته قادمًا نحوها والفرسان يتبعونه على عجل فازداد اضطرابها واستعاذت بالله، وأدنت فرسها من الراهب كأنها تحتمي فيه أو تنوي سؤاله عن شيء وقد امتقع لونها وتحققت من الخطر المحدق بها، وإذا بالفارس الملثم قد أومأ إلى رفاقه وأشار بإصبعه إليها كأنه يقول: «هذه هي فاقبضوا عليها.» فأحاطوا بها وبالراهب أيضًا، فسألهم الراهب عن غرضهم فقالوا: «قد أمرنا بالقبض عليكما والسير بكما إلى حضرة الدوق أود.» فقال: «وما الذي دعا إلى ذلك، وما نحن من أهل السياسة ولا الحرب فإني راهب وهذه امرأة أظنكم مخطئين.» قالوا: «لسنا مخطئين هيا معنا طائعين، ولا فإنكما ذاهبان كرها.» فلما تحققت سالمة من وقوع الخطر، ورأت أن نجاتهما مستحيلة من بين يدي أولئك الفرسان تجلدت وقالت: «أظنكم تلتمسون القبض عليَّ وليس على هذا الراهب، فأطلقوه وها أنا أسير معكم إلى حيث تشاءون، ولا حاجة إلى التهديد والوعيد.» فتعجب الراهب من جرأتها ورباطة جأشها وحدثته نفسه أن يرفض النجاة بنفسه ويطلب البقاء معها، ولكنه رأى أن بقاءه لا ينفعها، وخشي لوم رئيسه فسكت ليرى ما يكون منهم فإذا بالفارس الملثم قد خاطب كبير الفرسان همسًا، فأشار هذا إلى الراهب بالانصراف، وأحاطوا بسالمة وساروا بها ولم يلتفتوا إلى الخلف. أما هي فلما رأت نفسها في قبضة الإفرنج ولا حيلة لها في النجاة، تذكرت أنها تحمل رسالة من أسقف بوردو إلى أسقف بواتيه، فخشيت إن هم فتشوها أن يعثروا على الرسالة فيقع أسقف بواتيه تحت طائلة الغضب، فاحتالت ورمت الرسالة في مكان بحيث لا يراها أحد، ثم تذكرت المحفظة وفيها كل سرها فخفق قلبها خوفًا من وقوعها في أيدي أولئك الإفرنج، فجرَّها ذلك إلى التفكير في ابنتها وكيف تركتها في معسكر المسلمين، وتمثلت في ذهنها ميمونة وما كانت تخشاه من دسائسها، فترجح عندها أن ما أصابها إنما كان بإيعاز من ميمونة، إذ ليس في أكتانيا كلها من يعرفها أو يسيء الظن بها سواها ولكنها عادت فتذكرت أنها خرجت في تلك المهمة سرًّا، ولم تكاشف أحدًا بخروجها غير مريم، وقضت سالمة ساعة في تلك الهواجس وهي سائرة على فرسها والفرسان محيطون بها وفي جملتهم ذلك الجاسوس الملثم وكانت تسترق النظر إليه لعلها تستطيع معرفته؛ لأنها لو رأت وجهه لانكشف سر ذلك الأمر، ولكنه كان شديد الحرص على لثامه، على أنها تفرست في ثيابه فرأت بالرغم من أنها تبدو في الظاهر إفرنجية، فإنه يظهر من تحت ردائه القصير أن باقي الثوب ليس إفرنجيًّا، ورأت أن ما انكشف من ساقيه أسمر اللون، ولون الإفرنج مشرب بحمرة، فتحققت أنه جاسوس من خدم ميمونة، فندمت؛ لأنها لم تكشف أمرها للعرب لينجوا من حبائلها، وأصبحت من جهة أخرى، تخشى أن توقع المسلمين في شراكها أو تفسد أمرهم، فيذهب سعيها في نجاحهم أدراج الرياح، وودت لو أنها تستطيع إبلاغ ذلك إلى الأمير عبد الرحمن، فتأسفت؛ لأنها تركت حسانًا في الدير ولا تدري مع ذلك هل شفي جرحه، أم أصابه سوء بسببه، وتصورت كيف يكون حال ابنتها ووحيدتها إذا فشل المسلمون، فتراكمت عليها الهواجس وعظم الأمر عليها وغلبها اليأس، فانخرطت في البكاء خلسة، فلما بكت خف بعض ما بها، ولكن الأمر ما برح عظيمًا. وما زالوا سائرين بضع ساعات وسالمة تتهيب مقابلة الكونت أود لئلا يعرفها فيكبر جرمها عنده ويكون ذلك خاتمة المصائب، فلما كثرت مشاغلها وهواجسها أخذ الأمر يهون عليها، وهو لم يهن حقيقة، ولكن الإنسان إذا وقع في مصيبة استعظمها وكاد ينوء تحت ثقلها، فإذا تراكمت عليه المصائب ساعده اليأس على احتمالها فكم من أرملة كان الناس يحسبون أنها ستموت ساعة موت زوجها، فلما مات لم تمت ولكنها أعظمت المصيبة فعزاها الناس ببقاء أنجالها، ثم أصيبت في واحد منهم، ثم بآخر ففرغت حيل الناس في تعزيتها ولكنهم رأوا أنفسهم — بعد حين — في غنى عن ذلك بما استولى على تلك الأرملة الثكلى من اليأس، كأن القلب يندمل من توالي الأحزان، أو أنه يعتاد المصائب فيستخف بها، وهكذا شأن من تحيط به المشاكل، تراه عند وقوعه في المشكل الأول أكثر ارتباكًا وخوفًا مما يصير إليه حاله عند تعددها، فكانت كلما تعددت مشاكلها هونت على نفسها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/43/
الدوق أود
وفي أصيل ذلك اليوم أشرفوا على كرم وراءه سهل واسع، رأت في منتصفه قصرًا كبيرًا حوله الخيام وبينها الناس يعجون عجًّا، وفوق القصر علم عرفت حين رأته أنه للدوق أود فتحققت أنها وصلت إلى المكان المقصود، وأن القصر المذكور لبعض أغنياء البلاد هجره أهله في جملة ما هجروه، فنزل فيه أود وأقام رجاله في الخيام حوله. وما زال الفرسان سائرين بها حتى وصلوا إلى باب القصر فترجلوا وترجلت، فسلموها إلى الحرس الواقف بالباب، فدخلوا بها إلى القصر وهي ملثمة بثوبها الأسود ومقنعة بخمارها الأسود، مشت بقدم ثابتة بين الحرس حتى تجاوزت باحة البيت إلى قاعة وقف الحرس ببابها، ودخل أحدهم ثم عاد وأشار إلى سالمة أن تدخل. فدخلت إلى قاعة يظهر من سعتها وما على جدرانها من الرسوم الجميلة أن أصحاب ذلك البيت من أهل اليسار، ولم ترَ في أرض القاعة طنافس ولا مقاعد غير ما كان يحمله الجند في سفرهم، وشاهدت على كرسي في وسط القاعة رجلًا نحيف البدن ممتقع اللون أشقر الشعر أشيبه، أزرق العينين جاحظهما، غائر الفم بارز اللحية، منخسف الخدين بارز الوجنتين، وعلى رأسه قبعة عنابية اللون مزركشة بالذهب وفي مقدمتها فوق جبينه حلية مرصعة بالماس والياقوت بشكل الصليب، وعلى كتفيه بردة مزركشة بالقصب سماوية اللون تغطي ثيابه، وتحت البردة جبة قصيرة من القطيفة حولها منطقة عريضة منسوجة بالذهب على أشكال بعض الطيور، وحول ساقيه لفافة من جلد ملون له أهداب من الفرو، ونعلاه مشدودتان إلى قدميه بسيور من نسيج الشعر المتين، وقد جلس على كرسي ذي جناحين أسند زنديه إليهما، وقد ظهر من تحت البردة سلسلة ذهبية مدلاة من عنقه وفيها صليب من الذهب، فعلمت سالمة أنه الدوق أود؛ لأنها كانت تعرفه جيدًا وتعرف بعض الذين بين يديه من أمراء مجلسه. وكان أود قبل دخول سالمة قد تناول من أحد جلسائه قدحًا فيه خمر وهم بشربه، فلما أمر بإدخالها وضع القدح على المائدة أمامه بين الأقداح الأخرى ومسح لحيته بيده ثم جعل يسرحها بأنامله، فدخلت سالمة وهو على تلك الحالة، وحالما وقع نظره عليها ظهرت البغتة في عينيه، ولولا اصفرار وجهه الطبيعي لبدت أيضًا في امتقاع لونه، ولم تكن سالمة أقل تأثرًا منه ولكنها كانت قد تجلدت وذهبت بغتتها فوقفت بين يديه وخرج الحرس ثم أومأ أود إلى أهل مجلسه فخرجوا جميعًا وبقي هو وسالمة. فلما رأت سالمة نفسها وحدها زادت تهيبًا، فإذا هو قد أشار إليها أن تجلس فجلست على كرسي بين يديه جلوس متحفز للنهوض، فخاطبها أود بالإفرنجية قائلًا: «ألهذا الحد بلغ منك الغيظ؟» فأجابت وهي تتجاهل: «وأي غيظ يا مولاي؟» قال: «أتظنين أني نسيتك يا أجيلا؟» فلما سمعت سالمة لفظ «أجيلا» ارتعدت فرائصها؛ لأنها لم تسمع أحدًا يناديها بهذا الاسم من زمن بعيد، ولكنها تجلدت وقالت: «أظن أن مولاي مخطئ في شأني، ولعله يقصد امرأة غيري.» قال وهو يضحك: «أظنني واهمًا إذا كانت عيناي واهمتين، فهل تظنين أن قلبي واهم أيضًا؟ هل أنسى أجيلا وقد جرحت قلبي، وأساءت إلى سلطاني ولكنها أساءت إلى نفسها، ألم يكن من التعقل والحكمة أن تقلعي عن ذلك الجنون؟ أليس من العار عليك وأنت مسيحية مولودة في بيت من أكبر بيوت المسيحيين أن تتعاوني مع قوم غرباء لا دين لهم ولا ذمام وتساعديهم على أهل ديانتك؟» قالت وهي لا تزال مطرقة: «لم أفهم يا مولاي مغزى كلامك كأنك تخاطب امرأة غيري، فإن الاسم الذي ناديتني به ليس هو اسمي، وإنما اسمي سالمة.» فأغرق أود في الضحك حتى سمع قهقهته كل من في القصر، ومد يده إلى المائدة فتناول قدحه وشربه وهو ينظر إلى سالمة وهي لا تزال مطرقة، ثم أعاد القدح فارغًا ومسح فمه بيده وهو يقول: «ما لنا وللإنكار والإثبات، أخبريني يا سالمة — كما تسمين نفسك — ما الذي جئت من أجله إلى هذه المدينة، وما الذي فعلته عند أسقف بوردو؟» فأدركت سالمة أنه مطلع على كل شيء من أمرها، فقالت: «وما الغرابة في زيارة امرأة مسيحية لأسقف كنيستها؟» قال: «لا غرابة في الزيارة، ولكنني أسألك عما دار بينكما وعما حملك على الذهاب إليه.» قالت: «لا يخلو أن يكون قد دار بيني وبينه حديث طويل في شئون سرية لا تهم أحدًا؛ لأن جماعة الأكليروس خزانة أسرارنا.» قال: «لا أسألك عن اعترافك إليه فيما يتعلق بشئونك، ولكنني أسألك عما دار بينك وبينه بشأن الإفرنج والعرب والحرب والسلم.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/44/
التهديد
فلما سمعت تصريحه لم يبقَ عندها شك في اطلاعه على سرها فأيقنت بالوقوع ويئست من النجاة، فساعدها اليأس على الجرأة فقالت: «يظهر أنك عالم بما دار بيني وبينه فلا حاجة إلى سؤالي.» قال وهو يظهر الغضب: «أهكذا تجاوبين الدوق أود؟ هل بمثل هذه الجرأة تخاطبين دوق أكيتانيا؟» فظلت سالمة ساكتة، ولكنها ابتسمت ابتسامة فهم أود منها ما هو أكثر صراحة من الجواب، فابتسم وكأنه ندم على ذلك التهديد فقال: «تلك أيام مضت وقد أردنا إرجاعك إلى مثلها فأبيت فأسأت إلى نفسك وإلى ابنتك ولا ذنب لها وإنما الذنب ذنبك فقد أردت أن تهوى ابنتك الذين تهوينهم أنت، وأن تبيع ديانتها وكنيستها جزافًا وأن يكون نصيبها مع أولئك المسلمين، وفي الحق أني لم أفهم سر ذلك العناد منك.» فأيقنت سالمة أن أود مطلع على كل شيء كأنه كان معها في خيمة عبد الرحمن حينما صرحت له بسرها واستغربت اطلاعه على تلك الأسرار، ولم تجد لها خيرًا من السكوت أو الإنكار فقالت: «أراك لا تزال تخاطبني بالألغاز والإشارات والتلميح والتعريض فالذي تريد أن تعتقده فيَّ اعتقده وما تريد أن تفعله افعله.» قال: «الذي أريد أن أفعله يا أجيلا سترينه رأي العين، ولو أظهرت هذه الوقاحة في مجلسي وبين أرباب حكومتي لما استطعت الإغضاء عن قتلك، ولكنني أسامحك الآن إكرامًا للحب القديم، أما الآن فقد تحول ذلك الحب إلى الغضب والانتقام، ويكفيني انتقامًا منك أن أريك حبوط مسعاك، فمتى رأيت الأرض مضرجة بدماء أولئك العرب والبرابرة، كنت مخيرة بين أن تموتي حسرة أو أن نقتلك بالسلاح الذي تختارينه.» ••• قال ذلك ولحيته تضطرب، وعيناه قد كللهما الاحمرار من شدة الحنق والغيظ؛ لأن الإنسان إذا غضب ولم يشف غضبه بالضرب أو نحوه اشتد تأثيره، وقد يحاول إخفاء عواطفه بالكتمان ولكن العينين تبوحان بسر القلب على حد قول الشاعر: فلما رأت سالمة غضب أود وتصريحه بما في قلبه من الغيظ مع علمها أنه فاعل معها ما يريده؛ لأنها أسيرة بين يديه، رأت أن السكوت أجدر بها لعلمها أن ما توهمه أود في نفسه من القدرة على العرب محال؛ لأنهم هزموه في عدة مواقع. فلما رآها أود لا تزال ساكتة ازداد هو حنقًا فقال لها: «أراك لا تزالين صامتة!» فقالت وهي تظهر التجلد وعدم الاكتراث: «وماذا عسى أن يكون جوابي لأمير حوله الجند والأعوان والعدة والسلاح، يهدد امرأة وحيدة لا نصير لها ولا سلاح في يدها، فالذي ترى أن تفعله أيها الدوق افعله!» ••• وهم أود أن يجيبها، فسمع قرع الباب قرعًا عنيفًا، فدهش لذلك لعلمه أن أحدًا من أعوانه لا يجرؤ على إقلاق راحته في مثل تلك الحال، فنهض بنفسه مسرعًا إلى الباب وطليسانه يجر وراءه وقد حمي غضبه، ففتح الباب فاستقبله أحد رجال خاصته، فصاح قائلًا: «ما الذي حملكم على هذا القرع العنيف وأنتم تعلمون أنني في جلسة خاصة؟» فقال: «العفو يا مولاي، إننا فعلنا ذلك بإشارة هذا الرسول فإنه قادم من سفر ومعه رسالة عاجلة في غاية الأهمية أوصاه مرسلها أن يسلمها إلى حضرة الدوق حال وصوله إلى معسكره، وإذا كان نائمًا فليوقظه من نومه.» فبغت أود وقال: «أين هذا الرسول؟ دعه يدخل.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/45/
الكتاب
فدخل رجل عليه لباس الإفرنج ولكن وجهه يدل على أنه من برابرة إفريقية، فلما شاهدته سالمة عرفت أنه من جند المسلمين وقد جاء متنكرًا أما هو فقد مد يده إلى جيبه وأخرج لفافة دفعها إلى أود، فتناولها وتراجع إلى كرسيه فجلس عليه، وفض اللفافة فإذا فيها منديل عليه كتابة فأخذ في قراءتها حتى أتى على آخرها، ثم عاود قراءتها ثانية والبغتة ظاهرة على وجهه. وكانت سالمة تتغافل عن ملاحظة حركات أود وتسترق النظر إلى الرسول، فإذا هو يسترق النظر إليها وكأنه عرفها، وأما هي فعرفت أنه من رجال البربر، ثم ما لبثت أن رأت في عينيه حولا شديدًا فتذكرت أنها رأته في معسكر عبد الرحمن، فأدركت مصدر تلك الرسالة وودت لو يتاح لها الخلاص من ذلك الأسر لعلها تستطيع القيام بخدمة العرب. أما الدوق أود فبعد أن فرغ من تلاوة الكتاب ثانية تظاهر بالإطراق والتفكير وهو ينظر خلسة إلى سالمة، يرقب حركاتها وما قد يبدو في وجهها، فرآها تبالغ في التجاهل وأحب أن يعود إلى البحث في شأنها لكنه رأى في ذلك الكتاب ما يدعو إلى سرعة العمل فأومأ إلى الرسول فخرج، ثم صفق فدخل إليه أحد غلمانه وبيده حربة ووقف متأدبًا، فأشار إليه أود أن يأخذ سالمة إلى غرفة منفردة من غرف القصر يحبسها فيها، ثم التفت إليها قائلًا: «إذا كنت مصرة على الإنكار والتجاهل، فاذهبي إلى حيث يقودك هذا الحارس وسننظر في شأنك.» فنهضت سالمة ومشت، ولم تبدِ جوابًا فسار بها الحارس حتى خرج من باحة القصر إلى دهليز نفذ منه إلى باب أدخلها فيه، إلى غرفة ليس فيها إلا حصير وطنفسة ولها نافذة تطل على معسكر الإفرنج، فتركها الحارس هناك وأغلق عليها الباب فظلت هي واقفة تنظر إلى ما تطل عليه النافذة من الخيام المنصوبة، وبينها الرجال في ذهاب وإياب لقضاء حوائجهم، حتى إذا تعبت من الوقوف جلست على الطنفسة، وقد عظم عليها ذلك السجن مع ما يترتب عليه من عرقلة مساعيها، وودت لو أنها تطلع على نص تلك الرسالة لتعلم ما دبروه لها ولجند العرب ولكنها قالت في نفسها: «إذا لم يكن ثمة سبيل إلى خروجي من هذا المعسكر فما الفائدة من الاطلاع على الرسالة!» وظلت على تلك الحال إلى الغروب وهي لم تذق طعامًا، وكانت لفرط مشاغلها لا تشعر بمرور الوقت، فلما غابت الشمس اسودت الدنيا في عينيها وتذكرت ابنتها، وميمونة، وعبد الرحمن، فتذكرت المحفظة فتفقدتها، فإذا هي لا تزال محفوظة تحت ثيابها لكنها أصبحت لا ترى فائدة منها وهي في تلك الحال بعيدة عن كل نصير، وخصوصًا خادمها، وقد تركته بين حي وميت، فغلب على ظنها أنه لم ينجُ من تلك الحمى؛ لأنها أصبحت بعد وقوعها في ذلك الشرك لا تتوقع غير توالي النحس، والإنسان إذا أصابته مصيبة انصرف ذهنه إلى استهدافه لسواها، وإذا صادف توفيقًا في عمل خيل له أن الأقدار قد أبرمت معه عهدًا ألا تأتيه بغير ما يرضاه.» فاشتغلت بتلك الهواجس عما في ذلك القصر من ضوضاء الجند بين خارج وداخل، وعن غوغاء الناس في المضارب وخاصة ساعة الغروب وقد نفخ في البوق لدعوتهم إلى الطعام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/46/
الطارق
وبينما هي مشتغلة في ذلك، إذا بقلقلة في مكان القفل بالباب، فأجفلت ونظرت إلى الباب فرأت من ثقبه نورًا في الخارج، ثم فتح الباب ودخل منه شاب بملابس الإفرنج في إحدى يديه شمعة مضيئة، وفي الأخرى قصعة مغطاة بشيء كالخبز، فعلمت أنهم جاءوها بالطعام، فأحست بالجوع ولكنها لم تتمالك أن صاحت: «من أنت؟» فأجابها الشاب بصوت هادئ: «لقد جئتك يا سيدتي بطعام بأمر سيدي الدوق، وقد أوصاني أن أرجوك لتأكلي من هذا الطعام فإنه طعامه الخاص.» فاستغربت سالمة هذا الإكرام منه بعد ما دار بينها وبينه، ولكنها سكتت وهي تنتظر ما يفعله الشاب فإذا هو قد وضع القصعة على الطنفسة ورفع الخبز عنها فرأت تحته شيئًا من الطيور المطبوخة وقد فاحت منه رائحة يشتهيها الشبعان، فكيف بالجائع! ولكنها أمسكت نفسها مخافة أن يكون في الطعام سم أو نحوه، وإن كان الجوع يدفعها إلى الأكل، فرأت أن تنظر في وجه الغلام لعلها تتوسم فيه ما يشجعها أو يحذرها، فرفعت بصرها إليه والشمعة لا تزال في يده وقد وقعت أشعتها على وجهه فاذا هو يختلف في سحنته ولون بشرته عن أهل تلك البلاد مع أن كلامه إفرنجي، فتبينت تقاطيع وجهه فإذا هو أسود العينين براقهما خفيف العضل أسمر البشرة خفيف اللحية صغير العارضين لحداثته، وتدل ملامحه على أنه ليس إفرنجيًّا فلم تستغرب ذلك لعلمها بما كان يدخل بلاط الملوك في تلك الأيام من الأسرى والمماليك من أمم مختلفة فتفرست في وجهه لترى ما قد يزيل الشك الذي ساورها من أمر الطعام، فلم ترَ في وجه الغلام ما يدعو إلى الخوف، لكنها أرادت أن تتحقق من ذلك من سماع كلامه فقالت: «ما اسمك أيها الشاب؟» قال: «اسمي رودريك يا سيدتي.» فلما سمعت ذلك الاسم، خفق قلبها وأجفلت وتصاعد الدم إلى محياها بغتة، لكنها انتبهت لنفسها في الحال وحولت نظرها إلى القصعة ومدت يدها إلى الخبز وتشاغلت بتقطيعه بهدوء وسكينة، والغلام واقف وقد لحظ منها ذلك الاضطراب فلم يفهم له سببًا سوى أنها تحتاج إلى أمر وقد منعها الحياء من طلبه، فانتبه للحال أنه لم يأتها بالماء للشرب فابتدرها قائلًا: «أظنك تحتاجين إلى الماء؟» ثم وضع الشمعة على البساط وخرج، وقد ترك الباب مفتوحًا، ففهمت سالمة أنه ينوي الرجوع بعد قليل. ولم تمضِ هنيهة حتى سمعت وقع أقدامه ثم دخل وبيده كوب فيها ماء وضعها أمامها وهو يبتسم، وكان قد سكن اضطرابها فنظرت إليه فأحست بارتياح إلى رؤيته، واستأنست به، فشكرت عنايته وودت لو أنه يتولى أمرها دائما. ••• أما هو فوضع الكوب وخرج، وأغلق الباب من ورائه إغلاقًا خفيفًا كأنه عازم على الرجوع. فتناولت سالمة بعض ما في القصعة، وشربت الماء وهي تفكر فيما آنسته من ذلك الغلام من الود، ولبثت بعد فراغها من الطعام تنتظر رجوعه، وبعد قليل سمعته وهو يمشي الهوينا، ثم دخل يحمل غطاء ثقيلًا ووسادة فألقاهما على الأرض وهو يقول: «هذا غطاء ووسادة وقد أوصى مولاي الدوق بهما لك.» فتناولتهما وقالت له: «أشكر عنايتك أيها الشاب وأرجو أن أستطيع مكافأتك، وعسى ألا يتولى أمري من أهل هذا المعسكر سواك، وإن كان في ذلك إثقال عليك.» فأجابها رودريك وهو يبتسم: «وأنا أرجو ألا يتولى ذلك سواي؛ لأني أخشى أن يتولاه من لا يعرف قدرك، فلا يحسن خدمتك.» فأدركت سالمة من ذلك أنه يعرف شيئًا عنها فتجاهلت وسكتت أما هو فإنه أخذ القصعة والكوب وتحول نحو الباب، وهو يقول: «وسترينني رهن إشارتك وسأبذل أقصى الجهد في خدمتك فليطمئن بالك.» ثم أغلق الباب وخرج. ••• وبعد خروجه شعرت سالمة بارتياح أنساها بعض ما بها من الاضطراب، فافترشت جانبًا من الغطاء وتغطت بباقيه وتوسدت تلتمس النوم، وكانت قد شعرت بالتعب على أثر ما قاسته في ذلك اليوم وما قبله، فغلب عليها النعاس فنامت نوما عميقًا. ولما أفاقت جاءها رودريك بطعام الصباح وتولى خدمتها في كل ما تحتاج إليه، وتفرست فيه على ضوء النهار فتحققت من أنه بعيد الشبه عن الإفرنج وقريب الملامح من العرب، ولكنها رأته يتكلم الإفرنجية مثل أهلها واسمه إفرنجي فعزمت على استطلاع حقيقته بعد أن تأنس فيه ثقة بها، مخافة أن تبدو منها كلمة تزيد نقمة أود، إذا هي بلغته.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/47/
السفر
قضت سالمة في ذلك الأسر أيامًا وهي ترقب حال أهل القصر لعلها تجد سبيلًا للفرار، فإذا هم شديدو العناية بحراستها، كثيرو التضييق عليها وكان جماعة منهم موكلين بحراستها ومراقبة حركاتها، فعلمت أن أود مع تغيبه عنها وإهماله مقابلتها شديد الحرص على استبقائها في ذلك السجن. فلما طال بقاؤها على تلك الحال سئمت الإقامة وتزايد قلقها على جند العرب لعلمها أنهم في انتظارها على مثل الجمر، ولكنها لم تكن ترى بأسًا من تأخرها عنهم؛ لأنها توقن بأنهم فائزون في فتحهم حتى يبلغوا بواتيه، ثم هي لا تخاف عليهم أود وجنده؛ لأنه غلب غير مرة على أنها كانت تخاف على مريم من غدر ميمونة، ثم هي رجحت أن الكتاب الذي جاء به ذلك الأحول إنما هو من ميمونة، ولكنها لم تفهم فحواه تمامًا فلبثت تتوقع فرصة للاطلاع على ذلك من رودريك. وأصبحت ذات يوم فسمعت ضوضاء الجند على غير عادتهم، فأطلت من النافذة فرأتهم يقوضون الخيام وقد أخذوا في التأهب للسفر، فانشغل خاطرها وأوجست خيفة من ذلك الانتقال، لكنها رأت في ذلك سبيلًا لمخاطبة رودريك فيما قد يكشف لها شيئًا من ذلك السر، فلما جاءها في ذلك الصباح ومعه الطعام ابتدرته قائلة: «مالي أراكم تتأهبون للسفر، هل أنتم مسافرون جميعًا أم أن بعضكم سيبقى هنا؟» قال: «إننا مسافرون جميعًا، وقد أمر حضرة الدوق أن تسيري معنا.» قالت: «وإلى أين؟» قال: «إلى تورس على نهر لوار.» فلما سمعت قوله استغربت ذلك الانتقال لعلمها أن النهر المذكور هو آخر حدود أكيتانيا، والبلاد التي وراءه تحت سلطة شارل دوق أوستراسيا وهي تعلم أيضًا أن بين أود وشارل منافسة ومزاحمة على النفوذ، وربما كان شارل أكثر حرصًا على صد أود عن بلاده من حرص العرب على فتح أكيتانيا فقالت: «هل أنت على يقين من ذهابهم إلى تورس؟» قال رودريك: «نعم يا مولاتي وقد سمعت الأوامر الصادرة لنا بالذهاب.» قالت سالمة: «ألا تعلم بما بين الدوق أود ودوق أوستراسيا من المنافسة؟» قال: «بلى ومن يجهل ذلك؟» قالت: «فما الذي يفعله الدوق أود في تورس إذن؟ ألا يخاف عدوه شارل؟» فلما سمع رودريك سؤالها، تلفت نحو الباب كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم نظر إلى سالمة وهو يقول بصوت خفيض: «إن لذلك سرًّا لم يطلع عليه إلا نفر قليل من هذا الجند، وأخشى إن بحت به أن يلحقني أذى.» فتوسمت في وجه الغلام خبرًا مهما، فتاقت نفسها لسماعه فشجعته، وقالت: «ما الذي تخشاه من أسيرة سجينة، ربما لا يهمها من أمر هذا الخبر شيء، ولكنني أحببت الاطلاع على هذا السر لغرابته وقد شجعني على هذا السؤال ما شاهدته من مؤانستك ولطفك في هذه المدة، ومع ذلك فإني لا أظنك أحرص على مصلحة هذا الجند مني؛ لأنك على ما يظهر لي لست منهم.» فلما قالت سالمة ذلك بدت البغتة على وجه رودريك وقد تحولت سحنته إلى غير ما كانت عليه فتنهد وقال: «لقد أدهشتني فراستك فيَّ؛ لأنك اطلعت في أيام على ما لم يستطع كشفه أحد من أهل هذا المعسكر في أعوام.» فاستبشرت سالمة بذلك التلميح وقالت: «يظهر لي أني قد أصبت الفراسة فكلانا إذن يرمي إلى غرض واحد، فأخبرني عما حمل أود على الذهاب إلى تورس ولا تخف، وأرجو أن يكون لك من وراء ذلك خير.» فقال: «أما السبب في هذا الانتقال فهو أن العرب حاربونا ونحن قرب بوردو فغلبونا، وقد بلغنا الآن أنهم قادمون إلى هنا.» فقطعت كلامه وقد سرها أن غيابها لم يؤخر العرب عن التقدم في الفتح، وأيقنت أنهم لم يلاقوا في طريقهم مقاومة كبيرة من أهل البلاد، فقالت: «فالإفرنج إذن يطلبون تورس فرارًا من العرب؟» قال: «لا يخلو الأمر مما ذكرت ولكنهم يطلبون تورس للدفاع وليس للفرار.» قالت سالمة: «وبماذا يدافعون وعدوهم هناك أشد وطأة عليهم من العرب؟» قال رودريك: «كان الأمر كذلك من قبل ولكنه أصبح الآن حليفًا لهم.» فقالت سالمة: «وكيف ذلك والمنافسة متمكنة بينهما؛ لأن كلًّا منهما يطلب السيادة على الآخر بعد أن رأيا انحلال الدولة المرونجية التي كانت تجمعهما تحت سيطرتها، وقد علمنا أن الفائز منهما ستكون له الدولة والملك على الدوقيات كلها، فزادت المنافسة بينهما حتى صار يتمنى كل منهما أن يفتك بالآخر.» قال رودريك: «هذا هو الواقع فعلا، وهذا الانقسام هو الذي مكن المسلمين من فتح أكيتانيا حتى وصلوا إلى هنا، وإذا قطعوا نهر لوار أصبحت بلاد أوستراسيا في قبضتهم على أهون سبيل؛ لأن أساقفتها ناقمون على الدوق شارل نقمة شديدة وقد يحرضون الشعب على خلعه، فإذا جاءهم العرب وهم في تلك الحال ساعدوهم على الفتح.» فلما سمعت سالمة ذلك خفق قلبها سرورًا بما ترجوه من فوز العرب هناك، ولكنها لم تثق بصدق تلك الرواية فقالت: «وما هو سبب نقمة الأكليروس على شارل، وهو قائد عظيم؟» قال: «السبب يا سيدتي أنه أخذ أموالهم واستولى على أملاك الأديرة ووزعها على جنده، وأهان بعض الأساقفة بالقصاص، وفضل بعض صغار الكهنة عليهم ولا يخفى عليك ما يؤدي إليه ذلك.» فلما تحققت من غضب الأساقفة على شارل عادت إلى السؤال عما دعا إلى نصرة شارل لأود فقالت: «ولكنني لم أفهم كيف صار شارل حليفًا للدوق أود فهل فعل شارل ذلك من تلقاء نفسه خوفًا من الأساقفة؟» فقال رودريك: «كلا يا سيدتي ولكن الدوق أود لما أيقن بعجزه عن دفع العرب عن بلاده، لم يرَ بدًّا من نصرة عدوه شارل.» فقالت، وقد بغتت: «وكيف نصره، وفي انتصاره خروج هذه البلاد من يده لا محالة؟» قال: «لا أظنه يجهل ذلك ولكنه فعله مضطرًا بحكم الضرورة، ففضل أن تئول البلاد إلى أمير مسيحي من أن تئول إلى قوم غرباء دينًا ووطنًا، ولعله مطمئن لما يعلمه من اشتغال شارل بنقمة الأساقفة ثم إني لا أظنه قد نصره إلا مدفوعًا بمشورة بعض ثقاته.» قالت: «ومن يجرؤ على هذه المشورة من رجاله؟» قال: «المشورة لم تأته من هذا المعسكر ولكنني علمت بكتاب جاءه في اليوم الذي سجنك فيه وفي ذلك الكتاب تحريض على استنجاد شارل، والظاهر أنه أثر فيه كثيرًا فحالما قرأ الكتاب بعث وفدًا إلى شارل يطلب إليه مساعدته في هذه الحرب فأتاه الجواب بالإيجاب.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/48/
الاستطلاع
فلما سمعت قوله ثبت لديها أن المحرض على ذلك هو ميمونة، فاستعاذت بالله، ولكنها كتمت خواطرها وتجلدت؛ لأنها لم تكن تثق برودريك وهو لم يكاشفها بحقيقة أمره، فأحبت قبل الإفاضة في هذا الموضوع أن تستطلع الحقيقة، فقالت والاهتمام ظاهر على وجهها: «أراك يا رودريك قد كاشفتني بأمور ذات بال مما يدل على ثقتك فيَّ، فاعلم أن ثقتك في محلها وإذا كنت تؤمن بإخلاصي لك، فكن على يقين بأني باذلة نفسي في مكافأتك، على أني لا أزال أعلل نفسي بالاطلاع على حقيقة أمرك؛ لأني على ثقة أنك لست من أهل هذا المعسكر.» قال: «لا ريب عندي في إخلاصك ولولا ذلك ما خاطبتك بما خاطبتك به، والأمر الذي تتمنينه هو الذي أتمناه أنا أيضًا وهذا ما شجعني على هذه المكاشفة.» فأدركت سالمة أنه على مبدئها، فازدادت ميلًا إلى استطلاع حقيقته، فقالت: «فأطلعني على حكايتك لنتعاون على النجاة بإذن الله.» قال: «ولكنني أطلب إليك أن تخبريني عن أمر لاحظته منك في أول ساعة خاطبتك فيها هل أسألك عنه؟» قالت سالمة: «وما هو؟» قال: «لما سألتني عن اسمي وعلمت أنه رودريك رأيت في وجهك أثر البغتة، فهل كان ذلك بسبب اسمي أم لسبب آخر؟» فتظاهرت سالمة بعدم الاكتراث وقالت: «لا أذكر أني بغت لشيء من هذا القبيل.» فصدق وسكت. أما هي فلبثت ساكتة تنتظر جوابه على سؤالها عن حكايته فرأته يلتفت نحو النافذة كأنه يرقب حركة أو يتوقع قادمًا، فالتفتت هي فلم ترَ غير الجند وهم لا يزالون في اهتمامهم بالحزم والربط والاستعداد للرحيل فحولت بصرها إلى رودريك فرأته يهم بالجواب وهو يتردد فقالت: «يظهر أنك تحاذر شيئًا.» قال: «كلا يا مولاتي ولكنني أخشى أن يدهمني الوقت وأدعى إلى السفر قبل الفراغ من حكايتي؛ لأنها طويلة.» قالت: «قل لي باختصار إذن، هل تعرف اللغة العربية؟» قال: «كلا.» فتوهمت سالمة أنها أخطأت الفراسة فيه؛ لأنها كانت قد توسمت من ملامحه أنه عربي فقالت: «هل تتكلم لغة غير الإفرنجية؟» قال: «أعرف اللغة البلغارية، وهي لغة حداثتي.» قالت: «فإذن أنت بلغاري الأصل ولكن ملامحك لا تدل على ذلك.» قال: «لست من بلغاريا، ولكني ربيت في بيت رجل من البلغار.» قالت: «وكيف تعلمت لغة الإفرنج؟ ويظهر أنك تتكلمها جيدًا كأنك تعلمتها في صغرك.» قال: «تعلمتها من طول الممارسة؛ لأن الرجل البلغاري الذي رباني باعني لبعض الإفرنج ثم انتقلت إلى الدوق أود بالمقايضة.» فاستغربت ما سمعته، ورأت أن أسئلتها لم تُجْدِ نفعًا، وكانت تتوقع بها قرب الوصول إلى الغرض فإذا هي تبتعد عنه فعمدت إلى الاختصار والتصريح فقالت: «قل لي أين ولدت؟» قال رودريك: «ولدت في طليطلة.» قالت: «أنت إذن إسباني؟» قال رودريك: «كلا.» قالت: «فأنت عربي؟» فسكت وقد ظهر في وجهه ملامح الخوف.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/49/
منظر هائل
فأدركت أنه يخشى التصريح لقلة ثقته بها؛ لأن ملامحها بعيدة جدًّا عن ملامح العرب فقالت: «لا تخف يا شاب فإنك تخاطب امرأة لا تحب غير العرب، ولكن حديثك أدهشني فكيف تقول إنك ربيت في بلاد البلغار، ثم تقول إنك ولدت في طليطلة والمسافة بين البلدين بعيدة جدًّا، أظنك واهمًا فيما تقول، أو لعل الذي أنبأك بمولدك قد خدعك أو كذب عليك؟» فقال: «إني على ثقة من ذلك؛ لأني عشت في طليطلة بضع سنوات، ولا أزال أذكر بعض مناظرها كأنها خيال.» قالت بلهفة: «أتذكر مناظر طليطلة؟ ما الذي تذكره منها؟» قال: «أذكر قصرها الكبير على نهر التاج وحوله الحدائق، وأذكر حديقة ذلك القصر؛ لأني كثيرًا ما كنت ألعب فيها مع بعض الرفاق على ضفاف ذلك النهر.» قالت وفي وجهها معنى لو رآه لعلم أنها بغتت لذكر طليطلة وقصرها، وأنها كانت تغالب عواطفها لئلا يظهر ذلك في وجهها: «فأنت إذن من أبناء ذلك القصر وما الذي تذكره أيضًا؟» قال: «لا أذكر غير ذلك القصر؛ لأني أخرجت من طليطلة وأنا طفل، ولولا ما شهدته من الأمور المخيفة لم تبق صورته في ذهني، قالت: «وما الذي شهدت فأخافك وأنت طفل؟» قال: «شهدت مقتل أمير الأندلس.» قالت: «ألا تتذكر اسمه؟» قال: «لم أكن أعرف اسمه يوم مقتله، ولكنني علمت بعد ذلك أنه عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي فتح بلاد الأندلس للعرب.» فلما قال ذلك كادت تظهر الدهشة على سالمة لو لم تتجلد وتشغل رودريك بمواصلة السؤال، قائلة: «وما الذي تذكره من أمر مقتله؟» قال: «أذكر أني كنت في أحد شهور سنة ٩٧ للهجرة ألعب في حديقة القصر، وأنا في نحو الخامسة من عمري ومعي طفلة أصغر مني كنت ألاعبها ومعنا الخدم؛ لأنها بنت الأمير عبد العزيز وقد ربينا معًا، وبينما نحن في ذلك، إذ رأيت الخدم في هرج ومرج وقد وقفوا وقفة الاحترام، فأسرعت للفرجة وبجانبي ابنة الأمير، وإذا بالأمير عبد العزيز قد خرج من القصر ومر بالحديقة وعليه القباء والعباءة ووراءه جماعة من أرباب العمائم، فلما دنا منا مد يده إليَّ ولمس رأسي على سبيل الملاطفة وقال كلمة لا أذكرها، فتأثرت لمنظره؛ لأنها أول مرة رأيته في مثل ذلك الموكب، فسألت عن مسيره فقالوا إلى المسجد للصلاة، فلم يهمني الأمر فعدت إلى اللعب، ولم يمضِ قليل حتى سمعت ضوضاء الناس وقد جاء بعض الغلمان وحملوا الطفلة بسرعة وتركوني، فخفت؛ لأن الحديقة أصبحت خالية ولم يعد فيها أحد سواي، فأخذت في البكاء ثم رأيت الناس يعدون من جهة المسجد عدوًا سريعًا، وأخيرًا رأيت منظرًا أثر في ذاكرتي تأثيرًا لا يمحوه كرُّ الأيام، ولا أذكره إلا اقشعر بدني، شهدت جماعة يعدون في أثر الناس نحو القصر وفي مقدمتهم رجل يحمل رأس إنسان وقد قبض عليه من شعره والدم يقطر منه، ويد الرجل وثيابه قد تلطخت بالدم ونظرت في ذلك الرأس فإذا هي رأس الأمير عبد العزيز فاستغرقت في البكاء، وليس من ينتبه لبكائي لانشغال الناس عني بشئونهم، وأذكر أني بقيت في ذلك المكان إلى الغروب، ولم ينتبه لي أحد ثم جاء جدي فحملني وصعد بي إلى ذلك القصر إلى حجر والدتي على أننا لم نبق في طليطلة بعد ذلك الحادث إلا بضعة أيام ثم انتقل والدي بي وبأمي إلى الشام.» وكان رودريك يتكلم وسالمة شاخصة فيه، وعيناها تكادان تجمدان في وجهها ملامح الاضطراب مع اصفرار الدهشة وانقباض الحزن ورودريك يزداد مبالغة في وصف هول ما شاهده، فلما فرغ من حديثه رأى دمعتين انحدرتا من عيني سالمة، فحمل ذلك منها محمل التأثر والانفعال من مثل ذلك الحديث ولو كان السامع غريبًا. أما سالمة فجاش في خاطرها أمور قضت بضع عشرة سنة في الصبر على كتمانها وكادت تحدثها نفسها بالتصريح، لو لم يغلب عليها التعقل والصبر فأمسكت وعادت إلى إتمام حديث رودريك فقالت: «إن حديثك غريب وقد أزعجني، فأخبرني عما تم بعد ذهابكم إلى الشام وكيف وصلت إلى بلاد البلغار.» فقال: «أظنك سمعت بمسير العرب لفتح القسطنطينية منذ بضعة عشر عامًا، وإني لأستغرب الآن بعدما شهدت تلك المدينة وعرفت حصونها وقلاعها كيف أقدم العرب على فتحها.» فقطعت سالمة كلامه قائلة: «إن الغرض من الذهاب لفتحها الوصول إلى هذه الأرض من ذاك الطريق فيلتقي فاتحو القسطنطينية بفاتحي الأندلس هنا، ويتم للمسلمين فتح هذه الأرض الكبيرة، وفي فتحها يتم للعرب امتلاك العالم كله ألا تراهم لما أعجزهم فتح القسطنطينية كيف أعادوا الكرة لفتح هذه البلاد من هذا الطريق؟» فتعجب الشاب من سعة اطلاع سالمة على تلك الأحوال وزاد استئناسًا بها فأتم حديثه قائلًا: «أقص عليك خبري ليس كما أدركته حين حدوثه إذ كنت طفلًا، ولكني أقصه كما فهمته بعد ذلك فاعلمي أننا وصلنا إلى الشام فلم نجد الخليفة فيها، ولم أكن أعرف اسمه.» فقطعت سالمة كلامه قائلة: «هو سليمان بن عبد الملك الرجل الأعرج الأكول الذي أكل سبعين رمانة وجديًا وست دجاجات في أكلة واحدة وختم الطعام بأرطال من الزبيب، وقد كان الأجدر به أن يقيم نفسه خليفة على المطابخ وليس على الناس فيقتل الأمراء ويسفك الدماء.» قالت ذلك وهي لا تتمالك نفسها عن إظهار الغضب. أما رودريك فعاد إلى حديثه وهو يختصر خوفًا من أن يطلبه أحد قبل الفراغ منه، فقال: «وسألنا عن الخليفة فقالوا إنه خرج بحملة من الرجال إلى قنسرين، وأعد جيشًا كبيرًا ليسير إلى القسطنطينية بقيادة أخيه مسلمة، وكان الناس يعلقون الآمال على ذلك الفتح والكل يثق بالفوز ولست أدري ما الذي دعا إلى هذه الثقة.» فقالت: «سبب هذه الثقة اعتزاز العرب بما فتحوه من الممالك واعتقادهم أن العالم سيكون كله لهم، وقد ساعدهم على ذلك ثقتهم بمسلمة؛ لأنه من كبار القواد وقد تمت فتوح كثيرة على يده.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/50/
حصار القسطنطينية
فقال رودريك: «وكان والدي من أكثر الناس ثقة بذلك، فلما دعوه إلى مرافقة تلك الحملة لم يرضَ إلا أن يأخذ والدتي ويأخذني معه لاعتقاده أنهم سيفتحون القسطنطينية، وأنه باق هناك أو فيما وراءها من البلاد، وكان والدي من المقربين إلى مسلمة؛ لأنه كان يعرف اللغة اليونانية وقد تعلمها في بعض أسفاره إلى بلاد الروم وهو شاب، فكان مسلمة إذا نزلت الحملة أنزلنا في فسطاطه ونزلت أنا ووالدتي في خباء نسائه، وكانت تلك الحملة الهائلة حملتين واحدة برية، وأخرى بحرية، وكان عدد جند البر الذي نحن فيه ١٢٥٠٠ مقاتل وفيهم العرب والفرس وغيرهما وأكثرهم من راكبي الأفراس أو الجمال، وكانت الحملة البحرية — على ما بلغني بعد ذلك — ١٨٠٠ سفينة، استقدمها مسلمة من سواحل مصر والشام والأندلس وفيها المئونة والذخيرة، فمشى جنود البر كأنهم غابة من الناس والدواب، فمررنا بتيانة وعمورية وبرغاموس ففتحوها وسلَّم من كان فيها من الروم أو فروا، واستولى المسلمون على أسلابهم وأموالهم، وكانت تلك الحملة تزداد ثقة وتتسع آمال رجالها كلما تقدمت؛ لأنهم لم يمروا ببلد إلا فتحوه ونهبوه حتى وصلنا إلى حدود آسيا من جهة خليج القسطنطينية، وهو الفاصل بيننا وبينها، وكانت الحملة البحرية قد وصلت إلى هناك، فاستخدمنا بعض سفنها في نقل الرجال والأحمال من شاطئ آسيا إلى شاطئ القسطنطينية عند مكان يسمونه «أبيدوس» وهي أول مرة قطع جند المسلمين فيها ذلك الخليج، على أننا قاسينا في ذلك السبيل مشقة كبرى وكدت أغرق مع والدتي، ولكن العناية الإلهية أرادت بقائي لزيادة شقائي.» فقالت سالمة بصوت منخفض: «لا بل أرادت العناية ببقائك خيرًا يتم على يدك؛ لأناس أنت تحبهم.» فأخذ رودريك في إتمام الحديث فقال: «وبعد أن قطعنا ذلك الخليج بأفراسنا وجمالنا وأحمالنا نزلنا إلى الشاطئ ودرنا حتى أقبلنا على القسطنطينية من جهة الغرب فعسكرنا هناك في سهل واسع، وحفرنا حولنا خندقًا وبنينا سورًا من التراب، وأقمنا للحصار ونحن في شبه مدينة كبيرة فيها كل ما نحتاج إليه من المؤن والذخائر، وهذه أول مرة أشرفت فيها على تلك المدينة الهائلة وكنت صغيرًا لا أفقه معنى العظمة، ومع ذلك فقد هالني علو أسوارها وما على تلك الأسوار من أدوات للحرب، علمت ذلك مما كانوا يرشقوننا به فيما بعد من النبال والحجارة بالمجانيق، وهناك شاهدت أهوال الحرب لأول مرة، فقد كنت أصعد إلى سورنا حتى أشرف على أسوار المدينة، فأرى النبال مغروسة في جدار سورنا مثل ريش القنفد وبعضها ملقى في السهل بيننا وبينهم حتى إني كثيرًا ما كنت — وأنا ألعب أمام خيمة مسلمة — أرى النبال تتساقط حولي فألتقطها، ولم تكن تهمني، وكنت لا أزال أحسب الحرب لعبة حتى شاهدت ذات يوم أمرًا لم أجسر بعده على الخروج من خباء والدتي. وذلك أنني صعدت مرة على سور معسكرنا للفرجة كالعادة فرأيت شيئًا تطاير عن سور القسطنطينية نحونا أشبه بشعلة متقدة كأنها كوكب مذنب حتى وقعت خارج السور، فتبعثرت وأشعلت مساحة كبيرة من العشب اليابس هناك وتطايرت منها رائحة حادة، فذعرت وأسرعت إلى والدتي وأنا في تلك الحال وأخبرتها، فأخبرتني أنهم كثيرًا ما يطلقون هذه النار فتحرق ما تصيبه، فلم أعد أجسر على الاقتراب من السور، ثم علمت بعد ذلك أنها ما يسمونه «النار اليونانية» وأظنهم انتصروا علينا بتلك النار؛ لأنهم أحرقوا بها أسطولنا من جهة البحر، وكانت الريح قد ساعدت الأسطول المذكور حتى دخل الخليج تجاه المدينة من جهة الشرق، وكان لوصوله تأثير شديد على قلوب الروم، وقد أخبرني بعد ذلك بعض الذين كانوا داخل المدينة في أثناء الحصار أنهم كانوا إذا أطلوا على البحر رأوا أسطولنا كأنه غابة أشجارها الأشرعة والسواري لا يقف البصر على آخرها، وإذا نظروا من جهة البر رأوا معسكرنا كأنه بحر أمواجه الناس والدواب وسفنه الخيام والأعلام. وقد ساعدنا الحظ في أن السلسلة التي تعود قياصرة الروم قطع مدخل القسطنطينية بها عند قرن الذهب في مثل هذه الحال كانت محلولة، وتحدث الأمراء في اغتنام هذه الفرصة والدخول في ذلك الخليج، فأشار عليهم بعض العارفين بالتوقف برهة لئلا يكون في الأمر دسيسة، ولكنهم مع ذلك اقتربوا من الشاطئ كثيرًا فما شعروا إلا والأسطول اليوناني يقترب منهم فتهيئوا للدفاع، وإذا بهؤلاء يطلقون عليهم النار كأنها خارجة من نوافذ جهنم، فأحرقت معظم السفن، والذين نجوا منها جاءونا وهم ينادون بالويل والثبور وقد مات منهم كثيرون. فأصبح أسطولنا بعد ذلك لا نفع فيه وتحولت الأنظار إلى قوة البر، وكان مسلمة يتوقع أن يمل أهل القسطنطينية من طول الحصار وتقل عندهم المئونة فيضطروا إلى التسليم، وقد أطمعنا في ذلك أننا بعد الحصار ببضعة أشهر بعث الروم إلى مسلمة يعرضون عليه أن يعطوه على كل رأس دينارًا وينصرف، فطمع وأبى إلا أن يفتحها عنوة أو يستسلم أهلها جوعًا وأما نحن فكان مسلمة قد أعد لنا كل ما يلزم للزرع والحصاد، فقضينا الشتاء والصيف، فزرعنا ورعينا الماشية ونحن نتوقع أن يمل أهل القسطنطينية فما رأيناهم ملوا، وقد حاصرناهم سنة وبعض السنة، وعلمت بعد ذلك أن ملك القسطنطينية يومئذ واسمه أناستاسيوس أو أرتميوس قبض على زمام الملك وليس هو من عائلة القياصرة ولكنه كان حكيمًا عاقلًا، فلما عاد إليه سفيره من دمشق بخبر الحرب وقدوم العرب عليه برًّا وبحرًا علم أن العرب سيحاصرونه فأعلن أهل القسطنطينية أن كل من لا يستطيع اختزان مئونة تكفيه ثلاث سنوات فليخرج من المدينة فاشتغل الناس باختزان الحنطة والحبوب ورمموا الأسوار واستعدوا للدفاع والحصار، ولذلك فقد مللنا نحن قبلهم؛ لأننا كنا نتوقع نجدة من الخليفة في مرج دابق، فمات ولم تصلنا النجدة.» فقطعت سالمة كلامه قائلة: «هل تعرف سبب موته؟» قال: «كلا.» قالت: «لقد مات شهيد الشراهة مات من التخمة وذلك أن أحد نصارى دابق أتاه بزنبيلين مملوءين تينًا وبيضًا، فأمر من يقشر له البيض وجعل يأكل بيضة وتينة حتى أتى على الزنبيلين ثم أتوه بمخ وسكر فأكله، فأصيب بالتخمة ومرض ومات.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/51/
البلغاريون
فعاد رودريك إلى كلامه، وهو يخشى ضياع الوقت، فقال: «وبرغم وفاة الخليفة، فقد كان يمكننا أن نصبر على الحصار سنة أخرى، وقد تعودنا الزرع وألفنا الإقليم، ولكن جاءنا شتاء قاس لم نستطع معه الزرع ولا العمل فقلت مئونتنا حتى أكلنا الدواب والجلود وجذوع الأشجار والورق، ومما زاد الطين بلة أن ملك القسطنطينية — وهو يومئذ لاون — لما طال عليه الحصار، ورأى العرب مقيمين عمل على مضايقتنا، فبعث إلى البلغاريين المقيمين على ضفاف الطونة (الدانوب) يستحثهم الدفاع عن عاصمته بالأموال والهدايا، فجاءوا في البر وأحاطوا بمعسكرنا وضيقوا علينا حتى أصبح الرجل منا لا يستطيع الخروج من المعسكر وحده لئلا يصطاده أولئك البرابرة، وأعد لاون منشورًا وزعه على أهل بلده أوهم الناس فيه أن الإفرنج قادمون إلى القسطنطينية بالأساطيل الهائلة للدفاع عن النصرانية، فلما وصل ذلك الخبر إلى مسلمة لم يعد يستطيع صبرًا على البقاء فأزمع الانسحاب. فاستقدم ما بقي من أسطوله وأمر بالإقلاع والتقويض للركوب في البحر والرجوع إلى شواطئ آسيا، فجاءت السفن وأخذوا ينقلون إليها الخيام وما بقي من الخيول والجمال، وكنت أنا كما أخبرتك مقيمًا مع والدتي في الخباء فلما أخذوا في تقويضه اشتغل كل بمهام نفسه، واشتغلت والدتي عني، فخرجت لالتقاط بعض النبال المبعثرة هناك فبعدت عن المعسكر وأنا لا أدري، والظاهر أنهم لم ينتبهوا لذلك فما شعرت إلا واثنان من البلغاريين انقضا عليَّ كالذئاب الكاسرة فصحت وناديت: يا أبتاه! يا أماه! وما من مجيب، على أني التفت بعد هنيهة نحو معسكر العرب وأنا بين ذراعي أحدهما فرأيت والدتي المسكينة تنظر إليَّ من فوق السور وهي تلطم وجهها وتصيح وتستغيث، ثم توارى بي الرجل بين الأشجار فلم أعد أرى أحدًا، فأخذت في البكاء وهم تارة يهددونني، وطورًا يتملقوني.» وتوقف رودريك عن الحديث، فذرفت سالمة دمعتين تدحرجتا على خديها حتى ضاعتا في أهداب خمارها وهي تنظر إلى رودريك والأسف بادٍ على وجهها تتخلله الدهشة، ففهم أنها فعلت ذلك لتأثرها من حكايته، فهم بإتمام حديثه فإذا هي تقطع حديثه قائلة: «هل علمت بما أصاب والدتك ووالدك؟» قال: «كلا يا مولاتي؛ لأني لم أعد أراهما ولا سمعت خبرًا عنهما، ولا رأيت أحدًا يعرفهما من ذلك الحين؛ لأني ربيت في بلاد البلغار في أشقى الأحوال، أعمل في رعاية الماشية وجمع الأحطاب والأخشاب للوقود من شدة البرد، وكنت أطوف التلال والأودية مع رفاقي من أولاد البلغار أو بعض خدمهم، نلتقط ما نعثر عليه من قطع الخشب ونحوها ونأتي بها إلى المنازل، فإذا أظلم الليل اجتمع أهل المنزل في غرفة قد أوقدوا النار في وسطها من الحطب والعيدان والأعشاب اليابسة، فيصطفون حولها يستدفئون وفيهم الرجال والنساء والأطفال وكلهم أحسن مني لباسًا، فقد كان على بعضهم أردية من الفرو أو الصوف، وأنا لا أزال كما جاءوا بي ليس عليَّ إلا رداء وقميص، ولولا إشفاق ربة ذلك المنزل عليَّ لتوفيت من شدة البرد، فإنها نفحتني ببقية خمار مبطن بالجلد كان لأحد أولادها، فخمرتني به وأعطتني شبه جبة من جلد الماعز كانت لزوجها وقد تهرأت، فلبستهما فغطتني إلى أسفل قدمي فارتدت إليَّ روحي، ولا أظنهم فعلوا ذلك شفقة وإنما ساءهم أن أموت فيخسروا ما كانوا يطعمون فيه من ثمني.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/52/
سوق الرقيق
فقضيت في ذلك بضعة أعوام وقد تعلمت اللغة البلغارية، وتعودت عاداتهم في الطعام والشراب والصلاة ونحوها، ونسيت لغة أمي وديانتها، فلما بلغت الثانية عشرة حملوني في جماعة من الأحداث، كانوا قد جمعوهم من أعالي بلاد الصقالبة وساقوهم، وفيهم الذكور والإناث ولا كساء عليهم غير الجلود، وشعورهم مرسلة كأنهم كانوا يقتاتون على نبات البرية ويعاشرون حيواناتها، فجمعونا معًا وشدوا أيدينا بعضها إلى بعض بأمراس، وساقونا فمشينا بضعة أيام على تلك الحال ونحن نساق كالأنعام حتى وصلنا إلى بقعة رأينا فيها ازدحامًا من كثرة الناس والخيول والماشية والأحمال، فسألنا عن المكان فقالوا: إنه سوق عمومي يجتمع فيه الناس من أقاصي البلاد للبيع والشراء أو للمبادلة أو المقايضة، وساقونا جميعًا إلى شبه زريبة حولها سور بعضه من الخشب وبعضه من الأحجار، وأغلقوا بابه علينا بعد أن حلوا أيدينا من الأمراس، وعند وصولي إلى السوق نسيت متاعبي ومصائبي لاشتغال خاطري بما شاهدته هناك من مختلف الأجناس وأشكال السلع على غير المألوف عندي، وكنا قد وصلنا إلى ذلك المكان قبيل الغروب فبتنا في الظلام والبرد وأنا لا أكلم أحدًا من رفاقي؛ لأني لا أعرف لغتهم ولا هم يعرفون لغتي، ولما أصبح الصباح وأشرقت الشمس نسينا البرد، ثم رأينا الناس يتبايعون ويتقايضون ونحن نتوقع ساعة بيعنا، وإذا برجلين أحدهما طويل القامة جدًّا، والآخر قصيرها وقد ارتديا الجبب المبطنة بالفرو السميك وتلثما بخمارين من صوف، وبرزت لحيتهما من بين جناحي الخمار واحمرت عيناهما من كثرة الدفء أو من شرب الخمر، دخلا الزريبة وأصحابنا البلغاريون يسيرون أمامهما باحترام وفي أثرهما جماعة من الخدم. فلما دخلا ظل الرجل الطويل واقفًا مع أصحابنا، وتقدم القصير إلينا وجعل يتفحصنا واحدًا واحدًا، وينتقي من يقع عليه اختياره منا، حتى إذا وصل إليَّ تفرس في وجهي وتكلم بلغة لا أفهمها أظنها قوطية أو عبرانية؛ لأني علمت بعد ذلك أن الرجل من تجار اليهود، فمد يده فأمسك بيدي وجذبني نحوه وأمرني أن أفتح فمي، ففحص أسناني وفمي وجس كتفيَّ وهزهما ونظر في عيني وأذني ويدي وقدمي، ثم أشار إليَّ فانضممت إلى المختارين، وبعد الفراغ من الانتقاء تساوموا، فلما تمت صفقة البيع ساقنا أصاحبنا الجدد إلى زريبتهم بعد أن دفعوا الثمن وأظنه بخسًا جدًّا، ثم أعطونا خبزًا يابسًا وألبسونا أكسية ثقيلة متشابهة من الخيش والجلد، وقصوا شعورنا وأصلحوا من شأننا بعض الشيء، فسررت للشبع والدفء. وحملنا أولئك التجار بعد أيام على الدواب بالتناوب ونحن نحو المائة حتى أتو بنا بلاد الإفرنج، فأنزلونا في خان حبسونا فيه أيامًا، ثم انتقوا جماعة منا لصغر سنهم وجمالهم وأرسلوهم إلى مكان يخصون فيه الصبيان، وبلغني بعد ذلك أنهم أغضوا عني؛ لأني كبرت على تلك العملية.» ولما وصلت بكلامه إلى هنا، سمعا صوت النفير يدعو الجند إلى الاجتماع فقال: «أظنني أطلت الحديث، فأقول بالاختصار إني انتقلت بالبيع إلى بعض الأعيان من الإفرنج، ثم بالمقايضة إلى الدوق أود، وكنت في أثناء إقامتي في هذه البلاد قد سمعت بقدوم العرب لفتحها، وكانت تحدثني نفسي بالفرار إليهم لأبحث عن والديَّ؛ لأني لم أعد أسمع عنهما شيئًا منذ خطفت بالقسطنطينية، وكنت قد أزمعت إذا كان معسكرنا بقرب معسكر العرب أن أفر إليهم فلم أتمكن من ذلك لأسباب يطول شرحها فها قد قصصت عليك خبري.» قالت: «لقد سرني صدق فراستي فيك، فأنت الآن عربي وأنا متفانية في خدمة العرب، ولا يسمح لنا الوقت الآن بالتفصيل فلنترك ذلك لفرصة أخرى، وعندي أمور تتعلق بوالديك وجديك سأقصها عليك، أما الآن فامض في عملك، واجتهد — إذا حملتموني معكم في هذا السفر — أن أكون على اتصال بك لنتفاهم بشأن النجاة.» قال: «سمعًا وطاعة.» وتحول من الغرفة وأغلق الباب وراءه، فإذا هو يكاد يعثر برجل عليه لباس مخالف لزي الجند، كان جالسًا القرفصاء في الدهليز بقرب الباب، ودفن رأسه في حجره فلما رآه رودريك أجفل وخشي أن يكون قد سمع ما دار بينه وبين سالمة، فرفسه بقدمه كأنه يوقظه من النوم فلم يتحرك، فرفسه ثانية وهزه، فتظاهر بالكسل الشديد ورفع رأسه وتثاءب وتمطى وجعل يفرك عينيه ويلتفت حوله كأنه أفاق من سبات عميق فارتاح بال رودريك، إذ توهم أنه كان نائمًا هناك نتيجة كسل أو تعب، فانتهره وأمره أن ينصرف فتظاهر بالخوف ووقف مسرعًا وخرج يهرول.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/53/
موكب الدوق
أما سالمة فإنها فرحت برودريك واستبشرت بالنجاة على يده لما ظهر لها من ثقة الدوق أود به، فإذا كان هو حارسها في ذلك المعسكر هانت النجاة عليهما، فتذهب إلى معسكر العرب وتخبر عبد الرحمن بما علمته من استنجاد أود لشارل (قارله) لئلا ينخدع بقلة جند الإفرنج، فيأتيه شارل على غرة فيهزمه، وإذا هزم العرب هناك في وقعة واحدة أخفقت مساعيهم كلها ثم تذكرت حسانًا وكيف تركته في الدير وتمنت أن يكون في خير وعافية، وأن يبقى على قيد الحياة حتى يرى رودريك ويعرف من هو لأمر يهمه، وكانت الشمس قد مالت عن الهاجرة، فوقفت سالمة إلى النافذة تتشاغل بما يبدو من اهتمام الجند بالتقويض والتحميل ريثما يأتيها النبأ في شأنها لترى إلى أين تسير. قضت ساعة وهي في تلك الحال حتى رأت موكب الدوق أود وحوله الفرسان على أفراس سروجها مفضضة وعليهم الملابس البراقة بالألوان الباهرة: كالأزرق، والأرجواني، والدوق أود في الوسط على فرس من جياد الخيل، وعلى رأسه قبعة مرصعة تتلألأ حجارتها في أشعة الشمس كأنها مصابيح، وعلى كتفيه طيلسان أو رداء سنجابي اللون كالطيلسان مزركش بالقصب إلى أردانه، وفي عنقه قلادة من الذهب يتدلى منها على صدره صليب من الذهب مرصع بالحجارة الكريمة من الماس والياقوت، ونظرت سالمة إلى سرج الجواد ولجامه فإذا هما أيضًا مرصعان والجواد تحته يتلاعب كأنه يرقص تيها، وهو أكثر زهوا من فارسه الدوق، وكان الدوق قد أصلح من شأنه، ولكن الاضطراب ظل باديًا من خلال تلك العظمة، وربما كان السبب في ذلك ندمه على استنجاده بعدوه شارل، على العرب ولعلك لو اطلعت على أعماق نفسه لرأيته يفضل ألا يجيب شارل دعوته أو أن يحدث ما يثنيه عن عزمه فيبقى هو وحده أمام العرب، فإما أن يغلبهم فيبقى سيد أكيتانيا وحده، أو إذا خشي أن يهزموه صالحهم فيملكوه أرضه تحت حمايتهم، وأما شارل فإذا تم النصر على يده فلا يقنعه غير السيادة على الإفرنج كافة ويصبح هو نسيًا منسيًّا، هذا إذا لم يقتله بعض المتزلفين لشارل، ونظن أنه لو تأكد أن الإفرنج سيعاملونه مثلما يعامله العرب لفضل العرب على الإفرنج، لما في فطرة البشر من التحاسد بين الأقرباء أكثر مما بين الغرباء، فالإنسان إذا خير بين أن يذل نفسه لبعض ذوي قرابته أو لأحد الغرباء لفضل الخضوع للغريب، ولهذا السبب ترى الشعوب التي يحكمها الفاتحون من الغرباء أسهل انقيادًا وأقرب خضوعا لقوانين الدولة ممن يحكمهم أناس من أبناء جلدتهم، وذلك لذهاب الهيبة بين أبناء الأب الواحد؛ لأنهم يتعارفون وهم صغار ومن يعرفك صغيرًا لا يحترمك كبيرًا، وبهذه القاعدة نستدل على كثير من غوامض التاريخ المختلف في حقيقتها كأصل الفراعنة الأولين مثلًا، فالمؤرخون مختلفون في: هل هم مصريون أو دخلاء؟ ونظرًا لما نعلمه من خضوع أهل البلاد الأصليين لهم نرجح أنهم غرباء فاتحون للأسباب التي قدمناها، ناهيك بالتحاسد بين الرئيس والمرءوس في أبناء الوطن الواحد، ويشتد الحسد بين اثنين على نعمة كلما تقاربت قدرتهما على نيلها، أو تشابهت أسبابهما إليها، ولذلك كان التحاسد على أشده بين أصحاب المهنة الواحدة. فلا غرو بعد ذلك إذا تخيلنا في أود الندم على استنجاد شارل، على أنه حينما اقترب بموكبه من نافذة سالمة التفت نحوها، فوقع نظره عليها فرنا إليها قليلًا ولم يبدِ إشارة، ثم توارى الموكب عن سالمة، ورأت الجنود تسير على الأقدام في أثره جماعات وبينهم الأمراء والقواد يمتطون الأفراس وعليهم الدروع والخوذات وبين أيديهم حملة الأعلام، وهي كثيرة الأشكال والألوان، على بعضها رسم الصليب وعلى البعض الآخر صورة العذراء مريم تحمل طفلها، أو صور الملائكة أو طيور أو غير ذلك من الشارات المسيحية أو الرومانية، وكانت جوقة الموسيقى قد مشت بين يدي الدوق صامتة، فلما تحرك الجند سمعت سالمة قرع الطبول والصنوج والأبواق ونحوها، فتحركت عواطفها وتصورت قرب نشوب الحرب بين العرب والإفرنج بعد وصول النجدة لهؤلاء فكيف تكون العاقبة لو قدرت الغلبة للإفرنج وعاد العرب مهزومين؟ وحينما تصورت ذلك اقشعر بدنها وصعد الدم إلى وجنتيها. فلما سار الجند، وكان يتوارى عن بصرها ولم يبقَ في ذلك المعسكر إلا شراذم قليلة من الخدم والأعوان، ورأت نفسها لا تزال وحيدة ولم يأت رودريك إليها بطعام ولا كلام، انشغل بالها وأوجست من تأخره شرًّا، فتحولت عن النافذة نحو الباب لعلها ترى أحدًا قادمًا فإذا هي تسمع وقع أقدام بلا خفق نعال ومشية غير مشية رودريك، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون القادم؟» وما لبث أن فتح الباب ودخل منه رجل بملابس أشبه بملابس العرب، وحالما وقع بصرها عليه رأت فيه شبيهًا بالرسول الذي جاء بالكتاب إلى أود وهي عنده فاستعاذت بالله وخافت، ولكنها تجلدت وثبتت جأشها وابتدرت الرجل قائلة: «ما الذي تريده؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/54/
الأحول
فنظر إليها وعيناه تتباعدان من شدة الحول وتتراقصان وقال: «لا أريد شيئًا، ولكن حضرة الدوق أمرني أن أكون في خدمتك.» قال ذلك وهو يصلح رداءه على كتفيه وقد بان السيف من تحته. فلما رأت سالمة حَوَلَهُ عرفته، فانقبضت نفسها وخشيت سوء العاقبة لعلمها أنه من أكبر جواسيس ميمونة، واعتقدت أن كل ما نالها من الشر إنما كان على يده، ولكنها لم تكن تجسر على التصريح بذلك، فلم ترَ خيرًا من التجاهل والتجلد، فقالت: «بورك فيك لعلك من أهل هذا المعسكر؟» فابتسم كأنه يهزأ من جهلها وقال: «لا ولكني من معسكر آخر.» وضحك ثم قال: «هل تحتاجين إلى خدمة أقدمها لك؟» فظلت سالمة على تجاهلها ولم تكترث بما بدا منه فقالت: «لا غنى لي عن خدمتك، ولكن أين هو الشاب الذي كان يخدمني قبلك؟» قال وهو يقلب شفته السفلى استخفافًا: «لا أدري ولعله سار في مهمة إلى طليطلة أو بلغاريا أو ربما اشتد حنينه إلى أجداده فطار إليهم.» فلما سمعت تعريضه بما دار بينها وبين رودريك سرًّا خفق قلبها وكادت تظهر البغتة في وجهها، فبالغت في التجاهل وقالت: «إني أشكرك لا أحتاج إلى شيء الآن.» وأرادت أن ينصرف فتخلو بنفسها وتفكر في أمرها. فقال لها: «ألا تحتاجين إلى شيء أبدًا مطلقًا؟ ألا تتوق نفسك إلى أحد في بوردو أو نهر لوار؟» ففهمت أنه يسخر منها وأنه مطلع على أسرارها ولو أجابته لسمعت من هزئه ما يؤلمها، فتحولت عنه وهي تتظاهر بالسذاجة وقالت: «لا لا أحتاج إلى شيء.» فقال: «إذا كنت لا تحتاجين إلى شيء، فأنا أحتاج إلى أشياء.» فالتفتت إليه لتستطلع غرضه، فإذا هو يضحك ويستخف بها، ثم قال: «إني أحتاج إلى حضرتك.» فقطبت جبينها وبدا الغضب في وجهها وغلبت عليها الأنفة وعزة النفس وقالت: «وما هي حاجتك يا غلام؟» قال وقد تهيب منظرها: «لا تغضبي، يا مولاتي، إني أطالب بما أمرني به حضرة الدوق.» قالت: «وما هو؟» قال: «أن تتأهبي للمسير في أثر هذه الحملة فننزل حيث ينزلون.» ففهمت من صيغة الجمع في كلامه أنه سائر معها، فقالت: «وهل نسير الآن؟» قال: «نعم هذه الساعة، وقد أعددنا لك فرسًا تركبينه.» قالت: «إني مستعدة إذ ليس عندي أثاث أحمله معي.» قال: «فتفضلي إذن.» قال ذلك وأشار بيده نحو الباب. قالت: «اخرج وأنا خارجة في أثرك.» فخرج. فالتفت بردائها فوق الخمار، وتفقدت المحفظة وسائر ما معها، وخرجت إلى الدهليز ومنه إلى الباحة حتى أطلت على صحن الدار، فرأت هناك فرسًا مسرجًا وحوله فرسان مدججون بالسلاح وفي أيديهم الحراب وعليهم الدروع كأنهم يحرسون عشرين سجينًا متمردين، فلم تعبأ سالمة بهذا المنظر، وتقدمت إلى فرسها فركبته وساقته، فمشى الفرسان حولها في شبه حلقة، وركب الأحوال حمارًا كان هناك وسار في أثرهم. سارت سالمة في ذلك الموكب وهي غارقة في بحار الهواجس تفكر فيما دهمها على غير انتظار بعد أن كادت تنجو من الخطر، وفكرت في رودريك فغلب على ظنها أنهم حبسوه أو قتلوه وأنها صائرة إلى مثل ما صار هو إليه، ولم يكن الموت ليخيفها لولا خوفها من أن يفوت عليها أمورًا تود إنجازها قبل الموت ومن الناس من تتسلط عليه فكرة القيام بالواجب حتى تنسيه حاجات نفسه، فلا يطلب البقاء إلا لواجب يقوم به، فإذا أدى الواجب أصبح الموت والحياة عنده سواء. قضت برهة في هذه الهواجس حتى تعبت وفرسها سائر بها إلى حيث لا تعلم، ولكنها كانت ترى الحملة تارة أمامها وطورًا إلى جانبها، فعلمت أنها تابعة لها وتبينت من مسيرهم نحو الشمال أنهم يقصدون تورس على نهر لوار، فلما تذكرت ذلك النهر اختلج قلبها في صدرها وتصورت ما عليها من العهود والمواثيق المتعلقة بذلك النهر، وتذكرت أشياء كثيرة زادتها انقباضًا وعظم في نظرها الأمر حتى كادت تبكي، ولو بكت لخفت حدة انقباضها. وفي الغروب وصلت الحملة إلى سهل حطوا أحمالهم فيه للمبيت مؤقتًا، وفي الصباح نهضوا لمواصلة السير، وسالمة لا يخاطبها أحد في شيء غير ما لا بد منه مما يتعلق بالطعام أو نحوه، وكانت في أثناء الطريق تتأمل فيما يقع عليه بصرها من الدروب أو التلال أو نحوها، وتتفهم ما يدور بين الجند من الحديث لعلها تطلع على أخبار جند العرب وأين هم وكانت تتفحص الطريق الذي يسيرون فيه عسى أن ترى أثرًا يدل على اجتيازهم ذلك المكان فلم ترَ شيئًا يدل على مرورهم، فترجح عندها أنهم لم يصلوا إلى هناك بعد، مع أنها سمعت بقيامهم من بوردو، يطلبون بواتيه فنهر لوار وكانت على يقين من أنهم لن يلقوا في طريقهم مقاومة كبيرة لما مهدته لهم، وأما المعركة الكبرى فستكون على ذلك النهر فمن غلب هناك ملك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/55/
تورس
وباتوا تلك الليلة أيضًا في الطريق، وأصبحوا مسافرين يجدون في السير، وقضوا يومًا رابعًا على هذه الصورة وهم تارة ينحدرون في واد، وآونة يصعدون على جبل، وحينًا يمرون في سهل حتى وصلوا في أصيل اليوم الرابع إلى نهر صغير يقال له نهر شير، تحف به التلال من الضفتين فضلًا عن الغياض والبساتين، فقطعوا النهر من ضفته اليسرى إلى اليمنى، ثم صعدوا أكمات أطلوا منها على سهل واسع ينتهي بمدينة تورس الكبرى ووراءها نهر لوار؛ لأنها واقعة على ضفته اليسرى، وكان الليل قد أسدل ستاره فلم تشاهد سالمة شيئًا لبعد المدينة عنهم. وبعد مسير بضعة أميال من شير، اختاروا مكانًا عسكروا فيه على نية الإقامة هناك، فعلمت سالمة أنهم قد حطوا عصا التسيار، فلبثت تنتظر ما يفعلونه بها، فإذا هي بالأحول المعهود قد جاء ومعه بعض الخدم، فنصبوا خيمة خاصة على مقربة من فسطاط الدوق أود، علمت ذلك من شكل الفسطاط بما فيه من دلائل البذخ والترف، فلم يهمها الأمر وقد كادت أن تيأس، وقضوا معظم ذلك الليل في نصب الخيام وإعداد مستلزمات الإقامة. أما سالمة فإنها دخلت خيمتها فرأت الخادم قد أحضر لها الطعام، فتناولته والتمست الراحة فنامت وهي تفكر في رودريك؛ لأنها لم تره في أثناء الطريق ولا سمعت عنه شيئًا، ولم تكن تجرؤ على ذكر اسمه خوفًا من زيادة الشبهة عليه. وأفاقت في صباح اليوم التالي على صوت البوق بما لم تعهده من قبل فنهضت واستفهمت من الرجل الموكل بحراستها عن السبب قال لها: «إن الدوق يدعو الجند إلى الاجتماع في الساحة الكبرى أمام فسطاطه للصلاة قداسًا كاملًا على اسم القديس مرتين حامي حمى الإفرنج؛ لأنه مدفون في هذه الجهات وقبره بمثابة حج للنصارى في أنحاء أكيتانيا وأوستراسيا.» وكانت سالمة تعرف أن القديس مرتين المذكور كان رسول النصرانية إلى الغاليين في القرن الرابع للميلاد وكان أسقفًا في تورس، ولما توفي دفنوه في ضاحية من ضواحيها، وبنوا بجانب قبره كنيسة وديرًا وأصبح المكان بلدة تعرف باسمه، وصاروا يحجون إليه وينسبون له المعجزات. فلما رأت سالمة اجتماع الجند وكهنتهم في تلك الساحة للصلاة وقفت بباب خيمتها لتشاركهم في صلواتهم، فإذا بالدوق قد خرج من فسطاطه في حاشيته وأعوانه وكلهم بالملابس الرسمية وقد تقدمهم القسس بالثياب الكهنوتية وبأيديهم الصلبان، وهم يتمتمون وأمامهم بعض الشمامسة يحملون صليبًا على عصًا طويلة حتى وقفوا في تلك الساحة على شبه منبر، ووجوههم نحو كنيسة القديس مرتين عن بعد والجند وقوف، فأقاموا قداسًا طويلًا، وكانت القلوب خاشعة يراودها الأمل في النصر على الأعداء ببركة تلك الصلاة. ومن غرائب مطامع البشر وضعف طبيعتهم أنهم يسنون الشرائع بتحريم القتل، ويشددون النكير على القاتلين، ثم يرفعون أكف الضراعة إلى موحي تلك الشرائع أن يساعدهم على قتل أبناء جلدتهم، وهم مع ذلك يتوقعون إجابة سؤلهم لاعتقادهم أنهم إنما يلتمسون نصرة الحق وتأييد الصواب، وكل طائفة تعتقد ذلك وتفعله، ولو أدركوا معنى التدين الحق لطلبوا حقن الدماء وتكاتفوا على حفظ السلام، ولكنهم لا يفعلون ذلك، وكأنهم أدركوا بالسليقة أن الحرب ضرورية للبقاء، وأنهم لو لم يقتلوا بعضهم بعضًا لقتلهم الجوع والوباء؛ لأن الأرض إذا مضى عليها بضعة قرون ولم تحدث فيها الحرب ضاقت بساكنيها، وقد قدروا أن الذين قتلوا بسبب الحروب من أول عهد التاريخ إلى الآن خمسة أضعاف سكان الأرض كلها، عدا ما كان يترتب على بقائهم من التكاثر بالتناسل المتضاعف. ومهما يكن من الأمر، فالحرب باقية ما بقي حب الذات، وهو باق ما بقي الإنسان لهذا سعى بعض رجال التمدن إلى الحديث في تخفيف ويلات الحرب بما اخترعوه من آلات الدمار التي لم تكن معروفة في عهود التمدن القديم. وكانت سالمة حينما سمعت أصوات المرتلين وشمت رائحة البخور قد تخشعت واستغرقت في الأفكار وتذكرت تاريخ حياتها وما مر بها من الأهوال ولم يقف فكرها إلا عند عبد الرحمن إذ تذكرت ابنتها مريم وكيف تركتها هناك، وما عسى أن يكون من أمرها بعد انتقال العرب في طريقهم إلى تورس، وتذكرت ميمونة فاختلج قلبها لذكراها خوفًا على مريم من حبائلها، لما تحققته من أمرها، وأصبحت شديدة الرغبة في أن تطلع العرب على ما عرفته عنها، وإذا استطاعت ذلك فإنها تنقذهم من مكائدها، ولما بلغت تصوراتها إلى هذا الحد تذكرت حسانًا؛ لأنه لو كان معها لأنفذته في هذه المهمة، واستغرقت في هذه الهواجس مدة والناس يضجون بالصلاة، والقسس يرفعون أصواتهم بالتراتيل، ووجوههم متجهة نحو القديس مرتين. وكانت سالمة واقفة تسمع القداس وترسل بصرها إلى أطراف ذلك المعسكر وما وراءه من السهول إلى نهر لوار، ومدينة تورس على ضفته وبإزائها محلة دير القديس مرتين على أنها لم تكن ترى من تلك الأماكن إلا رءوس الأبنية الشامخة لبعد المسافة. وفيما هي تسرح بصرها على تلك الصورة رأت إلى يسار المعسكر شبحين ظهرا من وراء الأفق عن بعد، فأطل أولًا رأساهما، ثم ظهر بدناهما بالتدريج فإذا هما فارسًان فظل بصرها عالقًا بهما وشعرت برغبة في استطلاع حالهما، ثم ما لبثت أن رأت عليهما ملابس الرهبان السوداء وعلى رأسيهما القبعة، فقلت رغبتها في الاستطلاع لكثرة الرهبان في تلك الأصقاع، وكثرة ترددهم على المدن لابتياع حاجات الأديرة، وبعد قليل رأت الراهبين قد اختلطا بالجند ووقفا معهم للصلاة، فحولت وجهها عنهما وعادت إلى هواجسها فتذكرت الشاب رودريك وودت لو أنها تجتمع به هناك، ولو لم تكن ثمة فائدة من ذلك الاجتماع فإنها قد تستأنس به.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/56/
طارقان
ثم سمعت دق الأجراس مؤذنة بالفراغ من الصلاة، وتفرق الجند إلى مضاربهم، وعاد أود إلى فسطاطه وحوله الحاشية والأعوان، ودخلت سالمة خيمتها وحول الخيمة ثلاثة من رجال أود بالحراب يحرسونها، ولكنها لم ترَ الأحول بينهم ولا رأته منذ ذلك الصباح، وقضت بقية ذلك اليوم في الخيمة وقلبها يحدثها بأمر سيحدث، ويكون فيه الفرج لها، وإن كانت لا ترى ما يدعو لهذا الأمل فكل الظروف المحيطة بها توحي باليأس ولكن في ذوات الإحساس الدقيق من النساء نوعًا من الشعور لا يعبر عنه بغير الإلهام، فقد تشعر المرأة بالحادث قبل وقوعه وتنذر رجلها به، ولو طالبها بالدليل لأسكتها؛ لأنها لا تتكلم عن اقتناع بالبرهان، ولكنها تشعر فتتحدث عما تشعر به ويغلب صدقها فيه لأسباب لا تزال مجهولة، وأما الرجل فإنه لا يتخيل إلا ما يرشده إليه عقله بالقياس والبرهان، فلما أحست سالمة بتلك الآمال انبسطت نفسها، ولكنها كانت تعزو ذلك الشعور إلى الوهم؛ لأنها ترى المصائب محدقة بها من كل ناحية. ولما أمسى المساء جلست على بساط مفروش في خيمتها وهي تشعر بارتباك وتردد، فعمدت إلى الصلاة؛ لأنها كانت قد تأثرت من قداس ذلك الصباح ورأت في الصلاة راحة، وبعد الصلاة توسدت وليس في خيمتها مصباح، وهي لم تطلب النوم لرغبة فيه، ولكنها ملت الحبس — ومن يظلم بصره تستنر بصيرته — فاستغرقت في الأفكار، ولم يكن يعترض تيار تفكيرها غير ضجيج الخدم في ذهابهم وإيابهم وصوت النفير أحيانًا، وبينما هي كذلك إذ سمعت حديثًا قريبًا من خيمتها فنهضت والتفتت، فرأت بصيص نور يتراءى في الخارج وراء جدار الخيمة وسمعت لغطًا لم تستطع فهمه، فجلست وأصاخت بسمعها فانجلى لها الصوت فسمعت الحديث الآتي بلغة البلاد: لا أظنك تقدر على منعي. – بل أنا قادر حتى يأمرني الدوق بما يريد. – وماذا في هذه المسألة مما يستدعي مشورة الدوق؟ – بل لا بد من مشورته؛ لأن لهذه السجينة شأنًا خاصًّا لا يقارن بشئون سائر المسجونين، وقد أوصانا حضرة الدوق بمنع أي كائن عن مقابلتها. – يا للعجب، أبلغت منك القحة أن تقف في سبيل الفروض الدينية؟ – لا يهمني وما الذي يضرك لو استأذنت الدوق في ذلك؟ – لا يضرنا شيء، ولكنكم تعلمون أننا كرسنا حياتنا لاستتابة المجرمين وأصحاب الذنوب وأننا نطوف السجون ونعظ المسجونين وندعوهم إلى التوبة. – ربما كان ذلك صحيحًا، ولكننا أمرنا بالمنع منعًا باتًّا ومع ذلك فإن لنا قيِّما لو كان هنا لأغنانا عن مشورة الدوق؛ لأنه مفوض من قبله في هذا الشأن. – أين هو ذلك القيم؟ – لا ندري، فقد ذهب في هذا الصباح وأكد التوصية علينا، وشدد في منع أي كائن من الدخول. – أرسلوا واحدًا يستأذن الدوق. – نخشى أن يكون في فراشه فأجلوا المقابلة إلى الغد. – الوقت ضيق لا يأذن بالتأجيل؛ لأننا ذاهبون في صباح الغد إلى دير القديس مرتين اذهب لاستئذان الدوق، ولا تطل الجدال إني لم ألقَ وقحًا مثلك طول عمري وإذا لم تذهب، فإني سأدخل الخيمة رغم أنفك وستلاقي جزاء وقاحتك في الغد. صوت آخر: لا تغضب يا حضرة الأب، إن رفيقي شاب لا يعرف حقوق السادة الرهبان والقسس تفضلا وادخلا ولا حاجة إلى الاستئذان، لكننا نطلب إليك أن تذكرنا في صلاتك. – بورك فيك يا بني، هكذا يكون أبناء الخلاص ولكنني أرغب إليكم أن تبتعدوا قليلًا عن جوانب الخيمة لئلا يصل إليكم حديث الاعتراف، ولا يخفى عليكم أن الاعتراف سر من الأسرار المقدسة. – طبعًا لا شك في ذلك تفضل وادخل ونحن مبتعدون ولكن أرجو من قداستك أن تختصر بقدر الإمكان لئلا يبلغ الأمر إلى حضرة الدوق فيلومنا على إدخالكم بدون إذنه. وكانت سالمة تسمع ذلك وقلبها يخفق خفقانًا شديدًا لدهشتها واستغرابها، وبذلت جهدها في معرفة ذلك الصوت فلم تعرفه، ولكنه ذكرها بالراهب الذي صحبها من الدير إلى قرب بواتيه؛ لأنه مثل صوته. فلبثت صامتة لترى ما ينتهي إليه الجدل، فلما انتهى على تلك الصورة نظرت لترى الداخل، فإذا بيده مصباح على شكل طائر ملتفت إلى أعلى، والنور فتيلة مضيئة بارزة من منقاره، وقد أمسك الراهب ذلك المصباح بإحدى يديه على قبضة في أسفله على شكل صليب، وتوكأ باليد الأخرى على عكازه فلما رأته سالمة نهضت وتفرست في وجهه فإذا هو ذلك الراهب بعينه، فرحبت به وهمت بتقبيل يديه والصليب الذي هو قابض عليه، وبينما هي تفعل إذا رأت راهبًا آخر دخل وأسرع إلى يدها ليقبلها فأجفلت وتراجعت وقد خجلت، ولكنها ما لبثت أن تفرست في وجهه حتى عرفت أنه خادمها حسان، فبغتت وكادت تنطق باسمه لو لم تنتبه لنفسها وتتذكر موقفها، فتجلدت وأشارت إلى الراهب وحسان بالجلوس وجلست هي والدهشة لا تزال بادية على وجهها، وهي تتوقع أن تسمع من أحدهما ما يذهب بدهشتها. فوضع الراهب المصباح على الأرض وجلس، وظل حسان واقفًا فأشارت إليه أن يجلس فجلس متأدبًا وهو يقول بصوت منخفض: «أحمد الله على وصولي إليك، يا مولاتي، وأرجو أن أكون قد جئتك بالفرج.» فهمت سالمة بالجواب وهي تحاذر أن يبدو منها ما تؤاخذ عليه لعلمها أن رئيس ذلك الدير شديد التعصب للإفرنج ويكره العرب، فلم تكن تتوقع مجيء ذلك الراهب إليها لنصرتها فقالت: «وما الذي جئتني به؟ أليس حضرة الأب من رهبان الدير الذي بتنا فيه وبقيت أنت هناك جريحًا؟» فأجابها الراهب قائلًا: «بلى وأنا أوصلتك إلى بواتيه حيث أخذوك مني فرجعت وأخبرت حضرة الرئيس بما جرى، ولولا ذلك لم يكن الاهتداء إليك ممكنًا.» فلم يزدها قوله إفصاحًا عن المهمة التي قدما من أجلها، فالتفتت إلى حسان وتفرست في ثوبه فكاد يضحكها ما هو فيه من ملابس الرهبان فقالت له: «يظهر أنك انتظمت في سلك الرهبنة!» قال: «لبست هذا الثوب يا مولاتي ذريعة للوصول إليك، وقد نصحني بذلك حضرة الرئيس، وأرسل معي حضرة الأب برسالة سيبلغها إليك.» فاشتاقت لمعرفة ما تضمنته تلك الرسالة فالتفتت نحو الراهب ولسان حالها يقول: «تفضل.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/57/
بشرى
ولما هم الراهب بالكلام، تذكرت سالمة ما حدث لها في المرة الماضية مع رودريك، وكيف اطلع ذلك الأحوال على حديثهما، فطلبت من الراهب أن يتمهل، وأشارت إلى حسان أن يتفقد الحرس وأماكنهم، فأطل من باب الخيمة ومن ثقوب في بعض جوانبها، فتحقق من بعد الحراس بضعة أمتار عن الخيمة، وأنهم جلوس يتحدثون، فعاد وطمأنها وجلس فأخذ الراهب في الحديث بصوت منخفض، وسالمة تنصت وكلها آذان لاستيعاب كلامه، فقال: «لا يخفى على مولاتي أننا معشر الرهبان وسائر جماعة الأكليروس قد أوقفنا حياتنا لعبادة الله وخدمة بني الإنسان، لا نبتغي على ذلك أجرًا سوى خلاص نفوسنا، ولذلك فقد أكرم الأمراء والملوك وفادتنا وساعدونا في مشروعاتنا، ونحن أيضًا ساعدناهم في حمل الشعوب على الطاعة، وكثيرًا ما كنا سببًا في تنصيبهم وعزلهم، فأصبح الرهبان موضع ثقة أولي الأمر ومحل احترامهم، لا يحلون أمرًا دونهم ونحن نحافظ على ولائهم ونبذل أقصى الجهد في خدمتهم، وكان الدوق أود (وخفت صوته) من أنصارنا ونحن من أنصاره إلا في بعض الأحوال، ولكننا على الإجمال كنا نغضي عن بعض سقطاته ونعزوها إلى الضعف البشري، لعلمنا أننا في حال تدعو إلى جمع الكلمة في أثناء الحرب، ولو انحرفنا عنه قليلًا وأظهرنا استياءنا منه أمام الشعب لقضي على دولته من زمن بعيد؛ لأن الشعب الغالي أهل هذه البلاد الأصليين لا يحبون الإفرنج، وهم مستعدون لخلع نيرهم عند أول إشارة منا، ولكننا لم نفعل ذلك بل كنا نبذل الجهد في حفظ تلك السلطة لهم، وأظنك لاحظت ذلك من رئيسنا المحترم في أثناء حديثك معه، أما الآن فقد ارتكب الدوق أود أمرًا دل على ضعفه وجبنه، فلم يبقَ لنا معه صبر على هذه الحال، ولعلك عرفت ذلك الأمر!» فأطرقت سالمة وأخذت تفكر في معرفة ذلك السبب، ولكن الراهب لم ينتظر جوابها فقال: «إن الأمر الذي أراده الدوق أود إذا وفق إليه فإنه سيذهب بسلطانه ويضيع كرامتنا، ويخرب ديارنا، فيضعف شأن الدين ويصبح الناس فوضى.» فأدركت سالمة غرضه، فقالت: «أظنك تعني استنجاده بالدوق شارل صاحب أوستراسيا؟» قال: «نعم هذا الذي أعنيه؛ لأن هذا الدوق من أشد الناس قسوة على رجال الله، وقد أذاق أكليروس أوستراسيا مُرَّ العذاب فاستولى على أملاك الأديرة ووزعها على جنده وأهان الأساقفة وارتكب في ذلك كل معصية، وقد دعاه أود لنصرته، فإذا فاز أصبحت أكتانيا هذه في قبضته وأصبحت أديرتها عرضة لمطامعه. وكثيرًا ما كان أود يهم باستنجاد شارل ونحن نرجعه ونخوفه على نفسه وعلينا، فلما تملكه الخوف من العرب وسيوفهم عمد إلى الاستنجاد بذلك الرجل، وقد وقع هذا الخبر وقعًا سيئًا عند أهل هذه البلاد كافة، كهنتها وشعبها، لعلمهم بما سيترتب على هذا الأمر.» وكان الراهب يتكلم، وقلب سالمة يطفح سرورًا، وتذكرت ما كانت تحدثها به نفسها في أثناء ذلك النهار، واعتقدت أنها ألهمت الصواب وأن الأمر أخذ ينقلب على الإفرنج من تلك الساعة، ولكنها ظلت صامتة لتسمع بقية الحديث. ولم يتوقف الراهب عن الكلام إلا ريثما سعل ومسح لحيته بمنديله ثم قال: «وكان من أشد الناس غضبًا لذلك رئيسنا المحترم؛ لأنه كان من أكثرهم ولاء لأود ودفاعًا عن مصلحته، فلما علم بما ارتكبه أصبح شديد الرغبة في عرقلة مساعيه لاعتقاده أنه إذا نجح في ذلك يكون قد خدم شعبه وحكومته وكنيسته، والظاهر أنه كان قد لاحظ من كلامك نصرة العرب أو ربما جاءه كتاب من أسقف بوردو في هذا الشأن لا أدري ولكن الذي أعلمه أنه بعث إليَّ ذات صباح وسألني عنك مع أني كنت قد أنبأته يوم عودتي بما جرى أمام بوابة بواتيه، ولكنه دقق في البحث عنك وسألني عن الرجال الذين أخذوك مني فأخبرته أنهم من رجال الدوق أود فهز رأسه ومص شفته وأمرني أن أستقدم هذا الشيخ، وكان قد أخذ في النقاهة من جرحه، ولم أخبره بعد بخبرك لئلا أكدره، فلما أمرني الرئيس باستقدامه سرت إليه وقصصت عليه خبرك فتكدر، ثم أتيت به إلى الرئيس، فلما وقف بين يديه، أمرني فأغلقت الباب فأسر إلينا أمرًا كلفني أن أبلغك إياه ولا ريب أنه يسرك؛ لأنه يهدف إلى الغرض الذي تسعين إليه فهل أقوله؟» فقالت: «أتسألني؟ قل.» قال: «لقد أعطاني كتابًا كتبه بخط يده إلى رئيس دير القديس مرتين، لا أدري فحواه، ولكنه بلا شك يتضمن تحريضه على مقاومة شارل وجنده حتى لا يفوزوا على العرب، أو لكيلا يحاربوهم؛ لأن رئيسنا أصبح يفضل سلطان العرب على سلطان شارل وزمرته لما تحققه من رفق المسلمين برعاياهم المسيحيين فنأمن — على الأقل — على أديرتنا وكرامتنا.» فلم تتمالك سالمة عند سماع تلك العبارة عن الابتسام من شدة الفرح، ونسيت كل ما مر بها من المتاعب، وتحققت أن كل ما أصابها من الشرور إنما كان القصد منه الوصول إلى هذا الخير، وأن ذلك كله حدث بعناية خاصة من مدبر هذه الكائنات، ذلك هو اعتقاد أهل الأديان، والإنسان بفطرته ميال إلى ذلك، فيحسب أن الدنيا قد وجدت لخدمته وحده، فإذا زرع وأمطرت السماء قال: إنها تمطر إكرامًا له، وإذا جفت فجفافها نكاية فيه، ولذلك فإذا أصابته مصيبة وإن كان هو الجاني بها على نفسه شكا من فاعل آخر يتبع خطواته إذا لم يسمه الخالق سماه الدهر أو الزمان، فلما توسمت سالمة قرب نجاح مهمتها، ابتسمت وقالت للراهب: «وأين الكتاب؟» فمد يده إلى كمه وأخرج لفافة دفعها إليها فتناولتها، فإذا هي مختومة، فوضعتها في جيبها وهي تقول: «وما هو السبيل إلى دير القديس مرتين وحولي الحراس ساهرون ليلًا ونهارًا؟ ألا يقوم بإيصال هذا الكتاب أحد بالنيابة عني؟» فقال الراهب: «لا يستطيع ذلك أحد سواك؛ لأنه في الواقع كتاب توصية بك، وقد ترك لك إقناع الرئيس، وأوصانا رئيسنا حفظه الله أن نبذل أقصى الجهد في سبيل إنقاذك من هذا السجن، فما الذي ترينه؟» قالت: «لا أدري وأظن أن حضرة الرئيس قال ذلك وهو لا يعلم مقدار التضييق المحدق بي في هذا السجن، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم الآن وسمعتم أقوال الحراس فهل ترون حيلة لي؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/58/
شهامة
وكان حسان لا يزال صامتًا إلى تلك الساعة، فلما رأى حيرتهما قال: «عليَّ أنا تدبير هذا الأمر.» فالتفتا إليه وهما لا يتوقعان منه القدرة على ذلك، فأصاخا بسمعهما إليه وقالت سالمة: «وما هو التدبير؟ إذا كنت ترى تدبيرًا خاصًّا، فيكن عاجلًا.» قال: «عليَّ تدبير ذلك في هذه الساعة.» قالت: «وكيف؟» فوقف حسان وعمد إلى جبة الرهبنة التي كانت عليه فحل حبلها من حول خصره، وطوقها من حول عنقه، وأخذ في نزعها وهو يقول: «عليك بهذه الجبة فالبسيها فوق ثيابك واجعلي هذه القبعة على رأسك وهي تقفل من الجانبين فتغطي الوجه، وإليك هذا العكاز واخرجي مع حضرة الراهب، فلا يشك أحد في أنكما الراهبان اللذان دخلا الآن، ومتى بعدتما عن المعسكر فافعلا ما تريانه.» فأعجب الراهب بتلك الحيلة اللطيفة، ودهش لشهامة حسان إذ فضل أن يلقي بنفسه إلى التهلكة فداء لمولاته، أما سالمة، فإنها لم تدهش لذلك، وأثنت على حسان فقالت: «لا أستغرب هذه الشهامة يا حسان، فقد رأيت منك مثلها مرارًا ولكني ضنينة بك لسابق تعبك، وقد دنا الوقت الذي آن لي فيه أن أكافئك على جهودك في خدمتي منذ أعوام عديدة وخصوصًا الآن فقد كنت راغبة في لقائك لأبشرك بأمر يسرك كثيرًا ولا أستطيع أن أخبرك به إلا إذا كنا معًا وأخشى إذا افترقنا الآن ألا نلتقي.» فتوقف حسان عن خلع الجبة وتطاول بعنقه وقال: «أخبريني عن ذلك الآن قبل أن نفترق.» قالت: «عندي أمور كثيرة أقصها عليك وأستطلع رأيك فيها وسأحتاج إليك في تنفيذ بعض الشئون.» قال: «وهل تظنين أن في بقائي هنا خطرًا عليَّ؟ اطمئني وثقي أنكما لا تخرجان من هذا المعسكر حتى ألحق بكما.» قالت: «أظنك إذا اطلعت على ما سأقصه عليك تفضل البقاء هنا بضعة أيام!» فلم يعد حسان يستطيع صبرًا عن سماع ذلك الخبر فقال: «أخبريني، يا مولاتي، بما علمت مما يهمني سماعه، أو مريني بما تريدين ثم نتداول — قبل ذهابك — فيما تأمرين.» ثم انتبهت سالمة إلى نفسها فرأت أن الأجدر بها أن تغض النظر عن إطلاع حسان على ما يشغله أو يؤخره في ذلك المعسكر والحالة تدعو إلى سرعة إرساله إلى عبد الرحمن لتخبره بما علمته من شأن ميمونة وما في معسكر الإفرنج من المعدات، وما كان من استنجاد أود بشارل وغير ذلك مما يئول إلى نصرة العرب، فلما رأت من حسان القلق على استطلاع الخبر قالت: «إن الوقت لا يساعدنا على ذلك يا حسان، وإني أفضل أن أبقى أنا وتذهب أنت برسالة أبعثها معك إلى أمير العرب، فإن الحالة تدعو إلى سرعة الذهاب وإلا ضاعت الفرصة وذهب سعينا هباء منثورًا، فأطعني واذهب أنت ولا بأس عليَّ من البقاء هنا.» قال: «الأمر لك يا مولاتي، ولكنني لا أرى شيئًا أدعى إلى العجلة من إطلاق سراحك لمقابلة رئيس دير القديس مرتين وعرقلة مساعي الدوق شارل القادم لنجدة هذا الجند، ومتى تم لنا ذلك نذهب بالبشائر إلى الأمير عبد الرحمن دفعة واحدة.» قالت: «ولكن الأمر الذي أطلب إبلاغه إلى عبد الرحمن الآن أهم كثيرًا من خبر دوق أوستراسيا.» فاستغرب حسان ذلك وقال: «وهل هو أهم من خبر هذا الدوق وهو قادم لنجدة أود بجيش جرار معه العدة والسلاح فضلًا عما عرف به شارل من البسالة والقوة؟» قالت: «إني أخاف على جند العرب من عدو مقيم في قصر أميرهم وهم يحسبونه صديقًا، وقد اكتشفت سره في أثناء إقامتي في هذا الأسر ولم يكن استنجاد شارل إلا برأيه فإذا لم نبادر إلى كشف سره استفحل أمره.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/59/
أول الأسرار
فبغت حسان لذلك، وحدق بعينيه، وقال: «من هو ذلك العدو يا مولاتي هل تخبرينني؟ قولي الآن ولا تخافي من وجود حضرة الراهب معنا فإنه صديق مخلص لنا في نصرتنا أو تكلمي بالعربية فإنه لا يعرفها قولي من هو ذلك العدو؟» قالت: «هو ميمونة أو بالحري تلك المرأة الداهية التي سمت نفسها ميمونة وما هي إلا ملعونة.» قال: «ولم تكن هذه المرأة مجهولة لدينا، فقد شاهدناها غير مرة فما الذي عرفته من أمرها هنا؟» قالت: «لم أكن أجهل أمرها منذ رأيتها في معسكر عبد الرحمن للمرة الأولى، ولكنني أجلت كشف أمرها ريثما أعود من مهمتي هذه، وخشيت إن أنا بحت بشأنها أن يؤدي ذلك إلى أن تصرح بحقيقة أمري، وأنت تعلم أننا لا نريد ذلك الآن وإن كان اطلاع عبد الرحمن على حقيقتي لا يزيده إلا إكرامًا لي، ولكنني مقيدة بالعهود والمواثيق ألا أطلع أحدًا على شيء قبل عبور هذا النهر (وأشارت إلى نهر لوار) ولو علمت ما قد يترتب على سكوتي عنها لما صبرت على كتمان أمرها، وأما الآن فلا بد من كشف سرها لعبد الرحمن على عجل.» قال: «وما هو شأنها يا مولاتي، هل يجوز لي الاطلاع على هذا السر؟» قال ذلك وجثا بين يدي سالمة وحملق بعينيه. فقالت: «هل أخفي عنك سرًّا وأنت تعلم أنك خزانة أسراري، بل أنت الرجل الوحيد المطلع على حقيقة حالي عدا الكونت أود صاحب هذا المعسكر، فإنه عرفني وهددني ثانية ولكنه شغل عني أو أجل النظر في أمري؛ لأنه أمن جانبي لاعتقاده أني سجينته حتى يشاء لست أخفي عنك سرًّا يا حسان، اعلم أن المرأة التي يسمونها ميمونة وتعد نفسها من محظيات عبد الرحمن وتتقرب إليه بجمالها ومكرها، إنما هي لمباجة بنت الدوق أود صاحب هذا الجند.» فلما سمع حسان قولها بغت وانتفض واقفًا، ثم قال وقد بح صوته من محاولة تخفيضه مع تهيج عواطفه وبغتته: «بنت الدوق أود هذا؟ قائد هذا المعسكر؟» قالت: «نعم هي بعينها وأظنك تعرفها أنت وقد رأيتها غير مرة وهي مع زوجها المقتول ألا تعرف المنيذر الإفريقي الذي كان حاكمًا في بلاد البيرنية بين إسبانيا وأكيتانيا؟» قال: «نعم أعرفه وبلغني أن الأمير عبد الرحمن الغافقي لما قام بجنده لفتح هذه البلاد، بلغه أن المنيذر هذا متواطئ مع الإفرنج على حساب العرب، فسار إليه بغتة وقتله واستولى على أمواله ونسائه وبعث بها إلى الخليفة في دمشق.» قالت: «هل تعلم السبب الذي حفزه على مواطأة الإفرنج ضد العرب؟» قال: «كلا.» قالت: «إن الدوق أود علم بما بين العرب والبربر من التحاسد لأسباب لا تخفى عليك، وبلغه أن المنيذر البربري المذكور صاحب نفوذ كبير في قبائل البربر وأنه إذا اكتسب ثقته واسترضاه يكون عونًا له على العرب، فاتصل به وأفضت المحادثات بينهما أن يتزوج المنيذر من لمباجة ابنة الدوق أود، وقد رضي أود أن يزف ابنته إلى هذا البربري على أمل أن تكون وهي عنده قابضة على زمام إرادته تستخدمه فيما تريده لمصلحة والدها، وهي مشهورة بالجمال والدهاء، وبعد أن أقامت مع زوجها المذكور مدة وهي تدبر الحيل لتطوح بدولة العرب نهض الأمير عبد الرحمن وعرف الخطر الذي يحدق بالعرب من ذلك الأمير فبغته وقتله.» قال حسان: «نعم سمعت ذلك من قبل وسمعت أيضًا أن امرأة أخذت في جملة الغنائم والأموال إلى دمشق لتكون للخليفة.» قالت: «وقد أشاعوا ذلك زورًا وبهتانًا، فالظاهر أن الزوجة ألبست إحدى نسائها ثيابها وأوهمت أن تلك لمباجة، وإنما هي من بعض خدمها وسراريها لتبقى في معسكر عبد الرحمن عينا لأبيها على العرب وحركاتهم، وقد تحققت من أنها هي التي كتبت إلى أبيها أن يستنجد بشارل دوق أوستراسيا، ولم يكن ليقدم على ذلك من تلقاء نفسه حياء من رجاله ورعاياه، فأغرته هي بما لها من النفوذ عليه فاستنجد به ومما يخيفني من أمرها أن الأمير عبد الرحمن يثق بها، ويفضي إليها بأسراره، ويستشيرها فهل من خطر على جند العرب أعظم من هذا؟» فقال حسان: «كلا يا مولاتي فينبغي أن أذهب بهذا الخبر إلى الأمير سريعًا، فهل تكتبين كتابًا أحمله إليه حالًا؟» قالت: «ولا بد قبل كل شيء أن نخرج من هذا السجن ومتى خرجنا يهون علينا كل أمر عسير.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/60/
الجوزة الكبيرة
وكان الراهب أثناء ذلك الحديث واقفًا يتشاغل بالمشي في أرض الخيمة ويتطلع من بعض شقوقها وثقوبها إلى الخارج وكأنه رأى أمرًا بغتة فأسرع إلى سالمة وهي تقول ذلك وقال لها: «أظننا أطلنا الكلام حتى قلق الحراس، إنني أراهم في هرج، يتشاورون ويتهامسون، وأخشى أن يكون في ذلك خطر علينا.» فقال حسان: «عليك بهذا الرداء يا مولاتي فالبسيه واخرجي مع حضرة الأب، وغادرا المعسكر، وسأتبعكما سريعًا والملتقى على ضفة نهر شير عند الجوزة الكبيرة التي جلسنا تحتها بالأمس يا حضرة الأب.» قال ذلك وألبس سالمة عباءة الرهبان وجعل على رأسها القبعة وأعطاها العصا وأشار إليها بالخروج على عجل. فتنحنح الراهب وقرع بعصاه عمود الخيمة وسعل وخرج من الخيمة وسالمة في أثره فلما أطل على الحراس تظاهر بانشغاله برسم الصليب والصلاة ثم رفع يده كأنه يباركهم، فأحنوا رءوسهم جميعًا ونزعوا قبعاتهم إجلالًا واحترامًا ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منهما لما لاحظوه من اشتغالهما بالصلاة تمتمة، وكانت سالمة تمشي وركبتاها ترتعدان ليس خوفًا على حياتها ولكنها استنكفت الفرار خلسة والتنكر بملابس الرهبان، ولما بعدا عن المعسكر واطمأنا على نفسيهما اشتغل بال سالمة على حسان، وخشيت أن يقع في الأسر. سارا في المعسكر، وهما في زي الرهبان، والحرس لا ينتبهون لهما، وأكثر الجند نيام، إلى أن خرجا من بين الخيام، وكانت سالمة تمشي وتتلفت يمينًا وشمالًا، ثم تلتفت ورائها لعلها ترى حسانًا قادمًا، وقد ندمت على تركه في تلك الخيمة؛ لأنه أقدر منها على تحقيق ما تطلبه في تلك الساعة وكان الظلام مخيمًا، لا يريان مما يحيط بهما غير الأشجار العالية إذا اعترضت بينهما وبين الأفق، وكانت سالمة تتمشى في أثر الراهب أينما مشى؛ لأنها لا تعرف مكان تلك الشجرة. وبعد مسير ساعة، وهما صامتان، التفت الراهب إلى سالمة وقال: «قد أصبحنا على مقربة من الجوزة، يا مولاتي، وهذه رءوس أغصانها.» وأشار بيده إلى الأمام، فالتفتت فلم ترَ شجرًا ولكنها رأت أغصانًا متفرقة تتراءى في الأفق فعلمت أن الشجرة في منخفض وأنها ترى رءوس أغصانها، ثم رأت شبحًا يظهر بجوار تلك الأغصان رويدًا رويدًا كأنه قادم من وراء أكمة نحوهما، فتفرست في ذلك الشبح حتى بدا كله ودنا منهما، فإذا هو بملابس جند الإفرنج ولما اقترب منهما اختلج قلبها في صدرها لعلمها أنه عدلان الأحول، فاستعاذت بالله منه وخافت على حسان من دهائه أما هو فظل ماشيًا لا سلام ولا كلام، فسرت سالمة بذلك، وبعد قليل وصلا إلى قمة التل فشاهدت سالمة وراءه شجرة هائلة تظلل سهلًا واسعًا، فانحدرا نحوها وجلسا تحتها وأمامهما عين ماء تصب في منحدر، تحته وادٍ يجري فيه نهر شير، وكانت سالمة قد تعبت من المشي والقلق فجلست على حجر ناعم أملس، من كثرة ما لامسه من الأيدي بمرور الزمن، وكانت تلك الشجرة مهبطًا للمسافرين هناك ولما جلسا قالت سالمة للراهب: «إني خائفة على حسان ولا أظنه يستطيع الخروج من ذلك المعسكر، وإذا كان لم يخرج الآن فإنني لم أعد أرجو خروجه.» قال: «وكيف ذلك؟ إذا لم يخرج الآن، يخرج بعد ساعة أو ساعتين ويكون الحرس نيامًا.» قالت: «لا أخاف عليه من الحرس ولكنني أخاف عليه من هذا الرجل الذي رأيته مارًّا بنا وهو الذي وشى بي حتى قبضوا عليَّ، ولو لم يكن غائبًا الليلة عن المعسكر ما انطلت حيلتكم على الحرس …» قضا مدة في مثل ذلك وسالمة تعد اللحظات وتحسب الساعة يومًا من شدة القلق، ثم سمعا وقع أقدام مسرعة فالتفتا فرأيا شبحًا يعدو نحوهما فلم تشك سالمة أنه حسان، فلما اقترب منها ارتعدت فرائصها من منظره؛ لأنه كان عاري الصدر والذراعين مكشوف الرأس، وقد نبش شعره وأرسله على وجهه حتى أصبح منظره كمنظر الجان أو الشياطين على ما كانوا يصفونهم في ذلك العصر، ولم تكد سالمة تتبين ملامح وجهه حتى سمعته يقول «لا تخافي، يا مولاتي، أنا حسان.» فاطمأنت، وصاحت فيه قائلة: «ويلك ما هذا العمل؟» قال: «لولا هذه السحنة ما نجوت من الأسر فعندما تحققت أنكم بعدتم عن المعسكر، تعريت كما تريان، ونبشت شعري، وخرجت من الجانب الخلفي للخيمة أعدو على يدي وقدمي، وأصيح صياح الشياطين، فأجفل الحرس من حولي وتفرقوا لاعتقادهم أني شيطان، ولم يرجع إليهم رشدهم ويفطنوا إلى الحيلة حتى صرت خارج المعسكر، ولكنني التقيت هناك برجل أظنه عدلان البربري الأحول وقد رآني ولم يعرفني، هل شاهدكما هنا؟» قالت: «رآنا ولم يعرفنا.» فقال: «لا بد لنا إذن من تغيير هذا المكان أعطوني العباءة أولًا.» فأعطته سالمة العباءة فلبسها وهو يقول: «هلم بنا نذهب من هنا، فإن هذا البربري الشرير لا يلبث أن يصل إلى المعسكر ويعرف بأن الراهبين تمكنا من مساعدتك على الفرار حتى يأتي إلى هذا المكان بالجند، ولا طاقة لنا بالحرب.» فقال الراهب: «هذا هو الصواب فلنمضِ إذن إلى دير القديس مرتين، فإننا نستطيع أن نبلغه قبل الصباح فنصير هناك في مأمن، وإذا أردت إرسال حسان بعد ذلك افعلي، وربما أرسلنا معه من يهديه إلى الطريق.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/61/
دير القديس مرتين
فاستحسنت الرأي ونهضت، فمشوا في طريقهم إلى الدير والراهب دليلهم فوصلوا إليه عند الفجر وقد أخذ التعب منهم مأخذًا عظيمًا فأطلوا على حلة أشبه ببلد صغير، وفي وسط البلد بناء شامخ محاط بسور عالٍ مثل سائر الأديرة هناك، ولكنه أفخمها جميعًا، ومحيط السور هائل يحسبه الناظر سور مدينة لسعته وارتفاعه، وكان دير القديس مرتين مشهورًا في أكيتانيا وأوستراسيا وسائر أوروبا بالغنى والثروة لكثرة ما حواه من الآنية الذهبية والفضية، غير الأموال المدخرة في خزانته من الهبات والنذور ونحوها، وكانت سالمة تسمع بذلك الدير ولم تدخله بعد، فلما أطلت عليه تركت للراهب أن يتصرف في كيفية الدخول، فإذا به تقدم إلى الباب، وهو كبير على خلاف أبواب سائر الأديرة، فأمسك بحبل مدلى هناك وشده فدق الجرس دقة خاصة، وبعد هنيهة أطل أحد الرهبان من برج فوق الباب، فكلمه الراهب رفيق سالمة باللاتينية فأسرع ذاك إلى الباب وفتحه ورحب بالقادمين، فدخل الراهب وسالمة من باب آخر وراءه، فأطلا على فناء واسع أشبه شيء بالحديقة، وفي وسط الفناء بناء كبير هو الدير، وبجانبه بناء آخر عرفا من قبته والصليب في أعلاه أنه كنيسة القديس مرتين. وكان حسان سائرًا في أثرهما، وهو لا يزال بمظهره الغريب، فأمره رفيقه الراهب أن يمكث عند الباب، وأشار إلى البواب أن يبقيه عنده ريثما يطلبانه فمكث هناك وظلت سالمة والراهب سائرين والراهبان يتخاطبان باللاتينية، فلم تفهم سالمة من حديثهما إلا قليلًا ثم تكلم راهبها بالإفرنجية قائلًا: «إن حضرة السيدة قادمة بكتاب إلى حضرة المحترم رئيس هذا الدير فهل هو هنا؟» قال: «أظنه لا يزال في عبر النهر عند دوق أوستراسيا إلا إذا كان قد دخل الدير من بابه الآخر المشرف على هذا النهر.» قال: «ومتى قطع النهر؟» قال: «قطعة بالأمس على حين غفلة.» قال: «وما الذي دعاه إلى ذلك؟» وكان الراهب يتكلم وهو يمشي في الحديقة بين أشجارها ويتفرس في طرقها كأنه يفتش عن أحد، فلما أفضى بهم الحديث إلى هنا كانوا قد وصلوا إلى مقعد من الحجر بجانب الكنيسة، فأشار الراهب إلى سالمة بالجلوس وجلس هو، ونور الصبح آخذ في الإشراق، وقد تطايرت العصافير وانطلق النسيم فاختلط حفيف الأشجار بتغريد الأطيار فكان لذلك تأثير شديد على سالمة بعد أن قاست ما قاسته من التعب والقلق طول الليل الماضي، وأحست بالنعاس ولكن حواسها تنبهت لسماع حديث الراهبين لتعرف سبب خروج الرئيس من ديره على غرة، فسمعت الراهب يقول: «إن الذي دعا إلى ذلك الخروج يا أخي أمر جديد كفانا الله شره.» فقال الراهب: «وما هو ذلك الأمر لا سمح الله؟» قال: «ألم تسمع بمجيء الدوق شارل صاحب أوستراسيا بجيشه الجرار؟» قال: «سمعت أنه قادم فهل وصل؟» قال: «نعم يا أخي وصل منذ أيام وهو الآن على الضفة اليمنى، وحالما وصل بعث إلى حضرة المحترم رئيس ديرنا أن يوافيه إلى هناك على عجل فلم يسعه غير الطاعة.» قال: «وما الذي يبتغيه منه وليس عنده جند ينجده به؟» قال: «يظهر أنك تجهل حال هذا الدوق مع رجال الله والكنائس والأديرة.» قال: «أعرف عنه قليلًا.» قال: «ألا تعرف طمعه في أموال الكنائس وأرزاقها وهل فاتك ما ارتكبه من الظلم مع أكليروس أوستراسيا؟» قال: «سمعت بعض الشيء وأخشى أن يفعل مثل ذلك في كنائسنا هنا.» قال: «وهذا الذي نخشاه نحن.» وبينما هما في ذلك، إذ سمعا قرع الجرس فبغت راهب الدير ووقف الباقون وهم يحسبون الجرس يقرع للصلاة، ولكنهم رأوا الكنيسة لا تزال مغلقة وقد تقاطر الرهبان من كل ناحية نحو طرقة من طرقات الحديقة تؤدي إلى سور الدير من جهة النهر، فظلت سالمة وراهبها واقفين بجوار المقعد ينتظران ما يكون، ولم يمضِ قليل حتى رأيا جماعة من الرهبان عائدين وفي مقدمتهم راهب بملابس خاصة، يمتاز عن الباقين وعلى رأسه قلنسوة خاصة فعرفت سالمة أنه الرئيس وقد عاد من مهمته التي ذهب لأجلها إلى شارل فاستغربت رجوعه في ساعة مبكرة، وتفرست فيه عن بعد فرأته ماشيًا وحوله الرهبان والجميع سكوت تهيبًا مما في وجهه من مظاهر الغضب. وكان ذلك الرئيس كهلًا كثيف اللحية قد وخطه الشيب في أواسط لحيته من مقدم الذقن ولا يزال الباقي حالكًا، وكذلك شاربه فإنه كان غليظًا كثيفًا وكانت عيناه كبيرتين براقتين، فوقهما حاجبان عريضان ومنظره في الجملة وقور مع جلال، وقد زاده الغضب هيبة ووقارًا حتى ألجم الرهبان كافة عن الكلام، فتوسمت سالمة من ذلك الغضب خيرًا ولما دنا من الدير أسرع رفيقها الراهب إلى يده، فقبلها وهو جاث وقبعته بيده، ففعلت سالمة مثله ثم تنحى الجميع ودخل الرئيس من باب الدير وتبعه جماعة الرهبان وعلى وجوههم علامات الدهشة، ولا يجسر أحد على الكلام إلا همسًا. فظلت سالمة وراهبها يترقبان فرصة تسمح بدخولهما على الرئيس، وكانت سالمة تفضل الدخول عليه وحدها ومعها الكتاب، وبعد هنيهة جاء الراهب الذي كان قد استقبلهم من باب السور وقال: «هذا هو الرئيس قد عاد فما الذي تريدانه؟» قالت سالمة: «أريد أن أحظى بتقبيل يديه ومعي كتاب أريد تقديمه إليه.» قال: «وأين الكتاب؟» فمدت يدها وأخرجته من جيبها، ودفعته إليه مختومًا فتناوله ودخل ثم عاد ودعا سالمة للدخول وحدها، فسرت لذلك ومشت وهي تعد في ذهنها ما ستلقيه على الرئيس لعلمها أن رئيس دير القديس مرتين يمتاز عن سائر رؤساء الأديرة بعلو منزلته وغنى ديره فدخلت في دهليز انتهت منه إلى باحة رأت فيها الرهبان متزاحمين يذهبون ويجيئون كأنهم في شغل عظيم وقد تسربوا أزواجًا وأثلاثًا، فلما رأوها وسعوا لها الطريق، فمشت والراهب يتقدمها حتى وصلت إلى غرفة الرئيس وعلى بابها ستار شقه الراهب بيساره وأشار إلى سالمة بيمينه أن تدخل، فدخلت إلى قاعة مفروشة بالبسط وعلى جدرانها صور بديعة الصنع تمثل أهم حوادث النصرانية، وفي صدر القاعة صورة القديس مرتين بالحجم الطبيعي الكامل ورأت الرئيس جالسًا على مقعد في صدر القاعة تحت تلك الصورة، فلما دنت منه جثت وقبلت يده فأنهضها وطلب مقعدًا أجلسها عليه، والكتاب لا يزال بيده وقد تبسم ترحابًا بالقادمة والغضب لا يزال باديًا في عينيه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/62/
أمل جديد
فجلست سالمة متأدبة والخمار يجلل رأسها، وثوبها الأسود يزيدها كمالًا ورزانة، وظلت صامتة احترامًا للرئيس، أما هو فأعاد نظره إلى الكتاب وتفرس فيه كأنه يقرؤه ثانية، ثم قال: «ممن هذا الكتاب؟» قالت: «إن خاتم صاحبه فيه.» قال: «لا أرى خاتمًا ولكنني عرفته من خطه هل أنت سالمة؟» قالت: «نعم يا مولاي، إني أمتك سالمة.» قال: «العفو يا أختي كلنا عبيد ربنا ومخلصنا ما الذي تريدينه مني الآن؟» قالت: «لا أريد إلا ما تريده قداستكم وليس لي رأي بعد رأيكم.» فابتسم غضبًا وقال: «لا حاجة بنا إلى المجاملة والتردد لقد جئتني لأمر يقول أخي رئيس دير … أنه يهمني ويهمه وأن عليه يتوقف مستقبل الكنيسة في أكيتانيا فتفضلي بما تأمرين.» قالت: «إني خاطئة لا أستحق هذه العناية، ولكني كنت خاطبت كاتب هذا الكتاب في شأن دافعني فيه وأنكره عليَّ، ولكنه ما أن سمع بقدوم الدوق شارل إلى هذه البلاد حتى استصوب رأيي فهل أعجبك حضرة الدوق بمجيئه؟ اصفح عن جرأتي في هذا السؤال؛ لأن عليه يتوقف حديثي.» قال: «صدقت يا ابنتي هذا السؤال لا يجسر أحد من رهباني أن يسألني إياه ولكنك جئت في وقت أجيز لك فيه هذا السؤال، وفي كلام أخي الرئيس صاحب هذا الكتاب ما يحملني على الثقة بك فأقول إني وجدت الدوق شارل خطرًا على الكنيسة في أكيتانيا.» قالت: «وهذا الذي رآه هو، وأراد أن أكون الواسطة في عرض طريقة أرجو أن تعود بالنفع على الكنيسة وأهلها.» قال: «وما هي طريقتك؟» قالت: «هل تعد الدوق شارل مسيحيًّا حقًّا؟» قال: «هو يزعم أنه مسيحي، ولكن أنَّى له ذلك وهو يحلل ما حرمته الكنيسة كنا نسمع عنه أمورًا لم نكن نصدقها لغرابتها حتى سمعناها من شفتيه.» قال ذلك وقد تجدد غضبه ثم قال: «كنا نسمع أنه أخذ أموال الأديرة وأساء إلى الأكليروس، وكنا نستغرب ذلك منه حتى دعاني بالأمس إليه وبدلًا من أن أسمع منه تملقًا وتزلفًا لشدة حاجته إلينا في كل شيء سمعت منه تهديدًا ووعيدًا.» فانشرح صدر سالمة لهذه الشكوى، واستبشرت بتحقيق أمنيتها، ولكنها أظهرت الدهشة وقالت: «تهديد ووعيد؟ ولماذا؟ ألعلكم عصاة؟» قال: «كلا يا ابنتي ولكنه كلفني أمرًا لم أوافقه عليه كما أراد، دعاني وطلب إليَّ أن أدفع ما في صندوق هذا الدير من الأموال عاجلًا؛ لأنه يحتاج إليها في الحرب، ثم عرَّض بفضله علينا في هذه الساعة؛ لأنه سيدفع عنا العرب سامح الله الدوق أود ما أضعف قلبه، إنه سيجر علينا البلاء مضاعفًا باستنجاده بهذا الرجل المستبد.» فأظهرت سالمة الاهتمام وقالت: «في الحقيقة إن الخطأ الأكبر من الدوق أود، فقد أضاع استقلاله وجر البلاء على الكنيسة وما الذي يظنه مولاي الرئيس في هؤلاء العرب؟» قال: «هم أعداؤنا وأعداء ديننا!» فابتسمت بلطف وقالت: «اسمح لي يا حضرة الرئيس المحترم أن أعترض على هذه التهمة هل رأيت العرب أو عاشرتهم؟» قال: «كلا ولكنني سمعت عنهم شيئًا كثيرًا سمعت أنهم يعبدون الأصنام وأنهم إذا نزلوا بلدًا نهبوا كنائسه وسبوا نساءه وخربوا منازل أهله.» قالت: «ألا تصدق امرأة عاشرتهم أعوامًا؟» قال: «هل عاشرتهم كثيرًا؟ وأين؟ وما هي علاقتك بهم وأنت من أهل هذه البلاد على ما يظهر؟» قالت: «فليسمح لي مولاي أن أجيب على أسئلته بما في استطاعتي لقد عاشرت هؤلاء العرب أعوامًا فظهر لي أنهم أهل ديانة مثل ديانتنا، يعبدون الله مثلنا وهم أهل رفق وعدل، يوفون بالعهود ويحافظون على المواثيق، وقد فتحوا بلاد الإسبان ومعظم أكيتانيا ولم يظهر منهم إلا العدل والرفق، ترى النصارى في إسبانيا وفي بوردو وبواتيه وغيرها من البلاد التي فتحوها متمتعين بحريتهم الدينية، لا خوف على كنائسهم، ولا على أموالهم، ولا على شيء مما يملكون، ولا يخلو أن يطمع أحدهم في نهب أو سلب فإذا لم يكن محقًّا فإنه ينال جزاءه من أميره.» ثم قصت عليه حكاية كنيسة بوردو وبذلت جهدها في تنميق العبارة وبسطها لعلمها أنها إذا أقنعت رئيس دير القديس مرتين هان عليها إقناع أسقف تورس، وإذا هم لم يساعدوا العرب كفاها ألا يساعدوا الإفرنج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/63/
الرهينة
وكان الرئيس يسمع كلامها ويتفرس في وجهها ويستطلع حقيقتها، فلم تسعفه الفراسة إلا قليلًا وظل مستغربًا غيرة هذه المرأة على العرب وهي غير عربية ولكنه استحسن امتداحها العرب خصوصًا وهو على تلك الحال، فتوهم أن مجيء هذه المرأة أثناء نفوره من شارل وخوفه منه لا يخلو من عناية خاصة روحانية، فمال إلى موافقة سالمة في رأيها ولكنه أعظم أن ينصاع إليها في سهولة، وأراد من ناحية أخرى أن يحافظ على غيرته الدينية لعلمه أن انحيازه إلى العرب — إذا لم يكونوا كما وصفت — يغير مستقبل النصرانية في تلك البلاد ويقلب الأحوال رأسًا على عقب، وكان يرجو رجوع شارل عن مطالبه، فإذا رجع لم يبقَ ثمة داع لعدوله عن نصرته، فظل مدة مطرقًا وهو يعبث بأطراف لحيته بين أنامله، ثم التفت إلى سالمة وقال لها: «إني شاكر لسعيك، وأرجو أن تمهليني ريثما أفكر وأستخير الله وأعمل بإلهامه جلت قدرته.» قالت: «تبصر يا مولاي في الأمر كما تشاء، ولكنني أذكرك بما أنت مسئول عنه أمام الله من مصالح الرعايا وإنما هدفي أن يعود سعيك بالخير على الكنيسة وأهلها.» قالت ذلك ووقفت فابتدرها الرئيس قائلًا: «أما أنت فتبقين عندنا ريثما نرى ما يكون.» فأدركت أنه يريد بقاءها عنده رهينة حتى يصدق قولها، فلم تبال لاعتمادها على وعود عبد الرحمن، فقالت: «إني رهينة أمرك فيما تريد.» فصفق الرئيس فجاء أحد الرهبان فقال: «انزل هذه الضيفة في غرفة خاصة بها وأكرموها.» فمضت مع الراهب إلى علية أعدوها في طرف الدير من جهة نهر لوار، ولها نافذة مطلة على ذلك النهر، فاتكأت على السرير وقد أخذ التعب منها مأخذًا عظيمًا فاستلقت ونامت واستغرقت في النوم، ولم تفق إلا على قرع جرس يدعو الرهبان للغذاء، فنهضت والتفت بثيابها وأطلت على النهر فبغتت لما شاهدته — من بعد — من السفن الصغيرة المرابطة صفوفًا كالجسور، وقد أخذ الناس في العبور عليها إلى هذه الضفة ومعهم الأعلام أشكالًا وألوانًا. فعلمت أنهم جنود شارل فوقفت تنظر إلى مجرى النهر، وقد رجعت بها أفكارها إلى مريم والعهود التي تربطها بذلك النهر وما يتوقف على الجيشين هناك من الأمر الهام، وكانت كثيرة الاطلاع على أحوال الإفرنج، وقد علمت أنه لم يبقَ عندهم رجل قوي إلا شارل هذا فإذا دارت عليه الدائرة فالغلبة للمسلمين على كل أوروبا؛ لأنه لن يقف في طريقهم شيء بعد ذلك، وإذا كانت الغلبة للإفرنج، فلا مقام للمسلمين هناك أبد الدهر وأشد من ذلك وطأة عليها أن العرب إذا لم يقطعوا نهر لوار لم يبقَ لها ولا لابنتها عيش فلما تذكرت ذلك مدت يدها إلى جيبها وافتقدت المحفظة وفيها كل سرها وأخرجتها وقبلتها، فدمعت عيناها وأحست من تلك الساعة بشوق شديد إلى مريم بعد ذلك الغياب الطويل وهي لا تدري كيف حالها، على أنها لم تكن تخشى عليها من أحد ليقينها بحكمتها وعناية عبد الرحمن بها. استغرقت سالمة في تلك الهواجس، وعيناها تنظران إلى معبر الجند وقد استغربت كثرتهم على الضفتين، وكانت تسمع صوت الطبول برغم بعد المسافة؛ لأن الهواء كان يهب من الشمال والشرق والصوت يأتي معه، وقضت سالمة في ذلك ساعة، ولو تركت لنفسها لانقضى النهار ولم تنتبه، ولكنها ما لبثت أن سمعت قرع الباب فتحولت وفتحته، وإذا براهب ومعه خادم يحمل خوانًا عليه الأطعمة فقدماها لها، وخرجا فأحست بالجوع وكانت قد نسيت نفسها، فجلست ولم تزدرد اللقمة الأولى حتى تذكرت حسانًا ورفيقها الراهب فصفقت، فجاءها خادم فطلبت إليه أن يستقدم خادمها عند باب الدير، فذهب ثم عاد بحسان وهو بعباءة الرهبان وشعره لا يزال مشعثًا، فدخل وتأدب، فأمرته أن يقفل الباب وراءه، فلما خلت به دعته للجلوس فأبى، فقالت: «دعنا من المجاملة فإنك من أعز الأعزاء إليَّ، وأي عزيز يضحي بنفسه في مصلحة صديقه أو صاحبه كما فعلت؟ فاسمح لي أن أعاملك معاملة الصديق اجلس وتناول الطعام معي.» فتراجع وقال: «أما الجلوس في حضرتك فأطيعك فيه، وأما الطعام فلا حاجة لي به؛ لأني أكلت مع بواب الدير الساعة، وقد شغل بالي لإبطائك في دعوتي وخشيت أن يفشل مسعاك فأرجو أن أسمع أخبارا طيبة هل نجحت مع رئيس الدير؟» قالت: «أحمد الله على ذلك، ولم يبقَ إلا أن نبلغ نتيجة أعمالنا إلى الأمير عبد الرحمن ليعلم كيف يتصرف مع تلك الداهية ميمونة، وأين جند العرب الآن يا ترى؟» قال: «لقد علمت من حديث دار بيني وبين أحد الرهبان في هذا الصباح أن العرب أصبحوا على مقربة من هذا المكان ولكنهم قادمون من جهة الغرب، وأن جند شارل قادم من جهة الشرق وسيلتقي الجيشان في هذه الساحة جنوبي هذا الدير.» فبغتت وأبرقت أسرتها، وقالت: «هل أنت واثق من ذلك يا حسان؟» قال: «هذا الذي سمعته — يا مولاتي — والجميع يتناقلونه وأظنه صحيحًا.» قالت: «فعلينا الإسراع في إبلاغ الرسالة، وكنت أود أن أذهب أنا أيضًا معك لولا إصرار الرئيس على بقائي هنا لغرض لا أعلمه.» فقال: «لا بأس من بقائك في الدير إذ تكونين هنا في مأمن من كل شر؛ لأنه فضلًا عن تحصينه بالأسوار والأبراج فله مكانته عند الجيشين واتركي ما بقي من المهام عليَّ، فإني أفعل ذلك إن لم يكن إكرامًا لك فإكرامًا لنفسي، وفي فوز العرب فوزي وفي سقوطهم سقوطي.» فتذكرت سالمة ما كان من حديث رودريك، وقد فاتها أن تخبره به بالأمس فقالت: «بورك فيك وعندي خبر جديد يهمك أكثر من كل ذلك.» فقال: «وما هو يا سيدتي؟» قالت: «أتذكر حفيدك سعيدًا؟» فأجفل عند سماع ذلك الاسم لطول ما مر به من الأيام على إغفاله وهو يحسبه في عداد الأموات وقال: «كيف لا أذكره رحمه الله ورحم والده.» قالت: «إنه لم يمت يا حسان.» قال: «من؟ سعيد حي؟ أين هو.» قالت: «هو في معسكر الدوق أود واسمه عندهم رودريك.» وقصت عليه ما تعرفه عنه، فأطرق واستغرق كأنه في حلم، ثم رفع بصره وقال: «وهو هو هناك الآن؟» قالت: «لا أدري وإذا كان هناك فإنه يكون سجينًا.» قال: «سوف أسعى إليه وأبحث عنه بعد ذهابي برسالتك إلى الأمير عبد الرحمن.» فأعجبها منه إيثار خدمتها على البحث عن حفيده مع شدة قلقه عليه، فلما فرغت من الطعام أمرت حسانًا فجاءها بمداد، وتناولت منديلًا كتبت عليه رسالة إلى عبد الرحمن ودفعتها إلى حسان وقالت له: «سر في رعاية الله، وإذا احتجتم إليَّ في شيء فإني مقيمة هنا، وأرى قبل ذهابك أن تصلح من شأنك وتتزيا بزي الرهبان لتأمن غوائل الطريق، وأظن أن رفيقنا الراهب سيعود إلى ديره، فاصطحبه وبلغه سلامي.» فودعها حسان وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/64/
معسكر عبد الرحمن
فلنرجع إلى ما كان في معسكر عبد الرحمن بعد طول سكوتنا عنه وانشغالنا بحديث سالمة تركناهم قرب مضيق دردون بعد أن فر الإفرنج من وجوههم، فمكثوا هناك ينتظرون رجوع سالمة من مهمتها، وقد رأيت ما كان من مقتل بسطام وفشل ميمونة، وعرف القارئ أنها لمباجة بنت الدوق أود، وكانت بارعة الجمال والدهاء كما رأيت، وقد وضعت نفسها موضع السبية خدمة لوالدها فانطلت حيلتها على عبد الرحمن ورجاله، ولولا سالمة لظل أمرها مكتومًا، وكانت سالمة قد عرفتها منذ قابلتها في الخباء، ولكنها خشيت أن يكتشف سرها هي فأجلت الأمر حتى تعود، ولو علمت حقيقة مهمتها ما صبرت عن أمرها فظلت ميمونة بعد ذهاب سالمة والكل يعتقدون أنها من وصيفات لمباجة وهي لا تدخر وسعًا في عرقلة مساعي العرب بكل سبيل، فلما فرغت يدها من وقعة دردون وتخلصت من التهمة، عمدت إلى أحد شياطينها فبعثت معه إلى والدها كتابًا أنبأته فيه عن مهمة سالمة والغرض الذي ذهبت من أجله إلى بوردو وبواتيه وغيرهما، وحرضته على القبض عليها؛ لأنه إذا حبسها فكأنه حبس نصف جيش المسلمين، فلم تدركها المكيدة إلا على أبواب بواتيه كما رأيت، وكانت ميمونة قد تحققت من عجز والدها عن دفع ذلك الجند من العرب بعد ما شاهدته في الوقعتين الأخيرتين بفضل اتحاد القبائل وعجزها عن تفريق كلمتها، فعمدت إلى شيطانها الأحول وبعثت معه إلى والدها تستحثه على الاستنجاد بشارل لعلمها أن أباها لا قبل له بذلك وحده، ومن غريب دهائها واحتيالها أنها كانت شديدة التأثير على والدها لا تكاد تشير عليه بأمر إلا حققه لإيمانه بحكمتها وسعة اطلاعها، وخاصة على أحوال العرب بعد الإقامة بينهم أعوامًا، ولما جاءه كتابها، كان قد يئس من الفوز وخاف على نفسه، فوافق رأيها مصلحته فبادر إلى الاستنجاد بشارل دوق أوستراسيا، فلبى هذه الدعوة لعلمه أنه إذا انتصر على المسلمين انتصر على أود وملك فرنسا كلها. أما عبد الرحمن فلما طال غياب سالمة مل الانتظار، وبعث يبحث عنها في بوردو فعلم أنها خرجت منها منذ أيام، وكانت مريم مع تعلقها بهانئ واستغراقها في لجج العواطف أشد الجميع قلقًا على والدتها، وكان هانئ يختلس الفرص في أثناء الإقامة هناك ويجتمع بمريم، إما في الخباء أو في الصحراء، ويتحادثان ويتشاكيان في غفلة من الرقباء، وعبد الرحمن يغض النظر، حتى تمكنت المحبة بينهما وكادا يتناسيان الحرب وأسبابها لو لم يكن زواجهما متوقفًا عليها وعلى اختراق أكيتانيا إلى نهر لوار، ولذلك فإن هانئًا لم يكن يفتر عن تحريض عبد الرحمن على السير قبل فوات الفرصة واستعداء الأعداء، وعبد الرحمن يأخذ الأمر بالتؤدة والتأني حتى جاءهم الجواسيس ذات يوم بخبر استنجاد أود بشارل، فعقد عبد الرحمن مجلسًا من الأمراء حضره هانئ وأطلعهم على الخبر، فقال هانئ: «وهذا ما كنت أخشاه، ولذلك كنت أستعجل الأمير في التقدم.» فقال عبد الرحمن: «فالذي أراه أن نبادر حالًا إلى المسير.» قال هانئ: «هذا هو رأيي.» ولبث عبد الرحمن ساكتًا ليسمع آراء سائر الأمراء وفيهم أمراء البربر فلم يفه أحد منهم بكلمة، فتخوف من ذلك السكوت وأدرك هانئ خوفه، وعلم أن مطامع البرابرة متعلقة بالغنائم والسبايا، وأنهم لما علموا باتحاد جيشي أكيتانيا وأوستراسيا خافوا على أنفسهم فوقف هانئ وهو يبتسم وقال: «لا حاجة بنا إلى طول البحث في هذا الشأن، فإن الله قد ضم جيش أوستراسيا إلى جيش أكيتانيا غنيمة لنا؛ لأن عند أولئك من الأموال والتحف ما لا تقاس به تحف هذه البلاد، وإذا انتصرنا على الجيشين مرة واحدة ملكنا هذه الأرض الكبيرة كلها، وقطعناها حتى نذهب إلى رومية والقسطنطينية فنتم فتح العالم كله، وننشر الإسلام بين الناس كافة، ويكون الفضل في ذلك لسيوفكم وخيولكم.» قال ذلك وقد مزج طلب الغنائم بالجهاد حتى لا يفتر طالب الغنائم عن تلبية دعوته وما أتم كلامه حتى صاح الجميع بصوت واحد: «الخيل! الخيل!» فقال عبد الرحمن: «بارك الله فيكم ونفع الإسلام بكم.» ثم أمر بالاستعداد للرحيل، ولما انصرف الأمراء بقي هانئ وعبد الرحمن ولاحظ هانئ على عبد الرحمن انقباضًا، فقال: «ما بالك منقبض النفس وقد أطاعنا هؤلاء على المسير؟» قال: «أنت تعلم يا هانئ أنهم لا يحاربون إلا طمعًا في الأموال وقد تجمعت الغنائم عندهم حتى كادوا ينوءون تحت أثقالها فالرجل منهم لا يكاد يستطيع حمل طعامه وغنائمه، فبماذا يقاتلون؟» قال هانئ: «لقد نبهتني أيها الأمير إلى أمر ذي بال: إن تعلق هؤلاء البرابرة بالغنائم ضربة ثقيلة على هذا الجيش ليس لاستئثارهم بها دون سواهم، ولكن لأنها تشغلهم عن الحرب، فإذا حملوها أثقلتهم وأعاقت حركتهم، وإذا تركوها خلفوا قلوبهم معها، فلا بد من حيلة نحتالها عليهم في ذلك.» فأطرق عبد الرحمن ثم وقف، فوقف هانئ معه وتشاغل عبد الرحمن بإصلاح عمامته وهانئ بإصلاح حسامه، ثم التف عبد الرحمن بعباءته وهو يقول: «لا بد لنا من النظر في هذا الأمر، وفي اعتقادي أن ترك هذه الغنائم الثقيلة والذهاب إلى الحرب بدونها أربح لنا جميعًا، ولكن من يجسر أن يقول لهؤلاء البرابرة: تخلو عن غنائمكم! ونحن إنما رغبناهم في الحرب بذكر الغنائم والأموال.» فضحك هانئ وقال: «أظنك لاحظت ذلك من عبارتي في هذا الشأن وقد كان في نفسي أن أرغبهم في سرعة المسير إلى تورس بذكر ديرها الغني؛ لأن بقربها ديرًا يقال له دير القديس مرتين هو من أغنى الأديرة الإفرنجية ولكنني خشيت إن أنا قلت لهم ذلك أن يشتغلوا بنهبه عن الحرب، فنكسب عداوة الأهالي والكهنة فضلًا عن عداوة الجند.» قال عبد الرحمن: «لقد أحسنت بالسكوت عن ذلك والذي أراه أننا متى وصلنا إلى ساحة الحرب ندبر تدبيرًا لا يغضب أحدًا فنجعل هذه الغنائم في مكان خاص فيكون أصحابها في اطمئنان لا يخافون عليها بأسًا أو نجعلها وراء الأخبية، أو بينها وبين الجند.» فمشى هانئ وهو يقول: «سننظر في ذلك في حينه.» وخرجا لإعداد معدات السفر. أما مريم فقد كانت لا تزال على اعتقادها في إخلاص ميمونة، وهذه لم تكن تدخر وسعًا ولا تضيع فرصة لا تجتذب فيها قلب مريم بالإطراء والإعجاب، ومريم — لسلامة نيتها وصدق محبتها — كانت تثق بميمونة ثقة تامة، ولم يكن ذلك عن جهل أو بله ولكن حر الضمير يصدق الناس ويعتقد أنهم يصدقونه، فإذا سمع قولًا صدقه لسلامة نيته وصدق لهجته، وفي جملة ما استخدمته ميمونة من أسباب الخداع لمريم أنها كانت تحدثها بحوادث وقعت لها مع عبد الرحمن أو غيره، تزعم أنها مما لا يُفشى لغير الأصدقاء الأخصاء وتتوقع أن تفشي لها مريم شيئًا من سرها مع هانئ، ولكن مريم كانت شديدة الحرص على أسرار الحب وميمونة تسايرها في كتمانه فيزيدها ذلك استسلاما لها، فلما تمكنت ميمونة من مريم وكسبت ثقتها أصبحت مريم لا تفارقها إلا ساعة النوم، أو عندما تلتقي بهانئ أو لأسباب قاهرة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/65/
ساحة القتال
وفي صباح الغد قوضوا الخيام ووضعوا الأحمال على الجمال والبغال وسار الجند على نسق خاص المشاة حسب قبائلهم وأمام كل قبيلة راية خاصة بها يحملها أحد فرسانها، وقد يكون للقبيلة عدة رايات تخفق في الهواء حتى إذا نظر ناظر إلى ذلك الجند وراياته عن بعد ظن الرايات أشرعة وظن حامليها سفنًا، والناس بحرًا ومسيرهم موجًا يتلاطم، وكأن عمائمهم البيضاء وبجوانبها رءوس الأسنة تكسر الموج على سطح البحر، وكان من جملة المشاة رجال البربر بحسب قبائلهم ومعهم سائر الموالي من غير العرب كالنبط والشوام وغيرهم، وهم سائرون بإزاء العرب، وملابسهم تختلف عن ملابس العرب بعض الشيء، وأما الفرسان فقد اصطفوا فرقة على حدة تتقدمها الرايات بحسب الأمراء، وراية هانئ أكبرها جميعًا وأكثر الفرسان بالدروع المتينة وعلى رءوسهم الخوذات الفولاذية، وكان عبد الرحمن يسير تارة بجانب هانئ أمام الأمراء أصحاب الأخبية ومعهم النساء والأطفال في هوادج، إلا مريم فكانت على جواد كأحد الفرسان، وكانت ميمونة تتظاهر بالرغبة في ملازمتها فتركب جوادًا إلى جانبها، ويجيء وراء تلك الحملة ساقة الجند وأمامهم الأحمال والأثقال، وكان عبد الرحمن وهانئ إذا دارا حول ذلك الجيش أو نظرا إليه من أكمة اطمأنا لكثرته وتوسما النصر به. وكان المسلمون يسيرون ولا يلاقون في طريقهم إلا حقولًا مهجورة وأدوات متروكة وبيوتًا خالية، فيأخذون ما شاءوا ويتركون ما شاءوا، حتى إذا أمسى عليهم المساء يحطون رحالهم فيأكلون وينامون ثم ينهضون، فلما وصلوا بواتيه، لم يلاقوا منها مقاومة كبيرة؛ لأن معسكر أود كان قد بعد عنها، وقليل من الجند من دخل المدينة؛ لأن مقصدهم كان مدينة تورس قاعدة تلك الناحية وعندها جند الإفرنج. وأنبأهم الخبراء ذات الصباح أنهم أصبحوا على مرحلة من نهر لوار، فاستراحوا وأصلحوا شئونهم وساروا — وعبد الرحمن وهانئ يتقدمان الجند — نحو ميل ومعهما كبير الخبراء لاستكشاف مواقع العدو قبل النزول، وليختاروا مكانًا يعسكرون فيه، وفي أصيل ذلك اليوم صعدا على رابية على ضفة نهر شير ووليا وجهيهما نحو الشرق فكان نهر لوار إلى يسارهما عن بعد والشمس وراءهما فنظرا إلى ما بين أيديهما شرقًا، فأشرفا على سهل واسع مثلث الشكل قاعدته ضفة نهر لورا إلى يسارهما ورأس المثلث في الجنوب وشاهدا عنده خيامًا وأعلامًا، فعرفا أنه معسكر الدوق أود، وبين هذا المعسكر وضفة نهر لوار سهلٌ واسع، طوله نحو ميلين، يصلح ميدانًا للقتال لخلوه من الأغوار، حتى ينتهي عند قاعدة المثلث بالأبنية على ضفة النهر وأقربها إليها مدينة تورس ثم محلة دير القديس مرتين، ومع بعدها عنهما فإنهما عرفاها من فخامة ديرها وقبة كنيستها، وشاهدا وراء تلك المحلة مما يلي النهر حركة وغبارًا عرفا مما يتخلل ذلك من الأعلام والخيول أنها حركة جند قادم من جهة النهر فأمر عبد الرحمن رجلًا في ركابه أن يمضي إلى جند المسلمين فيأمرهم بالوقوف حيث هم ريثما يعود من هذا الاستكشاف، ثم التفت إلى الخبير وكان من الإفرنج وقد تعلم العربية وقال: «أليس هذا دير القديس مرتين؟» قال الخبير: «بلى، يا مولاي، هذا هو أغنى الأديرة النصرانية في هذه البلاد.» قال: «وما الذي تراه وراءه؟» قال: «أرى جند الدوق شارل يعبر النهر من ضفته الشمالية إلى الضفة الجنوبية، وقد علمت من رجل لقيته في هذا الصباح قادمًا من محلة هذا الدير أن الدوق المذكور أخذ منذ بضعة أيام في نقل رجاله على جسور من السفن، ولم يفرغ بعد لكثرة ما بها من الرجال والأحمال.» قال: «ألا يعرفون عدد جنده؟» قال الخبير: «لم يحصوه، ولكن لا ريب عندي أن الدوق شارل جرد كل ما يستطيع تجريده من قبائل الإفرنج في أوستراسيا وما وراءها لعلمه بشدة بأس المسلمين وقوتهم، ولأن على حربه هذه يتوقف إما امتداد سلطانه على فرنسا كلها أو خروج أوستراسيا من يده.» فقال هانئ: «وسيتحقق الأمر الثاني بإذن الله.» فاعترض عبد الرحمن كلامه قائلًا: «أليس ما نراه إلى يميننا في الجنوب معسكر الدوق أود شريد مضيق دردون؟» فضحك الخبير وقال: «بلى يا سيدي، وهو شريد على كل حال؛ لأنه سواء انتصر عبد الرحمن أو شارل فإن سلطانه على أكيتانيا سيخرج من يده إما لكم وإما لشارل، فحاله تستوجب الشفقة.» فاكتفى عبد الرحمن بما سمعه، وفكر في اختيار مكان يعسكرون فيه فقال هانئ: «لا أرى لنا مكانًا نعسكر فيه خيرًا من النقطة التي نحن فيها، فنقطع هذا النهر الصغير (شير) ونعسكر وراءه فنكون على بعد واحد تقريبًا من هذين الجيشين، وإذا تضاما فنكون متقابلين ويكون هذا الماء وراءنا فإذا قضت الحرب أن نقهر — لا سمح الله — قطعنا النهر وجعلناه خندقًا بيننا وبينهم.» فأعجب عبد الرحمن برأي هانئ وابتسم له ابتسام والد سمع من ابنه عبارة تدل على الذكاء، وقال: «لقد رأيت الصواب وأزيد على ذلك أن نترك أثقالنا وأحمالنا ونساءنا هنا ولا يقطع النهر إلا الرجال المحاربون فنكون في اطمئنان على أموالنا وأعراضنا، وأرى أن نترك هنا أيضًا الغنائم التي أثقلت رجالنا فيذهبون إلى الحرب خفافًا، وقد أخبرتك بأن أمر هذه الغنائم أقلق راحتي، فإذا لم نقنع رجالنا وخصوصًا البرابرة بالتخلي عنها يوم الحرب كانت سببًا في فشلنا، وأنت تعلم أن الرجل إنما يغلب بخفة حركته.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/66/
مشكلة الغنائم
قال هانئ: «لنعقد مجلسًا — إذا أمرت — نحدث الأمراء فيه ونقنعهم بوجوب التخلي عن الغنائم ونبين لهم ما يترتب على حملها من الأضرار ونرى ماذا يكون.» وكان في ركاب عبد الرحمن أيضًا صاحب النفير (البوق) فأمره أن يذهب إلى المعسكر فيخبر الأمراء بمبيت الجند هذه الليلة حيث هم، ثم يدعو الأمراء إلى تلك الأكمة حيث كانا واقفين للبحث في موضوع المكان الذي سيعسكرون فيه فأسرع الرسول، ولم تمضِ هنيهة حتى تقاطر الأمراء على جيادهم، فلما وصلوا نزل عبد الرحمن عن جواده وهانئ عن أدهمه، فنزل سائر الأمراء وسلموا جيادهم إلى الخدم، ووقفوا على تلك الرابية فأطلوا على سهل تحف به تورس ومحلة القديس مرتين من الشمال إلى يسارهم، ومعسكر أود من الجنوب إلى يمينهم فقص عليهم عبد الرحمن ما خطر له بشأن المكان الذي يعسكرون فيه بحيث يكون الماء وراءهم إلى أن قال: «وأستشيركم في أمر هام أظن أن فيه خيرًا لنا، وهو ألا يعبر هذا النهر منا غير الرجال المحاربين، وأن نترك النساء والأحمال هنا ومعهم من يحميهم فما رأيكم؟» فقال اثنان من أمراء القيسية: «لقد رأى الأمير صوابًا.» فوافق سائر الأمراء على ذلك. فقال عبد الرحمن: «وهناك أمر ذو بال طالما خشيته على هذا الجند، وذلك أن جندنا قد أصبح من كثرة ما أفاء الله على المسلمين من الغنائم مثقلًا بالتحف والأموال، حتى لقد يتعذر على الرجل أن يحمل غنائمه فكيف يستطيع القتال بها؟ فالذي أراه أن نجعل الغنائم المذكورة في مكان أمين في جملة ما سنخلفه هنا عند ذهابنا في الغد، فنجعل تلك الذخائر والتحف في خيمة خاصة يحرسها من تثقون به من رجالكم، كما فعلنا بقرب بوردو.» فلم يتم عبد الرحمن كلامه حتى اعترضه شاب من أمراء البربر قائلًا: «أما نحن فلا نوافق على هذا الرأي، ولا تذكرونا بما أصابنا في بوردو على أثر مثل هذا العمل، فقد احتفظنا بالغنائم هناك حسب أمركم فكانت النتيجة أننا خسرنا أكبر أمرائنا وأشجع رجال هذا الجند.» فلما سمع عبد الرحمن تلك العبارة، وما تنطوي عليه من التعريض بمقتل بسطام مع ما تدل عليه من الضغينة والحقد خشي الانقسام إذا هو اعترض عليه أو وبخه لعلمه أنه لم يجسر على هذا القول إلا وهو مدفوع من جماعة، فتظاهر عبد الرحمن بالسذاجة والأسف وقال: «في الحقيقة إننا خسرنا في تلك الوقعة خسارة يصعب تعويضها؛ لأن الأمير بسطامًا يندر أن يجود الزمن بمثله ولكنني لا أرى علاقة بين مقتله والغنائم.» ثم التفت إلى جمهور الأمراء وقال: «أظنكم توافقونني على تناسي ذلك الحادث والاشتغال بما هو أهم منه، وقد عرضت عليكم رأيًا فإذا كنتم ترون فيه خطأ فبينوه؛ لأن الهدف واحد، والمصلحة واحدة.» فتهامس الأمراء وتداولوا مليًّا ثم قال أحد أمراء اليمنية: «أرى الأمير على صواب في رأيه؛ لأن الرجل منا لا يستطيع الحرب وهو مثقل بالأحمال، وإذا خسر الإنسان غنيمته وانتصر في حربه عوض أضعافها.» فوافق على ذلك كثيرون ولحظ هانئ أن البربر لا يزالون يلوذون بالصمت، فخشي الفشل فقال: «وأزيد على ما قاله الأمير أننا إذا انتصرنا في هذه الوقعة كانت غنائمنا فوق ما تدركه العقول؛ لأن الدوق قارله (شارل) صاحب هذا الجند وأشار إلى جند شارل قد حمل معه كل ما في بلاده من التحف وكل ما في الأديرة والكنائس والقصور، فإذا انتصرتم عليه ظفرتم بالغنى والفخر والسعادة.» قال ذلك بلهجة تحمل كل معاني الإخلاص، وهو يبتسم ويتفرس في وجوه الأمراء. فلم يجد أمراء البربر ما يدفعون به قوله، فتكلم شيخ من أمرائهم قائلًا: «لا ريب في أن الجندي لا يستطيع الحرب إلا إذا كان خفيفًا، ولكن من لنا بمن يقنع أفراد الجند بأن يتركوا غنائمهم التي ظفروا بها بعد شقِّ الأنفس وهم لا يطمعون في إمارة أو قضاء وإنما ربحهم من هذه الحرب ما يرجعون به من الغنائم، فعندي أننا بدلًا من أن نترك الغنائم هنا نحملها معنا في صباح الغد ونجعل لها مكانًا بجانب معسكرنا، فإن ذلك أيسر على أصحابها من أن يتركوها في مكان يحول بينهم وبينه نهر.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/67/
رسول أمين
فلم يرَ عبد الرحمن بدًّا من الموافقة فعادوا إلى المعسكر وباتوا تلك الليلة هناك، وأصبحوا في اليوم التالي وأخذوا في عبور النهر إما خوضًا أو سيرًا على قوارب نصبوها عرضًا، وكان ذلك النهر جدولًا صغيرًا لا يعد شيئًا بالنسبة إلى نهر لوار وهو يصب فيه فعبر أولًا عبد الرحمن وهانئ ليعينا أماكن الخيام فوقفا على مرتفع أطلا منه على ذلك السهل، وأخذا في تعيين الأماكن والجند يشتغلون في نصب الخيام وغرس الأعلام إلى قرب الأصيل فلاحت من هانئ التفاتة وهو ينظر إلى الأفق فرأى شبحًا يعدو نحوهما عدوًا سريعًا، فتعلق ذهنه به وجعل يتفرس فيه فرأى عليه ملابس الرهبان فازداد استغرابًا، ثم رآه قد سقط على الأرض وهو يشير بيديه نحو هانئ، فركض هانئ فرسه حتى وقف عنده فإذا هو حسان خادم سالمة وقد استلقى على ظهره وقبض بإحدى يديه على جنبه كأنه يشكوا ألمًا هناك وأمسك بيده الأخرى شيئًا أومأ به نحو هانئ. فترجل هانئ، وأراد أن يساعد حسانًا على الجلوس، فأشار له بعينيه أن يتركه، فسأله عن أمره فقال بصوت متقطع وهو يلهث وقد ضغط بكفه على جنبه من شدة الألم: «أرسلتني مولاتي سالمة برسالة إلى الأمير عبد الرحمن من دير القديس مرتين فحملتها (وأشار بيده والرسالة فيها) حتى إذا خرجت من الدير ورأيت أعلامكم عن بعد أسرعت نحوكم، فما شعرت إلا ونبل أصابني في جنبي من خائن أظنه عدلان الأحول فأيقنت أني ميت فأسرعت حتى أدرككم بهذه الرسالة؛ لأنها في غاية الأهمية فسقطت قبل أن أصل إليكم وهذه هي الرسالة.» ثم انقطع صوته وتزايد ألمه وأغمض عينيه وأرخى يديه، فناداه هانئ فلم يجب، وكان عبد الرحمن قد شاهدهما فأسرع إليهما وسمع كلام حسان، فلما رآه على تلك الحال أسف لحاله أسفًا شديدًا وكذلك هانئ، وترجح عنده أنه ميت، ولكن الأمل لا ينقطع من الحياة طالما بقي نفس يتردد، فأشار عبد الرحمن إلى هانئ أن يستقدم أحد الأطباء. فركب بنفسه على أدهمه وركض نحو الجند، وصاح: «هاتوا طبيبًا.» وبعد قليل جاء الطبيب وهو من نصارى الأندلس وقد قضى في خدمة العرب زمنًا طويلًا، فأسرع إلى حسان وجس نبضه فإذا هو ميت لا حراك به، فطلب إليهم أن يدبروا أمر غسله ودفنه، فحملوه إلى خيمة خاصة بذلك. أكتب إليك من دير القديس مرتين وقد وصلت إليه بعد مشقات يطول شرحها سأقصها عند اللقاء القريب إن شاء الله، وإنما بعثت هذه الرسالة لأخبرك بأمر هام، اطلعت عليه في أثناء سياحتي هذه وهو أن المرأة التي تسمي نفسها ميمونة إنما هي لمباجة بنت الدوق أود وقد نصبت لي الحبائل الكثيرة في أثناء هذه الرحلة، وهي التي حرضت أباها على استنجاد صاحب أوستراسيا بكتاب أرسلته مع خادمها الأحول، فاحذروها وافعلوا بها ما شئتم، ثم إني أبشركم بأن رئيس هذا الدير ناقم على شارل وقد وعدني بالمساعدة ولكنه استبقاني عنده رهينة، وأنا في أمن وإكرام، أطلب لكم النصر، وأوصيك بفلذة كبدي مريم، والسلام. فما جاء على آخر الكتاب حتى بغت، فنظر إلى هانئ ثم أعاد النظر إلى الكتاب، وقد أخذت منه الدهشة مأخذًا عظيمًا، فقال هانئ: «لم أكن أعتقد في هذه الملعونة خيرًا، وكنت مع فرط جمالها أشعر بنفور من منظرها لسبب لا أعلمه، فكأن قلبي دلني على حقيقتها وكثيرًا ما كنت أستغرب إكرامك لها.» فقطع عبد الرحمن كلامه قائلًا: «كنت أراعيها على حذر ولم أثق بها قط، ولكنني كنت أتوقع منها نفعًا في أثناء حروبنا؛ لأنها من أهل هذه البلاد وقد قضي الأمر الآن، فيجب أن نتدبر في شأنها، فما الذي ترى أن نفعله؟» قال: «أرى أن نقتلها حالًا ونريح أنفسنا منها.» قال: «سننظر في ذلك بعد الفراغ من ترتيب هذا المعسكر.» قال ذلك وركب جواده وتحول نحو الجند لإتمام ترتيبهم، فجعل معسكره في نحو ثلث الضلع الممتد بين تورس ومعسكر أود وجعل فسطاطه في وسط المعسكر نحو الأمام وبجانبه خيمة هانئ، يليها بالترتيب مضارب القبائل كل قبيلة على حدة وخيمة أميرها في وسط خيامها، وراية الأمير مغروسة في باب خيمته، وقد يكون للقبيلة الواحدة عدة أمراء وعدة رايات باعتبار البطون والأفخاذ وجمع بين القبائل المتقاربة في النسب المضرية في جانب واليمنية في جانب، وجعل البرابرة في جانب آخر جنوبي المعسكر ببقعة اختاروها هم، وعبد الرحمن يسايرهم؛ لأنهم أكثر فئات الجند عددًا فترتبوا باعتبار قبائلهم وبطونهم، وكذلك الأمم الأخرى من الأنباط والشوام وهم أقل سائر الفئات ثم أمر بالغنائم أن توضع في خيام نصبوها لها بجانب المعسكر من جهة الجنوب، وقد طلب البرابرة ذلك لتكون غنائمهم أقرب إلى مضاربهم، كأنهم خافوا أن يسطوا عليها العرب ويأخذوها منهم، ونصبوا مرابط الخيل وراء المعسكر مما يلي النهر الصغير. وكان هانئ في أثناء ذلك الترتيب يطوف المعسكر لمساعدة عبد الرحمن، وهو يفكر فيما قرأه عن ميمونة وسالمة، وخطر له أن مريم إذا عرفت بمقام والدتها في ذلك الدير ربما طلبت الذهاب إليها، فارتاح إلى ذلك الخاطر لاعتقاده أنها تكون هناك في مأمن على حياتها لو قضي على العرب بالهزيمة، على أنه ترك الاختيار لها وإن كان لا يقوى على فراقها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/68/
لمباجة
قضوا ذلك اليوم واليوم التالي في الانتقال والترتيب، حتى لم يبقَ في الضفة الأخرى غير الأخبية والأحمال الثقيلة ونحوها، وفي أصيل اليوم التالي، سار عبد الرحمن وهانئ معًا إلى الأخبية لمحاكمة ميمونة سرًّا، وكان هانئ لا يرى باعثًا على المحاكمة ولو ترك الأمر له لقطع رأسها بسيفه بغير سؤال ولا جواب، أما عبد الرحمن فأراد أن يتصرف بحكمة وتؤدة فلما وصلا إلى الخباء الأكبر ترجلا ودخلا القاعة، وبعث عبد الرحمن إلى القهرمانة فجاءته بخلاخلها ودمالجها وهي تترجرج في مشيتها كأنها في أحد قصور طليطلة، فلما وصلت إلى عبد الرحمن حيته، فقال: «أين ميمونة؟» قالت: «لم أشاهدها منذ مساء الأمس وأظنها مع مريم في غرفتها.» قال: «ابعثي إليها أن تأتينا وحدها.» فصفقت القهرمانة فجاءها أحد الصقالبة الخصيان فقالت: «اذهب إلى السيدة ميمونة، وقل لها إن الأمير عبد الرحمن يحتاج إليها.» وقد كلمته بألفاظ عربية مشوشة على نحو ما ينطق بها الغرباء عن اللغة إذا تعلموها التقاطًا من أفواه الناس، شأن أولئك الصقالبة والإفرنج وأمثالهم ممن كانوا في خدمة العرب في تلك الأيام. فأشار الصقلبي برأسه إشارة الطاعة، وخرج ولبثوا في انتظاره، وهانئ يود الانصراف ليرى مريم ويخبرها عن والدتها ويكون هو أول من يخبرها بذلك — وفي هذا السبق لذة يشعر بها كل إنسان وخصوصًا بين المحبين — فإن الرجل إذا سمع خبرًا جديدًا وهو بعيد عن زوجته أو حبيبته، فإنه يشعر بميل شديد إلى إطلاعها عليه، وإذا كان ما سمعه من قبيل السر كان أشد رغبة في مكاشفتها به، وكلما بالغوا في تحريضه على كتمانه ازداد رغبة في كشفه، وهو لا يعد ذلك إفشاء للسر؛ لأنه يكاشفها به سرًّا ويوصيها بأن تكتمه، وربما كان السبب في لذة المكاشفة شعور الحبيبين بالامتزاج قلبًا وروحًا، بحيث لا يليق التكتم مع ذلك الامتزاج وزد على ذلك أن المساواة تزيد في توثيق عرى المودة، فإذا تواد اثنان تزداد الرابطة بينهما وثوقًا إذا اطلعا على سر لا يعلم به سواهما، ولهذا السبب كانت المحافظة على الأسرار الماسونية من أقوى أسباب ثباتها وإن لم تكن تلك الأسرار مهمة، فما بالك إذا سمع المحب خبرًا يتعلق بشخص حبيبه كما كان الحال مع هانئ، فإن الخبر متعلق بمريم نفسها فلا غرو إذا رأيناه شديد الميل إلى مكاشفتها. على أنه كان من ناحية أخرى يريد البقاء مع عبد الرحمن بعد مجيء ميمونة ليحرضه على قتلها، وقد طال غياب الرسول، فبعثت القهرمانة رسولًا آخر وآخر، وبعد برهة عاد الرسول الأول وحده وهو يقول: «بحثت عن السيدة ميمونة في كل مكان، فلم أقف لها على أثر.» فبغت عبد الرحمن وهانئ أكثر من بغتة القهرمانة لعلمهما بما لم تعلمه، فقال عبد الرحمن: «وأين ميمونة يا خالة؟» قالت: «ربما كانت في شغل وستعود منه قريبًا.» قال: «إني أريد مقابلتها الساعة، اذهبي أنت للبحث عنها.» فنهضت وهي تقول: «لم أرها منذ غروب شمس الأمس وليس أحد أعلم برواحها وغدوها من مريم.» ثم خرجت وهي تتمايل وتتدحرج، وطال غيابها ثم عادت ومريم معها وهي تقول: «لم أجدها في أي مكان فهي بلا شك في غير هذه الأخبية.» ولما دخلت مريم فاحت رائحة طيبها، وابتسم لها عبد الرحمن رغم غضبه من ميمونة وخوفه من فرارها بعد أن عرفت حقيقتها وكان في وجه مريم من المعاني والملامح ما لا يستطيع معها الناظر غير الإعجاب بها والانشراح لرؤيتها، فكيف بهانئ بعد أن ملكت فؤاده واستولت على عواطفه حتى أصبح يغار عليها من النسيم، فأصبح عند دخولها كله آذان وعيون يرقب ما يبدو منها أو من عبد الرحمن عند المقابلة، ولا مسوغ لتلك الغيرة غير الحب الشديد؛ لأن الحب يدعو إلى الغيرة حتى من أقرب الناس نسبًا وأبعدهم شبهة، وهاك لسان حال المحب الغيور يخاطب حبيبته: أما عبد الرحمن فما لبث أن ابتسم لمريم وأمرها بالجلوس، ثم ابتدرها بالسؤال عن ميمونة فقالت: «لم أشاهدها منذ مساء الأمس، وقد قضيت كل ما مضى من هذا النهار وأنا أبحث عنها؛ لأنها رفيقتي ومعزيتي على غياب والدتي.» فقال: «وهل عرفت سببًا يدعو إلى خروجها؟» قالت: «لم أعرف شيئًا من هذا القبيل، ولكنني رأيت منها ما يدل على الاضطراب والقلق منذ أصيل الأمس، فلم أعبأ بذلك ولا سألتها عن سببه.» قال: «هل رأيت أحدًا جاءها بكتاب أو خطاب في صباح الأمس؟» قالت: «لم أشاهد غير بعض الخدم ممن تعودوا خدمتها.» قال: «هل كان بينهم عدلان الأحول؟» قالت: «نعم وكان قد مضى عليَّ مدة لم أشاهده.» فلما قالت ذلك تبادل عبد الرحمن وهانئ نظرتين تفاهما بهما، فتحققا أن عدلان، بعد أن رمى حسانًا بالنبال، جاء إلى ميمونة وحرضها على الذهاب إلى أبيها خوفًا من انكشاف أمرها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/69/
هانئ ومريم
وكانت مريم تنظر إلى هانئ وتتوسم في وجهه خبرًا، وخاصة بعد تلك الأسئلة، وكانت القهرمانة قد خرجت ولم يبقَ هناك غير مريم والأميرين فنظرت مريم إلى هانئ نظرة فيها غنى عن كل حديث ففهم أنها تسأله عما يكتمانه، فالتفت إلى عبد الرحمن، فرآه مستغرقًا في التفكير فقال له: «الأرجح أن تلك الخائنة علمت بافتضاح أمرها ففرت إلى أبيها، ولكنها لن تنجو من حد هذا السيف بإذن الله.» فبغتت مريم لما سمعته؛ لأنه يناقض اعتقادها في ميمونة وظهرت البغتة على وجهها بما تصاعد إليه من الدم، وأبرقت عيناها والتفتت إلى هانئ وسألته قائلة: «وما الذي حدث حتى استوجبت هذه المسكينة غضب الأمير، وعهدي أنها من أشد الناس غيرة وأصفاهم سريرة؟» فالتفت هانئ إلى عبد الرحمن وقال: «هل تأذن لي بذلك الكتاب؟» فاستاء عبد الرحمن من تسرع هانئ في طلب الكتاب؛ لأنه لم يكن ينوي إطلاع مريم عليه خوفًا من قلقها على والدتها، ولم يبد استياءه مراعاة لإحساس هانئ، ولكنه أنكر الكتاب وتظاهر أنه لا يعرف مكانه فازدادت مريم قلقًا واضطرابًا، وسبق إلى خاطرها أن لذلك التكتم سببًا يسوءها ذكره، ولم يخطر ببالها شيء غير والدتها، فصاحت بلغتها المعهودة ولم تستطع إمساك عواطفها: «ما الذي تكتمانه عني؟ هل أصاب والدتي شغ (شر)؟ أين هي؟» قالت ذلك وأجهشت بالبكاء. فأثر منظرها في هانئ، فقال: «أطمئنك يا مريم إن والدتك في خير وأمان.» قالت: «وأين هي؟» قال: «هي في هذا الدير.» وأشار إلى دير القديس مرتين. قالت: «ولماذا لم تأتِ إلى هنا، لعلها مريضة أو مسجونة أو ماذا؟» فتظاهر عبد الرحمن عند ذلك بالبحث عن الكتاب حتى وجده فدفعه إليها وهو يقول: «هذا هو كتابها، وفي قراءته جواب كافٍ.» فتناولته بلهفة، فلم تستطع رؤية الأحرف مما غشي عينيها من دموع البغتة والخوف والأمل والفرح معًا، فمسحت عينيها بكمها وقرأت الكتاب حتى أتت على آخره، ولما وصلت إلى قولها: «وأوصيك بفلذة كبدي مريم.» صاحت: «أماه!» وقد خنقتها العبرات، ثم أعادت النظر إلى ما ذكرته عن ميمونة فبغتت وحسبت نفسها في حلم، ثم رفعت رأسها إلى عبد الرحمن وقد تحول حنانها النسائي إلى غضب وقالت: «قبح الله تلك الخائنة قد فهمت الآن سبب اختلائها بذلك البربري الأحول في مساء الأمس ولكنها ستذوق جزاء تلك الخيانة إن شاء الله.» ثم سألته عمن حمل ذلك الكتاب لكي تقابله وتستزيده من أخبار والدتها، فقص عليها هانئ ما كان من أمره وأنه مات ودفنوه، فأسفت عليه كثيرًا حتى بكت، ولولا انشغال خاطرها بخيانة ميمونة والشوق إلى والدتها لندبته كثيرًا؛ لأنه رباها منذ طفولتها، وكان ضنينًا بها حريصًا على راحتها وراحة والدتها، ولكنها كانت في قلق عظيم على والدتها، وأصبحت لا تصبر عن رؤيتها فنظرت إلى عبد الرحمن بعينين يغشاهما الدمع، وتوسلت إليه بصوت يمازجه ذلك السؤال قائلة: «ألا يسمح لي الأمير بالمسير إلى والدتي لأشاهدها وأقبل يدها ثم أعود؟» فتأثر عبد الرحمن لسؤالها ولم يسعه إلا الإجابة فقال: «لا أمنعك من الذهاب إليها ولكنني أحب أن أحافظ على وصيتها، وقد رأيت أنها ختمت هذا الكتاب بك.» فقالت: «لا بأس عليَّ بإذن الله، والطريق سهل والمكان قريب وكأني أرى الدير من هنا.» فقال هانئ: «لا نخاف عليك بأسًا بعدما شاهدناه منك في مضيق دردون، ولكنني أرى أن أسير في ركابك حتى تبلغي باب الدير وأعود.» قال ذلك بنغمة التصميم القاطع، فاستحسن عبد الرحمن رأيه فقال: «إذا كان لا بد من الذهاب فانهضا الآن حتى تصلا قبل الغروب، هل يحتاج هانئ إلى أن أستحثه لسرعة الرجوع؟ أما مريم فلا بأس من بقائها هناك، بل إن الدير أكثر أمانًا عليها.» ففرح هانئ بتلك المهمة فنهض وأمر بفرس لمريم، فلبست ثوبها والتفت بعباءتها وركبت وركب هانئ والتف بعباءته وأصلح عمامته وساقا الجوادين سوقًا حثيثًا، وقطعا النهر الصغير على جسر مما نصبوه بالأمس، وسارا نحو الشمال الشرقي يلتمسان دير مرتين فبعد أن ركضا جواديهما برهة أمسكاهما ومشيا متحاذيين وقد حلت لهما تلك الخلوة فأراد هانئ مداعبة مريم، فقال لها: «أتعلمين ما وراء هذه الأبنية؟» قالت: «النهغ الكبير (النهر الكبير) و… قال: «وما اسمه؟» قالت: «نهر لوار.» بلفظ الراء غينًا، ولم تكد تنطق بهذين اللفظين حتى فطنت للموعد المضروب لاقترانهما هناك، فخجلت وحولت وجهها إلى عرض البر وأرادت تغيير الحديث فقالت: «وكأني أرى جند الدوق شارل آتيًا نحونا.» فبغت هانئ وتفرس في الغبار المتصاعد وراء محلة الدير وقال: «لا أشك أنك ترين معسكر الدوق شارل أما الغبار المتصاعد فوقه فليس نتيجة السير، ولكنهم يلاعبون خيولهم على سبيل التمرين.» قال ذلك وأخذ يفكر فيما يتوقعه من القتال الهائل في تلك الساحة، ولكنه كان شديد العزم قوي القلب؛ لأنه لم يصادف هزيمة في قتال بعد، ولذلك فأول ما يسبق إلى ذهنه عز الانتصار.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/70/
سالمة في الدير
وبينما هو يفكر في ذلك إذ سمع جرسًا يقرع، فأصاخ بسمعه فابتدرته مريم قائلة: «هذا جرس الدير؛ لأننا على مقربة منه.» وكانت الشمس قد دنت من المغيب ولو التفتا إليها لرأيا شكلها يتجسم، وجرمها يتعاظم، وحدتها تنفثئ حتى يخيل لهما إذا لمساها أنها لا تلدغ ولكنهما كانا في شغل عن ذلك بغبار رأوه يتصاعد في بعض السهول من جهة الجنوب قرب معسكر أود كأن خيالة يسوقون أفراسهم، فحملا ذلك على ما شاهداه من معسكر شارل، ووصلا في الغروب تمامًا إلى باب الدير فقرعه هانئ فأطل الراهب البواب، فقالت له مريم بالإفرنجية إنها تسأل عن ضيفة هناك، فنزل وفتح الباب ورحب بها واستغرب ملابس هانئ، وخصوصًا عمامته؛ لأنه لم يكن رأى عربيًّا قط، وإن كان قد سمع بمجيء العرب للحرب فترجلت مريم وهم هانئ بوداعها للرجوع، وقلبه لا يطاوعه على ذلك الفراق، وكانت هي في مثل حاله فلما أراد وداعها نظرت إليه نظرة نفذت إلى قرارة قلبه فتحول عن جواده، وهو يقول: «أرى أن أوصلك إلى والدتك، وأطمئن عليها وعليك، ثم أعود.» فاستحسنت رأيه، وابتسمت، ومشت فمشى هو بعد أن أشار إلى أحد خدم الدير أن يمسك الجوادين، فأخذهما البواب إلى الإسطبل، ولما دخلا من الباب الثاني استقبلهما راهب آخر وسألهما عما يطلبانه فقالت مريم: «عندكم نزيلة اسمها سالمة؟» فابتسم الراهب وقال: «نعم» وأشار إليهما فتبعاه حتى دخلا الدير وصعد بهما إلى علية سالمة، وكانت سالمة لا تزال بعد إرسال حسان منفردة في تلك العلية، تارة تطل منها إلى النهر، وطورًا تجلس على الأرض تفكر في مريم، وقد ذاب قلبها لفراقها، وكانت لم تفارقها قبل هذه المرة قط، ثم تنتقل بأفكارها إلى ما تكتمه في صدرها ولم يحن وقت كشفه، وتخشى أن يطول وقته أو تحول الأقدار دون ذلك فتذهب مساعيها أدراج الرياح، ونهضت في صباح ذلك اليوم منقبضة النفس، فنزلت إلى الكنيسة لاستماع الصلاة، وتخشعت في صلاتها كثيرًا، ودعت لابنتها بالسلامة ثم صعدت إلى عليتها فأحست كأنها في سجن، مع أنها في أحسن غرف الدير وأكثرها انطلاقًا ولكن السجن سجن الإرادة، فقد يحبس الإنسان نفسه بإرادته أيامًا في مكان مظلم وهو يعد نفسه مطلقًا، فإذا حكم عليه بالحبس يومًا واحدًا ولو في أفخم القصور فإنه يعد نفسه سجينًا. ولما عادت من الصلاة وصعدت السلم، حدثتها نفسها أن تطل على سهل تورس لعلها ترى رسولًا قادمًا، أو تتنسم ريح ابنتها حتى ترى معسكر العرب عن بعد فمشت حتى أطلت من سطح الدير على ذلك السهل، وعرفت مكان كل من العرب والإفرنج فخفق قلبها لما تتوقعه من القتال هناك، ثم عادت إلى عليتها، وقد أخذت هواجسها تتزايد فلما كان الغروب أحست بزيادة الانقباض وشعرت بضيق وقنوط — وساعة الغروب أثقل ساعات اليوم على الإنسان، وهو حر طليق فكيف إذا كان سجينًا — فهمت بالخروج للصلاة، فسمعت وقع أقدام على السطح، فخفق قلبها ووقفت لترى ماذا يكون، فلما سمعت الخطوات تقترب نحوها تزايد خفقان قلبها، وأخيرًا سمعت قرع الباب وكأنهم قرعوا صدرها، فنهضت وركبتاها ترتجفان وفتحت الباب، فاستقبلها الراهب وأشار بيده إلى رفيقيه، فلما رأت ابنتها صاحت: «مريم» وألقت بنفسها عليها وجعلت تقبلها وتتحسس جسمها، والدموع تتساقط من عينيها، حتى كاد يغمى عليها، ومريم تقبلها وتقبل يدها ودموعها تتساقط بهدوء ثم دخلتا العلية وهانئ لا يزال بالباب فقالت مريم: «هذا هو الأمير هانئ جاء ليوصلني ويراك ثم يعود.» فرحبت به وأثنت عليه ودعته للدخول فقال: «لا بد لي من سرعة الرجوع؛ لأننا في حال يدعو إلى التيقظ كيف أنت؟ لقد وصلنا كتابك وشكرنا فضلك واهتمامك.» قالت: «وماذا فعلتم بتلك الخائنة؟» قال: «لم نجدها في المعسكر مع أنها كانت فيه إلى الأمس يبدو أنها علمت بكتابك ففرت إلى أبيها.» فضربت سالمة كفًّا بكف وصاحت: «نجت الملعونة! الظاهر أن شيطانها الأحول أخبرها بخبرنا، فأيقنت باكتشاف أمرها فهربت.» فقالت مريم: «قبح الله ذلك الأحول فإنه السبب في شرور كثيرة ولو علمت ما فعله هذا الشيطان لحزنت.» قالت سالمة: «وما الذي فعله؟» قالت مريم: «إنه رمى حسانًا بالنبال، وهو ذاهب من عندك فأصاب جنبه، فقاوم ذلك المسكين آلامه وأسرع حتى أدرك معسكر العرب وهو في آخر رمق من الحياة، فبلغ الرسالة ومات.» فصاحت سالمة: «مات؟ حسان مات؟» قالت مريم: «نعم يا أماه مات أشرف ميتة مات شريفًا أمينًا صادقًا وقد قاموا بواجب غسله ودفنه رحمه الله.» فأطرقت سالمة وسكتت ثم هزت رأسها وهي تقول بصوت خفيض: «مسكين حسان مات ولم يشاهد حفيده بعد أن علم ببقائه حيًّا، ولا شاهد نتيجة انتظارنا الطويل لهذه الوقعة الهائلة.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/71/
دعوة خطرة
وكان هانئ قد دخل الغرفة وذهب الراهب فأتاهم بالشمع فأضاءوه وغرسوه في مشمعة ناتئة من الحائط وعاد الراهب، وكانت مريم تفكر في صلتها بهانئ؛ لأنها أحبته ووالدتها لا تعلم، وقد أوصلها إلى أمها وسيرجع قريبًا ولا طاقة لها بفراقه، وهي تريد أن تستطلع رأي والدتها بشأنه، فإذا لم توافقها على حبه كانت المصيبة كبيرة عليها، وأرادت من ناحية أخرى أن تشغلها عن حديث حسان، فقالت: «ألا تعرفين الأمير هانئًا يا أماه؟» فابتسمت وقالت: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو الذي أنقذنا من ذلك الأمير البربري؟» قالت: «بلى وهو أكبر أمراء جند العرب بعد الأمير عبد الرحمن، والأمير عبد الرحمن يحبه ويعتمد عليه؛ لأنه أمير الفرسان ويده اليمنى في تدبير الجيش.» فخجل هانئ من هذا الإطراء وأحب أن يعترض ليخفي خجله، فلم تمهله سالمة فقالت: «لم يخفَ عليَّ شيء من شأن هذا الأمير وقد صحبته في مهمة إلى أسقف بوردو ألا تذكرين ذلك؟» فانشرح صدر مريم واطمأن بالها وهمت بالانتقال إلى ما وراء ذلك فسمعت دبدبة وضوضاء فتوقفت، وأنصتوا جميعًا ثم سمع هانئ جواده يصهل صهيلًا متواصلًا كأنه يطلب النزال فوقف هانئ وهو يقول: «أرى جوادي يدعوني إلى النزال وهو ينبهني إلى سرعة الرجوع.» وما أتم كلامه حتى سمعوا خطوات قادم على السطح، ثم فتح الباب ودخل الراهب رفيق حسان، وكانت سالمة تحسب أنه قد سافر معه فلما دخل رحبت به ودعته للجلوس، فإذا هو يهم بالكلام والبغتة ظاهرة في وجهه وكأنه أراد أن يتكلم فارتج عليه فظنته أمسك حياء من الحاضرين، فقالت له بالإفرنجية: «تفضل يا حضرة الأب، أخبرنا بما عندك وليس هنا أحد غريب.» فقال ولسانه يتلجلج: «كلفني رئيس هذا الدير أن أبلغك أمرًا يعز عليَّ أن أنقله إليك.» فخفق قلب سالمة ومريم، أما هانئ فلم يفهم شيئًا؛ لأنه لا يعرف الإفرنجية ولكنه لاحظ من تغيير الوجوه ما أقلقه، فقالت سالمة: «قل يا حضرة الأب.» قال: «إن الدوق أود بعث بكوكبة من الفرسان بالعدة والسلاح وقد وصلوا إلى الدير ومعهم رسول يحمل كتابًا إلى حضرة الرئيس يطلب منه فيه أن يبعث بك إليه، ولما يعلمه الرئيس من دالتي عليك فقد بعث إليَّ وأطلعني على ذلك الكتاب وتشاور معي في شأنه، فأشرت عليه أن يمتنع عن تسليمك فأظهر أنه يرغب في ذلك من صميم فؤاده ولكنه يخشى العاقبة، وهو لا يدري لمن تكون الغلبة في الحرب القادمة، وواجباته تقضي عليه أن يكون نصيرًا للإفرنج، ثم كلفني أن أكون أنا برفقتك من قبله لأوصي الدوق أود برعايتك، وإذا شئت أخذنا من الرئيس كتاب توصية بشأنك أيضًا.» وكان الراهب يتكلم ولسانه يكاد يتلعثم، والتأثر بادٍ في كل حركة من حركاته، وكانت سالمة ومريم تصغيان وقد شخص بصرهما في الراهب كأنهما أصيبتا بالجمود، فلما فرغ من قوله وقف شعرهما وخصوصًا مريم، وكان هانئ ينظر إليهما ويقرأ تلك العواطف في وجهيهما، فلما فرغ الراهب من الكلام قال هانئ: «ما الخبر؟» قالت مريم: «إن الدوق أود بعث إلى رئيس هذا الدير يطلب والدتي منه.» قال هانئ: «وماذا يريد منها؟» قالت: «يطلبها لغرض لا نعلمه.» قال هانئ: «لا تذهب.» فقالت سالمة: «بل أرى أن أذهب؛ لأني لو أبيت الذهاب لأخذوني قهرًا.» فصاح هانئ: «قهرًا؟ يأخذونك قهرًا وهانئ معك؟ ذلك لا يكون أبدًا.» ووقف ويده على قبضة حسامه، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا. ففرحت مريم بما أبداه هانئ من الحمية بشأن والدتها، ولم تكن هي أقل حمية منه فقالت: «كيف نسمح يا أماه أن يأخذوك أسيرة ولو كانوا ألوفًا إننا سندافع عنك إلى الموت.» فقالت: «أعلم ذلك ولكن شروط الحرب تقضي علينا ألا نعرض أمير فرسان العرب وعمدة أمرائهم لشرذمة من الإفرنج فربما أصابه أحدهم بنبل، كما أصابوا حسانًا بالأمس، فيذهب الأمير هانئ رخيصًا — لا سمح الله — وهو عميد جند العرب وقائدهم ووساطة عقدهم فكأننا عرضنا الجند للخطر فإذا كنتما تحبانني فأطيعاني فيما أقول ولا تخافا عليَّ بأسًا؛ لأني سأسير مكرمة، وسيكون معي حضرة الراهب، وسأحمل من رئيس الدير كتاب توصية أو نحوه بحيث لا أخشى ضررًا، بل أرجو أن أخدم العرب وأنا هناك خدمة لا أستطيعها وأنا معكم ومع ذلك فلا حيلة في قضاء الله.» فقال هانئ: «إنك تحاولين محالًا هل أكون حاضرًا وتساقين أنت أسيرة؟ لا يكون ذلك أبدًا والله لأعملن السيف في الإفرنج ولو كانوا ألوفًا.» فقطعت سالمة كلامه قائلة: «إذا فعلت غير ما أقوله فإنك تكدرني وأنا أعلم إنك لا تريد ذلك إن الدوق أود يعرف عني أكثر مما تعرف أنت أو تعرفه ابنتي هذه وهو لا يطلبني إليه ليسوءني، ولو كان غرضه ذلك لفعله وأنا سجينة عنده إلى الأمس، دعنا الآن من هذا البحث، وأرغب إليك بشرف العرب وعز الإسلام أن تطيعني في ذلك، وقد آن لي الأوان أن أطلعكما على شيء جديد حفظته سرًّا منذ أعوام.» ثم التفتت إلى الراهب وقالت: «قل لحضرة الرئيس إني أتأهب للخروج حسب أمره بعد ساعة أو ساعتين لغرض لي مع ابنتي هذه قبل سفري.» فحنى الراهب رأسه وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/72/
سر جديد
وبعد خروجه نهضت سالمة وأصلحت رداءها كأنها تستعد للخروج، وجعلت تخطر في أرض الغرفة ذهابًا وإيابًا ثم وقفت إلى النافذة وأطلت على النهر، ولبثت صامتة ومريم وهانئ ينتظران ما تقول ويعجبان لتلك الحركة وذلك السكوت، ثم تحولت عن النافذة، وأقبلت إليهما وقد تغيرت ملامحها وتقطبت أساريرها، وظهر الاهتمام في عينيها، وذهب ما كان يبدو على محياها من الابتسام وقد تحول إلى هيبة وغضب فلما رآها هانئ على تلك الحال تهيب والتفت إلى مريم فرآها أكثر اهتمامًا منه، ولكنهما ألجما عن الكلام وأصابهما ذهول، وأما سالمة فنظرت إلى مريم وخاطبتها قائلة: «أتعرفين من هو والدك يا مريم؟» قالت: «لا يا أماه.» وتوردت وجنتاها من الخجل، وبغتت لذلك السؤال على غير انتظار، ولم يكن هانئ أقل استغرابًا منها، ولكنه ظل صامتًا ليرى ما يكون. قالت سالمة: «أتعرفين من هي والدتك؟» ثم التفتت سالمة إلى هانئ وقالت: «اعلم يا بني أني اؤتمنت على هذا السر منذ نحو عشرين سنة، على ألا أبوح به إلا لقائد جند العرب بعد عبور هذا النهر، ولكن قضت الأحوال أن أبوح ببعضه قبل ذلك الحين لأمير هو على ما أعلم يتلو القائد الأكبر، وللضرورة أحكام لقد ضاق صدري عن كتمان هذا السر بعد هذا الزمن الطويل وقد استخرت روح ذلك العزيز صاحب هذا السر أن أكشفه في هذه الساعة لابنتي ولك يا هانئ، على شرط أن تحتفظا به حتى تبلغاه إلى الأمير عبد الرحمن بعد هذه الوقعة، وليس قبلها فأصغيا إليَّ.» وكانت تتكلم وهانئ شاخص ببصره، ومريم يكاد الدم يجمد في عروقها لفرط تأثرها من منظر أمها، وما شاهدته في وجهها من المعاني التي لم تلمسها من قبل. فجلست سالمة وأصلحت ثوبها وأخذت تقص حديثها فقالت وهي توجه خطابها لمريم: «أنت تعلمين يا مريم أن والدتك سالمة ولكنك لا تعرفين من هي سالمة هذه، وقد سألتك عن والدك فقلت إنك لا تعرفينه؛ لأنه توفي وأنت طفلة ولم أذكره لك قط، ولم يكن أحد يعرف نسبك غير ذلك الشيخ المسكين حسان وقد قتل، ولو أصبت أنا بنبلة لذهب هذا السر أدراج الرياح ولذلك عجلت في كشفه لصاحبه، فاعلمي يا مريم أن أمك التي تسمينها سالمة هي أجيلا زوجة رودريك ملك الإسبان الذي قتله العرب في وقعة فحص شريش منذ بضع وعشرين سنة عندما جاء طارق لفتحها. وبعد أن قتل رودريك المسكين جاء موسى بن نصير فأتم الفتح حتى بلغ طليطلة، عاصمة إسبانيا في ذلك الحين، وكنت أنا هناك فانطويت على نفسي بعد وفاة زوجي وأقمت مكرمة وعشت في هناء ورغد كما كنت في أيامه، وكانوا يسمونني أم عاصم ولم يمسني أحد بسوء؛ لأن موسى — رحمه الله — كان عادلًا رفيقًا يعلم كيف يفتح البلاد ولكن مدة حكمه لم تزد على بضع سنين إذ وشى به الواشون، فاستقدمه الخليفة إلى الشام وسجنه، وكان نصب عيني موسى بعد أن فتح الأندلس وجمع غنائمها أن يواصل بالفتح فيما وراءها حتى يبلغ القسطنطينية ويتقدم منها إلى الشام، ويفتح ما في طريقه من البلاد حتى يصير البحر الأبيض محاطًا بالمسلمين من كل جهة، ولو فعل ذلك يومئذ لكان هينًا على المسلمين؛ لأن البلاد كانت ضعيفة مفككة والحكام في انقسام. فلما أخذ موسى إلى الشام استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى (قالت ذلك وتنهدت) وكان عاقلًا حكيمًا عادلًا، وقد أطلعه أبوه على ما كان في عزمه من فتح هذه البلاد التي يسميها العرب الأرض الكبيرة، وكنت أنا لا أزال في طليطلة فلما تولى عبد العزيز ورآني ورأيته أحبني وأحببته فطلب الزواج مني، ولم أكن أطمع في رجل أرفع منه مقامًا، فقبلت على أن أبقى على النصرانية، فرضي ولكنه علمني الإسلام فوجدته كثير الشبه بمذهب أجدادنا القوط (الأريوسية) ثم انتقل بي إلى إشبيلية فأقمنا هناك بضع سنوات كان في أثنائها مثال العقل والحزم، وقد أسر إليَّ أمورًا كثيرة كان عازما على القيام بها خدمة العرب والمسلمين، أهمها فتح هذه الأرض الكبيرة (أوروبا) وقد كان ذلك هينًا كما قدمت، وخصوصًا لعبد العزيز؛ لأنه — رحمه الله — كان يعامل أهل البلاد بالعدل والحسنى والرفق، فأصبح الناس على اختلاف طوائفهم يحبونه، وشاع ذلك عنه إلى أقصى بلاد النصرانية، ولو طال مقامه لفتح هذه البلاد في غير عناء؛ لأن أهلها كانوا ينتظرون من يمكنهم من حقوقهم وحريتهم، ولا عبرة بمذهبه عندهم وكثيرًا ما كان عبد العزيز يحدثني عن رغبته في ذلك الفتح، وأنا أحثه على إكرام الأهالي والإحسان إليهم وهو يطيعني لما يترتب على ذلك الإحسان من الكسب العظيم، وقد بذل جهده من الجهة الأخرى في جمع كلمة المسلمين من العرب والبربر وغيرهم؛ لأنه بغير هذا الاتحاد لا يستطيع عملًا. وإنه لفي هذه الآمال إذ وشى به الحساد كما وشوا بأبيه واتهموه بأنه طامع في الملك لنفسه، وقد بنوا أدلتهم على محاسنته أهل البلاد، وقالوا إني سيطرت على عقله حتى حملته على أن يرغم أصحابه ورعيته على السجود له إذا دخلوا عليه، كما كان يفعل زوجي رودريك على زعمهم، ومن مفترياتهم أني جعلته يفتح بابًا قصيرًا في مجلسه الذي يجلس فيه حتى إذا دخل أحدهم منه طأطأ رأسه كالراكع، والله يعلم إنهم افتروا عليَّ ذلك الافتراء ولم يفقهوا سر الأمر، ولما نفذت الوشاية به عند الخليفة لم يوفدوه إليه كما فعلوا بأبيه ولكنهم دسوا له من قتله وهو في المسجد وا لهفي عليه.» وتوقفت عن الكلام برهة، ثم شرقت بريقها وهانئ ومريم كأنهما في حلم لا يجرؤ أحدهما على التلفظ لئلا يقطع كلامها، فقالت وهي تنظر إلى مريم وتحاول الابتسام: «وكنت قد ولدت منه وقد بلغت السنة الثالثة، وكان يحبك حبًّا لا مزيد عليه خلافًا لمن ولد له من النساء الأخريات، وكان لا يهنأ له عيش إلا إذا قبلك وضمك إلى صدره صباحًا ومساء، وإذا رجع من مجلسه وأتى قصره جعل يلاعبك ويبذل جهده فيما يرضيك حتى نسيني من أجلك، فلما علم بما نصبوه له من الحبائل وتحقق من وقوع القضاء دعاني ليلة مقتله قبل نزوله إلى المسجد، فأتيته وأنت على ذراعي فتناولك وجعلك في حجره وطفق يقبلك ويبكي بكاء مُرًّا وهو يشهق شهيق الطفل، فانخرطت في البكاء معه؛ لأني أحببته حبًّا كثيرًا لما رأيته من صدق محبته وكبر نفسه وحسن قصده، وبعد أن بكى وودعك نادى حسانًا وأوصاه بي وبك ثم التفت إليَّ وقال: لقد أبى هؤلاء القوم إلا أن يضيعوا تعبي ويفسدوا ما هيأته لدولتهم مما لم يكونوا يحلمون به، أما موتي فبقضاء الله وقدره فلا اعتراض لي عليه، ولكنني أشفق على ما أضاعوه وسيضيعونه بقتلي مما دبرته لهم؛ لأني لا أظنهم سيوفقون إلى رجل آخر يغار على الإسلام غيرتي ويهيئ له مثل ما هيأت من الظروف المساعدة على الفتح وهي إرضاء الأهالي وجمع كلمة المسلمين وتوفر الأسباب الأخرى المؤدية إلى ذلك.» ثم أشار إليك وقال: لو كانت هذه الحبيبة غلامًا لأوصيتك بتربيته لهذه الغاية، سأموت في الغد أسفًا على الفرصة التي أضاعوها بجهالتهم، ولكنني أوصيك أن تربي ابنتنا هذه تربية عربية، وتعلميها ركوب الخيل، ولا تخبريها من هو أبوها، ولا تجعلي عربيًّا يعرف سرها إلا من توسمت فيه الغرض الذي ذكرته وتوفرت فيه الصفات المساعدة على تحقيقه، فإذا رأيت قائدًا عربيًّا نهض للفتح وقد أدرك العوامل المساعدة على ذلك، فإن هذه الفتاة تكون له زوجة أو ابنة كما يشاء.» ولما قال ذلك أخرج من جيبه هذه المحفظة (وأخرجت هي المحفظة من جيبها) ودفعها إليَّ وهو يقول: «وإذا وفق المسلمون إلى ذلك الرجل، فإنه فاتح هذه البلاد لا محالة، فإذا تمكن من الفتح حتى بلغ نهر لوار فقصي عليه خبري وأطلعيه على وصيتي وسلمي هذه الابنة له ومعها هذه المحفظة فإن فيها ما ينفعه وينفع المسلمين.» فأخذت المحفظة وحفظتها معي من ذلك الحين، ولم تفارقني يومًا واحدًا ولا ساعة واحدة وأنا لا أعلم ما فيها، فلما قتلوه تلك القتلة الشنيعة — سامحهم الله — لم يبقَ لي عيش في الأندلس، فغادرتها ومعي حسان وعنده كل أسراري، وقد كان خادم الأمير مخلصًا له رحمه الله. وقد تولى الأندلس بعد عبد العزيز عدة أمراء وأكثرهم تحفزوا للفتح، ولكنهم لم يظفروا به لطيشهم وتهورهم وطمعهم، حتى إذا سمعت بعبد الرحمن وما أتاه قبل النهوض للفتح من طوافه بإسبانيا وتعهده حكامها وعزل الضعفاء وأهل المطامع، ومحاسنة أهلها وسعيه في جمع كلمة الجند من العرب والموالي، قلت: هذا هو الرجل المنتظر وصبرت حتى أتى إلى بوردو وفتحها وكان ما كان مما تعرفينه.» ثم وجهت كلامها إلى هانئ وقالت: «فالذي أراه أن الأمير عبد الرحمن هو الرجل الذي عناه الأمير عبد العزيز، فمريم له وهذه المحفظة (ودفعتها إلى مريم) معها أيضًا. ولكن بالطبع لا يكون له شيء من ذلك إلا بعد قطع النهر.» فتناولت مريم المحفظة وخبأتها بين ثيابها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/73/
الوداع
وكانت سالمة تتكلم والعرق يتصبب من جبينها ويتسرب على خديها حتى يقطر على ثيابها، وقد احمرت عيناها وتوردت وجنتاها من شدة التأثر، أما مريم فإنها نهضت مبهوتة وقبلت والدتها وهي تقول: «أنت والدتي الحمد لله، لقد أقلقت بالي بسؤالك إذا كنت أعرف والدتي، فخشيت أن أكون ابنة سواك فإذن أنا عربية ووالدي أمير عربي وأمي ملكة الإسبان …» فقطع هانئ كلامها، وقد غلب عليه الحب وسره تفويض أمر مريم إلى عبد الرحمن لسهولة الظفر بها على يده، وقال: «لا شك أنك عربية الأصل عريقة في الحسب والنسب.» والتفت إلى سالمة وقال لها: «إن حديثك يا سيدتي قد نقش على صفحات قلبي، وأراك فقت العرب بحفظ الوداد ووفاء العهود، وتفضلت عليهم بالحب العميق لزوجك، ونصرتهم بسعيك وفديتهم بنفسك فبورك فيك، والله لو كان في رجالنا عشرة مثلك أو مثل ابنتك هذه لفتحنا العالم لا محالة، ولكننا محاطون بجماعة لا يجمعهم إلا الجشع، وقل فيهم من يفهم معنى الفتح والنصر، وإنما يفهمون الغنائم والسبايا، ونحن في كل يوم نقاسي العذاب في سبيل التوفيق بين قبائلهم وشعوبهم ولو كان أميرنا غير عبد الرحمن ما استطعنا الوصول إلى هنا، فنطلب إليه تعالى أن يأخذ بناصرنا حتى نقطع هذا النهر، وإذا قطعناه هان علينا كل عسير.» والتفت إلى مريم وضحك ففهمت أنه يشير إلى زواجهما، ولكن قلقها لفراق والدتها شغلها عن الخجل. وكانت سالمة في أثناء ذلك مشتغلة بمسح العرق عن وجهها وكأنها أحست بحمل أزيح عن صدرها بعد أن كشفت ذلك السر، لكنها انتبهت للمحفظة فقالت لمريم: «أوصيك بتلك المحفظة، اعتني بها ولا تسلميها لعبد الرحمن الغافقي بعد عبور هذا النهر.» فقالت مريم: «والآن لا بد من ذهابك إلى الدوق أود؟» قالت: «نعم ولا بأس عليَّ منه اطمئني واعلمي أنك في كفالة الأمير عبد الرحمن فقد أوصيته بذلك من قبل.» فتنسمت من هذه التوصية أن والدتها لا ترجو اللقاء بعد هذا الفراق، وأحست سالمة أنها تريد مراجعتها فنهضت وهي تقول: «لقد آن لي إجابة طلب الدوق.» قالت ذلك وضمت مريم إلى صدرها وأخذت في تقبيلها تكرارًا، وكلاهما تبكي وهما متعانقتان متماسكتان كأنهما لا تريدان الفراق، فأثر منظرهما في هانئ حتى كاد يبكي، ثم خاف عليها فتقدم وفرق بينهما فرأى عيني سالمة حمراوين من شدة البكاء، وهي مع ذلك تنظر إلى ابنتها وتبتسم ومريم تقول لها: «قلت إن هانئًا لا يجب التفريط فيه لحاجة الجند إليه وأنا ما الفائدة مني؟ دعيني أسير حيثما تسيرين.» فقطع هانئ كلامها قائلًا: «إن الجند لا ينفع شيئًا بدونك.» ففهمت أن هانئًا لا يريد فراقها وتذكرت شدة حبه لها فهان عليها فراق والدتها، وسمعته سالمة يقول ذلك فأدركت أنه يحبها، ولكنها كانت تثق في شهامته وتعلم منزلته عند عبد الرحمن، وازدادت ثقة به حينما رأت عبد الرحمن قد أذن له أن يرافق مريم إلى هذا الدير. ولما استعدت للخروج قالت لهانئ: «اذهب أيها الأمير بمريم قبل ذهابي.» قال: «العفو أيتها الملكة الجليلة إني لا أخطو خطوة قبل أن أراك ذاهبة بإكرام ورعاية، وإلا فإنهم لن يأخذوك وفيَّ عرق ينبض.» قالت: «ثق بأني سأذهب مكرمة، وسأقيم هناك لا أقول مكرمة ولكني لا أخاف بأسًا؛ لأن أود يعرف من أنا، وأرجو أن يكون بقائي في معسكر أود هذه المرة مثمرًا مثل بقائي المرة الماضية، فقد كشفت فيه سرًّا أبعد عنا شرًّا عظيمًا.» قال: «ربما كان ذلك، ولكنني أستحي من نفسي أن أخرج من هذا الدير وحوله الجند يطلبونك فإذا كنت لا تسمحين أن أمنعهم من أخذك أفلا تأذنين لي أن أراك ذاهبة معهم؟» قالت مريم: «إن هانئًا مصيب في رأيه.» قالت سالمة: «فلأذهب إذن لرئيس الدير لأودعه، فانتظراني في الحديقة.» قالت ذلك وخرجت فتبعاها فتحولت هي إلى غرفة الرئيس، ونزلا هما إلى الحديقة وكانت مضيئة بالأقباس، وطلب هانئ من البواب أن يحضر الجوادين، فأمر فجيء بهما فدفع هانئ إليه صرة فيها دنانير فاستأنس البواب بذلك الكرم وأمر الخادم أن يحسن العناية بالجوادين، فوقف بهما وجواد هانئ يتجلى كالعروس بما عليه من العدة المتقنة وما في عنقه من القلائد والعقود، وما على عدته من الأحجار الكريمة، وخصوصًا اللؤلؤة الكبيرة المصاغة على شكل النجمة فوق جبهته، ناهيك بلجامه المذهب وما على صدره من سلاسل الفضة، وهو أدهم شديد السواد فأصبح كأنه ليل تتلألأ فيه النجوم، وكان هانئ واقفًا إلى جانبه ينظر إليه نظرة وإلى مريم نظرة أخرى، ولم يبقَ أحد من أهل الدير في تلك الحديقة أو بالقرب من الباب إلا وقد جاء ينظر إلى الأدهم وإلى صاحبه، وكلاهما غريب في نظرهم، وكأن الأدهم أدرك إعجاب الناس فازداد دلالًا وأخذ يضرب الأرض بيمناه ويصهل ويشخر، كأنه يطلب النزال، أو كأنه فهم من صهيل الخيول حول سور الدير أنهم أعداء صاحبه فأخذ يهددهم به. أما مريم فقد كادت تنسى فراق والدتها قبل ذهابها لانشغال خاطرها بحب هانئ وخاصة بعد هذه السفرة، وقد تحققت من أنها عربية الأب ملوكية الحسب فتذكرت المحفظة فافتقدتها وعادت إلى هواجسها. وبعد قليل سمعوا ضوضاء داخل الدير، ثم خرج بعض الخدم يحملون الشموع ووراءهم جماعة من الرهبان يسيرون بين يدي سالمة ورفيقها الراهب، وساروا بهما إلى السور فمروا بهانئ ومريم فحيتهما سالمة، ومشت حتى خرجت من الباب وكانوا قد أعدوا لها جوادًا ركبته وركب الراهب جوادًا آخر، ونفخ في البوق فاجتمع الفرسان الإفرنج ومشوا إلى جانبها وبعضهم إلى ورائها برعاية وإكرام، وهانئ ومريم ينظران، وأحست مريم في تلك اللحظة أن أمها اقتلعت من قلبها، فغلب عليها البكاء ولكنها كتمت بكاءها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/74/
ضوء القمر
أما هانئ فبعد أن سار الركب بسالمة ركب جواده، وأشار إلى مريم فركبت جوادها فخرجا وتحولا نحو المعسكر، فلما بعدا عن الدير أحسا بالانفراد، وكان الليل مقمرًا وقد صفا الجو وهدأت الحياة وسكن الهواء كأن الطبيعة قد شاركتهما في التهيب والاعتبار، فلم يسمعا إلا وقع حوافر الجوادين على التراب، وكأن الجوادين قد أحسا بما يتقد على ظهريهما من لواعج الغرام فاعتبرا وطأطآ ومشيا مشية الاحترام — والحب سلطان تطأطئ له الرءوس — وظل الحبيبان مدة صامتين تهيبًا من منظر الطبيعة وتفكيرًا فيما رأياه وسمعاه تلك الليلة من الأمور الهامة، وقد سرهما الاطلاع على ذلك السر، فأصبح ارتباطهما بعده من الأمور الهامة، وقد علما أنهما أقرب نسبًا وأوثق عهدًا، وأحست مريم أنها مطالبة بنصرة العرب عملا بوصية والدها. فلما اقتربا من المعسكر رأيا نيرانه، ولم تكد تظهر لهما عن بعد لتغلب ضوء القمر فأسف هانئ لوصوله إلى المعسكر قبل أن يخاطب مريم في شيء بعد ما عرفه من أمرها، فأمسك شكيمة جواده ليسير الهوينا فاقتدت به مريم وهي تتوقع أن تسمع منه شيئًا فإذا هو يقول على سبيل المداعبة: «أراك صامتة يا مريم ألعل ما علمته من شرف أصلك خفف شيئًا من حبك؟» فأوقفت جوادها بغتة ونظرت إليه كأنها تستطلع قصده من تلك العبارة، فلما رأته يبتسم علمت أنه يمازحها ولكنها قالت: «إذا علمت بشرف أصلي فلا فضل لي في شرف ورثته من الأجداد، وإنما الشريف من نال الشرف بحد حسامه كما ناله الأمير هانئ.» فقال وقد هاجت عواطفه وهو يمسك الجواد عن المسير والجواد لا يطيعه: «فأنت إذن صاحبة الشرف طارفًا وتليدًا فقد رأيت منك في وقعة دردون ما تعجز عنه أعاظم الفرسان، فسبحان من جمع فيك شجاعة الرجال ورقة النساء.» فقطعت كلامه قائلة: «إني لم أفعل شيئًا يا هانئ، وإذا ساعدتني الأقدار سأتفانى في تحقيق وصية أبي، ولو لم أكن رجلًا كما قال، فإن الشجاعة ليست وقفًا على الذكور دون الإناث آه يا هانئ.» وسكتت كأنها تكتم أمرًا. فنظر إليها هانئ والقمر تجاه وجهها، وقد وقعت أشعته على محياها وحول النقاب الأسود، ولو رآها شاعر عربي لقال: تقابل القمران، والحقيقة أن القمر ليس له ما في وجوه الملاح من المعاني الجاذبة والخالبة، وبخاصة فتاتنا العربية سلالة الملكيين، فقد كان في وجهها فضلًا عن الجمال ملامح الهيبة والذكاء، وجاءهما الحب فزادهما رونقًا وزاد المحب افتتانًا، فنظر هانئ إلى وجهها وقد أطرقت، كأنها تكتم أمرًا يمنعها الحياء من إفشائه، وتشاغلت بإصلاح الشعر على عنق جوادها، والجواد مستأنس بمرور أناملها على عنقه، وأراد هانئ أن يسألها عما تكتمه فإذا هو بفارس قادم عليهما من جهة دير مرتين ينهب الأرض نهبًا، فأمسك هانئ جواده وتفرس في القادم فما لبث أن عرف من زيه أنه إفرنجي، ورأى معه عَلمًا أبيض فتحقق أنه رسول من شارل، ولم يكن هانئ يعرف الإفرنجية، فلما دنا الفارس منهما أمسك شكيمة جواده ومشى الهوينا فخاطبته مريم بالإفرنجية قائلة: «من الرجل؟» فقال: «إني رسول من الدوق شارل إلى الأمير عبد الرحمن فأين هي خيمته.» فأفهمت هانئًا ما قاله فقال: «إنها رسالة ذات بال والأحسن أن نسير به لنرى ما سيكون.» فقالت مريم للرسول: «نحن ذاهبان إليه فتعال في أثرنا.» ومشيا وقد انصرف خاطرهما إلى ما يهدد هذا الجند من الأمر العظيم، وتذكرت مريم حسانًا؛ لأنها كثيرًا ما كانت تراه قادمًا بمثل هذه المهمة، فما تمالكت أن قالت «مسكين يا حسان!» وكان هانئ كله آذان لسماع أية كلمة تخرج من فم مريم، فلما سمعها تذكر حسانًا تذكر عبارة قالتها سالمة في ذلك النهار عندما سمعت بمقتل حسان، فقال هانئ: «سمعت والدتك تقول لما علمت بمقتل حسان أنه مات ولم يرَ حفيده فمن هو حفيده؟» قالت: «علمت من بعض ما كان يدور قديمًا بين حسان ووالدتي أنه كان له ابن سار في حرب لا أدري ما هي، وكان لابنه غلام فقده في تلك الحرب ضياعًا — وهو حفيده — وكان حسان كثيرًا ما يتحسر لضياع ذلك الغلام ولأنه لا يعرف مقره، فلما قالت والدتي تلك العبارة ظلت في خاطري وسألتها تفسيرها بعدئذ، فقالت إنها عثرت على الغلام المذكور في معسكر أود وقد صار شابًّا والإفرنج يحسبونه منهم ويسمونه رودريك، وإنها تركته في معسكر أود عند فرارها ولم تعلم بمقره.» وكان هانئ قد أراد مباسطتها للتلذذ بألفاظها ولثغتها، ولم يكن يهمه أمر حسان كثيرًا لكنه عندما سمع حكايته أسف لفقده. فلما اقتربوا من المعسكر، أمسك هانئ شكيمة جواده ونظر إلى مريم، فأدركت أنه يريد أن تنصرف إلى الأخبية حيث تقيم النساء فقالت: «هل أذهب إلى الخباء؟» قال: «نعم يا حبيبتي لتكوني هناك في مأمن حتى يقضي لنا الله بالنصر ونذهب معًا إلى نهر لوار، وأرجو أن يكون ذلك قريبًا.» قالت: «أما إذا خيرتني فإني أفضل البقاء هنا لأمر أراني مسئولة عنه مثل مسئوليتك، أو مسئولية الأمير الكبير، ولكن الطاعة واجبة، فالآن لا ينبغي أن ننسى السر الذي عهد إلينا بحفظه ولا بد من كتمانه إلى حينه.» قالت ذلك وافتقدت المحفظة فوجدتها. فقال هانئ: «هل أرسل معك بعض الحراس، لا أقول لحراستك؛ لأنك في غنى عن ذلك وإنما أرسلهم لخدمتك.» فقطعت كلامه قائلة: «لا حاجة لي بالخدم يا هانئ، وأنا سائرة في ظلك وأنت معي أينما توجهت.» قالت ذلك وأومأت برأسها للوداع، وأدارت شكيمة الجواد وانصرفت نحو الأخبية، فلما توارت عنه عاد إلى الفارس وسارا معًا حتى دخلا المعسكر ولم يعترضهما الحرس؛ لأنهم عرفوا الأمير هانئًا من أدهمه حتى إذا وصلا فسطاط الأمير ترجل هانئ وهو يستفسر من الحاجب: «هل عند الأمير أحد؟» فقال: «كان الأمراء عنده منذ هنيهة وانصرفوا.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/75/
رسالة من شارل
فدخل هانئ وأشار إلى الرسول بالبقاء خارجًا، وكان عبد الرحمن جالسًا وقد سمع صوت هانئ قبل دخوله، فصاح فيه صيحة الوالد بولده: «ما الذي أخرك يا هانئ؟ لقد شغلت بَالَنَا!» فقص عليه ما حدث بعد وصولهما إلى الدير، وكيف بعث أود جندًا أخذوا سالمة إليه، وكيف أراد إنقاذها وهي لم ترضَ، ولكنه لم يذكر شيئًا عن السر، وأخبره أن مريم رجعت معه وقد توجهت إلى الأخبية إلى أن قال: «وقد أتيتك برسول من قارله (شارل) قائد جند الإفرنج أظنه يحمل إليك كتابًا وهو بالباب الآن هل يدخل؟» فصفق عبد الرحمن فدخل أحد الحجاب من غلمانه فقال له: «ادع لنا أحد المترجمين فإذا جاء فأدخله مع الرسول.» فخرج الغلام وظل عبد الرحمن صامتًا كأنه بغت لخبر جديد، ولم يكن هناك شيء جديد، ولكنه تنسم رائحة القتال، وتمثل له عظم الأمر الذي هو قادم عليه، وأدرك هانئ اهتمامه فتهيب وظل ساكتًا حتى عاد الغلام ومعه الترجمان، وهو من يهود إشبيلية وكان يعرف عدة لغات، وللمسلمين ثقة كبرى فيه مثل ثقتهم في سائر يهود الأندلس؛ لأنهم كانوا عونًا كبيرًا لهم في فتح تلك البلاد، ثم دخل الرسول وتأدب في موقفه فسأله عبد الرحمن بواسطة الترجمان عن غرضه فقال: «إنه قادم برسالة من الدوق شارل صاحب أوستراسيا.» فقال عبد الرحمن: «وأين الرسالة؟» من الدوق شارل قائد جند الإفرنج وصاحب أوستراسيا إلى الأمير عبد الرحمن قائد جند العرب أما بعد، فإن أخي الدوق أود صاحب أكيتانيا أخبرني بما تعمدتموه من الإيغال في بلاده لغير سبب يدعو إلى الحرب بيننا وبينكم، فأنتم إنما تطلبون الفتح التماسًا للكسب، وقد أطمعكم في ذلك ما رأيتموه من ضعف الذين حاربتم من جند هذه البلاد إلى اليوم، وقد بلغني ما أنت عليه من الشجاعة والتعقل وعلو الهمة فرأيت أن أنصحك لترجع عن قصدك بدون سفك الدماء، ولا أكلفك تسليمًا بل أطلب إليك الانسحاب من هذه البلاد بما تحمله من الغنائم إلى حدود إسبانيا على الأقل إذ لا قبل لكم بالوقوف أمامنا، هذه نصيحتي لكم وإذا لم تقبلوها فموعدنا في النزال قريب والسلام. فلما فهم عبد الرحمن فحوى الكتاب بما فيه من التهديد ظهر الغضب في وجهه لكنه أمسك نفسه، ونظر إلى هانئ كأنه يستشيره فقال هانئ: «يظهر أن الرجل مغرور بنفسه فأرى أن يكون جوابنا السيف.» من عبد الرحمن الغافقي قائد جند المسلمين في أكيتانيا إلى الدوق قارله قائد جند الإفرنج، أما بعد، فقد قرأت كتابك وساءني اغترارك بنفسك مع ما بلغني من علو همتك وبسالتك، أيها الدوق، إننا لم نجرد هذا الجند لفتح أكيتانيا وحدها ولكننا نهضنا لفتح هذه الأرض الكبيرة ولو لم تأتِ أنت للقائنا هنا لالتقينا في بلدك ثم نحمل على رومية فالقسطنطينية حتى يدين لنا العالم كله كما وعدنا نبيُّنا، فننصح لك أن تعتبر بما أصاب أخاك صاحب أكيتانيا وإلا فلا تلومن إلا نفسك والسلام. ولف الكتاب وختمه وأعاده إلى الرسول فحمله وعاد، وانصرف الأمراء إلا هانئًا فظل عند عبد الرحمن وقد انتصف الليل، فقضيا ساعة في المداولة ثم انصرفا إلى النوم. وقضيا اليوم التالي في التأهب وتدبير الشئون، وكانا في أصيل اليوم الثالث يطوفان بفرسيهما جناح الجند الأيسر إذ جاءهما أحد الطلائع يقول إنه شاهد غبارًا يتصاعد في عرض الأفق بجوار دير القديس مرتين، فأدركا أن شارل لما وصله الجواب زحف بجنده للقتال، فصعدا إلى أكمة أطلا منها فرأيا غبارًا يتصاعد أيضًا من جهة الجنوب حيث معسكر أود، فعلما أن الجيشين متحدان عليهم، فقال عبد الرحمن: «لقد آن وقت العمل يا هانئ وهذه جنود الإفرنج قادمة، فينبغي لنا أن نتيقظ ونتأهب لئلا يهاجموننا على غرة، فامض إلى فرسانك واجعلهم على أهبة النهوض وأنا ماضٍ إلى تنبيه سائر الأمراء.» قال ذلك وتحول، فمضى هانئ في أثره ونفسه تشتاق إلى النزال. على أن الجيشين لم يواصلا الزحف على العرب، ولكنهما عسكرا تجاه معسكرهم، وما بينهما وبينه إلا ساحة القتال، فلما رأى عبد الرحمن نزول الإفرنج علم أنهم لا ينوون الهجوم في ذلك اليوم فبعث إلى هانئ سرًّا، وبعد صلاة العشاء خرجا من المعسكر ماشيين إلى أكمة قريبة كان عبد الرحمن قد عاينها بنفسه في الأمس، فصعدا إليها ونظرا إلى ما بين أيديهما، وقد طلع القمر وأرسل أشعته في الفضاء فوق ذلك السهل، فكشفت عن معسكرين: معسكر شارل في الشرق، ومعسكر أود نحو الجنوب، تجاه معسكر العرب، ونظر عبد الرحمن إلى مضارب ذينك الجيشين وأمعن في النظر ليقدر عددهم فوجدهم كثيرين يزيدون على جند المسلمين، وود لو أنه يلتقي بمن ينبئه عن قوة الجيشين ومعداتهما وسائر أحوالهما. وكان يفكر في ذلك ويمشط لحيته بأنامله وهانئ واقف بجانبه يفكر في مثل ذلك الأمر، وقد تبادر إلى ذهنه أن حسانًا لو كان حيًّا لكان أفضل من يقوم بالاستطلاع؛ لأنه يعرف لغة البلاد وعادات أهلها وهو حسن الأسلوب ذكي مخلص، فأراد أن يخاطب عبد الرحمن في هذا الشأن على سبيل فتح الحديث فرآه يتفرس في عرض الأفق كأنه يرى شيئًا جديدًا، فالتفت هو إلى هناك فرأى شبحًا كأنه رجل يعدو من جهة معسكر الدوق شارل وعليه ملابس الإفرنج، ولكنه لا يحمل راية ولا يبدو من مظهره أنه رسول، فقال هانئ: «ما رأيك في هذا القادم أيها الأمير؟» قال: «لا أظنه رسولًا فربما كان جاسوسًا أو صديقًا.» وما أتم كلامه حتى أصبح الرجل على بضعة عشر مترًا منهما فتباطأ في مشيته حتى اقترب وهما لا يكلمانه، فلما دنا منهما قال بلفظ عربي مكسر: «أين الأمير عبد الرحمن؟» فقال له هانئ: «وما الذي تريده منه؟» فأومأ بإصبعه إلى لسانه مع إشارة النفي، أي أنه لا يعرف العربية، ثم أومأ أنه قادم من معسكر أود لأمر خاص بالأمير.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/76/
معسكر شارل
فالتفت عبد الرحمن إلى هانئ وقال: «لو قلنا له إني الأمير عبد الرحمن لا يصدقنا، فالأفضل أن ندله على خيمتي ثم ندخلها من باب آخر ونوهمه أننا كنا هناك.» فأشار هانئ بيده إلى فسطاط الأمير وأمامه النار ومشى وتبعه الرجل، ومضى عبد الرحمن من جهة أخرى حتى دخل خيمته من باب سري ثم دخل هانئ، وبعد قليل جاءه الحاجب يقول: «إن شابًّا إفرنجيًّا بالباب.» فأمره عبد الرحمن بإدخاله فأدخله، وعاد لاستقدام الترجمان وخيمته بقرب خيمة الأمير، فلما دخل الشاب نظر إليه عبد الرحمن فإذا هو في مقتبل العمر عليه قيافة الإفرنج وملامح العرب، أسمر البشرة، خفيف اللحية، صغير العارضين لحداثته، فلما جاء الترجمان أمره عبد الرحمن أن يسأله عن غرضه، فسأله فقال الشاب: «أنا لا أخاطب أحدًا غير الأمير عبد الرحمن، وإذا كان غائبًا فالأمير هانئ.» فلما سمع هانئ اسمه تعجب، فقال عبد الرحمن بواسطة الترجمان: «إنك في حضرة الأميرين معًا.» قال: «إني رسول من سالمة.» فلما سمعا ذلك الاسم توسما خيرًا فقال عبد الرحمن: «وأين هي الآن؟ ومن أنت.» قال: «هي في معسكر الدوق أود، وأما أنا فإني رجل عربي الأصل، وانتهى بي الأمر إلى الانتظام في جند الدوق أود، ولي حديث طويل قصته عليَّ سالمة منذ برهة وجيزة، وقد قبض علينا أود وسجن كلًّا منا في مكان، ثم افترقنا ففرت هي من سجنها وظللت أنا في المعسكر، ثم أطلق الدوق سراحي وأحسن الظن بي وأعادني إلى خدمته، ثم علم أود من عدلان الأحول أنها في دير مرتين فبعث فرسانًا لاستقدامها كنت أنا في جملتهم.» فقال هانئ: «لعلك رودريك؟» فبغت الشاب، والتفت إلى هانئ وابتسم، وقد استأنس بذلك السؤال وقال: «نعم يا سيدي هذا هو اسمي.» وكان عبد الرحمن يسمع ذلك ويتعجب، ونظر إلى هانئ نظرة استفهام فقال هانئ بصوت منخفض: «إن هذا المسكين حفيد حسان وله قصة تعرفها مريم.» فالتفت عبد الرحمن إلى رودريك وقال: «اقصص علينا سبب مجيئك.» قال: «عندما رجعنا من الدير المذكور ومعنا سالمة ذهبنا بها إلى خيمة باتت فيها تلك الليلة، وفي الصباح التالي جاءوا بها إلى مجلس الدوق وكنت في جملة الحرس الواقفين ببابه، ورأيت عنده امرأة جميلة كانت جالسة بجانبه عرفت بعد ذلك أنها ابنته لمباجة، وأنها كانت في معسكر العرب وفرت إلى أبيها في تلك الليلة، فلما دخلت سالمة خفت عليها من غضب الدوق، ولكنني رأيت من إجلاله إياها واحترامه لها ما كاد يذهب برشدي، وسمعتها تخاطبه بجرأة وقوة وهو يتحمل منها ويستعطفها كما يستعطف المحب حبيبته، وقد سمعته يسميها بغير اسمها ويعاتبها وأخيرًا أمر بإرجاعها إلى خيمتها، وكانت قد لاحت منها التفاتة وهي خارجة فرأتني وعرفتني، فأومأت إليَّ خلسة أن أقابلها، فاحتلت في مقابلتها تلك الليلة فلما رأتني قالت: «إنك عربي وأولى بنصرة العرب مني فامضِ إلى معسكر الدوق شارل واستطلع أحواله، وأخبر أمير جند العرب بذلك؛ لأنهم إذا عرفوا قوة عدوهم هان عليهم أن يحاربوه.» وألحت عليَّ بسرعة الذهاب فخرجت في تلك الساعة والمعسكران متقابلان، وبت في معسكر شارل وقضيت طول الأمس واليوم في الاستقصاء، ولما أمسى المساء فررت إليكم كما رأيتموني.» فأعجب الأميران بشهامة سالمة، وتذكر هانئ قولها إنها ستكون في معسكر أود أنفع لهم مما في معسكر العرب، فقال عبد الرحمن: «ما الذي عرفته من أحوال الجند؟» فقال: «اعلم يا مولاي أن قائد هذا الجند رجل شديد اسمه شارل (قارله) بن ببين وهو رئيس حاشية ملك نوستريا من العائلة الميروفيجيانية، ونظرًا لضعف ذلك الملك كان حظ شارل من تلك المملكة دوقية أوستراسيا وراء نهر لوار لكنه لم يقنع بالدوقية بل طمع في لبس التاج، ولذلك كان أود هذا من أكبر منافسيه ولم يستنجد به على العرب إلا بعد اليأس الشديد، فلما استعان به، جرد ما يستطيع جمعه من قبائل الإفرنج وما يمكن حمله من العدة والسلاح واستقر في هذا المعسكر …» فقطع عبد الرحمن كلامه قائلًا: «كم عدد جنده؟» قال: «لم أستطع معرفة عدده تمامًا ولكنني علمت أنه كثير، وربما زاد على ضعفي عدد جيشكم، على أنني تحققت أنه مؤلف من عدة قبائل تختلف لغاتها وعاداتها وأخلاقها، وإن كانت تعد في الجملة من الإفرنج، أو الأوروبيين ولكنها على التخصيص مؤلفة من شعوب عديدة من جملتهم الأوستراسيون أهل البلاد الأصليون، والأتوريون، والبروكتيون، والطورنجيون، والهيميون، وغيرهم، وعليهم دروع من الجلد وعلى صدور خيولهم دروع من الحديد الثقيل أسلحتهم السيوف الطويلة المعتدلة ذات الحدين والفئوس الحادة، والرماح المستطيلة، والدبابيس الثقيلة في رءوسها حسك الحديد، والجند مؤلف من المشاة والفرسان، أما الفرسان فإنهم قليلون وهم وحدهم يرمون النبال.» وكان رودريك يتكلم باهتمام، وعبد الرحمن وهانئ يصغيان لكل كلمة يقولها، فلما بلغ إلى هنا ابتسم هانئ والتفت إلى عبد الرحمن وقال: «نحن بلا ريب غالبون؛ لأن فرساننا كثيرون وقد عرفت بسالتهم وخبرت مهارتهم، وفيهم الرماة وحملة السيوف والفارس العربي يفوق ثلاثة من الفرسان الإفرنج، ولأن مشاتنا فيهم الرماحة والرماة، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» والتفت عبد الرحمن إلى رودريك فرآه يتحفز للنهوض، فقال له: «وهل عندك خبر آخر؟» قال: «كلا يا مولاي ولكنني عائد إلى معسكر أود بأمر السيدة سالمة فهل من رسالة؟» قال عبد الرحمن: «هل أمرتك بالرجوع؟» قال: «نعم لعلها تطلع على أمر يهمكم من هذا القبيل فتبعثني به.» فقال عبد الرحمن: «بلغها سلامنا وقل لها إننا حافظون لها هذا الفضل.» فنهض رودريك واستأذن وخرج، ثم خرج الترجمان ومكث عبد الرحمن وهانئ برهة يتداولان في أمر الجيش، فقررا الإسراع في الهجوم ما أمكن قبل أن يستعد الإفرنج للدفاع وفي اليوم التالي بعد صلاة الفجر نفخ في النفير فاجتمعت جيوش المسلمين، فجعل عبد الرحمن المشاة في الوسط والفرسان في الجناحين، وجمع الأمراء على اختلاف قبائلهم، فجاءوا على خيولهم وعلى رءوسهم العمائم مكان الخوذ وقد تقلدوا السيوف، فوقف عبد الرحمن أمامهم موقف الخطيب وقال: «اعلموا أيها الأمراء أننا قطعنا أكيتانيا كلها والظفر حليفنا، ولما يئس عدونا من الفوز استنجد بعدوه صاحب أوستراسيا وقد جاءنا بجنده وكفانا مئونة الذهاب إليه وهذا معسكره وفيه كل قواته، والذي نصرنا على صاحب أكيتانيا سينصرنا عليه، وقد علمنا أنه أضعف منا عددًا وعدة والنصر موقوف على الصبر، فاصبروا وتكاتفوا ينصركم الله، فتفتحون بلادًا طالما تشوق المسلمون لفتحها، ويتم على يدكم ما وعد الله نبيه من فتح العالم، فيكون لكم الفخر ويخلد لكم الذكر مدى الدهر، وأنا واثق من أنكم فاعلون بإذن الله، والله مع الصابرين.» ولما فرغ من كلامه تقدم هانئ على أدهمه وعلى وجهه أمارات البشر وقال وهو يبتسم: «إن هذا اليوم يوم الموعد العظيم سنناله بالصبر والجلد، يكفينا سعادة أننا وقفنا إلى أمر طالما تحسر أسلافنا لعدم الوصول إليه وسيحسدنا عليه الذين سيخلفوننا ويتمنون لو شاركونا فيه بدمائهم وأعناقهم، وسترونني وأنا أضعفكم عزيمة وأقلكم بسالة باذلًا نفسي في سبيل الله، فإذا فزنا فتحنا عالمًا جديدًا وإذا استشهدنا في الجهاد، فذلك خير لنا عند الله.» قال ذلك والعرق يتصبب من تحت عمامته والحماس باد في كل جارحة من جوارحه. ثم قال عبد الرحمن: «فعليكم أيها الأمراء أن تستحثوا رجالكم وتوصوهم بالصبر والثبات، وأخبروهم بالفخر الذي سينالونه بحد سيوفهم فضلًا عن الغنائم فإنها أضعاف ما نالوه حتى الآن.» ثم تلا من آيات القرآن ما يزيدهم حماسًا وشجاعة، فتقدم كبير أمراء البرابرة وقد تحمس خصوصًا بعد أن سمع بكثرة الغنائم وقال: «لا يخفى على مولانا الأمير أن جند البربر من أشد جنود المسلمين بطشًا وأكثرهم ثباتًا في ساحة الحرب، وكلهم من الرماة الماهرين فاجعلوهم في المقدمة.» فأراد عبد الرحمن تشجيعهم فقال: «نفعل ذلك.» وأمر أن يتقدم البربر بأقواسهم، وبعدهم العرب والفرسان في الجناحين. ••• وكان شارل من الجهة الثانية يتأهب لمهاجمة المسلمين، والمخابرات جارية بينه وبين أود، في كيفية التعاون على ذلك، ولكنه لم يكن يتوقع هذه السرعة فلما أخبرته الطلائع باصطفاف المسلمين للحرب رتب جنوده صفوفًا متلاصقة بشكل الكتائب، فأصبحوا كأنهم سور من الرجال وأكثرهم من الجنود المحنكة، وقد حاربوا تحت راية شارل غير مرة، فوقفوا موقف الدفاع، والرماح ناتئة من بينهم صفوفًا بعضها فوق بعض لتمنع العرب من اختراق ذلك السور المتين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/77/
الحرب
قف معي هنيهة قبل الهجوم، وانظر إلى ذينك الجيشين وهما يختلفان جنسًا ولغة ودينًا، ويتباينان مطعمًا ومشربًا وملبسًا ويتباعدان خلقًا وأدبًا، اجتمع أحدهما من أقاصي آسيا وأفريقيا من أمم شتى لا يجمعهم غير الإسلام إلى بلاد لم يطئوها من قبل، وإقليم لم يتعودوا برده ومطره، وقد رأوا أمامهم رجالًا دروعهم من الجلود وعلى رءوسهم خوذات من الجلد وراياتهم مستطيلة وعليها شارات النصرانية، وجاء الآخرون من شمال أوروبا وهم قبائل مختلفة اجتمعوا الآن لدفع عدو غريب جاءهم بدين جديد وشكل جديد، وقد دهشوا لغرابة ما بدا لهم من اصطفاف تلك العمائم المتراصة في تلك الساحة الرحبة كأنها بحر يتلاطم بالأمواج، تظهر من بينها رايات متشابهة عليها كتابة لا يستطيعون قراءتها، ولو تفصحت ما يجول في خواطر ذينك الجيشين لرأيتهما متضاغنين متشاحنين، يتضرع كل منهما إلى ربه أن ينصره على الآخر تأييدًا للحق، فإذا استعرضت الأسباب التي دعت إلى ذلك القتال لما رأيت سببًا غير الجشع الذي انفرد به الإنسان من دون سائر المخلوقات، فإننا لم نسمع بسرب من الحيوان يجتمع لقتال سرب آخر من نوعه، وإذا تنازع حيوانان فإنهما يتنازعان على لقمة، يلتمس كل منهما أن يسد بها جوعه، فلهما العذر في ذلك الخصام وأما الإنسان فإنه يقتل أخاه على شيء لا يعبر عنه بغير الوهم، بل هو لا يقدم على قتله إلا على شبع، وإنما يطلب وهما يعبر عنه بالسيادة أو الشهرة، وكلاهما لا تسدان جوعًا ولا ترويان عطشًا. طلعت شمس ذلك النهار وهو على تقديرهم يوم سبت من شهر أكتوبر عام ٧٣٢ للميلاد، فبدأ العرب بالهجوم وأمطروا الإفرنج بالنبال، وانقضوا عليهم بجيادهم انقضاض الصاعقة فتلقاهم هؤلاء بالثبات والحزم ولم يتزحزحوا عن أماكنهم، فانقضى النهار ولم يلتحم الفريقان إلا سطحيًّا وقد تقابلا وتناديا وتصايحا، ولكنهما لم يتفاهما؛ لأن كلًّا منهما يعد لغة الآخر رطانة وألغازًا وربما كان التفاهم أقرب فيما بين خيولهم مما بينهم، ولكنهم تعارفوا بالوجوه ولم ينفعهم التعارف؛ لأنه لم يزدهم إلا ضغينة وحقدًا، ثم افترقوا على أن يعيدوا الكرة في غد. رجع هانئ وهو منقبض النفس، وأمر فرسانه أن يعودوا إلى مضاربهم، وتحول بأدهمه مجانبًا الساحة ليطل عليها من أكمة، وإذا هو بفارس ملتف بعباءة قد ساق جواده نحوه فأمسك شكيمة الأدهم وتفرس فيه ولا تسل عن دهشته حين رأى مريم على ذلك الجواد فخفق قلبه وصاح فيها: «مريم؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟» فقالت: «لأشاهد حبيبي هانئًا يبدد الكتائب ويفل الجيوش …» فأحس عند سماعه قولها كأنها طعنته بحربة في صدره، وحمل كلامها محمل التوبيخ لرجوعه بلا طائل، وبدا التأثر على وجهه وأدركت مريم ذلك فاستدركت قائلة: «لقد رأيتك تصول صولة الأسد، ولكن الحرب سجال على أني كنت أتوقع النصر لكم لو لم تجعلوا أولئك البرابرة في مقدمة الجند، فهم لا يستطيعون اختراق صفوف الإفرنج ولن يستطيع اختراقها إلا الفرسان، فلو تقدمَتْ فرسانُك وأنت معهم لبددتم شملهم؛ لأن خيالة الإفرنج ضعيفة.» فرأى في قولها حكمة؛ لأنه كان يرى رأيها وقد هم بعرضه على عبد الرحمن، فابتسم ونظر إليها نظرة الحب والإعجاب وقال: «بورك فيك، فقد عهدت فيك لطف النساء وبسالة الرجال، ولكنني لم أكن أعرف فيك مهارة القواد إننا عاملون برأيك في غد بإذن الله وهو رأيي أيضًا، ولكننا قدمنا البرابرة مسايرة لهم، كما تعلمين حالنا معهم ولكن لماذا عرضت نفسك للنبال؟ لقد كنت أنا أجول في ساحة الوغى أتصورك في الخباء تتوقعين رجوعي ظافرًا، فلما رجعنا كما ترين انقبضت نفسي ولو رأيتك بجانبي لكانت النتيجة غير ذلك.» فأدركت أن علمه بوجودها يزيده بسالة ونشاطًا فقالت: «فموعدنا غدًا.» فقال: «لا لا تعرضي نفسك للخطر فإني أخاف عليك من الهواء، فكيف بالنبال؟» فقالت: «لعلي لا أخاف عليك من ذلك؟ ولكن هل إذا أصيب هانئ بسوء أبقى أنا؟ دعنا من هذا الآن، وإن غدًا لناظره قريب.» وكانا يتكلمان وفرساهما يسيران حتى أصبحا بجانب المعسكر فهمزت جوادها نحو الخباء وهي تقول: «أستودعك الله إلى الغد.» فما زال ينظر إليها وهي تسوق فرسها حتى توارت والظلام يتكاثف، فتحول حتى بلغ خيمة عبد الرحمن، وأطلعه على رأيه فوافقه عليه وبعث إلى الأمراء ففاوضهم في الأمر فوافقوه على هذا الرأي. قضى عبد الرحمن ليلته قلقًا وهو يقدر العواقب ويحسب المخاوف تجنبًا للفشل، وأزمع أخيرًا أنه إذا خشي على جنده من التقهقر طلب قائد الإفرنج للنزال، فإذا غلبه تشدد العرب وإذا غُلِب فالموت خير من الحياة، وأما هانئ فقد كان أوسع أملًا وأعظم ثقة بالنصر، مع أنه لم يكن يجهل شأنًا من شئون الجند يعرفه عبد الرحمن ولكنَّ للشبيبة آمالًا تسهل الصعاب. وأصبح الصباح فاجتمع المسلمون للصلاة وتلاوة آيات القرآن ورتبوا الجند، فجعلوا الفرسان في المقدمة والمشاة في الجناحين: البربر في الجناح الأيمن، والعرب في الجناح الأيسر، وعبد الرحمن وهانئ وسائر الحاشية في القلب، ومشت تلك الحامية نحو الإفرنج، وكانوا قد اصطفوا اصطفاف الأمس وفرسانهم في الجناحين، وأخذوا في رمي النبال على العرب بسرعة وكثرة حتى كادت تحجب أشعة الشمس، ولكن العرب ظلوا سائرين وهم لا يبالون حتى إذا دنوا من صفوف الإفرنج صاح هانئ في فرسانه، فأطلقوا الأعنة لخيولهم واستحثوها وهو على أدهمه في مقدمتهم وقد شرع سيفه، فلم يستطع الإفرنج الوقوف في وجه السيل فتضعضعوا وأمراؤهم يحرضونهم ويستحثونهم، والتحم الجيشان وقد رجحت كفة النصر للعرب، وهانئ يزداد حماسًا وبسالة حتى خيل له لما آنسه من ضعف الإفرنج وتقهقرهم أنه يطارد أغنامًا. وبينما هو في ذلك، إذ سمع صوتًا خرق أحشاءه واستلفت كل جوارحه، وقائلًا يقول: «لله درك أيها الأمير.» فعلم من غنة الصوت واللثغة أنه صوت مريم، فالتفت فرآها على جوادها وقد التفت بعباءتها واعتمت على رأسها فوق الخمار ولم يبقَ ظاهرًا من وجهها غير عينيها وحاجبيها وأنفها وفمها، وقد تجلت الحماسة في تينك العينين فأبرقتا، وأخرجت يمناها من العباءة وفيها سيف مسلول، وأخرجت يسارها وفيها درقة لطيفة من الجلد، وأغارت بجانب هانئ وخلفه والناس يفرون من بين يديها كأنها قضاء نازل، فأحس هانئ لما رآه في تلك الحال أن قوته تضاعفت وأيقن بالفوز، ولكنه خاف على مريم من نبل تصيبها في مقتل على أنه أصبح بعد ما شاهده من بشائر النصر لا يخشى خطرًا — والإنسان إذا سالمته الحوادث يظن أن الأقدار قد أبرمت معه عهدًا ألا ترميه بسوء — وظل هانئ هاجمًا وهو يستحث رجاله ويمنيهم بالظفر وكأن أدهمه أحس بالنصر فتحمس وازداد صهيلًا وهو يشخر ويلهث والعرق يتصبب من عنقه على صدره وقد تحلب الرغاء من فمه وتساقط على العرق تحت ضرام صدره، وهانئ كلما سمع صهيل جواده ازداد حماسًا، ثم رأى أن يختم أسباب النصر بمبارزة شارل، فطلبه بين يديه فلم يجده فجعل يتلفت للبحث عنه وهو يمتاز عن سائر الجند بزيه ورايته والصليب على خوذته، فلمحه عن بعد كأنه بجانب الأمير عبد الرحمن، فأراد أن يحول شكيمة الأدهم إلى هناك فسمع مريم تصيح فيه: «احذر أيها الأمير! احذر! التفِتْ!» فالتفتَ وهو يحسبها تحذره من فارس يحاول اغتياله من الخلف، فلم يرَ أحدًا غير بعض العبيد أو الخدم من سعاة العرب الذين يطوفون ساحة القتال في أثناء المعركة، لالتقاط النبال المتساقطة وإعطائها إلى الرماة، أو لإسعاف فارس سقط سيفه أو قوسه يلتقطونه له، وقد تعودوا المرور بين قوائم الخيل مرور السهام فالتفت هانئ إلى مريم ليستطلع سبب ندائها، فرآها تسوق جوادها في أثر أحد أولئك السعاة وهو يعدو أمامها وفي يده خنجر يقطر دمًا، وما عتمت أن أدركته خارج المعركة فأطارت رأسه بحسامها فوقع يتخبط في دمه، ورجعت وهانئ مندهش مما يراه فسمعها تقول له: «تحول عن جوادك فإنه مقتول، وخذ هذا الجواد.» قالت ذلك وهي تتحول عن جوادها. فلم يفهم هانئ قصدها، ولكنه التفت إلى فرسه فرأى الدم ينسكب من أحشائه انسكاب الماء من القربة، فانقبضت نفسه فتحول عنه، وجاءه أحد فرسانه بفرس ركبه وأشار إلى مريم أن تعود إلى فرسها وعادت وهي تقول: «قبح الله ذلك الأحول فقد تخلصنا منه.» ففهم هانئ أن الأحول تزيا بزي السعاة واغتال الجواد، ثم التفت هانئ إلى الأدهم فرآه قد سقط فأسف على موته أسفًا شديدًا وتشاءم من سقوطه، على أن أمله في النصر أنساه الجواد فعاد إلى الهجوم لئلا يضعف رجاله. أما عبد الرحمن فكان يراقب الجند من القلب، فلما رأى تغلب الفرسان انشرح صدره وأخذ يتنقل بفرسه على أمراء القبائل يستحثهم ويحرضهم ويبشرهم ويمنيهم وخصوصًا قبائل البربر، لعلمه بشدتهم وشجاعتهم، إذا هجموا لا يقف في طريقهم سور ولا خندق ولا سيل. وكان شارل قد أسر في ضميره مثل ما أسره عبد الرحمن، فلما رأى ضعف جنده، وقد مالت الشمس إلى الأصيل، أخذ يبحث عن أمير جند العرب ليبارزه، فلما رآه عبد الرحمن عرفه من الراية التي كانت إلى جانبه فأقبل شارل على جواده كأنه جبل، وعليه درع من الفولاذ بشكل الحراشف المتراكمة تغطي صدره وكتفيه وذراعيه، وتسترسل على فخديه ومقدم ساقيه إلى المقدمين حتى الركابين وعلى رأسه خوذة في قمتها صليب، وقد استرسل من جانبي الخوذة وقفاها نسيج من زرد الفولاذ يغطي خديه وقفاه، وعلى صدر جواده غطاء من الحديد بشكل الدرع معلق بمقدم السرج، وقد رفع بيمناه دبوسًا من حديد على شكل الصليب، وأمسك بيسراه راية عليها رسم الصليب رسم السيد المسيح مصلوبًا وقد أسند قناة الراية إلى الركاب الأيسر. وأما عبد الرحمن فكانت خوذته العمامة مثل سائر العرب، وهي مع خفتها ولينها تقي الرأس كما تقيه الخوذة، وعلى صدره الدرع تحت العباءة وقد تقلد السيف والخنجر، وكان بالإجمال أخف حملًا وأسرع حركة من شارل وقلما كان يختلف في زيه ومظهره عن سائر فرسانه أما شارل فقد كان يمتاز عنهم بخوذته ودرعه ورايته وجواده، فعرفه عبد الرحمن عن بعد فصاح فيه صيحة أجفل لها جواده، وأغار عليه وسيفه مسلول بيده، فتلقى شارل الضربة بدبوسه وأخلى نفسه منها وتقهقر لا عن فرار، فتبعه عبد الرحمن ثم خشي أن يكون في ذلك التقهقر مكيدة، فتراجع على أن يتأهب لطعنه إذا عاد إليه، وإذا هو بالصياح قد علا في الجناح الأيمن من معسكره بين البرابرة وعلت الضوضاء، وهم يصيحون: «ذهبت غنائمنا ضاعت جهودنا هباء.» فالتفت فرآهم يتقهقرون ويتحولون إلى الوراء فرسانًا ومشاة، ورأى جيش أود هاجمًا على مخازن الغنائم في الخيام فاستعاذ بالله وجعل يصيح في البرابرة أن يثبتوا في مواقفهم وأن غنائمهم لا تغني عنهم شيئًا، فلم يلتفت أحد إلى قوله، وبعد أن كان جند العرب فائزًا تخاذل واغتنم الإفرنج فرصة ذلك التخاذل فأعادوا الكرة، ولولا هانئ وفرسانه لانكسر العرب شر كسرة. ••• ولكن هانئًا لما علم بما أصاب البرابرة، بذل جهده في تثبيت رجاله ومريم معه، وقد نزعت العمامة والخمار عن رأسها وألقت العباءة عنها وظهرت بثوبها النسائي الأسود، وقد استرسل شعرها على كتفيها وخديها وهجمت والسيف مشهر بيدها، وقد انحسر كمها عن زندها وهي تقول: «عار على العرب أن يفروا كما فر البربر إن هؤلاء يطلبون الغنائم، وأما أنتم فتطلبون الجهاد وغنيمتكم الفخر والنصر والحسنى في الدنيا والآخرة.» وكان الفرسان يحسبونها رجلًا، فلما تبينوا أنها فتاة وشاهدوا جمالها وهيبتها مع تلك البسالة والغيرة، خيل لهم أنها ملاك نزل من السماء لنصرتهم، فتحمسوا وثبتوا في هجومهم، وصمموا على التفاني تحقيقًا لندائها ونداء هانئ، ولكن الظلام فصل بين الجيشين فنفخ في الأبواق فتراجع كل منهما إلى معسكره.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/78/
بعد المعركة
فلما تراجع الجيشان تحول هانئ إلى مكان عبد الرحمن فلم يجده، فسأل عنه فلم ينبئه أحد بخبره، فأركض فرسه للبحث عنه هنا وهناك فلم يقف له على أثر، فأمر فرسانه بالرجوع إلى أماكنهم وترجل هو ومريم عن فرسيهما وجعلا يطوفان ميدان المعركة يتفحصان القتلى على نور الشفق، ثم طلع القمر فأضاء تلك البقعة المغطاة بجثث الناس وفيهم الميت والجريح والعاجز، وبينهم الأفراس في نحو ذلك بين صهيل وشخير وأنين وزفير، فتفقدا كل مكان فلم يجدا عبد الرحمن، وإذا هما بصهيل يشبه صهيل فرسه عن بعد فأجفلا واستبشرا، فالتفتا إلى أطراف تلك الساحة، فرأيا في أحد جوانبها مما يلي الجنوب فرسًا واقفًا وهو يصهل ويفحص الأرض، فصاح هانئ: «هذا فرس الأمير.» وأسرع إليه ومريم تتبعه حتى وصل إلى الجواد فرآه واقفًا وأمامه شبح ملقى، عرفا أنه عبد الرحمن، فأسرع هانئ إلى يده يجسها فإذا هو جثة هامدة، وقد استلقى على ظهره وبسط ذراعيه وعيناه شاخصتان نحو الشرق كأنهما تستقبلان نور القمر عند طلوعه، وشاهدا سهمًا مغروسًا في عنقه فعلما أنه سبب وفاته، فجثا هانئ عند رأسه وصاح: «وا أسفاه عليك يا أميري ووالدي ويا أخي ويا نصيري، بل يا نصير المسلمين، ولكنك فزت بجنات النعيم؛ لأنك قتلت مجاهدًا فعسى أن ألحق بك عاجلًا.» وكانت مريم واقفة تنظر إلى تلك الجثة وتأسف لقتل ذلك القائد، لكنها كانت تتعزى ببقاء هانئ حيًّا وترجو له النصر، فإذا فاز بالفتح أصبح أكبر قواد ذلك الجند، وقد نفر سمعها من تمنيه اللحاق عاجلًا بعبد الرحمن، فقالت: «دعنا من الندب فإنه يليق بالنساء، وهلم بنا إلى المعسكر ندبر شئون الجند قبل الفشل، وإذا فزنا في الغد — ونحن الفائزون إن شاء الله — ففي ذلك تعزية عن كل خسارة.» فاستصوب هانئ قولها وقال: «فلا بد لنا من دفنه.» قالت: «متى وصلنا إلى المعسكر أرسلنا من يأتي بالجثة ثم تصلون عليها وتدفنونها.» قالت ذلك ومشت وهي لا تزال مسترسلة الشعر مكشوفة الذراعين لا تبالي بما في صفاء ذلك الليل من برد الخريف، ومشى هانئ والسيف يجر وراءه وقلبه في شغل تتنازعه عوامل الفشل والأسف والأمل، وتظلله غياهب الحب والوجد، ومريم تسير إلى جانبه وهي في مثل حاله، وقد وليا وجهيهما نحو المعسكر وساحة المعركة إلى يمينهما ومعسكر أود إلى يسارهما وليس في تلك الساحة أنيس، ولا يسمعان فيها غير الأنين والزفير، وربما شاهدا بعض العبيد يبحثون في الجثث يلتقطون ما بينها من سلاح أو آنية أو حلي، ولاحت من هانئ لفتة إلى جثة بين يديه عليها ملابس الإفرنج كاد يتعثر بها فأراد أن يعرج عنها فرأى في وجهها شيئًا يعرفه، فتفرس فيها فإذا هي جثة رودريك، فبغت وقال: «ألا تعرفين هذا الوجه يا مريم؟» فنظرت إليه وقالت: «كلا.» قال: «هذا رودريك حفيد حسان، وكان قد حمل إلينا بالأمس رسالة من والدتك أنبأتنا فيها بأمور كثيرة عن أحوال هذا الجند ساعدتنا على حربهم اليوم، وأخبرنا أنها عند أود في خير وإكرام، ثم عاد مسرعًا إليها لعلها تحتاج إليه في مهمة أخرى، فما الذي جاء به إلى هنا يا ترى حتى قتل؟» فصاحت مريم: «أرى في يده شيئًا كالكتاب أظنه رسالة من والدتي.» قالت ذلك ومدت يدها لإخراج الكتاب من قبضته، فلم تستطع كأنه قابض عليه بقوة، فارتعشت جوارحها؛ لأنها تصورت الرجل حيًّا، فتقدم هانئ ونزع الكتاب بعنف وهو يقول: «يظهر أنه مات منذ هذا الصباح.» وناول الكتاب لمريم وهو لفافة من جلد فصاحت: «رسالة! رسالة من والدتي فلنقرأها!» إلى الأمير عبد الرحمن سلام — أما بعد — فإني أكتب هذا الكتاب إليك عند الفجر والناس نيام، وقد بت بالأمس قريرة العين بما شاهدته من شجاعة العرب وتجددت آمالي بالنصر، ثم بلغني تدبير دبرته تلك المرأة المسماة ميمونة إذا وفقت إلى إتمامه كانت العاقبة وخيمة — لا سمح الله — وذلك أنها اجتمعت في هذا الليل بوالدها وأخبرته بما عليه رجال البربر من ضعف الإسلام والتعلق بالغنائم، وأشارت عليه إذا نشبت الحرب في هذا اليوم وخشي تقهقر الإفرنج أن يبعث بشرذمة من رجاله يسطون على مستودعات الغنائم في معسكركم، وأن يبعث أناسًا عليهم ملابس العرب يصيحون في جندكم، أن الغنائم قد أخذت، وسيتولى ذلك عدلان البربري الأحول؛ لأنه يستطيع التنكر في مظهر عربي، وتكفل — قبحه الله — بقتل أدهم الأمير هانئ لتضعف الفرسان وهم أقوى جنودكم علمت بهذا التدبير من الشاب رودريك وسأرسل هذا الكتاب معه، ولكني أتوجس خيفة عليه من عدلان لئلا يفعل به كما فعل بجده، أو ربما أصابه نبل في أثناء ذهابه، ولا حيلة لي في تلافي ذلك إذ لا بد من إبلاغ هذا التدبير إليكم بالوسائل الممكنة فإذا أدرككم كتابي هذا في حينه ونفعكم ما فيه فإني ضامنة لكم النصر بإذن الله، وإلا فإني أخاف عليكم العاقبة، وإذا أخفق هذا المسعى — لا سمح الله — وقدر النصر للإفرنج فلن تقوم للعرب قائمة في هذه البلاد، أما أنا فقد أتممت المهمة التي انتدبت لها، ولا حاجة لأن أوصيك بمريم فإنها في رعايتك وإن كنت لا أرضى لها البقاء إذا انكسر العرب، ولا هي ترضاه لنفسها، وإذا فشل العرب ولم يقطعوا نهر لوار فلا قيمة للحياة، ولذلك فلا تطلبوني فإنكم لن تجدوني في أي مكان والملتقى في الدار الآخرة فإنها تجمع شتات المحبين والسلام. وما أتت مريم على آخر الكتاب حتى وقف شعرها وارتعشت أناملها وغشى الدمع عينيها والتفتت إلى هانئ، فإذا هو مطرق يفكر، ثم رفع بصره إليها وقال: «قد علمت الآن سرَّ الانقلاب الذي أصاب جندنا بعد أن كدنا نهزم الأعداء.» فقالت: «لعن الله لمباجة وعدلان خادمها إذ لولاهما لكنا الآن في معسكر شارل وفي الصباح نقطع ذلك النهر.» فقال: «العيب يا مريم مرجعه إلى جندنا فإنه متفرق الكلمة متباين الأغراض، وخصوصًا أولئك البربر فإنهم لا يفهمون من الحرب غير السلب والنهب، ولولا دراية الأمير عبد الرحمن — رحمه الله — وحسن أسلوبه وسعة صدره ما استطعنا الوصول إلى هنا، وقد مات عبد الرحمن الآن ولا نعلم ما يصير إليه أمرنا بعد.» فقالت: «نعم إن مقتل هذا الأمير خسارة كبرى، ولكننا لا ينبغي أن ننوء تحت هذا العبء، وإني أقدم نفسي لما تنتدبني إليه في هذه الحرب.» قال: «يكفي منك تحريض الأمراء على الاتحاد والصبر، فقد رأيت من تأثير أقوالك في وقعة اليوم ما أدهشني.» قالت: «لك عليَّ ذلك؛ لأني إن لم يفز هذا الجند فلن يكون لي بقاء تلك هي وصية والدتي في هذا الكتاب.» فقال: «وأنا هل أبقى وحدي؟ ولكني أرجو ألا نتعرض لهذه الأخطار، هلم بنا إلى المعسكر.» قال ذلك ومشى، فمشت مريم وهي لا تزال حاسرة الرأس مسترسلة الشعر لا تنتبه لنفسها حتى إذا اقتربا من المعسكر، لم يسمعا جعير الجمال ولا صهيل الخيل، ولا رأيا نارًا ولا حركة ولا شيئًا يدل على الجند مع أن الخيام كانت لا تزال باقية كما هي، فأسرع إلى فسطاط الأمير الكبير فإذا هو خالٍ خاوٍ، فخرجا منه إلى ما يجاوره وطلبا خيمة الأمير هانئ فوجداها خالية، وبالجملة فقد كان معسكر العرب كأنه خيام منصوبة في الصحراء لا إنسان فيها ولا دابة حتى ولا حشرة. فقضيا برهة يتمشيان وهما صامتان من الدهشة والاستغراب ثم تكلم هانئ قائلًا: «ما الذي أراه؟ أين ذهب الجند؟ أين الخدم؟ أتظنينهم ذهبوا نحو الأخبية ليجعلوا هذا النهر الصغير ترسًا لهم في الدفاع؟» قالت: «ربما فعلوا ذلك هل نذهب إلى الأخبية؟» قال: «نذهب» وخرجا من بين الخيام كأنهما خارجان من مكان خرب حتى عبرا النهر الصغير إلى الأخبية فلم يجدا فيها أنيسًا، فقال هانئ: «إذا فرضنا أن البربر جبنوا وفروا، فأين العرب؟ بل أين النساء والأولاد؟ ما أسرع نهوضهم وفرارهم يظهر أن وجود عبد الرحمن وحده كان جامعًا لهم فلما مات، ماتت قلوبهم.» ثم أطرق حينًا لا يتكلم، وقلبه يكاد ينقطع حنقًا ويأسًا، لا يدري ماذا يقول، وقد حدثته نفسه بأمور كثيرة أكبر أن يذكرها، وكانت مريم تسير بجانبه لا تقول شيئًا، وهي تكتم أمرًا أجلت التصريح به حتى تسمع رأيه فيه، وبعد المسير مدة على مثل هذه الصورة بين الأخبية والخيام وكل منهما غارق في أفكاره يتعثر بالأطناب والأوتاد، قال هانئ: «يجب علينا قبل كل شيء أن نواري جثة أميرنا — رحمه الله — لئلا تذهب فريسة العقبان أو يمثل بها الأعداء.» قال ذلك وتحولا نحو ساحة المعركة فعرفا مكان الجثة من صهيل الجواد، فتعاونا في حملها على الفرس إلى حفرة في مكان منفرد، وضعاها فيه وأهالا عليها التراب ولم ينبس أحد منهما ببنت شفة، فكان لذلك الدفن على بساطته هيبة ووقار بما كان يضطرم في قلبيهما من نيران الحزن والأسف المريرين، فضلًا عما كان يضطرم من نيران الحب ولواعج الغرام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/61641316/
شارل وعبد الرحمن
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «شارل وعبد الرحمن» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية ذلك العصر الذي بلغت فيه الفتوحات العربية والإسلامية بلاد فرنسا، وضفاف نهر لورا بجوار تورس، كما تتناول ما واكب هذه الفتوحات من أحداث ووقائع تاريخية، وشخصيات عربية وأجنبية لعبت دوراً مهماً في هذه المرحلة التاريخية، كشخصية شارل مارتل أو «قارلة» كما كان يسميه العرب، حيث كان رئيس البلاط ودوق الفرنكيين ومؤسس الإمبراطورية الكارولينجية، واستطاع أن يتصدى للفاتحين العرب والمسلمين عند تورس وردهم عن أوروبا في معركة بلاط الشهداء ٧٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/61641316/79/
اللقاء الدائم
فرغا من الدفن وهما صامتان، وكان القمر قد تكبد السماء وأصبح نوره مثل نور النهار فقالت مريم: «وما العمل يا هانئ؟» فتنهد هانئ وقال: «لو كان معي خمسون رجلًا لهاجمت بهم هذين المعسكرين، على أن وحدتي لا تمنعني من الهجوم ولو كان فيه فنائي، ولكنني أخاف على مريم إذا أنا قتلت أن يلحق بها عار أو إهانة.» فالتفتت إليه وقالت: «وهل تبقى مريم بعدك؟ ذلك لا يكون وقد قرأت وصية والدتي (وتنهدت) فإنها تحبب إليَّ اللقاء بها في الدار الآخرة، ولا أشك في أنها هناك الآن، فإذا كنت تحب مريم وتريد أن تطمئن على حياتها وعزها، فاسمح لي أن ألحق بوالدتي إذ لا فائدة من بقائي، وأما أنت فإن الإسلام يحتاج إليك والجهاد يفتقر إلى سيفك وذراعك.» فلما سمع كلامها هاج غرامه حتى أنساه موقفه فقال: «إن الإسلام مفتقر إلى مثلك أكثر من افتقاره إلى مثلي إنك ابنة الملكين فقد حزت فضائل الجنسين والله لو صبر أولئك الجبناء وكنت أنت رائدهم في حومة الوغى لفازوا وقطعنا نهر لوار آه من هذا النهر لقد امتنع علينا عبوره فامتنع اجتماعنا أتطيعيني يا مريم؟» قالت: «إني أطوع لك من بنانك إلا إذا أردت بقائي بعدك.» قال: «لقد فشل جندنا، وفر من بقي منا حيًّا وفي الفرار بقاء ترتاح له نفس الجبان، وقد اجتمعنا الآن ولا رقيب علينا وكل منا يريد البقاء، ولا بقاء إلا بالفرار، ونفسي تأبى ذلك، ولا يخفى عليك يا منيتي أن فؤادينا قد ذابا تطلعًا إلى اليوم الذي نقطع فيه ذلك النهر؛ لأن في قطعه اجتماعنا فما الذي يمنعنا من الاجتماع فيه الآن؟» فقطعت كلامه قائلة: «في جوفه؟» فقال: «بل في قاعه وإذا كنا معًا فلا أبالي أين نكون ولا كيف نكون.» قال ذلك ووثب حتى ركب جواد عبد الرحمن وأمسك بيدها فأردفها وراءه وأركض الفرس وهي ممسكة بعباءته، واتجها نحو نهر لوار خارج مدينة تورس حتى وصلا إلى ضفة من الرمال تنكسر عليها مياه النهر بعد تموج ضعيف، وسطح النهر يتلألأ في ضوء القمر ويتلون، فترجلا عن الفرس وأطلقا له العنان فعاد إلى المعسكر، وظلا هناك منفردين والجو هادئ ساكن لا يسمع فيه غير خرير الماء ونقيق الضفادع، فخلعا نعالهما ومشيا على الرمل المرطب بالماء، ونزع هانئ عمامته وعباءته فأصبح حاسر الرأس والذراعين مثل مريم، وله ضفيرة كانت العمامة تغطيها فاسترسلت مثل ضفائر مريم، فمشيا على الرمل حتى أصبح تكسر المياه يصيب كعبيهما فوقفا هناك ومد هانئ يديه إلى مريم، قبض بهما على يمناها فأحس ببرودتها ولينها، ولم يشعر بقشعريرتها لانشغاله بقشعريرته، فضغط على يدها بكلتا يديه فارتعدت فرائصها جميعًا، ولم تعد مريم تستطيع الوقوف لاصطكاك ركبتيها، فأسندت رأسها بيسراها على كتف هانئ، فأسكرتها رائحة عرقه كما أسكرته رائحة طيبها ولمس شعرها وجهه واشتبك بشعر لحيته، فأحس بقشعريرة دبت في جسمه دبيب النمل بين اللحم والعظم وخشي لشدة تأثره أن تخونه قدماه فيقع فأبقى يسراه قابضة على يمناها، وأدار يمناه إلى كتفها وتساندا وهما صامتان والهوى يتكلم، ثم رفعت رأسها عن كتفه ونظرت في وجهه، وعيناها ذابلتان من شدة التأثر وقد غشيهما الدمع وقالت بصوت مختنق: «أتحبني يا هانئ؟» فأعاد يده الأخرى فأمسك يمناها بيديه وأدناها إلى صدره، وقد غلب عليه الحب ونسي مواقف القتال وقال: «نعم أحبك! أحبك!» قالت: «آه، ما ألطف الحب وما ألذه!» قال: «لا لذة بغير الاجتماع هل في الدنيا اثنان يتمتعان بألذ مما نحن فيه الآن؟ ضميني يا مريم يا حبيبتي ضميني إلى صدرك ألا تشعرين بخفقان قلبي؟ إني أشعر بدقات قلبك.» قال ذلك وإحدى يديه فوق كتفها والأخرى قابضة على يدها. أما هي فرفعت بصرها إلى السماء فرأت القمر مشرقًا إشراقًا باهرًا، وعلى وجهه رسم يشبه رأسين متقاربين كأنهما حبيبان يتعانقان فقالت: «إني أرى صورتنا قد ارتسمت على وجه القمر انظر يا هانئ، ألا ترى وجهين مثل وجهينا؟» قال: «لا أرى في الدنيا من يشبهنا، ولا من حال تشبه حالنا.» وكانت مريم قد جفت دموعها فلما سمعت قوله تذكرت حالها فقالت وهي تغص بريقها: «إن حالنا عجيبة يا هانئ تمنينا الاجتماع وسعينا إليه فامتنع علينا، فلما التقينا ساءنا الاجتماع خوفًا من الفراق.» فأجابها وبصره شاخص في وجهها قائلًا: «إني لا أرى ما يشفي غليلي بعد طول التحسر إلا أن نجتمع اجتماعًا متواصلًا لا يتخلله فراق ولا يكون ذلك إلا بالموت معًا، هل تموتين معي يا مريم؟» فالتفتت إليه ويدها ملتفة بيده إلى الكتف وعيناها ذابلتان ولو لم تتكلم هي لتكلمتا، ثم قالت: «الموت معك حياة يا حبيبي يا حبيبي آه ما ألذ هذا اللفظ، وكم كنت أتلذذ بتكراره في خلوتي وأتحسر على سماعه من فمك.» قال: «صدقت ولا يعرف لذة هذا اللفظ غير المحبين، وقد كفانا من حبنا المتبادل التمتع بهذا اللفظ؛ لأننا مقيدان بعهود لا تجيز لنا ما وراءه، ولو كتب لنا النصر وقطعنا هذا النهر لكان اجتماعنا أطول وملذاتنا أكبر على أننا لم نكن مع ذلك نأمن الفراق ونكد العيش، والدنيا تأتي بالعجب العجاب أما الآن فإذا متنا متعانقين فكأننا عشنا الدهر معًا ولم ينغص عيشنا فراق.» قالت: «عجل إذن ولا تطل بنا الوقوف لئلا يحدث ما يحرمنا هذه السعادة.» قالت ذلك ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت المحفظة ونظرت إليها لحظة ثم قبلتها وضمتها إلى صدرها وبكت وهي تقول: «أماه يا أماه وا لهفي عليك ما كان أشقاك قضيت العمر في التكتم والتستر والحذر ثم ذهبت قتيلة ذلك السر محافظة على عهد حبيبك وإكرامًا لوصيته، ولو عرفت ذلك من قبل لاستغربت منك هذا التعلق وأما الآن فقد ذقت طعم الحب فلا ألومك، بل أنا فاعلة مثل فعلك وها أنا ذا أتبع وصيتك.» ثم أعادت المحفظة إلى جيبها وهي تقول: «هذا سرك ذاهب معنا إلى غياهب الأبدية.» وكان هانئ يسمع كلامها وهو يرقب حركات شفتيها وعينيها ويشاركها بكل جارحة من جوارحه، فلما فرغت من قولها أشار بعينيه إلى جسمها الغض وقال لها: «أليس غبنًا أن تذهب هذه الأعضاء طعامًا لأسماك البحر؟» فقطعت كلامه قائلة: «ذلك خير لها من أن يفترسها وحوش البر الذين يسمون أنفسهم بنى الإنسان عجل يا هانئ قبل أن يغلب علينا حب البقاء.» فمد يديه ومدت يديها، وتخاصرا من جانب وتماسكا من الجانب الآخر ومشيا على الرمل حتى غرقت أقدامهما في الماء فأحسا ببرده وبانزلاق الرمل تحت الأخمصين، وكانا كلما انغمرا في الماء ازدادا تعانقًا وازدادا تجاذبًا حتى أصبحا جسمًا واحدًا، وغطسا في الماء وكل منهما يتلذذ بذكر اسم الآخر وبعد دقيقة بدا بعض الرأسين، والشعر سابح على سطح الماء، ثم غطسا إلى قاع النهر ولم يعد يعلم مصيرهما إلا الله. أما جيش الإفرنج فإنهم أصبحوا في اليوم التالي وهم يتوقعون هجوم العرب عليهم، فرأوا الأرض قفرًا والخيام خالية، فاستولوا على ما كان باقيًا فيها من الغنائم وكان ذلك آخر عهدهم بالعرب هناك على ما دونه التاريخ.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/0.2/
مراجع هذه الرواية
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان. العقد الفريد. تاريخ ابن الاثير. أبو الفداء. سير الملوك. معجم ياقوت. كتاب البلدان لليعقوبي. الأغاني لأبي الفرج. تاريخ المسعودي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/1/
في خان سمعان
كان المنصور قد بنى مدينة بغداد باسمه سنة ١٤٥ﻫ، وجعلها معقلًا له ولجنده ورجال دولته، وشيَّد في وسطها قصرًا له سمَّاه قصر الذهب وأقام بجانبه مسجدًا عُرف باسمه، كما أنشأ الأبنية فيما بقي من المدينة لأعمال حكومته، ولرجال خاصته، وأحاط المدينة بسورٍ مثلث الجدران، فتح فيه أربعة أبواب سمَّاها بأسماء الجهات التي تؤدي إليها؛ فسمَّى الشرقي الشمالي باب خراسان، والشمالي الغربي باب الشام، والشرقي الجنوبي باب البصرة، والغربي الجنوبي باب الكوفة. وأقطع رجالَه ما يحيط بالمدينة من الأرباض فابتنوا فيها القصور وعُرفت تلك الأرباض بأسمائهم. ولم يمضِ زمن حتى تكونت حول المدينة أحياء عُرفت بأسماء خاصة بها، أشهرها الحربية في الشمال، والكرخ في الجنوب. وقامت الأبنية شرق دجلة ونشأت هناك أحياء الشماسية والرصافة والمحرم وغيرها. وبنى خارج باب خراسان قصرًا كبيرًا عُرف بقصر الخلد، وجعل بينه وبين ذلك الباب ميدانًا كبيرًا يمتدُّ منه طريق يتجه نحو الشمال الشرقي إلى الجسر الأوسط القائم على دجلة، ثم يعرج شمالًا ثم شرقًا حتى يمر بين الرصافة والمحرم، ويُعرف بطريق خراسان. ويتخلل تلك الأحياءَ كثير من القصور والحدائق والأنهار (أو الترع) المتفرعة من دجلة إلى كل الجهات. وكان من بينها نهر يجري من دجلة شرقًا حتى يخترق الرصافة والشماسية، عُرف بنهر جعفر. وعلى جانبَي هذا النهر أو الترعة وراء الرصافة بساتين فيها الأغراس والأشجار وبعض الأبنية، وهناك بستان واقع على طريق خراسان من جهةٍ وعلى ذلك النهر من جهةٍ أخرى، اتخذه بعض الخمارين من أنباط السواد خانًا ينزل به القادمون إلى بغداد من الغرباء. وجعل فيه مما يلي الطريق بيتًا يبيع فيه الخمور والأنبذة ويصنع فيه الأطعمة لمن شاء من الغرباء أو البغداديين. وكان لبُعده عن العمارة ووقوعه على قارعة الطريق يقصده الراغبون في ترويح النفس أو تناول الخمر من طبقات العامة لرخص الأثمان وقرب التناول، ومن بعض الخاصة الراغبين في شرب الخمر خفيةً خشيةَ الرقيب أو فرارًا من العار. أما صاحب هذه الحانة فكان في حدود الستين، عركه الدهر، ولانت نفسه حتى كادت تسيل رقة. وقد عاصر ثلاثةً من خلفاء بني العباس، هم: المهدي، والهادي، والرشيد. وشهد كثيرًا من الأهوال آخرها نكبة البرامكة منذ ستة أعوام، ظل ثلاثة منها يشاهد جثة جعفر منصوبة على جسر بغداد. والخمارون يعتادون دماثة الخلق بما يعرض لهم من مخالطة الناس في أحوال سُكْرهم ولَهْوهم، ولاضطرارهم إلى مجاراتهم في طباعهم؛ فيهون عليهم احتمال الضيم والصبر على الأذى مرضاةً «لزبائنهم»؛ فلا عجب أن كان ذلك الخمار من ألْين الناس عريكةً وأطولهم بالًا وأكثرهم اطلاعًا على نقائص البشر وأكتمهم لأسرارهم. وكانت حرفته هذه تكاد تكون خاصةً بأهل الذمة من اليهود أو الأنباط سكان البلاد الأصليين؛ وذلك لتحريم شرب الخمر وبيعها على المسلمين. وكانت حانة ذلك النبطي غرفةً من ذلك البيت، في أرضها حصير عليه وسائد من الخيش محشوَّة بالقش، وفي جُدرانها كِوًى فيها دنان الأنبذة والخمور مما صُنع من العنب أو التمر أو التفاح أو غيرها من الثمار، وفوق الكِوَى رفوف عليها زجاجات أو أباريق وأقداح من الزجاج أو الخشب يكيل بها الخمر أو النبيذ، ومن بينها ما يسع رطلًا أو نصفه أو ربعه. وعُلق على صدر الغرفة بربط، وعود، ودف. ترغيبًا للمترددين عليه في أسباب السرور. ويغلب أن يكون الخمار رخيم الصوت يُحسن الضرب على بعض هذه الآلات أو كلها. وكان بعض الخمارين في بغداد يجعلون في حانتهم قينة رخيمة الصوت حسنة الصنعة جميلة الطلعة يشرب الطلاب على صوتها. ففي يومٍ من أيام سنة ١٩٣ﻫ، مضى النهار على ذلك الخمار دون أن يقصد حانتَه أحد؛ لبُعدها عن مركز المدينة. وكان أكثرُ ارتزاقه من المارَّة الغرباء، وهو يؤْثرهم على أهل المدينة لأنهم يجهلون الأسعار، ولا يميلون إلى المساومة كأهل البلد؛ فلا يبالي أحدهم أن يُؤديَ ثمن الرطل من النبيذ خمسة دراهم على حين أن ثمنه لا يزيد على درهمين. فلما انقضى النهار ولم يأتِه أحد أوقد في بعض جوانب البستان نارًا ليَشويَ سمكةً أعدَّها لعشائه. وفيما هو ينفخ في الوقود، والدخان يتصاعد على وجهه حتى يتخلل لحيته ويغشى عمامته، وقد استوفز وشمَّر قفطانه وشكَّه من أطرافه بزنارة. سمع صوتًا من قِبل باب الحانة يناديه: «يا معلم سمعان.» فخفق قلبه سرورًا وأسرع ليرى مُناديَه فوجده من العيارين، وهم كثيرون يومئذٍ في بغداد، ومعظمهم من أهل البطالة الذين يعيشون من الدعارة والنهب. وكان معه رفيق له، فلما رآهما استعاذ بالله، ولكنه كان قد تعوَّد الكظم في مثل هذا الموقف، وعلم ألا مفرَّ من استقبالهما حتى لا يُصيبه أذًى فتجلَّد وتَقدَّم باسمًا مُرحبًا. وكان العيار لابسًا خوذة من الخوص، وعلى صدره دراعة من الجلد المدبوغ عليها نقوش ملونة، وهو عاري الذراعين، قد علق بكتفه اليمين مخلاة فيها حصًى، وعلى حقويه سراويل من الخيش الثخين تكسوه إلى الركبتين، والمقلاع مُعلَّق بكوعه، وهو سلاح العيارين. وكان مكشوفَ الساقين حافيَ القدمين، يُمسك بإحدى يديه عصًا غليظة، وبالأخرى رغيفًا أكل بعضه وفي فمه لقمة يمضغها وهو يقول: «اسقِنا يا معلم.» فرحَّب به الخمار وعمد إلى رطل صبَّ فيه نبيذًا وأعطاه إياه، ثم نظر إلى رفيقه فإذا هو بملابس الجند، وهي الدراعة على ظهرها طراز الدولة «فسيكفيهم الله وهو السميع العليم»، وعلى رأسه قلنسوة مستطيلة مدعمة بالعيدان. وقد علق السيف بمنطقته فوق قباء أسود. فتوسم الخمار منه خيرًا لعلمه أن الجنود يؤدُّون ثمن ما يأخذونه إذا أخذوا رواتبهم. وطلب منه الجندي أن يُعطيه رطلًا؛ فبادر إلى إجابة طلبه ورحَّب به، فشرب الجندي واقفًا، ثم تجشَّأ ومشى متبخترًا. أما العيار فأخذ القدح وأدناه مِن فيه وهو يقول: «بورك فيك يا معلم سمعان، والله لأجعلنك عيارًا عندي متى صِرتُ عريفًا أو مقدمًا.» فقهقه الجندي وتَقدَّم إلى سمعان فوضع يده على كتفه، وقال وفي لهجته عُجْمة، لأنه فرغاني الأصل من أبناء الجنود الذين استقدمهم المنصور في أيامه: «وأنا أعاهدك إذا حدث الانقلاب القريب وأخذنا مخصصاتنا على أن أعطيك ثمن هذه الأرطال مضاعفًا. وأظنني مدينًا لك بشيءٍ من قبل، ولكن ما العمل؟ لا بد من الصبر!» فقطع العيار كلامه وقال: «وأنتم أيضًا تشكون القلة والفقر؟ ألستم من أصحاب الرواتب؟» قال: «صدقت يا صاحبي، إننا نأخذ رواتبنا ولكنها لا تفي بنفقاتنا ومَن نعول. وهل يقوم بالجندي غير الغنائم في الحرب أو …» وتوقف وأخذ يهمس حَذَرَ سامعٍ؛ فسبقه العيار وقال: «أو عند وقوع تغيير أو انقلاب في قصر الخلافة؛ إذ تنالون أجوركم أضعافًا مضاعفة، ناهيك بحق البيعة … طِب نفسًا فإن ذلك قريب.» فوضع الجندي يده على فم صاحبه يريد إسكاته حذرًا من الفضيحة. وكان سمعان يسمع كلامهما ولا يهمه مما يسمعه إلا ما يتوسم من ورائه استيفاء دينه؛ فلما رآهما يحاذران الكلام وهما بالباب تَقدَّم إليهما وقال: «تفضلا وادخلا.» وأشار إلى الحصير كأنه يدعوهما إلى الجلوس، فدخلا ومد العيار يده إلى البربط المعلق على الحائط فتناوله ودفعه إلى الخمار، ثم جلس وقال: «علمتُ أنك تُحسن الغناء والضرب على البربط لقَرابةٍ بينك وبين برصوما الزمَّار، فأسمِعنا.» فتناول سمعان البربط وهمَّ بإصلاحه وهو يقول: «يا ليتني كنت من أقارب برصوما؛ فإنه من المقربين إلى مولانا أمير المؤمنين يستمتع برفده وجوائزه.» فقال الجندي: «لو كنت تُحسن النفخ في المزمار لكنت أصبت مثل حظه، أو حظ إبراهيم الموصلي المغني، أو … ولكن اشكر الله على حالك؛ فإن التقرب من القصر لا يخلو من الخطر؛ فمهما تُصادف من نعيم فلن يكون خيرًا من نعيم البرامكة، وأنت تعلم مصيرهم!» فقطع العيار كلامه قائلًا: «أراك يا صاحبي من الفلاسفة ورجال الزهد، أمَّا أنا فأدخلني قصر الخلد واجعلني مغنيَ الخليفة أو زامره أو شاعره، ثم ليكن بعد ذلك ما يكون، أو اجعلني جنديًّا مثلك على الأقل؛ تأخذ أجرك وأنت قاعد، وإذا ذهبت في حربٍ عُدْت بالغنائم والأسلاب والسبايا من النساء الجميلات!» فابتدره قائلًا وهو يهز رأسه: «إذا عُدْت حيًّا!» فقال له العيار: «ولماذا لم تذهب في الحملة التي سار فيها أمير المؤمنين إلى سمرقند منذ بضعة أشهر لمحاربة رافع بن الليث، ألا تتوقع منها فوزًا؟» قال: «علم المستقبل عند الله، وليس لنا رأي في تجنيدنا، وإنما الأمر لقُوَّادنا. ولقد خرج الرشيد في هذه الحملة يشكو مرضًا وأناب عنه ابنه الأمين في بغداد. والأمين كريم الخلق جواد لا يُخشى بأسُه مثل أبيه. وهذا من حُسن حظكم أيضًا؛ لأني أرى كبيركم الحسن الهرش مقربًا من البلاط كأنه صار من رجال الدولة.» فقال العيار: «يظهر ذلك، ولكن حظنا لا يتم إلا …» وتلفت يمينًا وشمالًا، ثم واصل كلامه وقد خفض صوته فقال: «إلَّا متى صار الأمين خليفة؛ فقد تحسدني عندئذٍ على العيارة، كما أحسدك الآن على الجندية.» ثم حوَّل وجهه فجأةً نحو البستان وقال: «إني أشم سمكًا يُشوى.» وكان الخمار أثناء هذا الحديث قد انهمك في إصلاح البربط، والليل قد أسدل نقابه فظهرت النار الموقَدة والدخان يتصاعد عنها، فلما سمع العيارَ يذكر رائحة السمك المشوي توقف ووضع البربط من يده وصاح: «نسيت السمكة على النار.» ثم تَقدَّم نحو سراج من الخزف موضوع على مسرجة مُسمَّرة بالحائط، فأصلح فتيلتها بسبابته، وأخذ في إنارتها، فأتى بالقداحة والصوانة والعطبة أو الصوفانة، فوضع الصوفانة على طرف الصوانة، وضرب عليها بالقداحة فخرجت شرارة أشعلت الصوفانة، فأتى بعودٍ رأسه مغموس في الكبريت وأدناه من رأس الصوفانة فاشتعل الكبريت وأشعل العود، فقرَّبه من الفتيلة فأوقدها فأضاء السراج. واغتنم العيار فرصة اشتغال الخمار بعمله وأسرع إلى السمكة فتناولها من النار بيده لا يبالي حرارتها، وهرول إلى الجندي فوضعها على رغيف بين يديه وصاح بالخمار: «إليَّ بقدحين من النبيذ القطربلي.» فقال: «ليس عندي شيء من نبيذ قطربل، ولكنني أسقيكما نبيذًا مصنوعًا من الذوشاب البستاني مع العسل.» وجاءهما بخمر قوية مُظهرًا الترحيب بهما، بينما هو يستعيذ منهما وهما يضحكان لا يباليان، فلا يسعه إلا أن يشاركهما الضحك. وفيما هم كذلك سمعوا رجلًا ينادي في الطريق: «السمك الطري أربعة أرطال عند بيطار حيان.» وهي مناداتهم على السمك في ذلك العهد؛ فوثب العيار يقول: «لقد سنحت لنا الفرصة لنكافئك يا معلم سمعان.» ثم تناول حصاة من المخلاة وضعها في المقلاع، وخرج من باب الخمارة وقال: «أسرع والتقط السمك من الأرض.» فعلم سمعان أن العيار سيرمي ذلك البائع المسكين بالمقلاع، فأخذتْه الشفقة به، وأمسك العيار بيده فأوقفه عن الرمي، ثم تفرس في البائع وهو لا يكاد يراه في العتمة فوجده فقيرًا عاري الساقين والذراعين لا يستره غير ثوبٍ خَلِقٍ وعلى رأسه فوق العمامة طبق من القش ظهر فوقه السمك. فجذب العيار يده من يد الخمار وقال: «دعني أعوضك عن سمكتك سمكتين.» فقال: «أخاف أن تقتل الرجل، لا حاجة لي بالسمك.» فضحك العيار وقال: «لا تخف، إني أرمي السمك فقط ولا أمسُّ الرجل ولا طبقه، وسترى!» قال ذلك وأطلق الحجر من المقلاع فأصاب أعلى السمك فقط، فسقط بعضه والرجل ماشٍ لم يشعر. وللعيارين مهارة عظيمة في رمي الحجارة. وكان بيد السماك رغيف فقال العيار للخمار: «وأرمي لك الرغيف إذا شئت.» فوقعت كلمته في أذنَي البائع فالتفت إليه، وما كاد يراه حتى ذُعر ورمى الرغيف إلى الأرض وقال: «هذا هو الرغيف خذه ودعني.» ثم ولَّى هاربًا؛ فأشار العيار للخمار أن يأخذ السمكتين والرغيف، ففعل وهو يَعجب من مهارة رميه، ودخل ليَشويَ السمكتين وهو يدعو الله من قلبه عسى أن ينقذه من هذه الورطة. وكأن الله استجاب دعاءه، فما عتم أن سمع وقع حوافر دابة عند باب بستانه، فالتفت نحو الباب وعيناه تدمعان ويكاد الدخان يحجب بصره، فرأى رجلًا طويل القامة مع انحناءٍ قليل تدل هيئته على السَّكينة والوقار، وعلى رأسه عمامة سوداء كبيرة الحجم، وقد ارتدى جُبَّة طويلة تحتها ثوب عسلي اللون حوله زُنَّار مشدود، وهو لباس أهل الذمة في ذلك العصر، وقد شك في الزُّنَّار دواة من الفضة. وكان وجهه صبوحًا مع رقة ونحافة حتى كاد جلده يلصق بالعظم مع بروز الوجنتين، وعيناه سوداوان برَّاقتان تدلان على الذكاء، وأنفه كبير مُنحنٍ قليلًا، وله لحية كثيفة مسترسلة قد دب فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كَثَّين. ودخل الرجل يتوكأ على عكاز بيمينه وقد تأبَّط بالأخرى شيئًا تحت الجبة، فلما رآه الخمار أدرك أنه من وجهاء الصابئة أو أحد علمائهم، فاستغرب مجيئه إذ ليس للحانات نصيب من زيارة أمثال هذه الطبقة من الناس. وتنحَّى العيار والجندي للرجل بينما تَقدَّم الخمار وانحنى كأنه يسأله ما يريد، فقال الرجل بصوت خشن هادئ: «أليس هذا خان المعلم سمعان؟» فسُرَّ الخمار لاشتهار اسمه عند كرام القوم وقال: «بلى يا سيدي.» قال: «وهل في بستانك مكان للاستراحة؟» قال: «نعم يا مولاي، تفضل.» ودخل الخمار مهرولًا فتبعه الرجل وقال: «إذا سألك مقدم العيارين الليلة عن «الملفان» سعدون فقل له إني في انتظاره هنا.» والملفان رتبة علمية عند السريان تُقابِل رتبة دكتور أو علَّامة اليوم. وكان العيار والجندي واقفَين ينظران إلى الرجل، فتذكر العيار أنه رآه من قبل، ولما سمعه يذكر مقدم العيارين أجفل وتذكر أنه شاهده معه غير مرة؛ فرأى من الحكمة أن يخرج من ذلك المكان قبل مجيء مقدمه، فتحوَّل وخرج. وأما الجندي فأحب البقاء ليطَّلع على ما عساه أن يكون من أمر هذا الاجتماع الذي يندر في مثل هذا المكان خارج المدينة؛ فجلس على وسادةٍ فوق الحصير بقرب الحائط وجعل سيفه في حِجره والحائط بينه وبين البستان. أما الخمار فسره قدوم الملفان سعدون وما يتوقعه من قدوم الهرش مقدم العيارين؛ فقد يتعشيان أو يشربان فينال منهما ما يُعوض به خسارته ذلك المساء؛ فمشى بين يدي الرجل، وكان هذا لطول قامته يخاف أن تعلق عمامته ببعض الأغصان فمشى مُطأطِئ الرأس حتى وصل إلى مصطبة مُطلة على نهر جعفر تُظللها شجرة كبيرة، وفوق المصطبة حصير عليه وسادتان، فأجلسه الخمار هناك، ثم تركه ريثما عاد بالسراج الذي كان في الحانة فوضعه على أرومة شجرة بجانب المصطبة، وسأله هل يحتاج إلى شيءٍ من طعام أو شراب، فقال: «لا.» ثم اتكأ على إحدى الوسادتين ووضع العصا بجانبه وأخرج من كُمه جرابًا صغيرًا وضعه بين يديه، وتشاغل بتمشيط لحيته بأنامله، مُنصتًا إلى صوت ساقية تدور في بستان قريب. فتركه الخمار إلى الحانة فأتى بسراجٍ آخر أضاءه، والتفت إلى الجندي فوجده وحده هناك، فسأله عن رفيقه فقال: «فرَّ خوفًا من قدوم «الهرش» أميره.» ثم سعل وقال: «عسى هذا الصابئ أن يُعوضك ما خسرته علينا!» فقال: «إن شاء الله!» وساد الصمت لحظة، ثم عاد الجندي إلى الكلام فقال: «لِأمْرٍ ما تواعد هذا الصابئ على اللقاء هنا مع الهرش مقدم العيارين؟» فقال سمعان: «هؤلاء الصابئة أهل سحر ونجامة لا تخفى عليهم خافية، ولعل الهرش يستعين به على كشف المخبآت.» فهز الجندي رأسه موافقًا، وأوجس خيفةً من أن يطَّلع سعدون بسحره على دخيلة أمره؛ فسكت واشتغل الخمار عنه بالتقاط ما وقع على أرض الحانة من آثار الأكل والشرب استعدادًا لمجيء الهرش. ثم سمعا جواد الصابئ يصهل صهيلًا قويًّا، وكان مربوطًا بجانب الطريق يحرسه غلام، فأجابه صهيل مثله عن بُعد، فاستبشر الخمار بأن أُناسًا من أهل الوجاهة قادمون إليه، ثم اقتربت الأصوات واشتدَّ وقْع الحوافر وظهر على الباب فارس وبين يديه غلام بلباس العيارين ما لبث أن صاح مناديًا: «يا معلم سمعان.» فخفَّ الخمار إلى استقباله مُرحبًا، وأخذ يتأمل في لباسه الفاخر وقلنسوته القصيرة كسراويله، وإلى سيفه المُدلَّى على ساقَيه اللتين يحيط بهما لفائف من الجلد حتى الكعب فوق النعال، ثم سأله الغلام: «هل جاءك الملفان سعدون؟» فقال: «نعم، هو في البستان.» وأيقن أن الفارس هو الهرش مقدم العيارين، فتَقدَّم وأمسك بلجام الجواد والرِّكاب حتى تَرجَّل الهرش. وكان هذا قصيرَ القامة ممتلئَ الجسم قَويَّهُ لا يزال سريع الحركة رغم كهولته، إذا مشى تبختر تيهًا وخيلاء، غليظ الشفتين خفيف اللحية والشاربين أشيبهما، وعلى جبهته ندبة غائرة من أثر جُرْح أصابه في قتالٍ كاد يقضي عليه في صباه، وهو يفاخر أقرانه بهذا الأثر. وكان كبير العينين لا يبرح الاحمرار ظاهرًا فيهما كأنه صحا من رُقادٍ عميق. فإذا علمت أن الرجل أمير العيارين سَهُل عليك الحكم على أخلاقه. والعيارون يرتزقون بالسرقة والاعتداء ونحوهما، ولا رقيب عليهم ولا حسيب، وكثيرًا ما كانت الحكومة تستعين بهم، فإذا أخلصوا لها نفعوها؛ لأنهم أقدر الناس على كشف أخبار الدعارة وتتبُّع اللصوص. وكانت الحكومة يومئذٍ تستعين حتى باللصوص أنفسهم، وعندها طائفة منهم تابوا عن اللصوصية فسمَّتهم التوابين وأجرت عليهم الأرزاق لتستخدمهم في كشف السرقات على أنهم ندر أن أخلصوا لها الخدمة ولم يكونوا مع اللصوص عليها. وإنما تكثر أمثال هذه المفاسد في عهود الحكومات الاستبدادية إذا ضعف صاحبها وطمع رجاله في الأموال وفسدت النيات وأصبح الناس عيونًا بعضهم على بعض. دخل الهرش مقدم العيارين بستان سمعان، في حين وقف غلامه بالجواد في منعطف الطريق، وأسرع الخمار في أثر الهرش حتى أوصله إلى المصطبة، فوقف له الملفان ورحَّب به، فجلس إلى جانبه وأشار إلى الخمار ألا حاجة بهما إلى شيء؛ ففهم أنهما يريدان الخلوة، فرجع إلى الجندي وأشار عليه بأن ينصرف لئلا يكون وجوده باعثًا على شك، فانصرف أسِفًا. أما الهرش فنظر إلى رفيقه وتبسَّم قائلًا: «أظنني أبطأت عليك.» قال: «لم أنتظر إلا قليلًا.» قال: «إني في شوق إلى رؤيتك ولولا ذلك ما استطعت المجيء إليك ولا سيما اليوم لغياب أمير المؤمنين الرشيد عن بغداد.» فقال: «أليس ابنه الأمين مكانه؟» قال: «بلى ولكن هذا الغلام — وأنت أعلم به مني — لا خبرة له بسياسة الدولة، ولعله أدرى بسياسة الجواري والغلمان والكأس والطاس؛ فتراني لا أخرج من منزلي إلا قليلًا، وترى رسول صاحب الشرطة ذاهبًا جائيًا إليَّ يحمل إليَّ الأسئلة عما غمض عليهم كأني الملفان سعدون الصابئ الحراني أضرب المندل وأستطلع الغيب بالنجوم!» قال ذلك وضحك؛ فأدرك سعدون غرضه وتجاهل وقال: «العفو أيها الأمير، إن ما يستطيعه مقدم العيارين يعجز عنه مثلي، وأنا إذا عرفت شيئًا فإنما يدلني عليه الكتاب والحساب، أما أنت فتعرفه بفراستك وشجاعتك.» فسُرَّ بهذا الإطراء وقال: «قد أكون أعرف كل شيء، ولكنني أُقِر بعجزي عن معرفة مقرك؛ لأني ما بحثت عنك مرةً واستطعت لقياك، اللهم إلا إذا ضربتَ لي موعدًا.» قال: «ليس هذا دليلًا على عجزك، بل هو من سوء حظي؛ لأن اشتغالي بالكيمياء فضلًا عن المندل والنجامة يقضي عليَّ بالانزواء معظم الأيام؛ ولذا تراني تركت أهلي وهجرت حران لئلا يشغلوني عن عملي، وقد طال بُعدي عنهم حتى أصبحوا لا يعرفونني ولا يدرون مقري، ولو سألتهم لأنكروا أمري.» ففرح الهرش بتطرُّق الرجل إلى ذكر الكيمياء ليسأله عما فعله بقطعةٍ من النحاس دفعها إليه منذ أيامٍ ليُحولها إلى ذهب، فقال له: «أظنك طبعًا نسيت صديقك الهرش ولم …» فقطع سعدون كلامه قائلًا: «كلا، إني لا أنسى مولاي المقدم، وأُبشره بأن حظه في أسمى الطوالع؛ لأني وُفقت في طبخ نحاسه توفيقًا غريبًا يندر مثله!» فطرب الهرش إذ توقَّع الغِنى القريب، وسأله: «هل صحَّت الطبخة؟» فتبسم سعدون ومد يده إلى جرابه، فحل عقدته وأخرج منه سبيكة من الذهب الإبريز وقال: «نعم يا سيدي، وهذه هي القطعة التي جرَّبتها، ومتى نَضِج الباقي دفعته إليك.» ثم قال له همسًا وهو يناوله السبيكة: «وأظنني لا أحتاج إلى أن أوصيك بتكتُّم الأمر عن سائر الناس؛ فإني لا أحب أن … وأنت تعلم السبب.» فأخذ الهرش السبيكة وأدناها من لهيب السراج وتفرَّس فيها فإذا هي ذهب لا ريب فيه، على أنه خاف أن يكون في الأمر خداع وهو قد اعتاد بحُكم منصبه أن يُسيء الظن بالناس وأن يرى الغش حيث تطلَّع وأين مشى؛ فجعل يزن السبيكة بيده ليمتحن وزنها، فلما رأى سعدون شكَّه قال بهدوءٍ ورزانةٍ وفي صوته لهجة العتاب: «لا تشك يا سيدي، وتستطيع أن تبيعها في سوق الصياغ غدًا فتعلم صِدق قولي. ولا ألومك على الشك؛ لأن الناس لم يتعودوا الصدق ولا علموا نجاح الكيمياء إلا قليلًا، ويغلب فيمن يصح طبخه أن يستأثر بالذهب لنفسه.» فخجل الهرش من هذا التوبيخ اللطيف وازداد احترامًا للملفان سعدون وثقةً به؛ فبادر يعتذر وقال: «حاشا لي أن أرتاب في صدقك، ولست حديث العهد بمعرفتك؛ فكم كشفتَ لي من المخبآت، وأعلمتني من الأسرار حتى صرتُ أَعُدك أخي، بل أعز من أخي!» فقال: «أتكون مُسلِمًا ويكون أخوك صابئًا؟ هل ترضى ذلك لنفسك؟» وضحك وهو يلف درجًا كان يقلبه في أثناء الحديث وجعله في الجراب الذي أخرج السبيكة منه. أما الهرش فأدرك أنه يمازحه فقال: «إذا كان الصابئة كلهم مثل الملفان سعدون فإنهم إخوتي جميعًا، وأكرم بها من طائفةٍ عندها علم النجوم و…» وسكت مُصغيًا كأنه يسمع صوتًا ثم قال: «كأنني أسمع قرقعة لجم البريد.» وكان الصابئ قد ربط الجراب وتأبَّطه وتحفَّز للنهوض فقال: «هذا بريد خراسان يحمل خبرًا مهمًّا. ألا تراني أتهيأ للنهوض من قبل؟» فازداد الهرش إعجابًا بمقدرة سعدون في فنه حتى علم أن البريد قادم من خراسان بخبرٍ مهم؛ فنهض يُصلح قلنسوته وينقل سيفه وقال: «صدق من قال إن لقرقعة لجم البريد رهبة. دعني أذهب لملاقاة صاحب البريد لعلي أستطلع منه خبرًا، إني أسمع الصوت يقترب منا.» ومشى مسرعًا وسعدون يتبعه على مهل، وقبل أن يصل الهرش إلى باب الخان رأى بغل البريد وقف بالباب، وراكبه بجانبه مُلثمًا وقد شد وسطه بهميان عريض، والبغل يلهث من التعب وقد تصبَّب العرق عن صدره وأرغى بعضه تحت اللجام، ثم سمعه يقول للخمار: «اسقِني يا سمعان.» فأسرع الرجل إلى كوبٍ ملأها ماءً ودفعها إليه. وكان الهرش قد وصل إلى الباب، فلما وقعت عينا حامل البريد عليه ترجَّل قبل أن يشرب وهمَّ بتقبيل يده، فأومأ إليه أن يشرب ففعل ودفع الكوب إلى الخمار، ثم اقترب من الهرش فأسرَّ إليه كلمةً وجعلا يتهامسان، وسعدون واقف على عتبة الحانة مما يلي البستان لا يسمع شيئًا، ولكنه لحظ مما بدا على الهرش عند إصغائه للرجل أن الخبر الذي يحمله من خراسان عظيم الأهمية. ولم يَطُل تهامسهما فاعتذر صاحب البريد وركب البغل وأطلق له العِنان؛ فتحقق سعدون عند ذاك أن صاحب البريد يحمل خبرًا ذا بالٍ منعه من إطالة الحديث مع مقدم العيارين؛ فدخل سعدون الحانة فرأى الهرش مُقبِلًا عليه والدهشة ظاهرة في وجهه يُمازجها ارتياح، وآنس ابتسامةً حول فمه تنفي انقباض أسرته، فأدرك بفراسته أن الخبر ذو صلةٍ بالرشيد؛ لأنه في خراسان، وقد ذهب إليها مريضًا. وشاع أن المرض اشتدَّ عليه ولا يُرجى شفاؤه. فلما سمع قرقعة لجم البريد ترجَّح عنده خبر موت الرشيد، فلما رأى الهرش مقبلًا عليه تبسَّم وهزَّ رأسه وقال: «لكل أجلٍ كتاب!» فبُغت الهرش لقوله وعدَّه نبوءة وأمسك بيده وانتحى به مكانًا منفردًا وهمس يقول: «هل عرفت بموته؟ وكيف ذلك؟» قال: «رحم الله الرشيد، إنه مات غريبًا وقد كنت أتوقَّع موته يوم خرج في هذه الحملة. عرفت ذلك من طالعه، وأراك سُررت بموته، ويحق لك السرور كما يحق لسائر الأمراء والأجناد؛ لأنكم ستأخذون رواتب جديدة خصوصًا أنت؛ فإنك أوفر حظًّا من سائر الأمراء؛ لأن الأمين إذا تولى الخلافة زاد في تقريبك.» وتنحنح وتظاهر بأن السعال شغله عن إتمام كلامه. فتناول الهرش الحديث عنه وقال: «ولكن حامل البريد مع ثقته بي ورغبته في إرضائي كتم عني خبرًا آخر قال إنه على جانبٍ عظيم من الخطورة، واكتفى بأنْ ذكر أنني سأعرفه قريبًا.» فقطع سعدون كلامه وقال: «لا شك أنك ستعرفه؛ لأنه سيُنشر على رءوس الملأ، ولو كان كتاب المندل معي لاستطلعته في هذه الدقيقة ولكن …» وتحفز للخروج وكأنه يهمُّ بالذهاب لعمل المندل، ونادى غلامه أن يأتيه بالفرس فاستوقفه الهرش قائلًا: «أراك مسرعًا وأنا في حاجةٍ إليك.» قال: «إني رهين أمرك، ولكنني أحب الاطلاع على بقية الخبر.» فقال: «ولكننا تواعدنا على الاجتماع هنا لنتكلم فلم يَطُل مقامنا، ثم إن أخانا علي بن عيسى بن ماهان صاحب الشرطة يجب أن يراك؛ لأنني كثيرًا ما ذكرتك بين يديه وحكيت له عن معجزاتك.» فقطع كلامه قائلًا: «أخاف أن تكون ذكرت الكيمياء.» فضحك الهرش وهو يتشاغل برفع حمائل سيفه وقال: «الكيمياء؟ كلا، ولكنني قصصت ما أنت عليه من المهارة في النجامة والمندل فرأيت منه ميلًا لرؤيتك، وأوصاني بأن آتيه بك. وأظنه ينفعك؛ لأنه صاحب شرطة بغداد وله شأن كبير، ولا سيما بعد هذا الخبر؛ فإن مولانا الأمين يُعوِّل عليه ويحبه. وهذه فرصة لي أيضًا لأكافئك على حُسْن صنيعك.» فأطرق سعدون هنيهة وهو ينتف عُثْنونه وينكت الأرض بعكازه ثم قال: «دعني أذهب الآن على أن أعود إليك بالخبر الليلة.» قال: «إذا كنت تعود إليَّ الليلة فلا بأس من ذهابك الآن، وأْتني في أي هزيع من الليل تجدني في قاعة العيارين بالحربية وأنت تعرفها. ومتى جئت نذهب معًا إلى دار صاحب الشرطة فسيكون ساهرًا، ولا أظنهم ينامون الليلة إذا بلغهم ما بلغَنا من أمر الرشيد؛ لأن موته سيُحدث تغييرًا خطيرًا أرجو أن يكون منه نفع لي ولك.» قال ذلك ومدَّ يده إلى يد سعدون كأنه يُحَييه، ثم نادى غلامه فجاء يحمل صندوقًا صغيرًا وعصًا ومُلاءةً مما قد يحتاج إليه في أثناء الطريق، فأشار إليه أن يُعطيَ للخمار بعض المال، فدفع إليه صُرة صغيرة بها دراهم فأخذها الخمار شاكرًا وأكبَّ على يد الهرش يهمُّ بتقبيلها فمنعه، فالتفت سعدون إليه وقال: «هل جاء الأمير الهرش إليك الليلة؟» فأدرك الخمار أنه يُعرِّض برغبته في كتمان ذلك؛ فأجابه: «كلا يا مولاي، ولا الملفان سعدون. كن مطمئنًّا.» فالتفت الهرش إلى سعدون ضاحكًا، فقال هذا: «اركب أنت قبلي، ثم أركب أنا حتى لا نترك أثرًا لاجتماعنا.» فقال الهرش: «أراك تبالغ في الكتمان يا صديقي وليس فيما أتيناه ما يوجب هذا التستُّر، لم يكن ثَمَّةَ باعث على خروجنا إلى هنا لهذا الاجتماع.» فقال وهو يخفض صوته: «يهمني كتم أمر الكيمياء فقط، وإني أرى للجدران آذانًا وللطرق ألسنة فاعذرني!» وركب الهرش ومشى الغلام في ركابه في طريق خراسان غربًا نحو الجسر، ثم غربًا جنوبيًّا نحو الحربية. فلما تحقق سعدون ذهابه ركب وأدار شكيمة جواده جنوبًا ثم شرقًا نحو المحرم يلتمس قصر المأمون.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/2/
القصر المأموني
كان قصر المأمون على عهد قصتنا هذه في جنوبي القسم الشرقي من بغداد بعد قصر الأمين. وكان يُسمَّى قبلًا القصر الجعفري نسبة إلى جعفر البرمكي وزير الرشيد. والسبب في بنائه أن جعفرًا كان شديد الشغف بالشرب والغناء، وكان أبوه يحيى رجلًا جليلًا ذا رأيٍ وعقلٍ يخاف على ابنه عاقبة هذا التهتُّك؛ فنهاه فلم ينتهِ، وأوصاه بأن يستتر عملًا بالحديث المأثور فأبى. فلما أعيته الحيلة فيه قال له: «إن كنت تأبى التستُّر فاتخذ لنفسك قصرًا بالجانب الشرقي من بغداد لأنه قليل العمارة، واجمع فيه ندماءك وقيانك، لتكون بعيدًا من عيون من يكره ذلك منك.» فقبل جعفر النصيحة وأمر ببناء قصره بالجانب الشرقي وبذل في بنائه مالًا كثيرًا. فلما تم بناؤه سار إليه في جماعةٍ من أصحابه فيهم صَديق حكيم مخلص له اسمه مؤنس بن عمران، فطافوا القصر واستحسنوه، ولم يبقَ منهم أحد لم يُقرِّظه بما يبلغ إليه إمكانه إلا ابن عمران؛ فإنه ظل ساكتًا، فقال له جعفر: «مالك ساكتًا لا تتكلم وتدخل معنا في حديثنا؟» فقال: «حسبي ما قالوا.» فأدرك جعفر أن هناك شيئًا يكتمه فقال: «أقسمتُ لتقولن.» فقال: «أما إذا أَبَيتَ إلا أن أقول فلك عليَّ ذلك.» قال: «نعم واختصر.» فقال: «أسألك بالله إن مررت بدار بعض أصحابك ورأيتها خيرًا من دارك فما كنت صانعًا؟» يشير إلى ما كان في نفس الرشيد من جعفر من إكبار ما بلغ إليه من الثروة والنفوذ. ففهم جعفر مراده فقال: «حسبك قد فهمت، فما الرأي؟» قال: «أرى إذا صرت إلى أمير المؤمنين وسألك عن تأخُّرك، فقل إنك كنت في القصر الذي بنيته لمولانا المأمون، واجعل أنك بنيته له.» فأعجبه رأيه وأقام بالقصر بقية ذلك اليوم ثم ذهب إلى قصر الخلد ودخل على الرشيد. وكان الجواسيس قد نقلوا إليه خبر بناء هذا القصر، ولم يكن في قصور الخلفاء مثله، فقال له: «من أين أتيت وما الذي أخَّرك إلى الآن؟» قال: «كنت في القصر الذي بنيتُه لمولاي المأمون شرقي دجلة.» فقال الرشيد: «أللمأمون بنيته؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين؛ لأنه ليلة ولادته جُعل في حجري قبل أن يُجعل في حجرك، واستخدمني أبي له فدعاني ذلك إلى أن اتخذت له بالجانب الشرقي قصرًا لما بلغني من طيب هوائه ليصح مزاجه ويقوى ذهنه ويصفو.» فلما سمع الرشيد قوله سُرِّي عنه وأسفر وجهه ووقع عنده موقع القَبول وقال: «والله لا يسكنه أحد سواك، ولا أتمم ما يعوزه من الفرش إلا من خزائننا.» وزال من نفس الرشيد ما كان يخامره. فلما أوقع الرشيد بالبرامكة سنة ١٨٧ﻫ واستباح قصورهم وأموالهم، انتقل القصر إلى المأمون بن الرشيد، وهو ولي عهد المسلمين بعد الأمين، فأحبه المأمون وهو يومئذٍ في ريعان الشباب، وصار أحبَّ الأمكنة وأشهاها لديه، وأخذ في توسيعه من جهة البرِّية، فأضاف إليه قطعة من الأرض جعلها ميدانًا لركض الخيل والحلبة في أيام السباق واللعب بالكرة والصولجان، وبنى في جوانب القصر حظائر حبَس فيها أصناف الوحوش من السباع وغيرها، وفتح له بابًا شرقيًّا يُشرف على البرِّية، وأجرى فيه نهرًا ساقه من نهر المُعلَّى، وابتنى قريبًا منه منازل لخاصته وأصحابه وسُمِّي القصر من ذلك الحين «القصر المأموني»، وعُرفت تلك الجهة بجهة المأمونية، وصار فيها بعد ذلك طريق اشتُهر بهذا الاسم في بغداد. وكان المأمون وهو ببغداد أثناء ولاية العهد حتى سنة ١٩٢ﻫ قد أسكن فيه الفضل بن سهل وأخاه الحسن، ولهذين الرجلين شأن في تاريخه. فلما طلب الرشيد خراسان لمحاربة رافع بن الليث فيما وراء النهر، وكان قد ثار على الدولة وعجز العمال والقواد عن إذلاله، حمل الرشيد عليه بنفسه واستخلف على بغداد ابنه الأمين واليًا عليها، وأمر المأمون أن يبقى فيها وكان قد أوصى له بخراسان يتولاها بعد موته. وكان الفضل بن سهل فارسيًّا من سرخس، ذا مطامع في السلطان، وفي نفسه نقمة على الرشيد لغدره بجعفر البرمكي، كما نقم عليه سائر رجال الفرس وأجمعوا أمرهم فيما بينهم على الأخذ بالثأر؛ فتوجهت آمالهم إلى المأمون لأن أمه فارسية وقد شبَّ في حِجر جعفر البرمكي على الميل إلى الشيعة العلوية وهي جامعة الفرس. وكان يحيى أبو جعفر قد اختار الفضل بن سهل لخدمة المأمون، وكان مجوسيًّا فأسلم على يده طمعًا في نصرة الفرس، وكان المأمون يُجِله ويقدمه. فلما أزمع الرشيد الخروج إلى خراسان في تلك السنة وطلب إلى المأمون البقاء في بغداد، خاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيُه سُدًى؛ فجاء إلى المأمون وقال: «لستَ تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مُقدَّم عليك في ولاية العهد. وأخشى أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم، فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولًا ثم قَبِل، وذهب الفضل وأخوه الحسن معهما، وخلف المأمون بعض أهله في ذلك القصر ومعهم الخدم والعبيد وعليهم قَيِّم يتولى شئون بيت المأمون وأمواله وضِيَاعه. وكان القصر المأموني نفسه على شاطئ دجلة الشرقي، تُشرف واجهته على النهر ولها شرفات ورواشن، وفي قاعات القصر أنواع الفُرُش المُذهبة والنمارق المُقصبة المحمولة من الأنحاء البعيدة، وقد زُخرفت أبوابه بالستائر ومُلئت خزائنه بأنواع الطرف مع ما تحتاج إليه القصور من الجواري والخدم والخصيان، وهم يُعَدون يومئذٍ من أدوات المنزل التي لا بد منها. وكان للقصر مما يلي دجلة مسناة من رخام ترسو عندها السفن يعدون إليها من الماء بدرجات من الرخام عريضة يحدها من الجانبين جدران من أساطين غليظة (درابزون) يظهر مما عليها من النقوش الفارسية أنها كانت لبعض الأبنية الكِسروية وحُملت إلى هناك، والمسناة عريضة تمتدُّ من حافة الشاطئ إلى سور القصر عند بابه الغربي. وعند الباب رَدْهة فسيحة ربما فرشوها بالطنافس ونصبوا في جوانبها المقاعد للجلوس إذا أرادوا مشاهدة مجرى دجلة وفيه السفن تمر صاعدةً أو نازلة. وكان المأمون قد خلف في القصر ابنته زينب لمَّا سافر مع أبيه في ذلك العام، وتُكنَّى أم حبيبة، وهي يومئذٍ في الثانية عشرة من العمر، وكانت مثل أبيها ذكاءً ونباهةً واستقلالًا في الفكر، ومثل جدها الرشيد أَنَفةً وتعصُّبًا لبني هاشم، وكانت مع صغر سنها قوية الإرادة مستبدة برأيها، وقد عَرَف أبوها ذلك فيها، وهو لا يريد تلك العصبية لرغبته في اصطناع الفرس؛ فعَهِد في تربيتها إلى الجارية التي ربَّته هو، وأصلها من جواري البرامكة في إبان مجدها، واسمها دنانير. وذلك أن المأمون لما جُعل في حِجر جعفر عَهِد هذا في تربيته إلى تلك الجارية وأوحى إليها أن تُنشئه على حب الفرس، فنشأ المأمون على ذراعيها وشبَّ يحترمها ويراعي جانبها. ولما ترعرع أخذها إليه وجعلها في جملة جواريه. فلما رُزق بابنته عَهِد إليها في تربيتها وأوصاها بأن تُعوِّدها حرية الفكر وحب الفرس، فبذلت جهدها في ذلك. وكان الرشيد مولعًا بحفيدته هذه وهو الذي سمَّاها زينب وكنَّاها أم حبيبة، وكثيرًا ما كان يستقدمها إليه في ساعات الفراغ ويُداعبها ويُهديها العقود والأساور، فكانت تشهد مجالسه الخاصة مع امرأته زبيدة، وهي كثيرة المُفاخرة بنسبها الهاشمي، فكانت زينب تسمع ما يدور بينهما من إعظام بني هاشم فيُغرس ذلك في ذهنها عفوًا، فنشأت شديدة التعصُّب لهم رغم ما كانت دنانير تحاوله على خلاف ذلك. على أن زينب كانت تُحب مُربِّيتها وتحترمها وترتاح إلى حديثها، ولم تكن تكتمها أمرًا يخالج ضميرها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/3/
زينب ودنانير
كانت زينب سريعة النمو جسمًا وعقلًا، يحسبها الناظر إليها تُناهز السادسة عشرة وهي لم تدرك الثانية عشرة. وكانت صبيحةَ الوجه سوداءَ العينين برَّاقتَهما، صغيرةَ الأنف غائرةَ الشفتين بارزةَ الذقن، يدل مَبسِمُها على الثبات ورباطة الجأش وقوة العزيمة، وعيناها تدلان على الذكاء وسرعة الخاطر. وكانت دنانير قد ربَّتها على سذاجة المعيشة، ونزَّهتها عما كانت الرغبة منصرفةً إليه يومئذٍ من التبرُّج والبذخ؛ فكانت تقضي النهار وليس عليها من الثياب إلا رداء ساذج وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة ترسلها على ظهرها. أما دنانير فنشأت في منزل يحيى بن خالد البرمكي، وكانت صفراء صادقة الملاحة، أصلها لرجل من أهل البصرة خرَّجها وأدَّبها وروَّاها الشعر، ثم اتصلت بيحيى البرمكي وهي فتاة فرُبِّيت في منزله. وهي غير دنانير المُغنِّية التي اشتُهرت بالغناء وحفظ الشعر. أما هذه فكانت ميَّالةً إلى المسائل العقلية. وكان مجلس يحيى لا يخلو من بحثٍ أو مناظرة في علمٍ أو أدب، وكذلك كان سائر البرامكة؛ فإنهم أول من نشط العلم في العصر العباسي. ولما همَّ يحيى بترجمة المِجَسْطي إلى العربية استقدم المترجمين إليه، وكانت دنانير تسترق الاجتماع بهم، وكثيرًا ما كانوا يرونها مُصغِية لتستمع ما يتذاكرون فيه من المسائل الفلكية وأحكام النجوم في أثناء الترجمة، ورفيقاتها الجواري يضحكن منها ويُعيِّرنها برغبتها في علومٍ هي من قبيل الرموز الغامضة التي لا يُقدِم على حلها إلا قهارمة العلم من أهل الذمة. وكانت المسائل الفلسفية حديثة العهد يومئذٍ في العربية؛ إذ لم يكن قد تُرجم منها غير علم النجوم وبعض كتب الطب في زمن المنصور والمهدي والرشيد. على أنها كانت تُلمُّ بتلك المسائل قبل نقلها إلى العربية مما يدور بين جلساء يحيى، واشتُهرت بين جواري البرامكة بحب العلم والتعقُّل؛ ولذلك لما صار المأمون في حِجر جعفر وعَهِد في تربيته إليها، كانت وهي تلاعبه في الحديقة تحمل معها قرطاسًا أو ورقًا عليه رسوم فلكية أو مسائل طبية تراجعها، وأول ما فتح عينيه وصار في سن الاستغراب والاستفهام لم يكن يسألها عن شيء إلا فسَّرتْه له بتعقُّل. ثم أخذت في تلقينه المسائل على قدر ما يتحمَّله سِنه. لم تكن تفعل ذلك رغبةً في تعليمه، بل تلذذًا بالعلم؛ فإن محب العلم يلتذُّ بإلقاء الحقائق كما يلتذُّ بتلقِّيها. ولما ترعرع المأمون وآن تسليمه إلى المعلمين، كان قد تولَّد فيه الميل إلى البحث عن الأسباب والتماس البرهان على كل شيء؛ فجرَّه ذلك إلى الاعتزال والتشيُّع والرغبة في العلم والفلسفة حتى كان ما كان من نقله كتب الأقدمين على ما هو مشهور. ونشأ المأمون على احترام دنانير احترام الولد لأمه، وكثيرًا ما كان يُجالسها في ساعات الفراغ ويُباحثها في بعض المسائل ويُسَرُّ من تعقُّلها؛ فلما رُزق بابنته زينب سلمها إليها وهو على ثقةٍ من أنها تُربِّيها كما يحب. وكانت زينب كثيرة الشبه بأبيها من حيث الرغبة في البحث واستطلاع الأسباب؛ فلم تكن دنانير تدَّخر وسعًا في ترقية مداركها، فشبَّت وهي تدعوها أمها، نظرًا إلى أن أمها كانت مُتوفَّاة. وربما أحبتها أكثر من حبها لأبيها لاشتغال المأمون عنها بأموره. على أن الآباء قلما كانوا يعاشرون أبناءهم وإنما يعهدون في تربيتهم إلى الجواري، فرُبِّيتْ زينب تربية فلسفية ونشأت لا تبالي إلا بحقائق الأمور، وطرحت ما كان يتسابق إليه أترابها من اللعب والقصف. وبلاط الخلفاء مسرح واسع لأسباب اللهو يومئذٍ حتى في القصر المأموني نفسه؛ فقد كان فيه كثير من وسائل اللعب يتمتع بها الجواري والخدم، وزينب لا تميل إلى ذلك ولا تخالط من الخدم غير مُربِّيتها؛ فكانت ألزم لها من ظلها تصاحبها حيثما توجهت؛ فتخرج معها إلى الحديقة لقطف الأزهار، وتعرج إلى بيوت السباع لتشاهدها في أقفاصها والسباعون يُقدِّمون لها الطعام من قِطع اللحم الكبيرة. فإذا أعوزها اللهو تشاغلت بالشطرنج، وكانت هذه اللعبة حديثة العهد في بلاط الخلفاء؛ لأن الرشيد أول من لعبها منهم، وكانت دنانير تجيد اللعب بها وربما شغلت بها زينب أحيانًا، أو خرجت بها إلى الباب الغربي عند المسناة لتجلسا في روشن أو شرفة تتفرجان من بين الستور على السفن المارة في دجلة. وكثيرًا ما يكون الجلوس هناك مُطربًا لكثرة من يمرُّ من أهل القصف والطرب ومعهم المُغنُّون والعوادون. فاتفق في اليوم الذي بدأنا فيه روايتنا أن كانت زينب جالسةً مع مُربِّيتها في شرفة فوق المسناة تطل على دجلة، وعليها رداء وردي اللون، وفي عنقها عِقد من اللؤلؤ أهداه إليها جدها الرشيد قبل سفره. ودار بينهما الحديث في مسألةٍ تتعلق بالطوالع والأبراج، وأشكل فهمها حتى على دنانير فقالت: «إن هذه المسألة من المسائل العويصة، فمتى جاء طبيبنا سألناه عنها.» فقالت زينب: «وهل يفهم الأطباء النجوم؟» قالت: «يغلب في الطبيب أن يعرف كل علم، ولا سيما أطباء الفرس، وطبيبنا على الأخص؛ فإنه من نوابغ الفلاسفة وقهارمة الأطباء، و… و…» فضحكت زينب ملء فيها ضحكةَ فتاةٍ لا تعرف من الدنيا غير أسباب المسرات، وقالت والاستغراب بادٍ في عينيها: «إذن هو أعلم منك؟» قالت ذلك لاعتقادها أن مُربِّيتها أعلم أهل الأرض. وذلك شأن الناس فيمن يشبُّون في حِجره أو يتلقَّون العلم عنه؛ فالأولاد يعتقدون الكمال في آبائهم أو مُربِّيتهم، ويتوهمون أن معلميهم من كبار الفلاسفة ولو كانوا أجهل مِن قاضي جبل. فيروُون عنهم ويستشهدون بأقوالهم ويُعظمون من أمرهم، فإذا كان المعلم صغير العقل صدَّق تلميذه وظن في نفسه التفوق على العلماء والحكماء، وقد يكون علمه محصورًا في مبادئ الصرف والنحو فيتوهَّم أنه لا يُشقُّ له غبار فيزداد غرورًا. وكانت دنانير تعلم حقيقة منزلتها، فلما سمعت زينب تُطري علمها ابتسمت وقالت: «إني يا سيدتي لا أعرف شيئًا، وإنما التقطت بعض المسائل من أفواه العلماء. وأما هذا الطبيب فقد تفقَّه في الطب والفلسفة في مدرسة «جندي سابور» المشهورة التي تخرَّج فيها ابن بختيشوع طبيب أمير المؤمنين. ولكنه أعلم منه بأمورٍ كثيرة، ولا سيما بالكيمياء والنجامة، ولولا ذلك لم يهتم الفضل بن سهل بأمره حتى وصى مولاي المأمون به.» فقطعت زينب كلامها وقالت: «الفضل بن سهل أوصى به؟ ومتى كان ذلك؟ أليس الفضل مع أبي الآن في خراسان.» قالت: «بلى، هما معًا هناك، ولكن هذا الطبيب جاءنا منذ بضع سنين بتوصيةٍ من الفضل بن سهل ذكر فيها أنه نابغة خراسان في الطب والعلم، حتى إنك لَترَين ذلك ظاهرًا في وجهه.» فقالت: «فلماذا لا يقيم عندنا دائمًا؟ هل منعه أبي من ذلك؟» قالت: «كلا، ولكنه اعتذر لمولاي المأمون يوم مجيئه من أنه لا يستطيع الإقامة عندنا لأسبابٍ ذكرها له.» فقالت: «وأين يقيم إذن؟» قالت: «بلغني أنه يقيم بالمدائن كأنه استأنس بجوار إيوان كسرى أعظم ملوك الفرس وأعدلهم. وطبيبنا فارسي …» قالت: «عَرَفتُ أنه فارسي من كلامه؛ فإنه لا يحسن النطق بالعربية حتى الآن، ولو أقام هنا لاعتاد النطق بمخالطة البغداديين.» قالت: «والمدائن قريبة منا؛ فهي على بضع ساعاتٍ من هنا جنوبًا.» قالت: «وقد كان ينبغي له أن يسكن هنا بعد ذهاب أبي وانتقالنا إلى هذا القصر البعيد عن المدينة لنتقوَّى به؛ لأنه من الجبابرة كما يظهر من كبر هامته. ومع كثرة ترداده علينا لا أزال إلى اليوم أتهيَّبه لمَّا يقبض على يدي ليجس نبضي.» قالت: «صدقتِ، إنه طويل القامة ولباسه المستطيل يزيده طولًا، على أنه لطيف اللسان حسن الأسلوب قريب من القلب. ولكنه يغيب عنا أحيانًا بضعة أيام متوالية، ربما احتجنا إليه في أثنائها فلا نجده، والأطباء كثيرون ولكنني شديدة الثقة بعلمه.» فقطعت زينب كلامها ووضعت يدها على كتفيها تدل بمحبتها وقالت: «قولي له أن يسكن في أحد القصور هنا.» قالت: «سأطلب منه ذلك وعسى أن يجيب طلبي. إني أرى سفينة صاعدة من الجنوب لعله قادم فيها.» وكانت زينب في أثناء الحديث تنظر إلى مجرى دجلة وعيناها تتأملان ما على الشاطئ الآخر من النخيل القائم كالأصنام الهائلة، يتراءى من خلالها في عرض الأفق برٌّ فسيح تغشاه الأشجار والأعشاب، تتخللها أبنية متفرقة كأنها أحجار كريمة نُثرت على ديباجة خضراء، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فوقعت ظلال النخيل على الماء واستطالت وتراءت في قاع النهر معكوسةً كأنها نبتت جذورها عند الشاطئ وسعفها غائصة في الماء، وجذوعها بين ذلك تتموَّج بتموُّج سطح الماء وتظهر متعرجةً كأنها مؤلَّفة من قطع مرصوصة بعضها فوق بعض على غير انتظام، فيتوهم من يرى تموُّجها أن الحياة قد دبَّت فيها فتلوَّت كالأفاعي تحاول الإفلات ممن قبض على أذنابها، أو أنها على وشك أن تتملص جذورها من الشاطئ لتنساب في الماء. كانت زينب لاهيةً بهذا المنظر أثناء الحديث، فلما لفتتْ دنانير انتباهَها إلى السفينة التفتت وقالت: «وهل يأتينا الطبيب في الماء أم في البر؟ إني أعهده يجيئنا على فرس.» قالت: «من هنا إلى المدائن طريقان أحدهما في البر والآخر على الماء.» وكانتا تتكلمان وهما تنظران إلى السفينة من خلال الستر فلم تعرفا مَن فيها. ثم توارت أثناء مجراها ببعض تعرُّجات النهر فاشتغلتا عنها قليلًا. ثم ملَّت زينب الجلوس وهمَّت بالنهوض فإذا بها تسمع صوت ارتطام الماء على مقربة من القصر يتخلله نقر الهواء على الشراع فالتفتت فرأت قاربًا صاعدًا بجانب المسناة وفيه نوتيان قد أخذا في حل الشراع، وفي صدر القارب امرأتان التفَّت إحداهما برداء قديم قد غيَّر الزمان لونه، وسترت رأسها بخمار، وظهر مُحيَّاها وعليه ملامح الشيخوخة. والثانية عليها ثوب أسود فوقه خمار في لونه قد تلثمت به حتى لا يظهر من وجهها إلا العينان. وبعد هُنيهة شد النوتيان القارب بحلقة من حلقات المسناة وألقيا خشبة بينها وبين القارب، ونهضت المرأتان ومشتا وهما تتساندان حتى عبرتا إلى المسناة ووقفتا في أسفل السلم، والعجوز تنظر إلى القصر وتُجيل بصرها فيه كأنها تبحث عمن تريد أن تكلمه، فقال لها أحد النوتيين: «هذا هو القصر المأموني يا خالة.» فنهضت دنانير لساعتها وتقدمت حتى وقفت بالباب وأطلت على القارب وتفرَّست في المرأتين وظلت زينب جالسة تنتظر ما يبدو منها، فما لبثت أن رأتها انحدرت على السلم مسرعةً حتى دنت من العجوز واستقبلتها بين ذراعيها وأكبَّت على يدها وقبَّلتها بلهفة، ثم أعانتها على الصعود والفتاة في أثرهما. وكانت زينب تتوقَّع كلمة تسمعها من دنانير فتعرف القادمتين فلم تسمع شيئًا، فظلت صامتة حتى أقبلت والعجوز تمشي معها تتوكأ على عكازها، ولما دنت منها تطاولت دنانير بعنقها وقالت بصوت ضعيف: «هلمي بنا يا مولاتي.» فنهضت زينب ودخلن جميعًا في دهليز بين الباب الغربي والقصر حتى وصلن إلى قاعةٍ أمرت الجواري بالخروج منها، وأشارت إلى العجوز ورفيقتها بالدخول فدخلتا، وأجلستهما على طنفسة هناك، بينما جلست زينب على وسادةٍ وأخذت تنظر إليهما وتتفرَّس فيهما وقد أزاحتا الخمار فظهر شعر العجوز وقد اشتعل شيبًا، أما الفتاة فبان مُحيَّاها فإذا هي في إبان الشباب كأنها ملاك في صورة إنسان، وكانت رشيقة القوام جميلة الطلعة قمحية اللون متناسبة الملامح تدل خلقتها على كرم المَحْتِد والوجاهة، ويشفُّ لباسها عن سذاجةٍ وفقرٍ زادا جمالها وضوحًا، رغم ما يتجلى في وجهها من الكآبة والحزن ورغم ثوبها الأسود وما يتلألأ في عينيها من الدمع. وكانت في دخولها تمشي مُطرِقة كأنها تحاول كتمان ما في نفسها، فلما جلست رفعت عينيها وفيهما دعج وسحر فوقع بصرها على زينب، وكانت هذه تتفرَّس فيها مُتلهِّفة، فلما التقى بصراهما أحسَّت زينب بجاذبٍ إليها لم تعهد مثله في أحد تعرفه مع أنها فتاة مثلها، وشعرت بميلٍ إليها وانعطاف، وظنت أنها قد تكون رأتها من قبل. أما العجوز فكانت مع ما يبدو عليها من مظاهر الذل والحزن، ينمُّ مُحيَّاها عن الأَنَفة والعز. فلما استقر بهما الجلوس التفتت دنانير إلى زينب وقالت وهي تشير إلى العجوز: «ألم تعرفيها يا مولاتي؟» فأجابت الفتاة بعينيها وشفتيها أنْ لا. فقالت دنانير وهي تهزُّ رأسها متحسرة: «إنها مولاتي أم جعفر.» فتبادر إلى ذهن الفتاة لأول وهلة أنها تعني زبيدة زوج الرشيد؛ فدُهشت لما تعهده في زبيدة من شبابٍ باقٍ وهي ترى بين يديها عجوزًا طاعنة في السن فضلًا عن فارق الملامح؛ فأدركت دنانير سبب دهشتها فقالت: «إنما أعني مولاتي أم جعفر الوزير، وهي عبادة بنت محمد بن الحسين بن قحطبة.» وكانت زينب قد علمت أن جدها الرشيد اغتال وزيره جعفرًا هذا وأباح منازله، ولم تسمع بأمه فكانت تحسبها ماتت. وغلبت العصبية الهاشمية على زينب فانقبضت نفسها وتراجعت، فابتدرتها دنانير قائلة: «إن لأم جعفر دالة على سيدي المأمون؛ لأنه رُبي في حِجرها، وكانت تخدمه وتحبه، وهو يحترمها، وكثيرًا ما كان يذكرها بعد نكبة ابنها ويودُّ أن يراها ليُكرمها. ولو علم بوجودها على قيد الحياة لاستقدمها إليه وأكرم وِفادتها وعزَّاها على ثكلها.» وكانت أم جعفر في أثناء ذلك تمسح دموعها وتتجلد حتى تُخفيَ بكاءها. أما زينب فلما سمعت قول مُربِّيتها وشاهدت بكاء تلك العجوز رقَّ قلبها وكادت تشاركها في البكاء لولا رباطة جأشها وما سبق إلى فؤادها من كُره البرامكة. وكانت دنانير تعلم ما في نفس زينب، فأحبت أن تبالغ في استعطافها فقالت: «حتى أمير المؤمنين الرشيد، مع ما تعلمينه من أمره مع ابنها، يحترمها ويُعلي قدرها لأنها أرضعتْه وربَّته بعد أن ماتت أمه وهو في المهد. وكان يشاورها ويكرمها ويتبرَّك برأيها، وطالما سمعتُه يناديها يا أم الرشيد!» فلما سمعت الفتاة ذلك قالت: «هي إذن جدتي؟» فقطعت عبادة كلامها قائلة: «بل أنا أَمَتك يا سيدتي، وإنما أكرمني أمير المؤمنين بذلك تفضُّلًا منه. ولم يُصبنا ما أصابنا بعدئذٍ إلا بتقدير العزيز الحكيم.» قالت ذلك وشرقت بدموعها. فرقَّ قلب زينب لحالها وقالت: «مسكينة يا أم جعفر! لماذا لم يرعَ جدي زمامك ويعفُ عن ابنك؟» فقالت: «إن مولانا الرشيد فعل ما فعله بوشاية الأعداء؛ لأن بعض الحُسَّاد وشى بولدي وحسَّن له قتْله، والرشيد حفظه الله إذا عزم على أمرٍ بادر إلى إنفاذه لا يسمع فيه رجاءً ولا استرحامًا. ولكن كل ما يفعله أمير المؤمنين مقبول مطاع.» ثم التفتت إلى دنانير وقالت: «وقد تمكَّن الأعداء من إغراء الرشيد بزوجي يحيى وبابني الفضل فأخذهما وحبسهما، فشفعت إليه بحُرمة اللبن أن يعفوَ عنهما ويأمر بإطلاقهما أو تسريح أحدهما فلم يفعل.» فقالت دنانير: «وماذا فعلتِ؟» ••• مدت أم جعفر يدها إلى جيبها وأخرجت حُقًّا من زمردة واحدة خضراء ونظرت إلى دنانير وقالت وهي تفتح الحُق بمفتاح من الذهب: «قد تشفعت إليه بما في هذا الحُق من آثاره.» وأخرجتْ من الحُق خصلة شعر وبضع أسنان، ففاحت رائحة المسك حتى تضوعت القاعة، وقالت: «تشفعت إليه بهذا الشعر لأنه شعره، وبهذه الأسنان فإنها ثناياه. وقد حفظتهما منذ طفولته، ولكنه لم يقبل شفاعتي.» فقالت دنانير: «وكيف ذلك يا مولاتي؟» فبدا الاهتمام في وجه أم جعفر وعادت إليها أَنَفتها واعتدلت في مقعدها وقالت: «لما علمت بما أصاب ولدي جعفرًا — وا حسرتاه عليه! — وأن الرشيد قبض على يحيى، قلت في نفسي لأذهبنَّ إلى الرشيد أستعطفه ليعفوَ عن زوجي، لعلمي بما كان من إكرامه إياي وأنه كان لا يردُّ لي شفاعة في أحد؛ فكم أسيرٍ فككت وكم مستغلقٍ فتحت وكم …» قالت ذلك وغصَّت بِريقها، ولكنها تجلدت وأتمت الحديث فقالت: «ذهبت إلى الرشيد وكنت أدخل عليه بلا إذنٍ فاستأذنت فلم يأذن لي، وفشلت محاولاتي العديدة للمثول بين يديه، فلما يئست ذهبت إلى بابه ماشيةً حافيةً كاشفةً عن وجهي، فلما رآني الحاجب على تلك الحال دخل عليه وقال له: «إن مرضع أمير المؤمنين بالباب في حالة تقلب شماتة الحاسد إلى شفقة.» ووصف له حالتي، فسمعته يقول له: «ويحك أجاءت ماشية؟» قال: «نعم يا أمير المؤمنين، وحافية.» فصاح فيه: «أدخِلها؛ فرُبَّ كبد غذتها، وكربة فرجتها، وعورة سترتها.» فلما سمعتُ قوله استبشرتُ بنيل مرادي، فعاد الحاجب وأشار إليَّ فدخلت، فقام الرشيد وتلقاني محتفيًا بي، وأكبَّ على تقبيل رأسي ثم أجلسني معه فقلت: «أيعدو علينا الزمان، ويجفونا خوفًا منك الأعوان، ويُحرِّضك علينا أبناء البهتان، وقد ربَّيتك في حِجري، وأخذت برضاعتك الأمان من عدوي ودهري؟» فقال لي: «وما ذلك يا أم الرشيد؟» قلت: «جئتك في أمر يحيى ولا أصفه بأكثر مما علم أمير المؤمنين من نصيحته وإشفاقه وتعرُّضه للتلف في شأن موسى الهادي.» فقطب الرشيد حاجبيه وقال: «يا أم الرشيد، ذلك أمر سبق، وقضاء حُمَّ، وغضب من الله نفذ.» فقلت: «يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ». قال: «صدقتِ، ولكن هذا مما لم يمحُه الله.» فقلت: «الغيب محجوب عن النبيين فكيف، عنك يا أمير المؤمنين؟» فأطرق مليًّا ثم قال: فقلت على الفور: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين، وقد قيل: هذا بعد قول الله عز وجل: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. فتشاغل هُنيهة بقضيبٍ كان بيده ثم قال: يا أم الرشيد، فلما رأيته مُصرًا على عزمه قلت: فقال لي: «رضيت.» فقلت: «هبه لي يا أمير المؤمنين؛ فقد قيل من ترك شيئًا لله لم يفقده.» فأطرق مليًّا ثم رفع رأسه وهو يقول: «لِلهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ». قلت: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ … واذكر يا مولاي أليتك ما استشفعت إلا شفعتني.» فقال: «اذكري يا أم الرشيد أليتك ألا شفعت لمقترف ذنبًا.» فلما رأيته صرَّح بمنعي، ولاذ عن مطلبي، أخرجت هذا الحُق من جيبي وفتحت قفله وأخرجت هذه الذوائب وهذه الثنايا وقلت: «يا أمير المؤمنين، أستشفع إليك وأستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك.» فأخذ الحُق مني ولثمه، واستعبر وبكى بكاءً شديدًا، وبكى أهل المجلس؛ فما شككت أنه مُجيبي، ولكنه لما أفاق ألقى الحُق وما فيه إليَّ وقال: «لحسن ما حفظت الوديعة.» فقلت: «وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين.» فسكت وأقفل الحُق ودفعه إليَّ وقال: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. قلت: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ . ويقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ. فنظر إليَّ فعلمت من عينيه أنه يستفهمني عن مرادي، وكنت قد تعوَّدت فهم مراده من النظر في عينيه، فقلت: «أما أقسمت لي ألا تحجبني ولا تمتهنني؟» فلما تذكر عهده قال: «أحب يا أم الرشيد أن تشتريه محكمة فيه.» فقلت: «أنصف يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة ولا راجعة عنك.» قال: «بكم تشترينه؟» قلت: «برضاك عمَّن لم يُسخطك.» فظهر الملل في وجهه وقال: «يا أم الرشيد، أما لي من الحق مثل الذي لهم؟» قلت: «بلى يا أمير المؤمنين، أنت أعز عليَّ وهم أحب إليَّ.» قال وهو يتزحزح من مقعده: «فتحكمي في غير هذا.» فلما تحققت أنه غير مُجيبي نهضت وأنا أقول له: «قد وهبته وجعلتك في حلٍّ منه.» وخرجت ونسيت مصيبتي وجفَّفت دمعتي، وأنت ترين دمعي الآن وكيف أني أكاد أختنق به، أمَّا في ذلك اليوم فلم تسقط لي دمعة.» ولما فرغت أم جعفر من حديثها أقفلت الحُقَّ على ما فيه وجعلتْه في جيبها وقالت: «لم يبقَ لي مأرب الآن في الرجاء؛ فإن الذي كنت ألتمس رضى الرشيد عنه ارتاح من شقاء هذه الحياة فمات في حبسه، ومات بعده ابني الفضل بالأمس في سجنه بالرقة.» وصمتت هُنيهة وهي تمسح عينيها، وأطرقت ثم قالت: «ولكن موته لا بد أن يعقبه أمر عظيم؛ لأني كثيرًا ما كنت أسمعه يقول: «إن أمري قريب من أمر الرشيد.» ولكنني أطلب من الله أن يطيل عمر أمير المؤمنين.» فخفق قلب زينب خوفًا على جدها، ولكنها استحسنت استدراك أم جعفر بالدعاء له بطول البقاء، وعادت إلى التفكير في غرابة حديثها. ••• كانت عبادة أم جعفر تقصُّ حكايتها بلهفةٍ وفصاحة، وأم حبيبة مقبلة عليها بكل جوارحها وعيناها شاخصتان تراعي حركات شفتيها، وغلب عليها التأثُّر غير مرة وأحست كأنها تجهش بالبكاء. ولما أتت أم جعفر على آخر الحديث انقلب إشفاقها إلى إعجاب وإكبار، لما عاينتْه من أَنَفتها وعِزة نفسها. وأحست بانعطاف إليها وشاركتها تألُّمها بما أصابها من الثكل والفشل، وإن كان مثلها لا يُدرِك كُنْهَ المصائب، ولكنها كانت كبيرة العقل والقلب تفهم وتُحس أكثر مما تقتضيه سنها. وكانت قد نسيت لهفتها لمعرفة رفيقة أم جعفر لاشتغالها بسماع الحديث، فلما انتهى أجالت نظرها في الفتاة وجعلت تتفرَّس فيها والحشمة تمنعها من الاستفهام، فأدركت دنانير ذلك وهي أشد لهفةً منها لاستطلاع أمرها، وكانت أثناء الحديث تسترق اللحظ إلى الفتاة لعلها تستطلع شيئًا من أمرها فلم تستطع، فصبرت نفسها إلى آخر الحديث. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فأمرت الخدم أن يُضيئوا الشموع القائمة على المنابر في جوانب القاعة، وهي شموع ضخمة كانوا يتأنقون في اصطناعها ويمزجونها بالعود، فإذا أُضيئت فاحت رائحة العود وتضوَّع المكان بها. وعادت دنانير إلى التفكير في الغرض الذي جاءت أم جعفر لأجله ذلك اليوم بعد طول احتجابها، فأرادت أن تسوقها إلى التصريح بذلك عفوًا فقالت لها: «إن حكايتك يا مولاتي غريبة، وأغرب منها احتجابك عنا كل هذه السنين والناس لا يعرفون مقرك؛ فأين كنتِ تُقيمين؟» فتنهدت وقالت: «كنت محتجبة لأن مثلي خليقة أن تَدفن نفسها حية، ويا ليتني مت منذ عشر سنوات ولم أكابد ما كابدتُه من مرارة القهر والذل، أنتِ تعلمين يا دنانير حالي في بيت جعفر.» وغصَّت بِريقها وأطرقت، فتناولتْ دنانير الحديث نيابةً عنها وقالت لزينب: «نعم يا سيدتي، إني أعلم الناس بما كانت عليه في أيام عزها، وأذكر في عيد النحر من بعض السنين أن مولاتي عبادة هذه كانت في بيت ابنها الوزير وعلى رأسها ٤٠٠ جارية!» فقطعت عبادة كلامها قائلة: «وكنت مع ذلك أَعُد ولدي عاقًّا، وقد مرت عليَّ في محنتي هذه أيامٌ لا أجد جلدَي شاتَين أفترش واحدًا وألتحف الآخر، على أني لم أكترث لهذا كله اكتراثي للأمر الذي جئتكم لأجله الليلة، وأظنني ثقلت على مولاتي أم حبيبة.» وكانت زينب قد أحبت عبادة واحترمتها، ونسيت ما يكسوها من الأثواب البالية — على عادة الناس في الحكم على جلسائهم لأول وهلة، فإنهم يُقدِّرونهم أولًا بما يَظهر من لباسهم وحِلاهم، فإذا اختبروهم قدَّروهم بمواهبهم وقواهم — فخاطبتها باحترامٍ وقالت لها: «معاذ الله يا سيدتي، فإنكِ تنزلين عندنا على الرُّحب والسعة ولك كل ما تحتاجين إليه.» ثم التفتت إلى دنانير وقالت: «أعطيها كل ما تحتاج إليه!» فوقفت عبادة وقبَّلت رأس زينب وقالت: «شكرًا لكِ على إحسانكِ يا سيدتي، ولكن الأمر الذي جئت به إليكِ أهم عندي مما تفضلتِ به وإن كنتُ لا أستحق هذا ولا ذاك.» فبادرت إليها دنانير قائلة: «قولي فإن لك كل ما تريدين، هذا ما أمرتْ به مولاتنا حفظها الله.» قالت: «سألتني يا دنانير عن احتجابي كل هذه السنين عن بغداد … كيف أقيم في مدينةٍ أرى فيها جثة ولدي مُعلَّقة على جسورها وقد شطروا الجثة شطرين، صلبوا شطرًا على أحد الجسور والشطر الآخر على الجسر الثاني وعلقوا الرأس على الجسر الثالث ليراها المارة صباح مساء، ألم تبقَ جثة جعفر مُعلقةً على هذه الجسور سنتين وبعض السنة حتى عاد الرشيد من الري سنة ١٨٩ﻫ فأمر بإحراقها؟ وكأنه شعر بفظاعة الأمر فهجر بغداد من يومه وسكن الرقة وما زال فيها حتى خرج هذا العام إلى خراسان، وهَبِي أني رضيت المقام، فعيون الرقباء ساهرة وأمر الخليفة مُشدَّد بالنقمة على كل مَن يذكر البرامكة بخير، فكيف لو عرفوا بوجودي، ألا يُسرعون إلى تقطيعي إربًا إربًا. وما أنا بخائفة من الموت فإنه أيسر ما أقاسيه، ولكنني رغبت في الحياة من أجل هذه الفتاة.» وأشارت إلى رفيقتها وتحوَّلت الأنظار إليها. فخجلت الفتاة وتورَّدت وجنتاها وتلألأت عيناها الدعجاوان وظهر فيهما الدمع وأطرقت، فاغتنمت دنانير هذه الفرصة وقالت: «كنتُ منذ دخولك علينا أفكر في هذه الفتاة الجميلة وأتفرَّس فيها فلم أعرفها.» قالت: «إنها بنت الشقاء ونِتاج المصائب، وليس في بغداد مَن يعرف حقيقتها غيري، وقد كتمت أمرها عن كل إنسان خوفًا على حياتها، وإنما أردت البقاء على قيد الحياة لأجلها. وهذه أول مرة أبوح باسمها فهل أقول ذلك وعليَّ الأمان؟» فقالت دنانير: «لم يبقَ داعٍ للحذر بعد ما شاهدتِه من انعطاف سيدتي الحبيبة إليك، ومن ذا يسمع حديثك ولا يشعر بشعورك؟ قولي لا تخافي واطلبي ما تحتاجين إليه فإنك نائلة ما تريدين.» فتنهَّدت وهي تُصلح نقابها على رأسها وقالت: «إن هذه الفتاة ربيبة التعاسة، إنها بنت الوزير المقتول … ابني جعفر.» فبُغتت دنانير وأعادت نظرها إلى الفتاة لعلها تتذكرها، ثم قالت: «لا أذكر أني أعرفها.» فقالت: «نعم، إنك لا تعرفينها؛ لأنها وُلدت بعد خروجك من بيتنا إلى بيت مولانا المأمون. وكان هذا من حُسن حظك؛ لأن البيت الذي كان مقصد السائلين ومقر الوافدين وملاذ الخائفين أصبح بلاءً على أهله؛ فغدا ذكرهم تعسًا على الأقرباء والمريدين.» وغلب عليها البكاء فسكتت ريثما تسترجع رشدها، ثم قالت: «إن حفيدتي هذه وُلدت بعد خروجك، ولما نُكب أبوها كانت لا تزال صغيرة، واتفق أنها كانت قد خرجت ذلك اليوم مع إحدى الجواري إلى بعض ضِياعنا في ضواحي بغداد، فلما صادر الرشيد ضِياعنا فرَّت بها جاريتها إلى قريةٍ بعيدة عن أعيُن الرقباء، وظلت هناك حتى علمتُ بأمرها فاحتضنتُها وخرجتُ بها هائمة على وجهي بعيدًا عن بغداد، وأقمنا بالمدائن عند جماعةٍ لا يعرفوننا وإنما آوَوْنا إكرامًا لوجه الله؛ فقضيت هناك عدة أعوام في مأمن من وشاية الواشين. وسخَّر لنا الله رجلًا لا نعرفه، فكان أحنَّ علينا من الوالد وأشفقَ من الأخ، وكان يقيم ببيتٍ مجاور لمنزلنا في المدائن. وهو غريب لا نعرف أصله ولا فصله، ولكن العناية ساقته إلينا من حيث لا ندري، فكان يتردد علينا ينظر حوائجنا ويأتينا بما نحتاج إليه عفوًا لا يلتمس على ذلك أجرًا ولا شكورًا. وقضى هذه الأعوام في إعالتنا ونحن لا نعرف من هو؛ فخيل إلينا أنه رسول من السماء بعثه الله رحمةً منه بنا.» وكانت دنانير في أثناء الحديث ترمي ببصرها إلى الفتاة إعجابًا بجمالها، فلما بلغت جدتها إلى ذكر ذلك الرجل تشاغلت الفتاة بإصلاح خمارها لتُخفي ما كاد يبدو في مُحيَّاها من الاحمرار. ولو انتبهت دنانير إلى تورُّد وجنتيها لأدركت ما تُكنُّه جوارحها وتحاول إخفاءه، ولكنها كانت في شاغلٍ عنها بغرابة الحديث. فلما بلغت في حديثها إلى ذكر ذلك الغريب غلب الإعجاب به على دنانير فقالت: «إن الدنيا لا تخلو من المحسنين، وقد سمعنا عن مثل هذه الشمائل في البرامكة ولم نعهد مثلها في سواهم. ألم تعرفي من هو ذلك المحسن؟» قالت: «لم نعرف من هو، ولكن يظهر أنه فارسي الأصل، وقد جاء المدائن منذ بضعة أعوام وهو يتكتم أمره، فإذا دخل أغلق بابه وقضى يومًا أو بضعة أيام لا يراه أحد، حتى كثرت أحاديث الناس بشأنه؛ فمِن قائل إنه يشتغل بالكيمياء، وقائل إنه ساحر، وزعم آخرون أنه من كبار أهل الثروة وقد جمع ثروته من كنز عثر عليه في منزله؛ لأنه يقيم ببيت مبني على أنقاض إيوان سابور الذي كان الخليفة المنصور يقيم به قبل بناء بغداد.» فقالت دنانير: «وما اسمه؟» قالت: «يُسمُّونه بهزاد الجند يسابوري.» فتذكرت زينب طبيبهم الخراساني، لأنها تظنه يقيم بالمدائن، فقالت: «لعل طبيبنا يعرفه؛ لأنه يتردد على المدائن، فإذا أتى الليلة سألناه عنه.» فقالت: «ما أظن أحدًا يعرفه، ومهما يكن من أمره فإنه جدير بكل ثناء، فعسى الله أن يُقدرنا على مكافأته. ولكن الأقدار لا تصفو لأحد، أو لعلها عملت على مطاردتنا منذ أفل نجمنا، فهي لا تدعنا نتنسم الراحة حتى تخلق لنا بلاءً جديدًا.» فقالت دنانير: «وكيف ذلك؟» قالت: «ما كدنا نظن الناس نسونا وأغفلوا أمرنا حتى رأيناهم عادوا إلى النكاية بنا.» قالت دنانير: «ومن هؤلاء الذين أرادوا النكاية بكم؟» ••• فالتفتت عبادة إلى حفيدتها ثم حوَّلت وجهها عنها، فاحمرَّ وجه الفتاة. وأدركت دنانير أن الحديث يتعلق بها، وظنت أن أم جعفر تتحاشى التصريح بذلك أمامها، فأحبت أن تشغل الفتاة بشيءٍ يصرف انتباهها عن الحديث فقالت لها: «أظننا أبطأنا عليكما بالعشاء، فهل تأمر مولاتي بأن تتناول الطعام؟» ففهمت عبادة غرضها من هذه الدعوة فقالت: «إني لا أشعر بالجوع الآن، ولكن أظن أن ميمونة في حاجة إلى الطعام الآن.» فلم يفت الفتاة الغرض من ذلك وسكتت، فنهضت دنانير وهي تقول لمولاتها أم حبيبة: «هلمي يا مولاتي إلى المائدة مع هذه الضيفة الكريمة.» فأطاعتها كعادتها وخرجت الفتاتان للطعام وقد استأنست ميمونة ببنت المأمون وأحبتها لجمالها وذكائها. وكفى بالإحسان باعثًا على المحبة، فقد قيل: «أحسِنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبَهم.» أما دنانير فرافقت الفتاتين إلى حيث أمرت الخدم بإعداد الطعام وعادت إلى عبادة وقد اشتدَّ شوقها لسماع الحديث. وكانت عبادة جالسة مُطرِقة، فدخلت دنانير وأغلقت باب القاعة وراءها وجلست إلى أم جعفر تهشُّ لها وتُرحب بها وقد سرَّها أن تُواسيَها وتخدمها قيامًا بما تشعر به من فضلها عليها، فضلًا عما تبعث عليه حالها من الشفقة لما أصابها من الذل بعد ذلك العز. والإقرار بالإحسان فرض يَسُر أهلَ الفضل أن يأتوه وأن يكرموا صاحبه إلا طائفة من الناس ساءت سريرتهم وسفلت طباعهم وصغرت نفوسهم؛ فهؤلاء يُنكرون فضل الفضلاء وقد تحملهم الكبرياء على إيقاع الأذى بالمحسنين إليهم، ولا سيما الذين وُلدوا في الفاقة وخفْض العيش ثم ساعدتهم الأقدار على الارتقاء؛ فإن أنفسهم الأمَّارة بالسوء ربما سوَّلت لهم قتل مَن يُحسن إليهم. أما دنانير فكانت كبيرة النفس صافية السريرة؛ فسرَّها أن تخدم مولاتها اعترافًا بفضلها. فلما خلت إليها تنهَّدت عبادة تنهدًا عميقًا، ونظرت إلى دنانير والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «آه يا دنانير! إن النظر إليك يُذكرني أيام عزي، وإني لأشكرك على ما لقيتُه من مواساتكِ وتلطفكِ في حين أن أقرب الناس إلينا نسُونا أو تناسَونا. ولكن ما لنا وذاك، إن الأمر الذي جاء بي إليكم الليلة لَجِدُّ خطير.» فقطعت دنانير كلامها ووضعت يدها على كتفيها وهي تنظر إليها مبتسمةً وتقول: «قولي ما عندك يا سيدتي، إنكِ صاحبة الأمر وعلينا الطاعة.» فتنهدت وقالت: «أنتِ طبعًا تعرفين الفضل بن الربيع.» فلما سمعت دنانير الاسم أدركت عِظَم الأمر لعلمها أن هذا الوزير هو الذي عظَّم ذنب جعفر لدى الرشيد حتى قتله وتولى هو الوزارة مكانه، فقالت: «نعم يا سيدتي أعرفه، فما خطبه بعد الذي أتاه؟» قالت: «ليس الخطب خطبه الآن، وإنما نشكو من ابنه!» قالت: «وماذا صنع ابنه؟» قالت: «لا أدري كيف بلغه خبر ميمونة ولا أعلم أين رآها حتى فُتن بجمالها، أو لعله لم يُفتن بها وإنما أراد النكاية بنا، فبعث إليَّ منذ بضعة أسابيع قهرمانة دار أبيه يُوسِّطها في خطبة ميمونة لنفسه، وقد تلطفَت القهرمانة في الطلب ووعدتنا خيرًا. فماطلته لأني أخاف إذا رفضتُ طلبه بتاتًا أن يُؤذيَنا، فلم يرجع عن طلبه وبالغ في المحاسنة وكرَّر الوعد بما ينويه لنا من الخير إكرامًا لميمونة لأنه مفتون بها. وقد أكدت لنا القهرمانة أنه يحب الفتاة حبًّا مبرحًا، وأنه لا يريد لنا إلا السعادة إذا أجبتُه إلى بغيته. فاعتذرتُ من الإجابة أعذارًا مختلفة، وتقدمتُ إليها أن تساعدني في دفعه فوعدتني، وظلت أيامًا لم ترجع إلينا. فظننتها أفلحتْ واطمأنَّ قلبي، فلما كان مساء الأمس جاءتني بنبأ ذهب بصوابي وقطع حبل رجائي!» قالت ذلك وشَرِقت بدموعها فسكتتْ واشتغلتْ بمسح عينيها. وكانت دنانير تسمع حديثها وهي تتطاول نحوها بعنقها، فلما رأتها تبكي قالت: «خفِّفي عنكِ يا سيدتي. وماذا جرى بعد ذلك؟» قالت: «جاءت القهرمانة هذه المرة تُهددني بالسوء إذا لم أُجب طلب ابن الفضل، وذكرتْ لي أنه أوصل أمري إلى علي بن ماهان صاحب الشرطة ووسَّطه في الخطبة، وأن عليًّا هذا يُلح عليَّ في إجابة الطلب على أن يضمن لي ما أريده من الخير، فإذا لم أفعل كانت العاقبة وخيمةً عليَّ وعلى ميمونة. فوعدتُ القهرمانة بأن أنظر في طلبها وأُجيبها. وأنتِ تعلمين موقفنا من هؤلاء ولا سيما الفضل بن الربيع الذي كان سبب قتْل ابني، فكيف أُزوِّج ابنة ابني من ابنه وأنا لا أطيق سماع اسمه؟» قالت ذلك وأطلقت لدموعها العِنان، فتفطر لها قلب دنانير وأدركت عظم ما يتهدَّد أم جعفر وحفيدتها لعلمها أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا. فأطرقتْ وأعملتْ فكرتها حينًا ثم قالت: «لا أُنكِر على مولاتي ما قالته من كُرهها لذلك الرجل وابنه، ولكن …» ورفعت كتفيها وقلبت شفتيها وسكتت. فقالت عبادة: «لا أستطيع قَبول زواج ابن الفضل بابنة جعفر. وهبي أني قَبِلت، فهل تظنين ميمونة تَقبل وهي تعرف أن الفضل بن الربيع أصل بلائنا ومصدر مصائبنا؟ كلا، هذا لا يكون.» فقالت دنانير: «إذا كنتِ مُصرَّة على الرفض فأنا طوع إرادتك، وهذا القصر وأهله في خدمتك، فإذا شئتِ الإقامة به أقمتِ على الرحب والسعة. ولا أظن أحدًا يجسر على إخراجك منه. وقد أفرحني ما آنستُه من ارتياح مولاتي زينب إليك، وأنتِ تعلمين نفوذها عند أمير المؤمنين الرشيد، فمتى عاد وسَّطناها لديه وهو لا يردُّ لها طلبًا؛ فانعمي بالًا.» فتنهدت عبادة وسكتت هُنيهة ثم قالت: «أخشى يا دنانير أن يكون في إقامتنا هنا بأس على أهل هذا القصر؛ لأن النحس ملازم لنا، فلا أحب أن يلحقكم شيء منه.» فتأثرت دنانير من قولها وأخذت تُخفف عنها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/4/
دنانير وأم جعفر
سمعت دنانير وقْع خطوات مسرعة في الدهليز فنهضت إلى الباب وفتحته فرأت أحد الغِلمان واقفًا بالباب يقول: «جاء الطبيب يا سيدتي.» فأبرقت أسرتها ولم تتمالك أن قالت: «الطبيب جاء؟ لقد أبطأ، دعه يدخل.» قالت ذلك ورجعت إلى عبادة وهي تبتسم وتقول: «جاء طبيبنا الخراساني الذي ذكرتُ لك أنه يتردد على المدائن، فعسى أن ينفعنا في معرفة صاحبكم الذي ذكرتِ أنه واساكم هناك.» ففرحت عبادة بالبشرى، ولبثتْ تنتظر مجيء القادم بفارغ الصبر ولم تَمضِ دقائق قليلة حتى سمعتا حركةً ووقْع أقدام، فرجعت دنانير إلى الباب لتستقبل القادم. فلما رأته مقبلًا قالت: «لقد أبطأتَ علينا أيها الطبيب هذه المرة، جعل الله المانع خيرًا.» وكانت عينا عبادة على الباب وقد أصلحت خِمارها، فسمعت الطبيب يقول: «لقد أبطأتُ عليكم لعُذرٍ قاهر، فهل أنتم في حاجة إليَّ؟» قال ذلك وفي كلامه عُجْمة، فلما سمعت عبادة صوته خفق قلبها لأنها عرَفتْ فيه صوت جارهم بهزاد. ثم دخل الطبيب، فلما وقعت عيناها عليه تحققتْ أنه هو بعينه صاحبهم، فقالت: «هذا بهزاد!» أمَّا هو فحالما رآها خلع نعاله وأسرع نحوها فصافحها وتلطف في السلام عليها وقال: «أنتِ هنا يا خالة؟» فقالت: «نعم يا سيدي، وقد جئت لزيارة دنانير.» فبُغتت دنانير لذلك الاتفاق وقالت: «إذن بهزاد صاحبكم هو طبيبنا؟ ما أجملَ هذا الاتفاق. تفضل يا سيدي.» وأشارت إلى كرسيٍّ فمشى بهزاد بقدمٍ ثابتة وخُطًى واسعةٍ حتى جلس عليه، وكان طويل القامة عريضَ ما بين المَنْكِبين كبير الجمجمة واسع الجبهة أبيض الوجه أسودَ العينين غائرَهما، مع حدةٍ وذكاء، خفيف اللحية صغير الشاربين. وكان في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وقد تزمَّل بعباءةٍ سوداء، وعلى رأسه قَلنْسُوة قصيرة ليس حولها عمامة. وكان لطوله وعرض مَنْكِبيه إذا مشى تقلع كأنه ينحطُّ من صبب، وإذا أقبل عليك حسبته من الجبابرة الذين يتحدثون بعظم هاماتهم، ورأيت في عينيه رقةً ونفوذًا يدلان على قوة الإرادة وصدق الطوية. وكان لا يُرى إلا مقطبًا والاهتمام بادٍ في محياه، في غير جفاءٍ أو خشونة. ويندر أن يضحك، كما أنه قليل الكلام كثير التفكير، يستأنس به جليسه ولكنه يهابه ويشعر بقوة سلطانه عليه. فلما جلس ابتدرته دنانير قائلة: «لقد كنا نتحدث عنك ساعة الغروب ثم ذكرناك في عرض حديثٍ جرى لي مع سيدتي أم جعفر. وأنا أحسبك غير بهزاد الذي ذكرتْه لي؛ لأني لا أعرفك بهذا الاسم. فأحمد الله على أنك أنت صاحب الجميل عليها!» ولاحت من دنانير الْتفاتة إلى أم جعفر فرأتها تشير إليها برفع حاجبيها والعض على شفتها ألا تفعل، كأنها تنهاها عن التصريح باسمها. فأدركت دنانير غرضها. أما بهزاد فإنه تجاهل مرادها وقال: «إن أهل المدائن لا يعرفونني إلا بهذا الاسم؛ لأنهم رأوني فارسيَّ السحنة، فسمَّوْني بهزاد. وأما اسمي فهو عبد الله.» ثم حوَّل نظره إلى أم جعفر بانعطافٍ واحترامٍ وقال: «لا جميل لي يا خالة في شيءٍ فعلتُه، ولا أعرف أني أتيت شيئًا يستحق الثناء.» ثم التفت إلى دنانير وقال: «كيف مولاتنا أم حبيبة؟ عسى أن تكون في خير وعافية!» قالت: «هي بخير، وتتناول العشاء مع ضيفةٍ لها في غرفة المائدة، وقد كنت عازمةً على الذهاب بها إلى الفراش كالعادة.» فأظهر أنه لم ينتبه لعزمها، وقال وهو يخفي ما يخالج ضميره من الاهتمام ويتشاغل بإصلاح بند سيفه في منطقته: «هل أتى غلامي سلمان؟» قالت: «كلا يا سيدي، لم أعلم أنه جاء. وهل أنت على موعدٍ معه هنا؟» قال: «نعم، كنت أتوقع أن يأتيَ نحو الغروب، وشُغلت عن المجيء إليكم حتى الآن وأنا أحسبه في انتظاري هنا.» قال ذلك وهمَّ بالنهوض وهو ينظر إلى الباب كأنه يريد الخروج، فقالت دنانير: «هل تحتاج إلى شيءٍ يا مولاي؟» قال: «كلا، ولكنني أحب أن أتحقق مجيء سلمان إلى القصر، فقد يكون أتى ودخل بعض غرف الغلمان.» فمشت دنانير وهي تقول: «أنا أذهب للبحث عنه، تفضل واجلس.» وهمت بالخروج. لكنها لم تدرك الباب حتى سمعَت جلبة وقهقهة في الدهليز فعرفت أن زينب قادمة وهي تُقهقه لأمرٍ أضحكها؛ فضحكت دنانير سرورًا بها وأطلت على الدهليز وهي تقول: «مولاتي! أنتِ هنا؟ ألم تذهبي إلى فراشكِ بعد؟» ولم تُتم كلامها حتى كانت زينب قد لحقت بميمونة فأمسكت بثوبها وراحت تشدها نحو الباب تداعبها، وميمونة تطاوعها إرضاءً لها واستئناسًا بها. فابتدرتها دنانير قائلة: «ما الذي أضحككِ يا حبيبتي؟» فصاحت الفتاة وهي تلتفت وراءها التفاتَ مذعورٍ مطمئنٍّ قائلة: «أضحكني غلام الطبيب، تعالَي انظريه.» وأشارت بأصبعها إلى الدهليز، فخرجت دنانير فرأت رجلًا في لباسٍ وقيافة لا عهد لسلمان بهما، ثم عرَفتْ أنه هو بعينه، ولكنه قد اتخذ لنفسه عمامة كبيرة، ولحية طويلة قد دبَّ فيها الشيب، وعليه جُبَّة مثل جبة أحبار اليهود؛ فلم تتمالك عن الضحك وقالت له: «ويلك، ماذا أصابك؟» فانزوى سلمان في بعض منعطفات الدهليز، حيث اختفى لحظةً ثم ظهر وقد عاد إلى هيئته العادية، بقبائه وسراويله وطاقيته، وعادت لحيته صغيرة لا شيب فيها؛ فزادها تغيُّره استغرابًا، وذهبت إلى القاعة لترويَ للطبيب ما شاهدته وتبشره بقدوم غلامه، فرأته قد خرج ليراه لأنه سمع ما دار بشأنه. ولكنه لم يكد يدرك الباب حتى رأى زينب داخلة تجرُّ ميمونة وراءها وتضحك ولا تعلم أن الطبيب هناك. فلما وقع نظرها عليه تهيَّبت واستحيت وأطرقت وأسرعت للاستتار وراء ميمونة. فلما رأى الطبيب استحياءها تبسَّم واقترب منها وقال: «كيف حالكِ يا أم حبيبة؟» ومدَّ يده ليتناول يدها فازدادت حياءً وتراجعت حتى اختفت وراء ميمونة. أما هذه فلما وقع نظرها على الطبيب بُغتت وصَبغ الحياء وجهها لسببٍ غير السبب الذي أخجل زينب، وتلعثم لسانها واصطكت ركبتاها وتحيَّرت بين الإطراق خجلًا وبين أن تُحيِّي وليَّ نعمتها والمحسن إليها. أما هو فلما رأى دهشتها وارتباكها تجاهل وحيَّاها وتحوَّل إلى زينب يتلطف في تشجيعها لتردَّ عليه السلام. ولحظت أم جعفر ارتباك حفيدتها فحسبته من لقائها بهزاد على غير انتظار، فإنها لم تكن تعلم ما يُضمِر قلبها ولم يتفق أن لحظت منها شيئًا يدل على أن شعور قلبها نحو بهزاد يجاوز الشعور بفضله عليهما؛ فنهضت واقتربت من ميمونة وقالت: «هذا مولانا وصاحب الفضل علينا، ما بالكِ لا تُسلِّمين عليه يا لمياء.» فلما سمعتْها دنانير تُسمِّي حفيدتها لمياء، أدركت أنها تريد إخفاء حقيقة حالهما على الطبيب. أما ميمونة فلما سمعت جدتها تدعوها إلى السلام على الطبيب تجلدت ومدت يدها، فتناولها وشعر بارتعاشها وبرودتها، ولم تَخْفَ عليه حالها، ولكنه ظل على تجاهله وابتسم لها كعادته ابتسامَ تلطفٍ وإكرامٍ وقال: «وأنت هنا يا لمياء أيضًا؟» وعاد إلى مداعبة زينب. فأطرقت ميمونة وقد تورَّدت وجنتاها، ولو رفعتْ بصرها لرأى بريق عينيها وشعر بما ترميه من حاجبيها من السهام. ولكنه تغافل وحوَّل نظره إلى دنانير، فرآها تراقب حركات الفتاة ولم يَفُتها ما كان يتجلى في وجهها من دلائل الحياء، وأدركت بفراستها وتمرُّسها بالحياة أن هناك شيئًا وراء ذلك، واستغربت ما أبداه الطبيب من الفتور كأنه خالي الذهن مما يَجول في خاطرها؛ فتحيَّرت وتمنَّت لو تُمكِّنها الفرصة من تحقيق ظنها، فما لبثت أن سمعت الطبيب يقول: «أين سلمان؟ سمعتكم تتحدثون عنه.» فأشارت دنانير إلى الدهليز وقالت: «إنه هنا. هل أدعوه إليك؟» قال: «بل أنا ذاهب إليه.» وصاح: «سلمان!» وخرج من القاعة وترك أهلها على ما ذكرناه من الاضطراب والارتباك. فأجابه الغلام: «لبيك يا مولاي، أنت هنا؟» فقال وهو يحتذي نعاله ويهمُّ بالمسير نحوه: «قد استبطأتك وقلقت لغيابك.» ومشى نحوه وقال لدنانير: «سأعود إليكم بعد قليل.» فعلمت أنه ذاهب إلى المنزل الذي اعتاد الإقامة فيه أو المبيت فيه إذا جاء القصر المأموني، وهو من جملة أبنية القصر الكبير. فظل ماشيًا وسلمان يتَقدَّم نحوه حتى التقيا وخرجا من الدهليز إلى البستان ومنه إلى ذلك المنزل. ••• كان الطبيب يمشي مُطرقًا وسلمان يسير في أثره مهرولًا، ولكنه رغم هرولته وطوله لا يستطيع اللحاق به وهو يمشي الهوينى لِسعة خطواته. فلما وصلا إلى المنزل تَقدَّم سلمان وفتحه، ثم خلعا حذاءيهما ودخلا، وهمَّ سلمان بسراجٍ على مسرجة فأشعله وأغلق الباب وراءه، ووقف حتى جلس الطبيب على وسادةٍ في صدر الغرفة فوق البساط وأمره بالجلوس بين يديه فجلس منتظرًا أمره، فلما استتبَّ بهما الجلوس قال الطبيب: «ما وراءك يا ملفان سعدون؟» فقال: «وأنت أيضًا تدعوني ملفانًا؟» وضحك. فقال: «إنك تبقى ملفانًا حتى تنتهيَ مهمتنا من هذه الديار ونبلغ غايتنا. قل ما وراءك؟» قال: «جئتك بخبرٍ مُهمٍّ لم يطَّلع عليه أحد في هذه المدينة، ولو عَرَفه أهلها لقاموا وقعدوا وتغيَّرت أحوالهم، فضحك قوم وبكى آخرون.» فتنحنح الطبيب ونظر إلى سلمان بعينين حادَّتين، كأنه يخترق أحشاءه ويستطلع خفايا قلبه، وقال: «هل عندك غير خبر موت الرشيد؟» فأجفل وقال: «وهل عرفت ذلك؟ يا ألله! كيف عرفته وقد جاء الساعة ولم يعلم به أحد إلا صاحب البريد. ولو لم أشاهد اللوح النحاسي الذي يحمله سُعاة البريد معلقًا بالشرابة على صدره لما صدقته. فكيف عرفته؟» قال: «عرفته ولم أرَ اللوح النحاسي ولا تحققتُ صِدق الساعي. إن الرشيد مات يا سلمان، فهل عرفت خبرًا غير هذا؟» قال: «وهل هناك ما هو أهم من هذا الخبر؟ لقد أذهبتَ سعيي عبثًا وكنتُ أحسبني جئتك بخبرٍ تغبطني عليه، وأنا إنما عرفته اتفاقًا وقد كلفني سبيكةً من الذهب! إني لا أزال قليل النفع لك.» قال الطبيب: «بل أنت كثير النفع لا يُستغنى عن ذكائك ونشاطك، ويكفينا أنك تكشف لنا عن أغراض العامة وأقوالهم والعيارين ومقارفتهم.» فقال: «ليس هذا مما يؤبه له، وأظنك عالمًا بالغيب فقل ما عندك مما يفوق موت الرشيد خطرًا.» قال: «أخطر منه ما أتاه أصحابه؛ فقد خلعوا المأمون ونكثوا البيعة له بعد أخيه. وسترى عاقبة ذلك عليهم.» فدُهش سلمان وقال: «نكثوا بيعة المأمون؟ يا لهم من قومٍ خائنين! لكن مَن فعل هذا أو أشار به؟» قال: «الفضل بن الربيع.» فقال سلمان وقد ذُعر: «الفضل وزير الرشيد الذي سافر معه في حملته الأخيرة؟» قال: «نعم، هو بعينه. إن هذا الرجل أقدمَ على أمرٍ سيودي بهذه الدولة كما فعل بقتل الوزير المظلوم، وكلٌّ من الفعلين يُسقط دولة، فكيف إذا اجتمعا؟» قال ذلك وقد بدا الغضب في عينيه. فتهيَّب سلمان من غضبه وقال: «وكيف كان ذلك يا سيدي؟» قال الطبيب: «لما سافر الرشيد في هذه الحملة اصطحب ابنه المأمون وأخذ له البيعة مِن جميع مَن في معسكره من القواد والأمراء ومن إليهم، وأقرَّ له بجميع ما معه من الأموال وغيرها. وكان ذلك بسعي الفضل بن سهل صاحب الهمة الشماء.» قال: «نعم يا مولاي إن الفضل بن سهل لجدير بهذا الوصف. ثم ماذا؟» فقال: «وسار المأمون مع أبيه ليُقيم بخراسان. ولا يخفى عليك أن الرشيد بايع بالخلافة بعده لولده الأمين المقيم في بغداد الآن، ثم للمأمون الذي رافقه في هذا السفر، على أن يتولى خراسان أثناء خلافة الأمين، وكان الرشيد مريضًا يوم سفره ولكنه أخفى مرضه. وقد روى لي الصباح الطبري — ومكانته من الرشيد ما تعلم — أنه ذهب لوداعه يوم خروجه من بغداد، فقال الرشيد له: «ما أظنك تراني يا صباح أبدًا.» فلما أعظم قوله وأنكر عليه ما يخافه، قال: «ما أظنك تدري ما أجد في صحتي.» قال الصباح: «لا والله.» فعند ذلك مال الرشيد إلى ظل شجرةٍ في الطريق وأمر خواصَّه بالابتعاد. فلما خلا إلى الصباح كشف عن بطنه فإذا عليه عصابة حرير وقال: «هذه علة أكتمها عن الناس كلهم، ولكل واحدٍ من ولدي عليَّ رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين. وما منهم أحد إلا وهو يُحصي أنفاسي ويستطيل دهري. وإن أردتَ أن تعلم ذلك فالساعةَ أدعو بدابة فيأتوني بدابة عجفاء قطوف لتزيد علتي، فاكتم عليَّ ذلك.» فدعا له الصباح، ثم طلب الرشيد دابةً فجاءوا بها كما وصف، فنظر إلى الصباح وركبها وعاد الصباح من وداعه ولم يكتم ذلك عني.» فاستغرب سلمان اطِّلاع مولاه على كل هذا وكيف كتمه عنه إلى تلك الساعة، وأحبَّ أن يعرف خبر الفضل بن الربيع فقال: «وماذا فعل ابن الربيع؟» قال: «سافر الرشيد ومعه الفضل، فأخذ هذا يراسل الأمين مخبرًا إياه بكل ما يحدث، فلما كتب إليه بأن الرشيد اشتدَّ مرضه، أعد الأمين كتبًا وأمر أن يجعلوها في قوائم صناديق المطبخ المنقورة بعد تغطيتها بجلود البقر، ثم عَهِد إلى رجلٍ من خاصَّته اسمه بكر بن معمر في إيصالها إلى أصحابها، وقال له: «احذر أن تُطلِع أمير المؤمنين أو غيره عليها، بل انتظر حتى تعلم بنبأ موته، ثم ادفع إلى كل إنسانٍ كتابه.» فلما وصل بكر هذا إلى مدينة طوس، حيث كان الرشيد مريضًا، بلغ الرشيدَ قدومُه فدعا به إليه وسأله: «ما جاء بك؟» فقال: «بعثني مولاي الأمين.» فسأله: «هل معك كتاب؟» فقال: «لا.» فلم يُصدِّقه لِعلمه بتكتُّمهم وأنهم شديدو الرغبة في موته؛ فأمر أن يفتشوا ما معه فلم يصيبوا شيئًا، فلم يقتنع فأمر بضربه لعله يعترف، فضربوه ضربًا مبرحًا حتى خاف الموت، فقال للفضل: «عندي أنباء مهمة فاتركوني لأفضيَ بها إليكم.» ولكن الرشيد أمر بقتله، ثم اتفق لحسن حظ بكر أن أُغمي على الرشيد فاشتغل الناس به، وما لبث أن مات فبعث الفضل إلى بكر بمن أخبره بموت الرشيد وسأله عن الكتب التي معه من الأمين فدفعها إليه، وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع وأخذ البيعة على الناس لهما، وكان المأمون يومئذٍ بمرو؛ وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر، وأن يعمل هو ومن معه برأي الفضل؛ وكتاب إلى الفضل يأمره بالمحافظة على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك، وأقر كل من كان هناك على عمله. فلما قرءوا الكتب تشاوروا مع القواد فيما يفعلون بالعهود التي عليهم للمأمون في بغداد؛ فكان من رأي الفضل أن يلحقوا بالأمين وقال: «لا أترك ملكًا حاضرًا لآخر ما أدري ما يكون من أمره.» وأمر الناس بالرحيل إلى بغداد، ولن يلبثوا غير أيام حتى يصلوا إلينا وقد خلعوا المأمون وما خلعوه إلا لأن أمه فارسية وهم عصبة يزعمون أنهم ينصرون العرب، وما ينصرون إلا مطامعهم، وسيعلمون ما ينالهم من أخواله.» قال ذلك وقد تعاظم غضبه فازداد سلمان تهيُّبًا من منظره رغم طول صحبته وما ألفه من أحواله، وظل مُطرقًا لا يجرؤ على النظر إليه مخافة غضبه، ثم أحب أن يكلمه فرآه يتحفَّز للنهوض ويقول: «لا بأس على ابن أختنا؛ فهو في خراسان بين أخواله، وفيهم الفضل بن سهل.» ونهض بهزاد فنهض سلمان معه وقال: «ما الذي نفعله الآن يا مولاي؟» فأطرق وهو يحكُّ جبينه بسبابته وإبهامه ثم قال: «لا بد من ذهابي لأمرٍ خطرَ لي لا يَحسُن تأجيله.» فقال سلمان: «وهل أذهب معك؟» قال: «كلا، بل أرى الذهاب وحدي لسببٍ ستعلمه!» فقال وهو يهز رأسه إعجابًا واستغرابًا: «لقد أدهشتَني بما تكتمه وما تُظهره كأنك تستخدم الجان!» قال: «لم أفعل شيئًا غريبًا.» وأخذ يُصلح قلنسوته ويعدل بند سيفه استعدادًا للمسير، فابتدره سلمان قائلًا: «إذا كنت لا ترى حاجة إليَّ فإني أذهب لإتمام مهمتي التي بدأتها في غروب اليوم، ولولا تعجُّلي لاطِّلاعي على خبر الرشيد لأتممتها قبل مجيئي ولو علمت أنك تعلم الغيب و…» فقطع بهزاد كلامه قائلًا: «لا دخْل للغيب فيما تراه، وستعلم أنه طبيعي، ولكنني تعوَّدت ألا أقول شيئًا قبل التثبُّت منه. وإنما يُقدِم على كثرة الكلام أهل الطيش فيُجعجعون ويُطنطنون ثم لا يأتون غير الكلام، وعندي أن إذاعة ما ينويه المرء من الأعمال يذهب بالعزم على إتمامه. وما أجملَ ما قيل: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».» وكان سلمان يُصغي إلى كلامه، فلما فرغ قال: «إنها عِظة بالغة؛ ولذلك فإني ذاهب الآن لقضاء المهمة التي بدأتها، ومتى انتهت أطلعتك عليها، وأرجو أن تَحسُن في عينيك وألا تكون قد سبقتَني إليها!» فقال الطبيب: «اذهب في حراسة الله، وسنلتقي هنا غدًا، وإذا لم آتِ فلا تستبطئني.» قال ذلك وترك سلمان ومشى نحو القاعة التي ترك القوم فيها. ••• كانت دنانير بعد ذهاب الطبيب قد أدخلت زينب إلى الفراش وسألت ميمونة إذا كانت تريد الرُّقاد أيضًا فأجابت بأنها تُؤْثر البقاء للاستئناس بها وبجدتها، فأمرت الخدم بأن يُعِدوا لها ولعبادة طعامًا فأكلتا، ولا حديث لهما غير بهزاد، وكلٌّ منهما تقصُّ على رفيقتها ما تعرفه من غريب أطواره وأحواله، ولا سيما عبادة؛ فإنها أخذت تُطري شهامته وأَنَفته وكرم أخلاقه، وكيف أن أهل المدائن يَعُدونه من الأولياء ويستغربون تكتُّمه. على أن التكتم زاده رِفعةً في أعينهم وزادهم تهيبًا منه؛ لأنك لا تزال تخاف المجهول حتى تعلمه. وعلى هذا القياس ترى الصمت يرفع منزلة صاحبه وكثرة الكلام تُقلل من هيبته، فإذا جهلت ما في خاطر المرء حسبت ما يكتمه شيئًا عظيمًا، فإذا تكلم انكشف لك عن شيءٍ تافه. والعقلاء يزين أقوالَهم احتفاظُهم بالكلام إلى حين الحاجة، مع تدبير ما يقولون فلا يُلقون الكلام على عواهنه. وكانت ميمونة تسمع حديثهما عن بهزاد وقلبها يرقص طربًا تشعر به ولا تستطيع التعبير عنه؛ فقد عرفت هذا الشاب منذ عامٍ وبعض العام، ورأت منه انعطاف المحسنين وغَيرة الأقربين، فاحترمته وأُعجبت به. ثم أَلِفت رؤيته حينًا بعد آخر فأصبح إذا غاب استبطأته وشعرت بحاجةٍ إلى رؤيته، ولا يطمئن قلبها إلا إذا رأته ولو مارًّا في الطريق. وقد زاد في ارتياحها إليه ما كانت تسمعه من إطراء جدتها له وامتداحها خصاله؛ فأصبحت إذا شاهدته أو سمعت صوته يخفق قلبها، وإذا كلمها صَعِدَ الدم إلى مُحيَّاها واستولى الخجل عليها. ثم أصبح قلبها يخفق لسماع اسمه، وصارت تلتذُّ الحديث عنه، وإذا سمعت أحدًا ينتقده أو يُقبِّح أعماله شقَّ عليها قوله وأخذت تدفع عنه بحماسةٍ وغَيرة. كانت تفعل ذلك وهي لا تعلم أنها تحبه، ولو سُئلتْ في ذلك لاستغربت السؤال وأنكرته. لا تفعل ذلك نفاقًا أو رياءً لكنها لم تكن تعلم أنها تحبه، خصوصًا أنها لم تكن تسمع منه كلمةً تدل على حبه لها. وكان إذا جاء المنزل كلَّم جدتها، فإذا عرضت له حيَّاها وهو ينظر إلى شيءٍ آخر، وربما سألها عن حالها سؤالًا لا مبالاة فيه أو اكتراث، فلم يمنعها ذلك من الاسترسال في حبه؛ لأنها لم تفكر في هل تحبه أم لا، ولو فعلت ذلك لاحترست من التورط؛ لأنها لم تكن ترى منه ميلًا ولكنها أحبته عفوًا، وهي لا تعرف دلائل الحب. وما زالت على ذلك حتى التقت به تلك الليلة فجأةً ثم رأته يلاطف زينب ويداعبها؛ فتحركت الغَيرة في قلبها مع علمها أنه فعل ذلك تلطفًا ومجاملة، وأحست كأن سهمًا أصابها في قلبها. على أنها تراجعت وحاولت أن تُقنع نفسها بأنْ ليس ثَمَّةَ داعٍ للغَيرة فاقتنع عقلها، وأما قلبها فما زال في اضطراب. وأخذت من تلك الساعة تتساءل عن سبب هذا الشعور، فاغتنمت اشتغال جدتها ودنانير بالطعام والحديث، وطفقت تفكر في سبب هذا الشعور، وكلما همَّت بأن تسأل نفسها هل تحبه غلب عليها الحياء وأنكرت ذلك؛ لأنها لا ترى من أعماله ما يُجرِّئها عليه؛ فتعللت بأنها إنما تحبه إقرارًا بفضله وإحسانه. ثم رأت ذلك لا يُغني فتيلًا؛ لأنها تُحسُّ بانعطافٍ إليه غير انعطافها إلى جدتها مثلًا وهي أكثر الناس إحسانًا إليها؛ فتحققت أنها تحبه لغير الإحسان. ولما تصوَّرت ذلك ولم ترَ مندوحةً عنه انقبضت نفسها؛ لأنها لم تلحظ منه شيئًا من غير هذا القبيل نحوها. وعادت إلى ذكرى الماضي فراجعت تاريخ معرفتها به وما كان يبدو من حركاته وأقواله؛ فلم ترَ دليلًا على أن عنده مثل ما عندها. على أنها حملت ذلك منه على رغبته في التكتُّم. وهكذا كانت عبادة ودنانير تتناولان الطعام وتتحادثان، وميمونة غارقة في هذه الأفكار. وبعد الفراغ من الطعام قالت دنانير: «هل تريدان الذهاب إلى الفراش فإننا في أواسط الليل؟» فقالت عبادة: «أما أنا فلا أشعر بالنعاس، ولكن ميمونة تنام.» فلما سمعت ميمونة قولها تذكرت أن بهزاد وعد بألا يُبطئ في العودة، وشعرت بميلٍ إلى أن تراه قبل الرقاد، ولا سيما بعد ما ناجت به نفسها من حبه لعلها تؤانس منه إشارة أو تسمع كلمة تستدل منها على ميله إليها. فلما سمعت قول جدتها حدثتها نفسها أن تَعصيَها ولكنها لم تجرؤ؛ إذ لم تألف مخالفتها، فوقعت في حيرةٍ وارتبكت في أمرها. ولحظت دنانير ارتباكها وأدركت سببه دون عبادة؛ إذ كانت لا تعلم شيئًا عن عواطف حفيدتها، فلم تكن تتوقع منها غير النهوض، ثم سمعت دنانير تقول: «ما لنا وللرقاد الآن؟ دعي ميمونة معنا فإن هذه الليلة عندي من ليالي العمر لِشدة فرحي بكما.» ثم مدت ذراعيها إلى ميمونة وضمَّتها إلى صدرها وقالت: «ولا سيما حبيبتي ميمونة؛ فإنها كنز لقيته؛ فدعيني أتمتع برؤيتها.» فأشرق وجه ميمونة، ولما ضمَّتها دنانير وقبَّلتها أجابتها بقُبلات حارَّة وضحكت من شدة الفرح. فأثنت عبادة على عطف دنانير ومجاملتها. ولم يستتب بهن المقام حتى سمعن وقْع أقدام الطبيب؛ فخفق قلب ميمونة ولكنها تجلدت. ونهضت دنانير لاستقباله فإذا به لا يزال بلباسه وزاد عليه كوفية اعتمَّ بها وأرخى أطرافها حول رأسه كأنه على سفر، فابتدرته دنانير قائلة: «ما لي أرى الطبيب يهمُّ بالسفر؟» قال: «لا بد من ذهابي الآن لأمرٍ ذي بال، وكنت أودُّ البقاء عندكم لولا الضرورة، ولكنني سأعود في الغد إن شاء الله.» وكانت عبادة قد وقفت لاستقباله وميمونة بجانبها، فلما سمعتا قوله تَقدَّمت عبادة حتى التقت به وهو داخل من الباب فقالت: «سِرْ في حراسة الله يا ولدي، وأرجو أن تعود سريعًا ولا تنسانا.» فتقدم نحو عبادة ومد يده فصافحها باحترام وقال: «حاش لله أن أنساك.» والتفت إلى دنانير وقال: «إني أوصيكِ بهذه الخالة يا دنانير، وإن كنت لا أرى حاجةً إلى ذلك لما آنستُه من حبكِ لها.» وكانت ميمونة أثناء ذلك واقفة وركبتاها ترتعدان وقد تولاها الخجل. وقد أعدَّت عبارة تقولها في وداعة فلما رأته نسيتها وتلعثم لسانها. أما هو فلما فرغ من وداع عبادة تحوَّل نحو ميمونة ومدَّ يده فقبض على يدها وأحسَّ برعشتها وبرودتها فضغط عليها ووجَّه كلامه إلى دنانير وقال: «وهل أوصيكِ بلمياء؟ كان يجب أن أوصي أم حبيبة بها، على أنني لا أرى حاجةً إلى ذلك وقد رأيت مِن تَحابِّهما ما لا حاجة معه إلى توصية، بل يجدر بي الآن أن أوسِّط لمياء لدى مولاتنا من أجلي.» ثم وجه خطابه إلى ميمونة وهو يضغط على يدها ضغطًا ترافقه رعدة متبادلة وقال: «هل تتوسَّطين لي عندها؟ ما أسرعَ تسلُّطَك على قلب مولاتنا حتى استأنستْ بكِ كأنها تعرفكِ منذ أعوام.» قال ذلك وابتسم وأبرقت عيناه وكادتا تبوحان بما في قلبه. وأما هي فلا تَسَلْ عن حالها وما كان يتجاذبها من الخجل والامتنان والفرح، لِما آنستْه من تلطُّفه وما توسَّمته في خلال حديثه من الدلائل على حبه، فسكتت وأطرقت، وهذا أبلغ جوابٍ من فتاةٍ في مثل هذه الحال، لكنها لم تتمالك عن الابتسام وبان السرور في وجهها. أما هو فكأنه انتبه إلى نفسه وندم على ما فرط منه فأفلت يدها وعاد إلى كتم عواطفه؛ فتحول عن ميمونة إلى دنانير فحياها وقال: «أستودعكم الله إلى الغد.» وخرج مسرعًا. وكانت دنانير قد لحظت ما بدا من اهتمام الطبيب بميمونة، وسرَّها ذلك بعد أن استاءت من فتوره، للمرة الأولى، فودَّعته وعادت إلى ضيفتها فقالت: «ما أكثرَ ما يهتم له هذا الطبيب، وما أكثرَ شواغلَه؛ فإنه لا يلبث أن يكون جالسًا حتى ينهض، إني لم أفهم سره.» فقطعت عبادة حديثها قائلة: «هذا هو حاله معنا منذ عرفناه، فمع توالي إحسانه لا أذكر أنه جالسنا ساعةً أو بعض ساعة؛ فلا أراه إلا مهتمًّا مقطبًا، وهذه أول مرة رأيته يبتسم ولم يُطل ابتسامه فعاد إلى حاله.» أما ميمونة فبعد أن اطمأن قلبها وفرحت بما لمحته من بهزاد، عادت إلى هواجسها عندما أفلت يدها بسرعة وتغيَّر وجهه فجأة، ثم اشتغلن بالحديث حتى حان موعد الرقاد فذهبت كل واحدةٍ إلى فراشها. ••• كان سلمان هو الذي تنكر باسم الملفان سعدون واختلط بالعامة وصاحَب رئيس العيارين خدمةً لمولاه بهزاد، وقد ترك الهرش على أن يعود إليه في تلك الليلة مهما يطل غيابه ليلقاه في قاعة العيارين. وكان قد أسرع إلى القصر ليُخبر الطبيب بموت الرشيد، فلما رآه يعلم ما لم يعلمه هو من أمر البيعة وما تبعها رأى أن يعود بهذه الأخبار إلى الهرش لعله يدهشه فيزداد اعتقادًا بصدق مندله. فلما ودَّع مولاه الحكيم أبدل ثيابه وعاد إلى العمامة والجبة والسالفين واللحية، وأسرع إلى بغلته فركبها وسار قاصدًا قاعة العيارين. وكان الليل قد انتصف وأُغلقت المنازل وطاف الحراس يتنادون فإذا رأَوْا غريبًا أوقفوه. أما سعدون فكان له من لباسه وقيافته شافع حتى بلغ جسر بغداد، ولم يكن له بُدٌّ من المرور عليه إلى البر الغربي والحراس قائمون على طرفيه وقاعة العيارين بالحربية وراءه، فمر على الجسر ولم يعترضه أحد حتى دخل البر الغربي، وهو بغداد الأصلية مدينة المنصور وحولها الأرباض القديمة وفيها الطرق الضيقة علقت المصابيح في مداخلها، ووقف الحراس فيها بأسلحتهم، فأوجس خيفة منهم، ونادى أحدهم فأسرع إليه فقال له: «سر أمامي إلى قاعة العيارين.» فلما سمعه الحارس يتكلم كمن له سلطان، ورأى لباسه ظنه أحد رجال أهل الذمة المقربين من الخليفة للطبابة أو النجامة أو نحوهما؛ فمشى بين يديه حتى أقبل على بناءٍ فخمٍ من ناحية الحربية ببابه عياران عليهما المئزر وعمامة من الخوص، فلما رأيا الملفان على بغلته عرفاه فتقدما إليه وأعاناه على النزول وقالا له: «إن مولانا الهرش ذهب إلى مكانٍ قريب ولا يلبث أن يعود، وقد أوصانا بأن نُرحب بك ونُدخلك القاعة تنتظره فيها.» فترجل ومشى العياران بين يديه وسلمان يخطو وراءهما بعكازه، حتى استطرق من الدهليز إلى ميدانٍ تطرق منه إلى قاعة كبيرة فيها عدة مصابيح مُدلاة من سقفها كالثريا، وفي أرضها بساط عليه نقوش ووسائد ومقاعد، فدعاه العياران إلى الجلوس على مقعد إلى اليمين فجلس، وكانت هذه أول مرة دخل فيها قاعة العيارين، لكنه لم يُدهش لِما هناك من الأثاث الثمين، بل دُهش لِما رآه معلقًا في جدرانها من ضروب الأسلحة وأدوات الحرب من مُختلِف أنواع السيوف والأقواس والرماح، ومن المقاليع بين مصنوع من الجلد أو مجدول من الشعر أو من الحرير، وإلى جانب كل مقلاع مخلاته والمخالي على أنواع. ورأى في بعض جوانب القاعة عِصيًّا طويلة من خشب الشوم وغيره يثب عليها العيارون لقطع الأنهر، وبجانبها سلالم مصنوعة من الحبال تنتهي من أطرافها بكلاليب يرمونها على السطوح إذا أرادوا الوثوب عليها، ويقال لها سلالم التسليك. غير ما رآه من أدوات النفط التي يُشعلون بها الخرق المبتلة بالنفط ويرمونها بالمجانيق. ولم يرَ هناك إلا منجنيقًا واحدًا صغير الحجم لرمي النبال أو النفط وليس مما ترمى به الحجارة الضخمة. هذا إلى ما رآه معلقًا في صدر القاعة من الدبابيس وهي العصي وفيها المسامير من الحديد، وبعضها مساميره من الفضة أو الذهب. وهذا الدبوس لا يحمله إلا الرؤساء، وبينها دبابيس مصنوعة من الحديد. ورأى على رفٍّ هناك أرغفة من الرصاص يرميها العيارون على أعدائهم فتذهب بقوة عظيمة، وقد تقتل عدة أشخاص في رمية واحدة. ورأى كثيرًا من أدوات القتل والكسر والنقب وضروبًا من الحبال وغيرها مما يحتاج إليه العيارون.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/5/
ابن ماهان صاحب الشرطة
قضى سلمان نصف ساعة ظنَّها عدة ساعات لفرط قلقه وهو يراجع ما مرَّ به تلك الليلة من الغرائب، ثم سمع ضوضاء بباب القاعة فعلم أن الهرش قدم فتحفز للقائه، وإذا بالهرش قد دخل مسرعًا وفي أثره شاب جميل الصورة عليه قباء وسراويل وقلنسوة، وقد نبت عارضاه وبان عذاره، يلوح أنه من الرقيق الأبيض، فوقف الغلام بالباب وأسرع الهرش إلى سلمان، وكان قد وقف له فحياه وابتدره قائلًا: «أبطأتُ عليك مرغمًا؛ فإن حامد (وأشار إلى الغلام) له حاجة عند صاحب الشرطة وأبى إلا أن أصطحبه الليلة إليه، فهل تأتي معنا؟» قال: «إنما جئت عملًا بإشارتك فقد ألححت عليَّ بالرجوع. فإذا كنت لا ترى أن أذهب معك رجعت.» فقطع الهرش كلامه قائلًا: «بل أنا شديد الرغبة في الذهاب برغم أننا في آخر الليل. هيا بنا فإن الركائب مُعَدة.» ثم التفت إلى الغلام وقال: «نحن ذاهبون مع الملفان سعدون إلى صاحب الشرطة، وسأوصيه بأن يخرطك في سلك الشاكرية؛ فذلك خير لك من أن تكون عيارًا.» ففهم سلمان أن الهرش وعد الغلام بإدخاله في ذلك السلك، وتبيَّنه عن قرب فرأى فيه ذكاءً وأَنَفة، فضلًا عن الجمال، ولم يستغرب ذلك؛ فقد كان بين الرقيق المجلوب إلى بغداد أو المولودين فيها جماعة من أجمل خلق الله وأذكاهم ينخرطون في الجندية أو الحراسة، أو ينتظمون مع الشاكرية الذين يتولون نقل المراسلات في قصر الخليفة. فخرج الهرش وقد أمسك بيد سلمان احتفاءً به، وفي خاطره أن يسأله عما لديه من الأخبار ولكنه استنكف من التعجيل. فلما خرجا من القاعة ركب سلمان بغلته وامتطى الهرش فرسه ومشى في ركابيهما عياران، وركب الغلام حمارًا وسار في أثرهما وهو يستغرب ما يراه من احتفاء الهرش بذلك الملفان. وكان كل همه أن يوفَّق إلى الالتحاق بالشاكرية عملًا بإشارة مولاه؛ فقد رُبي في كنفه ولم يكن يعرف وليًّا سواه. وكان يُخلص في طاعته لِما كان يلقاه من عطفه عليه، وكان الهرش يعامله معاملة الأب لابنه، وقد عُني بتعليمه وتثقيفه على غير ما تعوَّد العيارون. ولم يكن منزل صاحب الشرطة بعيدًا عن قاعة العيارين فما عتموا أن وصلوا إليه، فترجلوا بجانب باب كبير غلب النعاس على حارسَيه، فلما سمعا قرقعة اللجم نهضا فرأيا الهرش فوسَّعا، فدخل الهرش والملفان سعدون إلى جانبه يتوكأ على عكازه، ومشى أحد الحراس بين يديهما بالمصباح في رواقٍ مستطيل إلى قاعة عليها ستر مسدول. وعلى بابها حاجب خفَّ إلى استقبال الهرش مُرحبًا، فابتدره قائلًا: «هل مولاك هنا؟» قال: «أظنكم على موعدٍ من لقائه؛ لأني لا أعلم أنه يسهر إلى مثل هذه الساعة.» فلم يُجبه الهرش وظل سائرًا حتى رفع الستر وأشار إلى الملفان سعدون أن يدخل، وأومأ إلى حامد أن يمكث في الرواق ريثما يستقدمه، أما الحاجب فأعلن قدوم الزائرين بقوله: «إن الهرش داخل يا مولاي.» فدخل سلمان وهو فيما وصفناه من قيافته الملفانية بعد أن نزع حذاءه وترك عكازه بجانب الباب، فرأى ابن ماهان في صدر القاعة على وسادة وبجانبه رجلان مال أحدهما عليه كأنه يقصُّ عليه حديثًا مهمًّا؛ فعرَفه سلمان أنه سلام صاحب البريد جاء ليُسِرَّ إليه خبر موت الرشيد، وكان ابن ماهان يتطاول بعنقه لسماعه وقد بدت الدهشة في عينيه. وكان الرجل الآخر شابًّا في نحو الخامسة والعشرين من عمره، جميل الطلعة حسن البزة، وجهه مُشرَّب حُمرة، ويتلألأ في عينيه ماء الشبيبة، وعليه ثوب ثمين وحول قلنسوته عمامة مزركشة، وقد تربَّع وأخفى قدميه تحت سراويل من الخز الثمين. وقد تضوعت القاعة من طِيبه. ولم يكن هذا الشاب أقل إصغاءً لحديث صاحب البريد من ابن ماهان؛ فعرف سلمان أنه ابن الفضل بن الربيع، ولم يكن أحد من هؤلاء يعرف الملفان سعدون إلا بما سمعوه عنه من الهرش. وكان ابن ماهان شيخًا تقدمت به السنون ولكن مطامعه ما زالت في إبانها، وله لحية واسعة يُخضِّبها بالحناء، وقد تغضن جبينه واتضحت الشيخوخة في وجهه، ولكن الكبرياء والغرور ما زالا ظاهرَين في جلسته ولفتته وأسلوب خطابه. وقد زاده كبرًا ما اختُصَّ به من الدالة على رجال الدولة لسبقه في خدمتها منذ أيام المنصور. فإنه لما تُوفِّي هذا الخليفة سنة ١٥٨ﻫ، وأبى عيسى بن موسى أن يُبايع لابنه المهدي، كان ابن ماهان حاضرًا فوضع يده على قبضة حسامه وقال له: «والله لتبايعنَّ أو لأضربنَّ عنقك.» فبايع فارتفعت منزلة ابن ماهان لدى الخلفاء العباسيين من ذلك الحين. وتولى عرش الخلافة في أيامه أربعة خلفاء آخرهم الرشيد. وكان قد حسد البرامكة ووالى الفضل بن الربيع واتفقا على معاداة الفرس ومن قال بقولهم؛ ولذا قرَّبه الأمين وجعله صاحب شرطته فأصبح همُّه تأييد سلطانه. وكان شديد القلق على مستقبل الخلافة بعد سفر الرشيد، وكاشَف الهرش بذلك فأخبره بمقدرة الملفان سعدون على استطلاع الغيب ووعده بأن يأتيه به في تلك الليلة؛ فلبث ابن ماهان في انتظاره على مثل الجمر، فجاءه صاحب البريد أثناء ذلك وأسرَّ إليه نعي الرشيد وجلسا يتباحثان فيما عساه أن يحدث من التغيير. أما ابن الفضل فكان يتردَّد على ابن ماهان ويُجالسه بلا كلفة، فاشترك في سماع الخبر. فلما سمع ابن ماهان الحاجب ينبئه بقدوم الهرش التفت نحو الباب فرآه داخلًا وسلمان إلى جانبه، فرحب بهما واصطنع ضحكة يتلاطف بها كما يفعل بعض المتغطرسين إذا أحب التظاهر بالتواضع. ••• لم يحفل سلمان (أو الملفان سعدون) بما بدا؛ فظل داخلًا وسلم، ثم قال الهرش: «هذا الملفان سعدون قد جاء معي.» فابتسم ابن ماهان وهو يمشط لحيته بأنامله ولم يتزحزح من مكانه وقال: «مرحبًا بالملفان العالم المنجم.» وأومأ إليهما أن يجلسا، ثم التفت إلى صاحب البريد وقال: «قد كنتُ في قلق لاستطلاع الخبر الذي قصصتَه عليَّ فأحببت أن أستعين على كشفه بعلم هذا المنجم، ولم يعد بنا حاجة إلى ذلك الآن.» ثم اعتدل في جلسته وقال: «ولكني سُررت بلقائه، لَعلِّي أحتاج إليه في فرصةٍ أخرى.» فأدرك الهرش أن صاحب الشرطة يحسب خبر صاحب البريد سرًّا عليهما، فنظر إلى الملفان سعدون نظرةً فهم مراده منها، فالتفت إلى ابن ماهان وقال: «أرى صاحب الشرطة في شاغلٍ مع صاحب البريد ومع مولانا ابن الفضل، وأخشى أن نكون قد ثقلنا بمجيئنا.» فضحك والاهتمام بادٍ في عينيه وقال: «لا يُستغنى عن المنجمين في مثل هذه الحال، لا سيما إذا صدقوا في تنبُّئهم.» ثم وجه خطابه إلى سلمان وقال: «هل كُشف لك شيء يهمنا أمره يا ملفان؟» فقال مُستخفًّا: «ربما كان ذلك.» فتدخل الهرش وقال: «إن الخبر الذي تتسارُّون به كُشف لنا منذ ساعات!» فتجاهل ابن ماهان وقال: «أيَّ خبر تعني؟» فأشار الهرش إلى سلمان ففهم مراده فقال: «ليس موت الرشيد جديدًا عندي، ولا أقنع به وحده؛ فلو أني عملت المندل هذه الليلة لرأيت …» فبُغت ابن ماهان ونظر إلى صاحب البريد كأنه يستعينه، فتصدى ابن الفضل للسؤال وقال: «وهل من خبرٍ غير موت الرشيد؟» قال: «إن الرشيد رحمه الله كان مريضًا قبل سفره، وكنا كلنا نتوقع موته، لكن المندل كشف لي أمورًا إذا وعدتموني بكتمانها عن مولانا الأمين حتى يعرفها من غيري قلتها لكم.» قال ذلك وهو يرمي إلى أن يجعلهم يُفشونها؛ وكذلك يفعل أهل الدهاء إذا أحبُّوا نشر مأثرة لهم فإنهم يتظاهرون بكتمانها ويبالغون في الحذر من نشرها بغية إذاعتها. فلما أحس ابن الفضل تكتُّمه ازداد رغبةً في الاطلاع على ما عنده وقال: «إذا كنت تعرف شيئًا جديرًا بالاهتمام فإن اطِّلاع مولانا الأمين عليه يدعو إلى رفع مقامك. وماذا عسى أن يكون لديك؟» فقال: «اطلعت على سرٍّ يهمُّ ابنَ الفضل أكثر من غيره.» فزحف ابن الفضل نحوه وقال: «وما ذلك؟ وكيف يهم ابن الفضل خاصةً؟» قال ذلك وهو يظن أن الملفان لا يعرفه. فقال سلمان: «إن الخبر يهمُّ ابنَ الفضل لأنه يمسُّ أباه الوزير؛ أي أباك.» فعجب ابن الفضل لمعرفته إياه، ولكنه شُغل عن ذلك برغبته في الاطلاع على الخبر، ونظر إلى ابن ماهان فالتفت هذا إلى الملفان وقال: «أرى دعواك عريضة، فقل ما عندك لنرى؛ فإذا صدقت ضمنَّا لك التقرُّب من مولانا.» فقال: «إن التقرُّب من أمير المؤمنين نعمة وما نحن إلا عبيده.» فاستغرب قوله: «أمير المؤمنين.» فقال: «كيف تدعوه أمير المؤمنين وغاية علمنا أنه ولي العهد؛ فهب أن الرشيد مات، فهل تصير الخلافة إليه؟» قال: «بل قد صارت له وحده وقُضي الأمر!» فعلم إذ ذاك أنه يعرف شيئًا جديدًا فقال: «له وحده؟ وكيف ذلك؟» فأشار بأصبعه إلى ابن الفضل وقال: «بسعي مولانا الفضل الوزير.» فتطاولت أعناقهم لسماع الخبر، والهرش على رأسهم وابتدره قائلًا: «ذلك شيء جديد عليَّ فاقصُص علينا ما علمت.» فاعتدل في مجلسه وأخذ يقصُّ عليهم ما سمعه من بهزاد وكأنه يقرأ في صحيفة بين يديه، والكل صامتون وقلوبهم تخفق دهشةً واستغرابًا، ولا سيما ابن الفضل؛ فإنه ازداد افتخارًا بما أتاه أبوه للأمين، وكان قد اطَّلع على مقدماتٍ من قبل، فلما سمع النتائج التي رواها سلمان تحقَّق صدقها، ودُهش ولم يتمالك أن دنا منه وربَّت على كتفه استحسانًا وإعجابًا وقال: «بورك فيك، إنك منجم عجيب!» أما ابن ماهان فأمسك عن الإعجاب، وقال: «هل أنت واثق مما تقول؟» فقال: «هذا ما كشفه لي المندل ولم أعهده يخدعني من قبل.» فصغر صاحب البريد في عينَي نفسه واحتقر الخبر الذي جاء به فسكت، أما ابن ماهان فالتفت إلى الهرش وقال: «إذا صح ما جاءنا به الملفان فإن الأمر جد خطير، وإني أُبشره برياسة المنجمين في دار الخلافة، فاكتموا الآن ما سمعتم لنرى ما يكون.» وتناول من تحت وسادته صُرة من النقود دفعها إلى المنجم وقال: «هذا أجر طريقك وثمن البخور.» فتباعد سلمان ويداه وراء ظهره مستنكرًا، ويد ابن ماهان ممدودة بالصُّرة، فالتفت إلى الهرش مستغربًا، فضحك هذا وتناول الصُّرة وأعادها إلى مكانها وقال: «إن منجمنا لا يتعاطى هذه الصناعة رغبةً في أجر، وإنما يبذل علمه في سبيل صداقتنا.» فازداد الجميع إعجابًا به وقال صاحب الشرطة: «لا بأس، سينال أضعاف هذا بما أرجوه له من التقرُّب إلى الخليفة.» وعند ذلك تحفز سلمان للوقوف وقال: «اعذرونا فقد أطلنا سهركم.» فلم يتمالك ابن ماهان عن النهوض احترامًا له، وقد ذهب كبرياؤه وأحسَّ بافتقاره إلى علم الرجل، وذلك شأن الناس مع أهل المعرفة؛ فإنهم يبدءون باحترام الظواهر حتى تظهر المعرفة فتكون العاقبة لها، وقد تُجالس رجلًا لا تعجبك بزته فتحتقره، ثم يتكلم فإذا رأيت منه علمًا انقلب احتقارك احترامًا، وربما دخل عليك فلا تأبه له فإذا عرفت فضله خرجت لوداعه وزوَّدته بالثناء والإعجاب. كذلك فعل ابن ماهان بالملفان سعدون؛ فقد استقبله استقبالًا فاترًا ظنًّا منه أنه جاء يتزلف إليه، فلما رأى علمه وترفُّعه عن الإنعام احترمه ووقف لوداعه وشيَّعه إلى باب المجلس راجيًا إليه أن يأتيه في الغد. ولما ودَّع ابن ماهان الهرش بالغ في الثناء عليه؛ لأنه كان وسيط معرفته بالمنجم؛ فتذكر الهرش غلامه حامدًا وكان لا يزال في انتظاره بالباب فقال: «إني لم أفعل ما يستحق الثناء وإن نعمتك متوالية علينا.» ثم نادى حامدًا وقدَّمه إلى ابن ماهان وقال له: «هذا غلام أضنُّ به، وأُحب أن يكون في رجال الشاكرية في قصر الخليفة، فرجائي منك أن تدخله في جملتهم.» فتقدم الغلام وأكبَّ على يد ابن ماهان فقبَّلها ووقف متأدبًا، فقال له: «ادخل الآن إلى دار الغلمان وفي الغد تكون في جملة الشاكرية.» والتفت إلى الهرش وقال: «كن مطمئنًّا؛ فسيكون على ما تحب.» فأثنى وخرج. أما ابن الفضل فكان أكثرهم إعجابا وارتياحا، وتوسَّم في الرجل نفعًا فرافقه حتى خرجا من الباب ولم يبقَ معهما غير الهرش فأسرَّ إليه بأنه يودُّ أن يكلفه أمرًا لا شأن للخلافة فيه، وألحَّ عليه أن يجيئه في فرصةٍ أخرى. فأشار مطيعًا وخرج مع الهرش، ثم ودَّعه وركب بغلته وسار ولم يبقَ من الليل إلا القليل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/6/
خلافة الأمين
كان أهل بغداد غافلين عما جرى، فأصبحوا في اليوم التالي وإذا بالمنادين يطوفون بالأسواق يَنعَوْن الرشيد ويترحَّمون عليه ويعلنون خلافة الأمين. واهتم الهاشميون ورجال الدولة بأخذ البيعة على عادتهم. وبكَّر سعدون في الصباح التالي (١٩ جمادى الآخرة سنة ١٩٣ﻫ) إلى دار الشرطة، فرحَّب به ابن ماهان وأركبه في حاشيته ليشهد الاحتفال بالبيعة. حتى إذا وصلوا إلى قصر الخلد ترجلوا ودخلوا في جملة الداخلين بين تزاحُم الأجناد والأعيان. ولمَّا أتَوْا دار العامة أُذن لهم فدخلوا وسعدون وسلمان بجانب ابن ماهان. وحضر البيعةَ شيوخ بني هاشم الذين كانوا في بغداد، والقواد وأكابر رجال الدولة، حتى غصت بهم الدار. وجلس الأمين على سرير الخلافة وكان قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره وتخشَّن عضله واسترسلت لحيته واستطال عارضاه وبانت رجولته. وكان طويل القامة قوي العضل يَلقى الأسد فلا يبالي، وكان مع ذلك جميل الصورة أبيض اللون صغير العينين أقنى الأنف سبط الشعر، وفي وجهه أثر الجدري. وكانوا قد ألبسوه حلة الخلافة فجعلوا العمامة المرصَّعة على رأسه والبردة على كتفه، وقد جاءه بها رجاء الخادم من عند أخيه صالح من طوس، وجاءه أيضًا بقضيب الخلافة والخاتم، فتختم بالخاتم وحمل القضيب بيده فازداد جلالًا وجمالًا، والناس جلوس بين يديه: بنو هاشم على الكراسي، وسائر الناس على الوسائد أو على البساط وبعضهم وقوف. والكل منصتون مطرقون حزنًا على الرشيد وإجلالًا للأمين. وكان أول من تَقدَّم للأمين سلام صاحب البريد، فإنه أقبل فعزَّاه في أبيه وهنَّأه بالخلافة، ثم تَقدَّم بنو هاشم فعزَّوْه وبايعوه، ووكل سليمان بن المنصور شيخ بني هاشم بأخذ البيعة من القواد وكبار رجال الدولة، وفي جملتهم ابن ماهان وابن الفضل. وكان الملفان واقفًا في الجمع لم ينتبه له أحد، فلما فرغ الناس من المبايعة وقف الأمين فيهم خطيبًا فأصغَوْا وتطاولوا بأعناقهم، فحمد الله ثم قال: «يا أيها الناس، ويا بني العباس، إن المنون بمرصدٍ لذوي الأنفاس. حتمٌ من الله لا يُدفَع حلولُه، ولا يُنكَر نزولُه؛ فارتجعوا قلوبكم من الحزن على الماضي، إلى السرور بالباقي، تَحوزوا ثواب الصابرين، وتُعطَوا أجر الشاكرين.» ولم يكن الناس يتوقعون هذه الجرأة منه فاستغربوا ذلك، ثم أمر أن يُفرَّق في الجند رزق أربعة وعشرين شهرًا، وكانت قد جرت العادة إذا تولى الخليفة أن يُنعم على الجند بأرزاقهم ليكتسب ثقتهم. ولما فرغ من مبايعة الناس تَقدَّم الحسن بن هانئ (أبو نواس) شاعره، فهنَّأه بالخلافة وعزَّاه في أبيه فقال: وكان ابن الفضل أثناء ذلك لا يشغله شاغل عن الأمر الذي يريد أن يُسرَّه إلى الملفان سعدون، فما كاد يفرغ من مشاهدة المبايعة حتى تلفت فرأى الملفان يتأهَّب للخروج، فاعترضه وسأله القدوم معه، فاعتذر إليه ووعده بأن يعود إليه في المساء. وكان عازمًا على البحث عن مولاه بهزاد ليرى ما يكون. فقال له ابن الفضل: «عد إلينا في المساء إلى منزلنا بالرصافة.» فودعه ومضى يلتمس القصر المأموني. ••• كان أهل القصر قد علموا بموت الرشيد، فشقَّ نعيه عليهم، ولا سيما زينب بنت المأمون، فلما سمعت الخبر بكت كثيرًا. وتوقعت دنانير الانقلاب الذي يُخشى حدوثه بعد موت الرشيد لاطِّلاعها على كثيرٍ من دسائس أهل البلاط وإن كانت لم تعرف بعدُ ما عرفه بهزاد من نكث بيعة المأمون. وأصبحت تنتظر خبرًا من مولاها؛ لأنه إن كان سيتولى خراسان تنفيذًا للعهد، فقد يبعث إلى ابنته وسائر أهله بالشخوص إليه. وشعرت وهي في اضطرابها بحاجتها إلى الطبيب بهزاد تستشيره أو يساعدها في التخفيف عن زينب؛ فإنها على صغر سنها اشتدَّ حزنها على موت جدها وانقبض صدرها ولم تعد تفرح لشيءٍ بعد أن كانت تضحك لأي شيء، فلازمت غرفتها ودنانير لا تفارقها. وأمسكت زينب عن الطعام حتى أثَّر الحزن في صحتها وأصابها دوار وامتُقع لونها وعجزت دنانير عن تعزيتها. ولما شُغل بالها على صحتها استأذنتها في استشارة بعض أطباء القصر فأبت. ولما ألحت عليها قالت: «وأين طبيبنا الخراساني؟» فمكثت تنتظر مجيئه بفارغ الصبر. أما عبادة أم جعفر فساءها موت الرشيد؛ لأنه بمنزلة ولدها، فضلًا عن ذهاب آمالها في وساطة زينب لديه في شأنها. ولكنها فكرت من الجهة الأخرى فيما عساه أن يكون من الانقلاب في أمر الخلافة مما قد يعود عليها بالخير. على أنها كانت ضعيفة الأمل لعلمها بما يسعى فيه أعداء المأمون، وهم أعداء الفرس وأعداؤها طبعًا، ورأت حتمًا عليها أن تساعد دنانير في التخفيف عن زينب، فإذا خلت بها تباحثتا فيما سيكون. وأما ميمونة فقد شغلت عن ذلك كله بما هاج في قلبها من الشوق إلى حبيبها. والحب يشغل صاحبه عما حوله من الشئون، فإذا غاب حبيبه طارت نفسه شَعاعًا وأصبح همه في أن يعود إليه، لا شيء يُنسيه شوقه أو يُعزِّيه على وَجْده. وإذا اشتغل بشيءٍ فإلى أجل، وإذا اجتمع بالحبيب قام بينه وبين الحوادث سدٌّ منيعٌ فيصبح أصمَّ إلا عن سماع حديثه، وأبكمَ إلا في جوابه، وأعمى إلا عن رؤيته، وقد يسمع أو يرى ولكن كالسامع من وراء جدار أو الناظر في ديجور الظلام، وإذا وقعت حوله الطوارئ فإنما يهمه منها ما يُقربه من الحبيب أو يُبعده عنه. فلم يكن موت الرشيد ليهم ميمونة إلا من هذا القبيل، ولأنها كانت لا تزال في ريبٍ مما في نفس بهزاد بعد أن ودَّعها بالأمس وخرج مسرعًا على تلك الصورة ومضى معظم ذلك النهار ولم يرجع ولا جاء خادمه. قضت النهار كله في قلقٍ لا تبالي انهماك أهل القصر في الحزن، ولا ما أقام بغداد وأقعدها احتفالًا بالبيعة، على أنها كانت تلهو بالجلوس إلى زينب وتُخفِّف عنها بما يَحضرها من عبارات التعزية وعيناها إلى باب الدار تترقبان بشرى بقدوم بهزاد، وأذناها مُصغيتان لعلها تسمع وقْع قدميه. ثم سمعت دنانير تُكلم جدتها عنه وتستبطئه وتتمنى قدومه، فخفق قلبها ولكنها ظلت ساكتة. ومالت الشمس عن خط الهاجرة وهي لم تَذُق طعامًا وأهل القصر في شاغل عنها بشئونهم وأحزانهم. وفيما هي في ذلك رأت غلامًا قادمًا وفي وجهه خبر، فتحفزت لملاقاته ثم أمسكت نفسها حياءً لئلا يكون الغلام قادمًا إلى دنانير، فتظاهرت بأنها نهضت لبعض شئونها وتمشت على مهلٍ حتى صارت بالباب، فرأت الغلام وقف وحيَّا دنانير وقال لها: «إن سلمان غلام الطبيب بالباب.» فخفق قلب ميمونة وكادت الدهشة تَظهر في مُحيَّاها لسماع اسمه. أما دنانير فقالت للغلام: «يدخل سلمان وعساه أن يكون مبشرًا بقدوم مولاه؛ فإننا في حاجةٍ إليه اليوم.» وبعد هنيهة أقبل سلمان بلباسه العادي يمشي متثاقلًا متظاهرًا بالحزن والانقباض، وميمونة تراعي حركاته. فلما أطلَّ على القاعة حيَّا ووقف حتى يؤذن له، فابتدرته دنانير قائلة: «ما وراءك يا سلمان؟ أرأيت ما أصابنا؟» وخنقتها العبرات. فأطرق ودخل حتى دنا من مجلس زينب وانحنى كأنه يريد تقبيل يدها وأجهش بالبكاء، ثم التفت إلى دنانير مظهرًا الكآبة وقال: «إن المصاب جلل يا مولاتي. إن وفاة أمير المؤمنين ضربة كبيرة. أطال الله بقاء مولاي المأمون وأنجاله وجعله خير خلفٍ لخير سلف.» وغصَّ بِريقه وتراجع حتى وقف في بعض جوانب الغرفة. فأشارت إليه دنانير أن يقعد وقالت له: «أرأيت طبيبنا اليوم؟» قال: «كلا يا سيدتي، لم أرَه منذ افترقنا بالأمس، وكنت أحسبه رجع إلى هنا.» قالت: «لم يجئ يا سلمان. وكنا نتوقع مجيئه، وقد مرضتْ مولاتنا ولا ترضى طبيبًا سواه.» قالت ذلك وفي كلامها غنة العتاب. فقال سلمان: «عذر الغائب معه حتى يحضر، وأعتقد أنه لا يلبث أن يأتيَ ولا يغيب إلى الغد، أو …» فقطعت عبادة كلامها قائلة: «ألا تعلم أين ذهب؟» قال: «كلا، وهل يعلم أحد بذهابه أو مجيئه؟» فقالت دنانير: «لقد عوَّدنا التخلف عنا يومًا أو بضعة أيام ثم يعود إلينا على غير موعد، ولكن …» فقالت عبادة: «أتراه ذهب إلى بيته في المدائن؟» فرفع حاجبيه وكتفيه وشخص بعينه كأنه يتنصل من تبعة عِلمه بمكانه. وكانت ميمونة تسمع ما يدور من الحديث والحياء يمنعها من الدخول فيه، ثم غلب عليها حب الاطِّلاع فقالت وهي تتظاهر بالسذاجة وقلة الاكتراث: «أظنه الآن في بيته بالمدائن وقد أغلق بابه ليشتغل بالكيمياء أو إخراج الكنوز كما يقولون.» ومع ما حاولته من التجلُّد ما لبثت أن تورَّدت وجنتاها، ولما وقع نظرها على دنانير رأتها تتفرَّس في وجهها وتبتسم، فازدادت خجلًا وأطرقت وتحوَّلت إلى وسادةٍ في بعض جوانب الغرفة فقعدت عليها وتشاغلت بإصلاح خمارها. فتجاهل سلمان ذلك كله وقال وهو يوجه كلامه إلى عبادة: «إن الناس يتهمون مولاي بأمورٍ كثيرة هو بريء منها، وما انزواؤه في بيته أحيانًا إلا للمطالعة في بعض كتب الطب أو الفلسفة. ولو وثقت بأنه هناك الآن لذهبت إليه واستقدمته. على أني ما أظنه يبطئ كثيرًا؛ فإذا لم يأتِ هذه الليلة أو في صباح الغد عمدنا إلى البحث عنه في المدائن أو غيرها.» وكانت دنانير تبالغ في إظهار القلق لغياب بهزاد إرضاءً لزينب ومراعاةً لإحساس ميمونة، لعلمها أن الحياء يمنعها من إظهار قلقها، فقالت هي عنها وتكلمت بلسانها، فلما سمعت قول سلمان قالت: «لا بد من البحث عنه الليلة.» فتراجع وأطرق وقال: «إن أمرك مطاع يا سيدتي، وسأفعل ما تشائين وربما آتيكم به الليلة أو صباح الغد.» فأثنت دنانير عليه وسكتت وهي تنظر إلى ميمونة فرأتها ترنو إليها ودلائل الشكر بادية في مُحيَّاها، فابتسمت وحولت وجهها إلى عبادة وقالت: «ألا ترَيْن ذلك؟» فأجابت على الفور: «بلى، وإذا كان هناك ما يمنع سلمان من البحث فأنا أذهب للتفتيش عليه في المدائن؛ فإننا نعرف منزله حق المعرفة ومسيرنا إلى هناك سهل. وإذا رأيتِ أن يبحث سلمان في مكانٍ آخر ونحن نذهب للبحث عنه في المدائن فعلنا.» فلما سمعت ميمونة اقتراح جدتها أشرق وجهها ارتياحًا لهذا الرأي؛ لأنه عبَّر عن إحساسها، كأنها نابت عنها في قول ما لا تستطيع هي التصريح به. أما سلمان فإنما وعد بالبحث عن بهزاد حياءً من دنانير؛ لأنه كان يرغب في الرجوع إلى ابن الفضل قيامًا بوعده ليغتنم فرصة ذلك الانقلاب عسى أن ينفعه فيما هو فيه. على أنه كان لا يرى موجبًا للقلق لغياب مولاه لعلمه بكثرة شواغله. فاستأنف الكلام وقال: «ها أنا ذا ذاهب للبحث عن الطبيب والاتكال على الله.» وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/7/
ميمونة وابن الفضل
خرج سلمان من القصر المأموني بعد أن بدَّل ثيابه، وركب بغلته وسار إلى قصر الفضل بن الربيع. والقصر يومئذٍ في الرصافة بالجانب الشرقي من بغداد يُشرف على سوق الميدان، وكان في الأصل إقطاعًا أقطعه الرشيد لعباد بن الخصيب، فصار كله للفضل بن الربيع يقيم به مع أهله، وهو على مسافة بعيدة من القصر المأموني وإن كان كلاهما على الجانب الشرقي من بغداد. فقطع سلمان المخرم حتى دخل طريق الميدان، وهو يبتدئ من سوق الثلاثاء وينتهي بالشماسية ويُعرف هناك بطريق الخضير. وكانت تُحمل إليه المصنوعات الصينية وغيرها من الأواني الثمينة وتباع فيه. فلما وصل إلى باب القصر عند الغروب، وجد ابن الفضل في انتظاره وقد أوصى الحرس بأن يُدخلوه إليه، فلم يمهله الحارس حتى يترجل بل سارع إليه فابتدره قائلًا: «الملفان سعدون؟» فقال: «نعم.» قال: «إن مولانا في انتظارك … اتبعني.» فترجل سلمان ومشى في طريق الحديقة يضرب الأرض بعكازه ويتباطأ في مشيته مُطرقًا متمتمًا كأنه يتلو آية أو يقرأ تعويذة، وأسرع حارس آخر فسبقهما وأنبأ ابن الفضل بقدومه. فقطعا البستان حتى وصلا إلى باب القصر الداخلي فإذا بابن الفضل قد خرج لملاقاته والترحيب به، وصافحه ومشى بجانبه حتى اتصلا من الدهليز إلى قاعةٍ استطرقا منها إلى غرفة لا يدخلها غير ابن الفضل وبعض خاصَّته، وفيها سرير بجانبه كرسيان، وفي أرضها بساط ثمين، وفي إحدى زواياها منارة عليها عدة شموع أناروها فجلس ابن الفضل على السرير ودعا سلمان إلى الجلوس على كرسيٍّ بجانبه قائلًا: «مرحبًا بالملفان سعدون.» فجلس سلمان وما زال يتمتم وقد ألصق ذراعه بجنبه كأنه يتأبط شيئًا يحرص عليه، فلما استقر به الجلوس أخرج من تحت إبطه منديلًا من الحرير فيه كتاب هو درج من الرق قديم العهد تَخرَّق من بعض جوانبه، وتمهَّل في حل الصُّرة وأخرج الدرج مبالغة في الحرص عليه، ووضعه في حجره فبانت من خلال الخروق كتابة بحرف لا يقرؤه الإنس ولا الجان. ثم رفع رأسه كأنه فرغ من القراءة أو التعزيم، ومسح وجهه من جبهته إلى لحيته، والتفت إلى ابن الفضل وأخذ يُثني عليه لحسن وفادته فأجابه: «لقد أتيتَ أهلًا ونزلت سهلًا.» وبشَّ له يستأنس به استعدادًا لما ينوي كشفه له من أسرار. فابتسم الملفان وقال: «لقد بالغت في إكرامي أيها الوزير.» فغلب على وهمه أن الملفان إنما يدعوه وزيرًا لِما تبين له من علم الغيب في مستقبله، لكنه تجاهل وأحب أن يحقق ظنه فقال: «إنك تدعوني وزيرًا والوزير أبي.» فقال: «إن ابن الوزير وزير يا سيدي، مُرْ بما تشاء.» قال: «دعوتني وزيرًا وأنا أدعوك رئيس المنجمين في دار أمير المؤمنين.» فأدرك سلمان أنه يَعِده بهذا المنصب وهو يستطيعه لعظم نفوذ أبيه ورِضى الأمين عنهما؛ فأحب أن يثبته في وعده، فقال: «بورك في ابن الفضل؛ فإنه يقول ويفعل، وأنا سامع مطيع.» فأطرق ابن الفضل وأعمل فكرته ثم قال: «دعوتك لأُسِرَّ إليك أمرًا أنا شديد الحرص على كتمانه وطيد الأمل في الحصول عليه.» قال: «أما ما يشير إليه مولاي فهو سرٌّ عن كل الناس إلا عليَّ؛ فالملفان سعدون لا يُقال له ذلك.» فاستغرب ابن الفضل دعواه وأحبَّ أن يمتحنه فقال: «وهل تعلم سري؟» وكان سلمان قد سمع بعض خدم القصر المأموني يذكرون حب ابن الفضل لميمونة، كما سمعه من عبادة عندما كانت تقصُّه على دنانير، وكان الخدم يومئذٍ من أكثر الناس اطِّلاعًا على أسرار مواليهم؛ لأنهم كانوا لا يحذرون التكلم أمامهم استخفافًا بهم؛ فقال: «أظنني أعرف سِرَّك إلا إذا كنت تعني غير حبك لتلك الفتاة التي تظنُّ نفسها مجهولة النسب.» فدُهش ابن الفضل عندما فاجأه بهذا التصريح وبانت الدهشة في وجهه، وسهل عليه أن يكاشفه بما يُكنُّه ضميره فقال: «أما وقد علمت سري فلا أُخفي عليك أني أحب تلك الفتاة حبًّا مبرحًا، أحبها من كل قلبي، وأتعشقها بكل جوارحي!» قال ذلك ودلائل الحب ظاهرة في وجهه، فأبرقت عيناه واحمرَّ وجهه. فضحك وهز رأسه وقال: «إن الحب سلطان. أأنت تحبها؟» فقال: «نعم أحبها، فهل تحبني هي؟» قال: «لا أدري، لو كانت معنا الآن لعرفت مكنونات قلبها، غير أن ذلك يحتاج إلى مندل.» قال: «هب أنها لا تحبني، بل يظهر لي أنها لا تحبني الآن، فما الحيلة؟ إني إنما دعوتك لأستعين بك على ذلك؛ فما قولك؟» فتناول سلمان الدرج من حجره وفتحه وأخذ يُقلبه بين يديه ويتظاهر بأنه يقرأ شيئًا منه ويعيد القراءة ويُطرِق، ثم يرفع بصره إلى السقف ويعيده إلى الكتاب، ثم ينظر إلى وجه ابن الفضل ويتفرَّس فيه، وأخيرًا أطرق ويده على لحيته كأنه يفكر ويأسف، ثم قال: «إن حبيبتك انتقلت من مكانها.» فأجفل ابن الفضل وقال: «أين كانت وأين صارت؟» قال: «ألم تكن في المدائن؟» قال: «بلى.» قال: «ليست هناك الآن.» قال: «وأين هي؟ أين ذهبت؟» فقال: «إني أعلم أنها خرجت من المدائن، ولا أدري أين تقيم الآن. إن ذلك يحتاج إلى بحث.» قال: «لعلها في الطريق الآن؟» قال ذلك لاعتقاده أنها لو كانت في مكانٍ معين لَمَا خفي ذلك على علم الملفان سعدون. فقال سلمان: «ربما كانت في الطريق، ولكن هذا ليس بأمر ذي بال. هب أنها في السماء أو في الأرض أو ما بينهما؛ فهي لا تنجو من يدي.» فأبرقت أسرة الفضل واطمأنَّ خاطره وقال: «جزاك الله خيرًا. افعل ما بدا لك ولا تبخل بالإنفاق على إتمام هذا العمل؛ فإني أبذل ما أملكه في سبيل الحصول عليها، إنما أريد أن آخذها بشرع الله؛ لأني أحبها حبًّا صادقًا ولا أدري ما الذي يحملها على مجافاتي.» فابتسم سلمان وقال مُستخفًّا: «أظنك تدري السبب؛ إن عداوة الآباء تتصل بالبنين.» فازداد ابن الفضل استغرابًا لكشف هذا السر وقال: «صدقت، ذلك هو السبب، ولكنها لو علمت خطر حبي لها وأني سأُنسيها ما فعله أبي بأبيها لرضيَت.» قال: «علمتْ ذلك ولم ترضَ، ولكن هذا لا يهمنا فإنها سترضى. إن هذا القلم يجعل الصخر ماءً والماء صخرًا، أفلا يُليِّن قلب فتاة؟» وأشار إلى دواة مغروسة في منطقته. قال: «افعل ما تراه ولا تسل عما تبذله في هذا السبيل.» فنظر إليه شزرًا وقال: «ألم تكن حاضرًا بالأمس عند صاحب الشرطة؟ إنكم لا تزالون تُهينون الأصدقاء، ولكنكم تعودتم عِشرة المتملقين والمتزلفين؛ فلا لوم عليكم!» فابتدره ابن الفضل معتذرًا وقال: «عفوًا يا سيدي، فإني أقبل منك هذا الجميل، وأرجو أن تقبل وساطتي مع صاحب الشرطة في أن تكون رئيس المنجمين عند أمير المؤمنين. وإننا إذ نفعل ذلك فإنما نؤدي خدمة عظمى للخليفة؛ لأن وجود مثلك في بلاطه نعمة من نعم الله. فماذا أنت فاعل الآن؟» قال: «دعني أبحث عن مقرها، وسأكتب لك كتابًا إذا استطعت توصيله على ما سأصف لك أتتك مذعنة مطيعة.» فلم يتمالك ابن الفضل عن النهوض بَغتةً وقال: «أصحيح ما تقول؟ إني لا أعرف كيف أشكرك. ومتى تكتب هذا الكتاب؟» قال: «أكتبه متى انتهيت من بحثي، لا تضجر، ولا تستعجل.» قال: «افعل ما يتراءى لك إلا أمرًا واحدًا أرجو منك أن تطيعني فيه.» قال: «وما هو؟» قال: «أن تبيت عندي الليلة وتصحبني غدًا إلى دار الخلافة فأقدمك إلى أمير المؤمنين ليجعلك رئيس المنجمين.» قال: «الأمر لك، ولكنني لا أبيت عندك وإنما آتيك غدًا إذا شئت.» قال: «بل تبيت عندي؛ فإن القصر واسع تختار منه مخدعًا لا يزعجك فيه أحد، وقد أرسلت إلى صاحب الشرطة أن يُوافيَنا غدًا إلى قصر الخلافة في مدينة المنصور؛ لأن دار الخلافة انتقلت بعد مبايعة الأمين من قصر الخلد الذي نعرفه خارج باب خراسان إلى داخل المدينة.» قال ذلك وصفَّق فدخل غلامه فقال له: «أَعِدَّ لنا المائدة للعشاء، وقُل لقَيِّم الدار أن يُعِدَّ لنا مخدعًا ليبيت فيه الملفان.» قال ذلك مصممًا؛ فلما رأى تصميمه خاف أن يخالفه فيفسد عليه تدبيره، فأطاع وبعد هنيهة نهض للعشاء، ثم بات ليلته هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/8/
موكب ابن الفضل
في صباح اليوم التالي ركب ابن الفضل في موكبه وعليه الجُبَّة السوداء التي يقابل بها الخلفاء العباسيين، وامتطى سلمان بغلته وهو في قيافته المعهودة، وخرجا من الرصافة غربًا نحو الجسر حتى إذا قطعاه جاءا الطريق المؤدي إلى قصر الخلد فتجاوزاه إلى قصر المنصور، المعروف بباب الذهب حيث أقام الأمين بعد البيعة. وكانت مدينة المنصور مستديرة الشكل حولها سور ضخم طوله عشرون ألف ذراع وعرض أساسه تسعون ذراعًا، ثم ينحط حتى يصير في أعلاه خمسًا وعشرين ذراعًا وارتفاعه ستون ذراعًا. وهو السور الأعظم، ويحيط به من الخارج فراغٌ عرضه مثل عرضه، وحول الفراغ المذكور سور آخر يقال له الفصيل، له أبراج عظام وعليه الشرفات المدورة وخارج الفصيل وحوله، كما يدور مسناة بالآجر والصاروج متقنة محكمة. وخارج المسناة وحولها خندق أُجريَ فيه الماء، ووراء الخندق طرق للمارة والباعة ووراءها الأرباض. وفي داخل السور الأعظم سورٌ آخر أصغر منه، وبين السورين فراغ فيه أبنية لأهل الأسواق، يُنتَهى إلى كلٍّ من السورَين بطريقٍ مُرصَّف بالحجارة، فسور المدينة ثلاثة أسوار أعظمها أوسطها. وللسور أبواب سُميت باسم المدن التي تتجه نحوها، وهي: باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة. وكلٌّ منها مُؤلَّف من عدة أبواب عليها الأبراج ولها الشرفات والكِوَى. ولكل باب أربعة دهاليز عظام طول كل دهليز ثمانون ذراعًا كلها معقودة بالآجر والجص. فإذا دخل أحد في الدهليز الذي على الفصيل، أو السور الخارجي، وافى رحبة مفروشة بالصخر، ثم دهليز السور الأعظم وعليه بابان عظيمان من الحديد لا يُغلِق الواحدَ منهما إلا جماعةٌ من الرجال، وهما عظيما الارتفاع يدخل الفارس فيهما بالعَلَم، والرامح بالرمح الطويل من غير أن يُميل العلم أو يَثنيَ الرمح، فإذا مرَّ الراكب من دهليز السور الأعظم سار في رحبة إلى طاقات معقودة بالآجر والجص فيها كِوًى رومية مصنوعة صنعًا خاصًّا بحيث تدخل منها أشعة الشمس أو الضوء ولا يدخل منها المطر، وفيها منازل الغلمان. وفوق كل بابٍ من أبواب السور الأعظم قبة معقودة عظيمة مُذهَّبة، حولها مجالس ومرتفعات يجلس فيها المرء فيشرف على ما دونه. ويصعد إلى هذه القباب على عقود مبنية بعضها بالجص والآجر وبعضها باللَّبِن، وقد جعل بعضها أعلى من بعض، بشكلٍ عجيبٍ رهيب. فأطل ابن الفضل بموكبه على باب خراسان، وبجانبه الملفان سعدون على بغلته، فلما رآهما الحرس وسَّعوا إجلالًا لابن الوزير، فتقدما وهما راكبان والخدم في ركابهما، فدخلا من الدهليز إلى الفصيل أو السور الخارجي. ثم سمعوا قرقعة حوافر الجياد على الرحبة المفروشة بالصخر المؤدية إلى دهليز السور الأعظم، وكان البوابون لما علموا بقدوم ابن الفضل قد تعاونوا على فتح أحد البابَين العظيمَين، فسُمع لفتحه صرير هائل لثقل حديده وعُلوِّه، فدخلا بموكبهما فيه، حيث بدت العتبة العليا أعلى كثيرًا من رءوس الراكبين. وكان سعدون أثناء ذلك ينظر إلى ما وراء تلك الرحبة من الطاقات المعقودة، وإلى شكل كِوَاها الرومية وقد أطل منها الغلمان لمشاهدة الموكب، فلما خرجوا من الباب المذكور إلى الرحبة التي بينه وبين الطاقات، حوَّل سعدون بصره إلى القبة العظمى المعقودة فوق الباب وما يغشاها من الزينة المُذهَّبة ويتعلق بها من المجالس والمرتفعات المشرفة على كل ما حولها، وأخذ يتأمل فيما عليها من المصاعد المبنية بالجص بعضها فوق بعض، وقد امتلأت نفسه إعجابًا وعجبًا من عظمتها ورهبتها. تجاوز موكب ابن الفضل تلك الطاقات ودخل إلى بابٍ آخر غير أبواب السور المذكور ورقوا منه إلى الرحبة الكبرى في منتصف المدينة، وكان قصر المنصور في وسط الرحبة، يُسمُّونه قصر الذهب نسبةً إلى بابه المُذهَّب، وبجانب القصر المسجد الجامع المعروف بجامع المنصور. ومشى الموكب في الرحبة مسافةً كبيرة في خلاءٍ لا بناء فيه حتى أقبل على القصر والجامع وسط الرحبة، وحولهما فناء ليس به من الأبنية غير دار من جهة الشارع المؤدي إلى باب الشام يقيم بها الحراس، وسقيفتين ممتدتين على عُمُدٍ مبنية بالآجر والجص، يجلس في إحداهما صاحب الشرطة وفي الأخرى صاحب الحرس. وكانت حول الرحبة منازل بناها لأبناء العم الأصاغر ولمن يقربهم من خدمه وعبيده، وأبنية لبيت المال، وخزانة السلاح، وديوان الرسائل، وديوان الخراج، وديوان الخاتم، وديوان الجند، وغيرها. وبين الطاقات مسالك ودروب أعدَّها المنصور لقواده ومواليه. وكان ابن الفضل كلما أقبل على بابٍ وقف له حُرَّاسه، فلما دخل الرحبة الكبرى لفت انتباهَه الصهيل والحمحمة والنهيق وغير ذلك من أصوات الدواب؛ لأن الرحبة كانت غاصَّة بالخيل والبغال والحمير فضلًا عما أُدخل منها إلى الإصطبلات، ومعها العبيد والخدم في انتظار من جاءوا عليها من الأمراء والقواد لتهنئة الأمين بالخلافة، أو جاءوا لغرضٍ آخر. وكان سعدون (أو سلمان) ينظر إلى ذلك ويراقبه ولا يبتعد ببغلته عن ابن الفضل، حتى إذا دنوا من القصر تحوَّل ابن الفضل نحو السقيفة التي يقيم بها صاحب الشرطة لمقابلة ابن ماهان قبل الدخول على الخليفة، فأرسل بعض مَن في ركابه من الخدم ليتقدمه بالسؤال عنه في السقيفة، فعاد يقول إنه في حضرة أمير المؤمنين بعث إليه من بضع دقائق. فلم يتعجب ابن الفضل لذلك، ولكنه كان يرجو أن يراه قبل دخوله على الأمين ليتفق معه على تقديم الملفان سعدون إليه، ولكنه لم يرَ بُدًّا من النزول عن جواده، فنزل ونزل سعدون عن بغلته، ومشيا إلى باب القصر فوقف لهما الحُراس وهم ينظرون إلى الملفان ويستغربون شكله وقيافته ومشيه بعكازه والدواة في منطقته، وما زال يمشي بجانب ابن الفضل حتى بلغا باب القصر الداخلي، مارَّين في الباحة بجماعاتٍ من القادمين على الخليفة فيهم الأمراء والقواد والشعراء وغيرهم من الوفود. وكان الأمين كريمًا جوادًا، يُغدق على الجند رغبةً في استنصارهم لما يعلمه من حرج مركزه؛ ولذلك أعطاهم رزق ٢٤ شهرًا يوم مبايعته، ففرحوا وفرح معهم أهل بغداد كافة؛ لأن هذه الأموال تُنفق في المدينة فيدفع الجند منها ما عليهم ويبتاعون ما يحتاجون إليه من الآنية أو الطعام أو اللباس؛ فلا غرو إذا سُرَّ البغداديون بتبديل الخلفاء بعد أن جرت العادة بأن يأمروا بمثل هذا العطاء عند مبايعتهم. وعرف ابنَ الفضل كثيرون من الواقفين هناك فخفَّ بعضهم لتحيته، وتزلف إليه آخرون؛ لأنه ابن الوزير، والوزير يومئذٍ صاحب الحَل والعَقد. فسأل بعضهم عن سبب وقوفهم هناك فقالوا: «إن الخليفة في شاغلٍ مع صاحب الشرطة بعد أن جاءه هذا الرسول.» وأشار إلى رجل واقف في بعض جوانب الباحة؛ فعرف ابن الفضل أنه من موالي أبيه، وكان الرجل قد رأى ابن الفضل مارًّا فلم يجرؤ على مبادأته بالحديث، فلما رآه ينظر إليه ويبتسم هرول نحوه وقبَّل يده فقال له: «ما وراءك؟ وما الذي جاء بك؟» قال: «أرسلني مولاي الوزير برسالةٍ إلى أمير المؤمنين.» قال: «وأين أبي الآن؟» قال: «قريب من بغداد، وقد أرسلني لأُبشِّر بقدومه.» قال: «وهل جئت بكتابٍ منه؟» قال: «جئت بكتابٍ دفعته إلى أمير المؤمنين، ولعله السبب في تأخير الإذن للناس كما ترى، وإنما دخل عليه صاحب الشرطة.» فاشتد ميل ابن الفضل للدخول على الأمين وإن لم يؤذن لسواه فيفاخر أهل البلاط بدالته على صاحب الخلافة، فظل ماشيًا وابن سعدون بجانبه حتى أقبل على باب القصر والحرس الشاكرية وقوف بالأسلحة، فتأدَّبوا عند مشاهدته، ثم خرج الحاجب لملاقاته وتلطَّف في الترحيب به وفي غنة صوته وملامح وجهه شبه اعتذار عن عدم إدخاله؛ فأدرك ابن الفضل غرضه فابتدره قائلًا: «استأذِن أميرَ المؤمنين في دخولي ودخول رفيقي هذا.» وأشار إلى سعدون. فتردَّد الحاجب حينًا ولم يجسر على التصريح بأن أمير المؤمنين لا يأذن لأحد، ثم غلب عليه الخوف فدخل على الأمين، وظل ابن الفضل في انتظاره والناس ينظرون إليه ويتوقعون أن يُرَد طلبه فيفشل ما أراده من التقدُّم عليهم جميعًا. أما هو فكان يتوقع الإذن له، رعايةً لمنزلة أبيه. وبعد هُنيهة عاد الحاجب وهو يبتسم وقال: «ادخل إذا شئت.» فدخل إلى مكان تُخلع فيه الأحذية فخلع حذاءه، وفعل سلمان مثل فعله، وتقدَّم بعض الخدم فتناولوا الحذاءين ووضعوهما على أماكن مُعَدة لذلك. ومشيا على الأبسطة المفروشة في الدهليز، وتطرقا من قاعةٍ إلى قاعةٍ والحاجب يمشي بين يديهما حتى وصلا إلى مجلس الأمين، وكان على بابه ستر من الديباج المطرَّز فتقدم الحاجب وأزاح الستر وصاح: «مولاي ابن الفضل ورفيقه بالباب.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/9/
الأمين والفضل بن الربيع
كان الأمين جالسًا في صدر القاعة على سريرٍ من الآبنوس المنزل بالعاج بلا ترصيع ولا تذهيب؛ لأنه السرير الذي كان يجلس عليه المنصور قبل أن يغرق العباسيون في الحضارة والترف واستخدام الذهب والجوهر في آنيتهم ومجالسهم، وكانت على أرض القاعة طنافس ثمينة قليلة الزينة عليها الوسائد والكراسي. وقد ارتدى الأمين مثل ملابسه يوم المبايعة لأنه ما زال يستقبل المهنئين والمبايعين، فدخل ابن الفضل ورفيقه فرأيا بين يدي الأمين ماهان صاحب الشرطة، وقد قعد على وسادةٍ قعود أهل الدولة بلا كبير تهيُّب؛ لأن الأمين لم يكن في مثل هيبة أبيه، ولا سيما مع من تعوَّد مجالستهم من خاصَّته في مجالس الشراب أو الطرب، ومع أمثال ابن ماهان وغيره من ذوي شُوراه الذين يحتاج إلى رأيهم أو مساعدتهم. وكان الأمين شديد الثقة بابن ماهان والفضل بن الربيع، يستشيرهما في مهامِّه. فلما جاءه كتاب الفضل في ذلك الصباح يُنبئه بقدومه ومعه الأحمال ومن بقي من رجال الرشيد وأنه لا يلبث أن يصل إلى بغداد ليقصَّ عليه تفصيل ما فعله، اهتمَّ الأمين بذلك الكتاب وبعث إلى ابن ماهان ليُطلعه عليه، وأمر بألا يُدخلوا عليهما أحدًا من الزُّوار. فجاء ابن ماهان فدفع إليه الأمين كتاب الفضل، ثم لم يكد يتم قراءته حتى جاء الحاجب يستأذن لابن الفضل ورفيقه، فسأل الأمين عن ذلك الرفيق فقال الحاجب: «هو رجل من علماء حران كأنه حاخام أو ملفان.» فقال: «وما شأنه؟» فعلم ابن ماهان أنه الملفان سعدون، فتبسم وقال: «أظنه الملفان سعدون الحراني. إن لهذا الرجل شأنًا عظيمًا، وله قوة غريبة على استطلاع الغيب.» فالتفت الأمين إلى ابن ماهان وقال: «هل تعرفه؟» قال: «إذا كان هو الملفان سعدون فقد عرفته؛ لأني اجتمعت به في جلسة ورأيت منه المعجزات.» فهز الأمين رأسه وقال: «إني قليل الثقة بهؤلاء الدجالين.» قال: «ليس الرجل دجالًا يا مولاي، بل هو منجم.» قال: «المنجمون كثيرون عندنا وقلما يَصدُقون!» قال: «سترى فيه ما لم تعهده في سواه إذا أذنت في دخوله، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان.» فأشار الأمين إلى الحاجب أن يُدخلهما ففعل. ولما أقبل ابن الفضل على الأمين حيَّاه بتحية الخلافة ووقف حتى أشار إليه بالجلوس، ثم التفت إلى الملفان فابتدره هذا بالسلام أيضًا، فقال له: «اجلس يا ملفان.» فجلس على البساط جاثيًا وتأدب في مجلسه مُطرقًا ساكتًا، فقال له الأمين: «أخبرنا صاحب شرطتنا أنك من المنجمين.» فأجاب سلمان: «إني من عبيد أمير المؤمنين.» قال: «وهل أنت صادق في تنجيمك؟» قال: «على أن أصدق في إبلاغ أمير المؤمنين ما أراه وأقرؤه طبقًا لقواعد العلم، وله الرأي في تصديقه أو تكذيبه!» فحوَّل الأمين نظره إلى صاحب الشرطة كأنه يستشيره فيما يمتحنه به، فقال: «هذا كتاب الوزير يقول فيه إنه سيقصُّ على أمير المؤمنين ما فعله في طوس، فليُمتحن الملفان به.» فاستحسن الأمين ذلك، والتفت إلى سعدون وقال: «جاءنا كتاب وزيرنا الساعة بأنه قادم إلينا، فهل لك أن تُخبرنا بما سيتلوه علينا؟» فأحنى الملفان رأسه احترامًا، ثم مدَّ يده إلى جيبه وأخرج الدرج المعهود، وحل المنديل وأخذ يُقلبه بين يديه، ويتمتم مُظهرًا أنه يقرأ ويتفهَّم ويتفطَّن، ثم رفع بصره إلى الأمين وقال: «إن الوزير حفظه الله يحمل إليك خبرًا مهمًّا خاصًّا بالخلافة.» فضحك الأمين مستخفًا وقال: «طبعًا، إنه يعلم بمبايعتي وليس في ذلك شيء من الغيب!» قال الملفان: «صدق أمير المؤمنين، ولكن الوزير سينقل إليك شيئًا جديدًا عن أخيك المأمون، ولعله أخرجه من البيعة!» فبُغت الأمين وقال: «هل أخرجه منها؟» فهز الملفان كتفيه وقال: «يظهر لي مما أقرؤه في هذه الأوراق أنه فعل ذلك، ولم يجد في سبيله مشقة؛ فإذا كان فيه ما يسوء أميرَ المؤمنين فلا ذنب لي.» فتظاهر الأمين باستيائه لإخراج أخيه من البيعة وقال: «هل فعلها الفضل؟ ما أظنه فعلها! فاحذر مما تقول واعلم أنك تقول قولًا تُقطع فيه الرقاب.» فقال بجأشٍ رابط: «قلت لمولاي إني لا أقول شيئًا من عندي وإنما أنا أقرؤه فيما بين يديَّ، وإذا طويت الكتاب نسيت ما قلته.» فقال الأمين وهو يُظهر الغضب: «إنها وشاية تُعاقَب عليها!» قال وهو ساكن الجأش: «العفو يا مولاي، لا ذنب لي فيما قلته؛ فإني أقول ما أراه، ولم يخدعني هذا العلم من قبل.» فبالغ الأمين في إظهار التهديد، ثم قال: «يكفي هذا.» والتفت إلى ابن الفضل وقال: «هل جاءك من أبيك شيء من هذا القبيل؟» قال: «كلا يا مولاي، إنه لم يكتب إليَّ بشيء.» ولم يجسر أن يُخبره بما قصه عليهم الملفان بالأمس.» ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «ألم أقل لكم إن هؤلاء المنجمين يتقرَّبون إلينا بكذبهم؟» فابتسم ابن ماهان ابتسامَ المستعطف وهمس للأمين قائلًا: «إنني أعرف صدق أخبار الملفان سعدون، وإذا شاء مولاي أن يختبر صدقه فعل، إن الوزير لا يلبث أن يصل إلى بغداد الليلة أو صباح غدٍ، وسيعلم مولاي ما فعله، والرأي بعد ذلك لأمير المؤمنين!» وكان الملفان أثناء ذلك يتشاغل بتقليب الدرج بين يديه يتمتم كأنه لا يسمع ما يقولون حتى سمع الأمين ينادي: «يا غلام.» فدخل الحاجب وتأدب فقال له: «قل لصاحب الإنزال أن يأخذ هذا الملفان إلى دار الأضياف، يقيم هناك في كرامةٍ ورعايةٍ حتى أطلبه.» والتفت إلى الملفان وقال: «تفضل إن شئت وكن مطمئنًّا حتى ندعوك.» فنهض سلمان واستعاذ بالله من الانتظار مخافة أن يُبطئ على أهل القصر المأموني وهم في قلقٍ على تأخُّر الطبيب بهزاد، لكنه لم يرَ بُدًّا من الطاعة؛ فخرج وسار مُكرَّمًا إلى منزلٍ بجانب مطبخ العامة، جاءوه فيه بما يحتاج من الطعام والشراب. ومكث هناك كأنه على الجمر بقية يومه، وفي ضحى اليوم التالي جاءه رسول الخليفة يستقدمه إلى المجلس الخاص، فسار بعد أن أصلح هندامه وأتقن تنكُّره وهو يتظاهر بالسذاجة وصفاء النية وخلوص السريرة، فلما دخل على الخليفة وجد عنده ابن ماهان وابن الفضل، فأمره الأمين بالجلوس وقال له: «إن وزيرنا الفضل آتٍ عما قريب، وسنسأله عن أمره بحضورك ثم نرى ما يكون.» فحنى رأسه مطيعًا ووقف، فأمر له الأمين بالجلوس فجلس. ثم جاء الحاجب يقول: «الوزير الفضل بالباب يا مولاي.» فأبرقت أسرة الأمين وصاح: «يدخل وزيرنا الفضل.» وما عتم أن عاد الحاجب ووسع الستر، فدخل الفضل وآثار السفر بادية في وجهه، فحيَّا بتحية الخلافة وقال: «يعذرني أمير المؤمنين أن أدخل عليه قبل إصلاح شأني.» وكان الفضل يومئذٍ في أواسط الكهولة وقد وَخَطَ الشيب لحيته وتغضَّن جبينه وظهر تغضُّنه مع أن أكثره مخبأ تحت القلنسوة، وقد تردَّى بالقباء الأسود على عادة الداخلين على الخلفاء العباسيين. فهشَّ له الأمين وأجلسه على كرسي بجانبه، فأخذ الفضل يُعزيه في الرشيد، ثم هنَّأه بالخلافة ودعا له بطول البقاء، وسكت وهو يجيل نظره في الجالسين كأنه يلتمس الخلوة ليقص على الأمين ما جاء به، فابتدره الأمين قائلًا: «إذا كنت قد جئتنا بخبرٍ فاقصصه علينا.» فقال: «هل أقصُّه الآن؟» قال: «نعم، قل ما عندك، إن هذا المنجم يزعم أنه عرف ما فعلته، وقد أردت أن أمتحن معرفته، فإذا كان مصيبًا أنعمنا عليه وإلا كان عقابه شديدًا.» فقال ابن ماهان: «هل يأذن أمير المؤمنين في كلمة.» قال: «قل.» قال: «إذا كان القتل جزاء هذا الملفان إذا ظهر كذبه، فما جزاؤه إذا صدق؟ هل يأمر مولاي حينئذٍ بأن يجعله كبير المنجمين في قصره لعله ينفعنا بعلمه؟» قال: «سأفعل.» والتفت إلى الفضل وقال: «قل ما الذي فعلتَه بأخينا عبد الله المأمون والخلافة؟» فاستغرب الفضل السؤال على هذه الصورة وقال: «فعلت ما أراه عائدًا على الدولة بالخير؛ فليس يخفى على أمير المؤمنين أن مولانا الرشيد كان عند سفره قد استمع لإغراء بعض ذوي الأغراض، فبايع للمأمون وأوصى له بجميع ما في عسكره، مع أن البيعة سبقت لمولانا الأمين صاحب هذا العرش، فلما قُبض الرشيد رأيت أن في بقاء بيعة المأمون ما قد يؤدي إلى انقسام الخلافة واستفحال الفتنة، فاستشرتُ أصحابي وأجمعنا على الرجوع إلى الصواب، فأبطلنا بيعة المأمون وجعلنا الخلافة مستقلة لمولانا أمير المؤمنين.» قال: «والمأمون ماذا فعلتم به؟» قال: «لم نفعل به شيئًا؛ فإنه باقٍ على خراسان كما كانت الوصية من قبل، على أن يكون وليًّا للعهد.» فما أتم كلامه حتى بانت الدهشة في وجه الأمين، ونظر إلى الملفان سعدون، فرآه مُطرقًا هادئًا لا يخامره خوف ولا اضطراب، فلم يتمالك الأمين أن صاح به: «ويلك من أين أتاك علم الغيب؟» فرفع بصره إلى الأمين وقال: «لا فضل لي يا مولاي، إن هذا العلم معروف عند المنجمين، ولكن الذين يصدقون في استخدامه قليلون.» فقال: «إنما أعجبني صِدقك من غير ادِّعاء، قد جعلناك رئيس المنجمين.» فوقف سلمان وانحنى بين يدي الأمين ودعا له بطول البقاء ثم قال: «إن هذه نعمة لا أستحقها!» قال: «بل أنت أهل لذلك وهذا جزاء الصادقين.» وصفق فجاء الحاجب فقال له: «قل لقيِّم الدار أنْ يُعِد للملفان منزلًا يقيم به وأن يفرض له العطاء؛ فقد صار رئيس المنجمين.» ثم أشار إلى الملفان أن يجلس فانحنى ثانيةً وكرر الدعاء وجلس وهو يقول: «إن منازل أمير المؤمنين واسعة وحيثما أقمت فإنما أكون في حياطته غارقًا في نعمائه، وإذا سمح لي أن أقيم حيث شئت كان ذلك أدعى لمرضاته؛ لأني لا أستغني عن الانفراد في منزلي أحيانًا لعمل المندل أو مطالعة كتب التنجيم، على أن أكون بين يدي أمير المؤمنين متى شاء، ولو جاز أن تُرد هِبَته لتقدمتُ إليه أن يجعلني خادمًا رقيقًا بلا أجر؛ فإن من تعاطى هذه الصناعة على حقها وجب عليه إنكار نفسه والبُعد عن ملاذِّ الدنيا وعن التوسع في أسباب العيش، ولكن نِعَم أمير المؤمنين لا تُرد.» فاستغرب الأمين هذا التعفُّف ولم يخطر له سماعه من مثل هذا الرجل وهو يعلم أن أمثاله إنما يتقرَّبون إلى دار الخليفة طمعًا في المال؛ فالتفت إلى ابن ماهان والاستغراب بادٍ في وجهه كأنه يستطلع رأيه فقال ابن ماهان: «إن الملفان سعدون هذا طبعه، والأمر لأمير المؤمنين.» فقال: «ولكنا قد نحتاج إليه في ساعةٍ لا نجده فيها.» فقال الملفان: «إني أقيم بدار أمير المؤمنين على أن يؤذَن لي في الخروج إلى منزلي متى رأيت في الخروج فائدة فلا يعترضني أحد، ولا أظن الحاجة تمس إلى دعوتي فلا يجدوني.» فقال الأمين: «لك ذلك.» وكان الفضل أثناء الحديث ينظر إلى الملفان سعدون ويتفرَّس فيه، وقد دُهش لما سمعه وكأنه ارتاب في أمره. أما الأمين فكان شديد الرغبة في سماع تفصيل الخبر من الفضل، فألقى قضيب الخلافة على السرير بجانبه وتزحزح من مكانه، فأدرك الحضور أنه يريد أن ينصرفوا، فوقفوا وخرجوا، بينما أشار الأمين إلى الفضل أن يبقى. أما سلمان فمشى حتى بلغ مكان بغلته فركبها ومضى إلى القصر المأموني.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/10/
إلى المدائن
تركنا القصر المأموني في انتظار عودة سلمان بعد أن ذهب يبحث عن بهزاد. فلما انقضى النهار ولم يَعُد باتوا على أحرَّ من الجمر، ثم أصبحوا في اليوم التالي وهم يتوقعون قدوم بهزاد أو قدوم سلمان بخبرٍ عنه، فمضى أكثر النهار أيضًا ولم يَعُد أحدهما؛ فأخذ القلق منهم مأخذًا عظيمًا. ومما زاد في قلقهم أن زينب بنت المأمون أُصيبت بحُمَّى شديدة صباح هذا اليوم، على أثر ما انتابها من الحزن. ولا تسل عن حال دنانير عند ذلك؛ فقد اشتد بها القلق ورجت منها أن تقبل دعوة أحد أطباء القصر الكثيرين، وفيهم المهرة من كل طبقة، فلم ترضَ إلا بهزاد، فأرسلوا الغلمان يستشرفونه من الطرق أو على الشاطئ فطال انتظارهم. وكانت ميمونة أشدَّ قلقًا منهم جميعًا، وقد حرَصت على ألا تُظهر ذلك حتى لا تكشف أسرار قلبها. على أنها لما رأت زينب مريضةً هان عليها إظهار قلقها محتجَّة بالقلق على صحة بنت المأمون، فأخذت تُطِل ساعةً من الشرفات على الطرق وأخرى من الأبواب إلى دجلة، لعلها تراه قادمًا على فرس أو في قارب. ولما أعياها البحث جلست في غرفة منامها وقد كَلَّ دماغها من الاهتمام وبان التعب في مُحيَّاها فعلاه شحوب وتقطب، فاستلقت على الفراش وهي تَحسِب لتأخُّر بهزاد ألف حساب، وتُراجِع ما دار بينها وبينه في ساعة الفراق فلا تزداد إلا رغبةً في لقائه. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فأظلمت الدنيا في عينيها وفارقها صبرها؛ فخرجت راجيةً أن تَلقى من يُخبرها بقدومه أو تسمع صوته في الدهليز، وإنما توقعت ذلك لأن رغبة الإنسان في الأمر تُصوِّر له سهولة الإدراك ولو كان مستحيلًا، فكيف ومجيء بهزاد من أقرب الأمور لأنهم على موعدٍ معه؟ ومشت في الدهليز إلى الباب المُطِل على دجلة، وجعلت تتفرَّس في السفن الصاعدة والنازلة متمنية أن يكون بهزاد في واحدة منها، وتوهَّمت غير مرة أنه هناك فلما تكررت خيبتها يئست من مجيئه، ثم جلست إلى مقعد بجانب نافذةٍ تُطِل على دجلة وأخذت تفكر في أسباب تأخُّر بهزاد، مُوزِّعة النفس بين التفاؤل والتطيُّر؛ فصارت إذا رأت طيرًا يسبح في الفضاء قالت في نفسها: «إذا حطَّ هذا الطائر على هذه الشجرة كان بهزاد قادمًا الليلة، وكذلك إذا تحوَّل الطائر يمينًا فإن هذا يكون فألًا يُبشر بقدومه، فإذا تحوَّل إلى اليسار، فهذا مما يدعو إلى التشاؤم والتطيُّر.» وقضت في ذلك حينًا، فلما أظلمت الدنيا انتبهت، وظنت أنها تسمع خفق نعالٍ على المسناة قُرْب الباب؛ فخفق قلبها وأطلَّت فلم تجد أحدًا، فنهضت وأسرعت إلى غرفة زينب فرأت جدتها بجانب سرير الفتاة ودنانير جالسة على السرير قُرْبها، وقد تورَّدت وجنتا زينب من شدة الحُمَّى وكلهم سكوت. فلما أطلت ميمونة ابتدرتها دنانير قائلةً بصوتٍ مختنق: «أرأيت ما فعله الطبيب؟» فقالت ميمونة: «إنه أبطأ علينا ولا بد من شاغل شغله عنا.» فقالت عبادة: «وأغرب من ذلك غياب سلمان بعد أن وعدنا بالبحث عنه. لا إخال بهزاد إلا في المدائن الآن، وكم أنا نادمة على تقاعدي عن الذهاب للبحث عنه منذ الصباح.» فقالت دنانير: «إذا لم يأتِ غدًا أرسلنا في طلبه من المدائن.» فقالت ميمونة: «غدًا أذهب إليها مع جدتي وأرجو أن نجده في منزله.» قالت دنانير: «ستتحملان المشقة في هذا الأمر، و…» فقطعت عبادة كلامها قائلة: «لا مشقة علينا في ذلك، ولا نظن أحدًا يعرف مكانه مثلنا؛ لأننا نعرف البلدة ونعرف بيته فيها، فإذا لم يأتِ الليلة أو صباح غدٍ، ولم يأتِ سلمان بخبر عنه، ذهبت أنا وميمونة للبحث عنه هناك.» قالت دنانير: «بارك الله فيكما، سننتظر إلى غدٍ والاتكال على الله، فإذا لم يكن بُدٌّ من ذهابكما فليكن ذلك في بعض سفن القصر ومعكما النوتية والخدم. ولولا إصرار مولاتنا على الاستشفاء بدواء هذا الطبيب لكان لنا غِنًى عن هذه المشقة ببعض أطباء القصر.» وأصبحوا في اليوم التالي وزينب أحسن حالًا، أما ميمونة فألحَّت على جدتها أن تُصِر على الذهاب إلى المدائن قيامًا بخدمة أهل القصر لقاء حسن وفادتهم، فأطاعتها جدتها وألحَّت على دنانير أن تأمر بإعداد حراقة تسيران بها إلى المدائن، فأمرت قَيِّم القصر بإعدادها فأُعدت عند الظهيرة وفيها النوتية وبضعة من غلمان القصر، فركبتاها وأشارت عبادة إلى الرُّبَّان أن يسير جنوبًا فأدار الدفة ونشر شراع الحراقة فسارت وميمونة جالسة في مقعد تُشرف منه على الشاطئ الأيسر لعلها ترى بهزاد مارًّا على جواده في البر، بينما وجهت عبادة الْتفاتها إلى النهر لعلها تراه في سفينة. وظلت الحراقة سائرةً بهم يساعدها مجرى النهر أكثر مما يساعدها الشراع على الإسراع. على أن ميمونة كانت تستبطئها وتكاد تَحسَبها واقفةً لفرط رغبتها في الوصول. وكانت عبادة جالسةً بالقرب منها صامتة، وكل من في الحراقة سكوت لا يسمعون غير صوت ارتطام الماء بمقدم السفينة. ثم سمعوا ضوضاءَ وجلبةً وراءهم فالتفتت ميمونة فرأت حراقة تسير في أثرهم مُسرعة، فتفرَّست فيها فرأتها جميلة الصنعة عليها نقوش مُذهَّبة ومقدمتها على شكل الفيل بخرطومه ونابَيه، فاستغربت منظرها ولفتت نظر جدتها إليها، فقالت هذه: «إنها حراقة الخليفة الأمين. وللأمين خمس حراقات على صورة الأسد والفيل والعُقاب والحية والفرس أنفق فيها مالًا كثيرًا.» فخفق قلب ميمونة وتصاعد الدم إلى وجهها فتورَّدت وجنتاها ثم ذهب الاحمرار فجأةً وامتُقع لونها وصاحت: «ويلاه … إني أرى أصحاب الحراقة سائرين في أثرنا، ماذا يريدون منا؟» فأشارت عليها جدتها أن تستتر بالسارية، وأسرعت إلى رُبَّان حراقتهم فأمرته أن يحل الشراع ويسير على مهلٍ متجهًا إلى الشاطئ ويُفسح الطريق للحراقة التي خلفهم. فأدار الرجل الدفة والتفَّت عبادة بنقابها وانزوت بجانب ميمونة. وكانت حراقة الأمين قد دنت منهم فعرفتا أنها تحمل جندًا وعيارين، وسمعت رجلًا يقهقه قهقهة السكارى ويقول: «هذه غنيمة باردة!» فأجابه آخر: «ما لكم وللغنائم؟ ألم يَكفِكُم ما نلتموه من رزق ٢٤ شهرًا، فنال راجلكم ٤٨٠ درهمًا مرة واحدة، فضلًا عن حصتكم من الغنائم؟ إنكم لا تشبعون، أما نحن العيارين فلا رزق لنا إلا من الغنائم؛ إذ لا مرتبات لنا.» فضحك الأول وقال: «إنكم معشرَ العيارين أكثر منا رزقًا؛ فقد تُنتدبون لمثل هذه المهمة تنالون منها مرة واحدة ما لا يتيسر لنا في مرات. فإذا وُفِّقتم إلى القبض على ذلك الخراساني أصبتم رزقًا كثيرًا.» فنفر الآخر منه وقال: «لا أظن أمير المؤمنين يُعطينا شيئًا كثيرًا إذا قبضنا عليه؛ فقد طالما قبضنا على أمثاله ولم ننل إلا دراهم معدودة.» فضحك الجندي مقهقهًا وقال: «العطاء على قدر العمل، أتريد أن يعطوكم على لص تأخذونه كما يعطونكم على مثل هذا الرجل؟» فقال: «وما الذي يُميزه من سواه؟ دعنا من هذه الآمال الفارغة.» قال: «إن لهذا الخراساني شأنًا عظيمًا عند أمير المؤمنين لم نكن نعلمه قبل مجيء الوزير.» وكانت ميمونة منزوية وراء السارية تسترق السمع، فلما سمعت ما قالوه عن الخراساني اختلج قلبها في صدرها خوفًا من أن يكون حبيبها؛ فأصاخت بسمعها فسمعت رجلًا آخر يقول: «ما لكم ولهذا الهذيان؟ لئن سمعكم مولانا الهرش لأسمعكم ما تكرهون. وما نحن في معرض جدال وإنما جئنا للقبض على ذلك الرجل، فإذا ظفرنا به كان هذا ربحًا عظيمًا لنا جميعًا.» وكانت الحراقة قد حاذت حراقة المأمون، فنهضت ميمونة والتفتت إلى المتكلمين، فرأت عددًا كبيرًا من الجند والعيارين في جَلَبةٍ وضحكٍ وصياحٍ كأنهم سُكارى يُعربدون، ورأت على مقعدٍ في طرف السفينة رجلًا قصيرًا سمينًا عليه قيافة الرياسة، فسألت جدتها هل تعرف هؤلاء فرفعت عبادة بصرها وحالما رأت الرجل همست قائلة: «إنه الهرش رئيس العيارين.» ووقع بصر أحد العيارين أثناء ذلك على ميمونة وقد زادها الخوف والقلق رونقًا، فصاح: «إني أرى جاريةً حسناء، لعلها من القيان. اربط يا ريس. لنسمعْ غناءها.» فارتعدت ميمونة خوفًا وجمد الدم في عروقها، وأدركت جدتها خوفها فنهضت تحثُّ صاحب الدفة على الفرار أو الدفاع، فسمعت رجلًا من تلك الحراقة يقول بصوتٍ منخفض: «دع الفضول، ألا ترى الراية؟» فتجمهر جماعة ونظروا إلى رايةٍ منصوبة في مقدم الحراقة فقالوا: «إنها راية المأمون.» وقال أحدهم: «دعونا منها.» ثم ما لبثوا أن مروا بها مسرعين، فسُرِّيَ عن ميمونة لزوال الخطر عنها، ولكنها أصبحت في قلقٍ عظيم على حبيبها، ورجح عندها أنهم يَجِدُّون في طلبه، فالتفتت إلى جدتها والدمع يترقرق في عينيها وقالت: «إنهم يطلبون بهزاد؟ ويلاه!» قالت ذلك وقد نسيت أنها تكتم حبها عن جدتها. فقالت عبادة وقد حملت خوفها مَحملًا آخر: «لا تخافي يا حبيبتي، لا أظنهم يطلبونه. وعلى كل حالٍ سنسبقهم إليه ونُنبهه.» ونهضت إلى صاحب الدفة وأمرته أن ينشر الشراع في أثر تلك الحراقة، ففعل وسارت الحراقة ساعةً أخرى وميمونة واقفة حائرة لا تدري ما تعمل، فابتدرتها جدتها قائلة: «لا تخافي يا بنية، إننا سنصل إلى بهزاد قبلهم وإن سبقونا بحراقتهم، وأسرعت إلى مقدم السفينة وجعلت تتفرَّس في الشاطئ على اليسار وتنظر إلى أبعد ما يقع عليه بصرها في عرض الأفق، وميمونة واقفة إلى جانبها تستند إلى كتفها خوفًا من السقوط والسفينة تشق الماء والريح تنقر على الشراع، فسارت الحراقتان ساعتين متقاربتين وعبادة واقفة وبصرها شاخص إلى الأفق حتى أشرفت على بناءٍ شامخٍ تراءى لها عن بُعدٍ فصاحت: «هذا هو الإيوان. إننا على مقربة من المدائن.» ثم تحوَّلت إلى الرُّبَّان وقالت: «أترى هذه الناعورة (الساقية) أمامك؟» قال: «نعم، أراها يا مولاتي.» قالت: «قف بالحراقة عندها.» ثم التفتت إلى ميمونة وهمست في أذنها قائلة: «إذا نزلنا من هنا ويممنا منزل بهزاد وصلنا إليه قبل أولئك بوقتٍ طويل!» فحلوا الشراع وأدار الرُّبَّان الدفة، وبعد هُنيهةٍ رَسَت بهم الحراقة عند الساقية، فأمسكت عبادة يد ميمونة ونزلتا إلى الشاطئ وقالت عبادة للرُّبَّان: «امكث هنا حتى نعود إليك.» فقال: «ألا يسير أحدٌ منا في خدمتكما؟» قالت: «كلا.» فقال: «سمعًا وطاعة.» وهرولت عبادة مسرعة وميمونة تعدو في أثرها، وقد مالت الشمس نحو المغيب، وعبادة تعرف الطريق جيدًا وتعرف حناياها ومختصراتها، فسارتا على هذه الصورة نصف ساعة، فتعبت العجوز وكادت تخور قواها وتسقط، وميمونة تركض لا تبالي من شدة لهفتها، ناسيةً ضعف جدتها وشيخوختها. فما لبثت أن رأتها تلهث من التعبِ والعرقُ يتصبب من جبينها وأنفِها وسالفيها ولم تَعُد تقوى على السير، فوقفت ثم قعدت على حجر وأخذت تمسح عرقها وتلهث؛ فاستاءت ميمونة من قعودها وودَّت لو كانت لها أجنحة لتطير بها إلى منزل بهزاد. وتحيَّرت فلم تدرِ أتترك جدتها هناك وتسير وحدها وهي لا تعرف الطريق ولا يطاوعها قلبها على ترك جدتها وحدها في ذلك المكان؟ أم تصبر ريثما تستريح فتضيع الفرصة؟ فجعلت تمسح لها عرقها وتُنشطها وتُخفف عنها، وعبادة لا تستطيع الكلام من شدة التعب. وبعد بضع دقائق قالت: «إننا على مقربة من البيت. ألا ترين هذه النخلة الباسقة؟» وكانت الشمس قد توارت بين النخيل على الشاطئ الغربي وراءهما، فنظرت ميمونة شرقًا نحو الأفق فرأت تلك النخلة فصاحت: «أليست هي النخلة التي أَلِفْنا الاستظلال بها عندما كنا نخرج من منزلنا؟» قالت: «بلى، هي بعينها.» فقالت: «نحن إذن على مقربةٍ من بيت بهزاد، هلمي بنا نكمل مسيرنا، ولو أتعبكِ ذلك فإني أخاف أن يسبقنا أولئك الرعاع إليه.» قالت: «لا تخافي، إنهم لا يزالون يمخرون في دجلة.» ونهضت وهي تتشدَّد وتتجلَّد، ومشت وميمونة في أثرها مستبطئة مشيتها حتى وصلتا إلى أسواق تلك البلدة فقطعتاها. وأقبلتا على منزل بهزاد والشمس تكاد تغيب، فوجدتا الباب مغلقًا وليس عنده أحد، فمشتا وهما تلتفتان والشاطئ بعيد عنهما فلم تجدا أحدًا قادمًا، فتحققت ميمونة أن الأعداء لم يدركوا البيت بعد. وبعد هُنيهة وصلتا إلى الباب فوجدتاه مغلقًا فقرعتاه قرعًا عنيفًا فلم يُجبهما أحد. فلما أبطأ عليهما الجواب، فحصت عبادة الباب فرأته مغلقًا من الخارج، فتحققت أن بهزاد ليس داخله؛ فانشرح صدرها وأنبأت ميمونة بذلك فتنفست الصُّعَداء وقالت: «الحمد لله أنه ليس هنا ولا سبيل لهؤلاء إليه، ولكن أين هو يا تُرى؟» فقالت جدتها: «ربما كان في بغداد أو في بلدٍ آخر.» قالت ذلك وقعدت على حَجر عند الباب لتستريح. فقالت ميمونة: «أخاف أن يكون عائدًا إلى بيته الآن فيظفرون به. ألا يَحسُن أن ننتظره بالقرب من هذا المكان فإذا رأيناه أعلمناه بما يهدده؟» قالت: «وهل نكون في أمنٍ على أنفسنا؟» فتحيرت ميمونة في أمرها وقالت: «ماذا نعمل إذن؟ أخاف أن يكون بهزاد آتيًا الساعة وهو لا يعلم بما أعدُّوه له فيقع غنيمة باردة في أيديهم. يجب أن نتمم سعينا في إنقاذه.» وكأنها أدركت كثرة ما أظهرته من اللهفة عليه فخافت ظهور حبها له فاستدركت قائلة: «يجب علينا أن نكافئه على فضله ولا ندَّخر وسعًا في إنقاذه ولو تعرضنا للخطر.» فاستحسنت عبادة كرم أخلاقها وقالت: «صدقتِ، يجب علينا أن نبذل ما في وسعنا في سبيله، ولكن ما العمل؟ ها أنا ذا أسمع ضوضاء القوم من جهة الشاطئ، اسمعي، إنهم يجرون؛ هلمي بنا نذهب من قبل أن يدركونا.» قالت ذلك ونهضت فأمسكتْ بثوب ميمونة ومشت بها مسرعة نحو الشرق، فمرتا بتلال وأحجار من أنقاض قصرٍ كبير فقالت ميمونة: «أرى أنقاضًا لعلها من بقايا دولة الفرس؛ فهي تشبه أنقاض إيوان.» فقالت عبادة وهي تسرع في مشيتها جهد طاقتها مع ما يَحُول دون ذلك من شيخوختها: «صدقتِ يا حبيبتي، إن هذه التلال والأحجار من أنقاض إيوان كان هنا غير إيوان كسرى، يُعرف بإيوان سابور؛ وهو القصر الذي كان يقيم فيه المنصور قبل بناء بغداد وتهدَّم بعده.» فقالت ميمونة: «يلوح لي أن بهزاد اختار السكن بجوار هذه الأنقاض استئناسًا بآثار أجدادنا.» قالت ذلك وهي تسرع أمام جدتها وقد نبَّهها ذِكر هذا الإيوان إلى شيءٍ خطر لها، فلما توارتا عن المنزل قالت ميمونة: «أذكر أني سمعته يذكر أنه يتردد إلى إيوان كسرى للبحث عن بعض العقاقير الطبية والحشائش التي تَنبُت على أنقاضه، فلعله هناك الآن؟» فقالت عبادة: «ربما كان هناك. اتبعيني لنبحث عنه قبل أن تغرب الشمس.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/11/
في إيوان كسرى
صعدت عبادة وميمونة إلى الإيوان وهو في ظاهر المدائن من جهة الشرق، فخرجتا من البلدة وهما تحاذران أن يشعر أهلها بهما، وبالغتا في التقنع، فلما بلغتاه إذا هو قائم كالجبل العظيم وقد زاده الخراب وحشة. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وتلاحمت الظلال وأخذت تتحوَّل إلى ظلام. وساعة الغروب من أوحش الساعات على الإنسان لقرب خروجه إلى الظلمة فيشق عليه فراق النور فتنقبض نفسه ويستوحش حتى إذا كان في قصره بين أهله وذويه، فكيف إذا كان في بَرِّية يغشاها الخراب وينعق فيها البوم؟ وقد كان هذا البناء رهيبًا في إبان عمرانه فكيف به في خرابه؟ وللخراب وحشة في إبان النهار فكيف في الليل؟ على أن ميمونة شُغلت عن الخوف بلهفة المشتاق، ولولا ذلك لكان لها في منظر ذلك القصر عبرةٌ أي عبرة! كانت خرائبه توحي بأن مصير الإنسان إلى الزوال، كما باد أهلوه وقد كان فيهم الأكاسرة والمرازبة والدهاقنة والأساورة ممن كان أحدهم لا تكاد الأرض تَسَع مطامعه؛ فكم ربطت خيولهم في باحة ذلك القصر! وكم دخلوه وعليهم الخزُّ والديباج وعلى رءوسهم التيجان وفي أيديهم الصوالجة! وكم جاء الملوك والأمراء يلتمسون الهدنة أو يتقربون بالهدايا؟ وكم خضع لهم القواد وسيقوا إليهم بالأغلال والأصفاد يوم كان القصر آهلًا بالنساء والأولاد وألوف من العبيد والجواري مما حُمل إليهم أسرًا أو هدية، وفيهم غلمان من أبناء الملوك وفتيات من بنات الأمراء … وكلهم يرفلون في ألبسة الحرير، ويتوسَّدون الرياش الوثير بين مُزركَش ومُطرَّز بألوانٍ تُبهج النظر وبين أنغام تُطرب السمع. وكم كان على شرفات الإيوان من الستائر الموشاة، يُطِل من ورائها الجواري الحسان يتطلعن إلى ما كان يقام في باحة القصر من الألعاب على الخيول كالسباق أو لعب الصوالجة. والناس كلهم فرحون يحسبون الحياة نعيمًا دائمًا! فلو رآهم راءٍ ثم جاء مع ميمونة في ذلك المساء ورأى الإيوان قد أصبح مقرًّا للحشرات، رياشه التراب وما نبت عليه من الحشائش والطحالب، ونمارقه الأشواك والأحجار، وقد تهدمت جدرانه وسقطت أساطينه وتصدعت أركانه، لاعتَبر وتهيَّب وغلبت عليه الوحشة والرهبة ولو كان من الأبطال، فكيف إذا كان فتاة رُبيت في مهاد الرخاء مثل ميمونة؟ فالتفتت إلى ما حولها فلم ترَ إلا خلاءً قد تولاه الخراب، فاستوحشت وندمت على مجيئها، ولكن رغبتها في لقاء حبيبها شجعتها وثِقتها بجدتها هوَّنت الأمر عليها. أما عبادة فكانت في شاغلٍ بما نالها من التعب وكانت أقل خوفًا من ميمونة؛ فأسندت نفسها إلى أسطوانةٍ مُلقاة هناك من أنقاض الإيوان وقالت لميمونة: «هل ترين أحدًا أم تسمعين صوتًا؟» فأصاخت بسمعها وقالت: «إني لا أسمع صوتًا ولا أرى شيئًا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون بهزاد في داخل هذا البناء يبحث عن عشب أو عقار، وبما أننا وصلنا إلى هنا فلندخل الطاق فإذا لم نرَ أحدًا رجعنا سريعًا قبل أن يشتد الظلام. هل ندخل؟» فلم تشأ عبادة مخالفتها، فمشتا وهما تجسان الأرض جسًّا بأقدامهما وتحاذران العثور بالأحجار أو الأشواك، وقد سكنت الطبيعة وأوَت الطيور إلى أوكارها. ولما أقبلتا على باب الإيوان هابتا سعته وارتفاعه؛ فقد كان عرض فتحته ٣٤ ذراعًا وارتفاعه ٣٢ ذراعًا، ولما مرَّتا تحت قنطرته سمعتا هبوب النسيم وأحستا ببرده، فأجفلت ميمونة وتراجعت وشعرت كأن يدًا باردة لمست وجهها فتلفَّتت فلم ترَ أحدًا فابتدرتها جدتها قائلة: «ما لكِ يا بُنية؟» قالت: «ماذا أسمع؟ هل أسمع هبوب النسيم وأشعر ببرده؟ أم هي أنفاس الجن؟ قد كنا منذ لحظةٍ خارج الإيوان وكل شيء هادئ، فما بالي أسمع هبوبًا وأشعر بالبرد؟» قالت: «كأنكِ لم تدخلي هذا الإيوان قبل الآن؟» قالت: «كلا، وهل فيه جن؟» قالت: «لا تخافي يا بُنية، ليس في المكان جن ولا إنس، وأما ما تسمعينه فهو أصوات مجاري الهواء الخارج من جدران الطاق.» قالت: «قد كنا بقُربه الآن ولم يكن ثَمَّةَ ريح، فكيف هبت سريعًا على هذه الصورة؟» قالت: «إن في بناء هذا الإيوان سرًّا لم ينكشف لأهل هذا العصر بعد؛ إنه مبني على هندسة تجعل الهواء يلعب في قاعته ولو كان الناس خارجه في حرٍّ شديد، فيخرج من منافذ في جدرانه مصنوعة على نمط عجيب حيَّر مهندسي هذا الزمان. وقد تأنَّق الذين بَنَوه في صُنْعه على هذه الصورة حتى لا يفارق النسيم مجالس الأكاسرة في أشد الأيام حرًّا؛ فلا تخافي، هل نرجع؟» وكانتا قد دخلتا الباب وأقبلتا على القاعة الكبرى التي يُسمُّونها الطاق، ويُسمُّون الإيوان بها فيقولون طاق كسرى كما يقولون إيوان كسرى. وكانت مساحة هذا الطاق في أيام عمارته ستين ذراعًا في ستين، وقيل مائة في خمسين، وكانوا يفرشون أرضه ببساطٍ واحد مُزركَش ومُرصَّع. وكان في صدر الطاق على عهد الأكاسرة عرش من ذهب مرصع بالحجارة الكريمة يجلس عليه كسرى، تعلوه قبة مُرصَّعة في داخلها مروحة من ريش النعام، وإلى جانبَي العرش مجالس الأعوان والمرازبة. وقد ذهب ذلك كله أثناء الفتح غنيمةً للمسلمين وهم يومئذٍ أهل باديةٍ حفاةٌ عراة لا يُفرِّقون بين الكافور والملح ولا بين الجوهر والحصى، فاقتسموا الآنية وقطعوا الأبسطة ومزَّقوا الستائر، وكان نصرهم من آيات تغلُّب البداوة على الحضارة؛ فلم يبقَ هناك إلا الأحجار وبعض الأساطين وقد تشوَّهت وتكسَّرت. ونظرت ميمونة إلى ما حولها من الجدران الهائلة فرأت عليها صُوَرًا مُلوَّنة منعها الظلام من تَحقُّقها. ولما سمعت جدتها تستخيرها في الرجوع وهي لا ترى في ذلك المكان إلا ما يبعث على الوحشة، ناهيك بما كانت تخافه من الحشرات التي تكثر في مثل تلك الخربة، عزمت على الرجوع وأرادت أن تُجيبها بالإيجاب فإذا بها تسمع دبدبةً خارج الإيوان ولا تسمع كلامًا؛ فاختلج قلبها في صدرها وأرادت أن تصيح فأُرتِجَ عليها ولصق لسانها بحلقها، وأدركت جدتها ذلك ولم تكن أقلَّ خوفًا منها، فأمسكت بيدها وأومأت إليها أن تتبعها إلى الداخل وهي تهمس في أذنها: «لعل أولئك العيارين أتوا للبحث عن بهزاد في الإيوان مثلنا، وهو والحمد لله ليس هنا، على أني أخشى أن يُبصرونا؛ فتعالي نختبئ وراء هذه الأساطين حتى إذا أطلُّوا ولم يجدوا أحدًا رجعوا.» قالت ذلك وصوتها يرتجف وهي تجرُّ ميمونة بيدها، فأسرعتا فوق الحجارة وما يتخللها من الأعشاب والأشواك، فسُمع لخطواتهما خشخشة وطقطقة رغم ما أرادتاه من التستُّر، ولم تنتبها لهول ما اعتراهما إلى ما كان يسرح بين أقدامهما من الجرذان والأورال وغيرها من الحشرات، حتى وصلتا إلى كوَّة واسعة لعلها كانت موضع العرش في إبَّان صولة الفرس. وعند الكوَّة أساطين متفرقة إذا دخل الطاقَ داخلٌ لا يفطن لمن يقيم وراءها. فدخلتا الكوَّة وانزوتا فيها وهما تمسكان أنفاسهما من الخوف، وأصغتا وعيونهما محملقة تنظران إلى الباب بلهفةٍ وجزع، وقد ندمتا على تلك المخاطرة. ولم تمضِ لحظة حتى كفَّت الدبدبة وسمعت ميمونة همسًا عند الباب كأن المتكلم يحاذر أن يسمعه أحد، ثم سمعت صوت قدح زناد، ورأت أشعة النور اندفعت إلى الطاق من سراجٍ يحمله شخص طويل القامة ملثم بلثام أسود، وقد التفَّ بعباءة سوداء فلم يبدُ منه غير يده التي يحمل بها السراج. وما لبث أن دخل صامتًا وفي أثره بضعة رجال في مثل هيئته، فخفق قلب ميمونة وازداد اضطرابها حتى كاد الدم يجمد في عروقها، مخافة أن يتقدم الرجل بسراجه إلى مكانهما، فبالغت في الانزواء وهي ما زالت معانقة جدتها. أما حامل السراج فلما توسط الطاق التفت يَمنةً ويَسرةً وقال: «ليس هنا أي أحد، وهل يُعقل أن يأتيَ هنا أحد في مثل هذا الوقت؟ فليس ما سمعناه إلا خشخشة بعض الحشرات التي فرت حين أحسَّت بقدومنا.» ثم نظر إلى ما بين يديه كأنه يبحث عن مكانٍ يضع السراج عليه، فرأى بقية أسطوانة قد ذهب معظمها وظلت قاعدتها قائمة، فوضع السراج عليها، وأخرج يده الأخرى من تحت العباءة وفيها صندوق أسود فوضعه بجانب السراج والتفت إلى رفاقه وهم ستة، وقال بصوت ضعيف: «هل نبدأ الحديث؟» فقال أحدهم: «نعم، قل ما بدا لك.» فلما سمعت ميمونة صوت الرجل الأول استأنست به، وخُيل إليها أنه يشبه صوت حبيبها، فاختلج قلبها وشاعت عيناها. ثم رأت الرجل الطويل ورفاقه قد خلعوا عباءاتهم فافترشوها وقعدوا عليها ما عدا أولهم فظل واقفًا، وبدت ثيابهم من تحت العباءات على غير المألوف في بغداد؛ إذ كان على كلٍّ منهم قباء أخضر وعلى رأسه قلنسوة حولها عمامة خضراء، وقد تمنطقوا بالسيوف وتقلدوا الأقواس كأنهم يتأهَّبون للحرب. واسترعى انتباهها طول الرجل الأول وكان قد ولَّاها ظهره، فرجَّحت أنه بهزاد، وحدَّقت فيه، وكادت تناديه ولكنها أمسكت وأشارت إلى جدتها أن تنظر إليه فعرفته على ضعف بصرها، وأومأت إلى ميمونة أن تصبر وتبقى صامتة، وأخذت تتفرَّس في القوم، وعرفت من وجوههم ولِحَاهم أنهم من الفرس ولكنها لم تعرف أحدًا منهم. ثم رأت بهزاد قد تحوَّل نحو قاعدة الأسطوانة وأخذ الصندوق فوضعه بين يدي الجماعة وقعد القُرفُصاء وقال: «أقسموا على ما في الصندوق أنكم تكتمون ما يدور بيننا.» فتصدَّى رجل منهم رقيق البدن خفيف العضل تدل سحنته على مزاجه العصبي وحِدَّة ذهنه وجرأته فقال: «ولكنك لم تخبرنا بما فيه، وقد وعدتنا أن تُطلِعنا على ذلك قبل كل شيء.» فتناول بهزاد مفتاحًا من جيبه وفتح الصندوق وقال: «انظروا ولا تتكلموا.» فنظروا في الصندوق وتراجعوا وقد تولتهم الدهشة وقالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون. ما هذا؟» فقال: «هذا شعارنا منذ اليوم؛ هذا رأس القتيل المظلوم، فهيا أقسموا أن نكتم أمرنا، وأن ننتقم له ولمن قُتل قبله.» قال ذلك وأغلق الصندوق وهو جاثٍ، فقرءوا الفاتحة معًا، ثم أقسم كلٌّ منهم ليبذلن ماله ودمه للانتقام. وقف بهزاد عقب الانتهاء من القسم، فأعاد الصندوق إلى موضعه وحمل المصباح وتقدَّم نحو جدران الطاق والسراج مرفوع بيده ليَبدوَ ما على الحائط وقال: «أترَوْن ما على هذا الجدار من الرسوم؟» قالوا: «نرى كسرى أنو شروان يُحاصِر بجنده أنطاكية.» فقال: «ألم يفتحها؟» قالوا: «بلى.» قال: «ألم يكن أنو شروان عادلًا؟» قالوا: «بلى.» قال: «ألستم خلفاءه وأبناءه؟» قالوا: «بلى.» قال: «ألم تنصروا هؤلاء العرب وتُملكوهم رقاب الناس؟» قالوا: «بلى.» قال: «ألم يبذل أجدادكم أرواحهم ودماءهم وأبلَوْا بلاء الرجال في طاعة إمامهم الأول، فقَتلوا على الشك وغدروا وخانوا رغبةً في رفع منار تلك الدولة، فكيف كان جزاؤهم؟» فقالوا جميعًا: «لقد جوزينا جزاء سنمار. رحم الله أبا مسلم.» قال: «ليس أبو مسلم أول شهيد قتله العرب غدرًا بعد أن أيَّد سلطانهم، وسلَّم الدولة إليهم؟ أترضون أن يذهب دمه هدرًا فضلًا عن دماء آبائكم؟» فقال رجل منهم كبير السن جليل الطلعة: «إنك تدعونا إلى أمر عظيم، ولكنك لم تُخبرنا من أنت؛ نعم إنك فارسي مثلنا وشريك لنا في هذا الأمر، غير أننا نحب أن نعرف الغرض من مجيئنا إلى هذه الخرائب وقد كنا في غِنًى عن ذلك بالاجتماع في بيت أحدنا.» فقال بهزاد: «يَعُد الناس هذا المكان خرابًا وما هو كذلك؛ إنه أثر حي لعظمة دولتنا، وقد عجز المنصور بعد أن غدر بأبي مسلم عن هدمه. إن بقاء هذا الإيوان رمز على بقاء دولة أصحابه؛ فأحببت أن نتعاهد على الانتقام بين جدرانه، وهذا أنو شروان العادل كأنما يرانا ويسمعنا، فإذا تعاهدنا أمام صورته كان عهدنا وثيقًا.» ثم رفع السراج إلى رأس كسرى في الصورة وقال: «انظروا، إنه ينظر إليكم بعينيه نظرة عاتبٍ كأنه يقول: «لقد تقاعدتم عن نصرة أُمتكم ورضيتم بالرضوخ لقومٍ استخدموكم وأذلوكم وقتلوكم غدرًا، فكيف تصبرون على الذل وفيكم العظماء والحكماء والقواد، ومنكم رستم وقورش ودارا وسابور وبرويز وأنو شروان وبزر جمهر، وقد حاربتم الإغريق والرومان والهند والصغد وفتحتم بلادهم. كيف يغلبكم على أمركم أعراب كانوا يَفدون علينا للاستجداء فنُنعم عليهم بالطعام واللباس، وكان أحاسنهم من جندنا وموالينا، فتسلطوا عليكم بالسيف، ثم نصرتموهم فقتلوا كباركم غدرًا وملكوا رقابكم وأنتم صابرون، ولو لم تصبروا لكنتم الملوك وهم عبيد لكم. ومع هذا أليست مقاليد الأحكام في أيديكم، ومنكم وزراؤهم وقوادهم ورجال العلم والسياسة فيهم؟ فكيف تَحنون رقابكم لرجالٍ ما فيهم إلا الضعيف، وإنما غلبوكم بالحيلة والمداجاة. إن الصبر إذا طال أصبح مذلة وعجزًا.» هذا خطاب أنو شروان، ولأجله جئت بكم إلى هذا المكان. أما أنا فإذا كنتم من الناقمين لأبي مسلم فاعرفوني؛ إني رسول إخوانكم في خراسان، فما قولكم؟» وكان بهزاد قد ارتفع صوته ونسي التكتُّم والتستُّر وأشرق وجهه حماسةً وشهامة؛ فرقص قلب ميمونة فرحًا لرؤيته وسماع خطبته، ولكنها ظلت متشوقة لمعرفة ما في الصندوق، وقد فهمت من حديثهم أن فيه رأس رجل مظلوم، فتلهفت لمعرفته. ولما انتهى بهزاد من كلامه وهو ينظر إلى القوم والسراج في يده، نهض أحدهم وقال: «هل أنت رسول إلينا من إخواننا الخرمية في خراسان؟» فقال: «إني رسول إليكم منذ بضعة أعوام.» قالوا: «وما الذي عاقك إلى الآن؟» قال: «تربصت حتى جاءت الساعة وسنحت الفرصة؛ لأن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فالآن مات الرشيد.؛ ذلك الذي غلبنا بمبادرته وكيده، فقتل كبيرنا وعمدتنا وعرقل مساعينا، أما خليفته فغلام غِرٌّ همُّه أكله وشربه و…» فقطع الرجل كلامه قائلًا: «ولكننا أقمنا دولة فارسية أساسها الآن في خراسان، وهذا أخوه المأمون ولي العهد لا يلبث أن يتولى العرش بعده، وهو آلة في يد الفضل بن سهل، وهذا إنما أسلم وتقرَّب منه رغبةً في نصرة الفرس وتطلعًا إلى هذه الفرصة؛ فإذا أفضت الخلافة إلى المأمون بلغنا الغرض المطلوب على أيسر سبيل؟» فقال بهزاد: «ألم أقل لكم إنكم غافلون عن منافعكم؟ إن مساعيَ الفضل أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بما هيَّأه هذا الغلام وأنصاره من أسباب الغدر؛ فكما أسس المنصور دولته بقتل أبي مسلم غدرًا، وأنقذها الرشيد بقتل جعفر غدرًا، فإن هذا الغلام عرقل مساعيَ الفضل بن سهل بخلع المأمون غدرًا!» فصاح الرجل: «هل خلعه؟» قال: «نعم، خلعه ولا يلبث أن يقتل أنصاره وأنتم نيام. إن مساعيَ الفضل مؤسسة على الدهاء والسياسة، فإذا لم تبادروا إلى تأييدها ذهبت عبثًا، فلا ينفعنا إسلامه ولا تقرُّبه من المأمون.» فقال الرجل: «هل أنت واثق من خلع المأمون؟» قال: «لست نائمًا مثلكم، ولكني ساهر على صوالحكم منذ بضعة أعوام، وقد بثثت العيون والأرصاد حتى في بلاط الخليفة، وأعرف كل حركة تجري في بيت الأمين، وأعرف أهواء العامة وأغراض الخاصة، وقد علمت يقينًا أن الأمين خلع أخاه المأمون، ولا ندري ما يفعله بعد ذلك. أما العامة فقوم طغام يُباعون ويُشرون وهم لا يعلمون، وأما الخاصة فأنتم عمدتهم؛ فبادروا إلى العمل؛ فقد بلغ السيل الزُّبى.» فأطرق القوم هنيهة ثم وقف الرجل الجليل وقال بصوتٍ هادئ: «أما وقد ثبت خلع المأمون، فالأمر خطير، ولكننا لا نفوز إلا بالتؤدة؛ فإن هؤلاء العامة لا يُقادون إلا بالدين، وهذا أمر كان أوله في خراسان ولا يقوم إلا من هناك.» قال: «إن تدبير ذلك سهل علينا، وخراسان سيفنا وذخيرتنا. وأما الدين فهو الوسيلة لجمع كلمة العامة، وهذا في أيدينا وسندبر ذلك في خراسان. إن هذه الأقبية الخضراء ستملك أمر الدين بإذن الله؟» ففهم الرجل مراده من اتخاذه مذهب الشيعة سلاحًا لنقل الخلافة فقال: «متى صارت الخضرة شعار الخلافة وذهب سواد العباسيين نلنا المراد، ولكن أنَّى لنا ذلك؟» قال: «يكون لنا ذلك إن شاء الله في خراسان، ولا بد من إعمال السيف، فكونوا أنتم في يقظة من أمر شيعتنا في بغداد. وإذا أتت الساعة يُحاسَب كلٌّ منا على عمله.» ثم أشار إلى الصندوق وقال: «وأما شعارنا الحقيقي فهو ما رأيتموه في هذا الصندوق، وسأضيف إليه رأسًا آخر إذا رأيتموه علمتم أنكم إذا بذلتم أموالكم وأنفسكم فإنما تبذلونهما في سبيلٍ قويم. إذا كنتم من الخرمية فإنكم تنتقمون لإمامٍ قديم ورجلٍ عظيم؛ تنتقمون لأبي مسلم صاحب الرايات السود مؤسس الدولة العباسية، وهو يناديكم من أعماق قبره أن تقلبوا هذه الدولة وتُعيدوا دولة الفرس وتؤيدوها بالشيعة العلوية أصحاب الدعوة الأصلية التي أضاعها المنصور بغدره ودهائه. وسيعلم الذي ظلموا أيَّ مُنقلَب ينقلبون.» ••• كان بهزاد يتكلم والعرق يتصبَّب من جبينه، وقد أخذت منه الحَمِية مأخذًا عظيمًا، فاستنهض عزائم رفاقه وسحرهم بحماسته وبلاغته حتى تراءى لهم أن الإيوان عاد سيرته الأولى آهلًا بالجيوش يُزجيها كسرى أنو شروان. وكانوا يعرفون بهزاد طبيبًا فارسيًّا ناقمًا على العباسيين، ولم يكن يخطر لهم أنه رسول «الخرمية» — من الأحزاب السرية القائمة في خراسان — وهم طائفة ظاهرها ديني واختلفت الأقوال في حقيقة مذهبها، ولكنها كانت حزبًا سياسيًّا يستخدمها ذوو المطامع في طلب السيادة، ومنهم أصحاب أبي مسلم وأهله ولا سيما ابنته فاطمة؛ فإن الخرمية كانوا يُقدسونها ويذكرونها في أدعيتهم. وللخرمية أثر كبير في تاريخ الإسلام، وكانوا إذا اشتدوا ظهروا وإذا ضعفوا اختفَوا، وكانت لهم مخابرات سرية في المدن الإسلامية، يتعاونون ويتكاتفون، وفيهم المسلمون والزرادشتيون والمجوس، وإنما تجمعهم العصبية الفارسية. ولا بدع إذا كان منهم جماعة في بغداد كالذين جاءوا مع بهزاد، وهم من وجهاء القوم وأصحاب الثروة والنفوذ، وفي نفوسهم أشياء على الخلفاء كقتل أبي مسلم وجعفر البرمكي وغيرهما. وكانوا يتحدثون بذلك سرًّا وينتظرون تبدُّل الأحوال وآمالهم عالقة بالمأمون إذا تولى الخلافة، ولم يكونوا يعلمون أن الأمين قد خلعه؛ فلما أنبأهم بهزاد بذلك ثارت الغيرة في نفوسهم وتحمَّسوا ونهض أحدهم وقال: «إننا على ما أقسمنا عليه، لا ندَّخر مالًا ولا رجالًا، ولكن لا بد لنا من التؤدة.» فقال: «ذلك ما عزمنا عليه، فأقيموا أنتم على أعمالكم حتى تأتي الساعة، وأنا أعرف أماكنكم فكونوا على استعداد، وقد آن لنا أن ننصرف، وهذا آخر اجتماع لنا على هذه الصورة. وسنجتمع في غير كلفةٍ أو حذرٍ قريبًا إن شاء الله!» فنهض رفاقه وأخذوا يتأهَّبون للخروج، فالتفُّوا بعباءاتهم وهمُّوا بالانصراف، وتناول بهزاد عباءته فالتفَّ بها وانطفأ السراج وتركه في مكانه وخرج. فلما أظلم الطاق لم تعد ميمونة تستطيع ضبط نفسها والصبر على التستُّر فهمَّت بأن تُناديَ بهزاد، فأمسكت جدتها بيدها وطلبت إليها أن تصمت ريثما يتفرق القوم، ونهضت وأشارت إليها أن تتبعها بخفةٍ وهدوء، فأطاعتها ومشت وركبتاها تتلاطمان ولا تكادان تحملانها، وكذلك اصطكَّت أسنانها كأنها أُصيبت بتشنُّج. ولم تتوسطا الطاق حتى رأتا القوم قد امتطَوْا خيولهم بعد أن صافحوا بهزاد وودَّعوه وانصرفوا، وبقي هو وحده فاتجه إلى مربط جواده ليركبه، ولكنه سمع وقْع خطواتٍ تتبعه، فالتفت فرأى شبحين بلباس النساء، فاتجه إليهما بهدوءٍ ورباطة جأش وقال: «من أرى؟» فركضت ميمونة نحوه وأمسكت بذراعه وصاحت: «أنا ميمونة، وهذه جدتي عبادة.» فشعر بهزاد برعدتها فتجلد وقال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان؟» فقالت عبادة: «جئنا للبحث عنك؛ فقد بلبلت خاطرنا بغيابك، وقد أصيبت مولاتنا بنت المأمون بحُمَّى ولا تقبل آسيًا غيرك، فلما أبطأتَ لم نرَ أحدًا أولى منا بالبحث عنك؛ لأننا نعرف منزلك وطرقك.» فأطرق وهو ممسك لجام الفرس بيده والصندوق باليد الأخرى ثم قال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان بالذات؟ وكيف عرفتما أني أجيء إليه؟» فقالت ميمونة: «قد ساقتنا إليه العناية، والحديث في ذلك يطول، وأنت الآن في حاجةٍ إلى الراحة ونحن كذلك.» فقال: «هلم إلى المنزل.» ثم التفت إلى عبادة وقال: «أظنك أكثرنا تعبًا فاركبي الفرس ونحن نمشي بجانبه.» فقالت: «لا يركب فرسك سواك، لكن إلى أين نذهب؟» قال: «إلى المنزل.» فقالت: «إلى المنزل في المدائن؟» قال: «نعم.» فأمسكت يده بكلتا يديها وقالت: «لا بالله، لا تذهب إلى هناك.» قال: «ولماذا؟» قالت: «لأن في الذهاب خطرًا عليك.» فأجابها وهو لا يزال ماشيًا: «وأي خطر؟» قالت: «رأينا الجند والعيارين قادمين للبحث عنك في منزلك.» وقصت عليه ما شهدتاه إلى أن قالت: «فأخاف أن يصيبك سوء.» فقال: «أنتِ تخافين، وأما أنا فلا أخاف!» فقالت: «بالله أطعنا، وتعال نذهب معًا نحو الشاطئ فإن الحراقة في انتظارنا هناك.» فقال: «لا بد لي من الذهاب إلى منزلي يا خالة.» وهمَّت ميمونة بأن تتوسَّل إليه أيضًا ليرجع عن عزمه، فإذا بهم يسمعون وقْع أقدام مسرعة، فالتفتوا جميعًا فرأَوا شبحًا قادمًا نحوهم من جهة المدائن، فأجفلت ميمونة وصاحت: «ويلاه، أظنه واحدًا من العيارين.» فسمعت الرجل يقول: «كلا، لست منهم.» فعرفوا صوت سلمان فدُهشوا، وصاح بهزاد: «سلمان؟» قال: «نعم يا مولاي.» وكان قد وصل إليهم وهو يلهث من سرعة الركض فابتدره بهزاد قائلًا: «ما وراءك؟» فقال بصوتٍ متقطع: «إن المنزل يا مولاي محاط بالجند والعيارين وهم جماعة كبيرة أرسلهم الأمين ليأخذوك.» قال: «وكيف أتيت المدائن ورأيت ذلك، وعهدي بك في بغداد.» قال: «علمت بهذا العزم من مصدره، فاحتلت في الخروج بأسرع ما يستطيع الناس حتى أدركت المنزل وقد سبقوني إليه، ورأيتهم محيطين به يتشاورون في فتحه، فعلمت أنك لست في داخله، وتذكرت أنك تأتي الإيوان في بعض الأحيان فأتيت لَعلِّي أراك وأنذرك بالخطر.» قال: «وهل أفر؟» قال: «وهل تُلقي بنفسك إلى التهلكة؟» قال: «هذا لا يكون، فاذهب أنت بهذه الخالة وميمونة إلى الحراقة. أما أنا فلا بد من ذهابي إلى المنزل لأمرٍ مهم، فإذا لقيتُ فيه جندًا فالله يحكم بيني وبينهم.» فلم تَعُد ميمونة تقوى على السكوت وكتمان ما في خاطرها فقالت: «وهل نحن خائفون على حياتنا؟ وحياتك هي العزيزة. إن حياتك عزيزة يا سيدي … أتظننا لم نسمع حديثك؟ لقد عرفنا مهمتك وفي نفسي من هذا الصندوق شيء أحب الاطلاع عليه.» فقال: «ربما أطلعتك فيما بعد، وأما الآن فلا بد من الذهاب إلى البيت، إني لم أتعوَّد الفرار.» فازدادت ميمونة إعجابًا به، ولم يرَوْا بُدًّا من إطاعته فقالوا: «نسير جميعًا حيثما تشاء ويصيبنا ما يصيبك.» فمشى وسلم زمام الفرس إلى سلمان، وأراد هذا أن يحمل الصندوق عنه فأبى، ومشت عبادة تتثاقل في خطاها وتبالغ في إظهار عجزها وكذلك سلمان وميمونة، كأنهم مساقون إلى القتل مكرهين، وبهزاد يجاريهم ويتأنى في خطاه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/12/
بين ميمونة وبهزاد
مشت ميمونة مع جدتها وبهزاد وسلمان، وهي سابحة في بحار من الهواجس تُراجع ما سمعته ورأته في الطاق، وكلما تصوَّرت مساعيَ حبيبها في نُصرة الفرس اختلج قلبها فرحًا، ثم يعترض فرحها ما تخلل أقواله من تلميحه بالذهاب إلى خراسان فتنقبض نفسها، وهي مع ذلك لا تعلم محلها من قلبه. وقطعوا مسافة الطريق والظلام شامل وهم سكوت يمشون الهُوينَى، وكلٌّ منهم يفكر في أمره ويتشاغل بتحسُّس الطريق؛ لأن أكثرها وعر. وكلما اقتربوا من البلدة تطلعوا إلى ما عساه أن يكون من أمر أولئك الجند. فلما دخلوا الأسواق استأذن سلمان في المسير أمامهم ليستطلع حال المنزل، فمضى ثم عاد وقال: «لقد جلا الجند عن البيت بعد أن كسروا أبوابه ونهبوا ما فيه.» فقال بهزاد: «لا يهمني مما في البيت إلا شيء واحد أرجو أن يكونوا قد أبقَوْه.» فظنه سلمان يعني كتبه وأوراقه فقال: «إنهم أخذوا الكتب ومزقوا الأوراق.» فقال: «وهذا لا يهمني.» وظل ماشيًا وهم يتبعونه حتى وصلوا إلى المنزل، فرأَوا الباب مكسورًا فدخلوا منه، وسبقهم سلمان إلى غرفةٍ يَعهد فيها مسرجة، فأضاء السراج وعاد ليضيء طريقهم، فرأَوا آثار النهب، وظل بهزاد يسير والصندوق بيده وهو يتفرَّس في الأرض، فمروا في باحةٍ كبيرة فيها كثير من الآثار الدالة على أن البيت بُني على أنقاض إيوان سابور، حيث كان المنصور يقيم قبل بناء بغداد، ثم استطرقوا من الباحة إلى باب البيت الداخلي فرأَوه مفتوحًا فدخلوا وبهزاد يُمعِن في إظهار عدم اكتراثه بما أصاب بيته من النهب. وبينما هم يسيرون في الدهليز رأَوا بهزاد تحوَّل عنهم إلى كوَّة في جداره الأيمن فتناول منها معولًا كان هناك فدفعه إلى سلمان وقال: «احتفظ بهذا.» وبدا البشر في مُحيَّاه ومشى لا يلتفت إلى شيء حتى دخل غرفة كبيرة في وسط المنزل، في أرضها بساط عليه تراب من أثر المشي وأوراق مبعثرة من أثر النهب، وعلى جوانبها وسائد، فأشار إلى عبادة وميمونة بالجلوس، وأمر سلمان أن يتبعه ودخلا من بابٍ في صدر الغرفة إلى حجرةٍ وأغلقا الباب وتركا السراج في الغرفة. فلما خلت ميمونة إلى جدتها نظرت إليها فرأتها تلهث من التعب، والعرق قد بلل خمارها، وهي في حاجةٍ إلى الاستراحة؛ فتمنت أن تنام فتغتنم الفرصة لمحادثة بهزاد. فتشاغلت عنها ولم تخاطبها في شيء فرأتها تكبو وتتثاءب من النعاس فقالت لها: «توسَّدي يا سيدتي واستريحي.» ونهضت فأتتها بوسادتين فاستلقت عليهما وقالت: «إذا خرج بهزاد فأيقظيني.» فوعدتها بذلك. ••• ولم تمضِ دقائق قليلة حتى نامت عبادة، وظلت ميمونة وحدها وكأنها في بحرٍ تتقاذفها أمواجه لاستغراقها في البحث عن سبب تنتحله لمخاطبة بهزاد. وفيما هي في ذلك فُتح باب الغرفة فأجفلت والتفتت فرأت بهزاد خارجًا وقد بدَّل ثيابه فالتفَّ برداءٍ خفيف واعتمَّ بعمامةٍ صغيرة، وخرج سلمان في أثره والمعول بيده فأشار إليه بالخروج بمعوله فخرج، وظل بهزاد واقفًا، فوقفت ميمونة احترامًا له وهي مطرقة حياءً وهيامًا، فألقى يده على كتفها وقال: «اجلسي يا ميمونة يا بقية البرامكة.» فلما سمعتْه يذكرها بأهلها ويُظهر لأول مرةٍ أنه يعرف نسبها، خجلت وجلست وقد أُرتِجَ عليها؛ فبادر إلى وسادةٍ ثناها وأشار إليها أن تجلس عليها وقال: «اقعدي على هذه الوسادة يا ابنة جعفر.» فازدادت ميمونة استغرابًا من هذا التصريح، وتجلدت حتى لا تضيع هذه الفرصة منها وقالت وهي مطرقة وقد تورَّدت وجنتاها: «أراك تخاطبني بكُنيةٍ جديدة؟» فقال وهو يتناول وسادةً أخرى ليقعد عليها: «إني أخاطبكِ باسمكِ الحقيقي وإن كنتِ تحسبينني أجهله، رحم الله جعفرًا وأحياه.» فرفعت بصرها إليه وقد أبرقت عيناها بما غشيهما من ماء الحب وقالت وصوتها يتقطع من شدة تأثُّرها وهي تحاول إخفاء ذلك بالابتسام: «هل ترجو قيامة الأموات في هذه الدنيا؟» قال: «إن لم يَحيَ جسده فسيحيا بذكره. إن جعفرًا لم يمت يا ميمونة؛ لأن الرشيد قتل جسده ولا سلطان له على ما خلفه من الذِّكر الحميد!» فقالت وقد انقبضت نفسها عند ذكر مقتل أبيها: «إني أشكر إحسانك ومجاملتك يا سيدي؛ فإنك طالما أحسنت إلينا وسترت فقرنا.» قالت ذلك وشرقت بدموعها. فلما رآها تبكي تفطَّر قلبه وكاد يبوح بما في نفسه، ولكنه لم يكن يرى التصريح بحبه في ذلك الحين فغالطها وقال: «إن فضل جعفر وإحسانه شمل الملأ كافة، وما من مسلم أو غير مسلم إلا هو مدين له، فإذا وفَّينا بعض الدين فلا فضل لنا في ذلك.» فلم يعجبها هذا الجواب؛ لأنها كانت تتوقع أن يقول كلمة غير هذه؛ كانت ترجو أن تسمع منه كلمة الحب، فخافت أن يكون ضميرها خانها فتنهَّدت وسكتت وأرسلت يدها إلى وجهها وأخذت تمسح عينيها بأناملها؛ فأمسك معصمها ورفع يدها عن وجهها وقال وصوته يكاد يختنق: «ما بالكِ تبكين؟» فقالت وهي لا تزال مُطرقة وقد أحسَّت بمجرًى كهربائيٍّ يجري من يده إلى كل عروقها: «إني حزينة يا سيدي، دعني أُفرِّج كربتي!» فقال: «وما سبب حزنك؟» قالت: «أتسألني عن حزني وأنت تعلم سببه؟ وهل هناك أتعس من فتاةٍ يتيمة الأبوين، تخاف أن يعرفها الناس؟ إن انتسابي إلى جعفر بن يحيى وبقائي حيةً بين هؤلاء الأقوام من أكبر أسباب شقائي.» قالت ذلك وجذبت يدها من يده وغصَّت بِريقها. فأخذ يدها بين يديه وهو يغالب حبه وقال: «معاذ الله أن تكوني تَعِسة.» فحاولت إخراج يدها من بين يديه وهي تقول: «بل أنا تَعِسة، وكيف لا أكون كذلك وقد عرَفت الليلة أن …» وأمسكت عن الكلام ونظرت إليه فإذا هو يتفرَّس في عينيها ويتجاهل غرضها والهوى يكاد يشفُّ عن سريرته، ومخاطبة العيون أفصح من مخاطبة الألسن. فأدركت ميمونة من تلك النظرة أن بهزاد يحبها، ولكنها أحبَّت أن تسمع ذلك من فيه فحوَّلت نظرها عنه إلى جدتها، وكانت قد استغرقت في النوم وقد علا صوت غطيطها، ثم أطرقت وسكتت، فابتدرها قائلًا: «أكملي حديثك، قولي ما هو الذي عرفتِه الليلة يا ميمونة؟» قالت: «إن ذكره يؤلمني، دعني وشأني، لا أحب أن تهتم بي؛ فإنك في شغل شاغل عن مثلي بما أنت فيه من المطالب الخطيرة؛ فلا أريد أن أشغلك بما تُحدِّثني به نفسي من أحلام الصبا.» فقال: «لَعلِّي مشتغل بمثل هذه الأحلام!» فرفعت بصرها ونظرت إليه نظرة عتابٍ وهيام وابتسمت والدمع يترقرق في عينيها وقالت: «اعذرني يا سيدي على تطفُّلي وصغر نفسي. إني على يقينٍ من خيبة أملي، وحاشا لبهزاد القائد العظيم أن يقع فيما وقعتُ فيه، فإن اشتغاله بجمع الأحزاب لقلب الدول واستنهاض الأمم يُنزِّهه عن الالتفات لفتاةٍ مثلي. قد تقتضي مساعيه أن يدوس الجماجم ويقتل المئات، فهل يبالي قلب فتاةٍ يتيمةٍ مسكينةٍ مثلي؟» وكانت يدها لا تزال بين يديه فاجتذبتها وغطَّت بها وجهها وأخذت في البكاء. فلما سمع قولها ورأى بكاءها غلب عليه الهيام ولكنه تجلد وقال: «وهل تريدين أن أُمسك عن السفر؟» فتنهدت وقالت: «آه! حبذا ذلك، ولكن ما الفائدة لي من بقائك؟ سأكون سعيدة بإرجائك السفر ولكن …» وسكتت. فقال لها: «ولكن ماذا؟» فعظم عليها صغر نفسها والْتجاؤها إلى الحيلة في استطلاع حبه، فغلبت عليها الأَنَفة ونقمت على نفسها، فاسترجعت رشدها وحدَّثتْها نفسها بأن تُجافيَه، فنهضت وهمت بالخروج فأمسكها بطرف ثوبها وقد استغرب نفورها فجأةً وجذبها نحوه وهو يقول معاتبًا: «إلى أين يا ميمونة؟» فقالت وهي لا تلتفت إليه: «دعني يا بهزاد.» قالت ذلك وهي تحاول التملُّص منه. فقال: «اقعدي يا ميمونة، لا سبيل إلى الذهاب الآن؛ فإنك غريبة هنا ولا منزل لك تلجئين إليه.» فأثَّر قوله في نفسها وتذكرت مصائبها فوقفت وغطَّت عينيها بكفَّيها وأطلقت لنفسها عنان البكاء. فرق لها قلبه وسكت وقد كاد يختنق، ووقع في حيرةٍ وهو يتجلد في كتمان إحساسه وقال: «كنتٍ تريدين أن تقولي شيئًا؛ فما هو؟» فظلت واقفةً وهي تغالب عواطفها وتحاول كتمان هيامها ولا تجد إلى ذلك سبيلًا، وشعرت بأنها مغلوبة على أمرها فاصطكَّت ركبتاها ولم تَعُد تستطيع الوقوف، فقعدت وهي تتشاغل بمسح عينيها بطرف كُمِّها، ثم نظرت إلى عينيه فرأت فيهما شيئًا يكاد ينطق بمكنونات قلبه، فهمَّت بأن تُصرِّح بما ترجوه منه فغلب عليها الحياء، فإذا هو يبتسم لها وعيناه تبرقان وجدًا وهيامًا فبقيت ساكتة. أما هو فاستأنف الكلام قائلًا: «قولي يا ميمونة … قولي.» واختنق صوته، فنظرت إليه وقد احمرَّت عيناها وذبلت أجفانها فازدادتا سِحرًا وفتنةً وقالت: «أراك تبالغ في المجاملة، كفى يا سيدي، كفى استخفافًا بي. قل إنك لا يهمك أمري وهذا يكفيك مئونة الاهتمام بي!» فقال: «بل أمرك يهمني كثيرًا؛ ألا يشعر قلبكِ بذلك؟ أراكِ تتجاهلين أكثر من تجاهلي أم أنتِ لا قلب لك؟» واخشوشن صوته. فأبرقت أسرتها وحدَّقت في عينيه كأنها تستطلع حقيقة ما يعنيه، ثم ابتسمت والدمع يجول في عينيها، وتجلدت والحياء يغالبها وقالت: «أيهمك أمري كثيرًا؟ إذن قل إنك …» وسكتت ففهم مرادها وتظاهر بأنه لم يفهم فقال: «ماذا أقول يا ميمونة؟ قولي أنتِ أولًا!» فقالت: «وهل تحتاج حالي إلى قول وهذه دموعي تقول عني، فقل أنت، قل بالله إنك تحبني، أو دعني وشأني!» قالت ذلك وحوَّلت وجهها عنه وهي تكاد تختنق من تضارب الحب والخجل وخوف الفشل. فلم يعد بهزاد يستطيع إمساك هواه ولكنه فكَّر فيما هو فيه من مهام الأمور، فخاف أن يَحول التصريح دون مشروعه فقال: «إن ذلك لا يحتاج إلى تصريح؛ نعم إني أحبك!» فلما سمعت تصريحه غلب عليها السرور حتى كادت تضحك فغصَّت بالضحك كما كانت تغصُّ بالبكاء، وتساقطت دموعها ولم تتمالك أن صاحت: «أنت تحبني يا بهزاد؟ تحبني؟ أحقيقة ما أسمعه أم وهْم؟ وهل أنا في يقظةٍ أم في منام؟ حبيبي بهزاد أنت تحبني؟» فلما رأى لهفتها تذكر مَهامَّه، فبدا الاهتمام في وجهه وقال: «نعم إني …» وبلع ريقه وحك ذقنه وسكت. فخافت أن يكون قد ندم على ما قاله، فنظرت إليه وقد امتزجت في عينيها ملامح الخوف والرجاء وقالت: «ما لك؟ أراك تتردد. ماذا جرى؟ ألا تحبني؟» قال: «بل أحبك، ولكن …» قالت: «ولكن ماذا؟» قال: «ولكن اسمحي لي أن أقول شيئًا آخر.» قالت وقد بان الوجل في مُحيَّاها: «أما وقد قلتَ إنك تحبني فقل بعد ذلك ما شئت، ولكن لا، تمهَّل، لا تقل، أخاف أن تُهددني بالفراق!» قال: «لا أهددك به، ولكنه شرط من شروط حبك.» فنظرت إليه شزرًا وقلبها يختلج وفي عينيها أمارات العتاب وقالت بصوتٍ خافت: «أراك تشترط في الحب، وأنا أحبك بلا شرط.» فأطرق خجلًا من توبيخها اللطيف ثم رفع بصره إليها وقال: «صدقتِ، لا خير في الحب إذا تقيَّد بشرط، ولكني أشترط أمرًا فيه نفع لك، فَأْذَني لي في ذكره وأطيعيني فيه.» قالت: «إني أحببتك بلا شرط، ومن مقتضيات هذا الحب المطلق ألا أضع عائقًا في طريق حبك، فاشترط ما شئت.» فقال: «لقد علمتِ الآن أني مسافر، فإذا سافرتُ فإنما أسافر في خدمتك. وقد تحسبين أنك عرفت أمري وسهُل عليك الحكم على مستقبلي؛ سمعتِ أني رسول من جماعة الخرمية، إني لم أكذب ولكنني أكثر من ذلك. وأقول والأسف ملء فؤادي لا أستطيع التمتع بهذا الحب إلا بعد الانتقام، فإذا بقيت حيًّا وعُدت ظافرًا فتلك هي السعادة؛ إذ أكون انتقمت لأبيك وللقتيل قبله، وإلا فلا حيلة لي في دفع الأقدار. ولا أجهل أن الشرط صعب عليكِ، بل هو ظُلمٌ مني، ولكن لا خيرة في الواقع.» قال ذلك ونهض وهو يقول: «انهضي الآن إلى فراشك.» فنهضت وقلبها يرقص طربًا، وإن كان قد ساءها خبر فراقه، ولكنها سُرَّت لسعيه في الانتقام لأبيها، وشُغل ذهنها بما قاله عن نفسه من أنه أكثر مما عرفت عنه، فقالت في نفسها: «من عساه أن يكون؟» ولكنها لم تجسر على سؤاله، فأطاعته وهمت بالذهاب إلى الفراش. فأشار بهزاد إلى حجرة وحمل المصباح بيده ومشى بين يديها وهي تتبعه وأفكارها تائهة، فدخلت الحجرة وفيها سرير عليه فراش من جلد فوقه وسادة وغطاء فقال: «هذا هو فراشك الليلة.» ورجع والمصباح في يده ولم تمضِ هنيهة حتى توارت أشعة ذلك المصباح عنها فنزعت الخمار ونامت. ••• توسدت ميمونة الفراش واستولى السكوت على البيت وخيَّم الظلام، فلما خلت إلى نفسها تذكرت ما مرَّ بها منذ أن اختبأت في الإيوان إلى أن اطمأن قلبها ووثقت من محبة بهزاد، ثم تنبهت للصندوق الذي رأته بيد بهزاد فازدادت رغبتها في معرفة ما فيه. فقضت ساعة أو ساعتين وهي تتقلب على الفراش وأجفانها لا تُغمض، وطال أرقها حتى ملت الوساد وحدَّثتْها نفسها أن تنهض فأقعدتها الظلمة. وفيما هي على هذه الحال من الأرق والقلق وقد زادها السكوت وحشة، سمعت حركة وراء الحائط فأصغت فسمعت ضرب معول في الأرض فخفق قلبها وظنت أنها واهمة، ثم سمعت همسًا فنهضت مذعورة والتفتت إلى جدران الحجرة فرأت فوق سريرها نافذة صغيرة يبدو منها بصيص نورٍ ضعيف؛ فأخرجت رأسها من النافذة فرأت خلاءً بين البيت والسور على أرضه مصباح عرفت أنه مصباح بهزاد، ورأت رجلًا طويلًا قد حسر عن ساعديه وشمر عن ساقيه وكشف رأسه وبيده معول وأمامه حفرة وقد أخذ ينبش بمعوله، وأمامه رجل آخر عرفتْ أنه بهزاد، وتفرستْ في صاحب المعول فإذا هو سلمان؛ فازدادت دقات قلبها وارتعدت حتى كادت تسقط، فتجلدت وأسندت نفسها إلى النافذة وهي تحاول أن تختبئ لئلا يراها بهزاد. وتربصت فسمعت بهزاد يقول: «لا بد أن يكون هنا، احفر أيضًا.» فقال سلمان: «أخاف أن تكون مخطئًا يا سيدي؛ فقد أخرجنا ترابًا كثيرًا ولم أجد أثرًا للجثة.» فقال: «لا، لست مخطئًا؛ ألم يكن هنا إيوان سابور؟» قال: «بلى.» قال: «قد أكد لي ذلك الشيخ الهرم أن المنصور كان يجلس في قاعة الإيوان حيث هذا البيت الآن، وأنهم دفنوا الجثة في بستان الإيوان، ولا يمكن أن يكون البستان في غير هذا الخلاء، وقد نبشنا كل بقعة منه ولم يبقَ غير هذه؛ فاحفر.» قال: «ليت الشيخ كان معنا الليلة فيَهدينا إلى مكان الجثة.» قال: «ألم أقل لك إنه مات؟ ولكنه والحمد لله بقي حيًّا حتى دلنا على المكان، وهو على ثقة من قوله لأنه عاش في عهد المنصور شابًّا وأصابه مما رأى جزع بقي أثره في ذهنه لم يَنسَه طول عمره. احفر، إننا على هدًى.» فعاد سلمان إلى الضرب بمعوله وجرف التراب إلى الخارج وهو يقول: «إني لا أرى أثرًا للجثة يا مولاي.» وكان بهزاد في أثناء ذلك يُحدق فيما يخرج من التراب، ثم انحنى وقبض على قطعةٍ من نسيجٍ نفض التراب عنها وقال: «أليست هذه قطعةً من ذلك البساط؟» فأمسك سلمان عن الحفر وتناول النسيج وقد تهرَّأ وتقطَّع وقال: «بلى، بلى، إنها جزء منه.» وعاد إلى الحفر بِهمَّةٍ ونشاط وميمونة تنظر إليه وتستغرب حركاته. وبعد أن حفر برهة تعب وتصبَّب العرق عن ساعديه ووجهه، فوقف وأسند يده على المعول وتنهَّد تنهُّدًا شديدًا، فابتدره بهزاد قائلًا: «لقد تعبتَ، ولكن لا بد لنا من إتمام عملنا في هذه الليلة، هات المعول.» ومد يده فتناول المعول وأخذ يحفر بسرعة ونشاط، ثم سمعت ميمونة صوت ارتطام المعول بجسمٍ صُلْب كأنه أصاب حجرًا، ورأت بهزاد توقَّف عن الحفر ومد يده فأخرج قطعة عظم مستطيلة وصاح: «هذه ساقه أو فخذه، أبشر يا سلمان.» فتقدم سلمان ونزل إلى الحفرة بنفسه وجعل يجرف التراب ويبحث فيه حتى عثر على شيءٍ تناوله بين السبابة والإبهام ودفعه إلى بهزاد وقال: «هذا خاتم.» فأخذ بهزاد الخاتم وتقدم إلى المصباح وتفرَّس فيه وقال: «إنه خاتمه بعينه.» قال: «وكيف عرفت ذلك يا سيدي؟» قال: «ألا تذكر أنه لما استقدمه المنصور من خراسان أوصى كاتبه بأنه إذا جاءه كتابه وعليه خاتمه كاملًا لا يعمل به، وإنما يعمل بالكتاب إذا كان عليه نصف الخاتم فقط؟» قال: «بلى.» قال: «انظر، إن اسمه على الخاتم ممحوٌّ من أحد جانبيه؛ فهو خاتمه وهذه هي ساقه، فابحث عن الجمجمة.» فأخذ سلمان يحفر بيده ويُخرج قطعًا من أقمشةٍ مُتهرِّئة أو من عظامٍ نخرة، وأخيرًا أخرج الجمجمة وناولها إلى بهزاد، فنفض التراب عنها وقد بدا البشر في وجهه يتخلله انقباض، ثم امتُقع لونه وقال: «هذا هو رأسه. هذا هو رأس المقتول ظلمًا! إن عثورنا عليه يساوي نصف الخلافة، وإذا انتقمنا له فقد نلنا الخلافة كلها.» وما تمالك أن قبَّله وأكبَّ سلمان عليه فقبَّله وأخذ يمسح التراب عنه بطرف ثوبه بلُطفٍ واحترام، وبهزاد واقف ينظر إلى الرأس وقد تغيرت سحنته وتجلى الغضب في عينيه، فابتدره سلمان وقال: «أهنئك يا سيدي بما توفقت إليه؛ فقد وقعت على ضالَّتك وكفى الآن. فإذا شئت رجعنا إلى المنزل، فقد كان هذا الليل شاقًّا عليك.» قال ذلك وتحوَّل إلى المصباح فحمله بإحدى يديه والجمجمة باليد الأخرى، ومشى بهزاد في أثره وقد تولاه السكوت والغضب كأنه أُصيب بجمود. أما ميمونة فلما رأتهما يتحوَّلان إلى المنزل قعدت على فراشها وقد أنهكها التعب وازدادت هواجسها وتهيَّبت من الخروج إلى بهزاد في تلك الساعة للاستفهام عن سر ما شاهدتْه وصبرت نفسها إلى الصباح. وقضت بقية ذلك الليل كأنها في بحرٍ هائج، ولم تُغمض عينها إلا قُبيل الفجر فغرقت في النوم ولم تستيقظ حتى أيقظتها جدتها، ففتحت عينيها فرأتها واقفةً عند رأسها تقول لها: «قومي يا ميمونة، إننا على أهبة المسير.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/13/
العودة إلى زينب
نهضت ميمونة مذعورةً تلوم نفسها على التأخُّر، وتلثَّمت بخمارها واحتذت نِعالها ومشت في أثر جدتها حتى خرجتا من الدهليز، فسمعت صهيلًا فالتفتت فرأت بهزاد على جواده وقد تزمَّل بعباءته وجعل الصندوق بين يديه على القربوس، والتفَتَ إلى ميمونة وعبادة وأشار إليهما إشارة الوداع وأومأ إلى سلمان قائلًا: «اذهبا مع سلمان.» وهمز جواده. فأحست ميمونة كأن قلبها قد نُزع من مكانه، وهمَّت بأن تستوقف بهزاد فإذا به قد ساق جواده مسرعًا، فبُهتت وكاد الدم يجمد في عروقها، ونسيت موقفها وبكت، فأمسكت جدتها بيدها وقالت: «هلم بنا فالقارب في انتظارنا على الشاطئ. وأما الطبيب فإنه سيوافينا إلى قصر المأمون.» فمشت وقد تولتها الدهشة وعيناها شائعتان نحو بهزاد حتى توارى، وجدتها لا تعلم ما يُكِنُّه قلبها، أو لعلها علمت بعضه وتجاهلت رفقًا بعواطفها، وترفُّعًا عن الميل إلى الاستطلاع والسؤال كما يفعل العجائز اللاتي يجدن في الحديث عن الآخرين لذة. أما عبادة فقد رُبيت في بيت رجل كبير وتعوَّدت معاناة العظائم ومشاهدة الغرائب، وانقطعت لتربية ميمونة وتولت كفالتها ولازمتها ملازمة الظل فلا تخاف عليها أن تأتيَ أمرًا لا ترضاه لها، ناهيك بإعجابها ببهزاد وإيثاره على الجميع. فسارتا الهُوينَى إلى الشاطئ وسلمان بلباسه الأصلي وقد التفَّ بعباءته، حتى أقبلوا على دجلة فرأَوا الحراقة في انتظارهم فركبوها وأمروا الرُّبَّان فأدار الدفة نحو بغداد وأرخى الشراع. وجلست عبادة بجانب حفيدتها على مقعدٍ في صدر الحراقة وكلٌّ منهما في هاجس، وجلس سلمان بالقرب من الرُّبَّان يتلفَّت نحو الشاطئ على الجانبين كأنه يراقب أمرًا يتوقَّع حدوثه. وما جرت السفينة ساعةً حتى ظهرت حراقة قادمة من بغداد تشقُّ عباب الماء وعليها عَلَم عرفه سلمان أنه علم الفضل بن الربيع، وأن السفينة من سفنه، فأوجس في نفسه خيفةً وأسرع إلى ميمونة وعبادة، وأشار إليهما أن تنزلا عن المقعد وتستترا. فلما رأت ميمونة إشارته ولهفته خافت ونزلت وجدتها وعيناهما تراعيان الحراقة الأخرى، وكانت قد فُرشت بالسجاد والوسائد. ووقف فيها جماعة من الخدم، بينما تصدر المجلس شاب جميل الخلقة عرفت عبادة أنه ابن الفضل، والتفتت إلى ميمونة فرأتها تنظر إليه فلما تحقَّقتْه انقبضت نفسها وضاقت وامتُقع لونها وأغضت بصرها. أما عبادة فنظرت إلى سلمان كأنها تستوضحه، فابتسم تشجيعًا لها وقال بصوت منخفض: «لا تخافي يا مولاتي إن هذا الغلام لا يجرؤ على أمرٍ ونحن في حراقة مولاي المأمون.» فقالت: «وماذا يفعل لو كنا في سواها؟» قال: «ربما أوقفها واستفهم عمَّن فيها؛ لأنه ذاهب إلى المدائن للبحث عن …» وأومأ بعينيه إلى ميمونة. فقالت: «قبَّحه الله! ألا يزال على عزمه؟» فقال: «وقد استشار المنجمين واستكتبهم الأرصاد التماسًا لمحبتها، فقالوا له إنها خرجت من المدائن، فكأنه لم يُصدِّق قولهم فذهب ليتحقق ذلك بنفسه.» وسمعت ميمونة سلمان وتجاهلت حياءً وأَنَفة، ولكنها عجبت لاطِّلاع سلمان على خبرها مع ابن الفضل وتركت الكلام لجدتها فقالت هذه: «خسئ النذل، إنه لا ينال قلامةً من ظفرها ما دمتُ على قيد الحياة.» وكانت حراقة ابن الفضل قد حاذت حراقتهم ووقف بعض الخدم على حافتها يتفرَّسون في ركابها، فلم يقع نظرهم على غير سلمان، وميمونة ترتعد خوفًا وكرهًا، فلما تجاوزتهم أراد سلمان أن يعبث بالفتاة ليخفف عنها فقال: «أرى مولاتي تنفر من ابن الوزير وهو يكاد يموت شغفًا بها!» فرفعت نظرها إليه لترى ما يرمي إليه، فرأته يبتسم فقالت جدتها: «إننا لا نريد النظر إلى هذا الشاب.» فقطع كلامها وقال: «ولا إلى أبيه.» وكانت عبادة تظن سلمان يجهل حقيقة حالهما، فلما سمعت ما قاله استغربته ورنت إليه كأنها تُنكر عليه قوله، فابتدرها قائلًا: «يحقُّ لكِ يا مولاتي أن تكرهيه وتكرهي أباه، ولا تعجبي لاطِّلاعي على سبب هذا الكره؛ فإني خليفة مولاي الطبيب في نُصرتكما؛ فَارْكَنا إليَّ وثقا بي فإني خادم لكما!» فلما سمعت عبادة قوله توسَّمت الصدق في لهجته فاطمأن بالها. وأما ميمونة فلما سمعت ذِكر حبيبها، سألته وهي تُظهر السذاجة: «لعل الطبيب مسافر؟» قال: «نعم إنه مسافر للبحث عن بعض العقاقير الطبية.» وضحك. فأدركت ميمونة أنه يمازحها، وأنه لا شك عارف بأسرار مولاه، فابتسمت وقد استأنست به وارتاحت إلى خفة روحه وقالت: «هل تظنه يعود قريبًا؟» فأجابها وهو يضحك: «إنك تسألين هذا السؤال قلقًا على مولاتنا بنت المأمون لأنها لا ترضى علاجًا إلا من يده. بارك الله فيكِ! أظنه سيسافر عما قريب، ولا أجزم لأن الطبيب يعمل ولا يُطلِع أحدًا على ما اعتزم.» فقالت عبادة: «يلوح لي أنك تتجاهل يا سلمان، فإن الطبيب لا يُخفي عليك شيئًا، وأنت تقول إنك لا تعلم موعد سفره.» فلما رآها تَجِدُّ في قولها أراد أن يغالطها لئلا تعتمد على قوله فيكون قد باح بما يعلمه وإن كان لا يخاف عاقبة اطلاعهما عليه فقال: «إن مولاي الطبيب حريص على مقاصده ضنين بما يُكِنُّه ضميره، وإذا كان ينوي سفرًا فإنه لا يكاشفني به، فلعله كاشفكِ بذلك يا مولاتي؟» قال ذلك ووجَّه كلامه إلى ميمونة. أما هذه فاحترست كما احترس هو، ومنعها الحياء من الخوض في هذا الشأن، فأطرقت وتصاعد الدم إلى وجهها فتورَّدت وجنتاها، فاكتفى سلمان بذلك وأراد تغيير الحديث فتحوَّل إلى الرُّبَّان وقال له: «لعلنا قربنا من بغداد؟» فأجابه وهو يشير بأصبعه إلى الأمام: «أليست هذه قصور كلواذة؟» فالتفت سلمان وتفرَّس في الأفق وقال: «بلى، إني أرى أبنية البلدة عن بُعد، إذن نحن على مقربة من دار السلام.» قال: «نعم، نحن على مقربة منها، ولا نلبث أن نرى مئذنة جامع المنصور ثم نشرف على قصر مولانا.» ولما سمعت ميمونة ذكر القصر تذكرت دنانير وزينب وكيف ذهبت مهمتها في استقدام بهزاد الطبيب عبثًا. وأخذت تفكر فيما تقوله لدنانير؛ هل تخبرها بالأمر أم تكتم ما اطلعت عليه. وفيما هي تفكر في ذلك دنا منها سلمان وقال موجهًا خطابه إلى عبادة: «لا يخفى على مولاتي أن ما شاهدناه الليلة من حال مولانا بهزاد يجب أن يبقى مكتومًا.» فقالت عبادة: «وماذا نقول لدنانير إذا سألتنا عنه؟» قال: «نقول إننا لم نجده في بيته.» فقالت: «حسنًا.» ••• كانت دنانير صباح اليوم السابق بعد ذهاب عبادة وميمونة قلقة على زينب تنتظر رجوعهما بالطبيب، فانقضى النهار وهي في انتظارهما على أحرَّ من الجمر. على أن الفتاة ما لبثت أن تحسَّن حالها وبرحت الفراش كأنها لم تكن تشكو مرضًا، وانتظرتا رجوع عبادة وميمونة في الصباح، فلما مضى نصف اليوم التالي ولم يأتِ أحد قلقت دنانير وحسبت لذلك التأخير غير حساب. وفي الأصيل جاء بعض الخدم ينبئها بقدوم الحراقة، فخرجت لاستقبالها على المسناة، فلم ترَ الطبيب فيها، وبعد أن رحَّبت بعبادة وميمونة ورأت سلمان معهما، سألتهم عن الطبيب، فقال سلمان: «إننا لم نقف له على خبر، ألم يأتِ إليكم؟» قالت: «كلا، إن أمره لعجيب، أين ذهب يا تُرى؟» فقال: «لا أدري، وهذه عادته في غيابه كأنه مشغول بأمورٍ خاصة لا يعرفها أحد، وسأبحث عنه في بغداد.» وكانوا في أثناء الحديث قد دخلوا القصر فأتتهم زينب ووجهها مشرق لا بأس عليها، فقبَّلتْها عبادة وميمونة وشغلاها عن الطبيب والسؤال عنه … وبعد أن استقر بهم المقام، أظهر سلمان أنه ذاهب للبحث عن مولاه في بغداد، وخرج ومكث أهل القصر في انتظاره. وعاد في اليوم التالي وهو يُظهر الاهتمام، وطلب مقابلة دنانير وكانت مع عبادة وميمونة في الحديقة، فجاءها أحد الغلمان يقول: «إن سلمان يرجو مقابلتك الآن إذا شئتِ.» فأسرعتْ وتركتْ رفيقتيها في حيرةٍ من أمر تلك الدعوة، ولا سيما ميمونة؛ فقد اضطرب بالها لما عساه أن يكون المراد من هذه الدعوة. أما دنانير فلما لقيت سلمان تقدَّم إليها سرًّا وقال: «إني وجدت مولاي الطبيب على الجسر وكان عازمًا على المجيء إليك، فلما رآني عهد إليَّ برسالةٍ أبلغكِ إياها.» فقالت: «وما هي؟» قال: «أخبرني أنه جاءه كتاب من مولانا المأمون يستقدمه إليه حالًا …» فقطعت كلامه قائلة: «مِن وليِّ العهد، وهل به بأس؟» قال: «كلا، ولكنه أمره بالحضور إلى مرو بلا سببٍ يعلمه، فأنابني في إبلاغ ذلك إليكم، وأمرني أن أبقى هنا تحت أمركِ.» قالت: «وهل يطول غيابه؟» قال: «لم يُخبرني عن مدة الغياب.» فأطرقتْ حينًا وقد ساءها ذلك السفر السريع؛ لأنها كانت تستأنس ببهزاد وتعتمد عليه، وعلى الخصوص في شأن زينب كما علمت؛ فقالت: «سامحه الله، ولكن لعل له عذرًا، ما الذي حمل مولانا المأمون على استقدامه إليه بهذه العجلة؟» قالت وتحوَّلت تطلب الرجوع إلى الحديقة وهي تقول: «فأنت تقيم عندنا الآن؟» قال: «لا أستطيع الإقامة هنا، ولكنني أتردَّد عليكم وقت الحاجة، كُوني مطمئنة.» وعادت دنانير إلى الحديقة فرأت ميمونة قد تركت جدتها جالسة في مكانها وتقدَّمت لتلقى دنانير، وقد بدت اللهفة على مُحيَّاها، فلما رأتها تذكرت ما لاحظته فيها من الميل إلى بهزاد وعلمت أن خبر سفره يسوءُها … فأرادت التظاهر بعدم الاكتراث وكتمان خبر سفره، فرأتها تنظر إليها والحياء يمنعها من الاستفهام، فأدركت مرادها فابتدرتها قائلة: «ما بالكِ يا بُنية؟ لماذا تركتِ جدتكِ وحدها؟» قالت ذلك وألقت ذراعها على كتفها في رفق، فأحست بارتعاشها فقالت: «كأني أشعر بارتعاشك.» فرفعت ميمونة نظرها إليها كأنها تستعطفها وقالت: «ما الذي أتانا به سلمان؟» قالت: «أتانا برسالةٍ من الطبيب؟» قالت: «وما هي؟ هل سافر؟» فأرادت دنانير أن تداعبها فقالت: «وهل دلَّكِ قلبُكِ على سفره؟ لقد قيل: من القلب إلى القلب دليل!» فخجلت من هذا التلميح واحمرَّ وجهها، ولم تكن تشعر بأن دنانير تعلم شيئًا مما يُكِنُّه قلبها فقالت: «لماذا تقولين هذا يا خالة؟ إنني أسأل اهتمامًا بأمر مولاتنا بنت وليِّ العهد لعلمي بتعلقها به!» فقالت دنانير وهي تبتسم: «بارك الله في مروءتك. وإذا علمتِ أنه سافر فهل يسوءُك سفره إكرامًا لمولاتنا؟» قالت وهي تُظهر السذاجة وقلة الاكتراث: «هل سافر حقيقةً؟» قالت: «نعم سافر.» ثم تفرست في وجهها فرأت البغتة ظاهرة فيه وقد تحوَّل احمرار الخجل إلى صُفرة الوجل؛ فاستدركت بقولها: «ولكنه يعود قريبًا؛ لأن قلبه لا يطاوعه على الفراق.» فخافت ميمونة أن ينفضح أمرها إذا ظلت مع دنانير، فانصرفت تطلب غرفتها لتخلوَ إلى نفسها، فلقيها سلمان في الدهليز، فلما وقع نظرها عليه ابتدرته قائلة: «هل سافر بهزاد حقيقةً؟» قال: «نعم يا مولاتي.» قالت: «إلى أين؟» قال: «إلى مرو في خراسان حيث مولانا المأمون.» فقالت: «كيف سافر وتركنا؟» وغصَّت بِريقها. فقال: «تركنا جميعًا إلا أنتِ، وهذا كتابه إليك.» قال ذلك ودفع إليها منديلًا ملفوفًا فتناولته، وعلمت من ملمسه أن في جوفه كتابًا فأشرق مُحيَّاها وخبَّأت المنديل في جيبها، وذهبت إلى غرفتها فاستوقفها سلمان قائلًا: «هل تحتاجين إلى شيءٍ آخر؟» فأجابته بقولها: «شكرًا يا سلمان، إني لا أنسى جميلك ولا غنى لي عن مروءتك.» فقال: «إني رهين إشارتك.» ومضى. من المُحِب الذي تُسمُّونه بهزاد إلى ميمونة بنت جعفر بن يحيى المقتول ظلمًا … أما بعد، فقد كنت أودُّ أن أكتب إليكِ بلسان أجدادنا العظام لو كنتِ تفهمينه، ولكن قضت صروف الزمان أن نتفاهم بلسان أُمة ظلمتْنا وغلبتْنا على أمرنا فقتلت رؤساءنا، واستخدمت قُوادنا وحُكامنا، واستبدَّت في شئوننا. وسيأتي يوم نقلب لهم فيه ظهر المِجَنِّ ونأخذ بالثأر؛ فيعلم الظالمون أيَّ منقلب ينقلبون. وكنت أُحب أن أراكِ قبل سفري وأودعكِ وجهًا لوجه لولا خوفي أن يغلبني قلبي كما غلبني أثناء ذلك الاجتماع ففضح سرًّا كتمته عدة أعوامٍ وكنتُ عازمًا على كتمانه حتى يأتي وقته فأبوح به في يومٍ آتي به عملًا يؤهلني لحبك. ولكنكِ أَبَيتِ إلا أن أقول لك إني أحبك فقلت، وأقول: إني أحبك، إني أحبك يا ميمونة، أحبك حبًّا مبرحًا … أقول ذلك الآن وأنا لا أحاذر أن يَحُول قولي دون ما عقدت النية عليه منذ عرفتك وقبل أن أعرفك. ولو كنتُ بين يديكِ ما قلت ذلك مخافة أن يغلب عليَّ الغرام فأطيعك، بل أطيع قلبي، فأُضيع سعيًا قضيتُ العمر في إعداده. أما وأنا في مأمنٍ من ذلك فلا أبالي أن أبوح لك بمكنونات قلبي؛ فاعلمي يا مُنْيتي أني أوقفت حياتي عليكِ وعلى الانتقام لأبيك. وما أنا بهزاد ولا أنا طبيب ولا كيميائي ولا أنا رسول من جماعة أو جماعات، وإنما أنا من ستعرفينه وتفتخرين بحبه. ولا أقول مَن أنا حتى تأتيَ الساعة، ودون الوصول إليها قطع الرقاب والاستهداف للحراب. إني ذاهب إلى خراسان لا بدعوة من المأمون ولا بأمر أحدٍ من الناس، وإنما أنا ذاهب لإتمام أمر بدأت به ولا بد من إتمامه، إني ذاهب طوعًا لصراخٍ صاعد من أعماق القبور ينادي أهل النجدة أن ينتقموا للمظلوم من الظالم. وأما الصندوق فقد كنتُ أُحب أن أُريكِ ما يحويه ولكنني أشفقت على قلبك. وسأفتح لكِ الصندوق كما فتحتُ لكِ قلبي ولكل أجل كتاب. أقيمي ببغداد في حراسة الله، وقد أوصيت غلامي سلمان أن يقوم على خدمتك، وهو أمين صادق فاعتمدي عليه وثقي به واحتفظي بما اطَّلعت عليه حتى يأتيكِ النبأ الصحيح من خراسان يوم تنقلب الأحوال وينتصر الحق على الباطل. وإذا لم يُسعدني الزمان بما أرجوه فإني أموت ناعم البال وقد فعلت فعل الرجال. وغاية ما يستطيعه الإنسان أن يجود بنفسه في نُصرة الحق. والله من وراء ذلك وهو على كل شيء قدير. وما أتت على آخر الكتاب حتى امتُقع لونها وتغيَّرت سحنتها وكادت تسمع نبضات قلبها بأذنها وخارت عزيمتها، وظنت نفسها في حلم. ولما تحققت من يقظتها طوت الكتاب وخبَّأته في جيبها، واستلقت على البساط واستغرقت في بحار الهواجس، فراجعت في مخيلتها خلاصة علاقتها ببهزاد منذ عرفته بالمدائن، وما كان من عنايته بها وبجدتها، وكانت تَحسَبه يفعل ذلك رغبةً في الإحسان وأنه لا يعرف حقيقتها، وقد ظهر لها من ذلك الكتاب أنه كان مشغوفًا بها عالقًا بحبها؛ فندمت على ما أضاعته من فرصة البوح بالغرام. على أنها تذكرت ما جاء في كتابه من الوعد والإشارة فاشتاقت إلى تلاوته فأخرجته وأعادت قراءته ثانيةً وثالثةً وهي تُحاذر أن يدهمها قادم أو يراها راءٍ. ثم سمعت خطواتٍ قريبةً فأخفت الكتاب واستلقت وهي تتناعس ثم تباعدت الخُطى وعاد السكوت فعادت إلى هواجسها، فراجعت ما ارتسم في ذهنها من عبارات حبيبها، فرأت أنه يُعرِّض نفسه لخطر الموت فاختلج قلبها خوفًا عليه وفضَّلت رجوعه عن عزمه وبقاءه معها تتمتع برؤيته. وتصوَّرت عزمه على الانتقام لأبيها فسهل عليها الفراق، وخُيِّل إليها أنه سيعود ظافرًا منصورًا فتُفاخر به وتُعوَّض عما قاسته من الذل والتستُّر. على أنها تحيرت في أمره ومَن عساه أن يكون إذا لم يكن بهزاد الطبيب ولا رسول الخرمية. ولما أعياها التفكير استسلمت إلى المقادير، وصبرت لترى ما تأتي به الأيام، ثم غلب عليها النعاس وكادت تنام وإذا بقارعٍ يقرع الباب، فنهضت وفتحته فرأت دنانير وحدها فرحَّبت بها، فدخلت ضاحكةً وقالت: «ما لي أراكِ وحدكِ يا بُنية؟» قالت: «استلقيت على هذا البساط لأستريح فغلب عليَّ النعاس.» فأظهرت أنها صدَّقت قولها وهمَّت بالخروج وقالت: «نامي يا حبيبتي تَرَيْه في الحلم.» فاستغربت تعريضها وقالت: «ماذا تعنين؟» قالت: «لا تخافي يا ميمونة، إن جدتك غائبة الآن فلا تكتمي. على أنَّ تكتُّمكِ لا ينفعكِ، وأنا قهرمانة خبرتُ الزمان وقرأتُ الكتاب من عنوانه.» فتوهَّمت ميمونة أنها تشير إلى ذلك الكتاب، فقالت: «وأيَّ كتاب تعنين؟» وبدا الارتباك في وجهها. فقالت: «لا أعني كتابًا مرقومًا.» وتحوَّلت إليها بجملتها وقالت: «إنما أعني أن دلائل الحب لا تخفى على أحد، وقد عرفتُ حبكِ بهزاد من أول نظرة، ويسوءُني أنه سافر قبل أن …» وأومأت بجفنها. فخجلت ميمونة من ذلك الإيماء ولكنها سُرَّت لبقاء أمر الكتاب مكتومًا عنها، وهان عليها مكاشفة دنانير بحبها — وفي المكاشفة راحة للمُحبين إذا وثقوا من كتمان حبهم — فابتسمت وأطرقت. فاستبشرت دنانير وهي إنما تلتمس ذلك منها لتشاركها السعي في نيل مطلوبها، فألقت يدها على كتفها وأشارت إليها أن تقعد، فقعدت وهي تلاطفها وتهش لها لتُجرئها على أن تبوح، ثم قالت: «سامح الله طبيبنا، كيف سافر قبل أن يُتم العقد؟ لا تخجلي يا ميمونة؛ فإنك تُحبينه حبًّا طاهرًا ولا شك أنه يحبك أيضًا، وهو من خيرة الشبان، لا حرمكِ الله منه.» فتجرأت ميمونة على الكلام وقالت: «وهل الحب عيب يا خالة؟» قالت: «معاذ الله! لم أقل ذلك. فلا يصعب عليكِ فراقه؛ فإنه لا يلبث أن يعود فلا تجزعي.» فتنهَّدت وسكتت وسرورها بادٍ ثم قالت: «إني يتيمة مسكينة، فلعل الله نظر إلى ذُلي فأراد رفعي، ولا غنى لي عن عونكِ لأني في حماك.» قالت: «إنكِ مولاتي وبنت مولاتي، ولا أنسى فضل أبيكِ رحمه الله، فأيقني أني عون لكِ على كل ما تريدين. وهذه مولاتنا زينب قد أحبتكِ واستأنستْ بك.» ولم تتم كلامها حتى سمعت خطواتٍ مسرعةً نحو الحجرة وصوتًا مرتجفًا ينادي: «أين مولاتنا القهرمانة؟» فعلمت دنانير أن بعض الغلمان جاء في مهمة، فصفقت فجاء الغلام حتى وقف بالباب وصاح: «أأدخل؟» فقالت: «ادخل.» فدخل وحيَّا، فصاحت به: «ما وراءك؟» قال: «إن شاكريًّا بباب القصر يقول إنه يحمل كتابًا إليك.» فقالت: «شاكري؟ وما شأن الشاكرية عندنا. إنهم رسل الخليفة وليس في القصر رجال. لعله ضل السبيل.» قال: «سألته في ذلك فذكر أنه يحمل رسالة إلى قَيِّمة القصر، وسمَّاكِ باسمك.» قالت: «اذهب وهات الرسالة لنرى فحواها.» فخرج. واستغربت هي الخبر، أما ميمونة فارتبكت وخافت أن تكون الرسالة بشأنها أو لأمرٍ يسوءُها. ومن تتوالى عليه النوائب يسبق إلى ذهنه ما يسوءُه ويغلب أن يصدق ضميره فيه. وبعد قليلٍ عاد الغلام وفي يده كتاب مختوم ودفعه إلى دنانير وخرج، فنظرت في الختم فرأته خاتم الفضل بن الربيع وزير الأمين، فتشاءمت من رؤيته وأخذت في فَضِّه ويدها ترتجف، وأدركت ميمونة بغتتها فاختلج قلبها، ولبثت تنتظر ما يبدو منها؛ ففضَّت دنانير الكتاب وأخذت تقرؤه والدهشة بادية في عينيها، وميمونة تراقب حركاتها وتكاد تخطف الكتاب من يدها لتطَّلع على ما فيه، ولكنها تجلدت وصبرت نفسها فرأت دنانير تُعيد قراءته وقد ظهر الارتباك عليها، ثم تحفَّزت للوقوف فأخذت ميمونة بيدها وصاحت وصوتها يرتجف: «إلى أين؟ قولي لي أليس هذا الكتاب عني؟ إني أرى عليه خاتم الفضل بن الربيع، لا ريب أنه يمسني.» قالت: «وما شأنكِ أنت؟ إنه يخاطبني أنا!» قالت: «أشعر أن له علاقةً بي، قُولي ماذا يريد مني؟ ويلاه! قُولي!» فابتعدت دنانير منها ونهضت وهي تقول: «لا علاقة له بك!» فتبعتها وأمسكت بيدها وترامت عليها وقالت: «أتوسل إليكِ أن تَصدُقيني، بالله قولي ولا تُخفي عليَّ واعذري لهفتي.» فبدا الغضب على دنانير وقالت: «لقد أوغل هذا الرجل في القحة وتجاسر كثيرًا! وكأنه اغتنم فرصة غياب سيدي وحسب أننا نخاف سطوته ونُطيع أوامره. قبحه الله!» فتأكدت ميمونة أن الكتاب يتعلق بها فصاحت: «مهما يكن من فحوى هذا الكتاب فإني أحب الاطلاع عليه، والأمر لكِ في كل حال. أطلعيني عليه ولو كان فيه قتلي، بالله أطلعيني عليه.» من الفضل بن الربيع وزير أمير المؤمنين إلى القهرمانة دنانير. وقع إلى أمير المؤمنين أن في قصر مولانا المأمون فتاةً اسمها ميمونة جاءت من عهدٍ قريب، ويجب أن يراها ويسألها عن بعض الشئون، ويطلب إرسالها مع الشاكري حامل هذا الكتاب. وما أتمت ميمونة تلاوة الكتاب حتى غشي الدمع عينيها وكاد الكتاب يقع من أناملها لفرط دهشتها، وصاحت: «ويلاه! إن حبل تعاستي لا يزال متصلًا. ويلاه! ماذا أفعل؟ دعيني أخرج من هذا القصر.» فأخذت دنانير تُخفف عنها وقالت: «لا بأس عليكِ، لن تخرجي من هنا، ولن نُسلمك لأحد؛ إنكِ في ضيافتنا، كوني مطمئنة.» قالت ذلك وخرجت وظلت ميمونة وحدها. ولما صارت دنانير في الدهليز صفقت فجاء الغلام فقالت: «قل للشاكري أن يذهب ولا جواب له عندنا.» ورجعت إلى ميمونة وهي ترتجف من الغضب، فوقعت ميمونة في حيرة وأخذت تندب حظها، ودنانير تُطمئنها وتُخفف عنها. وفيما هما في ذلك أتت عبادة وهي خالية الذهن من الأمر، فلما رأتهما قالت: «ما بالكما؟» قالت ميمونة: «إن وزير السوء كتب في طلبي، وزعم أن أمير المؤمنين يحب أن يسألني عن بعض الشئون!» فأطرقت عبادة وفكرت هنيهة وقالت: «قد علمتُ السبب في ذلك، إن الكتاب ليس من أمير المؤمنين وإنما كتبه الفضل لغرض في نفسه أنا أعلمه، وأظنكما تعلمانه أيضًا. والأجدر أن نخرج من هذا القصر قبل أن يتفاقم الخطب ويحدث ما لا تُحمد عقباه بسببنا.» فصاحت دنانير: «إنكما في ضيافتنا ولا تخرجان مطلقًا. أيجسر هذا الوغد على أضياف وليِّ العهد؟ كلا، لن تخرجا على هذه الصورة، ومتى جاء سلمان شاورناه في الأمر فإنه خبير. ونرى ما يكون.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/14/
مجلس الفضل
كان سلمان قد رجع من قصر المأمون في ذلك الصباح إلى مخدعه فغيَّر هندامه وتقمَّص شخصية الملفان سعدون، وسار حتى دخل مدينة المنصور وقصد إلى قصر باب الذهب يتوكأ على عُكازه ويسرح لحيته وقد تأبَّط كتابه ومشى يلتمس المنزل الذي أُعِد له بأمر الأمين أثناء إقامته هناك. فدخل حجرته وأخذ يطالع في كتابٍ كأنه يكشف أمرًا أهمَّه. وظل في ذلك إلى العصر وهو يتوقَّع أن يأتيَه أحد في استفتاءٍ أو استطلاعٍ لعلمه أن الجواسيس والعيون مبثوثة بالأبواب ينقلون خبر القادمين والذاهبين إلى صاحب الشرطة. وفيما هو في ذلك، سمع وقْع حوافر جواد يقترب من حجرته، فأصاخ بأذنيه فسمع الراكب ينزل ويخطو نحو بابه مسرعًا، فأدرك من رائحة الطيب التي فاحت أنه ابن الفضل، وعلم من سرعة خطوه أنه جاء متلهفًا؛ فظل جالسًا حتى قرع الباب فنهض وفتح له واستقبله بفتورٍ واستخفاف على غير عادته؛ فتهيَّب ابن الفضل من رؤيته لما سبق إلى ذهنه من اقتداره على استطلاع الغيب، فحيَّاه وهو يبتسم وقال: «كيف حال الملفان سعدون اليوم؟» فأجابه بالإشارة أن يدخل ويجلس وظل ساكتًا. فابتدره ابن الفضل قائلًا: «ما بالك يا ملفان؟ ما لي أراك غاضبًا؟» قال: «تفضل يا ابن الوزير واجلس. من أنا وما هو غضبي؟ ولكني رأيت أهل هذا الجيل لا يليق بهم غير الخداع والكذب.» قال ذلك وأشار إلى ابن الفضل أن يجلس. فقال ابن الفضل: «لا حاجة بي إلى الجلوس. إني لم آتِك لأمرٍ يهمني وإنما لأدعوَك إلى أبي.» قال: «إذا كان أبوك يُسيء الظن بي ولا يُصدق قولي كما فعلت أنت، فلا فائدة من سماع كلامي.» فاستغرب ابن الفضل تعريضه به وعلم أنه يشير إلى ذهابه للبحث عن ميمونة في المدائن بعد أن أكَّد له سعدون أنها خرجت منها، ولكنه تجاهل وقال: ما هذا التعريض والتلميح؟ متى أسأت الظن بك؟» قال: «أظنك تحملت المشقة في الذهاب إلى المدائن لأنك ما صدقت قولي إنها خرجت منها؟ هل وجدتَها هناك؟» فخجل ابن الفضل وغُلب على حجته، ولكنه غيَّر الحديث وقال: «سنعود إلى هذا الشأن في فرصةٍ أخرى، والآن تعالَ إلى أبي فإنه سيسألك عن أمرٍ مهم يتعلق بالدولة والخلافة.» ففهم من هذه العبارة على سذاجة قائلها ما يُغنيه عن بحثٍ طويل وقال: «إني رهين إشارة الوزير، أين هو الآن؟» قال: «هو في قاعة صاحب الشرطة بهذا القصر.» فمشى سعدون إلى نعاله وشدَّها بقدميه وتأبَّط كتابه وقبض على عُكازه وخرج في أثر الفضل وهو يفكر فيما عساه أن يسمع من الأسئلة، وإن كان قد أدرك أن الغرض الأول هو السؤال عن بهزاد؛ استنتاجًا من قرائن الأحوال ومما سمعه من ابن الفضل من أن أباه سيسأله عن أمرٍ يتعلق بالدولة. وكان سلمان يحذر الفضل ويخاف فراسته ودهاءه، ولا سيما بعد أن رآه مُطلعًا على أمر بهزاد ومجيئه إلى بغداد، وبعد أمره بالقبض عليه وإن فشل في ذلك. فسار في أثر ابن الفضل مُطرقًا يُتمتم. ولم يكن يخاف ابن ماهان صاحب الشرطة لعلمه بضعفه وغروره. فلما وصلا إلى مجلس صاحب الشرطة دخل ابن الفضل بلا استئذان، وظل الملفان سعدون واقفًا حتى ناداه ابن الفضل، فلما دخل رأى الفضل متكئًا في صدر القاعة على وسادة كبيرة وقد قطَّب حاجبيه وظهر الاهتمام في وجهه، وبيده مذبة يذب بها الهواء عن وجهه وكتفيه؛ إذ لم يكن هناك ما يذبه، ولكنه كان يتشاغل بذلك لِما تزاحم في خاطره من الأفكار. ووجد ابن ماهان جالسًا بجانبه على وسادةٍ وقد أرسل لحيته على صدره وبالغ في صبغها بالحناء فبدت شديدة الحُمرة، وكان مع وهن عظمه ما زال يُغالب الشيخوخة، فجلس القرفصاء مع أن في وسعه أن يتكئ بين يدي الفضل في غير كلفة، وإنما خاف أن يُعَد ذلك عجزًا وهرمًا. ••• فلما دخل ابن الفضل لم يتحرك أبوه من مُتَّكئه، وإنما وجَّه بصره إلى سلمان وقال: «هذا هو الملفان سعدون! أظنني رأيته بالأمس هنا؟» فقال ابنه: «نعم يا أبتِ، وهو رئيس المنجمين في دار مولانا الأمين.» فأشار الفضل إلى سلمان أن يقعد، فأطرق هذا متظاهرًا بالسذاجة وقلبه يخفق تهيُّبًا من الفضل بعد تلك المقابلة (ويكاد المريب يقول خذوني). على أنه تجلَّد وهدَّأ روعه وتشاغل بتسوية المنديل الحريري حول كتابه المعهود. وما كاد يأخذ مجلسه حتى سأله الفضل: «أأنت رئيس المنجمين؟» فقال: «هكذا يقولون يا مولاي، ولكني لا أستحق هذا اللقب.» قال: «يظهر أنك أهل لأكثر من ذلك، فقد سمعت الكثير من صاحب الشرطة وابني هذا عن مقدرتك العجيبة في استطلاع المخبآت!» قال: «إن الفضل في هذا يرجع إلى هذا الكتاب، وإلى ما تلقيته من القواعد التي يُستعان بها في كشف الغوامض؛ فأنا أقول ما يظهر لي أو يُلقى إليَّ، وقد أتلو العبارة وأنا لا أفهم معناها.» فالتفت الفضل إلى ابن ماهان كأنه يستطلع رأيه في ذلك، فأجابه هذا بإشارة من حاجبيه مُصدقًا لما قيل كل التصديق؛ فابتسم الفضل ابتسامة تشفُّ عن ارتياب وقال: «عند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان. هل تجيب عما أسألك عنه؟» فرفع الملفان رأسه نحو الفضل وبصره متجه إلى المذبة يتحرك بحركتها كأنه يُظهر التهيب من النظر إلى وجهه وقال: «اسأل ما تريد، وما العلم إلا من عند الله، فإذا فتح عليَّ بشيءٍ قلته، وإلا اعترفت بعجزي؛ فهذه هي عادتي.» فلما قال ذلك هزَّ ابن ماهان وابن الفضل رأسيهما موافقَين؛ لأنهما خبرا ذلك فيه. فاعتدل في مقعده وقال: «إني أسألك عن أمر مهم يتعلق بالخلافة فاصدقني خبره كما تراه، ولا تظنني أسألك عن أمر أجهله؛ فإني إنما أختبر معرفتك!» فابتسم سلمان ابتسام الاستعطاف وقال: «إذا كنت في ريبٍ من صدقي فالأولى إطلاق سبيلي؛ فإني …» فقال الفضل مقاطعًا: «لا، لا أطلق سبيلك قبل أن أختبر صدقك أو خداعك، فإذا كنت من أهل العلم الصحيح فقل لي عما أضمره.» فلما أدرك سلمان جفاءه عمد إلى الملاينة وقال: «الأمر لمولاي في ذلك، وله أن يُطلق سراحي أو يُقيدني أو يقتلني أو يفعل بي ما يشاء بلا اختبار.» وشعر ابن ماهان بأن سعدون قد استاء من تلك العبارة فقال: «لا يريد الوزير بك إلا خيرًا، ولكنه تعوَّد أن يرى في بلاط الخليفة جماعة من المنجمين الدجالين، ولما ذُكر له عملك وفضلك أحب اختبارك؛ فقل ما يبدو لك من أمر الخلافة.» ففتح سلمان الكتاب وأخذ يقلب فيه ويتمتم مطرقًا وهم سكوت ينتظرون ما يبدو منه، ثم وجَّه خطابه إلى ابن ماهان فقال: «ألم أخبرك عن أمر الخلافة قبل أن يعرف أحد بخبرها؟» قال: «بلى، ولكن المراد أن نعرف أعداءنا وما عساه أن يكون من أمرهم؟» فعاد إلى التفتيش في الكتاب وهو يقرأ حتى بدا التعب في وجهه وتصبَّب العرق من جبينه؛ فأخرج من كُمِّه قطعة بخور مضغها في فيه وطلب قدحًا فيه ماء ووعاءً فيه نار، فأتَوه بمَوقِد صغير من النحاس كالمبخرة وضعوه بين يديه، فألقى قطعة البخور في النار وتناول القدح وأخذ يتفرَّس في الماء تفرُّس الخائف من أمرٍ يفاجئه، ثم صاح بغتةً قائلًا: «إلى المدائن. في قصر سابور؟» وكرر التفرُّس في الماء جيدًا وهو يقول: «أليس هذا قصر سابور؟ ومن سكن فيه؟» وسكت وهو يسترق النظر إلى سامعيه ليرى هل يُضمرون السؤال عن بهزاد كما استنتج، فرأى ابن ماهان يشير بالإعجاب، فعلم أنه أصاب، ولكنه تظاهر بالتعب فألقى القدح من يده وتناول منديله وأخذ يمسح العرق من جبينه وهو ساكت، فقال له الفضل: «ماذا جرى في ذلك القصر؟» فألقى في النار بخورًا ثم أعاد النظر في القدح وقال: «إني أرى جندًا وعيارين نزلوا من المراكب إلى البر مسرعين، ودخلوا ذلك القصر.» فقال الفضل: «ثم ماذا؟» قال: «ذهب سعيهم سُدًى يا مولاي لأنهم لم يجدوه في البيت!» فأبرقت أسرة الفضل ولكنه بقي يُظهر الجد وقال: «بارك الله فيك، قد عرفت ما في نفسي، فاعلم أني أطلب الرجل الذي كان يقيم بذلك القصر، هل تعرف اسمه؟» فأطرق وتمتم كأنه يتلو شيئًا أُلقي إليه، ثم قال: «يُسمُّونه بهزاد الطبيب الخراساني.» فأظهر الفضل إعجابه وقال: «هذا طِلْبتي، فأين هو الآن؟ ابحث لنا عن مكانه!» فعاد سلمان إلى الكتاب وقلبه، ونظر في القدح قليلًا، ثم وضع القدح وصفق وقال وهو يشير بيده إلى خارج بغداد: «هو خارج بغداد على جواده في صحراء بعيدة وعليه لباس السفر.» فصاح الفضل: «هرب؟! هرب الخراساني الملعون؟ هل رأيت خادمه؟» فأعاد نظره إلى القدح وقال: «لا أرى معه أحدًا.» فقال: «وهل عرفت بالتنجيم شيئًا عن خادمه أو رفيقه؟» فعلم سلمان أنه يعنيه هو؛ لأن الذي أطلع الفضل على خبر بهزاد ذكر أن معه رفيقًا وأنهما جاءا معًا لمهمةٍ سرية من خراسان، فلما عادا إلى بغداد أمر بالقبض عليهما فلم يظفر بهما. وقد علم سلمان باطلاع الفضل على خبرهما وإرساله الجند للقبض عليهما فسارع إلى إنقاذ بهزاد كما تقدم، فلما سأله الفضل عن رفيق بهزاد تجاهل وقال: «علمت أن له رفيقًا يُسمُّونه سلمان؟» قال: «نعم سلمان. أين هو الآن؟» فاضطربت جوارحه ولكنه تجلد وقال وهو ينظر في القدح ثم يتلفت يمنةً ويسرة: «إنه في بغداد، وأظنه في مدينة المنصور، ولكنني أراه مستترًا وقد أقام بينه وبين المنجمين سترًا كثيفًا، وقد أتغلب عليه وأكشفه في فرصةٍ أخرى.» فقال الفضل: «إن بقاء سلمان هذا في بغداد غنيمة كبرى تُعوضنا عن فرار رفيقه، وقد بلغني أن سلمان هذا يتزيَّا كل يوم بزيٍّ جديد.» فقال: «ولهذا ظهر لي في المندل مستترًا، ولكنه لا يخفى على الملفان سعدون ولو تمنطق بالنجوم وتعمم بالشمس وانتعل القمر. والأمور مرهونة بأوقاتها.» ثم رأى أن يغتنم هذه الفرصة لنيل البُغية التي يسعى إليها أعداء العباسيين فقال: «وهل يظن مولاي أن فرار بهزاد خير له من بقائه هنا؟» قال: «إن فراره يُنجيه من أيدينا، هل ترى غير ذلك؟» ففتح الكتاب وقلب صفحتين وقرأ ثم قال: «لكنه ذاهب لنُصرة رجل كبير في خراسان.» فأدرك الفضل أنه يَعني المأمون فقال: «لا فائدة من نُصرته وهو بعيد.» قال: «أرى ذلك الرجل الكبير صاحب سلطان خوَّله إياه أمير المؤمنين، وقد يحاربه إن لم يتلافَ أمره ويقص جناحيه.» وقد أراد سلمان أن يُحرض الفضل على خلع المأمون من ولايته على خراسان ليتسع الخرق بين الأخوين فتسنح الفرصة للطامعين. ••• والتفت الفضل إلى ابن ماهان فرآه ينظر إليه مستفهمًا، وفي نظرته دليل الموافقة على تحريض الأمين على خلع أخيه، وكان الفضل أكثر رغبةً في ذلك لما يعلمه من حقد المأمون عليه لمساعيه ضده، ولكنه تجاهل وأراد تغيير الحديث فقال: «بورك فيك يا ملفان.» ثم التفت إلى ابنه وقال: «لقد أسأنا إلى رئيس المنجمين إذ أسأنا الظن به، وأخشى أن نكون قد فرطنا في الأمر!» فقال ابن الفضل: «كنت واثقًا بالملفان، ولكنك حملتني على الشك فيه حتى فعلنا ما فعلناه.» ولم يكن الملفان عالمًا بما فعله الفضل من إرساله إلى دنانير يطلب ميمونة فنظر إلى الفضل وقال: «أرجو ألا يكون فيما فعلتموه ضرر.» فقال ابن الفضل: «إنما أسأت بك الظن لِما رأيته من إنكارك المكان الذي تقيم فيه الفتاة، ثم علمنا من جواسيسنا أنها في قصر المأمون فكتبت إلى قهرمانته أطلب إرسالها إلينا فأساءت الجواب وردَّت الرسول خائبًا، فأرسلنا إليها جندًا يأتون بها قهرًا!» فشق على سلمان ما قد يصيب الفتاة من الأذى، ولكنه تجاهل وقال: «إنني لم أُخفِ على مولانا (وأشار إلى ابن الفضل) مكانها، ولكنني ذكرت له أنها خرجت من المدائن، ولم تكن نزلت بالقصر المأموني بعد، ولو سألني بعد نزولها لأخبرته بمكانها. وكنت عازمًا على أن أحملها إليه بالحسنى مستعينًا بهذا الكتاب، فليته لم يعجل بالأمر.» قال ذلك وقد ساءه ما تصوَّره من الغلظة التي يأتونها في هذا السبيل. فقال الفضل: «إن قهرمانة القصر أساءت الأدب في رد الشاكري، ولعلها لا تعلم أن الفتاة مغضوب عليها وعلى كل أهلها، وإنما أردنا تشريفها واستبقاء حياتها لأنها وقعتْ من ولدي هذا موقع الاستحسان.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/15/
ميمونة والأمين
وفيما هم في ذلك جاء الحاجب وقال: «إن رسول الوزير بالباب.» فقال: «يدخل.» والتفت إلى الحضور وقال: «هذا رسولنا مع الجند إلى قصر المأمون، فلنسمع ما جاء به.» ثم دخل الغلام، وهو من الشاكرية، فألقى التحية وتأدَّب، فقال له الفضل: «ما وراءك.» قال: «هل أقول؟» قال: «قل … هل أتيتم بالفتاة؟» قال: «نعم، ولكنها لم تأتِ وحدها.» قال: «ومن جاء معها؟» قال: «جاءت معها مولاتنا أم حبيبة بنت ولي العهد.» فأجفل الفضل وقال: «أعوذ بالله! وكيف أتيتم بها؟ ومن قال لكم ذلك؟» قال: «لم يقل أحد ولا نحن رضينا بمجيئها، ولكنها جاءت رغم إرادتنا؛ إذ تعلقت بالفتاة وأبت إلا أن نأخذها معها!» قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ألم يكن في وسعكم اجتناب مجيئها؟» قال: «كلا يا مولاي؛ لأنها تعلقت بالفتاة ولم تبالِ أقوالنا وتهديدنا، حتى لقد حدثتْنا أنفسنا أن نتركهما معًا، وقد جاءت معهما أيضًا القهرمانة دنانير؛ إذ عرَّضت نفسها للقتل وذكرت أنها تؤثر الموت على تسليم الفتاة، فأتينا بالثلاث معًا.» فقال: «وأين هن الآن؟» قال: «هنا في دار النساء، وأم حبيبة تطلب أن ترى عمها الخليفة.» فاكفهرَّ وجه الفضل عند ذلك لبلوغ المسألة إلى هذا الحد، ولكنه كان واثقًا بسلطانه على الأمين، ولا سيما إذا أطلعه على سر الفتاة وأنها بنت جعفر البرمكي، وأنه إنما أراد القبض عليها ليُقدمها له فيرى رأيه فيها. فنهض وهمَّ بالخروج، ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «صدق من قال: «إن في العجلة ندامة.» فلو أطعنا الملفان ما وصلنا إلى هذه المشكلة، ولكن لا بأس.» ثم التفت إلى سلمان وأشار مُودِّعًا وكان هذا قد وقف وحيَّا شاكرًا، وقد اطمأن على ميمونة لمجيء أم حبيبة معها وطلبها مقابلة الأمين؛ فلا شك في أنه يحتفظ بالفتاة إكرامًا لبنت أخيه فتنجو من ابن الفضل. ثم خرج من المجلس وقد غابت الشمس وأُضيئت الشموع الكبيرة المشهورة بشموع الأمين. وكان الأمين ساعتئذٍ في مجلس غِناءٍ أمر بإعداده، وحشد له المغنين والندماء. فأُعد في إيوان كبير بين قاعات القصر، في وسطه بركة يتدفق فيها الماء من أنابيب على هيئة رءوس الثعابين، وحولها أغراس الرياحين ومقاعد الجلساء والمغنين. وكان الوصفاء من الخصيان يقومون بخدمته هناك وفيهم السقاة عليهم الألبسة الثمينة الباهرة وهم في زيِّ الجواري، وقد أرسلوا شعورهم جدائل مفردة ومزدوجة، وفي أيدي بعضهم الدفوف أو المزاهر أو العيدان يدقون ويُغنون، وإلى جوانبهم الجواري الحسان في زيِّ الغلمان وهن هدية إلى الأمين من أمه زبيدة. وكان الأمين يغالي في اقتناء الجواري من أقاصي البلاد وينفق في استجلابهن الأموال. وقد ارتدى في ذلك المجلس لباس المنادمة، وهو غلالة صفراء مصقولة صقلًا شديدًا، وعلى رأسه عمامة خفيفة، وجلس على سرير من الآبنوس المنزل بالعاج، وبين يديه مائدة عليها أنواع الأطعمة والأشربة والرياحين، وقد فاحت رائحة المسك وغيره من الأطياب حتى ملأت الفضاء. وبينما هو في مجلسه هذا جاءه الحاجب وقال: «مولاتي زينب أم حبيبة بالباب.» فبُغت الأمين وظن مُخبِره واهمًا فاستفهمه قائلًا: «ابنة أخي؟» قال: «نعم يا مولاي.» فتحيَّر في أمره ولم يدرِ بماذا يجيب؛ إذ أكبر أن تقابله ابنة أخيه وهو في مجلس الشراب على تلك الصورة. ولم يكن سلطانه وقوة بطشه ليمنعا خجله من فتاة صغيرة يسترضيها الناس بتفاحةٍ أو لعبة؛ لأن سلطان الأدب والحشمة أغلب في النفس من سلطان السياسة والشدة؛ ولذلك كان الأدب قوة، ولأدب النفس هيبة يُجلها العقلاء وغير العقلاء، وصاحب الرذيلة مهما يعظم سلطانه وإن استغرق في المنكرات لا يزال في ضميره بقية من احترام الفضيلة وأهلها. ألا ترى أرباب المعاصي وإن تساهلوا في ارتكابها يستنكفون من أن ينتسبوا إليها أو يُقال إنهم من أهلها؛ فهم أذلاء وإن عزوا، ويغلب عليهم الجبن في مواقف الإنسانية وإن كانوا أبطالًا في مواقف القتال. إن مرتكب المعصية محكوم عليه بالمذلة والضَّعَة من عند نفسه لاعتقاده أنه يُخالِف السُّنن الأدبية فضلًا عن الدينية، وقد يكون سيدًا مطلقًا لا سلطان عليه ولا يخشى حُكمًا ولا قِصاصًا، وربما كان معطلًا لا يخاف عقابًا ولا يرجو ثوابًا، ولكنه يخاف شيئًا لا صورة له في الوجود، ويخاف ما قيل عنه وما يُقال له. وقد لا يضره ذلك ولا ينفعه، ولكنه فُطر على التماس حسن الأحدوثة أو «الشهرة». ولولا هذا لكان الناس كالبهائم يأكلون وينامون. فهذا الأمين، مع تهتُّكه وسُكْره وعِلمه بانتهاكه حرمة الشرع والعُرف وصَمِّه الأذن عن النصح، لم يسعْه إلا أن خجل أن يقابل في مجلس لهوه فتاةً صغيرة؛ وما ذلك إلا حرصًا على كرامته، ولعلمه بطهارة قلبها وصفاء سريرتها. فلما أُنبئ باستئذانها عليه تردَّد في الإذن وأكبر أن يُظهر خجله من مجلسه هذا فينهض لمقابلتها في غرفةٍ أخرى وهو الخليفة صاحب السلطان الأكبر مالك رقاب العباد، ولم يستطع ردَّها إذ لا عذر له في ذلك؛ فغلب عليه اعتزازه بالإثم فقال: «تدخل ابنة أخينا.» وكان القدح بيده فوضعه على المائدة، واصطنع الوقار على قدر ما يستطيع، فلما رأى جُلَّاسُه ذلك جنحوا إلى التهيُّب وتولاهم السكوت، وألقَوا أدوات الشراب من أيديهم. وأشار الأمين إلى الغلمان والجواري فتباعدوا، واستولت الحشمة على الجلسة، وسكت القوم كأن على رءوسهم الطير. فدخلت زينب وعليها مطرف من خزٍّ قد التفَّت به، وخمار مزركش يكسو رأسها إلا بعض وجهها. وقد أشرق ذلك الوجه حياةً وتجلت فيه الطهارة وسلامة القلب. وفي طهارة الأطفال رونق للناظر وهيبة للمتأمل وعظة للعاقل، ويستدل علماء الأخلاق من ذلك على ما فُطر عليه الإنسان من الميل إلى الخير، وأنه إنما يساق إلى الشر بما يعرض له من أسباب المطامع أو يمارسه من اختلاف المشارب، وإذا أتى شرًّا فإنما يأتيه للدفاع عن نفسه أو ماله، وقد يظهر أنه مهاجم متعدٍّ ولو فحصت ضميره واستطلعت خبايا قلبه لرأيت أساس ذلك التهجُّم هو الدفاع عن نفسه. فالأطفال مثال للفطرة الساذجة، لا يعرفون الكذب أو التملق أو الخداع. يقولون ما يعتقدون لا يخافون ولا يحاذرون، ولا سيما إذا رُبُّوا كما رُبِّيتْ زينب على أيدي دنانير؛ حيث تثقفت واستنار عقلها على قدر ما تسمح به سِنُّها، واعتادت ألا ترد كلمتها. فلما رأت الجند يخالفونها ويُلحون في أخذ ميمونة شقَّ عليها الأمر وأكبرته، ولما زُجِرت إرادتُها بكت وجاءت معهم كما تقدم، فدخلت لساعتها على عمها وقد أبرقت عيناها وفيهما أثر البكاء. فلما رآها الأمين رحَّب بها ونهض لاستقبالها، فلم يبقَ أحد من الحضور إلا وقف تهيبًا. ولم يرَوْا بُدًّا من إخلاء المجلس للخليفة وابنة أخيه، فخرجوا وغادروا المائدة وأباريقها وأقداحها وزهورها ورياحينها، وقد تبعثرت الفاكهة وأقداح الشراب ومنثور الأزهار وأضاءت منائر الشمع في جوانب الإيوان، وودَّ الأمين لو تنطفئ لتُخفيَ تهتُّكه. فلما دنت زينب من عمها ترامت على ذراعيه وغلب عليها البكاء، فضمَّها إلى صدره وقبَّلها وقال: «لا بأس عليكِ يا ابنة أخي، ماذا أصابك؟» أما هي فلما شمَّت رائحة الخمر في فيه نظرت إلى ما حولها مستغربة، فأراد أن يُلهيَها عن الاستفهام فقال: «ما بالكِ يا أم حبيبة ماذا تريدين؟ لماذا لم تدخلي دار النساء؟» فقالت: «قد كنتُ هناك وأحببتُ أن أراك ولم أكن أعلم أنك على مائدة الطعام.» فسره أنها تحسبه على مائدة الطعام فقال: «هل من حاجةٍ نقضيها لكِ؟» قالت: «نعم لي حاجة …» والتفتت إلى الباب وقالت: «نعم لي حاجة، أين دنانير؟ هي تقصُّ عليك خبري.» فتجلَّد الأمين وهو يَحسِب لهذا المجيء ألف حساب، لِما يعلمه من إساءته إلى أبيها. ولكنه استبعد أن تطَّلع هي على شيءٍ من ذلك فتجاهل وقال: «هل القهرمانة معك؟» قالت: «نعم، كانت معي في دار النساء، وقد أرادت ألا تفاجئك في هذا المجلس.» ثم نظرت فيما على الأرض من الأدوات وقالت: «أرى مائدتك يا عماه تختلف عن مائدتنا، لعل مائدة الخلفاء هكذا.» قالت ذلك بسذاجةٍ وإخلاصٍ فأصاب قولُها قلبَ الأمين لِما حواه من التوبيخ الصريح عفوًا، فقال: «إنها مائدة بعض الأضياف كانوا عندنا الليلة. هلمي بنا إلى دار النساء.» قال ذلك ولم يَعُد يصبر على البقاء هناك، فنهض وأخذ بيدها وهي تتوكأ عليه حتى دخلا قاعة في دار النساء مفروشة بالبُسُط والنمارق ليس فيها أحد، وأجلسها بجانبه وهو مشتاق إلى سماع شكواها ليطَّلع على جلية الخبر، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «ادع القهرمانة دنانير.» وبعد قليل دخلت دنانير وهي مُطرقة وقد غطت رأسها بالنقاب وهمَّت بتقبيل يده ثم وقفت متأدبة، فقال: «ما الذي جاء بكما يا دنانير؟» قالت: «يسوءُنا أننا أزعجنا أمير المؤمنين وكدرنا عليه مجلسه، ولكن سيدتي أم حبيبة أبت إلا أن تجيء الليلة ولم أستطع منعها.» فقال: «وما الخبر؟» قالت: «ألم ترسل إلينا في طلب ضيفتنا؟» قال: «وأيَّ ضيفة تَعنين؟» قالت: «ضيفتنا ميمونة.» قال: «لم أفهم مرادكِ، أفصحي.» فأدركت دنانير أن الفضل فعل ذلك من عند نفسه فقالت: «نزلت عندنا منذ يومين فتاة غريبة اسمها ميمونة، ألِفَتْها سيدتي زينب وأحبَّتْها، فجاءني كتاب من الفضل وزيرك يطلبها باسمك، فاعتذرت من تسليمها لأنها ضيفة ولها حق الجوار، فأرسل إلينا جندًا ليأخذوها قسرًا، فلما رأت مولاتي إصرارهم على أخذها تعلقت بها وأبت إلا أن تأتيَ معها، فلم أستطع التخليَ عنها فجئت معها.» فأطرق الأمين وقد أكبر انتحالَ الفضل اسمه بغير إذنه، ولكنه تجلد وقال: «من هي ميمونة هذه؟ لعلها من موالينا؟» قالت: «هي فتاة يتيمة لا ملجأ لها ولا مُعين، وقد يكون في قصر أمير المؤمنين عشرات أو مئات مثلها.» قال: «وأين هي الآن؟» قالت: «في هذه الدار يا مولاي.» قال: «عليَّ بها لأراها.» فلما خرجت دنانير وضع الأمين يده على كتف زينب وضمَّها إليه تحبُّبًا وقال: «تحمَّلتِ المشقة لأجل هذه الجارية؟» قالت: «إني أحبها يا عمَّاه لأنها لطيفة وحلوة، وستراها الآن، وقد قلت للجند أن يتركوها فأبَوا، ألا تريد أن تعطيَني إياها؟» فاستلطف الأمين سذاجتها ولُطْف تعبيرها وقال: «سأفعل ما تريدين. طيبي نفسًا.» وبعد قليل عادت دنانير وميمونة تتبعها مطأطئةً رأسها تذللًا، وقد تورَّدت وجنتاها وتكسَّرت أهداب عينيها من البكاء. فلما أقبلت عليه ترامت على قدميه وصاحت: «إني جارية أمير المؤمنين.» فلما رأى الأمين جمالها أُعجب بها ورقَّ لبكائها، فأمرها بالنهوض وقال: «لا بأس عليكِ يا بُنية طالما كنتِ في ضيافة بنت أخينا ولكِ هذه المنزلة عندها، قومي.» والتفت إلى دنانير وقال: «خذيها إلى دار النساء وامكثا الليلة عندنا ريثما أنظر في أمرها. وأنتِ يا زينب ضيفتنا الليلة. واطمئني أننا لا نرد لكِ طلبًا.» فاستأنست الفتاة بعمِّها وهي في معزلٍ عن السياسة لا تعلم شيئًا مما جرى بعد وفاة جدها بين ابنيه، ولما رأت عمَّها يضمها ويبشُّ لها تذكرت أباها فقالت: «متى يأتي أبي يا عمَّاه؟» فلما سمع سؤالها انقبضت نفسه وقال: «قريبًا إن شاء الله.» ولم يزد وكأنها شعرت برغبته عن التوسُّع في هذا الموضوع، فأمسكت ونظرت في الأرض وهي لا تستطيع التعبير عن شعورها؛ وهو شأن النساء في أحكامهن، فإنها مبنية على الإحساس بقطع النظر عن الحكم العقلي، فإن المرأة إذا سألتَها عن عملٍ أنت عازم على الشروع فيه هل هي تتوسم فيه النجاح أو تخاف الفشل أجابتك عن رأيها، وإذا طالبتها بالدليل على صحته ذكرت أنها لا تستطيع ذلك ولكنها تشعر به شعورًا قويًّا. ويغلب أن يَصدُق شعور المرأة كما يَصدُق عقل الرجل، على تفاوتٍ في شعور النساء وعقول الرجال. فكما تتفاوت عقول الرجال من حيث قوة الاستنتاج واستنباط الأحكام وتمييز الصحيح من الفاسد، يتفاوت شعور النساء باختلاف ما فُطرت عليه كلٌّ منهن من دقة الإحساس وسلامة الذوق. ولا يكون هذا الشعور مستقلًّا عن العقل، ولكنه يغلب في المرأة كما يغلب العقل في الرجل. والرجل إذا جُرد من ذلك الشعور كان ضربةً على الإنسانية؛ لأن الإنسان يعامل عملاءه بالعقل ويعاشر أصدقائه وأهله بالإحساس. ويتفاوت الإحساس في الناس؛ فمن قلَّ إحساسه ساءت عشرته واستثقل الناس روحه وإن كان راجح العقل قوي الإرادة؛ ولذلك ترى بين جماعةٍ من الأذكياء المجتهدين مَن يستثقلهم الناس ويتجنَّبون معاشرتهم، فيكون ذلك عثرة في سبيل نجاحهم؛ لأن الإنسان يحتاج في اكتساب ثقة الناس إلى شعورٍ حيٍّ يجتذب قلوبهم بحُسن العشرة ووضع الشيء موضعه. وكانت زينب بنت المأمون — على صغر سنها — كبيرة العقل رقيقة الشعور، فما إن سمعت تلك الإجابة الجافة من عمِّها الأمين حتى شعرت بانقباضٍ وامتنعت عن الخوض في ذلك الحديث. وكأنما أدرك هو ذلك فصفق يدعو غلامه، فلما جاءه قال له: «ادعُ لنا قَيِّمة الجواري.» ولما جاءت هذه قال لها: «خذي ابنة أخينا إلى قصرنا، وأكرمي مثواها واحتفظي بالجارية ميمونة وعامليها معاملة جوارينا.» ثم التفت إلى زينب وقال لها: «أظنك تحتاجين إلى الراحة والطعام، ولن يكون إلا ما تريدين، فاطمئني.» وربَّت على كتفها ووقف، فوقفت ومضت مع القهرمانة إلى دار النساء. فلما خلا الأمين إلى نفسه عاد إلى التفكير فيما سمعه عن الفضل وكتابه إلى بنت أخيه وفي شأن تلك الفتاة، وأحبَّ أن يستقدمه ليسأله عن حقيقة الخبر، على أنه تذكر ما كان فيه من الأُنس قبل مجيء زينب، فعاد إلى مجلسه. ولم يكد يستقر فيه حتى عاد إليه من كانوا فيه واستأنفوا الغناء والشرب والمنادمة، والغلمان والجواري في خدمتهم كما كانوا. ••• تركنا الفضل خارجًا من مجلسه وهو يستعيذ بالله مما آل إليه أمر تسرُّعه في طلب ميمونة، وأخذ يُهيئ الأعذار للدفاع عن نفسه، معتمدًا على ما له من النفوذ والدالة لدى الأمين، ولبث ينتظر أن يدعوَه إليه. أما سعدون أو سلمان، فإنه مع أسفه لوقوع ميمونة في يد الأمين، سُرَّ لنجاحه في إغراء الفضل وابن ماهان بتوسيع الخرق بين الأمين وأخيه. وأصحاب المطامع السياسية لا يفهمون لغة القلوب ولا يُبالون حركاتها، وإنما يهمهم الوصول إلى الغرض الذي يسعَون إليه، فإذا اعترض طريقَهم رأس أو قلب داسوه، على أن سلمان كان يعرف منزلة الفتاة عند بهزاد، وقد أوصاه هذا بها خيرًا، فلم يسعه إلا أن يهتمَّ لأمرها ويعمل على سلامتها. وفي صباح اليوم التالي بعث الأمين إلى الفضل، فلما وافاه في داره الخاصة أجلسه إلى جانبه، ثم تلطَّف في الاستفهام عن أمر الفتاة. فقال الفضل: «لعل أمير المؤمنين أكبرَ إقدامي على طلب هذه الفتاة باسمه من بيت أخيه، ولكن لم أفعل ذلك إلا اضطرارًا وإخلاصًا في خدمة الدولة. هل عرف أمير المؤمنين من هي هذه الفتاة؟» فقال: «لم أعرف إلا أنها غريبة وفدت على بيت أخي المأمون.» قال: «لو أن مولاي تأمَّلها لرأى صورة أبيها فيها. إنها بنت جعفر بن يحيى الذي قتله أمير المؤمنين الرشيد جزاء خيانته!» فبُغت الأمين ونظر إلى الفضل مشدوهًا وقال: «ابنة جعفر بن يحيى؟ أظنك واهمًا.» قال: «كلا يا مولاي، ولو سألتها لاعترفت. وقد علمت بنزولها بيت مولانا المأمون صباح أمس، فكتبت إلى قهرمانة القصر أن ترسلها لأن أمير المؤمنين يريد أن يراها، فأجابت رسولي الشاكري جوابًا شديدًا. ولم يسعني غيرةً على كرامة مولاي إلا أن شدَّدت في طلبها، ولم أكن أحسب العلائق وطيدة إلى هذا الحد بين طرائد أمير المؤمنين وبين بيت أخيه؛ فالأجدر بأهل هذا البيت أن يكونوا عونًا لنا على أمثال هؤلاء. نعم إنها فتاة لا خوف منها، ولكن ما ضر أن نستفهمها وهناك أسباب للظن، ولكن …» وسكت كأنه يكتم شيئًا يخشى إبداءه، فابتدره الأمين قائلًا: «ولكن ماذا؟ قل.» فقال: «إن أمير المؤمنين أدرى مني بما يُحاك في الخفاء، ولا أحب أن أدخل بينه وبين أخيه، ولكنني لا أستطيع السكوت عما يمسُّ الدولة وحقوق المسلمين؛ فما معنى أن تأوي إلى بيت مولانا المأمون بنت جعفر عدو الخلافة الذي قُتل جزاء دسه وخيانته وإطماعه المأمون في ولاية العهد بعد أن كانت لأمير المؤمنين وحده، وهل لم يقنع المأمون بولاية العهد فامتدَّ طمعه إلى الخلافة؟» فلما سمع الأمين ذلك أجفل وحدَّق في الفضل تحديقًا شديدًا، ولو لم يكن الفضل قد تعوَّده لهاب منظره؛ لأنه كان شديد الهيبة قوي البدن يَلقى الأسد ولا يبالي؛ فاستدرك الفضل قائلًا: «لا أعني أن مولانا المأمون يطلب الخلافة لنفسه، ولكنني أخشى إذا طال حلم أمير المؤمنين عليه أن يُغريَه بعض خاصته بطلبها.» فانصرف ذهن الأمين عن ميمونة إلى الخلافة وأخيه، وإنما جرَّه الفضل إلى ذلك عمدًا ليشغله عن لومه في طلبها باسمه، وليتدرج إلى إغرائه بخلع المأمون تأمينًا لنفسه؛ لعلمه أن المأمون إذا أفضت الخلافة إليه فلن يُبقيَ عليه ولا على أهله وربما نكل بهم، فلا نجاة له ولهم إلا بخلعه عن خراسان ليتفرَّق مريدوه عنه ويَضعف أمره. فقال الأمين: «إن هؤلاء الفرس أصل بلائنا؛ فإنهم ما زالوا من زمن أبي مسلم يناوئوننا ويَمنُّون علينا بأنهم ساعدونا في نَيل الخلافة مع أنهم لم ينالوا شيئًا إلا باسمنا، وهُم الآن يُغرون أخي بأن يستأثر بها دوني.» فقال الفضل: «إذا كان أمير المؤمنين في شكٍّ مما أقول، فهذا رئيس المنجمين، فليسأله عن الرجل الخراساني الذي أشرت بالقبض عليه يوم وصولي، إن هذا الرجل رسول حزب الخراسانيين أنصار المأمون، وقد أرسلوه ليدسَّ الدسائس ويوقظ الفتنة، وعلمت بأمره يوم كنت في طوس، فلما قدمت إلى بغداد أرسلت في طلبه فلم يجده العيارون في منزله، ثم لقيت الملفان سعدون رئيس المنجمين أمس، وتحدثت معه في ذلك، وكان صاحب الشرطة معنا، فعرف الملفان الرجل وقال: «إنه هرب من بغداد إلى أحزابه الطامعين في إرجاع الأمر إلى الفرس.» ولا ريب في أنهم يتخذون اسم مولانا المأمون وسيلةً إلى تحقيق مطامعهم، فإذا بلغوا مأربهم فما أظنهم يستبقون أحدًا ولا المأمون نفسه. لا تغضب يا مولاي إذا صرَّحت بما يجول بخاطري؛ فإن صالح الدولة يقتضي ذلك، وها هو ذا ابن ماهان صاحب الشرطة يؤيد قولي. والرأي لأمير المؤمنين.» وكان الفضل يتكلم منفعلًا متظاهرًا بالغَيرة على الدولة، والأمين يُصغي له بكل جوارحه. وقد أهمه الأمر فأمسك عن التصريح برأيه حتى يشاور ابن ماهان، وعاد إلى الكلام عن ميمونة فقال: «سننظر في ذلك، وأما ميمونة التي ذكرت أنها ابنة جعفر البرمكي، فإنها في قصرنا بين جوارينا، ولا أرى أن نُسيء إليها إلا إذا ظهر لنا ما يوجب ذلك، وقد ترفَّقتُ بها لأجل بنت أخي.» فقال الفضل: «الرأي لأمير المؤمنين.» ولم يهمه أمر الفتاة مثلما أهمه خلع المأمون، وإن كان ابنه يؤثر ميمونة على كل الدولة لأنه شابٌّ رُبِّي في مهد الرخاء ولم يُعانِ السياسة، وقضى ما مرَّ من عمره متكلًا على أبيه، وقد عَلِق بميمونة وما كان يريد بها إلا خيرًا، ولولا ما سبق من حبها بهزاد وحقدها على الفضل، لما كان ثَمَّةَ ما يمنعها من قَبوله. ورأى الفضل أن الأمين يُشير بفضِّ الجلسة، فنهض وخرج وظل الأمين وحده يفكر حائرًا فيما وعد به ابنة أخيه من إطلاق سراح ميمونة، ويرى في إطلاقها خطرًا خوَّفه الفضل منه. ثم نهض وسار إلى دار النساء، وسأل عن مقر بنت أخيه فدلُّوه عليه. وكانت ميمونة قد شعرت عند دخولها قصر الخلافة بانقباضٍ شديد، وقام بذهنها أنها أضاعت آمالها، لعلمها بما ينويه حبيبها من الكيد للأمين، فلم تجفَّ لها دمعة رغم ما حاولته دنانير من التخفيف عنها. وكانت زينب تزداد شفقةً عليها ورغبةً في إنقاذها، وقد بشَّرتها بما وعدها به عمُّها من إطلاق سراحها. فانقضت الليلة وميمونة يائسة لعلمها بأن الفضل لا يسكت عن كشف حقيقتها للأمين حتى ينجوَ من اللوم. وفي صباح اليوم التالي جاءتها دنانير وزينب، وأدارتا الحديث معها للترفيه عنها، ولكنها ظلت منقبضة النفس لا يُفرِّج كربتَها غير البكاء، ولا سيما أن جدتها ليست معها، وأنها لا تعرف أين سلمان؛ فمكثت صامتة ودموعها تتساقط على خدَّيها وقد ظهر عليها الذل والانكسار. وزاد هذا زينبَ انعطافًا نحوها، وكانت واثقة من وعد عمِّها. وبينما هن في ذلك سمعن حركة وهرجًا بين خدم القصر، ثم جاءت بعض الجواري تقول: «إن أمير المؤمنين قادم ليرى ابنة أخيه.» فنهضت زينب للقائه بالباب، ووقفت دنانير وميمونة احترامًا. ثم دخل الأمين وقعد على وسادةٍ هناك، وأجلس زينب إلى جانبه وسألها: «أفي شوقٍ أنتِ إلى قصركِ يا زينب؟» فقالت: «كما يشاء أمير المؤمنين.» فاستحسن تأدُّبها على صغر سنها وقال: «لقد أمرت القهرمانة بإعداد هودجٍ يحملكِ وحاضنتَكِ إلى دجلة، ثم تركبان الحراقة إلى القصر.» فنظرت إليه زينب نظر المدل الطامع وقالت: «وميمونة؟» فقال وهو يضاحكها: «تبقى في ضيافتنا يومًا أو يومين، ثم نبعث بها مُعزَّزة مُكرَّمة.» قالت: «ألست وعدتني بأن ترسلها معي؟» قال: «بلى، ولكني رأيت أن تبقى عندنا ضيفةً كما كانت عندكِ. وما أظنها ترفض الضيافة في قصر الخلافة.» ورفعت زينب بصرها إلى دنانير كأنها تستغيث بها، فنظر الأمين إلى دنانير وقال: «قولي لمولاتكِ إن ميمونة ستبقى عندنا ضيفة مُكرَّمة ثم نرسلها.» فعلمت دنانير أنه مُصِر على استبقائها عنده، وأدركت سبب إبقائها لأنها تنسَّمت من أخبار القصر أنه اجتمع في الصباح بالفضل؛ فوقعت في حيرة وقالت: «إن أمير المؤمنين لا يُرد أمره، وبقاء جاريته في قصره شرف لها.» فلما تحققت ميمونة أنها باقية سكتت والدمع ينحدر على خدَّيها، فوقع نظر الأمين عليها فرقَّ لها وكاد يأمر بإطلاق سبيلها، ولكنه تذكَّر كلام الفضل فأمسك ونهض قائلًا لزينب: «سيري في حراسة الله يا ابنة أخي.» ثم أوصى بها دنانير خيرًا، والتفت إلى ميمونة وقال: «لا بأس عليكِ يا بُنية.» وخرج فأمر قَيِّمة الدار أن تُعِد ما يلزم لنقل زينب وحاضنتها إلى قصر المأمون. فأرادت زينب أن تتعلق بميمونة وتمتنع عن الذهاب، فأمسكتها دنانير وأفهمتها أن أمر الخليفة لا يُرد ولا بأس على ميمونة. فلما خلت ميمونة إلى زينب ودنانير بعد خروج الأمين أطلقت لنفسها عنان البكاء حتى كاد يُغمى عليها، فأخذت دنانير تُهوِّن عليها ووعدتها بأن تُخبر سلمان بخبرها ليسعى في إنقاذها، كما وعدت بتوسيط سواه إذا اقتضى الأمر ذلك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/16/
بين زبيدة وعبادة
عادت دنانير إلى قصر المأمون فرأت عبادة أم جعفر في انتظارها على المسناة، وكانت قد شاهدت ما أصاب حفيدتها من القسوة والإهانة حين أخْذها إلى الأمين، وحدَّثتْها نفسها بأن تصحبها إلى هناك لكنها خافت أن يكون ذهابها سببًا لزيادة النقمة عليها؛ فامتثلت لمشورة دنانير عليها بالبقاء في القصر واعدة بإرجاع ميمونة معها، فقضت بقية ذلك اليوم وطول ليله ساهرةً وقد أخذ القلق منها مأخذًا عظيمًا وأصبحت في اليوم التالي فجلست على المسناة ترقب السفن النازلة حتى رأت حراقةً عرفت من شكلها أنها من سفن الأمين. فلما وصلت ولم ترَ ميمونة فيها صاحت: «أين ميمونة؟» فأخذت دنانير بيدها وقصَّت عليها الخبر، ومنَّتها بقُرب رجوعها، فقالت: «لا، لن ترجع. إن الأمين إذا عرفها لا بد أن يُوقِع الأذى بها. ويلي! لماذا لم أذهب معها فيصيبني ما يصيبها؟ لقد أضعت تعبي في خدمتها!» وجعلت تندب سوء حظها وتبكي بكاء الثكلى، فأخذت دنانير تُهوِّن عليها حتى سكن روعها، ففكرت فيما تستطيعه في سبيل إنقاذ حفيدتها، ووقعت يدها على حُقِّ الزمرد الذي تحمله، فخطر لها أن تستخدمه في هذا السبيل. وكان الناس يتحدثون منذ أيامٍ بمجيء زبيدة أم جعفر والدة الأمين من الرقة ومعها خزائن الرشيد، فقالت في نفسها: «لعلي إذا سرت إليها واستعطفتها باسم زوجها أن أُثير عاطفتها بما في هذا الحُق من آثار الرشيد فتتوسط عند ابنها لإطلاق سراح حفيدتي.» ولما خطر لها ذلك شعرت براحةٍ وطمأنينة، واستشارت دنانير في الأمر فاستحسنت رأيها وقالت: «لم يَبقَ لنا باب نطرقه غير هذا، ولعل هذه المرأة إذا رأت آثار زوجها وسمعت ما أصابكِ من البلاء تنسى حقدها. سِيري على بركة الله.» فخرجت عبادة في ظُهر ذلك اليوم تقصد إلى دار القرار قصر زبيدة، وكان الأمر صعبًا عليها ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل إنقاذ ميمونة. وركبت من قصر المأمون حراقة أوصلتها إلى قُرب دار القرار، فهبطت هناك ومشت بثوبها الأسود تتوكأ على عُكازها وقد بدا الانكسار في مُحيَّاها، والانكسار يبدو في الشيوخ مضاعفًا. وبلغت باب القصر عند الأصيل، فرأت عنده جماعة من الشاكرية وقوفًا بأسلحتهم، فوقفت وحيَّتهم فلم ينتبه إليها أحد، فاقتربت من أحدهم وقالت: «لعل مولاتنا أم جعفر في القصر؟» فأجابها بقوله: «ماذا تريدين منها؟» قالت: «أريد أن أراها وأتبرَّك بلثم ثوبها.» قال: «إنها لا تأذن لأحدٍ الآن، وإذا كنتِ تلتمسين إحسانًا فليس اليوم موعده.» قالت: «كلا يا ولدي، لا أريد شيئًا من ذلك ولكنَّ لديَّ حديثًا أريد أن أقصَّه عليها.» قال: «وما هو حديثك يا خالة؟» قالت: «إنه حديث خاص بها، فأدخِلني عليها إذا شئت.» فاستخفَّ الرجل بقولها والتفت إلى رفقائه وكانوا وقوفًا يسمعون ما دار بينهما، فتقدَّم شاكري آخر وقال لها: «أتريدين المثول بين يدي مولاتنا أم الخليفة نفسها؟» قالت: «نعم أطلب الدخول على أم الخليفة السيدة زبيدة. وأرجو أن تستأذن لي في ذلك ولا تماطلني؛ فقد أتعبني طول الطريق ولا صبر لي على الوقوف!» فقال: «أراكِ مسكينة وسأطلب لكِ إحسانًا من قَيِّمة القصر وأكفيكِ مئونة الدخول على مولاتنا أم جعفر؛ لأنها يندر أن ترى أحدًا.» فأثَّر كلامه في نفسها، وتذكرت سابق أيامها وكيف أصبح حالها لا يدل على غير الاستجداء، فقالت وهي تكاد تَشرق بدموعها: «لست أطلب إحسانًا يا بُني، ولكنَّ لديَّ أمرًا يهم مولاتنا أم جعفر أريد عرضه عليها، فاستأذن لي ولك الفضل.» فلما رأى الشاكري بكاءها رقَّ لها ودخل للاستئذان، وظلت هي بالباب وقد تعبتْ فقعدتْ على حجر. وبعد هُنيهة عاد الشاكري وهو يقول: «سألتني عن اسمك.» فتحيَّرت بماذا تجيب وفكرت قليلًا ثم قالت: «اسمي أم الرشيد.» فأجفل الجميع وأخذوا يتفرَّسون فيها وهم لا يعرفونها، واستغربوا هذا الاسم فقال أحدهم: «اسمك أم الرشيد؟ وأيَّ رشيد تعنين؟» قالت: «ألم تسألني عن اسمي؟ قل لها إن أم الرشيد بالباب تلتمس الدخول.» فعاد الشاكري ومكثت هي في انتظاره وقد سرَّها أن تتقدم إلى زبيدة بهذا الاسم فلعله يكون فألًا حسنًا. وما عتم الشاكري أن عاد وهو يقول: «تفضلي يا خالة، ادخلي.» فدخلت في أثر الشاكري وهي تتوكأ على عُكازها حتى تجاوزت الحديقة إلى باب القصر، ونزعت نعالها ودخلت في الدهليز فانتهت منه إلى غُرفٍ يستطرق بعضها إلى بعض، والجواري المقدودات يخطرن بين يديها وهن ينظرن إليها ويَعجبن من حالها. أما هي فظلت تمشي مُطرقة حتى وصلت إلى قاعةٍ كبيرة فاحت منها رائحة الطِّيب، فلما أطلت على القاعة رأت سقفها قبة مصنوعة من خشب الصندل، مَكسوَّة بالوشي والسمور وأنواع الحرير بألوانه الزاهية، ويتدلى على جدرانها ستائر مطرزة بأبياتٍ من الشعر، معلقة بكلاليب من الذهب. وفي أرض الغرفة بساط واحد من السجاد الثمين عليه من الوسائد والكراسي ما يُبهر النظر ولكنه لم يُبهر عبادة؛ لأنها ألفت مثله في قصر ابنها أيام نعيمها وإقبال سعدها، وإنما كان همها اليوم أن تنال رضى زبيدة لتنقذ حفيدتها. فلما وصلت إلى الباب رأت زبيدة في صدر القاعة متكئة على وسادة من الحرير المُوشَّى فوق سرير من الآبنوس المرصَّع، فتركت عصاها خارجًا وألقت التحية باحترامٍ ونظرت إلى زبيدة ووقفت تنتظر أمرها بالدخول أو الجلوس. وكانت زبيدة مرتديةً ثوبًا سماوي اللون يأخذ بالأبصار، وقد تعصَّبت بعصابة مُرصَّعة بشكل الطاوس من الحجارة الكريمة على غير عادتها، كأنها فعلت ذلك لتزيد في النكاية بعبادة المسكينة. فظلت هذه واقفة وزبيدة تلهو بجامٍ من العاج فيه فُتات المسك، وتساقط بعضه فأخذت في التقاطه فظنت عبادة أنها لم تنتبه إليها وسعلت، فرفعت زبيدة بصرها إليها شزرًا وقالت: «من هذا؟» فاستأنست بالسؤال ومشت نحوها وقالت: «أَمَتك عبادة.» ولما وصلت إلى وسط القاعة نظرت إليها زبيدة وقلبت شفتها السفلى ورفعت حاجبيها استخفافًا وقالت: «عبادة؟ قيل لي إن أم الرشيد تطلب الدخول عليَّ؟» قالت: «هي نفسها جاريتك يا مولاتي. انظري إلى وجهي فعسى شحوبه لا يُنسيك صاحبته.» فضحكت زبيدة وقالت: «عرفتك يا عبادة! ألا تزالين على قيد الحياة؟» فاستغلظت عبادة هذا السؤال لِما فيه من الاحتقار، ولكنها كظمت وقالت: «نعم، لا أزال حية لسوء حظي.» فقهقهت زبيدة وقالت: «ذلك جزاء العقوق يا عبادة، اجلسي.» فجلست وهي ترتجف من الغيظ وندمت على مجيئها، ولكنها تذكرت ميمونة وأنها جاءت لإنقاذها فهان عليها الأمر وقالت: «لم أُنكر جميلًا يا مولاتي، ولكن لله الأمر، يفعل ما يشاء.» قالت: «صدقتِ، لله الأمر، وهو يجزي كل نفس بما قدمت. أرأيت عاقبة سعيكِ وسعي زوجك وأولادك في نزع الخلافة منا؟ أرأيتِ عاقبة الغدر؟ أرأيتِ عاقبة الجرأة على مولاكم؟ أرأيتِ كيف رد الله كيدكم في نحركم؟ لقد كنتُ أحسبكِ قضيتِ كمدًا من الثكل، فإذا أنت حية تَسعَين!» وكانت عبادة تسمع كلام زبيدة مُطرِقة، فلما انتهت قالت لها: «إنما جئت الآن يا مولاتي مستعطِفة، فإنك والدة وتعرفين انعطاف الوالدات، وقد صرتِ جدة وتعرفين انعطاف الجدات.» فقطعت كلامها وقالت: «لَشدَّ ما أبطأ حُنو الوالدة والجدة؟ أين كان ذلك الحُنو لما أراد ابنكِ المقتول أن يخلع ابني من ولاية العهد ليجعلها لابن مراجل.» تعني المأمون. فقالت وقد جاشت أحزانها في صدرها وكاد الكظم يخنقها: «قلتُ لكِ يا مولاتي إنما جئتكِ مستعطِفة، ولا أستعطفكِ بحسنةٍ أتيتُها وإنما أتقدم إليك مستشفِعة بصاحب هذه الآثار.» وأخرجت حُقَّ الزمرد ومفتاحه الذهب من جيبها، ونهضت ومدت يدها نحوها لتُعطيَها إياه. فتباطأت زبيدة في تناوله مبالغةً في الازدراء، تاركةً يد عبادة ممدودة كأنها سائل يستعطي. وأخيرًا قالت لها زبيدة: «وما الذي يحويه من الآثار؟» فأخذت عبادة تعالجه بالمفتاح ويداها ترتعشان من ضعف الشيخوخة وشدة التأثُّر، وتقدمت به إلى زبيدة، فإذا في الحُق خصلة من شعر زوجها وبضع أسنان من أسنانه وقد فاحت منها رائحة المسك، فقالت: «ما هذا الشعر والأسنان؟» قالت: «إنها شعر مولانا الرشيد وأسنان طفولته. ألم أكن ظِئره؟ ألم أرضعه؟ ألم يكن يدعوني أم الرشيد؟ بهذه الآثار أتوسَّل إليكِ أن تسمعي شكواي وترحمي ضعفي، ليس من أجلي أنا، بل من أجل فتاة بريئة من كل ذنب، وكانت في عهد تلك الأحداث طفلة ناشئة في مهاد الرغد والرخاء، وهي الآن يتيمة طريدة لا ملجأ لها ولا نصير، وحياتها أو موتها بين شفتيكِ. بالله اعطفي عليها بكلمة تُنقذها من الموت.» قالت ذلك وشرقت بدموعها وناهيك بعجوزٍ تبكي وتستعطف. فلما سمعت زبيدة كلامها ورأت ثنايا زوجها وشعره كاد الحُنو يغلب على عواطفها، فسكتت هُنيهة وعبادة تراقب حركاتها ولم تشكَّ في أنها أصغت إلى ندائها. على أن زبيدة أغلقت الحُق وقالت لها: «ألم تتقدمي بهذه الآثار إلى الرشيد في حياته؟» قالت: «بلى، فعلت.» قالت: «ولماذا تقدمتِ بها إليه؟» قالت: «تقدمت إليه بها ليعفوَ عن زوجي يحيى.» قالت: «وماذا كان جوابه؟» فحارت في الجواب ولكنها لم ترَ بُدًّا من الصدق فقالت: «إنه ردَّني خائبةً يا مولاتي.» قالت: «وهل ينبغي أن أكون أنا أَعرَف منه لحقك يا عبادة؟» قالت: «إني تقدمت إلى الرشيد أطلب حقًّا كنت أحسبه لي عليه، وأما الآن فإني أستعطفكِ وألتمس رحمتكِ ولا حق لي. أطلب إحسانك على فتاة لا شأن لها في أمرنا. أما أنا فإذا ظننتِ أني أذنبت إليكِ فهذا عنقي بين يديكِ ولا آسف على حياتي.» فقالت: «وأيَّ فتاة تعنين؟» فاستبشرتْ بسؤالها وقالت: «أعني فتاةً هي بقية ذلك القتيل السيئ الطالع، ساقها شقاؤها إلى الفرار مما أصاب أباها وأعمامها وجدها فبقيت على قيد الحياة وظللت أنا حية لأعولها وأتولى تربيتها، فقضينا السنين ونحن نتستر ونعيش عيش المتسولين وقبِلنا حكم القضاء فينا، فساقت لنا الأقدار أناسًا وشَوا بنا إلى أمير المؤمنين وحملوا الفتاة المسكينة إلى قصره، فخِفتُ أن يغروه بقتلها ولم أجد لي بابًا أطلب الفرج منه سواكِ؛ فأتيتكِ بهذه الآثار لعلها تُعطفكِ على تلك المسكينة، وعسى كلمة يكون لها فيها الحياة فيأمر أمير المؤمنين بإخراجها فأذهب بها وأقضي بقية الحياة معها في كوخٍ حقير أو أغادر هذه البلاد إلى حيث تأمرين. بالله ترفقي. أسألكِ برأس ابنكِ وبحُنوكِ عليه إلا أصغيتِ لتذللي. وأنتِ تعلمين أني لم أستعطف أحدًا في عمري حتى ولا الرشيد رحمه الله.» ولم تعد تستطيع إمساك نفسها عن البكاء. وكانت عبادة تتوقع أن تسمع منها كلمة عطفٍ فإذا هي تسألها: «وما اسم الفتاة؟» قالت: «ميمونة يا مولاتي.» فابتسمت وحول مبسمها هالة من الحقد والنقمة وقالت: «ميمونة؟! جئت تطلبين النجاة لميمونة؟ لماذا لم يُنجِّها حبيبها الخراساني شاهر سيف النقمة على آل عباس؟ هذا الذي لو أُتيح له أن يشرب دمنا لشربه!» فلما سمعت قولها أُرتِجَ عليها ودهشتْ لاطلاعها على سرٍّ كانت تحسبه مكتومًا عن كل إنسان، وقد فاتها تَفشِّي الجاسوسية في ذلك العصر، وأن لكل إنسان جاسوسًا على صاحبه، حتى الأب يتجسَّس على ابنه والابن يتجسَّس على أبيه. وكان لزبيدة عيون في بيت المأمون يأتونها بالأخبار عن كل حركة فيه، وقد علمت بخبر الخراساني بالأمس، وعزمت على أن تُخبر ابنها به ولم تعلم أنه غادر بغداد ونجا من حبائلها. أما عبادة فجمد الدم في عروقها ولم تُحِرْ جوابًا؛ فظلت ساكتةً ثم خافت أن يُعَد سكوتها موضعًا للتهمة فأرادت التنصُّل منها على قدر الإمكان فقالت: «لم أفهم مرادكِ يا مولاتي. من هو ذلك الخراساني؟ وما شأننا والدسائس ونحن لا نكاد نملأ جوفنا طعامًا؟ بالله اقبلي رجائي فقد صغرتْ نفسي وهانتْ عليَّ، وكل ما أطلب منكِ إخراج هذه الفتاة من قصر أمير المؤمنين، ومهما تأمري بعد ذلك أفعل.» فحولت زبيدة وجهها عنها ومدت يدها بالحُق إليها وقالت: «كفى يا عبادة. خُذي هذا الحق لعله ينفعك في غير هذا السبيل. وإذا كنتِ في حاجة إلى عطاءٍ من مال أو طعام أعطيناكِ.» فأيقنت عبادة ألا خير يُرجى من زبيدة وأنها تريد أن تصرفها، فتناولت الحُق وقالت: «كنت أقبل عطيتكِ يا سيدتي لو كان لي مطمع في الحياة، فأستغفر لذنبي على ما بدا من جسارتي، وأرجو أن يُديم الله سعدكِ ويؤيد عرش ابنكِ.» قالت ذلك وتحوَّلت تهمُّ بالخروج وهي تتوقع أن يلين قلب زبيدة بما سمعته، فوصلت إلى باب القاعة ولم تسمع صوتها ولا رأتها تحركت من مكانها؛ فأكبرت أن تخرج من بين يديها ذليلةً مغلوبةً على أمرها؛ فعادت إليها أَنَفتها وتذكرت حالها على عهد ابنها وما أصابها من المصائب بسبب زبيدة، وما رأته من قساوة قلبها وشماتتها بذُلها؛ فالتفتت إليها فإذا هي لا تزال جالسةً على السرير وعيناها على الوسادة تتشاغل بالتقاط فتات المسك عنها وحول شفتيها ابتسامة تُغني عن شرح عواطفها؛ إذ جمعت بين الاستخفاف وعز الانتصار وأَنَفة الكبراء وشماتة الحاقدين. وكانت زبيدة تريد رجوع عبادة لأنها لم تشفِ كل غليلها منها، ولم تُجِبها ساعة الوداع رغبةً في رجوعها، وقد لذَّ لها الحديث مع امرأةٍ ساعدتها الأقدار عليها حتى سحقتْها سحقًا بعد أن قتلت ابنها وأذلت زوجها وسائر أهلها وشتتت شملهم واستباحت أموالهم وضِياعهم وأصبح اسمهم فزعة يخافها المنتمون إليهم. وكان الرشيد قد نكب البرامكة برأي زبيدة وتحريضها، فلذَّ لها النصر، وليس ألذَّ لقلب الإنسان من النصر. ولو حللت أسباب السعادة تحليلًا دقيقًا لرأيتها ترجع إلى النصر أو ما في معناه؛ فالمنتصر في الحرب يتمتع بالنصر على أبسط معانيه، وناهيك بلذة القائد عندما يرى جيشه ظافرًا وجيش عدوه مدحورًا. وطلاب المال لا يجمعونه خوف الجوع؛ فإن الإنسان يُشبِعه ما لا يَعجز أفقرُ الفقراء عن الحصول عليه، وإنما يجمع المال ليستعين به في تنفيذ أغراضه أو تقوية نفوذه في الدولة أو الهيئة الاجتماعية، وذلك هو النصر أو الفوز. وطلاب الشهرة على اختلاف وجوهها إنما يطلبونها الْتماسًا لمثل هذه اللذة؛ فطالِب الشهرة من طريق السياسة يشعر إذا مدحه الناس على عملٍ أُعجبوا به أنه تغلب على آرائهم بقوة عقله، وأن إعجابهم به إنما هو إقرار بتقصيرهم عنه في ذلك السبيل؛ وطالِبها من طريق العلم أو الشعر أو غيرهما من المهن القلمية يلذُّ له إعجاب الناس بنفثات يراعه أو بنات أفكاره مثل شعور القائد بانتصاره على أعدائه؛ فلا عجب إذا لذَّ لزبيدة انتصارها الكبير على البرامكة، وخاب رجاء عبادة وتذللها لديها لاستغراقها في تلك اللذة حتى نسيت عاطفة الشفقة أو تناستها، أو لعلها أبعدت تلك العاطفة عمدًا. فلما التفتت عبادة إليها ظلت هي مشتغلة بالتقاط المسك عن الوسادة وقلبها يخفق توقعًا لما عساه يبدو من تلك الوالدة المقهورة المغلوبة على أمرها؛ فإذا هي تقول لها: «أأخرج من بين يديكِ ولم أنل جوابًا منكِ غير الشماتة والاستخفاف، وقد تقدمتُ إليكِ بحُرمة زوجك المدفون في طوس فاكتفيتِ بقولك إن الله إنما أوصلنا إلى هذه الحال جزاء ما جنته أيدينا؟ وقد سرني أنكِ تعرفين ذلك، وأن الله قادر على مثله في كل زمان ومكان.» فنظرت زبيدة إليها فإذا هي قد تغيرت سحنتها من الاستعطاف والتذلل إلى الغضب والنفور، واحمرَّت عيناها وجفَّ دمعهما وارتجفت شفتاها وارتعشت يداها ورجلاها حتى كادت تقع على الأرض لولا تجلُّدها. وكانت قد تناولت عُكازتها فتوكأت عليها ولم تزد على ما قالته وأخذت تبحث عن نعلها لتلبسها وتخرج، فصاحت بها زبيدة: «عبادة!» فتغافلت وظلت سائرةً في الدهليز، فصاحت بها ثانية: «عبادة يا أم الرشيد!» فلما سمعتْها تناديها بهذه الكنية استبشرت وتراجعت وكظمت ما في نفسها لعلها تستطيع أن تنفع ميمونة، فالتفتت وإحدى يديها على العكازة والأخرى على خصرها كأنه تتماسك من الضعف، فوقعت عيناها على عينَي زبيدة وهي ترجو أن تقرأ شيئًا جديدًا يشفُّ عن انعطافٍ أو حُنو، فرأتها لا تزال تبتسم ابتسامتها المعهودة وقد زادها رهبة ما بدا من عينيها من دلائل الغضب، فظلت عبادة بضع لحظات تتفرَّس في عينَي زبيدة وتقرأ الغضب فيهما، ولكنها غالطت نفسها رغبة في إنقاذ ميمونة، وإذا بزبيدة تقول بصوت مختنق: «أتدعين على ابني بالقتل؟» قالت: «معاذ الله يا سيدتي! أطلب إليه تعالى ألا يُريَكِ مكروهًا فيه، بل أتوسل إليه أن يحفظ كل أبناء الناس لعل حفيدتي المسكينة أن تصيب طرفًا من عنايته.» ثم تغيَّر صوتها واختنق. فقطعت زبيدة كلامها وقالت: «أكنتِ تطلبين ذلك من قبل؟» فأدركت عبادة أنها تشير إلى أيام عزها قبل مقتل ابنها فقالت: «كنت أرجو ذلك ليبقى ابني، ولكنني لم أكن أقوله بحرارة قلب ولهفة كما أفعل الآن لأني لم أكن جرَّبت الذل بعد. كنت مثلك يا مولاتي لا أعرف من الدنيا إلا نعيمها وراحتها، وكنت أَحسَب الدهر يدوم لي، فإذا هو قد أذاقني ما لم يُسمع بمثله في الأرض.» فأدركت زبيدة أنها تُعرِّض بما تخافه عليها من النكبة، فكرهت أن تسمع شيئًا يُكدرها إذا هي أطالت الحديث معها، فوقفت وأخذت تتشاغل بإصلاح عقدها والعصابة التي حول رأسها كأنها تتأهَّب للخروج؛ فاكتفت عبادة بما قالته وتحوَّلت وخرجت إلى قصر المأمون.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/17/
الفضل بن سهل
فلنترك أهل بغداد على ما هم عليه لنرى ما كان من أمر بهزاد بعد رحيله؛ فقد ذكر في كتابه إلى ميمونة أنه مسافر إلى خراسان، وأنه أوصى سلمان بما عليه أن يصنعه في أثناء غيابه. فغادر بغداد على فرسه وقد شدَّ ذلك الصندوق إلى السرج، وسلك أقرب الطرق، وكان إذا بات في خانٍ أو نزل به ادَّعى أنه طبيب معه صندوق العقاقير. وبعد أيام قطع في أثنائها جبالًا وسهولًا وأوديةً وأنهارًا، أشرف على مدينة «مرو الشاهجان» عاصمة خراسان في ذلك العهد، وهي في منبسط من الأرض، حولها سور مربع الشكل، وفي وسطها قلعة ضخمة يقال لها في اصطلاحهم «القهندز»، تظهر للمُطِل على مرو من بعيد فيحسبها بلدًا، وكانوا يغرسون على سطحها الأشجار والمباقل كأنها بستان على رأس جبل. ولم يكن ذلك المنظر ليثير بهزاد؛ فإنه نشأ في هذه المدينة وشب فيها، فدخل توًّا يلتمس منزل الفضل بن سهل. وكان الفضل بن سهل من سرخس، وقد نشأ مجوسيًّا ودرس علم النجوم ثم أدخله يحيى البرمكي في خدمة الدولة في أيام الرشيد ولم يُسلم إلا سنة ١٩٠ﻫ على مذهب الشيعة. وإنما أسلم رغبةً في نصرة الفرس بخراسان. وتعهَّده يحيى برعايته حتى صار من خاصته ثم جعله قهرمانًا له. ثم توسم الفضل في المأمون نجابةً وتعقُّلًا فتوقع أن تصير الخلافة إليه فلزمه وخدمه وتقرَّب منه. وكان المأمون يُجله ويُقدمه؛ فأصبح الفضل لا يطمع في أقل من الوزارة. ويُحكى أن مؤدب المأمون قبل الخلافة لما رأى جميل رأيه في الفضل وإكرامه إياه نقل ذلك إلى الفضل وقال له: «لا أستبعد أن يحصل لك منه ألف ألف درهم.» فاغتاظ الفضل وقال: «والله ما صحبته لأكتسب منه مالًا قلَّ أو جلَّ، ولكني صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب!» وكان الرشيد لما بايع لولديه بولاية العهد جعل للأمين العراق والشام إلى آخر المغرب على أن يكون الخليفة بعده، وجعل للمأمون خراسان وسائر المشرق على أن يتولى الخلافة بعد أخيه الأمين. وكل ذلك بتدبير جعفر وغيره من أحزاب الشيعة، وفي جملتهم الفضل بن سهل. ولما أراد الرشيد سنة ١٩٢ﻫ أن يسير إلى خراسان، أمر ابنه المأمون أن يبقى في بغداد حتى يعود. وكان الرشيد مريضًا فخاف الفضل أن يموت الرشيد في الطريق فيذهب سعيه سُدًى؛ فجاء إلى المأمون وقال له: «لست تدري ما يحدث للرشيد، وخراسان ولايتك، ومحمد الأمين مُقدَّم عليك، وليس مستبعدًا أن يخلعك وهو ابن زبيدة وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها كما تعلم؛ فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه.» فطلب المأمون ذلك من أبيه فامتنع أولًا ثم أجاب. فسار المأمون مع أبيه ومعهما الفضل، وكان اهتمام الفضل منصرفًا أثناء الطريق إلى تأييد أمر المأمون، فأخذ له البيعة على كل من في عسكر الرشيد من القواد وغيرهم، وأقرَّ له الرشيد بجميع ما معه من الأموال. ثم نزل المأمون «مرو» قصبة خراسان، واشتد المرض على الرشيد وهو في «طوس» والأمين في بغداد وله عيون مع الرشيد أشدهم غَيرة عليه الفضل بن الربيع وزير الرشيد بعد البرامكة. فلما بلغ الأمين اشتداد المرض على أبيه بعث إلى ابن الربيع وغيره يحثهم على بيعته. فلما مات الرشيد هناك سنة ١٩٣ﻫ، احتال ابن الربيع على من كان في ذلك العسكر وحرَّضهم على اللحاق بالأمين فأطاعوه رغبةً في الرجوع إلى أهلهم في بغداد، وأغفلوا العهود التي أُخذت عليهم للمأمون، وحملوا ما كان في عسكر الرشيد إلى الأمين وتمَّت له البيعة. فلما بلغ المأمونَ موتُ أبيه ورجوع رجاله إلى أخيه بالأحمال والأموال وقد نكثوا عهده، خاف على نفسه فجمع خاصته بمرو وشاورهم في الأمر مظهرًا لهم ضعفه وأنه لا يقوى على أخيه، فنشطوه ووعدوه خيرًا. ولبث الفضل يترقب الفرص لنيل بُغيته التي أسلم لأجلها. وكان من جملة مساعيه قبل موت الرشيد أنه أنفذ بهزاد طبيبًا إلى بيت المأمون، ومعه سلمان خادمًا له وهو من رجال الخرمية أيضًا. وكانت المراسلات السرية دائرةً بين بهزاد والفضل، فلما مات الرشيد واستأثر الأمين بالخلافة وآن العمل في خراسان ركب بهزاد إليها ليكون مع الفضل. وكان الفضل يوم وصول بهزاد إلى مرو جالسًا في قصره مع أخيه الحسن، فجاءه الحاجب بأن بهزاد بالباب فأمر بإدخاله، فدخل وهو لا يزال بلباس السفر وفي يده الصندوق، فوضعه بالباب وسلَّم، فرحب به الفضل والحسن وأجلساه في صدر القاعة. وكان الفضل صفراوي المزاج رقيق البدن أصفر الوجه مع صحة ونشاط، وهو يومئذٍ في حدود الكهولة إذا نظرت إلى عينيه رأيتهما تنطقان بما في صدره من المطامع وما يضمره من المكايد وما يفكر في نصبه من الحبائل بهدوء ورباطة جأش. ولم يكن أخوه الحسن في مثل مزاجه ودهائه وكان أقرب إلى إظهار ما في نفسه وتجلي أغراضه في وجهه. فلما جلس بهزاد أخذ الفضل وأخوه يسألانه عما وراءه، فقص عليهما ما جرى؛ فأُعجبا بشجاعته وغيرته، ثم سأله الفضل رأيه في حزب الخرمية ببغداد فأجابه بقوله: «إنهم على دعوتنا لا يدخرون في سبيلها مالًا ولا نفسًا.» قال: «وكيف فارقت ذلك الغلام؟» يريد محمدًا الأمين. قال: «فارقته بين الكأس والطاس والجواري والغلمان.» فقال الحسن: «إن دولته ذاهبة لا محالة، ولكن …» فقال بهزاد على الفور: «ولكن ذلك لا ينفعنا إلا إذا أذهبناها نحن.» فضحك الفضل ضحك الظافر وقال: «وإنا لفاعلون إن شاء الله، إنما ينقصنا أن يستحكم الخلاف بين الأخوين حتى يستنصرنا هذا على ذاك فنشترط شرطنا.» فقال بهزاد: «لا تلبثون أن تسمعوا بذلك قريبًا بفضل صاحبنا سلمان. وإلا ذهب إسلامك عبثًا!» فشق هذا التصريح على الفضل؛ لأنه مع اشتهار ذلك عنه واشتراك بهزاد معه فيه، لم يكن يرضى أن يُقال عنه إنه أسلم رغبةً في الدنيا، أو لعله بعد أن أسلم احتيالًا أصبح يرى الإسلام حقًّا. ولكنه سكت لأنه كان يريد أن يُثبت قدم بهزاد في العمل معه لما أظهره من الكفاءة، ثم نظر إلى أخيه الحسن كأنه يكتم أمرًا يتردد في التصريح به، ففهم غرضه وابتسم ونظر إلى بهزاد وبقي ساكتًا، فابتدره الحسن بالكلام قائلًا: «إننا نرى لك فضلًا كبيرًا في نصرة الفرس، وسيأتي يوم تنال فيه نصيبك من الفوز.» فقطع الفضل كلامه قائلًا: «بل يناله اليوم؛ فهل نجد أكفأ منه لبوران.» يعني بوران بنت الحسن بن سهل، وكانت بارعة الجمال يتحدث أهل خراسان بجمالها وتعقُّلها. فلما سمع بهزاد اسمها أجفل؛ لأنه مقيد القلب، ولكنه لم يكن يستطيع رفضًا. وكاد الاضطراب يظهر في وجهه ولكنه تجلد وحنى رأسه شاكرًا وقال: «إنها نعمة لا أستحقها، ولم أعمل عملًا يُخوِّلني هذا الإنعام، ونحن لا نزال في أوائل الطريق!» فاستحسن الفضل عُذره ولم يخطر له ببالٍ أنه يتجنب الزواج ببوران وليس في كبراء خراسان واحد لا يتمنى رضاها وقال: «وتكون قد تدرجت في مناصب الدولة.» فقال بهزاد: «اعذرني يا سيدي وأعفني من المناصب؛ فأنا أخدم أمتي من طريق آخر.» ثم تحفَّز للوقوف وقال: «وأستأذن الآن في الذهاب إلى منزلي.» قال ذلك ومشى إلى الباب وتناول الصندوق وهمَّ بالخروج، فاستوقفه الفضل قائلًا: «ما هذا الصندوق؟» قال: «إنه صندوق العقاقير يا مولاي.» وخرج من القصر فركب فرسه وأوغل في المدينة مخترقًا أَزِقتها الضيقة حتى بلغ إلى بعض أطرافها وهو غارق في بحار التأمل، وقد ساءه ما ذكره الفضل عن بوران لعلمه بأن الفضل يعني تزويجه بها، وقد فاته أنه إنما قال ذلك ترغيبًا له في مناهضة العباسيين، ولو علم الفضل حقيقة بهزاد لرآه أرغب أهل الفرس في مناهضتهم. فهاجت أشجانه، وتذكر ميمونة وكيف تركها في بغداد والعداء لا يلبث أن يستحكم بين الأخوين وتنشب الحرب بين البلدين، ولكنه اطمأن لإقامتها بقصر المأمون. وأنْسته هذه الهواجس طريقه فانتبه فإذا به قد جاوز المكان الذي يقصد إليه، فدار حتى أتى زقاقًا انتهى منه إلى بابٍ ترجَّل عنده، ووقف والصندوق بيده وقرع الباب قرعًا خاصًّا ولبث واقفًا، ففُتح الباب وخرج منه عبد طويل جاوز مراحل الشباب، فلما وقع نظره على بهزاد ترامى على يديه وأخذ يُقبِّلهما ويقول: «سيدي، سيدي، أنت جئت؟ لقد طال غيابك!» قال ذلك وأراد أن يأخذ الصندوق منه فأباه عليه ومشى، فأدخل العبد الفرس الإسطبل وأقفل الباب وسار بين يدي بهزاد مهرولًا فرحًا حتى وصلا في آخر الدهليز إلى فناءٍ واسع، فتحوَّلا من بعض جوانبه إلى غرفةٍ في صدرها عجوز طاعنة في السن قد شاب شعرها وتضنَّى جبينها وطال حاجباها حتى غطيا عينيها وقد تزمَّلت بمطرف وجلست الأربعاء، فلما أطلَّ العبد عليها صاح: «مولاتي، جاء سيدي، جاء سيدي.» فبُغتت وصاحت: «جاء؟ أين هو؟» وكان بهزاد قد وصل إليها فجثا عند قدميها وقبَّل يدها، فرفعت بصرها إليه وعانقته وضمَّته إلى صدرها وأخذت تُقبِّله وهي تبكي وتقول بصوت مختنق: «أهلًا بولدي وحبيبي، أهلًا بك. أنت جئت يا كيفر، لقد طال انتظاري يا بُني وخفت أن أموت قبل أن أراك وأفي بنذري.» قالت ذلك وخنقتْها العبرات. أما هو فتجلد وقال: «ما الذي يُبكيك يا سيدتي؟ فلنحمد الله على اللقاء.» فتراجعت وأمسكت عن البكاء وقالت: «إني أحمد الله حمدًا كثيرًا يا بُني على رجوعك سالمًا. من أين أنت آتٍ الآن؟» قال: «من بغداد.» قالت: «وهل وُفقت إلى ما تريد؟» قال: «وُفقت وجئت بما تطلبين.» قالت وقد دهشت: «جئت برأسه؟» قال: «نعم يا سيدتي.» قالت: «أين هو؟» فأشار إلى الصندوق وقال: «هنا.» فمدت يدها لتتناول الصندوق وقد نشطت كأنها استعادت شبابها وقالت: «في هذا الصندوق؟ افتحه. أرِني رأس مولاي. أرني إياه لأتمتع برؤيته قبل انقضاء أجلى!» فاعتدل في مجلسه، والتفت إلى العبد فانصرف من الغرفة. فلما خلا إلى العجوز أخذ يعالج الصندوق حتى فتحه وأخرج جمجمة وضعها بين يديها وقد فاحت منها رائحة التراب المتعفن، فنظرت إلى الجمجمة بعينين محملقتين وصاحت: «هذا هو رأس أبي مسلم. هذا هو رأس أبي. إنك أحييته يا بُني.» وأخذت تُقبِّل الرأس وقد شرقت بدموعها. أما هو فكاد يبكي معها ولكنه تجلد وقال: «وستفرحين يا سيدتي متى انتقمت له!» قالت وقد ملكت أمرها رغم ما بدا من ارتعاش أناملها: «نعم، يجب أن تنتقم له، وأنا إنما دعوتك «كيفر» رغبةً في ذلك. إن اسمك يا بُني معناه الانتقام. إنك ستنتقم لهذا المقتول ظلمًا. وكيف عثرت عليه وقد بلغنا أنهم رموه في دجلة؟» قال: «كنت أظن ذلك، ولكنني عرفت شيخًا كان حاضرًا مصرعه فدلني على مدفنه في المدائن وأعانني على إخراجه. هذا هو رأس أبي مسلم بلا ريب، تفرَّسي فيه جيدًا.» فأعادت النظر إلى الرأس وعيناها تغشاهما الدموع وقالت: «نعم، هو بعينه، يدلني على ذلك خفقان قلبي. وهل يخفى عليَّ رأس أبي؟ نِعم الرجل أنت يا كيفر! إنك ستنتقم له … هل آن وقت الانتقام؟» قال: «قد آن يا سيدتي. وآن أن تَقصِّي عليَّ خبر نسبي وتمنحيني الوديعة التي وعدتِني بأن أستخدمها في الانتقام.» قالت: «إنها حاضرة يا ولداه، تمهَّل قليلًا. لا بد من أن أقصَّ عليك خبرها أولًا … اجلس، ألا تتناول طعامًا!» قال: «كلا يا سيدتي.» ••• نهضت العجوز من مكانها منتصبة القامة كأنها في عنفوان الشباب وضغطت كتف بهزاد لتمنعه من النهوض معها، ثم مشت إلى خزانةٍ في جانب الغرفة وأخرجت من جيبها مفتاحًا عالجت الخزانة به حتى فتحتها وهو ينظر إليها بلهفة، فأخرجت لفافة مستطيلة من الخز ورجعت بها فوضعتها بين يدي بهزاد وقعدت وقالت: «أنت تعلم أني فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني؟» قال: «نعم.» قالت: «ويعتقد الناس وأنت منهم أنك رُبِّيت في حِجري. لا تعرف أبويك ولا يعرفهما أحد سواي.» قال: «صدقتِ.» قالت: «إن جماعة الخرمية يكرمونني لأني من دم أبي مسلم، ولكنهم لا يعلمون أنك أنت من دمه أيضًا.» فصاح قائلًا: «أنا من دم أبي مسلم؟ وكيف ذلك؟» قالت وهي تبتسم: «لأنك ابني.» قال وقد أخذته الدهشة: «ابنكِ؟ أنا ابنكِ؟» قالت: «نعم يا ولدي. إنك حشاشة كبدي.» وضمَّته إلى صدرها وقبَّلته. فقبَّل يدها وقال: «وكيف؟» قالت: «لأني تزوَّجت ولا يعلم الناس أني وضعت ولدًا من أبيك فيزعمون أنك غلام فقير احتضنتُك وربَّيتُك.» فاضطرب بهزاد والتبس عليه الأمر فقال: «وكيف إذن؟ كيف أنا ابنك؟» قالت: «لا تعجب. إن أباك محرز بن إبراهيم توفاه الله وأنا فيما يقرب من سن اليأس وظننتُني عاقرًا، ولكنني لما تُوفِّي كنت حاملًا بك، وعند الوضع أخفيت خبرك حينًا ثم أظهرتُ أني احتضنتُك وربَّيتك. ولما كبرت غرست حب جدك أبي مسلم في قلبك وسمَّيتك «كيفر» أي الانتقام؛ لأن أولئك الظالمين حرقوا قلبي بقتل جدك غدرًا تلك القتلة الشنعاء. وما زلتُ منذ تزوجتُ وأنا أَعِد نفسي بولد أُكرِّس حياته للانتقام لأبي؛ إذ إنه لم يُخلف ابنًا ينتقم له، وطال انتظاري كما سمعت، ثم جئتَ أنت فنذرتُك لهذا الغرض، وقد حفظتُ من أثر جدك خنجرًا لم يخنه قط، وكان النصر مصباحًا له طالما تقلده.» قالت ذلك وحلت اللفافة وأخرجت منها خنجرًا استلتْه فلمع فرنده كالبرق، ودفعته إليه وقالت: «انتقِم لأبي مسلم بهذا الخنجر.» فتناول بهزاد الخنجر وقلبه بين يديه ثم قبَّله وأغمده وخبَّأه في جيبه وقال وهو يحسب نفسه في منام: «إني إذن حفيد أبي مسلم الخراساني. قد كنتُ أسعى للانتقام منه متأثرًا بما ربَّيتِني عليه، أما الآن فأنتقم له لأنه جدي!» ولما قال ذلك أبرقت عيناه وثارت الحمية في رأسه وتذكَّر ميمونة، كما تذكر رأسًا آخر فمد يده إلى الصندوق وهو يقول: «وهنا رأس آخر نحن ناقمون على قاتله.» وأخرج يده وهو قابض على ذلك الرأس من شعراتٍ في ناصيته يبس الدم عليها وقد جف جلد الوجه واسودَّ والتصق بالعظم حتى يحسبه الناظر إليه عظمًا أسود. فنظرت فاطمة إلى ذلك الرأس فلم تعرفه فقالت: «رأس من هذا؟» قال: «تفرَّسي فيه. ألم تعرفيه؟» فتفرست فيه وقالت: «لا، لم أعرفه.» قال: «رأس جعفر القتيل الثاني.» فصاحت: «رأس جعفر؟ جعفر بن يحيى؟» قال: «نعم يا أماه، إنه رأس جعفر المقتول غدرًا.» وحدثتْه نفسه أن يبوح لأمه بحبه لميمونة، ثم أطرق وهو يراجع في ذهنه ما سمعه من الغرائب في تلك الساعة. قالت: «وكيف عثرت عليه يا بُني؟» قال: «ألم تعلمي أن الرشيد غدر به وقتله ولم يكتفِ بقتله، بل قطع بدنه قطعتين نصب كلًّا منهما على جسرٍ من جسور بغداد ونصب الرأس على جسر ثالث. مُعرَّضة للحر والبرد والشمس والمطر سنتين حتى سافر الرشيد إلى الري، وعند رجوعه عزم على الإقامة بالرقة فمرَّ ببغداد وأمر أن تنزل جثة جعفر وتُحرق وكنت أثناء نصب الجثة قد وكلت إلى سلمان أن يسعى في الحصول على الرأس فلما أنزلوا الجثة احتال على الموكَّل بالإحراق وأخذ منه الرأس، فحفظتُه في هذا الصندوق حتى جمعت إليه رأس جدي.» فأُعجبت فاطمة بما أتاه ولدها، فقبَّلته وقالت: «ضع هذين الرأسين في الصندوق، وضع الخنجر معهما، حتى يأتيَ وقت تجريده فتتقلده وأنت فائز بإذن الله. ولكن اكتم ما ذكرتُه لك عن كل إنسان، وسيأتي يوم تتقلد فيه هذا الخنجر وتقتل به عدوك، تقتل به بعض أبناء قاتل جدك، ولكن احذر يا بُني أن تُظهر للملأ ما تعمله، فإذا دُعيت إلى الحرب فلا تكن قائدًا أو أميرًا.» فقال: «ذلك ما عزمت عليه؛ فإنه لا أرب لي إلا في الانتقام.» فتنهَّدت وقالت: «هل أرى ذلك اليوم وأشفي غليلي؟» قال: «أرجو أن تَريه وتفرحي بي.» قالت: «وستجتمع بالخرمية؛ فكن لديهم على ما يحبون؛ فهم يَعُدونك زعيمهم لأنك ربيبي، فابقَ معهم على هذه الحال لئلا يفسد عليك تدبيرك.» وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب وأُعِد الطعام فنهضا وأكلا. وبات بهزاد (أو كيفر) ليله وقد أحسَّ بنشاطٍ جديد كأن روح أبي مسلم دبَّت فيه، وتذكر ما يعلمه عن حال الخلافة في بغداد وضعف أمرها، فتوقَّع أن تسنح الفرصة للانتقام عندما يخلع الأمين أخاه، وكان واثقًا من ذلك وعالمًا بما دبره سلمان في هذا الشأن. ونهض في اليوم التالي فسار إلى حيث اجتمع ببعض كبار الخرمية في خلوتهم السرية؛ فشجعهم وأبلغهم ما شاهده من استعداد أنصارهم في بغداد لنصرتهم بما يملكون، وتباحثوا في تدبير الأمور والتربُّص ريثما يأتي الوقت للانتقام. وكان ينتظر ما يأتيه من أخبار سلمان ببغداد. أما بعد، فقد علمتَ ما نحن ساعون فيه وقد وُفقت إلى ذلك بالأمس؛ فإن الفضل بن الربيع لما قدم من العراق بعد أن نكث بعهد المأمون، أصبح خائفًا على نفسه منه إذا ولي الخلافة، وراح يعمل على تجنُّب هذا الخطر، وقد حثه رئيس المنجمين على إغراء الخليفة بخلع أخيه من ولاية العهد ليختصَّ بها موسى بن الأمين، وشاور الأمينُ في ذلك ابنَ ماهان، وهو كثير الثقة بهذا الشيخ المغرور، فأشار عليه بالمبادرة إلى تنفيذه، فقبل مشورته، وجعله شيخ الدعوة ونائب الدولة، ولا يبعد أن يُوَليَه قيادة الجيش، ولئن نشبت الحرب لتكونن قيادته شؤمًا على الخليفة، فابن ماهان مغرور لا ينفع. وقد علمت هذا الصباح أن الأمين كتب إلى عماله بالدعاء لابنه موسى بالإمارة، وأظنه يبعث إلى المأمون في خراسان يطلب إليه أن يخلع نفسه. فافعلوا ما ترونه، ونحن هنا في خيرٍ، والسلام. فلما أتى على آخر الكتاب انشرح صدره وشعر أنه تقدَّم خطوة كبرى نحو الغرض المطلوب، وكان وقتئذٍ في منزل أمه، فأطلعها على الكتاب فاستبشرت وقالت: «قد دنا الوقت يا بُني ولا أظن الفضل بن سهل يجهل ما يجب عليه في مثل هذه الحال، وإذا جهله فهل تجهله أنت أيضًا؟» قال: «أرشديني برأيكِ يا أماه.» قالت: «إذا استفحل الأمر بين الأخوين فعلى الفرس أن ينصروا المأمون فينصرهم ويرعى حقهم، ولكنهم إذا أرادوا بعد ذلك أن يتخلصوا من المأمون، ليستأثروا بالسلطان لأنفسهم بلا خلافة، فلا شك في أن سعيهم يذهب عبثًا؛ لأن العامة لا يُحكمون إلا بالدين.» قال: «ولكن معنا خليفة هو المأمون نحكم الناس به.» قالت: «وهل يخلد المأمون؟ إنه إذا مات انتقل الأمر إلى بعض أهله، وقد يكون خليفته راضيًا عنا وقد يكون ناقمًا علينا، كما كان الرشيد، فينتقم منا شر انتقام!» فوقع قولها من نفسه موقعًا عظيمًا، وأُعجب بدهائها وتذكَّر ما دار بينه وبين كبار الخرمية ليلة الإيوان في المدائن وقال: «وما الرأي إذن؟» قالت: «الرأي أن تهيئوا منذ الآن مستقبلًا ثابتًا لأعقابكم. فإذا لم يكن بُدٌّ من وجود خليفة عربي، فالعلويون أقرب مودةً لنا من سائر العرب؛ فاشترطوا على المأمون إذا نصرتموه أن يجعل الخلافة بعده لبعض العلويين (الشيعة) فيتم لكم ما تريدون. فاعرض هذا الرأي على الفضل بن سهل، وانظر ماذا يرى.» فلما سمع نصيحتها همَّ بيدها فقبَّلها، واستأذنها في الذهاب إلى الفضل ليُطلعه على كتاب سلمان ويباحثه في الأمر. ثم خرج وتوجَّه إلى القصر فبلغه عند الضحى، ودخل دون أن يعترضه الحاجب لعلمه بمنزلته عند مولاه، فمرَّ في الحديقة وسار توًّا إلى مجلس الفضل وأخيه وكانا يقيمان معًا بذلك القصر فرأى في طريقه قُبة وسط الحديقة، يقف ببابها غلام، فأيقن أن الفضل جالس تحتها، واتجه إليها محاولًا الدخول، فإذا بفتاة خارجة منها في غير كلفة؛ لأنه لا تعلم بوجود أحد غريب هناك، فوقف بهزاد ذاهلًا ووقع نظرها عليه فأجفلت وبدت البغتة في مُحيَّاها وتوردت وجنتاها خجلًا، ووقفت لحظةً كأنها صنم لا يتحرك، وارتبكت في أمرها لا تدري؛ أترجع إلى القبة وفي رجوعها ضعف؟ أو تقابل القادم وتُحيِّيه؟ وكانت بملابس البيت، وعلى رأسها نقاب خفيف إذا أسدلتْه على وجهها لم يُغطِّ إلا بعضه، فلما وقع نظر بهزاد عليها أُعجب برونق جمالها وإشراق مُحيَّاها وبريق عينيها بما يتجلى فيهما من الذكاء والحياء؛ فخجل لما سبَّبه لها عفوًا من الانزعاج، وابتدرها قائلًا: «العفو يا مولاتي، أظنني أزعجتك؟ وإنني أريد مولانا الفضل وقد حسبته في هذه القبة على عادته.» فقالت وهي تنظر إليه نظر السذاجة وصفاء النية: «إن عمي الفضل خرج مع أبي هذا الصباح للاجتماع بالمأمون، وليس في قدومك أي إزعاج، وإذا صدق ظني فأنت صديقهما بهزاد!» وسكتت كأنها تنتظر جوابه فابتدرها قائلًا: «نعم يا سيدتي، يُسمُّونني بهزاد.» فقالت: «إن والدي وعمي معجبان بك، ولو كانا هنا لفرحا بقدومك. اجلس إذا شئت.» فأُعجب بهزاد بظرف الفتاة وذكائها على صغر سنها، وعلم أنها بوران بنت الحسن بن سهل، وتذكَّر تلميح عمها في شأنها فرأى أنها جديرة بأفضل الرجال، ولو لم يكن قلبه مشغولًا لكانت نصيبًا حسنًا. فأجابها بقوله: «أشكركِ يا سيدتي على تلطُّفك، وكنت أودُّ البقاء هنا ولكني أراني مضطرًّا إلى الذهاب إلى مجلس المأمون أيضًا.» قال ذلك وتحوَّل يطلب قصر المأمون، وهو قصر الإمارة؛ لأن المأمون كان يومئذٍ أميرًا على خراسان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/18/
المأمون
كان المأمون في خراسان حينما مات أبوه الرشيد، فلما بلغه ما فعله الفضل بن الربيع من نقض بيعته والعودة بالأموال من طوس إلى بغداد، جمع أصحابه من الفرس في مرو — وكبيرهم يومئذٍ الفضل بن سهل — واستشارهم، فأشار أكثرهم عليه بأن يدرك ابن الربيع وأصحابه «بجريدة» فيردهم. ولكن الفضل بن سهل حذَّره من أن يترك خراسان وقال له: «إن فعلت ذلك جعلوك هديةً لأخيك، والرأي أن تكتب إليهم كتابًا وتوجِّه رسولًا يُذكِّرهم بالبيعة ويسألهم الوفاء.» فعمل المأمون برأيه ولم يجد في ذلك نفعًا أول الأمر؛ فقلق وخاف العاقبة، ولكن الفضل أخذ يُطمئنه وقال له: «أنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم؛ فاصبر وأنا أضمن لك الخلافة.» وأشار عليه بأن يلزم التقوى؛ لأن العامة لا تُحكم بشيء حُكمَها بالدين. وكان المأمون عاقلًا حكيمًا لطيفًا وديعًا رقيق الجانب يحب العلم، وقد تفرَّغ له لما أقام بخراسان وفيها جماعة من العلماء، فكان يقضي نهاره في مُجالستهم ومُباحثتهم حتى اطَّلع على علوم القدماء، ولا سيما الفلسفة. وكان رَبعةً في الرجال، أبيض جميلًا، طويل اللحية خفيف الشعر، ضيق ما بين الحاجبين، في خده خال أسود، وفي عينيه ذكاء ولطف اشتُهر بهما حتى ضُرب به المثل، وقد تربَّى على مذهب الشيعة وأحبَّهم؛ لأنه شب في حِجر البرامكة ثم الفضل بن سهل. ولبث المأمون في خراسان ينتظر ما يكون من أخيه الأمين، حتى جاءه منه يومًا وفدٌ يكلفه أن يُبايع لموسى بن الأمين ويُقدِّم اسمه في الخطبة، ويدعوه إلى بغداد بحجة أنه قد استوحش لبُعده؛ فارتاب المأمون وبعث إلى الفضل يستشيره في الأمر، فجاءه هذا إلى قصر الإمارة وخلا إليه في مجلسٍ خاص لم يحضره إلا خواص الأمراء وفي مقدمتهم أخوه الحسن. فقال المأمون: «جاءنا من أخينا وفدٌ يطلبون إليَّ أن أُقدِّم ابنه موسى عليَّ ويدعونني أن أذهب إليه.» فقال الفضل: «أما تقديم ابنه ففيه نكثٌ للبيعة، واللهُ على الباغي. وأما خروجك من خراسان فإن عزمت عليه فأنت صاحب الأمر، ولكنك تفقد كل أملٍ في الدفاع عنك. وليس هذا قولي فقط، بل هو قول الخراسانيين جميعًا. وهذا هشام كبير وُجهاء خراسان فليسأله مولاي.» وبعث المأمون إلى هشام، فلما جاءه واستشاره قال: «إنما بايعناك على ألا تخرج من خراسان؛ فإذا خرجت منها فلا بيعة لك في أعناقنا. ومتى هممت بالمسير تعلقتُ بك بيميني، فإذا قُطعت تعلقتُ بيساري، فإذا قُطعت تعلقتُ بلساني، فإذا ضُربت عنقي كنتُ قد أديت ما عليَّ!» فلما سمع المأمون قوله تشجَّع، والتفت إلى الفضل فقال له: «ذلك ما يراه كل الخراسانيين وهم أخوالك.» ثم أشار عليه بإسقاط اسم الأمين من الخطبة والطراز، وقطْع البريد عنه؛ ففعل وولاه الوزارة في حالَي الحرب والسلم وسمَّاه ذا الرياستين. وفيما هم في مجلسهم دخل الغلام يستأذن لبهزاد الطبيب، فسأل المأمون عنه فقال الفضل: «هو طبيب قصركم في بغداد.» فتذكَّره وقال: «يدخل.» فدخل بهزاد وحيَّا، فأشار إليه المأمون بالجلوس فجلس، ثم سأله المأمون: «كيف فارقت بغداد؟» فقال: «فارقتها وهي تندب أهل الصلاح، على أن أهل أمير المؤمنين والحمد لله في خيرٍ وعافية، ولكن …» وسكت. فقال المأمون «ولكن ماذا؟» قال: «ولكن لا أعلم كيف يكون حالهم بعد أن استفحل أمر أصحاب المطامع حتى نكثوا البيعة، فإذا رأى أمير المؤمنين أن يستقدم أهله إليه فعل!» فقال: «أصبت أيها الطبيب، إني فاعلٌ ذلك إن شاء الله.» وإنما أشار بهزاد بذلك على المأمون رغبةً في استقدام ميمونة ونجاتها من أعدائها، ولم يكن سلمان قد أخبره بشيء مما أصابها في بيت الأمين. وسأله المأمون: «وكيف فارقتَ أم حبيبة؟» فقال: «فارقتها بعافيةٍ وشوقٍ إلى أبيها.» فابتسم المأمون عند ذكر ابنته لأنه كان يحبها كثيرًا ويُعجب بذكائها وتعقُّلها على صغر سنها، وتحقق أن بقاء أهل بيته في بغداد لا يخلو من الخطر فعزم على استقدامهم، فالتفت إلى الفضل الجالس بجانبه وقال: «كيف ترى الطالع اليوم؟ هل يُستحسن أن نرسل فيه من يحمل إلينا أهلنا؟» فأخرج الفضل من جيبه أسطرلابًا صغيرًا من الذهب كان لا يفارقه، وأطل من بعض نوافذ القصر ونظر فيه وعاد فقال: «لا بأس بالذهاب اليوم يا سيدي، ولكن الذهاب غدًا أفضل.» فعهد المأمون إلى خادمه نوفل في السفر إلى بغداد لاستقدام أهل بيته، ثم التفت إلى الفضل وسأله: «وبماذا نُجيب وفد الأمين؟» قال: «الرأي لأمير المؤمنين، وإذا أذن في إبداء رأيي فأرى أن تَردَّ الوفد خائبًا؛ فإنك بين أخوالك أمنع عليه منك في بغداد بين رجاله وكلهم يداجونه ويتملقونه، كما أرى أن تلاينه وتكتب إليه كتابًا رقيقًا لا تُظهر فيه عزمك على مناوأته، بل تتلطف في استعطافه، فإن ذلك أقرب إلى الدهاء في السياسة!» فاستحسن المأمون وكتب إلى أخيه الأمين كتابًا قال فيه: «أما بعد، فقد وصل إليَّ كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله، وعون من أعوانه، وقد أمرني الرشيد بلزوم الثغر، ولعمري إن مقامي به لأَعْود بالفائدة على سلطان أمير المؤمنين، وأعظم غناءً للمسلمين. وإن يكن في شخوصي إلى بغداد ما يحقق أملي في قرب أمير المؤمنين والاغتباط بمشاهدة نعم الله عنده، فإن رأى أن يُقرَّني على عملي ويُعفيَني من الشخوص فَعَل إن شاء الله.» ودفع الكتاب إلى رئيس الوفد. ثم تحرَّك المأمون، فعلم أهل المجلس أنْ قد آن لهم أن ينصرفوا، فنهضوا وبهزاد أكثرهم رغبةً في القيام ليُبلغ الفضل رأيَ أمه في البيعة لأحد العلويين على أن يجعل ذلك شرطًا من شروط نُصرة المأمون. فصبر بهزاد حتى رجع الفضل إلى منزله فتعقَّبه وطلب الخلوة به، فلما خلَوَا بدأ بهزاد في الثناء على ما أبداه الفضل من الرأي الصائب في المجلس، ثم مدَّ يده ودفع إليه كتاب سلمان وقال: «اقرأ هذا الكتاب.» فقرأه ولم يأتِ على آخره حتى غلب عليه الضحك وقال: «إذا صح ظن سلمان، وعهد الأمين بقيادة جنده إلى ابن ماهان، كان ذلك غاية توفيقنا، وهذا ما كنت أتمنَّاه وأسعى إليه؛ لأن ابن ماهان — فضلًا عن غروره وضعفه — تولى خراسان أيام الرشيد وأساء السيرة في أهلها وظلمهم؛ فعزله الرشيد لذلك ونفر أهل هذه البلاد منه وأبغضوه، فإذا حاربوه يحاربونه وهُم ناقمون عليه. وهو يظن أهل خراسان يحبونه لأن بعضهم خدعه بكُتُب بعثوا بها إليه يَعِدونه إذا جاءهم بأن يستسلموا إليه. وهذا ما كنت أتمناه منذ بدأ الخلاف بين الأخوين.» فقال بهزاد: «ماذا تعني بتوفيقنا يا مولاي؟» قال: «أعني أن ننتصر على الأمين ونخلعه ونُولي المأمون مكانه.» قال: «وما نفعنا من ذلك، أليس كلاهما عباسيًّا عربيًّا، وكلاهما ابن الرشيد قاتل جعفر وحفيد المنصور قاتل أبي مسلم؟» قال: «ولكن المأمون ابن أختنا وعلى مذهب الشيعة مثلنا، وهو صنيعتنا يعمل برأينا فيكون النفوذ لنا.» قال: «هل تضمن بقاءه على ولائنا؟ وإذا ضمنت ذلك فهل تضمن أن يكون خليفته مثله إذا تُوفِّي، هل تأمن لبني العباس بعد ما ظهر من غدرهم بنا وبغيرنا غير مرة؟» وكان الفضل يسمع مُطرقًا كأنه أفاق من رُقاد، فلما بلغ إلى هنا رفع الفضل بصره إليه وقال: «صدقت يا بهزاد، وقد فهمت مرادك، إنك أصبت كبد الحقيقة، ولا بد أن نتدارك ذلك من اليوم.» وعاد إلى الإطراق وهو يحكُّ عُثنُونه ثم قال: «إن الخلافة لا بد منها للسيادة، وهي لا تكون إلا في آل النبي من بني هاشم. وأقربهم مودةً إلينا العلويون، وبين ظهرانينا منهم اليوم علي موسى الرضا من أعقاب الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو عاقل حكيم، والمأمون يُحبه ويُقدمه، فأرى أن نشترط على المأمون من الآن أن يجعله وليَّ عهده فتنتقل الخلافة بعد موت المأمون من العباسيين إلى العلويين.» قال ذلك وأشرق وجهه فقال بهزاد: «إنه الرأي الصواب يا سيدي، ونهض للخروج فقال له الفضل: «إذا أتتك رسالة مثل هذه من سلمان فأطلعني عليها.» ورجع بهزاد إلى منزل أمه وما زال قلقًا على ميمونة. ولبث ينتظر وصول أهل المأمون بفارغ الصبر، لاعتقاده أنها ستكون معهم. ••• دخلت سنة ١٩٥ﻫ وفيها جاهر الأمين بخلع أخيه، وأسقط نقودًا كان قد ضربها المأمون بخراسان باسمه وليس عليها اسم الأمين، وأمر فدُعي لابنه موسى على المنابر، ولقَّبه بالناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون وبايع لابنه الآخر عبد الله، ولقَّبه بالقائم بالحق. فاستشار المأمون الفضل في أمر التجنيد، فاغتنم الفضل الفرصة واشترط عليه مبايعة «علي الرضا» — زعيم الشيعة في خراسان بعده — فعظم ذلك على المأمون ولكنه لم يرَ بُدًّا من أن يطاوعه؛ فوعده إن هو نجح في حربه وفاز على أخيه ونال الخلافة بأن يُبايع لعلي الرضا بولاية العهد؛ فأخذ الفضل — ذو الرياستين — في التأهُّب للحرب والتجنيد، وأعد جندًا بقيادة طاهر بن الحسين — ذي اليمينين — وأنفذه إلى «الري» لملاقاة جند الأمين إذا جاءوا قاصدين خراسان. وكان طاهر قائدًا باسلًا على صغر سنه إذا قيست بسن ابن ماهان. لقد صدق ظني ونجح سعيي وتقلد ابن ماهان رياسة الجند الخارج لقتالكم، وكتابي هذا إليك وهو يُغادر بغداد وقد شيَّعه الأمين نفسه. وذكر مشايخ بغداد أنهم لم يَرَوا عسكرًا أكثر رجالًا وأوفر كراعًا وأتم عدة وسلاحًا من عسكره، وهو يعتقد أن أهل خراسان يُحبونه وقد أتته كُتُب يَعِدونه فيها بالطاعة إذا جاءهم. ولما علم أن طاهر بن الحسين ولي قيادة جند المأمون استخفَّ به وقال: «إنما طاهر شوكة من أغصاني، وما مثل طاهر يتولى الجيوش.» ثم قال لأصحابه: «ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصفة إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد، وإن أقام تعرَّض لحد السيف وأَسِنة الرماح. وإذا قاربنا الري ودنونا منهم فتَّ ذلك في أعضادهم.» وقد أقطعه الأمين بعد أن ولاه إمرة الجند كور الجبل كلها، وولاه جزيتها وخراجها، وأعطاه الأموال وحكَّمه في الخزائن، وجهَّز معه خمسين ألف فارس. وكتب إلى أبي دلف العجلي وهلال الحضرمي بالانضمام إليه، وأمدَّه بالأموال والرجال شيئًا بعد شيء. وقد خرج ابن ماهان بحملته من هنا والناس يتوهمون أنه ظافر لا محالة لكبر سنه. ولما ذهب لوداع زبيدة أم الأمين على العادة المتبَعة أوصته بأن يرفق بالمأمون إذا قبض عليه فقالت له: «إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، وإليه انتهت شفقتي، فإني على عبد الله المأمون لمتعطفة، مشفقة مما يحدث له من مكروهٍ وأذًى، وإنما ابني ملك نافسه أخوه في سلطانه الكريم فاضطُر إلى أن يأكل لحمه، فاعرف لعبد الله حق ولادته وأُخوته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست بنظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا توهنه بقيدٍ ولا غُل، ولا تمنع عنه جاريةً ولا خادمًا، ولا تُعنِّف عليه في السير، ولا تساوِه في المسير، ولا تركب قبله، وخذ بركابه، وإن شتمك فاحمل منه.» ثم دفعت إليه قيدًا من فضة وقالت: «إن صار إليك فقيِّده بهذا القيد.» فوعدها بذلك، وأوصاه الأمين أيضًا بمثل هذه الوصية. وقد علمتُ أن مولانا المأمون بعث في استقدام أهل بيته إليه ولا يلبثون أن يصلوا إليكم، وأنت تتوقع أن ترى ميمونة معهم فلا يشق عليك ألا تراها فإنها باقية هنا، ولم أخبرك بذلك من قبل حتى لا تقلق. وأما الآن فلا سبيل إلى كتمان ذلك عنك؛ لأنك ستعلمه من دنانير أو غيرها؛ فهي مقيمة ببيت الخليفة ولا خوف عليها؛ ولهذا قصة طويلة ستقصها عليك دنانير، فلا يزعجك ذلك ما دُمتُ في منصبي حريصًا على سلامتها، والسلام. فلما قرأ بهزاد الكتاب، اسودَّت الدنيا في عينيه رغم ما حواه من الأخبار المبشرة بالنجاح؛ لما جاش في صدره من الغَيرة على ميمونة، ونقم على سلمان كتمان أمرها عنه. ووقع في حيرةٍ لا يدري أيخرج من «مرو الشاهجان» لملاقاة ابن ماهان في الري؟ أم يمكث حتى تأتيَ دنانير فيسمع منها خبر ميمونة، فغلب عليه هواه — والمُحب مغلوب على أمره — ومكث ينتظر مجيء أهل المأمون ليطمئن على ميمونة قبل خروجه للقتال، وعلمت أمه بذهاب الجند إلى الري وعجبت لبقائه عندها فقالت له: «إن الخنجر في الصندوق، فمتى أنت ذاهب؟» فخجل وتناول الصندوق وقال: «إني ذاهب الساعة وقد جئتُ لوداعك.» فكشفت عن صدرها وولت وجهها شطر السماء وبسطت ذراعيها وقالت: «إن الله عونك على القوم الظالمين الذين قتلوا جدك غدرًا وسلبونا حقنا وحرمونا ثمار تعبنا.» ونهضت وضمَّته إلى صدرها وقبَّلت عنقه، وطال عناقها له وأحسَّ بدموعها تنحدر على عنقه فأثَّر فيه ذلك كثيرًا وكاد يبكي معها، ولكنه تجلد وقال: «لماذا تبكين يا أماه؟» فرفعت رأسها وقد تكسرت أهدابها من البكاء وبان الحزن والكآبة في وجهها وقالت: «أبكي يا ولدي لأني لا أدري أأراك ثانيةً أم لا؟» قال: «أرجو أن أعود سالمًا ظافرًا وأراكِ في صحة وعافية وتفرحي بما أصبناه من الانتقام لجدي.» قال ذلك وقبَّل يديها، ثم تناول الصندوق فأخرج الخنجر منه فتقلده، ولبس ثياب السفر والتفَّ بالعباءة فوق القباء والسراويل، وتلثَّم بالكوفية فوق القلنسوة، وجيء إليه بفرسه فركبه وأراد أن يأخذ الصندوق معه فأمسكت به أمه وقالت: «دع هذا الصندوق هنا وفيه رأسان عزيزان، فإما أن تشفعهما برأسٍ أو أكثر من رءوس أعدائنا قتلة جدك، وإما أن يبقى الرأسان هنا فنستأنف البكاء حتى نموت.» فأثَّر قولها في نفسه وقال: «بل أرجو ألا تستأنفوا البكاء يا أماه.» وترك الصندوق عندها، وحوَّل شكيمة جواده ومضى. ولم يَسِرْ إلا قليلًا حتى انتبه لنفسه ورأى أنه سِيق إلى ذلك الرحيل خجلًا من أمه بينما قلبه لا يطاوعه على ترك مرو قبل مشاهدة دنانير واستطلاع حال ميمونة، ونقم على سلمان لأنه لم يبسط خبرها في كتابه. وما زال سائرًا في أسواق مرو والجواد دليله حتى خرج من المدينة، فلما صار خارجها أخذ يُعلل نفسه بملاقاة أهل بيت المأمون قادمين بقافلتهم في طريقه. وقضى في ذلك أيامًا، وكلما رأى قافلةً أو جماعةً أو فارسًا ظن أهل بيت المأمون قادمين، حتى صار على بضع مراحل من مدينة الري حيث يُقيم عسكر طاهر بن الحسين. وأصبح ذات يومٍ فرأى قافلةً عرف عن بُعد أنها تحمل نساءً من أهل البيوتات، لما فيها من الهوادج وأحمال الثياب والخيام، وما في خدمتها من الغلمان والعبيد، فدنا منها وسأل مقدمها فأخبره أنها تحمل بعض أهل المأمون. فطلب مشاهدة دنانير فأخذوه إليها. فلما رأته أمرت القوم بإناخة الأحمال قليلًا فأناخوها، وقصَّت على بهزاد خبر ميمونة كما وقع منذ جاءها الشاكري إلى أن عادت هي وزينب من عند الأمين دونها. فقال «وماذا جرى لها بعد ذاك؟» فقالت: «لا بأس عليها في بيت الخليفة، فقد وعد مولاتي أم حبيبة بألا يمسها ضر، وسلمان خادمك حريص على راحتها.» فقال: «وهل تعلمين أين سلمان؟» قالت: «لا أدري من أمر هذا الرجل شيئًا؛ فهو يغيب أشهرًا ثم يظهر بغتة، وقد رأيته قبل سفرنا وأوصاني بأن أُطمئنك على ميمونة، ولعله كتب إليك فوصل كتابه قبلنا؛ لأن الكتاب يُرسل على هجينٍ ونحن نسير بالأحمال والأثقال.» فقال: «وهل رأيتم جنود الأمين؟» قالت: «رأيناها ورافقناها في معظم الطريق.» قال: «وأين هي الآن؟» قالت: «على عشرة فراسخ من الري، وبلغني أن قائدها ابن ماهان مغرور بقوته معتز بكثرة جنده، وإذا كان ما بلغني صحيحًا كان طاهر في خطر.» قال: «وما ذلك؟» قالت: «بلغني أن جند ابن ماهان يزيد على خمسين ألف مقاتل، بينما لا يزيد جند طاهر على أربعة آلاف.» فأطرق بهزاد ثم قال: «ليست الغلبة للكثرة وإنما هي للشجاعة والصبر.» قالت: «مع أن الغلبة للشجاعة، ولكن كيف يقف أربعة آلاف في وجه خمسين ألفًا؟ وعلمت أيضًا أن طاهرًا خرج بجنده القليل من مدينة الري وعسكر على خمسة فراسخ منها، ولو بقي في المدينة لكان له في حصونها ما يعصمه من الهزيمة.» قال: «قد أحسن ابن الحسين؛ لأنه يخاف أهل الري إذا انهزم مثل خوفه جنود الأمين، وإذا أحسن الرأي بادر إلى الحرب قبل أن تُعرف قلة جنده.» فقالت: «يلوح لي أنه عازم على ذلك، وكنت أحسب عمله خطأً فلم أُصدق الخبر؛ وذلك أن بعض أصحابه قال له: «إن جندك القليل قد هابوا هذا الجيش الكثير، فلو أخَّرت القتال إلى أن يعجم أصحابك عودهم، ويعرفوا وجه المأخذ من قتالهم.» فقال: «إني لا أُوتَى من قلة تجربة وحزم. إن أصحابي قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن أخرت القتال اطَّلعوا على قلتنا واستمالوا من معي برغبةٍ ورهبةٍ فيخذلني أهل الصبر والحفاظ، ولكني ألفُّ الرجال بالرجال وأقحم الخيل على الخيل وأعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر صبر محتسبٍ للخير حريصٍ على الفوز بالشهادة، فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه، وإن تكن الأخرى فلست بأولَ من قاتل وقُتل، وما عند الله أجزل وأفضل …» فأُعجب بهزاد ببسالة طاهر وحزمه وأحبَّ أن يُنهيَ الحديث فقال: «كنت أودُّ لولا العجلة أن أرى أم حبيبة فأهديها سلامي.» وودَّعها ومضى.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/19/
ساحة الحرب
سار بهزاد على فرسه وقد التفَّ بالعباءة وتلثَّم بالكوفية وتقلد الخنجر تحت العباءة بجانب السيف، ومرَّ بالري في الضحى فعلم من أحاديث القوم أن طاهرًا ينوي المبادرة إلى القتال قبل أن يطَّلع عدوُّه على قلة رجاله. وما لبث أن سمع قرع الطبول للحرب وقد علت الضوضاء وتصاعد الغبار، فصعد إلى أكمةٍ أشرف منها على سهل، فرأى الجيشان يتأهَّبان للقتال والفرق بينهما كبير، فأوجس خيفةً على جند طاهر، وصمَّم على ألا يبرح المكان حتى يرى النصر لجند المأمون ولو كلفه ذلك حياته. وكان ابن ماهان قد عبَّأ جنده ميمنةً وميسرةً وقلبًا، وعبَّأ عشر رايات مع كل رايةٍ مائة رجل، وقدَّمها راية راية، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالها أن يتقدَّموا برايتهم ليحلوا محلها حتى تستريح. ثم وقف بنفسه يُشرف على القتال. أما طاهر فإنه عبَّأ أصحابه كراديس، كل كردوس كتيبة بصفوفها، وجعل كردوسه في الوسط، ومشى بجنده على هذا النظام وهو يُحرِّضهم على الثبات والصبر. ولحظ بهزاد أن جماعة من رجال طاهر فرُّوا إلى ابن ماهان فشقَّ ذلك عليه، ولكنه ما لبث أن علم أن ابن ماهان — بدلًا من أن يُكرم أولئك الفارين ليرغب غيرهم في المسير إليه — أمر بجلدهم وإهانتهم وتعذيبهم مما أغضب الباقين عليه. وظل بهزاد واقفًا وعيناه شائعتان وقلبه يخفق رغبةً في الاشتراك في تلك المعركة ولكنه لبث يترقب الفرصة السانحة. وبينا هو هكذا إذا بطاهر بن الحسين قد خرج من جنده على فرسه حتى أشرف على جند ابن ماهان وبيده رمح أشرعه، وفي رأس الرمح رق عَلِم أنه صورة بيعة المأمون. فوقف طاهر بين الصفين وطلب الأمان من ابن ماهان حتى يتكلم، فلما أمَّنه رفع الرمح بيده والبيعة معلقة به وقال: «ألا تتقي الله عز وجل؟ إن هذه البيعة قد أخذتَها أنت بنفسك؛ فاتقِ الله فقد بلغتَ باب قبرك.» فغضب ابن ماهان لهذه الإهانة وأمر بالقبض على طاهر فلم يستطع أحد ذلك. ولم يسمع بهزاد شيئًا من كلام طاهر لبُعده عنه ولكنه فهم فحواه. وما عتم أن رأى الجيشين يتحركان للالتحام، فهجمت ميمنة ابن ماهان على ميسرة طاهر فانهزمت هذه هزيمة منكرة، وفعلت ميسرة ابن ماهان مثل هذا في ميمنة طاهر فأزالوها عن مكانها؛ فخاف بهزاد وتحركت حميته وأوشك أن يسوق جواده إلى وسط المعركة لينصر طاهرًا، ولكنه تجلد ليرى له مدخلًا نافعًا. وما فتئ يستجمع الهاربين ويردهم ويُحرِّضهم على القتال وهو يَجول على جواده ملثمًا ويخاطب الفارين بالفارسية يُعيِّرهم بالفرار ويحقر ابن ماهان ورجاله في أعينهم، فكان لكلامه وقع شديد على نفوسهم فأخذوا يرتدُّون إلى صفوفهم. وكان طاهر من الجهة الأخرى يُحرِّضهم على الثبات والصبر، فاجتمعت قلوبهم وحملوا على عدوهم حملة شديدة في القلب فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها إلى بعض فانتقضت ميمنة ابن ماهان، وكانت ميمنة طاهر وميسرته قد عادتا إلى المعركة فتشدَّد قلب طاهر وقوي جنده كأن بهزاد بث فيهم روحًا جديدة، فتقهقر جند ابن ماهان بغير انتظام. فلما رأى ابن ماهان تقهقُر جنده أخذه الرعب وخاف الفشل فنهض بنفسه، وأقبل يُحرِّض رجاله على الثبات ويعدهم بالمال ويُقبِّح عمل طاهر ورجاله؛ فرأى بهزاد الفرصة قد آنت للعمل، وأن هذا الانكسار لا يكون قاضيًا إلا إذا قُتل القائد الكبير، فكرَّ بنفسه كالصاعقة ويده على خنجره لا يبالي بما يتساقط حوله من النبال أو يتكسر من الحراب، حتى دنا من ابن ماهان وصاح فيه: «قف أيها القائد ولا تقل إني أخذتك غدرًا.» فتحوَّل ابن ماهان إلى بهزاد ولم يعرفه من تحت اللثام، لكنه استلَّ سيفه وضربه فخلا بهزاد من الضربة، واستلَّ خنجره كالبرق الخاطف وطعنه في صدره فخرَّ قتيلًا، ورجع بهزاد من المعركة وقد اكتفى بما فعله ولم يَعُد يراه أحد. وشاع في المعسكر أن ابن ماهان قتله أحد رجال طاهر بسهم، ثم احتزَّ بعضهم رأسه وحمله إلى طاهر، وشُدت يداه إلى رجليه كما يفعلون بالدواب، وحُمل على خشبة إلى طاهر، فأمر به فأُلقي في بئر، وأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرًا لله تعالى. وتمَّت الهزيمة على جند الأمين ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف وتبعوهم فرسخَين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة انهزم فيها عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغنموا غنيمة عظيمة. ونادى طاهر: «من ألقى سلاحه فهو آمن.» فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ورجع طاهر إلى الري وكتب إلى المأمون وذي الرياستين: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بن عيسى بن ماهان بين يديَّ وخاتمه في أصبعي وجنده مُصرَّفون تحت أمري، والسلام.» فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيامٍ وبينهما نحوٌ من خمسين ومائتي فرسخ. فدخل الفضل على المأمون فهنَّأه بالفتح، وأمر الناس فدخلوا وسلموا عليه بالخلافة، ثم وصل الرأس بعد الكتاب بيومين فطِيف به في خراسان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/20/
خلع المأمون
تركنا ميمونة في بيت الأمين ببغداد كأنها على الجمر لفرط حزنها ويأسها، ولا سيما أنها لم ترَ سلمان ولا عرفت مقره حتى ظنته مات أو لحق بحبيبها بهزاد، وكذلك اشتدَّ شوقها إلى جدتها واستوحشت لبُعدها وجهلها مكانها. فكانت تقضي نهارها وحيدةً تتظاهر بانحراف صحتها أو دوار في رأسها، فإذا خلت إلى نفسها أخرجت كتاب حبيبها وقبَّلته وكررت قراءته استئناسًا بصاحبه. وكلما كررت ما قاله من عبارات النقمة على العباسيين وتهديده بالانتقام يختلج قلبها في صدرها حذرًا من وقوع ذلك الكتاب في يد بعض أعدائها، ولكنها كانت حريصةً على إخفائه لا تثق بأحدٍ ممن حولها من الجواري أو الوصائف، ما عدا فريدة قهرمانة القصر؛ لأنها من صديقات دنانير المعجبات بتعقُّلها وحكمتها، وقد أوصتها هذه بها خيرًا. على أنها مع ارتياحها لها كانت تخافها أيضًا على سرها؛ وذلك لعلمها بتفشِّي الجاسوسية، فلم تُطلعها على شيءٍ من أمر الكتاب أو أمر بهزاد الذي انقطعت أخباره عنها كما انقطعت أخبار سلمان، ولم تكن تعلم أنه في القصر على قاب قوسين منها ولكنه متنكر، لا يعرف أحد ممن في القصر عنه شيئًا إلا أنه الملفان سعدون رئيس المنجمين! قضت في ذلك أيامًا لا تدري ما يصير إليه أمرها، ولا تبالي ما تراه من اشتغال جواري القصر ونسائه باللهو والضحك، أو سماع الغناء أو الضرب بالآلات، أو غير ذلك، فإذا رأتهم في مجلس أُنس انفردت في غرفتها وأخرجت كتاب بهزاد وأخذت تقرؤه، فإذا سمعت وقع خطوات أو صوت متكلم أخفت الكتاب في جيبها. واتفق مرة أنها أحسَّت بالوحشة وأرادت الاستئناس بذلك الكتاب فأرادت أن تخرجه من جيبها فلم تجده، فأحسَّت كأن قلبها سقط من مكانه، وأعادت البحث جيدًا فلم تقف له على أثر، فخافت خوفًا شديدًا وزادت وحشتها من الانفراد هناك. وأحسَّت بافتقارها إلى رفيق يؤنسها فلم تجد خيرًا من أن تدعوَ جدتها إليها، فكتبت إلى دنانير بطاقة شكت فيها استيحاشها وسألتها عن جدتها ثم عهدت إلى القهرمانة في توصيل البطاقة إلى دنانير في قصر المأمون، وكانت فريدة تتمنَّى القيام لدنانير بمثل هذه الخدمة، فأسرعت في إرسال البطاقة إليها في الخفاء. فلما وصلت البطاقة إلى دنانير، سارعت إلى أم جعفر وأطلعتها عليها فقالت هذه لها: «أرسليني إليها ودعيني أمُتْ عندها؛ فقد كنت أظنهم سيُطلِقون سراحها بعد أيامٍ فإذا هي باقية إلى أجل غير مُسمًّى.» فقالت دنانير: «هل تذهبين إليها متنكرة؟» قالت: «أخاف إذا عرفوني أن يزيدوا في التضييق على ميمونة.» فقالت: «أرسلك إلى صديقتي فريدة على أنكِ مُربية ميمونة، وأوصيها بأن تُقيمك معها، ولا أظنها إلا فاعلة.» فأثنت عبادة على غيرتها ولبست ثيابها وودَّعتها، وركبت حمارًا توجهت به إلى مدينة المنصور، ومعها رسول من دنانير إلى القهرمانة، فلما وصلا إلى قصر المنصور بعث الرسول بكتاب دنانير إلى القهرمانة، فأدخلت عبادة القصر، ولم تَخْفَ عليها حقيقة حالها، كما أنها لم تكن تجهل أمر ميمونة، لكنها تجاهلت في الحالين رغبةً في إخفاء ذلك عن أهل القصر؛ لأنها كانت من جُملة الذين غمرتهم نعم البرامكة وأُجبروا على كتمان شكرهم، ولا تسل عن سرور ميمونة بجدتها حتى أصبحت لا يهمها أن يطول احتباسها هناك. ولم تجد بُدًّا من إطلاعها على ما دار بينها وبين بهزاد وما تبادلاه من عواطف المحبة حتى بلغت إلى الكتاب فأخبرتها بضياعه. ولم تكن عبادة غافلةً عما بين الحبيبين ولكنها كانت تتجاهل أحيانًا، وقد ساءها ضياع الكتاب في القصر، وأصبحت تخاف العقبى. أما سلمان فكان أثناء ذلك يُغري الأمين بخلع أخيه، وكان يستعين على ذلك بالفضل بن الربيع وابن ماهان، وظل الفضل يُلح على الأمين في ذلك مدفوعًا بخوفه من انتقام المأمون منه إذا أفضت الخلافة إليه. وكان الأمين يتردَّد في الأمر إن لم يكن خوفًا من العواقب فحفظًا للعهد أو عملًا برابطة الإخاء. فلما كثر إلحاح الفضل عليه زايله التردُّد وبقي عليه أن يشاور أمه زبيدة؛ لأنه كان يؤمن بسداد رأيها، وكانت تقيم يومئذٍ بقصرها «دار القرار» بقرب قصر الخلد، فتردَّد بين أن يركب إليها وبين أن يستقدمها إليه في قصر المنصور، وظل يفكر في ذلك حينًا ثم غلب عليه حبُّ اللهو فشُغل بصيد السمك من بِركة كبيرة في حديقة القصر فيها سمك مجلوب إليها فحمل قصبه وجعل يصطاد السمك من تلك البركة وحوله جماعات من الوصفاء الخصيان بألبسة النساء، يجرون بين يديه في تهيئة الصنارة أو تنفير السمك من بعض أطراف البركة إلى حيث يُلقي صنارته، وبعضهم يحملون شباكًا وآخرون يُعِدون القصب أو الصنانير أو غير ذلك. وهو مشتغل بلهوه مُعجَب بنشاطه يداعب الوصفاء إظهارًا لقوة عضله، فيلتقط أحدهم بيده ويرفعه حتى يُلقيَه في الماء، فيُطري الحاضرون قوته الخارقة ويُعربون عن عجزهم عن الإتيان بمثل ذلك. وكان الأمين فيما يُقال قويَّ العضل بحيث يصارع الأسد فيصرعه. وفيما هو في لهوه جاء بعض الغلمان يقول: «إن موكب مولاتنا أم أمير المؤمنين قادم.» فسُرَّ بقدومها لرغبته في استشارتها، فأمر قَيِّم القصر بالاستعداد لاستقبالها، وأمر قَيِّمة القصر بترتيب الوصائف والوصفاء صفوفًا وفي جملتهم فرقة من الجواري المقدودات الحسان كانت أمه زبيدة قد أهدتهن إليه لما رأت اشتغاله بالخدم والغلمان عن النساء، فاتخذت هؤلاء الجواري وألبستْهن لباس الغلمان فعمَّمت رءوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية، وألبستْهن القراطق والمناطق فبانت قدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إليه فاستحسنهن واجتذبن قلبه وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، فقلده بعضهم في ذلك. فلما سمع بقدوم أمه رأى أن يَسُرها بإشراك هؤلاء الجواري في استقبالها فأمر القَيِّم بترتيب الغلمان صفوفًا يرأسها كوثر الذي اشتُهر بافتتانه به، فصُفَّت فرق الخصيان والجواري، وفرق الغلمان الجرادية، والحبشان الغرابية، وكل فرقة في زيٍّ خاصٍّ وأشكالٍ وألوانٍ خاصة؛ فهناك القصير من الملابس والطويل، وهناك الأحمر والأزرق والسماوي والوردي والأصفر. وفيهم الغلمان بألبسة النساء، والنساء بألبسة الغلمان، يتخللهم العوادون وأصحاب الطنابير والمزاهر. واصطفوا هكذا من باب القاعة إلى باب القصر الخارجي، وبين الصفوف غلمان بعضهم يحرق البخور وبعضهم يحملون الأزهار وآخرون يُنشدون الأشعار، ومشى الأمين بين الصفين لاستقبال أمه بباب القصر، وكانت في قبةٍ من خشب الصندل منزلة بالفضة، والقبة قائمة على هودج يحمله بغلان عليهما سرجان من الفضة، يقودهما غلمان عليهم أقبية من الديباج المزركش، وقد نُقشت عليها شارة الدولة لأنهم من الجند، وفاحت رائحة المسك عن بُعد. فلما وقف الهودج بباب القصر تنحَّى الواقفون إلا كبير الخصيان فأعان السيدة زبيدة على نزولها، ثم تقدَّم الأمين وقبَّل صدرها فقبَّلت رأسه، ومشت بخُفين مرصعين بالجوهر وعلى رأسها نقاب مُحاك بالذهب في حاشيته صور مُرصَّعة بالحجارة الكريمة، ويلوح من خلال النقاب عصابتها المرصعة وعقود الجوهر في عنقها والقراطق في أذنيها، وعلى كتفها مطرف ذهبي اللون التفَّت به فغطى مَنكِبَيها وجنبَيها، وظهر تحته ثوبها الحريري الوردي يُغطي قدمَيها من الخلف ولا يغطيهما من الأمام لتظهر خفافها المرصعة. وهي أول من رصَّع الخفاف بعد الإسلام. على أن من يَلقى زبيدة لا يشغله لباسها الفاخر الثمين عما في مُحيَّاها من الجمال الجاذب، وما يتجلى فوق ذلك من ملامح السيادة ودلائل الأبهة والجلال. ولم تطأ قدماها باب القصر حتى انتشر خبر قدومها، فبلغ عبادة فارتعدت فرائصها، وخفق قلبها، وأحبَّت الانزواء لئلا يظهر ذلك عليها. أما ميمونة فكانت كثيرة الشوق لمشاهدة موكب أم الخليفة، وقد طالما سمعت عنها وعن عظمتها فأطلت من كِوَى القصر الخفية فأُعجبت بجمال زبيدة وجلالها. ••• ظل الأمين وأمه سائرَين إلى قاعةٍ خاصة عملًا بإشارتها؛ لأنها كانت تريد أن تُسِرَّ إليه أمرًا. وقبل جلوسها جاءت المواشط فنزعن عنها بعض ما يُثقلها من الألبسة، ووقف بعض الوصائف والغلمان بالمراوح والمذابِّ بين يدَيها، واشتغل آخرون بإعداد الشراب والطعام، ولكنها قالت للأمين: «أحب أن أراك يا محمد على انفراد، ولا أرب لي في الطعام.» فأشار الأمين فخرج الجميع ولم يبقَ غيرهما، فجلست على السرير وأشارت إليه أن يجلس بجانبها، فجلس وقال: «ما أسعدَ هذه الساعةَ يا أماه. كأنك جئتِ على موعد؛ فقد كنت هذا الصباح أهمُّ بالذهاب إليكِ أو استقدامكِ لأستشيركِ في بعض الشئون، فإذا بكِ تفاجئينني فتفاءلت خيرًا.» فابتسمت والغضب بادٍ في عينيها وقالت: «خيرًا إن شاء الله! ولكني جئتك لأمرٍ آخر يهمني ويهمك!» فاهتمَّ الأمين وقال: «وما ذلك يا أماه؟» قالت: «ألا تزال تلك الفتاة الضالة عندك؟» فقال: «أية فتاة؟» قالت: «أعني ابنة عدونا الذي تعمَّد خلعك من ولاية العهد، وأغرى أباك الرشيد بمبايعة ابن مراجل.» فأدرك أنها تعني ميمونة بنت جعفر فقال: «نعم يا سيدتي، لا تزال بين جواري القصر.» قالت: «وكيف أبقيتها ولم تَخَفْ شرَّها؟» قال: «لأني وجدتها يتيمة مسكينة لا ضرر منها، وقد أوصتني ابنة أخي بها خيرًا بعد أن أبيت إطلاق سبيلها لأُبقيَها هنا اتقاء ما نخشاه منها.» قالت: «يتيمة مسكينة؟! تبًّا لها من خائنة غادرة! وأغرب من ذلك أن تقبل شفاعة ابنة أخيك، وأخوك أشد عداءً لك من أعدائك! ألم يستعن عليك بالخراسانيين؟ وإذا أتيح له أن يخلعك عن هذا العرش ألا تظنه يفعل؟ ومن أوجد هذا الغرور في نفسه، أليس هو جعفر بن يحيى أبا هذه الفتاة؟ لقد كان أبوك رحمه الله أدرى منك بأقدار الرجال فقتله شر قتلة، ولو لم يبادر إلى قتله ما جلستَ أنت هذا المجلس، فكيف تقول بعد ذلك إنها يتيمة مسكينة وإن ابنة أخيك أوصتك بها خيرًا؟ إن أخاك قد غلب فيه دم الفرس على دم الهاشميين فأخذ من أمه مراجل أكثر مما أخذ من أبيه الرشيد؛ فتراه يستعين بأخواله علينا.» قالت ذلك وقد حمي غضبها وامتُقع لونها وذهب احمرار شفتيها وتورُّد وجنتيها، ووافق ذلك ما يجول في خاطره من خلع أخيه فأراد أن يجعل ذلك برأيها فقال: «ألم يكن أبي قد بايع لي ولأخي عبد الله بالخلافة بعهدٍ علَّقه على الكعبة؟» فقطعت كلامه وقالت وصوتها يخنقه الحنق: «لا قيمة لذلك العهد لأنه كُتب بإغراء الوزير الخائن رغبةً في إخراج الخلافة من بني هاشم عن طريق أخيك هذا، وهل يصلح أبناء الجواري للخلافة إذا وُجد أبناء الأحرار؟ أيُقاس ابن الجارية مراجل بابن زبيدة بنت جعفر؟ أتعلم من هي مراجل وكيف اتصلت بأبيك حتى ولدت عبد الله؟» قال: «لا.» قالت: «أنا أقصُّ عليك خبرها. كانت مراجل من جملة جواريَّ مثل مارية وقاربة وغيرهما، فرأيت أباك مشتغلًا عني بمُغنية ليحيى وزيره اسمها دنانير، وصار يقضي كثيرًا من وقته عندها، فشكوته إلى أعمامه فأشاروا عليَّ بأن أشغله عنها بجوارٍ أهديهن إليه، فأهديته عشر جوارٍ منهن مراجل هذه وهي فارسية. فلما ولدت له عبد الله رباه جعفر من صغره على حب الفرس حتى جرى ما نعلمه؛ فكيف يكون هذا صنوك. أما العهد الذي أشرت إلى أنه مُعلق في الكعبة فابعث من يأتي به ومزقه لأنه كُتب خداعًا.» فسُرِّي عن محمد وقال: «إذن أنتِ ترين أن أخلع أخي عبد الله من ولاية العهد؟» قالت: «أولم تخلعه بعد؟ اخلعه قبل أن يخلعك.» فاعتدل في مجلسه وقال: «قد كنت عازمًا على استطلاع رأيكِ في هذا؛ فالحمد لله على أن وافق رأيكِ رأي الفضل.» فقالت: «اخلعه وبايِع لابنك موسى وإن كان صغيرًا، فتكون الخلافة أعرق في بني هاشم؛ لأنه لم يولد لبني العباس خليفة والداه هاشميان إلا أنت، فأولادك أعرق في النسب الهاشمي من سائر العباسيين.» فانبسطت سرائر الأمين وسكت وأطرق فابتدرته قائلة: «ولْنعُدْ إلى تلك الفتاة الخائنة، فما أجدرك أن تقتلها وتتخلص منها.» قال: «أقتلها؟ وأيَّ ذنب أتت؟ وما الذي نخافه من بقائها حية؟» قالت: «إنك غافل يا محمد عما يجري حولك، وقد شغلك اللهو عن دسائس المملقين. أما أنا فساهرة على شئونك وأعلم ما يجري في قصرك. وقد تبيَّنت أن بقاء هذه الفتاة في قصرك أشد خطرًا عليك من بقاء ولاية العهد لأخيك، فاقتلها!» فاستغرب الأمين تشديدها وهو لم يرَ في الفتاة ما يوجب ذلك فقال: «لا شيء عليَّ إذا قتلتها، ومثلها مئات بل ألوف في قصري، ولكنني وعدت أم حبيبة بأن أحافظ عليها.» فأفلت جأش زبيدة من يدها عند سماعها قوله، ونهضت وقالت: «إنك لا تزال ساذجًا تجوز عليك الألاعيب، وإلا لأدركت من شفاعة بنت عبد الله فيها أن هناك ما يبعث على الشك. اعلم أن ميمونة هذه مخطوبة لأكبر أعداء العباسيين، وبينها وبينه مراسلة تشفُّ عن تعمُّده الانتقام لأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، وهو يَعُد العباسيين خائنين غادرين، وإذا كنت في شكٍّ مما أقول فاقرأ هذا الكتاب.» قالت ذلك وأعطته لفافة فيها كتاب بهزاد، فأخذ الأمين الكتاب وطفق يقرؤه ولم يصل إلى آخره حتى ارتجفت يداه وارتعشت أنامله لما حواه من الطعن في العباسيين والنقمة عليهم وتهديدهم؛ فنظر إلى أمه وكانت قد قعدت واتكأت على الوسادة وأخذ الغضب منها مأخذًا عظيمًا، فالتفتت إليه وقالت: «أرأيت هذه اليتيمة المسكينة؟ هذا خطيبها يزعم أننا غلبْنا بالغدر والخيانة، وأنه سينتقم لأبيها وذاهب إلى خراسان لهذا، فكيف تُبقيها في قصرك وبين جواريك تطَّلع على أحوالك ومساعيك وأسرارك؟» فدُهش الأمين لسهر أمه على شئونه وقال: «كيف وصلتِ إلى هذا الكتاب ومن أتاكِ به؟» قالت: «أتيت به من وسط قصرك لأني ساهرة وأنت نائم!» فأخذته العزة بالإثم وقال: «سآمر بإلقائها في قاع دجلة الساعة.» قالت: «أتُلقيها في دجلة بلا سؤالٍ ولا جواب؟» قال: «أليس الغرض أن نتخلص منها؟» قالت: «ما أقلَّ دهاءَك! قبل أن تقتلها استطلعها ما تعلمه من أحوال أعدائنا؛ فلا ريب أنها تعرف أسرارهم، ومتى نلت مرادك منها فاقتلها أو أغرقها كما تشاء.» قال: «أدعوها إليكِ الساعةَ ونسألها معًا؟» قالت: «افعل.» فصفق فجاءه أحد الغلمان فقال له: «إليَّ بالجارية ميمونة.» وكانت ميمونة منزويةً مع جدتها في أبعد غُرف القصر خوفًا من أن تراهما زبيدة. وعبادة تتوسل إلى الله أن ترجع زبيدة قبل أن تراها، وإذا بالغلام قد جاء يدعو ميمونة إلى أمير المؤمنين. فلما سمعت عبادة قوله أسقط في يدها، وتحققت أن زبيدة أتت لتُحرض ابنها على الإيقاع بها بعد مقابلتها تلك؛ فندمت على ذهابها إليها. ولم تجد ميمونة بُدًّا من الطاعة، فتبعت الغلام حتى أتى القاعة، فدخل وقال: «الجارية بالباب يا مولاي.» قال: «تدخل.» فدخلت مُطرقة خجلًا وركبتاها تصطكَّان من الخوف؛ فوقع نظرها على زبيدة وهي متكئة وقد زادها الغضب هيبةً ورهبة، والأمين جالس بجانبها كأنه بعض غلمانها. فوقفت وحيت فابتدرها الأمين قائلًا: «تقدَّمي يا ميمونة.» فمشت نحوه وهي تنظر إلى الأرض وقد أخذتها الرعدة من الخوف، فمدَّ يده وفيها الكتاب وقال: «أتعلمين لمن هذا الكتاب؟» فلما وقع نظرها على الكتاب عرفته وأيقنت بافتضاح سرها، فلم تَعُد يدها تطاوعها على تسلُّمه من شدة الارتعاش، فتناولته وأناملها ترتعد فسقط من يدها فانحنت لالتقاطه عن البساط فسقطت واهنة القوى ولم تَعُد تستطيع الوقوف وانحدرت دموعها على خديها، وحاولت أن تنظر إلى الكتاب فلم تستطع وغلب عليها البكاء فتربَّعت عند قدمَي الأمين تُقبِّلهما وتبكي ولا تفوه بكلمة. فصاحت زبيدة فيها قائلة: «ويلكِ ما يبكيكِ؟ أتظنين البكاء ينجيكِ؟ من هو بهزاد هذا؟ أليس حبيبك حامل سيف النقمة على العباسيين؟» ثم رأت أنها يجب أن تحتال في كشف سرها فعمدت إلى الملاينة فقالت: «لا تخافي، إنما يُنجيكِ الصدق. قولي لنا أين حبيبك الآن؟ وما الذي تعرفينه من أحوال الخراسانيين. فإذا صدقتِنا القول أطلقنا سراحكِ وأبقينا عليكِ، وإلا فإنكِ مقتولة لا محالة.» فقالت وصوتها يتقطع من البكاء: «ثقي يا سيدتي بأني لا أعلم شيئًا غير ما في هذا الكتاب، وقد تفهمين من تلاوته أنني لم أكن قبله أعرف هذا الشاب، وأقسم برأس أمير المؤمنين أني لم أعد أعرف شيئًا عنه بعد تلاوته.» فضحكت زبيدة مُستخِفة وقالت: «وتقسمين برأس أمير المؤمنين؟» قالت: «أقسم به لأني صادقة في قسمي.» فقال الأمين: «اصدقينا يا بُنية ولا خوف عليكِ. وإذا لم تقولي الصدق أتينا برئيس المنجمين في هذه الساعة فيكشف مكنونات صدرك؛ فإذا أطلعنا على شيءٍ تنكرينه كان جزاؤك العذاب الأليم.» قالت: «الأمر لأمير المؤمنين، وليس عندي غير الذي قلته.» فصفق الأمين وأمر الغلام بأن يدعوَ رئيس المنجمين، فذهب الغلام، وكانت ميمونة قد وقفت فأمرها الأمين بالجلوس فجلست، ولم تكن تعلم أن رئيس المنجمين هو سلمان نفسه، وكانت تظن سلمان هرب أو مات لطول غيابه عنها، وبعد قليلٍ أقبل الملفان سعدون بعمامته الكبيرة السوداء وجُبته الطويلة وتحتها الثوب العسلي وقد تمنطق بزُنَّار غرس فيه الدواة، واصطنع لحية كثيفة مسترسلة دبَّ فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثيفين، وغير ذلك من قيافة الحرانيين أهل الذمة، وهي تخالف ما تعرفه عن سلمان ولو خامرها شك فيه لعرفته من عينيه وأنفه. ودخل سعدون وحيَّا ووقف متأدبًا وقد تأبط الكتاب وعيناه تختلسان النظر إلى أهل ذلك المجلس، فرأى ميمونة وزبيدة، ووقع بصره على كتاب بهزاد بين يدَي الأمين؛ فعرفه لأنه هو الذي حمله إلى ميمونة، فأدرك لأول وهلةٍ سبب استقدامه، ثم أمره الأمين بالقعود بلا حجاب أو ستر بينهما، فقعد جاثيًا وعيناه لا تتحولان عن الأرض، فابتدره الأمين قائلًا: «دعوناك يا ملفان سعدون نطلب إليك أن تستطلع سِرَّ هذه الجارية؛ فقد سألناها فأنكرت وهددناها باستطلاع سرها على يدك، فاصدقنا.» وكانت زبيدة جالسةً تنظر إلى المنجم ولا تتكلم حتى ترى علمه، وكانت قليلة الإيمان بالمنجمين، وإنما رضيت باستدعاء المنجم ساعتئذٍ إرهابًا لميمونة لعلها تعترف خوفًا من العقاب. أما سعدون فأخرج كتابه والتمس أن يؤتى إليه بكانون فيه نار من خشب الزيتون زاعمًا أن المندل لا يتم إلا إذا كانت النار من ذلك الخشب، فأتوه بالنار في شبه مبخرة من الفضة وضعوها على طبقٍ بين يديه، وهو ماضٍ في القراءة والتمتمة، ثم أخرج من جيبه قطعة بخور ألقاها في النار، وطلب قدحًا فيه ماء فأتوه به فأخذه بيساره بين الإبهام والسبابة وتفرَّس في الماء حينًا ثم استأذن الخليفة في أن تتقدَّم ميمونة نحوه وتضع يدها على كتابه فتقدمت وهي ترتعد خوفًا ووضعت كفها على ذلك الكتاب. وتناول سعدون يدها الأخرى وقرأ أساريرها ثم رفع يدها عن الكتاب وأجلسها وفتح الكتاب وقرأ همسًا وهو يبتسم ابتسام الفائز ويهزُّ رأسه، ثم نظر إلى الأمين قائلًا: «إن لهذه الفتاة حديثًا طويلًا وإن لها لشأنًا.» فضحكت زبيدة استخفافًا بهذه النبوءة؛ لأنها لا تدل على معرفة، فأدرك سعدون غرضها فنظر إليها وهو يتحاشى التفرُّس في وجهها تأدبًا وقال: «لا أقول ذلك تعميةً أو إبهامًا، ولكنني أعني أنها ليست من عامة الناس، بل من أصلٍ عريق في الكرامة والوجاهة وإن كانت اليوم في جملة الجواري.» فقطعت زبيدة كلامه قائلة: «إذا كنت على ثقةٍ مما تقول فأنبئنا عن حقيقة حالها بصراحة.» قال: «وأقول ذلك أمامها؟» فقالت: «قل.» فأعاد النظر إلى القدح ثم نظر في وجهها وقال: «إنها بنت وزير مات مقتولًا.» فلما قال ذلك اقشعرَّ بدن الفتاة وامتُقع لونها، والتفت الأمين إلى أمه لفتة ظافر فرآها لا تقلُّ دهشةً عنه ولكنها تجاهلت وقالت: «ربما كنت مصيبًا فيما قلته.» ومدت يدها إلى كتاب بهزاد وقبضت عليه بكفها وقالت: «وما الذي بيدي؟» قال: «كتاب.» فقهقهت وقالت: «بورك في مهارتك، إن الأطفال يعرفون ذلك. فإذا كنت رئيس المنجمين كما يُسمُّونك فقل ماذا في هذا الكتاب.» قال: «يسوءني يا سيدتي استخفافُك بعلمي، وقد يجدر بي بعد ما سمعتُه أن أسكت عما أعلمه، ولكنني أقول لك إنك تقبضين على كتاب من نار، بل النار أخفُّ وطأةً على هذه اليد اللطيفة مما في هذا الكتاب. إن بيدكِ كتابًا من رجل فارسي إلى هذه الفتاة وفيه من نُصرة الفرس والغض من مقام العباسيين ما يسوءُكِ ويسوء مولاي أمير المؤمنين. وإذا لم يُقنعك هذا الإجمال فصلته تفصيلًا. إن هذا العلم لم يَكذبني من قبل، ولا أدري إذا كان قد صدقني الآن.» فبُغتت زبيدة ولم تَعُد تستطيع إخفاء الإعجاب فقالت: «صدقتَ أيها الملفان، وإذ قد علمت سِرَّ الكتاب فأعلمنا عن صاحبه أين هو الآن؟» قال: «هو بعيد يا سيدتي. إنه في خراسان.» قالت: «وما علاقة هذه الفتاة به؟» قال: «إنها علاقة قريبة العهد، وإذا ادَّعت غير ذلك فإنها كاذبة، ولا تُسأل عمَّا حواه الكتاب من كلام التهديد أو الانتقام؛ لأنها كانت خالية الذهن منه حين وصوله إليها، ثم لم تَعُد تعلم عن صاحبه شيئًا.» وكانت ميمونة أكثر السامعين استغرابًا؛ لأن الرجل قرأ ما في ضميرها، ولو أرادت هي أن تترجم إحساسها لم تستطع تبيانه بأوضح من ذلك، فأشرق وجهها وبانت الطمأنينة في مُحيَّاها، ونظرت إلى الأمين نظر الاسترحام وظلت ساكتة. أما زبيدة فخفَّت نقمتها على ميمونة ولم يَخِفَّ كُرهها فقالت لسعدون: «هل تعتقد أن هذه الجارية بريئة؟» قال: «هذا ما أظهره لي المندل، وعهدي به لا يَكذبني. وعند أمير المؤمنين الخبر اليقين عنه.» فأشارت إلى ميمونة أن تخرج فخرجت وهي لا تُصدق أنها نجت. ثم التفتت زبيدة إلى الملفان سعدون وقالت: «إني واثقة من علمك أيها الملفان، ولكن قلبي لا يُحدثني عنها خيرًا.» قال: «لأنكِ تكرهينها، ولا عجب فإن أباها أساء إليكِ وإلى سيدي أمير المؤمنين، وإذا رأيتِ أن أعيد المندل في فرصةٍ أخرى فعلت. وإذا أذن أمير المؤمنين أن أجالسها مرةً أخرى على انفرادٍ زدته تفصيلًا عن أحوالها.» فقال الأمين: «لك ذلك أيها الملفان.» ونظر إلى أمه نظرةً فهمت غرضه منها بينما سعدون يتشاغل بجمع ما تفرَّق بين يديه من ورق كتابه استعدادًا للخروج. فابتدرته زبيدة قائلة: «أما وقد بدا لنا منك هذا العلم الواسع في استطلاع الغيب فأخبرنا عما يجول في خاطري وخاطر أمير المؤمنين.» فأدرك أن المأمون أهم ما يمكن أن يجول في خاطرهما وقتئذٍ فقال: «يجول في خاطركما أشياء كثيرة أهمها يمس رجلًا في خراسان تحذرونه ويحذركم، وقد تخافونه وهو أشد خوفًا منكم.» فوافق قوله ما في نفسها فقالت: «صدقت، وماذا ترى بعد ذلك؟» فأعاد النظر في الكتاب طويلًا حتى ظهر الاهتمام في جبينه وتصبَّب العرق منه، ثم رفع نظره إليها وقال: «لا أرى مناصًا من تجريد السيوف.» قالت: «ومن يُجردها؟» قال: «إنما يظفر السابق وعلم المستقبل عند الله.» فالتفتت إلى الأمين ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك بادر إلى خلعه قبل أن يخلعك؟» فقال الأمين: «وقد أشار وزيرنا الفضل بخلع عبد الله، فإذا لم يُذعن حملنا عليه بالجيوش، فهل نغلب؟» فتناول الكتاب ثانية وقلب عدة صفحاتٍ ثم قرأ ونظر إلى السماء من نافذةٍ في تلك القاعة، وأخرج قلمًا من منطقته وغطسه في المِداد وكتب وحسب ثم قال: «قلت لمولاي إن علم المستقبل عند الله وليس لي. ولكن يظهر لي من هذا الحساب أن الفئة التي فيها الفضل هي الغالبة بإذن الله.» فازداد الأمين اعتقادًا بضرورة الخلع، فأثنى خيرًا على الملفان سعدون وأمر له بجائزة، فعلم هذا أن قد آن له أن ينصرف فجمع أوراقه وأدواته واستأذن وخرج. ثم نهضت زبيدة للذهاب، فأتتها المواشط فألبسنها ما خلعته عند وصولها. ولما ودعت ابنها نصحت له بأن يأتيَ للإقامة بقصر الخلد قريبًا منها؛ فوعدها بذلك فعادت بموكبها إلى دار القرار. وأقر الأمين بعد ذهابها خلع أخيه وتولية ابنه موسى، وبعث إلى خراسان بذلك كما تقدم. ثم جنَّد جندًا أراد أن يجعل الفضل قائدًا عليه. ولكن هذا رغَّبه في ابن ماهان ففعل، وخرج الجند لمقاتلة طاهر بن الحسين في الري، وبعد إرسال الجند انتقل الأمين إلى قصر الخلد ونقل معه بطانته. أما ميمونة وسعدون فأبقاهما وأمر بالاحتفاظ بهما. ••• كانت ميمونة قد خرجت من حضرة الأمين وهي ترقص فرحًا ودهشةً حتى أتت جدتها وكانت تنتظرها على مثل الجمر، فقصت عليها ما جرى وأثنت على مهارة رئيس المنجمين، فاستغربت عبادة ما سمعته وقالت: «جزاه الله خيرًا، إن الله سخره لإنقاذنا من هذا الخطر العظيم، ولولاه ما رضيت تلك الملكة الظالمة بغير قتلنا.» فقالت ميمونة: «وقد تخلى سلمان عنا فأرسل الله لنا من يأخذ بيدنا، إنه سبحانه لا يترك المظلوم حتى ينصره.» ومكثتا في ذلك القصر بعد انتقال الأمين إلى قصر الخلد لا يعلمان شيئًا مما يجري من شئون السياسة، وفقدت ميمونة تسليتها بفقدها كتاب بهزاد، ولما طال غياب سلمان عنها كادت تنساه لولا ارتباط ذِكره بذِكر بهزاد. وكيف تنساه وهو خليفة بهزاد عليها وقد حمل إليها كتابه؟ وكانت في شوقٍ كثير لمعرفة مكان حبيبها لتُطلعه على حالها لعله يسعى في إنقاذها. وأنى لها ذلك وهي محبوسة بين أربعة جدران لا تسمع خبرًا ولا ترى رجلًا. وكانت عبادة تحاول التخفيف عنها جهد طاقتها. وفيما هما جالستان ذات يوم جاءتهما قهرمانة القصر تقول: «إن رئيس المنجمين يطلب مشاهدة ميمونة.» فبُغتت الفتاة وصعد الدم إلى وجهها وقالت: «ما شأننا معه؟» قالت: «إن أمير المؤمنين أوصى بألا يؤذن لأحد في مشاهدتك غير رئيس المنجمين متى شاء، ولا بأس عليك منه.» فتحوَّلت بغتتها إلى سرور وقالت في نفسها: «سأسأله عن سلمان أو بهزاد إذا آنست منه عطفًا لعله يهديني إلى مكانهما.» ثم قالت للقهرمانة: «هل يأتي إلينا أم نذهب نحن إليه؟» قالت: «طلب أن يراكِ على انفرادٍ في غرفته.» فأجفلت وقالت: «أنفرد به في غرفته، وهو رجل غريب؟» فقالت عبادة للقهرمانة: «هل تأذنين أن أكون أنا معها في تلك المقابلة؟» قالت: «لا بأس.» فنهضتا وتنقبتا، وأرسلت القهرمانة معهما غلامًا أوصلهما إلى غرفة الملفان سعدون في بعض أطراف القصر، وقرع الغلام باب الحجرة وأنبأ بوصول ميمونة ورجع؛ ففتح سلمان الباب وهو بقيافته المعهودة ورحَّب بالفتاة وجدتها وأدخلهما الحجرة وأقفل الباب وراءهما. فلما وجدت ميمونة نفسها في ذلك المكان استوحشت وتلفَّتت فلم تجد حولها إلا أدواتٍ وأشياءَ لا تفهم لها معنًى، من أنابيبَ وأقداحٍ مختلفة الأشكال والألوان، وألواحٍ عليها رسوم وخطوط بعضها يُقرأ وبعضها طلاسم لا يُقرأ. وكان قبل دخولهما قد نزع جُبته وبقي بالإزار (القفطان) العسلي وحوله الزُّنَّار وعلى رأسه عمامة صغيرة، فأشار إلى ميمونة وجدتها بالقعود على طنفسة بجانب طراحته فقعدتا وهما لا تتكلمان. فقعد هو بين يديهما وخاطب ميمونة قائلًا: «هل تعلمين يا ميمونة أني أنقذتكِ من القتل؟» فدُهشت لما سمعتْه يذكر اسمها وقالت: «نعم يا سيدي، وإني لا أنسى لك هذا الجميل، جزاك الله خيرًا.» قال: «إني لا أسألكِ على ذلك أجرًا، وأتقدَّم إليك أن تَصدقيني في سؤالٍ أُلقيه عليك: هل تفعلين؟» قالت: «نعم، وهل أستطيع غير ذلك وأنت تكشف مكنونات القلوب؟» قال: «هل تحبين بهزاد كثيرًا؟» فتورَّدت وجنتاها فجأة، وأطرقت حياءً فابتدرها قائلًا: «لا ينبغي أن تستحيي مني، قولي.» فتنهدت وظلت مُطرقة ولم تُجب. فأجابت عبادة عنها وقالت: «أظن رئيس المنجمين فهم جوابها دون أن تنطق به؟» فوجَّه خطابه إلى العجوز وقال: «وهل أنتِ لا تزالين تعرفين الحب ودلائله رغم ما مرَّ بكِ من الأهوال؟» فلم تستغرب عبادة إشارته إلى حالها بعد ما بلغها من إعجازه في كشف الضمائر فسكتت؛ فالتفت إلى ميمونة ويده على لحيته يُمشطها بأنامله وقال: «قد علمتُ أنكِ تحبين بهزاد، ولكن هل هو يحبك؟» فرفعت كتفيها وهي مُطرقة كأنها تقول: «لا أعلم.» فابتدرها قائلًا: «لو كان يحبك لم يترككِ في هذا القصر ويذهب، وقد تبقين فيه العمر. وقد دبَّرت لك سبيلًا للنجاة، فإذا أطعتِني أفلحتِ.» قالت: «إني رهن أمرك يا سيدي.» قال: «إني أعرف شابًّا هو خير شبان بغداد وأكبر وجيهٍ فيهم، يحبك حبًّا مبرحًا وأنتِ لا تحبينه.» وتوقَّف عن الكلام، فأدركت أنه يشير إلى ابن الفضل، فأظهرت الاشمئزاز والتفتت إلى جدتها كأنها تُكلفها أن تُجيب عنها، فهمَّت عبادة بالكلام، فقطع سعدون كلامها قائلًا: «إني أعرف الجواب، ولكن رفضكِ لا ينفعك؛ لأن الرجل صاحب النفوذ الأكبر، وإذا طلب من أمير المؤمنين دفعكِ إليه فأجدر بك أن تقبلي راضية. وهذه نصيحتي؛ فإن بهزاد بعيد، ومن يدري فقد لا ترينه بعد.» فضاق صدر ميمونة عند ذلك وانحبست عواطفها ولم تستطع أن تُمسك عن البكاء، فنهضت عبادة وقالت كمن يستغيث: «أما وقد اطلعت على سِرِّنا وعرفت حقيقة حالنا، فأتوسل إليك أن تكون عونًا لنا لا علينا.» فأشار إليها أن تقعد وقال: «ماذا تريدين؟» قالت: «لا نصيب فينا للفتى الذي تشير إليه، وأنت تعرف السبب، والموت أيسر علينا من إجابة طلبه. وإنما أتقدم إليك أن ترشدنا بعلمك إلى أمر يهمنا.» قال: «وما ذلك؟» قالت: «أضعنا عونًا كبيرًا خلَّفه لنا بهزاد عند سفره، وهو الذي أوصل كتابه إلى ميمونة، ثم لم نعد نراه ولا نعرف مكانه، فهل تكشف لنا خبره بالمندل؟» فضحك وقال: «أظنكِ تبحثين عن سلمان؟» قالت: «نعم.» قال: «إن الوزير سألني عنه أيضًا.» فقالت عبادة: «وهل هو في بغداد؟» قال: «نعم، إنه في هذا القصر.» فبُغتت ميمونة وقالت: «في هذا القصر؟» قال: «وفي هذه الغرفة.» وأحسَّت عبادة عند ذلك كأن غشاوة انكشفت عن عينيها وتذكرت ميمونة صوت سلمان فصاحت: «سلمان؟ سلمان؟» فقال: «لا ترفعي صوتك، نعم أنا سلمان، أنا رئيس المنجمين!» ولم تستطع الإمساك عن الضحك وبان البِشْر في وجهها وخفق قلبها وأحسَّت كأنها لقيت حبيبها بهزاد لأملها في الاطلاع على أخباره، فلم تَعُد تعرف كيف تسأل سلمان وتستفهمه، وأرادت التكلم فتلجلجت فسبقها إلى الكلام قائلًا: «ستلومينني على اختفائي كل هذه المدة، ولكنني لم أختفِ إلا رغبةً في خدمتك، فلما رأيت منفعة لك في الظهور ظهرت، وأظنني أفدتك.» فقالت عبادة: «إنك أنقذتنا من الموت، جزاك الله خيرًا و…» وقطعت ميمونة كلام جدتها فقالت: «وأين بهزاد الآن؟» قال: «في بغداد أو حولها.» فصاحت: «في بغداد؟ ألا يأتي إلينا؟» قال: «وهل تظنين أن ظهوره سهل؟ إنه لا يظهر إلا إذا آن الأوان. وقد تغيرت أحوال بغداد منذ وطئ ترابها؛ لأن الأحزاب السرية عادت إلى عملها بإرشاده، فكثرت العثرات في طريق هذا الغلام القابض على قضيب الخلافة.» فقالت: «بورك فيك يا سلمان، لله ما أكرم نفسك! بهزاد أتى من خراسان؟ هل رأيته؟» قال: «نعم، رأيته وحادثته.» قالت: «وأين شاهدته وكيف؟» قال: «لنا مكان نلتقي فيه لا يعرفه أحد سوانا.» قالت وقد أشرق وجهها: «إذن هو هنا وسنراه؟ ومتى يكون ذلك؟» قال: «لكل شيء وقت، لا تكوني لجوجة.» قالت: «حسنًا، كما تشاء، والآن ما الذي ترى أن نصنع؟» قال: «تبقيان كما كنتما، وتكتمان ما رأيتما عن كل إنسان، حتى يأتيَ الوقت الموافق وأظنكما تثقان بما أقوله.» فقالت عبادة: «مضى علينا زمن لم نسمع فيه خبرًا عن المأمون ولا عن الأمين ولا عن الحال بينهما.» قال: «أُبشركِ يا سيدتي بأن الله سينتقم لكِ ولنا. إن الأمين خلع أخاه المأمون من ولاية العهد، فخلعه هذا أيضًا، وقام الفرس لنصرة المأمون لأنهم أخواله، وجرَّدوا جيشًا بقيادة طاهر بن الحسين، وجرد الأمين جيشًا بقيادة ابن ماهان صاحب الشرطة، فالتقى الجيشان في الري فانتصر جيش المأمون وقُتل ابن ماهان وتشتت جيشه، ولما وصلت هذه الأخبار إلى الأمين وقع في حيرةٍ وبعث إليَّ فذهبت إليه في قصر الخلد واستشارني، فأشرت عليه بأن يرسل الفضل بن الربيع في الحملة الثانية، وأنا أعلم أن الفضل لا يذهب، وجعلت نجاحه في الحرب مشروطًا بإرسال الفضل وابنه، فآل ذلك إلى اختفاء الفضل، ولم تفلح الحملة الثانية فضعف حال الأمين واستخفَّ به رجال دولته حتى همُّوا بخلعه، ولكنهم لم يستطيعوا لأن سلمان لم يكن معهم، ولو شئت لخلعوه ولكنني أردت إضعافه فقط.» فأُعجبت ميمونة بدهاء سلمان، وسُرَّت بما دبَّره للفضل وابنه. ثم قال سلمان: «فامكثا في قصر المنصور هذا برعاية قهرمانته، وربما ذهبتُ أنا إلى الخليفة ومكثت في قصر الخلد أيامًا.» وصفق فأتى غلامه فقال له: «اذهب بهما إلى القصر، وقل للقهرمانة فريدة أني أحب أن أراها.» فمضى بهما. وهمَّ سلمان بلبس ثيابه وأمر الغلام أن يُعِد له بغلته ليركب إلى قصر الخلد ويمر في طريقه على القهرمانة ويوصيها بهما. ثم ركب ومرَّ بالقهرمانة وأوصاها بأن تحتفظ بهما، فأشارت مطيعة، فتحوَّل يطلب قصر الخلد والغلام في ركابه، والناس ينظرون إليه ويوسِّعون له إعجابًا بما اشتُهر عنه من معجزات التنجيم. وصل سلمان إلى قصر الخلد فوجد بالباب جماعة من العيارين يحرسونه بدلًا من الجند، وعرفه أحدهم فنهض وحيَّاه ووسَّع له فدخل على بغلته إلى ردهة القصر، ولقي الهرش رئيس العيارين خارجًا على فرسه، فلما وقع نظرُ هذا على الملفان سعدون أوقف فرسه وسلَّم عليه. فسأله عن سبب وجود رجاله بالباب بدلًا من الجند فقال: «إن الجند غاضبون على أمير المؤمنين.» قال: «لماذا؟» قال: «إن خبره يطول ولا أستطيع بسطه ونحن راكبان، ولا أظنه يخفى عليك ولكنني أقول موجزًا: إن طاهرًا وأصحابه لما أفلحوا في وقعة الري وقُتل ابن ماهان ضعفت عزائم جنده وهربوا وتقدَّم طاهر فاستولى على أعمال الجبال، فجنَّد الأمين حملة أخرى فعادت خائبة، وضعفت سطوة الخليفة حتى حاول قواده خلعه ثم رجعوا عن ذلك، وظل طاهر يتقدم في جنده حتى أتى الأهواز ثم استولى على واسط فالمدائن، ونزل أخيرًا إلى صرصر وهي على مقربة منا. وكان أمير المؤمنين يُخرج الأموال ويُفرقها في رجاله. وبلغ ذلك رجال طاهر فطمعوا في الأموال، فجاء منهم جماعة إلى الأمين فأعطاهم وغلف لحاهم بالغالية وأكرمهم كثيرًا؛ فغضب جنده لأنه لم يكرمهم مثل هذا الإكرام فتفرقوا عنه غاضبين، فبعث إليَّ أن آتيَ برجالي لنصرته.» فضحك سعدون وقطع كلام الهرش قائلًا: «رُبَّ مصيبةٍ أتت بنعمة، لا بد أن يكون الأمين قد بذل لكم الأموال فغنمتم، وأنت تعلم أن ما يَسرُّك يَسرُّني وأنك أهل للعطاء أكثر من أولئك القواد الخائنين ومن الوزراء؛ فهذا الفضل بن الربيع لما رأى الأمر استفحل ترك مولاه واختفى وهو سبب هذا البلاء كله.» قال ذلك وودَّع الهرش وساق بغلته فاستوقفه الهرش قائلًا: «إنك داخل على الخليفة، ومتى رأيته يزول عجبك مما بلغ إليه أمرك.» فلم يفهم سلمان قصده، فلما نزل عن بغلته عند الباب الثالث من أبواب القصر ودخل الحديقة أدرك السر. وذلك أنه سلَّم البغلة لغلامه ومشى في الحديقة يتوكأ على عصاه وينظر ذات اليمين وذات الشمال، فلا يرى إلا غلمانًا يركضون وبعضهم حفاة مكشوفو الرءوس، فأوجس خيفة من هذا المنظر. وظل ماشيًا في بعض طرق الحديقة حتى أشرف على بِركة كبيرة في وسط الحديقة وقد تكأكأ حولها الغلمان ونزع بعضهم ثيابه وغطس فيها، وآخرون واقفون يحدقون في مائها، ثم رأى الأمينَ نفسَه مقبلًا كالوالِه وعليه ثياب المنادمة وقد ذهبت القلنسوة عن رأسه، فظن سلمان أن دسيسةً كُشفت في القصر يراد بها قتل الأمين وأن الغلمان يفتشون عن صاحبها وتوهَّموا أنه نزل البركة التماسًا للفرار إلى دجلة؛ لأن البركة متصلة بقناةٍ تمر من تحت السور، فإذا أُغلقت الأبواب على الهارب وكان يُحسن السباحة استطاع الخروج من القناة إلى دجلة لا يعترضه إلا شبكة كالمصفاة منصوبة عند مخترق القناة من السور لا يصعب عليه نزعها. ثم سمع الأمينَ يصيح قائلًا: «أين مقرطتي؟ أين ذهبت؟ من أخذها؟ يا سعيد، يا جوهر، يا كوثر، يا … تعالوا، أظنها وقعت في البركة، ابحثوا عنها، ألقُوا الشباك.» فلما سمع كلامه تذكَّر ما سمعه من الهرش، وعرف ما يعنيه؛ فقد كانت هذه الضجة كلها لأن الأمين أضاع مقرطته، وهي سمكة كانت قد صِيدت له صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا در، وكثيرًا ما كان يلهو بها، فاتفق أن تفقَّدها في هذه الساعة فلم يجدها، وشغل أهل القصر بالتفتيش عنها. فلما رأى سعدون ذلك تنحَّى جانبًا حتى يفرغ الأمين من لهوه أو يجد مقرطته، وقال في نفسه: «كيف تستقيم أمور دولة هذا شأن خليفتها؛ فلا عجب إذا فاز أخوه الساهر على أمره، ومعه جند يتفانَون في نصرته؟ وهذا إنما يُحيط به المتملقون طمعًا في رفده.» وفيما هو كذلك رأى الأمين ينظر إليه وقد تحوَّل مجونُه وتهتُّكه إلى جدٍّ واهتمام، وأشار إليه أن يتبعه؛ فمشى سعدون في أثره حتى اجتاز باب القصر الداخلي واتصل منه إلى دهليز ينتهي بقبة يُسمُّونها «طارمة» مصنوعة من خشب الصندل والعود، مساحتها عشر أذرع في مثلها، اتخذ لها فراشًا مبطنًا بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبرَيْسَم، ورأى رجالًا وقوفًا ببابها عليهم سيماء الوجاهة، وقد وسَّعوا للأمين عند دخوله، ومنهم: إبراهيم بن المهدي عم الخليفة، وسليمان بن جعفر المنصور من شيوخ بني هاشم. فلما دخل الأمين أشار إلى سعدون بالدخول وصرف الباقين، فترك سعدون عُكازه ونعاله بالباب ودخل. فجلس الأمين على دكة في صدر القبة وأشار إليه أن يقعد، فقعد وهو يعجب لتغير حاله. ووقع نظره على آثار لمجلس شراب وغناء كان منعقدًا هناك قبل مجيئه، فرأى الأقداح مبعثرة والأباريق متفرقة بين فارغ ومملوء وأطباق الفاكهة مصفوفة، ورأى بين يدي الأمين قدحًا من بلور يسع شرابًا يزن خمسة أرطال وقد قُلب وانكسر. ورأى قدحين مثله بين وسادتين كان عليهما اثنان من خاصة الجُلاس لعلهما سليمان بن المنصور وإبراهيم بن المهدي، وهما أرفع مقامًا من سائر جُلاسه. فأدرك سعدون أن الأمين كان في مجلس طرب وعلم بضياع مقرطته فأسرع للبحث عنها، ولكنه استغرب انقلابه من اللهو إلى الاهتمام، فلبث ساكتًا حتى يبدأ الأمين بالكلام. أما هذا فإنه أزاح بقايا القدح المكسور بين يديه ونظر إلى سعدون وتنهَّد وقال: «لم يبقَ لي صديق أُودِعه سرى إلاك؛ فرجالي تفرَّقوا عني ولم أجد بينهم مخلصًا؛ لأنهم إنما يطلبون مالي، أما أنت فقد أُعجبت بعلمك واطِّلاعك على الخفايا فأحببت أن أستشيرك، ويسوءُني أنك جئتني ورأيت اشتغالي بعبث الغلمان، ثم دخلت هذا المجلس ورأيت ما فيه من آثار الندمان، على ما نحن فيه من أسباب القلق وبواعث الاهتمام.» ثم تنهَّد تنهدًا عميقًا وقال: «ولكنني أفعل ذلك لأُذهب ما بي من اليأس، فبعثت إلى بعض أعمامي، فجاءوا إليَّ بالمغنيات والشراب فشربنا وسمعنا، ولم يذهب شيء مما في نفسي، بل زدت يأسًا وكدرًا لَما سمعت الجواري يُنشدن من أبيات الشؤم، ولا أدري أفعلن ذلك عمدًا أم اتفاقًا كقول إحداهن: وإني لأخشى ممن حولي وهم مثل مرازبة كسرى ليس فيهم من يهمه أمري، حتى الفضل وزيري تخلى عني وتركني واختفى، وزادني تشاؤمًا أن إحدى المغنيات قامت لحاجةٍ لها فعثرتْ بهذا القدح فكسرتْه، وهو قدحي ما برحت أشرب به منذ أعوام لم يُصِبه عطب. فهل أُلام إذا تطيَّرت؟» قال ذلك وصوته يكاد يختنق. فقال سعدون: «لا بأس عليك يا مولاي.» فقطع الأمين كلامه قائلًا: «حتى أنت لم تَصدقني هذه المرة أو أن تنجيمك لم يَصدق.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: «أتذكر حديثك في قصر المنصور لما سألتك عن القتال بيني وبين أخي فبشَّرتني بالنجاح؟» فأطرق كأنه يفكر ثم قال: «لو راجع مولاي ما قلته يومئذٍ لتحقق صِدق قولي؛ فقد قلت إن العلم يدلني على أن الفئة التي فيها الفضل هي الغالبة، فهل ذهب الفضل في تلك الحملة؟» فانتبه الأمين لذلك وقال: «نعم لم يذهب، وقد أردت أن أرسله مع الحملة الثانية فتنصَّل، ولما ألححتُ عليه خاف التبعة فاختفى ولم أَعُد أراه ولا أعلم أين هو.» فهزَّ سلمان رأسه متعجبًا، ثم أطرق هنيهة وهو يحكُّ جبينه بسبَّابته وقال: «بل أرى المندل قد صدقني أيضًا؛ فإن وزير أخيك في خراسان اسمه الفضل، وهو أقوم على نصرته من قيام هذا الفضل على نصرة أمير المؤمنين. إني واثق من صحة ما أعلمه، وإذا ظهر خطأ فإنما يكون في فهم ما يظهر لنا من النتائج.» فصدق الأمين قوله وزادت ثقته به وقال له: «والآن لا أُخفي عليك أني قد فرغت يدي من الرجال وخزانتي من الأموال، حتى ضربت ما في قصوري من آنية الذهب والفضة نقودًا وأعطيتها لرجالي، وبِعت الآنية الثمينة وفرَّقتها فيهم، وجمعت ما استطعت جمعه من أموال التجار لأسترضيَ جندي، ولكن هذا كله لم يُفدني شيئًا وأصبحت كما ترى.» قال ذلك وغصَّ بِريقه. ورأى سعدون دمعتين تتلألآن في عينيه فلم تتحرك شفقته أو حُنوُّه، وإن أظهر ذلك احتيالًا للوصول إلى غرضه. وكان يودُّ استفحال الأمر بين الأخوين حتى لا تذهب مساعي الفرس عبثًا، فأبدى أسفه لِما سمعه من حال الأمين وقال: «ألم تبحث عن المال في قصر أخيك، فقد علمتُ بمالٍ حفظه نوفل خادم القصر من أيام مولانا الرشيد؟» فقطع الأمين كلامه قائلًا: «كان عند نوفل هذا ألف ألف درهم أخذناها مع الضِّياع والغلات.» فأطرق سعدون وقد سرَّه تضعضُع الأمين، ثم قال: «أنت تطلب المال لإرضاء الجند، وفي بغداد جند يحارب بلا عطاءٍ ويأخذ عطاءه مما يغنمه.» قال: «أظنك تعني العيارين والشطار؟» قال: «نعم، فهؤلاء يحاربون عراةً وسلاحهم المقاليع ومخالي الخوص يحملون بها الحصى يَرمون بها الناس فتؤذيهم أكثر مما تؤذيهم السيوف والرماح. وفي بغداد اليوم من هؤلاء نحو خمسين ألفًا فأْمر زعيمهم أن يُجنِّدهم.» قال: «أتظنني غافلًا عن ذلك؟ كان الهرش عندي الساعة وقد أمرته بإعدادهم فوعدني بأن يفعل، وأظنه سيجمع من تصل إليهم يده من باعة الطريق وأهل السجون والأوباش والطرارين وأهل السوق. وهؤلاء إذا قاموا خربت المدينة، ولكن …» وسكت. فأدرك سعدون أنه يكتم شيئًا يخاف التصريح به، فظل ساكتًا ينتظر ما يبدو، فعاد الأمين إلى الكلام فقال: «أشار عليَّ بعض خاصتي الباقين على ولائي بأن أخرج من بغداد بمن بقي من رجالي، وهم سبعة آلاف فارس فأَمُر ليلًا من أحد أبواب المدينة حتى آتيَ الجزيرة أو الشام، فيفرضون الفروض ويَجبون الخراج ويكون لي مملكة واسعة هناك، وأترك بغداد لأصحابها حتى يقضيَ الله بما يشاء؛ فما رأيك؟» فلما سمع سعدون ذلك تحقَّق أنه الرأي الصواب، وخاف إذا عمل الأمين به أن يُعرقل مساعيَ الفرس؛ لأن بقاء الأمين حيًّا في مملكةٍ أخرى يُفسد عليهم سعيَهم، فقال: «هل يرى أمير المؤمنين فائدة من الفرار؟ ومن أي بابٍ يخرج بسبعة آلاف فارس وبغداد محاطة بالأعداء من كل جانب شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؛ فإذا وقع في يد أعدائه — لا قدَّر الله — فإنهم يستحلون منه ما لا يستحلونه في حالٍ أخرى.» فقال الأمين: «ألا نجد لنا مخرجًا من بغداد؟» قال: «إذا شاء أمير المؤمنين صعدنا إلى إحدى المنائر العالية، وأشرفنا على بغداد وأرباضها فنرى أماكن العدو رأيَ العين والأمر بعد ذلك له.» ••• استحسن الأمين رأي سلمان، ونهض وقال: «في هذا القصر منارة عالية هلمَّ بنا إليها.» فنهض سعدون في أثره حتى صعدا المنارة وأطلا منها على بغداد وقصورها، فالتفتا أولًا نحو الشرق وقال سعدون: «انظر يا مولاي، هذه مضارب هرثمة بن أعين وراء دجلة؟ وهذه مضارب عبيد الله بن وضاح في الشماسية ومعه جند عظيم وقد حفظ الجسر الأعظم. وجند هرثمة يحرسون طريق خراسان؛ فلا سبيل إلى الفرار من هذه الجهة، وأما جهة الغرب فهذا طاهر وجنده في البستان قُرب باب الأنبار وكأني أراهم يقتربون بأعلامهم. أراهم دخلوا محلة الكرخ حول باب الكوفة وما يليها وسائر الأرباض الغربية الجنوبية، وكادوا يحصروننا والعيارون يدفعونهم بالمقاليع، ألا ترى الحصى يتطاير فوق البيوت؟» وكان الأمين ينظر إلى ذلك وقلبه يختلج وامتُقع لونه، وتحقَّق ضياع أمره، فلم يُجب ولكنه وجَّه نظره نحو الحربية في الشمال فرأى النار قد لعبت فيها فصاح: «ويلاه! ما هذا؟» فقال سعدون: «أظن أوشاب السكان وأهل السجون اغتنموا فرصة اشتغال الناس بالقتال فألقَوا النار في البيوت ليتمكنوا من السرقة والنهب. انزل يا سيدي إلى قصرك فإنك آمِن فيه وهو حصن منيع.» فنزل الأمين وسعدون وراءه حتى بلغا الدار فرأيا أهلها في هرج ومرج يركضون ذات اليمين وذات الشمال كأنهم يُفتشون عن ضائع، وحالما وقع بصرهم على الأمين أجفلوا وصاحوا: «هذا مولانا أمير المؤمنين. هو هنا.» وما عتم أن رأى أمه زبيدة تعدو نحوه حتى ضمَّته إلى صدرها ودموعها تتساقط وهي تقول: «ولداه، أين كنت؟ لقد بلبلت بالي لغيابك هذه الساعة. وقيل لي إنك كنت جالسًا هنا ثم لم يجدوك وذكروا أنك لم تخرج فطار صوابي لتغيُّبك في مثل هذا الوقت.» فأثَّرت لهفة أمه تأثيرًا شديدًا في نفسه ولم يتمالك عن البكاء، ثم تجلد وأظهر رباطة الجأش وقال: «وما الذي يُخيفك يا أماه؟ إننا في خيرٍ إن شاء الله. وإنما كنت مع رئيس المنجمين. ما الذي جاء بكِ الآن؟» فأمسكت بالأمين ودخلت به غرفة ودخل سعدون في أثرهما وأقفلوا الباب وقالت: «جئتُ لأمرٍ مهم؛ أنت تعلم أني لا أغفل عن التفكير في أمرك، وقلبي يدلني على خطرٍ يهددنا من يد ذلك الخراساني بهزاد. وما زلت أبثُّ العيون للبحث عنه حتى قيل لي إنه في بغداد، ولكنني لم أقف على مسكنه، وبينما أنا أتوقع الوقوف عليه حلمت حلمًا مزعجًا لا أقصُّه على أحد، بل أنا أريد نسيانه. على أنني لم أعد أستطيع صبرًا على بهزاد هذا، وإذا استطعنا القبض عليه فكأننا هزمنا نصف الجيش؛ لأنه منذ وطئ هذه الديار تغيَّرت حالنا وقوي جند طاهر؛ وذلك لأن بهزاد زعيم كبير وله نفوذ على كبار البغداديين، وقد ذكرت لك مرارًا أنه رئيس عصاباتٍ سريةٍ أعضاؤها من أكبر تجار بغداد وأهل النفوذ فيها.» قالت ذلك وقعدت. فقعد الأمين وهو يشير إلى سعدون أن يقعد، وقال لأمه: «وأين هو؟» قالت: «لا أدرى أين هو، ولكنني سأبعث إلى هذه الفتاة أستقدمها إليَّ لعلها تعترف بمكانه فيسهل علينا القبض عليه.» فالتفت الأمين إلى سعدون كأنه يستطلع رأيه ثم قال: «ما لنا ولتلك الفتاة؟ هذا رئيس المنجمين عندنا.» فقالت وهي تعتدل في مجلسها على الوسادة بجانب ابنها: «أخبِرنا أيها الملفان عما يدلك عليه علمك عن ذلك الخراساني.» فأخرج كتابه وقرأ فيه على عجلٍ ووضع قطعة من البخور في فمه ومضغها قليلًا ثم قال: «إنه في بغداد يا سيدتي.» قالت: «هل تعرف مكانه؟» قال: «يلوح لي أنه بين ماءين، ولكن ليس في النهر، على أن تحقيق ذلك يحتاج إلى وقتٍ أوسع وجوٍّ أصفى، أما تلك الفتاة فلا تعلم مكانه. وكيف يتأتى ذلك وهي محبوسة في قصر أمير المؤمنين لا يراها أحد ولا ترى أحدًا؟» فأطرقت زبيدة هنيهة وقالت: «علمت أن ابن الفضل يهواها وهي لا تريده، ولولا اختفاء ابنه لزوجته بها برغم أنفها.» وسكتت ثم قالت: «والفضل هذا خاننا عند الحاجة إليه. إنه أصل هذه المصائب وهو الذي حرَّض محمدًا على خلع أخيه والتجريد عليه. لعنه الله من خائن!» وغصَّت زبيدة بِريقها كأنها شعرت بالخطر المحدق بابنها، ثم استأنفت الكلام وبدا على وجهها الاهتمام وقالت: «ولكنني حسنة الظن بالفضل.» وأَحس الأمين بما تُضمره من الخوف عليه فأحبَّ أن يصرف ذهنها عن هذا فتجلد وتكلف الابتسام وقال: «سوف يلقى الخائن جزاءه، اذهبي يا أماه إلى قصركِ الآن واطمئني وادعي لنا بالنصر، ولا يغرنك ما ترين من كثرة جند الأعداء فإننا غالبون بإذن الله، ولنا من العيارين أكبر معين.» فعلمت أنه يريدها أن تنصرف، فنهضت وهمَّت بالخروج فأحست بما يُحبِّب إليها البقاء، ولم يطاوعها قلبها على فراق ابنها كأنه أنذرها بالخطر عليه، فأرادت أن تعود إلى مقعدها فخافت أن تُكدِّر ابنها فوقفت هنيهة تتردَّد ثم أكبت على الأمين وقبَّلته في عنقه قُبلاتٍ حارة، فأحس بسخونة الدمع فدفعها بلطف وقبَّل صدرها وهو يغالب عواطفه ويخاف أن تخونه دموعه. أما هي فأسرعت في الخروج وشعرت بأن قلبها خُلع من صدرها وانصرفت في موكبها إلى قصرها. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فقال سعدون: «هل يأمر لي مولاي بالانصراف؟» فقال: «امكث، لا تفارقني. إني سأحتاج إليك الليلة.» فتوقَّع سعدون من وراء ذلك نبأً جديدًا، فنظر إلى وجه الأمين فرأى اضطرابًا لم يعهده فيه من قبل، فهمَّ بالخروج إلى بعض غرف الأضياف فأشار إليه الأمين أن يمكث، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «إليَّ بالشراب وأنِر الشموع.» فلما خرج الغلام نزع الأمين عمامته عن رأسه وزفر زفرةً سُمع لها دوي وقال: «يلومونني على الشراب، وماذا يفعل اليائس في مثل هذه الحال؟ إن الشراب يُنفِّس الكرب ويُذهب الغم حتى يقضيَ الله بما يشاء.» أما سعدون فجلس متأدبًا محتشمًا، ثم جاء الغلمان بمائدة الشراب والفاكهة وأناروا الشموع الكبيرة المعروفة باسم الأمين، فصاح الأمين بالغلام قائلًا: «هل عمي إبراهيم هنا؟» يريد إبراهيم بن المهدي المغني. قال: «كلا يا مولاي.» فأشار إليه أن يملأ له قدحًا، ثم أخذه وأشار إليه أن يملأ قدحًا آخر وقال لسعدون: «ألا تشرب يا ملفان؟» قال: «إذا أمرني أمير المؤمنين أطعته، ولكنني لم أذقها قبل الآن والشراب لا يتفق وصناعتي.» فقال الأمين للساقي: «دعه لا تَسقِه؛ إننا في حاجةٍ إلى علمه وصناعته الليلة، وإذا جاءنا رسولٌ فأوصِ صاحب بابنا أن يوصله إلينا حالًا ولو في نصف الليل.» فازداد سلمان رغبةً في استطلاع ما يُضمره الأمين، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فشرب الأمين بضعة أقداح وسُرِّي عنه، فالتفت إلى سعدون وقال: «أتدري لماذا استبقيتك هنا دون سواك؟» قال: «كلا يا سيدي.» قال: «لو أردتُ لكشفتُ سِري لبعض خاصتي، ولكنني أصبحت لا أثق بأحدٍ من أهل بطانتي بعد أن تكشَّفوا لي عن أعداءٍ في ثياب الأصدقاء، وما منهم إلا من يطمع في مالي، ويكفيك مثلًا منهم وزيري سبب هذا الخصام بيني وبين أخي؛ فإنه لما رأى اشتداد الأزمة خاف على حياته واختفى ولم يبالِ ما يهددني، وهكذا فعل كل رجال دولتي؛ فإنهم بقوا معي حتى أنفقتُ أموالي وبعتُ جواهري وآنيتي، فلما فرغت يدي تخلَّوا عني. وشدد الأعداء الحصار علينا فمنعوا الأقوات عنا.» وكأنه خاف أن تبدوَ جهشة بكائه فتناول قدحًا وفاكهةً يتشاغل بهما، وأعطى سعدون بعض الفاكهة وهو يقول: «ومن كان هذا شأنه مع رجال بطانته كيف يُرجى فلاحه؟» فاستبشر سعدون من شكواه وتحقَّق سقوط دولته، ولكنه تظاهر بالاستغراب وقال: «لا ييأس أمير المؤمنين، إن الله ناصره فليتوكلْ عليه.» فقال: «طالما خدعتْني الآمال، وصدقتُ المتملقين أهل الفساد حتى نزغ الشيطان بيني وبين أخي، فرأيت رجاله أثبتَ من رجالي وقواده أكفأ من قوادي ورجعت إلى رشدي، فإذا أحببتُ أن أصالحه لا أجد من يتوسط بيني وبينه، فها أنا ذا أَطلعتك على سِرٍّ ضننتُ به على أهل دولتي. وعلى أمي.» فقال سعدون: «إني عند ثقة مولاي.» فقال الأمين: «لا أُخفي عليك أني لما فرغت يدي من الرجال والمال وامتنع عليَّ الخروج بعثتُ إلى هرثمة في البر الشرقي أطلب الأمان وأنا في انتظار الجواب، فهل أحسنت؟»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/21/
مقتل الأمين
أظهر سعدون الأسف للأمين، ثم رفع حاجبَيه، وقال: «حسنًا فعلت، وما في الأمان عار لا سيما أنك ستكون في أمان أخيك، والدم لا يتغير ولا يخون، ولكن …» وسكت. وكان الأمين يُصغي لكلام سعدون وبيده تفاحة يُقشرها، فلما رآه توقف قال: «ولكن ماذا؟» قال: «لا أدري الحكمة في الاتصال بهرثمة دون طاهر، وهو صاحب الجند المحاصِر لهذا الشطر من بغداد.» فتنهد الأمين ورمى التفاحة من يده وقال: «لا، لا أتصل بطاهر؛ فإني أتطيَّر منه وأكرهه، وقد رأيت في منامي كأني واقف على حائطٍ من آجُرٍّ شاهق عريض الأساس لم أرَ مثله في الطول والعرض، وعليَّ سوادي ومنطقتي وسيفي، وكان طاهر عند أساس الحائط فما زال يضربه حتى سقط وسقطت قلنسوتي عن رأسي فتشاءمت منه. أما هرثمة فإنه من موالينا وهو بمثابة الأب لي.» فرقص قلب سعدون طربًا لهذه البشرى وقال: «الأمر لمولانا.» وفيما هما في الحديث جاء الغلام يقول: «إن رسول أمير المؤمنين بالباب.» فقال الأمين: «يدخل حالًا.» فدخل الرجل متخفيًا بثياب التجار، فوقف الأمين وقال له: «قل ما وراءك؟» قال: «أأقول كل شيء؟» قال: «قل ولا تخشَ شيئًا.» قال: «لقيتُ هرثمة وعرضت عليه ما أمرتني به فقال: «السمع والطاعة.» ولكنه يرى أن يكون نزول أمير المؤمنين عنده في الليلة القادمة وليس في هذه الليلة و…» وكان الأمين مقبلًا على سماع الرسول، فلما سمع قوله أشار إليه أن يقعد وقال: «وماذا بعد ذلك؟ قل ولا تَخَفْ، ما الذي بعثه على تأجيل الذهاب؟» فقعد الرجل وقال: «لأنه على ثقةٍ من أن ذهاب أمير المؤمنين إليه يسوء طاهر بن الحسين، وهو قريب من هذا القصر، وإنما شدَّد الحصار رجاء أن يختار أمير المؤمنين الخروج بأمانه إليه فيفتخر بالفوز على يديه وله عيون مبثوثة في هذه الأطراف. وأخبرني هرثمة أنه شاهَد على الشاطئ أمرًا رابه؛ فهو حريص على حياة أمير المؤمنين.» فأدرك الأمين أن طاهرًا يهدده فقال: «بل أذهب إلى هرثمة. ولا بد من الذهاب الليلة لأني أصبحت وحيدًا وقد تفرق عني الناس والموالي والحرس وغيرهم، ولا آمَنُ أن ينتهيَ الخبر إلى طاهر فيدخل عليَّ فيأخذني.» ونهض وقد بان الانقباض في مُحيَّاه، وأَمَر فجيء إليه بثيابٍ بيض وطيلسان أسود فلبسها واعتمَّ بعمامةٍ خفيفة ثم أمر الغلام أن يأتيَه بولديه، فوقف سعدون وسكت تهيُّبًا واحترامًا وقال للأمين: «أيأمر مولاي بخدمةٍ أقضيها، فإن نفسي فداؤه.» قال: «لا تفارقني حتى أخرج، إني أرى وحشة.» ثم جاءوه بولديه فضمَّهما إليه وودَّعهما وبكى وقال: «أستودعكما الله عز وجل.» ومسح عينيه بكُمه ومشى إلى بغلةٍ أعدوها له فركبها، وسعدون واقف إلى جانبه، فأشار إليه مودعًا فقبَّل سعدون ركابه وقال: «سِرْ في حراسة الله.» فأوصاه بأهله خيرًا وخرج راكبًا إلى الشاطئ، وكانت حراقة هرثمة في انتظاره هناك فنزل فيها فحوَّل رُبَّانها الدفة نحو الشاطئ. وكان في الحراقة هرثمة نفسه وجماعة من رجاله. فلما دخل الأمين قاموا له وجثا هرثمة على ركبتَيه واعتذر إليه من نقرسٍ في رجله، واحتضنه وضمَّه إليه وجعله في حِجره ليؤنسه. وكانت ليلة باردة — لأنه خرج في مساء الأحد لخمسٍ بقين من المحرم سنة ١٩٨ﻫ، وهي توافق ٢٨ سبتمبر سنة ٨٦٣ — وأمر هرثمة النوتية أن يسرعوا في التجذيف فقد شاهد حركة على الشاطئ. وإذا بزوارق لطاهر كانت راسيةً هناك قد أسرعت إلى حراقة هرثمة ونقَّبوها ورمَوا فيها بالآجر والنشاب فدخل الماء إلى الحراقة فغرقت وسقط هرثمة والأمين إلى الماء فشقَّ الأمين ثيابه وخرج إلى الشاطئ ونجا هو وهرثمة، فأركبوا الأمين حمارًا وساروا به يطلبون مخبأً وهم لا يُصدِّقون أنهم نجَوا. ••• كان سلمان بعد ذهاب الأمين قد جعل همَّه أن يقتله؛ لأن في بقائه على قيد الحياة ما يجعل سبيلًا إلى الصلح مع أخيه فلا يستفيد الفرس شيئًا. فنزع عنه ثياب التنجيم وسبق الأمين إلى الشاطئ، وأخبر رجال طاهر بأن الأمين خارجٌ الساعة إلى حراقة هرثمة فترقبوا قدومه، ولما رأَوا الحراقة تتحرك أغرقوها كما تقدم، وكان سلمان معهم فنزل في جملة من نزل للبحث عن الأمين فرافق الذين فرُّوا به إلى المكان الذي خبَّئُوه فيه ثم رجع إلى بهزاد. وكان بهزاد منذ وصوله إلى بغداد يُحرِّض رجال الشيعة على الأخذ بناصر إخوانهم وفيهم جماعة الخرمية، ولكنه لم يظهر لطاهر، ولم يعلم طاهر به، على أنه كان يغتنم الفرص لمساعدة الجند كما فعل في واقعة الري، وكان نفوذه على الخرمية ببغداد عونًا كبيرًا لرجال المأمون حتى تضعضعت أحزاب الأمين وضعف أمره واضطُرَّ للتسليم. ولم يكن بهزاد يرى أن يأخذ الأمين أسيرًا، وإنما كان همُّه أن يلتقيَ به في ساحة قتال ويبارزه ويقتله بخنجره ليُتم وعده لأمه فيرجع إليها برأسه ظافرًا غانمًا. وكان في أثناء إقامته ببغداد أو ضواحيها يجتمع بسلمان ويسأله عن ميمونة، فيُطمئنه هذا لئلا يشغله داعي الغرام عن إتمام مشروعه. وإتمام هذا المشروع يهمُّ سلمان كما يهمُّ بهزاد، ولكن غرضه ومطمح أمله في خراسان وليس في بغداد. قضى بهزاد مدة طويلة على هذه الحال حتى اشتدَّ الحصار وبلغه حديث الناس عن الأمين، فتوقَّع قُرب استسلامه. وفيما هو ذات ليلةٍ في منزل أحد الخرمية بالكرخ وقد انتصف الليل ونزع ثيابه وعلَّق سلاحه فوق رأسه ونام، جاءه أحد الغلمان يُنبئه بقدوم سلمان، فعلم أنه لا يأتيه في مثل ذلك الوقت إلا لأمرٍ مهم، فنهض وأمر بإدخاله، فدخل سلمان وعليه ثياب لا هي لرئيس المنجمين ولا للخادم سلمان، ودلائل التعب بادية في وجهه، فصاح فيه: «ما وراءك يا سلمان.» قال: «أبشر بالنصر.» قال: «إني مستبشر به وواثق من الحصول عليه، ولكن ماذا حدث؟» فقصَّ عليه الحديث كله إلى أن قال: «فالأمين الآن مختبئ في بيتٍ لبعض الناس على الجانب الشرقي، وقد تركته عريان وليس عليه من الثياب إلا السراويل والعمامة وعلى كتفيه خرقة خَلَقة، ومعه أحمد بن سلام صاحب المظالم لأنه لقيه في فراره عَرَضًا. وسمعت الأمين يسأله عن اسمه، فلما عرفه استأنس به وقال له: «ضُمَّني إليك فإني أجد وحشةً شديدة.» فضمَّه إليه وكانت عنده مبطنة ألقاها عليه، ثم سمعته يقول له: «يا أحمد ما فعل أخي؟» فقال له: «هو حي.» فقال: «قبَّح الله بريدهم، كان يقول قد مات.» وأنا واثق بعلمه أنه حي، ولكنه ما قال هذا إلا استرضاءً واعتذارًا. فأجابه ابن سلام: «قبَّح الله وزراءك.» وسمعته يقول: «وما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يَفون لي بأمانهم؟» فقال له: «بل يَفون لك.» وقد كذب فأله.» وتنحنح سلمان، فأدرك بهزاد غرضه من ذلك فقال: «ماذا تعني يا سلمان؟ أترى أن ننكث عهد الأمان؟» قال: «وهل تريد أن يبقى هذا الرجل حيًّا؟ فإذا حُمل إلى أخيه وقع الصلح فيذهب سعينا عبثًا؟ لماذا حملت هذا الخنجر معك من خراسان؟ ألم تذكر أنك نذرت أن تنتقم به لأبي مسلم وجعفر؟ فكيف تنتقم لهما؟ ها قد سنحت لك الفرصة والرجل في قبضة يدنا وفي قتله ختام فوزنا. أنتركه يُفلت منا؟» قال بهزاد: «أنت تعلم أني أول ناقمٍ على هذه الدولة، وقد كرَّستُ حياتي لمناهضتها ونجحت في مسعاي والحمد لله. وأقصى رغبتي أن أقتل هذا الخليفة بيدي وبخنجري لأُضيف رأسه إلى الرأسين اللذين تركتهما في مرو. نعم أريد أن أقتله في ساحة الوغى، أقتله متقلدًا سلاحه بالمبارزة وليس غدرًا وخلسة وهو أعزل خائف دخل في أماننا. أننكث ونحن إنما نقمنا على هذه الدولة لأنها نكثت العهود وغدرت ببعض رجالنا؟ والغادر تعود عاقبة غدره عليه.» قال ذلك وبانت الحماسة في عينيه. فتكدَّر سلمان من هذه الأريحية لأنه لم يكن يفهم مغزاها، وإنما هو رجل ماكر داهية يهمُّه تنفيذ مآربه لا يبالي ما يعترضه ولا يهمه ما يأتيه في سبيل ذلك من أساليب الكذب والمكر والغدر، لا يخاف ضميرًا ولا يرعى ذمامًا؛ ولذلك اختاره صاحب الأمر بخراسان للعمل الذي تقتضيه هذه الخصال، على خلاف بهزاد؛ فإنه رئيس شريف وكل أعماله تؤيِّد ما طُبع عليه من الأريحية وصدق اللهجة والبسالة. فلما سمع سلمان إباءه لم يستغربه، ولكنه ندم على تكليفه ذلك وتظاهر بأنه اقتنع وقال: «صدقت يا بهزاد، بورك في بطنٍ حملك.» وتناعس فنام ونام بهزاد وهو يفكر فيما انتهت إليه هذه المهمة وما عساه أن يَنجم عنها. وبينا هو في رقاده في أواخر الليل إذ سمع خربشةً فاستيقظ وفتح عينيه فرأى شبحًا واقفًا بجانب فراشه وهو يتطاول إلى الحائط، فنهض والتفت ولم يذعره ذلك وقال: «من هذا؟» فرأى شيئًا وقع من يد الرجل على الفراش فتوسَّمه فإذا هو خنجره والرجل سلمان، فقال: «ماذا تفعل يا سلمان؟» قال: «لا أفعل شيئًا، وقد فعلت ما أريده، وهذا خنجرك خذه.» فمدَّ يده إلى الخنجر فرأى عليه أثر الدم فقال: «ماذا فعلت؟ هل قتلتَ الرجل؟» قال: «قتلناه لا أقامه الله، أكنتَ تريد أن يبقى عثرةً في طريقنا؟ لقد مات واسترحنا منه.» فصاح به: «ويلك! قتلته؟ وبخنجري؟» قال: «لأن خنجرك موجود لهذا الأمر كما قلت، فأحببت أن أتحمَّل أنا ذنب القتل وأترك لك فضل الإباء والنزاهة والأريحية وكبر النفس.» وهز رأسه استخفافًا وقال: «تريدون إنشاء دول لا نكث فيها ولا غدر، ولم نرَ صاحب دولةٍ استغنى عن ذلك، ولولا أن غدر أبو مسلم الخراساني ما غلب، والمنصور لو لم يغدر به لم تثبت دولته، والرشيد لو لم يغدر بجعفر لكان في خطرٍ على خلافته. بل ارجع إلى صدر الإسلام ترَ عليًّا وأبناءه لم يفشلوا في سياستهم إلا لأنهم توخَّوا الحق والوفاء وبالغوا في البُعد عن الغدر والدهاء. ولو لم يمكر معاوية ويغدر لما استطاع أن يُنشئ دولةً ولا أقام سلطانًا. وقد توارث العلويون حب الحق والتدقيق في الوفاء من عليٍّ فكان حظهم الفشل مثل حظه. ما أحوجنا نحن إلى الغدر الآن، على أني لم أكلفك ارتكاب هذه الجريمة فتحمَّلتُ الذنب وحدي.» فأعجبه اعتذاره وقال: «ومع ذلك، فإن الغادر تعود عاقبة غدره عليه، والتاريخ أصدقُ شاهد.» وسكت وقد سرَّه التخلص من الأمين على يده ودون أن يتحمَّل وزر دمه فقال: «وكيف فعلتم؟ كيف قتلتموه؟ قبَّحكم الله!» قال: «سرقتُ خنجرك وتزيَّيت بزي جند الفرس، وأسرعت إلى المكان الذي تركت الأمين فيه وقد مضى نصف الليل والظلام شديد، فلقيت ببابه بضعة رجالٍ من العجم وسيوفهم مسلولة، فاختلطت بهم ودخلت معهم على الأمين فوجدته قاعدًا، ولما رآنا نهض قائمًا وقد أخذ الرعب منه مأخذًا عظيمًا وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبتْ واللهِ نفسي في سبيل الله، أمَا من مغيث أما من أحد من الأبناء؟» أما نحن فظَلِلْنا داخلين عليه وكان بيده وسادة تترَّس بها وهو يقول: «ويحكم! أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، اللهَ اللهَ في دمي!» فخِفتُ أن تدرك القومَ رأفةٌ فيفسد علينا أمرنا؛ فألححت على رجل أمامي كان سيفه مسلولًا بيده وقلت: «عليك به.» فضربه بالسيف على رأسه فرماه الأمين بالوسادة فتقدمتُ أنا وطعنته بهذا الخنجر في خاصرته فكانت القاضية فصاح: «قتلني، قتلني.» فدخل بقية القوم فذبحوه من قفاه وأخذوا رأسه ومضَوا به إلى طاهر وجئت أنا بالخنجر إليك. فإن كنتَ ترى أني أستوجب القصاص فاحكم عليَّ.» قال: «يظهر أن الرجل كان مقتولًا لا محالة، ولكنك جعلت لخنجري أثرًا في القتل حتى يَصحَّ النذر. رحم الله الأمين، وهنيئًا لنا فقد انتهت مهمتنا.» قال سلمان: «ونحن راجعون إلى خراسان غدًا إذا شئت.» قال: «ولماذا هذه العجلة؟» فقال وهو ينظر إليه شزرًا: «فرغتَ أنت من عملك وضمنت مستقبلك، وهذه ميمونة تحت أمرك لو مكثتما هنا أو في غير هنا فأنت مطمئن. أمَّا أنا فَلِي مأرب في خراسان لم أتوثَّق منه بعد؛ لذلك أحببت الرجوع.» قال بهزاد: «وميمونة؟ ألا تخرجها من المكان الذي حبستها فيه؟» فضحك وقال: «صدقت، هي في قصر المنصور، وفي الغد أحملها إليك مع جدتها. ألا يكفيك ذلك؟» قال: «بلى، وإني شاكر لك معروفك، وقد آن لنا أن نكون كالإخوة؛ فأنت أخي وصديقي منذ الآن، وقد انقضى زمن الخدمة بانتهاء هذه المهمة.» فأثنى سلمان عليه، وباتا بقية ذلك الليل ونهضا مبكرَين، فقال سلمان: «إني ذاهب لساعتي بلباس رئيس المنجمين حتى يسهل عليَّ الدخول إلى قصر المنصور لإحضار ميمونة، وأنت ماذا تفعل؟» قال: «أسير في ظلك أو أنت تسير في ظلي حتى لا نُضيع فرصة.» قال: «حسنًا.» ••• تزيَّا سلمان بزي رئيس المنجمين وركب بغلته، وركب بهزاد جواده وعليه القباء والقلنسوة والسراويل كأنه أحد كبراء الفرس. فمرَّا بأسواق الكرخ وقد لاح الفجر، وتحوَّلا من ناحية باب الكوفة فهالهما ما شاهداه من ازدحام الأقدام، واستغربا كثرة ما يتساقط عليهما من الحصى التي كان العيارون يرمونها من الأسوار. وقبل وصولهما إلى الباب رأيا جماعاتٍ من الناس وفيهم أهل الأسواق فضلًا عن الجند الخراساني يستبقون إلى البستان الذي كان طاهر مُعسكِرًا فيه، وإذا برأسٍ مرفوعٍ على قناةٍ فعلم سلمان أنه رأس الأمين جاء به طاهر وغرسه على برجٍ فوق حائط البستان. ولما رآه الناس سقط في أيديهم وهلعت قلوبهم، أو لعلهم فرحوا لانتهاء الحرب. ولما وقع نظر بهزاد على الرأس كبَّر واستعاذ بالله وقال: «سبحان الحي الباقي، اليوم سقطت دولة وقامت دولة أخرى. إذًا عرف الفضل بن سهل الانتفاع بهذا النصر.» فقال سلمان: «ماذا ترى طاهرًا يفعل بهذا الرأس؟» قال: «أظنه يرسله إلى المأمون في خراسان ومعه البردة والخاتم والقضيب، لتطمئن القلوب ويتحققوا النصر، ولينال طاهر جائزة كبيرة ويصبح المأمون الخليفة الوحيد.» أما قصر المنصور فكان سلمان قد غادره بالأمس وأهله غافلون عما يجري في قصر الخلد، وكانت القهرمانة فريدة مشتغلة بشئونها فجاءها الحاجب يقول: «إن ابن الفضل بن الربيع بالباب يطلب أن يراكِ.» وكانت تعرف الفضل ومنزلته عند الأمين، فظنت ابنه قادمًا بأمرٍ مهم فأذنت في دخوله. وكان قد مضى عليه وقت طويل وهو مختفٍ مع أبيه، لكنهما لم يفارقا بغداد فكانا على بينةٍ مما يجري فيها، فلما علم في ذلك المساء أن الأمر قد استفحل ولا تلبث بغداد أن تسقط في أيدي الخراسانيين، وكان يراقب حركات ميمونة ويعرف أمرها، أخذ يسعى جهده في الحصول عليها حتى ذهب إلى زبيدة في صباح الأمس وأقنعها بأنه يستطيع أن يستعلم منها عن محل بهزاد ولمَّح أنه يحبها، فقالت: «إذا استطعت معرفة مكان الرجل فإنها لك.» فطلب منها أمرًا للقهرمانة أن تأذن في مقابلتها. ولما رأى اضطراب الحال أتى ببعض العيارين واستأجرهم لاختطاف ميمونة إذا لم تأذن القهرمانة بتسليمها وجاء إلى قصر المنصور. فلما دخل على القهرمانة قابلتْه أحسن مقابلة، وسألته عما يريده فدفع إليها كتاب زبيدة، فتذكرت أن سعدون كان قد أوصاها بألا تأذن لأحد في إخراجها، فلم ترَ بأسًا من أن يقابلها ابن الفضل فدخلت عليها وأخبرتها أن ابن الفضل يريد مقابلتها، وكانت جدتها عبادة معها فقالت: «لا حاجة لنا به.» فقالت: «ولكنه جاءني بأمرٍ من مولاتنا زبيدة.» فلما سمعت عبادة ذلك الاسم اضطربت جوارحها وتشاءمت، وتوسَّلت إلى القهرمانة أن تردَّ عنهما هذا الشاب فلم تفعل. فأقبل ابن الفضل على الغرفة وقد أُنيرت بها الشموع وجلست ميمونة بثوبها الأسود وقد تغيَّر لونها من توالي المصائب وأصابه شحوب زاده رِقة، فدخل وهو يبتسم ابتسامة الاستعطاف وفي وجهه أمارات الحب؛ فحالما رأته اقشعرَّ بدنها وظلت جالسة مُطرِقة فتقدَّم نحوها وحيَّاها وقال: «ألا تعرفينني يا ميمونة؟» قالت بنفور وجفاء وهي تُحوِّل وجهها عنه: «كلا.» قال: «ألا تعرفين شابًّا يهواكِ إلى حد التلف؟ ألا تعرفين ابن الفضل؟» قالت: «سمعت بهذا الاسم وذِكره يؤلمني لأن أباه ألبسني هذا الثوب.» فقال متلطفًا: «وأنا أتكفَّل أن أُعوضك منه ثوبًا أبيض ومن أيامك السود أيامًا بيضاء كالثلج!» قالت وهي تنظر إليه شزرًا: «قد تعوَّدت السواد ولم أعد أشتهي سواه.» قال: «البسي ما تشائين وافعلي ما تشتهين، ولكن تعطَّفي على فتًى يحبك حبًّا مبرحًا. إني أحبك يا ميمونة ومن سوء الطالع أنك لا تحبينني.» قال ذلك وجثا بين يديها وأراد لمس يدها فجذبتها منه كأن عقربًا همت بلدغها! فوقف وقد شقَّ عليه جفاؤها وقال: «جئت يا ميمونة أتوسل إليكِ باسم الحب، فإذا لم تُشفقي على تذللي جئتكِ من سبيلٍ آخر.» فقالت: «لا أعرف لك سبيلًا إليَّ، دعني وشأني وابحث عن سواي فإن النساء كثيرات.» قال: «لم يقع اختياري على سواك، ويدلك على ذلك ثباتي في حبك رغم ما تُظهرين من النفور. ألم يأنِ أن تتعطفي؟» فتحولت عنه وقالت: «دعني يا رجل.» فنهض وقال مهددًا: «قلت لكِ إذا ظَلِلتِ على هذا الجفاء عاملتكِ بالقسوة ولو شقَّ عليَّ ذلك.» قالت وهي لا تنظر إليه: «لا تستطيع شيئًا ونحن في قصر أمير المؤمنين.» قال: «إني أستطيع حملك بالقوة؛ فإن معي فرقةً من الجند وبيدي أمر من أم الخليفة.» وكانت جدتها جالسة تسمع ما يدور بينهما فصاحت قائلة: «كنتُ أحسبك شهمًا يؤثِّر فيك الكلام. أما كفاك ما سمعتَه؟ دع الفتاة وشأنها. ولو كنت مكانك وعلمت أنها لا تحبني لتركتها وشأنها.» قال: «يشقُّ عليَّ أن أفشل بعد الصبر الطويل؛ فإني أريد الآن أن أُعلِمها من أنا وأن مثلي لا يُعامَل هكذا وفي بغداد مئات من بنات الأمراء والقواد يتمنَّين رضاي.» والتفت إلى ميمونة وقال: «ارجعي إلى صوابكِ وثقي بأني أنصح لكِ فلا تُلجئيني إلى القوة، إن فرقةً من العيارين في انتظار أمري خارجًا.» فضاقت نفسها وتململت وصاحت: «ويلاه! أين الجند؟ أين الحرس؟» فنهضت جدتها وقالت لابن الفضل: «اكفِنا أيها الشاب شَرَّك ودعنا وشأننا. إذا كنت تعرف من نحن فاشْفَق علينا وكفانا ما قاسيناه من البلاء.» وفيما هم في ذلك سمعوا جلبةً في الدار، فظنت ميمونة أن العيارين دخلوا للقبض عليها فصاحت: «ويلاه يا ربي! إذا لم يكن قد انتهى حبل مصائبي فخذ روحي.» وطفقت تبكي ولم تتمالك لاضطرابها ولهفتها أن صاحت: «أين سلمان؟ أين بهزاد؟ أواه ما أشقاني!» وكانت جدتها في أثناء ذلك واقفةً إلى جانبها تُهوِّن عليها والدموع تتساقط من عينيها. أما ابن الفضل فعلم أن الضوضاء ليست من العيارين، فخرج ليرى سببها فسمع الخدم يقولون: «السيدة زبيدة أتت.» فاستغرب الجميع مجيئها في تلك الساعة وقد مضى معظم الليل. والسبب في مجيئها أنها بعد أن خرجت من قصر الخلد في ذلك المساء وهي على ما وصفنا من الخوف على ابنها، ذهبت إلى قصرها مُبلبَلة البال، وكأن قلبها دلها على الخطر القريب، فذهبت إلى الفراش ولم تنم. وبعد منتصف الليل أيقظتها قهرمانة قصرها فنهضت مذعورةً وسألت عن الخبر فقالت القهرمانة: «إن بعض شاكرية قصر الخلد يسأل عن أمير المؤمنين.» فصاحت: «يسأل عن ابني؟ يسأل عنه هنا، أين هو؟ إني تركته في قصر الخلد منذ ساعتين! أين الشاكري؟» فأدخلوه إليها فقالت: «أين أمير المؤمنين؟» قال: «لا نعلم يا سيدتي، وقد بحثنا عنه في كل مظانِّه بالقصر فلم نجده ولا نعلم أين هو.» فنهضت والتفَّت بمطرفها وركبت إلى قصر الخلد وفتَّشت عنه هناك فلم تجده؛ فخطر لها أنه قد يكون ذهب في أمرٍ وسيعود، فمكثت على مثل الجمر حتى كاد الفجر يلوح فحدَّثتْها نفسها أنه دخل مدينة المنصور للامتناع في قصرها، فركبت إلى هناك وسألت عنه القهرمانة فذكرتْ أنها لم تَرَه.» فقالت زبيدة: «رأيت بالباب بعض العيارين، فمن أتى بهم إلى هنا؟» قالت: «ابن الفضل، وقد جاءني بكتابٍ منك ليُكلم الجارية ميمونة.» فلما سمعت اسمها اشتدَّ غضبها وصاحت: «أين هي؟» قالت: «هي في هذه الغرفة.» ولم تصبر زبيدة لتستقدمها إليها فتوجَّهت إلى الغرفة ودخلت فجأةً وقد أخذ الغضب منها مأخذًا عظيمًا، فلقيها ابن الفضل بالباب فتنحَّى، ودخلت فرأت ميمونة واقفة وجدتها عبادة إلى جانبها فلما رأت عبادة هناك لم تتمالك أن صاحت: «وأنتِ هنا أيضًا؟ تبًّا لكِ من عجوزٍ شقية. إنك سبب متاعبي وأصل بلائي، ما الذي جاء بكِ إلى هذا المكان؟» فأطرقت عبادة وسكتت لأنها لم تجد وجهًا للكلام ولا عذرًا للمجيء؛ فوجَّهت زبيدة خطابها إلى ميمونة وقالت: «والآن ألم يَئِنْ لكِ أن تقولي لنا عن مكان ذلك الشقي الخائن الذي تُسمُّونه بهزاد، وقد علمت أنه في بغداد، وكل بلائنا منه؛ أين هو؟» فقالت وصوتها يختنق من الخوف: «لا أعلم يا سيدتي؛ فأنا سجينة هنا لا يصل إليَّ خبر ولا أعرف من حوادث الدنيا شيئًا.» قالت: «أتكذبين والعلاقة بينكِ وبينه على يد خادمٍ اسمه سلمان؟» فقالت: «اسألي القهرمانة، إني لا أرى خادمًا ولا أميرًا، بالله أشفقي عليَّ يا سيدتي وكفاني ما أقاسيه.» وأغرقت في البكاء. قالت: «أشفق عليكِ؟ لماذا؟ لو استطعت خنقك بيدي ما ترددت.» ثم التفتت إلى الخارج فرأت ابن الفضل واقفًا فصاحت به: «خذ هذه الجارية فقد ملَّكتك إياها، افعل بها ما تشاء، وهذه العجوز النحس سوف أذيقها ما تستحقه.» فلما سمعت عبادة قولها جثت بين يديها وقالت: «افعلي بي ما تشائين، وارفُقي بهذه الفتاة فإنها بريئة من كل ذنب، قد تضرعتُ إليكِ في شأنها قبل الآن فردَدْتِني، والآن أتوسل إليكِ — وأنتِ والدة وتعرفين حُنُو الأمهات — أن تترفَّقي بهذه الفتاة. وأما أنا فلا آسَف على حياتي.» فلما سمعتْها تذكر حُنُو الوالدات أحسَّت بشيءٍ أوهن عزمها، لعلمها بما يهدد ابنها من الخطر ولا سيما في تلك الساعة؛ فقد أضاعته ولا تعلم أحيٌّ هو أم ميت.، ولكنها تجلدت لئلا يَظهر الضعف عليها، فنهضت وتظاهرت بالغضب وقالت: «قلت لكِ إنه لا سبيل إلى خلاصها إلا إذا اعترفت بمكان بهزاد، وإلا فهي ملكٌ لابن الفضل.» وأشارت إليه أن يأخذها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/22/
بهزاد وميمونة
خرج ابن الفضل ليُناديَ العيارين ليقبضوا على ميمونة ويحملوها قهرًا، فسمع الخدم يقولون: «أتى رئيس المنجمين.» فأراد أن يراه ويخاطبه لعله يُقنعها بالحسنى، فقيل له: «إنه عند السيدة زبيدة.» وكانت قد انفردت في القاعة الكبرى وأخذت تفكر فيما أحاط بها وما يهددها وقلبها خائف على ابنها. فدخلت القهرمانة وأخبرتها بقدوم رئيس المنجمين فقالت: «ادعيه إليَّ.» وكان سلمان قد وصل إلى القصر مع بهزاد منذ هنيهة والمدينة قد سقطت وأهل قصر المنصور لا يعلمون. فلما أتيا وجدا في ساحته جماعة من العيارين فلم يبالِ سلمان وتقدَّم إلى الباب فرآه موصدًا وسمع ضوضاء من الداخل، فقرعه فلم يُجبه أحد، فبالغ في القرع فأطلَّ عليه خادم من كوَّة فوق الباب وقال: «من الطارق؟» فرفع سلمان بصره فرأى غلامًا عرفه فصاح به: «افتح حالًا.» فعرف الغلام أنه رئيس المنجمين فأسرع وفتح الباب، فدخل ببغلته ودخل بهزاد في أثره إلى فناء القصر وترجَّلا وسلَّما الدابتين إلى الغلام، فرأيا أهل القصر في هرج والخدم يدخلون ويخرجون من باب القصر الداخلي، فقال رئيس المنجمين للغلام: «أين القهرمانة؟» قال: «هي بين يدي مولاتنا زبيدة.» فلما سمع ذلك تشاءم من وجودها فقال: «ادعُ لي القهرمانة الساعة. قل لها رئيس المنجمين يطلبك لأمرٍ مهم.» فمضى وعاد وهو يقول: «ادخل فإن السيدة زبيدة تطلبك.» فالتفت إلى بهزاد وقال له: «لا شك أنها ستسألني عن ابنها وعن مكانه، وربما تسألني عنك، فهل أذهب إليها وحدي؟» قال: «دعني أذهب معك.» فقال سلمان للغلام: «قل للقهرمانة إن مع رئيس المنجمين رفيقًا لا يدخل إلا معه.» فعاد وقال: «ادخلا إلى القاعة.» فدخلا والغلام يمشي أمامهما إلى القاعة. فدخل أولًا سعدون وحيَّا، ثم دخل بهزاد ولم تنتبه له زبيدة لاشتغالها عنه بهواجسها، وكانت قد تربَّعت ووضعت على حِجرها وسادة أسندت إليها كوعَيها وألقت رأسها بين كفيها. فحالما دخل سعدون رفعت رأسها وصاحت به: «ويلك؟ أين كنت وكيف أتيت في إبان الحاجة إليك؟» ثم أشارت له بالقعود فقعد، وقعد بهزاد وهي لا تراه. فقال سلمان: «كنت مُجدًّا في البحث عن بهزاد حتى وجدتُه.» فأبرقت أسرتها وصاحت: «وجدتَه؟ أين هو؟» فأشار إلى بهزاد وقال: «هذا هو يا سيدتي.» فدهشت وأجفلت وصعد الدم إلى وجهها، ونظرت إلى بهزاد وحدقت فرأت فيه جمالًا وهيبة ووقارًا، فلم تتمالك أن صاحت فيه: «أنت بهزاد؟» قال: «نعم، أنا هو.» قالت: «كيف تجرَّأت على المجيء إلينا؟ ألم تَخفْ بطش أمير المؤمنين؟» فقال بهدوء ورزانة: «لم أَخفْه حيًّا، فكيف أخافه ميتًا؟» فذُعرت واقشعرَّ بدنها ولطمت خديها وصاحت: «أمير المؤمنين مات؟ ابني محمد … ماذا تقول؟ أتهزأ بي يا نذل؟» قال: «كلا يا سيدتي، إني أقول الحق، ويسوءُني أن يؤلمكِ هذا، ولكنكِ سألتِني فلم أَكذبك.» فالتفتت إلى سلمان وهي تَحسَب نفسها في منامٍ وقالت: «سعدون، قل الصحيح، قل أين أمير المؤمنين؟ أظن الرجل يهذي، أين ابني محمد؟ ولدي حبيبي، أين هو؟ قل.» فأجابها بفتور: «رأيت رأسه معلقًا على حائط البستان يا سيدتي، وقد قضي الأمر.» قال ذلك ونهض فلطمت زبيدة خدَّيها بكفَّيها وصاحت وولولت. وسمع بهزاد في تلك اللحظة صوت ميمونة تستغيث وتقول: «آه، أين أنت يا بهزاد؟ أنجدني، أنقذني.» فوثب من القاعة ويده على خنجره وهو يقول: «لبيكِ يا حبيبة.» فرأى جماعة من العيارين قد أمسكوا بشعرها وأخذوا يَجرُّونها وابن الفضل واقف يقول: «خذوا هذه الخائنة.» فما كان من بهزاد إلا أن استلَّ خنجره وطعن ابن الفضل طعنةً قضت عليه، وتحوَّل إلى العيارين وصاح فيهم: «اخسئوا يا أنذال جاءكم بهزاد.» فلما سمعوا صوته ورأَوا ابن الفضل مجندلًا فرُّوا هاربين. ولم تكن ميمونة تعلم بوجود بهزاد هناك، ولكنها لما يئست من النجاة ورأت ابن الفضل يأمر العيارين بِجرِّها استغاثت على غير هُدًى، فلما رأت بهزاد ترامت عليه وأُغمي عليها وأسرعت جدتها إليه وقالت: «من أين أتيت إلينا أيها الملاك؟ إني أخاف عليكَ من هؤلاء الأنذال.» فقال: «لا تخافي يا سيدتي، إن بغداد في قبضتنا ورأس الأمين معلق على الحائط يراه الناس.» فلما سمع أهل القصر ذلك ذُعروا وأخذوا يتراكضون إلى زبيدة فرأَوها في القاعة وقد حلَّت شعرها وأخذت في النحيب وهي تقول: «وا ولداه! قتلك البغاة الظالمون!» فسمعتْها عبادة تقول ذلك، فأثَّر قولها في نفسها فدخلت إليها، ولما رأتها في تلك الحال غلب عليها الحزن ورقَّت لحالها، فأكبت على يدَيها تُقبلهما وتقول: «ارفقي بنفسكِ يا سيدتي، هذه إرادة المولى.» وتذكَّرتْ مصيبتَها بابنها فشاركتْها في البكاء. وكانت زبيدة تتوقَّع أن تشمت عبادة بها، فلما رأت مجاملتها وسمعت بكاءها خجلت ونظرت إليها نظر الانكسار والذل، ولا يذل مثل الموت، وقالت: «صدقتِ يا أم الفضل (عبادة) لا يعرف قيمة الثكل إلا الذي ذاقه، أواه! يا ولداه! رحم الله جعفرًا والرشيد ورحم الله محمدًا … مات؟ مات حقيقة؟ قتلوه؟ علقوا رأس ابني؟ بالله ارفقوا ببدنه الغض، إنه لم يتعوَّد الشقاء، لا طاقة له بحر الشمس، كيف علقتموه؟ إنه لم يتعود غير الرفاه والنوم في الحرير، حرام عليكم، إنه شاب في مقتبل العمر، ألم يكن الأولى أن أُقتل أنا ويبقى هو حيًّا، أنزلوه وعلقوني مكانه. صدقتِ يا أم الفضل، إنني لم أُصغِ لتضرُّعك لأني لم أكن قد ذقت الثكل …» وأخذت في البكاء والنحيب، وطفقت تلطم وجهها وتخطر في القاعة ذهابًا وإيابًا على غير هُدًى حتى لم يبقَ أحد هناك إلا بكى، ثم اشتغل كلٌّ بنفسه. أما بهزاد فلم يكن همُّه إلا ميمونة فحملها من بين الغوغاء وخفَّف عنها وهي تحسب نفسها في منام؛ تنظر إلى بهزاد ولا تُصدِّق أنها تراه وقد جاءها في إبَّان الحاجة إليه فأنقذها من القتل. وبينما هي تمشي بالدار متكئة على ذراعه انتبهت إلى جثة ابن الفضل ملقاةً على الأرض، فقالت لبهزاد: «إني آسفة لمقتل هذا الشاب، فقد كان يريد خيرًا، ولكنه كلَّفني ما لا طاقة لي به، إن قلبي لا يُحب غير بهزاد؟» فقال بهزاد: «ولكنني رأيته ينتهركِ ويهددكِ فلم أُطِق صبرًا فقتلته. ما لنا وللناس، قد قضي الأمر، هلمي بنا، أين سلمان؟ هيا بنا.» فجاء سلمان وأخذ بيد عبادة وأخذ بهزاد ميمونة، وخرجوا فركبوا دوابَّهم وانصرفوا وتركوا أهل قصر المنصور في مأتمهم. وانتهى بمقتل الأمين ما كان من النزاع بين المتخاصمين، ودخلت بغداد في حوزة المأمون وأصبحت الخلافة له، ولكنه بقي في خراسان وأناب عنه في بغداد وغيرها الحسن بن سهل أخا الفضل، وكتب إلى طاهر بن الحسين بذلك. أما بهزاد فلم يبقَ له عمل في بغداد، وأصبح راغبًا في الرجوع إلى أمه بمرو ليُبشرها بالفتح ويخبرها بحبه ميمونة لتُباركه وتُزوجه بها. وفي أصيل اليوم الذي خرج فيه من قصر المنصور ركب هو وميمونة وعبادة وسلمان يقصدون إلى خراسان، وميمونة لا تُصدق أنها مع حبيبها، ولا ترتوي من النظر إليه، وكثيرًا ما اشتاقت لمعرفة حقيقة حاله، وما هو نسبه، وماذا كان يحمل في ذلك الصندوق من أسرار، وهمت بأن تسأله أثناء الطريق فمنعها الحياء ووجود جدتها، على أنها عللت النفس بمعرفة ذلك عند وصولها إلى خراسان. وكانت فاطمة والدة بهزاد وسائر أهل خراسان ينتظرون خاتمة الأحداث بفارغ الصبر، وقد قضَوا في ذلك منذ تُوفِّي الرشيد بطوس نحو خمس سنوات، والفضل بن سهل وزير المأمون في خراسان يشير عليه ويدير شئونه وسمَّاه المأمون ذا الرياستين. فلما جاءهم البريد بمقتل الأمين وتسليم بغداد فرحوا واستبشروا، ثم أرسل طاهر رأس الأمين إلى المأمون ومعه البردة والقضيب والخاتم، فوصل الرأس إلى الفضل فأدخله للمأمون على ترسٍ فلما رآه سجد. وقد تمكن الفضل مما أراده من تمهيد الأمور لإرجاع سُلطة الفرس بظل الشيعة؛ إذ بايع المأمون بالخلافة بعده لعلي الرضا زعيم حزب الشيعة، وأمر الناس بترك السواد شعار العباسيين والاستعاضة عنه بلباس الخضرة؛ فكان لذلك وقع سيئ لدى العباسيين في بغداد وكاتبوا المأمون يعاتبونه ويهددونه. وكان الفضل يأخذ كتبهم ولا يُطلِع المأمون عليها لفرط دالته ونفوذ كلمته. ••• وصل بهزاد إلى مرو وقد نال ما يرجوه من ثمار سعيه وخطيبته معه، أما سلمان فقد قام بما عليه ولكنه لم ينل جزاءه بعد. فلما وصل بهزاد إلى مرو واستأذن سلمان بالذهاب إلى بيته مع عروسه، قال له سلمان: «أما أنت فقد فرغتَ من مهمتك، وأنا لا أزال أتوقع الجزاء.» فقال بهزاد: «ستكون رئيسًا لجماعة الخرمية، وقد أوصيتُ لك بذلك من قبل، ألا يقنعك هذا الجزاء؟» قال: «كلا، وإنما أرجو شيئًا آخر هو أهم عندي من الرياسة، فكن ساعدي فيه كما كنتُ ساعدك في مثله.» قال: «وما ذاك؟» قال: «ألم أكن نصيرك في الحصول على ميمونة؟ فأنا أطلب الزواج ببوران بنت الحسن بن سهل، وإذا شاء عمها الفضل، فالأمر سهل، وأظنني أهلًا لها بعد ما أتيته من المعجزات في نصرة هذه الدعوة.» فأطرق بهزاد وأعمل فكرته في هذا الطلب، فلم يجده بعيد المنال، وتذكر ما دار بينه وبين الفضل في شأن بوران قبل عودته إلى بغداد، فرأى في تزويجها من سلمان فضًّا للمشكلة، فقال: «غدًا ننظر في ذلك، ولكنني أطلب منك أمرًا هو خاتمة أفضالكَ عليَّ.» قال: «وما هو؟» قال: «إني أحتاج إلى رأس الأمين. هل تحتال في إخراجه إليَّ من مدفنه سرًّا كما أخرجنا رأس جعفر ورأس أبي مسلم؟» فأدرك سلمان غرضه، فقال: «ذلك شيء يسير، فانتظرني إلى الغد فآتيك بالرأس إلى منزلك.» وافترقا. وسار بهزاد توًّا إلى بيت أمه فاطمة ومعه عبادة وميمونة وهو يخاف أن يكون قد دهمها الموت أثناء غيابه، فقرع الباب وهو مُصيخٌ بسمعه فلم يجبه أحد، فخفق قلبه، فقرع ثانية فسمع وقْع أقدامٍ في الداخل، ثم فتح الباب وأطل الخادم الذي فتحه له في المرة الماضية وأنس في وجهه تغيُّرًا وانقباضًا، فابتدره قائلًا: «كيف الوالدة؟» فرحب به وقال: «في خير، ولكنها تشكو ضعفًا من شدة شوقها إليك.» فأوصى الخادم بأن يُدخل الضيفتين إلى غرفةٍ ترتاحان فيها، وأسرع ودخل على والدته فوجدها ملقاةً على سريرها وقد غارت عيناها وبرزت وجنتاها وبان فيها الهرم المتناهي، فوقف بإزائها وحيَّاها بصوتٍ ضعيف وهو يخشى أن تكون قد ماتت. فلما سمعت صوته أفاقت وفتحت عينيها وأدارت رأسها ببطء لشده الضعف وتبسمت تبسُّمًا لا رونق فيه، فجثا بجانب سريرها وأكبَّ على يدها وقبَّلها، فأشارت إليه أن يدنوَ منها، فقبَّلت جبينه ونظرت إليه نظرة مستفهم، فقال: «قد جئتك يا سيدتي بما تريدين، فغلبْنا القوم الظالمين، وقتلنا خليفتهم الغلام الغر، وأصبح ابن أختنا المأمون خليفة المسلمين، وغدًا يكون الخليفة علي الرضا صاحب الشيعة، ثم تعود الدولة إلينا؛ فها أنا ذا انتقمت لجدي بخنجره كما أمرتِ.» ومدَّ يده فأخرج الخنجر وأراها أثر الدم على نصاله وقال: «وانتقمت لجعفر بن يحيى.» فبان السرور في وجهها وتنهَّدت تنهُّد مرتاح، وقالت بصوتٍ متقطع: «بورك فيك يا بُني، لقد نزعت العار عن قومك، وجبرت قلب أمك.» ثم تنهدت وتململت وهي تتجلد وتُغالب الضعف، وقالت: «أين الرأس الثالث؟» قال: «يكون هنا في صباح الغد وتُدفن الرءوس الثلاثة معًا.» فرفعت يدها نحو السماء كأنها تدعو له، ثم لمست وجهه لتُباركه فأحسَّ ببردها وجفافها، كأن أصابعها من حديدٍ بارد. وأومأت إليه فانحنى عليها فقبَّلته ثانيةً وهمست في أذنه بصوتٍ لا يكاد يبين: «ادفنه معي غدًا.» فنظر إلى وجهها الشاحب الضئيل، فرأى في عينَيها دمعتَين تحاولان الانحدار، ولا تجدان مخرجًا من المقلتين لشدة غورهما وهي مستلقية فتحقَّق قُرب أجلها، فابتدرها قائلًا: «لقد باركتِني يا أماه، فأتوسل إليكِ أن تُباركي فتاةً ستكون شريكة حياتي كما كانت شريكتي في المصائب.» والتفت فأشار إلى الخادم أن يُناديَ ميمونة وعبادة. وكانت ميمونة قد سمعت بهزاد يسأل الخادم عن أمه ساعة وصولهم فعلمت أنها في المنزل وأصبحت مشوقةً إلى معرفة نسبه، فلما جاءت لمشاهدة أمه ذُعرت لِما رأته فيها من الضعف والشيخوخة، وبان ذلك عليها وأدرك بهزاد ذعرها، فابتدرها قائلًا: «طالما أحببتِ أن تعرفي نسبي، فاعلمي الآن أن هذه الراقدة أمي، وهي بنت أبي مسلم صاحب الدعوة، مؤسس الدولة العباسية الذي قُتل غدرًا، كما قُتل أبوك، وليس في خراسان من يعلم أني حفيد ذلك البطل إلا سلمان الخادم وأمي، والناس يَحسَبونني ربيبها لأني وُلدت بعد وفاة أبي، وادَّعت هي أني ربيبها وأوقفتْني على الانتقام لأبيها وسمتْني كيفر. وقد آن لي أن أُخبرك أيضًا عما في ذلك الصندوق، فاعلمي أن فيه رأس جدي ورأس أبيك.» فلما سمعتْ ميمونة ذلك أجفلت وتغيَّر لونها، فشغلها عن دهشتها بإتمام حديثه فقال: «وقد حفظتهما في الصندوق حتى أتيت برأس الأمين وهو ثالثهما، وسيُؤتى به إلينا غدًا ويُدفن الثلاثة معًا؛ فأكون قد وفيتُ نذر والدتي وزدت على ذلك أني أتيتها بابنة جعفر حبيبنا.» وكانت فاطمة في أثناء ذلك مستغرقةً في النوم لشدة ضعفها، فلما فرغ بهزاد من حديثه أمسك ميمونة بيدها وأدناها من سريرها وهو يقول: «هذه ميمونة بنت جعفر بن يحيى قتيل الرشيد، قد أسعدني الحظُّ بلُقياها، وأحببتُها وأحبَّتْني، وقاست العذاب معي، وقد فرحنا معًا، وهي ستكون زوجتي فباركيها.» فرفعت يدها وأشارت إليها أن تدنوَ منها، فدنت فقبَّلتها ومسحت وجهها بكفِّها وتمتمت وأشارت إلى ثوبها الأسود وشفعت ذلك بإشارة النهي، ففهمت أنها تأمرها بنزع الحداد فأشارت مطيعة، ثم استقدم عبادة وكانت بجانبه، وقال لها: «وهذه أم الفضل والدة جعفر.» فحدَّقت فيها مع شخوص بصرها وجموده وتكلفت الابتسام، كأنها تقول: «عرفتها.» فقالت عبادة: «نعم، إني أعرفكِ منذ صباي.» وانحنت عليها وقبَّلتها فلمستها فاطمة بشفتَيها وقد أخذ منها الضعف مأخذًا عظيمًا وأحست بضيق صدرها وسرعة تنفُّسها، فعلم القوم أنها في حالة النزع، ولكنها ما زالت مبتسمة ابتسام الفوز حتى فاضت روحها وهم ينظرون.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/75919582/
الأمين والمأمون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «الأمين والمأمون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية تستقي أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامي خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى في نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
https://www.hindawi.org/books/75919582/23/
الخائن لا صديق له
وبعد أيامٍ عُقد لبهزاد على ميمونة، ثم بعث إلى سلمان فولاه رياسة الخرمية، فذكَّره سلمان بوعده بالتوسُّط لدى الفضل فأشار مُطيعًا. وفي اليوم التالي ركبا إلى بيت الفضل بن سهل، وكان الفضل قد بلغ أوج سعده بما أُوتيَه من التوفيق باستقلال المأمون بالخلافة، وبالوصية بها بعده لعلي الرضا، فأصبح الفضلُ الآمرَ الناهيَ تجري إرادته حتى على المأمون. فلما أنبأه الحاجب أن بهزاد وسلمان بالباب أمر بإدخالهما، وكان مجلسه غاصًّا بأصحاب الحاجات وفيهم الوجهاء والقواد إلا أخوه الحسن لأنه سار إلى بغداد. فلما دخل بهزاد رحَّب به الفضل ودعاه للجلوس إلى جانبه على السرير، وأشار إلى سلمان فجلس على كرسيٍّ بين الخاصة، فأخذ الفضل يسأل بهزاد عن سفره وما شاهده فأخبره أنه قادم من بغداد بعد أن شهد سقوطها فقال له: «وهل كنت فيها يوم مقتل الأمين؟» قال: «نعم، كنت مع صديقي سلمان وشاهدنا رأس الأمين منصوبًا على حائط البستان.» فضحك ضحكة الظافر وقال: «على الباغي تدور الدوائر.» ثم شُغل بقضاء مصالح الناس وسكت بهزاد ريثما ينفضُّ المجلس، ولم يتم ذلك إلا بعد أذان الظهر، فانصرف الناس ولم يبقَ غير بهزاد وسلمان والفضل. فنظر بهزاد إلى الفضل وقال: «يسرُّني أن أَرويَ لك ما أتاه صديقي سلمان من المعجزات في أثناء هذه الوقائع؛ فإنه كان من أكبر العاملين في تنفيذ رغبات ذي الرياستين بعقله وسيفه.» فابتسم الفضل وقال: «سنكافئه بولاية عملٍ من الأعمال المهمة، أم تراه مثلك لا يرغب في المناصب؟» فضحك بهزاد وقال: «إذا قلدتَه عملًا فقد أسبغت عليه نعمك، ولكنني أحب أن ينال حظوةً أخرى في عينَيك يتشرف بها بين الأقران.» فقال: «وما ذلك؟» قال: «أن تُزوجه بابنة أخيك.» فوجم الفضل ثم قال: «وأيَّ بنات أخي تعني؟» قال: «بوران.» فتراجع وتغيَّر وجهه وهزَّ رأسه وقال: «أيطلب هو ذلك؟» قال: «بل أنا أطلبه له إذا شئت؛ فإنه من خير الرجال.» قال: «يعزُّ عليَّ ردُّ طلبك يا بهزاد؛ فإن بوران مخطوبة.» فظن بهزاد لأول وهلةٍ أنه يعني خطبتها له فأراد الاستفهام، فسبقه سلمان إلى الكلام وقال: «لمن؟» فنظر الفضل إليه وقد امتعض من اعتراضه وقال: «مخطوبة لأعظم رجلٍ في الإسلام اليوم.» فأدرك سلمان أنه يَعني المأمون، وتحقق ذهاب العروس من يده فانقبضت نفسه وهاج غضبه وقال: «يلوح لي أن ذا الرياستين نسي وعده.» قال: «أي وعد؟» قال: «ألم نتواعد على شيء؟» قال وفي صوته جفاء وانتهار: «متى تواعدنا؟» قال: «هل أقول ذلك الآن؟» قال: «قل ما تشاء.» قال: «تواعدنا عليه لما كفرتُ بالمجوسية واعتنقت الإسلام رغبةً في المناصب وتواطأنا على السعي في هذا السبيل، وأنت يومئذٍ لا تملك شيئًا، وكانت بوران طفلة. أما الآن فقد تغيَّرت الأحوال وأصبحتَ ذا الرياستين وصاحب الأمر والنهي، فاذكر ما تعاقدنا عليه وأني قمت بما عليَّ، فهلا قمت بما عليك؟» فظهر الغضب في وجه الفضل لما يتخلل كلام سلمان من التعريض والتلميح وقال: «لا أذكر شيئًا من ذلك. ولكن ما رأيك، هل نرد خطيبها خائبًا ونزفها إليك؟ وعلى كل حال فالأمر لوالدها وهو غائب.» فوقع قوله في قلب سلمان وقوع السهم وامتُقع لونه ورقص شارباه في وجهه وتحفَّز للنهوض، فرأى بهزاد تغيُّره فوقع في حيرةٍ وأراد أن يستأنف الكلام فرأى الفضل يتناول مذبته ويتزحزح في مجلسه فعلم أنه يفضُّ المجلس، فوقف بهزاد وسلمان وانصرفا بعد أن حيَّاهما الفضل تحيةً فاترة. فلما خرجا أراد بهزاد أن يُخفِّف من غضب سلمان فلم يَدَعه هذا يقول شيئًا وهمَّ بوداعه فقال بهزاد: «لا تغضب يا أخي، لعل للرجل عذرًا مقبولًا.» فأجابه وفي صوته خشونة الغضب: «لا عذر له، ولكنه دنيء الأصل لا يعرف قدر الرجال وسأُريه عاقبة أمره.» ومشى مهرولًا. وظل بهزاد واقفًا حتى توارى سلمان عنه وهو يَحسِب لهذا التهديد ألف حساب. لعلمه أن صاحبه ذو كيدٍ ومكرٍ لا يَثنيه عن الأذى ضمير أو عهد ولا يَرعى ذمةً أو جوارًا. أما سلمان فسار توًّا إلى قصر المأمون واستأذن في مقابلته فأذن له، فلما اختليا قال سلمان: «إني من موالي أمير المؤمنين، ويُفرحني أن ما بذلناه في سبيل نُصرته لم يذهب عبثًا فمنَّ الله علينا ببقائه وبالخلافة وهو خليق بها.» فتوقَّع المأمون من وراء ذلك خبرًا جديدًا ولم يكن غافلًا فاغتنم هذه الفرصة وقال: «إني شاكر لأخوالي الخراسانيين فإنهم أصحاب الفضل.» فتظاهر سلمان بالتردُّد كمن يُقدم رِجلًا ويُؤخر أخرى فقال له المأمون: «قل ما بدا لك ولا تَخَفْ.» قال: «أنا أعلم أني أُستهدف للموت بما سأقوله، ولكنني أقوله رغبةً في حفظ حياة أمير المؤمنين ودوام دولته، وأرجو أن يبقى قولي سرًّا عن كل إنسان.» فاهتمَّ المأمون وقال: «أتوصيني بحفظ السر وقد قامت دولتنا به؟ قل سريعًا. لا تَخَفْ.» قال: «إن وزيرك الفضل بن سهل يوهمك أنه ردَّ السلطة إليك وهو يُدبِّرها لنفسه.» فخاف المأمون أن يكون الرجل مدسوسًا من الفضل عليه فقال: «إن مثل الفضل أهل للتمتُّع بنفوذ الكلمة بعد الذي بذله في سبيلي.» قال: «أرى مولايَ يُحاذِر أن يظهر ما يجول في خاطره ورأيه الأعلى، ولكنني أقول إن الفضل إنما أراد السلطة لنفسه ليس لنفوذ كلمته فحسب، ولكنه يسعى في نقل الخلافة من العباسيين إلى العلويين لترجع إلى الفرس؛ ولذلك اشترط البيعة لعلي الرضا بعد أمير المؤمنين.» فانتبه المأمون لمساعي الفضل في هذا الشأن، ولم يكن غافلًا عنها من قبلُ، ولعله اضطُرَّ إليها رغبةً في التغلب على أخيه، فقال: «ولكنني بايعت لعلي الرضا مختارًا لأني لم أجد في بني العباس من هو أهل للخلافة.» قال: «وهل تضمن أن يكون بنو عليٍّ أهلًا لها … وهب أنك فعلت ذلك مختارًا، فهل تضمن أن يصبر الفضل على نقلها حتى يستوفيَ أمير المؤمنين حظَّه منها؟ اعذر صراحتي يا أمير المؤمنين، وأنا واثق من بقاء هذا سرًّا، ولا أطلب إلا الحذر من هذا الرجل على حياتك ثم على دولتك.» فأطرق المأمون وقد جالت في خاطره خواطر كثيرة وحدَّثتْه نفسه بأمورٍ سكت عنها واكتفى بقوله: «وما الحيلة؟» فاستبشر سلمان بهذا السؤال وقال: «إذا عهد أمير المؤمنين في ذلك إليَّ فإني أُنقذه بجرعة عسلٍ أو شربة ماء.» فأعظم المأمون جسارة هذا الرجل وقال في نفسه: «إن وجود مثل هذا الغادر خطر على أعدائه وأصدقائه؛ لأنه بعد أن بذل نفسه في خدمة الفضل أصبح يسعى في قتله؛ فلا بد لذلك من سببٍ حمله على التغير، ولا يبعد أن يحدث ما يُغيِّره على سواه.» لكنه رأى فيه عونًا على التخلص من الفضل، فسكت هنيهة ثم قال: «سننظر في ذلك.» واكتفى سلمان بهذا الجواب لعلمه أنه لا يجيبه على اقتراحه جوابًا صريحًا لأسبابٍ يعرفها مثله. وتحرك المأمون فخرج سلمان ولبث المأمون بعد خروجه يُفكر فيما سمعه وهو يخاف أن يكون قد جاء جاسوسًا من قِبل الفضل، فعزم على استطلاع رأي الفضل خلسة. وفي ذلك المساء جاء الفضل إلى المأمون على عادته وقد أنبأه جواسيسه بدخول سلمان على المأمون في ذلك اليوم، فظنه جاء ليوسطه في شأن بوران ولم يخطر بباله أنه يجيء للوشاية به في أصل مشروعه لما في ذلك من الإيقاع بالفرس كافة. وتعمَّد المأمون الخلوة بالفضل وتبادلا الأحاديث المتنوعة حتى ذُكر سلمان فقال المأمون: «قد بلغني عن هذا الرجل أعمال أتاها في بغداد يُمدح عليها.» فقال الفضل: «نعم يا سيدي، قد أعان حزبنا بمساعٍ أساسها المكر والخيانة وقد أفادتنا، ولكنه كبير المطامع.» قال: «لا بأس من تقليده منصبًا.» فابتسم الفضل وقال: «عرضتُ عليه ذلك فرأيتُه طامعًا فيما يقصر أمثاله عن نيله. ولو علم أمير المؤمنين بمطمعه لاستغربه.» قال: «وما هو؟» قال: «إنه طامع في بوران ابنة أخي، ولما قلتُ له إنها مخطوبة غضب كأنه أولى بها من أمير المؤمنين.» وكان المأمون قد خطب بوران من أبيها سرًّا. فأدرك المأمون سِرَّ الخلاف وعلم أن الرجل لم يَبُحْ بسِرِّ الجماعة إلا انتقامًا، ولم يَفت المأمون إطلاع الفضل على مجيء سلمان، فأحب أن يُذهب خوفه من تلك الزيارة فهز رأسه احتقارًا لسلمان وسكت، وترك المسألة وأظهر الاستغراب لما سمعه وغيَّر الحديث، فانصرف الفضل وهو مقتنع بأنه أوغر قلب المأمون على سلمان. ••• ولبث المأمون بعد ذلك يُراقب ما يبدو من الفضل ليتحقَّق ما بلغه حتى جاء علي الرضا ذات يومٍ لزيارته وهو ولي عهده على الخلافة، فرحب به وجرى الحديث بينهما فقال علي: «إنما جئتك لأنبئك بما يُخفيه وزيرك الفضل عليك.» قال: «وما ذاك؟» قال: «إن أهلك في بغداد لما علموا أنك بايعتَني بعدك نقموا عليك أشياء وقالوا عنك إنك مسحور مجنون، وبايعوا إبراهيم ابن عمك المهدي مكانك وخلعوا بيعتك لاعتقادهم أنها ستئول بعدك لي.» فاستغرب المأمون ذلك لأنه لم يكن بلغه فقال: «لم يَبلغني شيء من ذلك.» قال: «لأن وزيرك الفضل يتناول أخبار البريد ويُخفيها عليك رغبةً في منافعه.» فشكر المأمون لعليٍّ حرية ضميره وقال: «أذكر أن الفضل قال لي إن أهل بغداد أقاموا إبراهيم بن المهدي أميرًا عليهم لا خليفة.» قال: «إن الفضل قد كَذَبك. والخلاف قائم الآن بين الحسن بن سهل وبين إبراهيم، والناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه الفضل، ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك.» فقال المأمون: «ومن يعلم هذا؟» فسَمَّى له رجالًا اطَّلعوا على ذلك فاستقدمهم المأمون، وسألهم بعد أن أعطاهم الأمان من الفضل وكتب لهم خطه به، فأخبروه بالبيعة لإبراهيم بن المهدي، وأن أهل بغداد قد سَمَّوه الخليفة السني، وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان عليٍّ منه. فلما سمع المأمون ذلك أثنى على عليٍّ وصرفه، ولما خلا بنفسه أخذ يفكر في أمره فصمَّم على قتل الفضل، ولكنه خاف من بقاء علي الرضا وليًّا للعهد، وأنه إذا لم يُقتل ظل موقفه حرجًا. وبلغ سلمان ما كان من عليٍّ وما قصَّه على المأمون، فعلم أن التمرة قد نضجت، فدخل على المأمون في خلوةٍ فلمَّح له المأمون تلميحًا فهم مراده منه، وانصرف يُعِد المكائد ويغتنم الفرص. وسافر المأمون إلى بغداد سنة ٢٠٢ﻫ، فلما وصل إلى سرخس وثب قوم على الفضل في الحمام فقتلوه، وكان ذلك بمساعي سلمان، فحاكَم المأمون الذين وثبوا عليه وقتلهم، وبعد أن وصل المأمون إلى بغداد بقليلٍ شاع مقتل علي الرضا بأكلة عنبٍ مسموم، وتحدَّث الناس أن المأمون دسَّ له ذلك العنب، وإنما دسَّه سلمان. فنجا المأمون بذلك وظلت الخلافة في أهله، ولكنه ظل خائفًا من سلمان فدسَّ إليه من قتله خوفًا من انقلابه عليه، فمات جزاء غدره فصح فيه قول بهزاد: «إن الغادر تعود عليه عاقبة غدره.» أما بهزاد فلم يَعُد يرى سلمان منذ افترقا يوم خروجهما من عند الفضل، ثم بلغه مقتل الفضل بن سهل وعلي الرضا فأسف لضياع مساعيه في نقل السلطة إلى الفرس، ولكنه تعزَّى بما وُفق إليه من الانتقام لجده وحميه، وعاش مع عروسه في راحةٍ والناس لا يعرفون أنه حفيد أبي مسلم وأنها ابنة جعفر البرمكي. ثم بحث عن سلمان فعلم أن المأمون قتله خوفًا من غدره، فقال في نفسه: «ذلك جزاء الخيانة وعاقبة الغدر.» أما المأمون، فبعد أن جاء بغداد تزوَّج ببوران بنت الحسن بن سهل ترضيةً لأبيها عما لحق بأخيه؛ فإن سبب قتله لم يخفَ عليه. ولزفاف بوران احتفال محفوظ في بطون التاريخ.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/0/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/1/
في حديقة الأزبكية
أقيم بحديقة الأزبكية بالقاهرة في ٢١ يونيو سنة ١٨٨٧ احتفال كبير لمناسبة مرور خمسين عامًا على تولي الملكة فكتوريا عرش إنجلترا، فزيِّنت الحديقة بالأنوار، وتقاطر إليها الناس زرافات ووحدانًا نساءً ورجالًا وأولادًا من جميع الطوائف والملل، وكلهم فرحون بما أُعدَّ في تلك الليلة من دواعي البهجة ومعالم الزينة. وكان الناس يخطرون جماعاتٍ في طرقات الحديقة وحول بِركتها وعلى جوانب الساحة التي كانت الموسيقى تصدح فيها. فلم تكن ترى بينهم إلا وجوهًا باسمة وقدودًا مائسة، هذا يخاطب صديقًا له ويمازحه، وذاك يداعب ولده ويلاعبه، وتلك تنادي فتاتها لتسير بجانبها خوفًا عليها من أن تتيه بين الجماهير. وآخرون جالسون إلى موائد صغيرة يسمعون عزف الموسيقى أو يتأملون جمال الطبيعة وتلألؤ الأنوار. وكانت أبواب الحديقة غاصَّة بالداخلين والخارجين، والحُجَّاب يمنعون الناس من الدخول بغير رقاع الدعوة، والشرطة يهوِّلون على الرعاع لئلَّا يكدروا بمزاحمتهم وضوضائهم صفو الاحتفال. فلما كانت الساعة التاسعة مساءً، وصل إلى أبواب الحديقة شاب يرتدي الملابس الإفرنجية، جميل الصورة، ربع القامة رشيقها، ولكن وجهه كان مقطبًا عبوسًا تلوح عليه علائم الكآبة والارتباك، ويبدو مستغرقًا في التفكير، فلما رأى ازدحام الناس هناك انتبه بغتة كأنه هبَّ من رقاد، ثم مدَّ يده إلى جيبه وأخرج رقعة الدعوة ودفعها إلى الحاجب فسمح له بالدخول. وقف الشاب بعد أن قطع خطوات داخل الحديقة، وبدا حائرًا لا يدري إلى أي جهة يسير، ثم استأنف سيره إلى ساحة الموسيقى. وكان لارتباكه وهواجسه كأنه سائر في خلاء قفْر لا يستوقفه منظر، حتى وصل إلى المقهى القائم بجانب الساحة فعرج عليه وجلس على كرسي به، ثم أشعل سيجارته وأخذ يدخن والناس يخطرون أمامه ذهابًا وإيابًا بين رجال ونساء وأولاد في مختلف الأزياء، وتلوح عليهم أمارات السرور، لكنه لم يكن ينتبه لحركاتهم وضحكاتهم، وبقيَ في شاغل عنهم بما يفكِّر فيه، ويده تعبث بعصاه، وكلما انتهى من تدخين سيجارة أشعل أخرى حتى امتلأ الجو حوله بالدخان. ولم ينتبه من غيبوبته هذه حتى جاء غلام القهوة يسأله عما يريد، ولم يكن في حاجة إلى شيء يشربه أو يأكله، ولكن العادة قضت عليه بطلب المشروب فجيء به إليه، ثم عاد إلى ما كان فيه من الاستغراق في التفكير. وفيما هو في ذلك شعر بيد لمست كتفه، وسمع في الوقت نفسه صوت هاتف باسمه يحييه، فالتفت مبغوتًا فإذا بصديق له ينظر إليه مبتسمًا وقد مدَّ يده لمصافحته، فنهض للقائه وصافحه، وشعر لدى مشاهدته بأنه كان في ضيق وأتاه الفرج، فدعاه إلى الجلوس قائلًا: «أهلًا وسهلًا بك يا عزيزي سليم!» فجلس سليم وهو يقول: «إني سعيد برؤيتك يا عزيزي حبيب، لكن ماذا جاء بك إلى هنا وعهدي بك أنك مقيم بحلوان؟» فقال حبيب: «جئت لتفريج كربتي بمشاهدة هذا الاحتفال، لكنني لم أزدد إلا كربًا، وقد أرسلك الله إليَّ في ساعة الحاجة إليك.» ثم تنهَّد وواصل حديثه قائلًا: «نعم أنا في ارتباك عظيم يا سليم، على أني أحمد الله إذ بعث بك لِتَعْزيتي، ولا غرو فإن الصديق الصادق مَن شارك صديقه في السراء والضراء.» وأشعل سليم سيجارته، ونظر إلى حبيب نظرة تفيض بالمودة والإخلاص، ثم قال: «لا أراك الله ضيقًا يا صديقي، إنك والله لأعز من الصديق وأقرب من الأخ وإذا لم يدفعني إلى غوثك دافع الحب فعشرة الصبا وحقوق التربية تتكفلان بذلك.» فقال حبيب وقد كادت ظلمة العبوسة تنقشع عن وجهه: «لقد قضت الظروف بأن ألتحق بخدمة الحكومة المصرية كما تعلم، وهي خدمة ما كان أسعدها لو لم يكن من أمرها ما هو جارٍ الآن من استغناء الحكومة عن كثير من موظفيها، اقتصادًا في النفقات. ولم يكن يخطر ببالي يوم انتظمت في سلك الوظيفة أن يكون هذا مصيرها، وقد قضيت خمس سنوات أعمل بهمة ونشاط حتى كانت الثورة العرابية فهاجرت من هذه الديار ومعي والدتي وشقيقتي، فتكبَّدنا مشاقَّ الأسفار، وأنفقت ما كنت قد ادَّخرته من راتبي الشهري، وحينما عُدت في أوائل السنة الماضية لم أكن أملك قرشًا واحدًا ولكني استطعت العودة إلى منصبي الحكومي، وبدأ حالنا يتحسَّن وكدنا ننسى تلك المشقات والأسفار، لولا أن داهمني القدر بما لم يكن في الحسبان.» قال ذلك وتأوَّه. فتطاول سليم بعنقه إليه في اهتمام وسأله أن يكاشفه بحقيقة الأمر. فقال حبيب: «علمت من ثقةٍ أن الحكومة ما زالت معتزمة الاستغناء عن بعض الموظفين، وقد أخبرني أحد الأصدقاء بأن هذا الاستغناء سيشملني، ولا يخفى عليك أن بيتي مفتوح وجيبي خالٍ للأسباب التي قدمتها.» فقال سليم: «من الذي أنبأك بذلك؟» قال: «أنبأني به صديقنا حسان.» فهز حبيب رأسه مستهزئًا وقال: «ومن أخبره بذلك؟ إن الأمر لعلى عكس هذا.» قال: «لقد أكد لي أن الخبر صحيح لا ريب فيه.» قال: «ثِقْ بأنه خبر عارٍ من الصحة بل هو عكس الواقع تمامًا.» فأبرقت أسرَّة حبيب ونظر إلى سليم بعين المستطلع وقال: «وكيف ذلك؟ لعلك تمزح!» قال: «كلا لست مازحًا، وليس ما بلغك إلا محض اختلاق، وما أخبرك به صاحبنا إلا لغرض لنفسه أنت تعلمه، والحقيقة أنك ستنال مركزًا أحسن مما أنت فيه و…» فقطع عليه الكلام قائلًا: «أحق ما تقول، ومن أين علمت هذا؟» قال: «نعم، إنك سترتقي إلى مركز أحسن في نظارة الداخلية، وقد علمت ذلك من ثقة، فكن مطمئنًا، وإن غدًا لناظره قريب، فلا تبتئس ولا تجزع.» قال حبيب وقد انبسط وجهه: «حقق الله الآمال يا عزيزي، والله إنك لوجه السعد، ولولا مجيئك لكنت أصبت بمرض لفرط قلقي وهواجسي، وإني لأشكر لك صدق مودتك وأحمد الله على ما بشرتني به.» فقال سليم: «إن الله هو الرزاق، وهو سبحانه واسع الفضل والرحمة. وهب أنك خرجت من خدمة الحكومة، فالأعمال الأخرى كثيرة وأبوابها مفتحة لمثلك.» قال: «نعم، لله الحمد على كل حال، وهو لا ينسى أحدًا من خلقه. وإنما أهمَّني أن مَن يترك خدمة الحكومة نادرًا ما يوفق في غيرها، وليس هذا لقلة الأعمال الأخرى ولكن لتعوُّده الراحةَ وتقاعده عن اكتساب ما يؤهله لسواها، ولقد مرت بذاكرتي هذه الليلة سيرة حياتي الماضية فندمت ندمًا لا مزيد عليه لأني لم أعمل بمشورة أبي — رحمة الله عليه — وأتعاطى التجارة معه، ولو أني أطعته لكنت في غنًى عن هذا الارتباك، ولكن ما قُدِّر كان.» ••• مضى الصديقان يتجاذبان أطراف الحديث، وقد زايل حبيبًا تردده وارتباكه وأخذ يمتِّع نظره بما حوله من المناظر. ثم قال لسليم: «ترى ما الذي جاء بك إلى هنا الليلة، تاركًا مشاهدة خطيبتك المحبوبة؟ أم لعلك تُسرُّ بمشاهدة هذه الأنوار وتأنس بهذا الازدحام أكثر من سرورك وأُنسك بمشاهدة عروسك المقبلة؟» فعلا وجه سليم الاحمرار لتذكره خطيبته وما يقاسي من أجلها، ولكنه حاول إخفاء عواطفه وهواجسه فسكت برهة وحبيب يراقب حركاته كأنه يريد استطلاع مكنونات قلبه، لعلمه بما هناك من روابط المحبة بينه وبين خطيبته. ثم قال سليم محاولًا إخفاء ما في ضميره: «لقد قضيت معها فترة قصيرة أول هذه الليلة، ثم رأيتها في حاجة إلى الرقاد فتركتها لتمضي إلى فراشها وجئت أقضي بقية السهرة في هذه الحديقة.» فلم يقتنع حبيب بذلك، ولكنه أظهر الاقتناع به على أن يستطلع حقيقة الأمر بنفسه في الغد، ثم لاحظ على سليم أنه عاد إلى الصمت وقد علت أسرَّته الكآبة وبدا عليه الاضطراب، فقال له مبتسمًا: «أرى صديقي قد وقع فيما كنت فيه؟ فهل ترى ذلك خوف الفصل من الخدمة أيضًا؟» فعلا وجه سليم الاحمرار، وحاول التكلم لكنه تلجلج وعاد إلى الصمت، ولم يشأ حبيب أن يلح عليه في السؤال حتى لا يجرح عواطفه أو يحرجه. وكانت الموسيقى قد انتهت من العزف فوقف وقال لصديقه: «ألا توافقني على أن نتمشى في الحديقة قليلًا لنتمتع بمناظرها؟» فوقف سليم وهو يحاول عبثًا إخفاء عواطفه، وحبيب يتجاهل أمره ويحدثه في أمور مختلفة تتعلق بالزينة وبهرجها واشتغال الناس بها؛ تسكينًا لما لاحظه عليه من حدة القلق، وإن كان شديد الميل إلى معرفة قلقه وانقباضه. ومشيا صامتين بعض الوقت وكلٌّ منهما يفكر في أمر، إلى أن وصلا إلى باب الحديقة الشمالي، فنظر حبيب إلى ساعته فإذا الساعة قاربت العاشرة فقال لسليم: «هلم بنا نخرج إلى مكتب البريد لأني أنتظر بريدًا من أوروبا هذه الليلة!» فوافقه وخرجا من الحديقة، ومشيا حتى وصلا إلى مكتب البريد، وسأل كلٌّ منهما الموظف المختص: «هل توجد لديه خطابات باسمي؟» ففحص الخطابات الموضوعة أمامه، وأخرج من بينها خطابين، ناول أحدهما لسليم والآخر لحبيب. وتناول حبيب كتابه وقرأ عنوانه فإذا هو بخطٍّ كأنه يعرفه، ثم نظر إلى طابع البريد على الغلاف فإذا هو طابع مصري وعليه خاتم مكتب بريد القاهرة فعلم أنه صادر منها، ففضَّ الخطاب وأخذ يتلوه لنفسه فإذا فيه: أكتب إليك هذه الكلمات بغير إمضاء، والقلب يخفق، واليد ترتعش، فإذا خفق قلبك وارتعشت يداك، فلعلك تدرك بعض ما لك في قلبي من المحبة التي كتمتها حتى طفحت، ولعلك إذا عرفت ذلك أن ترثي لي، وإلا فإنها شكوى أبثُّها لمن ملك قلبي مع بقاء أمري مكتومًا في ضميري عنه وعن سواه إلى أن يقضي الله بما يشاء. فبُغِتَ حبيب وأخذ يعيد تأمل الخطاب ويكرر قراءته متعجبًا، ثم حانت منه الْتفاتة إلى سليم، فإذا هو يتلو الخطاب الذي تسلَّمه وقد امتقع لونه وأخذت الورقة تنتفض في يده، فطوى حبيب كتابه وخاطب سليمًا قائلًا: «خيرًا إن شاء الله يا سليم؟» فقال: «ليس هناك سوى الخير يا عزيزي.» ثم طوى الكتاب ووضعه في جيبه، ومشى يريد الخروج من مكتب البريد، فمشى حبيب بجانبه وهو يفكر تارة في كتابه، وطورًا فيما ظهر على صديقه من مظاهر الاضطراب، وأراد استطلاع حقيقة حاله فمنعه التأدب، لكنه قرر في نفسه استعمال الحيلة للوقوف على سر اضطراب سليم، وأخذ يجاذبه أطراف الحديث إلى أن قال له: «تبارك الخلاق العظيم، أليس من دلائل قدرة الله أنك لا تكاد تجد بين الناس اثنين يتفقان في الخلقة والأخلاق؟ وقد صدق من قال: ولما آنس منه إصغاء، واصل كلامه فقال: «إني إذا أغضبني أمر لا أستطيع إخفاء عواطفي قط، فإن كان إلى جانبي أحد عرف أنني في انقباض كما عاينت ذلك في هذه الليلة.» فتنهد سليم وقال: «لعل ذلك ينطبق عليَّ أيضًا.» وكأنه أحس بقرب تغلب صديقه على لسانه فبادر بقطع الحديث وتعلل بميله إلى الرقاد قائلًا: «إني أشعر بتعب وألم في الرأس، ولهذا أفضل الرجوع إلى البيت الآن، وإن كنت أود قضاء بقية السهرة برفقتك.» فأدرك حبيب مراده ولكنه تجاهل وقال: «إن النوم أفضل شيء للراحة، وأنا أيضًا أحس مثل هذا التعب لما كنت فيه من الشواغل في هذه الليلة، وأرجو أن أدرك القطار الذاهب إلى حلوان الآن.» ثم مد يده مودعًا، فتصافحا وسار كلٌّ في سبيله وفي نفسه أمر يحاول إخفاءه عن رفيقه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/2/
شقاء المحبين
مشى حبيب قاصدًا إلى محطة باب اللوق فلما توارى عن صديقه أخرج من جيبه الخطاب الذي تسلَّمه من مكتب البريد، وجعل يردد نظره فيه ويقرؤه تكرارًا مستعينًا بأنوار الشوارع على تأمل الخط النسائي الذي كُتب به. وما زال كذلك حتى وصل إلى المحطة فإذا بالقطار قد أقلع منها إلى حلوان منذ دقائق، وسأل عن القطار التالي إليها فعلم أنه يقوم في منتصف الليل، فساءه ذلك لما هو فيه من الهواجس والارتباك. ثم رأى أن يمضي فترة الانتظار في التنزه، فتوجَّه إلى الجزيرة ليقضي هناك ساعة ثم يعود ليستقل القطار. وكان يسير والخطاب في يده، وأفكاره تتجاذبها الهواجس، وراح يستعرض بذاكرته البيوت التي يختلف إليها والسيدات اللواتي عرفهنَّ لعله يعرف كاتبة الخطاب، فلم ينتبه لنفسه إلا وهو على كوبري قصر النيل، فوقف هناك يتأمل منظر الماء الجاري، ويشنِّف سمعه بموسيقى خريره وارتطامه بأعمدة الكوبري. وراقته الأنوار المتلألئة على جانبيه كأنها كواكب ثابتة في ذلك الفضاء، فمضى يمشي الهوينى حتى وصل إلى الجزيرة ودخل شارعها المظلل بالأشجار فمشى فيه، ثم عرج إلى منعطف نحو الشاطئ فسمع قرقعة عربة مارة في الشارع، ثم رآها وقفت، فتربص ليرى ما يكون من أمرها، فإذا بشخص ينزل منها ويمشي في منعطف بالقرب من النخلة التي اختفى هو خلفها حتى بلغ النيل فوقف قليلًا، ثم انحدر إلى أسفل الشاطئ وجلس على صخر هناك. وتأمله حبيب فإذا به يشبه صديقه سليمًا، ثم تحقق أنه هو بعينه، فأشكل عليه أمره وعجب لمجيئه إلى هناك في ظلام الليل وقال في نفسه: «يحسن أن أمكث مختفيًا لأرى ماذا جاء به إلى هنا.» ثم تذكر ما رآه فيه من ارتباك ذلك المساء فخاف أن يكون قد وقع في اليأس وأراد الانتحار غرقًا في النيل، فمشى بضع خطوات بكل خفة حتى أصبح وراءه وجلس مختفيًا وراء نخلة أخرى هناك ليرى ما يكون من أمره، وليسارع إلى إنقاذه إذا رآه يلقي بنفسه في النيل، وشكر الله على ما كان من تأخره عن اللحاق بالقطار إلى حلوان. أما سليم فإنه جلس إلى الشاطئ مطرقًا والماء جارٍ أمامه والظلام مستولٍ على تلك الجهة إلا ما يصل إليها من الأشعة البعيدة المنبعثة من أنوار الكوبري. وبعد قليل أخذ يتلفَّت يمنة ويسرة كأنه يحاذر أن يراه أحد، ثم تنفَّس الصعداء وقال متحرقًا: «آه من حوادث الزمان، وآه من جهالتي وقلة تدبيري! آه يا سلمى يا حبيبتي ومُنى فؤادي!» ثم خنقته العبرات فأطلق لنفسه عِنان البكاء حتى سمع حبيب صوت شهيقه فتفتت قلبه حزنًا عليه وجاشت عواطفه حتى كاد يشاركه البكاء، لكنه أمسك ليرى ما يكون منه بعد ذلك فإذا به بعد البكاء والشهيق برهة عاد فقال: «أي سلمى حبيبتي! إني أحبك والله حبًّا لم أشعر بمثله لغيرك، ولم أكن أعلم أن الحب يملك القلب ويتسلط على العواطف إلى هذا الحد. آه ما أحلى الحب وما أمرَّه!» وعاد إلى البكاء حينًا، ثم قال محدثًا نفسه: «آه يا سليم! هل خطر ببالك أنك تصبح ألعوبةً بيد الحب وأنت أنت الذي لم تكن تعبأ بحوادث الزمان ولا بأي أمر من الأمور؟ آه يا إلهي! ماذا أعمل لأتخلص من هذا التردد؟ أأترك سلمى؟ كلا والله لا أتركها ولا أتخلى عنها؛ لأنها تحبني وقد علقت آمالها على وعدي لها بالزواج، وهي ملاكي وحبيبتي ومنتهى أملي. لا لا، لا أتخلى عنها لأني لا أدري ماذا يلم بها إذا علمت بترددي في محبتها. لا لا، يجب ألا أتردد، إنها كعبة آمالي. روحي فداك يا سلمى، لعلك الآن راقدة في فراشك وقد كحل عينيك الكرى، فنامي هنيئًا ولا تزعجك الأحلام!» وكان حبيب يسمع أقواله كلمةً كلمةً ويتمعَّن فيها لعلَّه يستطلع من خلالها سببًا لهذه التأوهات. ثم سمعه يقول وقد أمسك نفسه عن البكاء ومسح عينيه بمنديله: «ماذا جرى لي؟ لماذا أنا خائف؟ إني خائف على سري أن يباح ولكن من يذيعه وليس هنا غير النيل شاهدًا؟» ثم سكت وأخرج ورقة من جيبه وتأملها في الظلام، ثم تنهد وعاد إلى البكاء وقال: «نعم، لا أتركك يا سلمى، ولكن ماذا أفعل بوالدتي التي زهدت في الدنيا كلها من أجلي، ربتني بدموعها وسهدها، فأدخلتني المدارس وعلمتني، وأنفقت كل شيء في سبيلي ولم تدعني أتحمل ضيمًا، وهي إنما فعلت ذلك آملة أن أكرس حياتي لخدمتها، وإنها أهل لأكثر من ذلك فكيف أخالف أمرها أو أعقها؟ لا لا، يجب أن أكون طوع إرادتها لأن أيامها في هذه الدنيا معدودة. يجب أن أفعل كل ما تأمرني به!» وسكت ثم عاد فقال: «لا لا، إن والدتي تريد أن أتخلى عن سلمى حبيبتي، وأنا لا أستطيع أن أترك سلمى ولو تركتني روحي أو تركتني والدتي الحنون. إن سلمى وضعت كل آمالها فيَّ فكيف أخيب أملها وأتركها تموت حسرة وأسفًا؟ سامحك الله يا والدتي! لماذا بالغت في نهيي عن الاقتران بها؟ ولماذا هددتني بأن تتركيني إذا لم أترك سلمى؟ أصحيح أنك لن تعدِّيني ولدًا لك إذا أصررت على زواجها؟ ويلاه ماذا أفعل؟ ليس لي إلا إنهاء حياتي فأتخلص من هذا التردد وألقي نفسي في هذا النيل.» فلما سمع حبيب كلامه، تحفَّز للحاق به وإمساكه عن الانتحار غرقًا، لكنه ما لبث أن سمعه يقول: «لا لا، إذا قتلت نفسي فإني أكون قد قتلت والدتي وحبيبتي أيضًا، فهما ولا شك ستموتان حسرة بعدي.» ثم رآه ينهض ويتحول عائدًا إلى العربة، فتقهقر حبيب مختبئًا خلف النخلة حتى لا يراه سليم فيكدره ذلك لحرصه على إخفاء ما به عن الناس كافة، وكانت العربة في انتظار سليم عند أول الشارع فركبها وأمر السائق فحوَّل الأعنَّة وعاد به إلى المدينة. وهنا رجع حبيب من حيث أتى، وهو يعجب لذلك الاتفاق الذي كشف له عن سر صديقه، وقد رثى لحاله وشعر بمقدار القلق الذي يعانيه، ولم يكن يعلم أن مشكلته معقدة إلى هذا الحد. ونظر إلى الساعة فإذا بالليل كاد أن ينتصف، فهرول مسرعًا إلى المحطة خوفًا من أن يفوته القطار، فأدركه قبل إقلاعه بقليل. وفي طريق القطار به إلى حلوان، عاد فأخرج الخطاب الذي تسلمه من مكتب البريد وأخذ يتأمله ويكرر تلاوته محاولًا حلَّ رموزه وكشف معمياته، لكن محاولاته لم تزده إلا ارتباكًا، ولم يستطع أن يعرف صاحبة الخطاب لأنه كان يتردد على بيوت كثيرة في القاهرة ويشاهد فتيات كثيرات، ولم يكن يخطر له أمر الحب مطلقًا؛ ولذلك لم يكن ينتبه لحركات إحداهن لخلو ذهنه من ذلك. على أنه مع هذا ظل يستعرض في ذاكرته من كان يزورهن كثيرًا من أولئك الفتيات، وتذكَّر واحدة منهن كان يسر لمشاهدتها للطفها ورقة جانبها وتواضعها، وكانت من أكثر الفتيات رقة وتهذيبًا، ولم يلحظ منها مطلقًا أنها ممن يملن إلى المغازلة بل كان يراها بعكس ذلك لا تتكلم إلا بحساب، ولا تأتي ما يُشْتَمُّ منه رائحة الطيش، فاستبعد أن تكون صاحبة الخطاب. وقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس حتى وصل القطار إلى محطة حلوان فطوى الخطاب ووضعه في جيبه ونزل قاصدًا منزله فإذا بوالدته لا تزال في انتظاره وقد استبطأته، فلما قرع جرس البابا نادته باسمه فأجابها ففتحت الباب واستقبلته سائلة عن سبب تأخره، فلفَّق لها عذرًا قبلته. ثم سأل عن أخته فقالت له إنها في الفراش منذ وقت قصير؛ لأن أسرة الخواجة سعيد جاءت لزيارتهم عند العصر، ولم تعد إلى القاهرة إلا في القطار الأخير الذي غادر حلوان منذ قليل. فلما سمع اسم تلك الأسرة، خفق قلبه بشدة لم يعهدها قبل ذلك، وسأل والدته: «وكيف حال الخواجة سعيد وأسرته؟» فقالت: «هم جميعًا بخير، وقد تناولوا العشاء هنا وسألوا عنك كثيرًا، وقبل أن يبرحونا بالقطار الأخير اتفقنا على أن نسير معًا يوم الجمعة القادم إلى أهرام الجيزة للتنزه، على أن تذهب شقيقتك شفيقة معنا؛ لأن الآنسة أدما ابنة الخواجة سعيد طلبت ذلك، وأنت تعلم مقدار حبها لشفيقة وحب شفيقة لها.» وما طرق أذنه اسم أدما، حتى اشتد خفقان قلبه، وحدثته نفسه بأنها هي لا سواها صاحبة الخطاب الذي تسلمه، وكان اسمها قد تردد في أذنه وهو في القطار، لكنه تجلد وتمالك عواطفه ريثما تنكشف له الحقيقة، وإن شعر منذ تلك الساعة بميل شديد إلى تلك الفتاة، وود لو تكون هي مرسلة الخطاب إليه. ثم ودَّع والدته وذهب كلٌّ منهما إلى فراشه. لكنه لم يستطع الرقاد لشدة هواجسه فبقي فيه حينًا دون أن ينام، ثم نهض ومضى إلى خزانة كتبه فأخرج منها كتابًا وعاد إلى فراشه ليتلهى بمطالعته. وشعرت به شقيقته وهو يمر بغرفتها فسألته عن سبب نهوضه من الفراش فقال: «جئت لآخذ رواية أطالع فيها ريثما أنام.» قال ذلك ودخل إلى سريره والشمعة مضيئة على مائدة بجانبه، وأخذ يقرأ في الكتاب. لكن عواطفه كانت لا تسمح له بالمضي في القراءة، فكان يُخرج الخطاب من جيبه بين آونة وأخرى ويعيد قراءته. وقضى في ذلك معظم الليل حتى كاد يطلع الفجر، وإذا بوالدته داخلة غرفته وقد عجبت لسهره إلى تلك الساعة، فلما شعر بدخولها عليه أخفى الخطاب في الكتاب وأغلقه. ولما سألته عن سبب سهره زعم لها أنه مغتبط بمطالعة إحدى الروايات ولم يشأ أن ينام قبل أن يُتمَّها، فصدقته ومضت لشأنها. أما هو فأخذ الكتاب ووضعه في الخزانة وأغلقها ثم عاد إلى فراشه وقد أنهكه السهر والتعب فنام إلى أن حانت ساعة خروجه إلى عمله، فنهض وتناول قليلًا من الشاي، ثم مضى إلى عمله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/3/
سليم وسلمى
عاد سليم في العربة من شاطئ النيل وعيناه مبتلتان بالدموع وقد أخذ منه القلق كلَّ مأخذ، واشتدَّت به لوعة الغرام، وكان يظن أن أمره ما زال مجهولًا من كل إنسان على أنه كان يشعر أن كتمانه حبَّه مضرٌّ بصحته وعقله، ويود من صميم قلبه أن يلقى صديقًا يبث إليه شكواه تخفيفًا للوعته. وكان يثق بصديقه حبيب كل الوثوق ولكن خشي مفاتحته بالأمر من تلقاء نفسه. ولكن حبيبًا كان من الرقة وحسن الذوق على جانب عظيم، فبقي رغم وقوفه على سر حب صديقه، لا يخاطبه بشيء في شأنه، ولا يسأله عنه؛ خوفًا من أن يعد ذلك منه تطفلًا أو فضولًا. وكان سليم مقيمًا بغرفة مفروشة في نُزُل بأحد شوارع القاهرة؛ لأنه كان وحيدًا بها، ولم يأتها إلا منذ بضع سنين ليمارس مهنة المحاماة، ولما كان غير واثق بنجاحه فيها، آثر ألا يأتي بوالدته معه، وتركها مقيمة بمنزل أخيه المتزوج في مدينة الإسكندرية، على أن يأتي بها لتقيم معه متى استقر به المقام بالقاهرة. واتفق له بعد مجيئه إلى القاهرة ببضعة أشهر، أن تعرَّف إلى سلمى خلال تردده إلى بيت أبيها، وهو من أبناء بلدته، فتعلَّق قلبه بها، واعتزم خطبتها لنفسه لِمَا آنس فيها من الأدب والتهذيب والكمال. لكنه لم يخبر والدته بذلك أول الآمر، فلما أطلعها عليه بعد حين، فوجئ بعدم موافقتها على هذه الخطبة، وراجعها مرارًا فلم تزدد إلا إباءً. وأخيرًا بعثت إليه بذلك الخطاب الذي تسلَّمه من مكتب البريد، مذكرة إياه بحقوقها عليه، مؤكدة أنها إن لم يعدل عن خطبة الفتاة فلن تعده ولدها، بل لن تبقى على قيد الحياة لأنها إن لم تمت حسرة وكمدًا فستقتل نفسها لتستريح من شقائها بعقوقه ومخالفته إرادتها! وكان رغم شدة تعلقه بسلمى، وإعجابه بخصالها، لا يريد أن يخالف والدته، فوقع في حيرة كادت تدفع به إلى وهدة اليأس والانتحار. فلما عاد إلى غرفته أضاء الشمعة وبدل ثيابه، ثم جلس إلى مائدة بجانب سريره وأخرج كتاب والدته ليعيد قراءته، فلما نظر إليه عاد فطواه وأرجعه إلى جيبه خوفًا من إثارة عواطفه، وأشعل سيجارة أخذ يدخنها وفكره مشغول بما هو فيه من الارتباك، وباضطراره إلى كتمان أمره عن خطيبته حتى لا تتكدر، وربما أدَّى بها الحزن إلى ما لا تحمد عقباه. وما زال في هواجسه هذه حتى الصباح، فنهض إلى عمله كالعادة، وعند العصر ركب عربة مضى بها إلى دار سلمى ليمتِّع طرْفه وسمعه برؤيتها وحديثها، وكان يرتاح لمجالستها وينسى وهو معها كل متاعبه ومشاغله. وما كادت المركبة تقف به أمام البيت حتى سارعت سلمى إلى استقباله وقلبها يطفح سرورًا ووجهها يُشرق ابتسامًا، فلما دخل سلَّم على أهل البيت وقد أبرقت أسرَّته، ثم مد يده إلى سلمى مسلِّمًا وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث وكلٌّ منهما لا يرفع نظره عن وجه الآخر، وأهل المنزل فَرِحون بائتلاف قلبَيِ الخطيبين وبما جمعه الله فيهما من صفات الكمال. وقالت سلمى له بعد قليل: «أرجو أن تكون قد سُررت أمس بمشاهدة الزينة في حديقة الأزبكية!» فقال: «الواقع أني سُررت بها كثيرًا، ولكن سروري لم يتم لأني كنت أود لو أنك كنت معي لنشاهد تلك المناظر البديعة معًا.» فقالت: «إن ما يسرك يسرني، وقد كنت طول الوقت منشرحة الصدر لعلمي أن صدرك سينشرح ولا شك بتلك المناظر.» قال: «بورك فيك يا عزيزتي، وإني لأحمد الله على أن رأيتكم جميعًا في عافية. على أني كنت أود لو أن التقاليد لم تَحُلْ دون ذهابك معي فأزداد سرورًا بمصاحبتك.» قالت: «وماذا تعني بذلك؟» قال: «أعني أن الناس لا يعلمون بما تم من أمر خطبتنا، فلو أنهم رأونا نتنزه معًا لأدى ذلك إلى تقوُّلهم علينا، مما لا أرضاه لك.» فخجلت سلمى وأدركت أنه يشير إلى بقاء خطبتهما في طي الكتمان، ثم نظرت إليه نظرة كلها حب وحنان، وقد تضرجت وجنتاها خفرًا وحياءً وأطرقت ولم تتكلم. فتبسم سليم، وقد ازداد إعجابًا بجمال سلمى وكمالها، ثم وجَّه خطابه إلى والدتها قائلًا: «أليس كذلك يا سيدتي؟» فقالت: «إنك معدن اللطف والكمال يا ولدي، ولكن الناس أكثرهم لا يتورعون عن القال والقيل، ومن الحكمة ألا نتيح لهم الفرصة لذلك، وكل آتٍ قريب.» قال: «هذا هو اعتقادي أيضًا، ولكنني أود أن نذهب للتنزه جميعًا في مكان خارج المدينة بمعزل عن الرقباء وتكونين وحضرة العم معنا فنقضي يومًا من الأيام الجميلة.» قالت: «نحن لا نتأخر عن القيام بما فيه سرورك.» قال: «إن سروري لا يتم إلا بسروركم جميعًا.» ثم حوَّل نظره إلى سلمى مستطلعًا رأيها فقالت: «أنت تعلم ما يسرني، فاتفِقوا فيما بينكم على الموعد الذي يعجبكم وأنا رهن مشيئتكم.» قال: «سنعيِّن المكان والزمان في فرصة أخرى.» ثم أخذوا في أحاديث مختلفة، وفيما هم في ذلك سمعوا رنين جرس الدار، ثم دخل حبيب فقاموا جميعًا للترحيب به، فسلَّم عليهم وجلس يشاركهم الحديث، ولما سألوه عن والدته وشقيقته قال: «هما في خير وتهديانكم أزكى السلام، وكان في عزمهما الحضور إلى القاهرة اليوم، ثم آثرتا تأجيل ذلك إلى يوم الجمعة المقبل، لتقضيا معكم بعض الوقت، ثم تتوجهان إلى بيت الخواجة سعيد؛ لأننا تواعدنا مع أسرته على زيارة الأهرام معًا، ويا حبذا لو شاركتمونا هذه الزيارة!» فقال سليم: «الحق أنها زيارة ممتعة، ولئن وافق عمي والأسرة على ذلك لنكونن جميعًا من السعداء.» فاستحسن الجميع ذلك الرأي، وتمَّ الاتفاق على الذهاب إلى الأهرام صباح يوم الجمعة القادم، ثم أخذوا في أحاديث أخرى. ••• كان حبيب وحده من بين الحاضرين يعلم أمر خطبة سلمى لصديقه سليم، وقد كان في قلق عليه منذ وقف على حقيقة حاله مصادفة على ضفة النيل؛ ولذلك سارع بعد خروجه من الديوان إلى زيارته في غرفته بالفندق ليرى ما تم له، فلما لم يجده هناك وعلم أنه ذهب إلى بيت خطيبته، لحق به إليه. وكان يتوقع أن يرى على وجه صديقه شيئًا من علامات الاضطراب، واعتزم أن يعزيه ويسعى في تخفيف كربه، ولكنه شاهده على غير ما كان يتوقع وكأنه لم يكن في شيء مما كان بالأمس، فعجب لتأثير المحبة في قلوب المحبين، وكيف أنها مع ما يخالطها من الأكدار تكون أكبر تعزية لهم! وهكذا خفَّ قلقه على صديقه، ولكنه بقي معتزمًا مفاتحته في الأمر في فرصة أخرى لعله يستطيع مساعدته بشيء. ولما حان وقت العشاء نهض حبيب مستأذنًا في الانصراف لكي يلحق القطار الذاهب إلى حلوان بعد قليل، فودعوه بمثل ما استقبلوه به من الإعزاز وخرج من هناك إلى المحطة رأسًا، مؤجلًا المرور ببيت الخواجة سعيد إلى فرصة أخرى. أما سليم فبقي في بيت خطيبته إلى حوالي الساعة الحادية عشرة، وكانت الساعات تمر مسرعة كالسحاب دون أن يشعر بها لفرط سروره بمجالسة خطيبته واستئناسه بحديثها وإعجابه بكمالها، فضلًا عما كانت عليه من الجمال وخفة الروح. ثم ودعهم وخرج وقلبه يود البقاء، ولم ينسَ قبل خروجه أن يضغط يدها وهو يصافحها مودعًا، فضغطت يده بدورها متمنية له السلامة في الذهاب والإياب. ولم يكد سليم يخرج من البيت حتى عادت إليه هواجسه وأخذ يفكر فيما هو فيه من الارتباك، فانقبض وجهه وقلبه، وما كاد يصل إلى غرفته حتى وجد بطاقة زيارة متروكة له باسم داود سليمان، فأخذه العجب لأنه لا يعرف أحدًا بهذا الاسم، ثم دق جرسًا أمامه داعيًا الخادم، فلما جاءه سأله عمن أتى بتلك البطاقة، فقال: «إن صاحبها أتى لمقابلتك، فلما لم يجدك تركها على أن يعود صباح الغد.» وبعد أن صرف سليمُ الخادمَ، جلس يكتب إلى والدته خطابًا يرد به على خطابها، ولكنه كان مشتت الفكر لا يدري ماذا يكتب، فكتب سطرين ثم مزق الورقة وعاد فكتب سطرين آخرين ولم يعرف كيف يعبر عن أفكاره لشدة ارتباكه فمزق هذه الورقة أيضًا وأطرق مفكرًا وقد أخذ منه الارتباك مأخذًا عظيمًا. وبقي كذلك حينًا غير قصير، ثم نهض دون أن يكتب شيئًا فبدَّل ثيابه وتمدد في سريره محاولًا النوم. لكنه بقي مسهدًا يتقلب في فراشه إلى أن طلع الفجر فغادر الفراش وارتدى ثيابه، ثم أخذ يشغل نفسه ببعض أوراق القضايا التي وكل فيها. وفيما هو في ذلك طرق الخادم باب الغرفة ثم دخل وأنبأه بقدوم الزائر الذي ترك بطاقته بالأمس فأمره بالمجيء به. ودخل عليه الزائر، فإذا هو كهل طويل القامة، أفطس الأنف، ضيق العينين، في فمه اعوجاج ملحوظ وأسنانه بارزة، فرد تحيته بمثلها ورحب به. ولما استتب الجلوس بالزائر افتتح الحديث في الشأن الذي جاء من أجله فقال: «لقد جئت أمس لمقابلتكم فلم يسعدني الحظ بذلك إلا الآن.» فقال سليم: «أهلًا وسهلًا، وإني ليسعدني أن أكون في خدمتك.» قال: «أشكرك يا سيدي على هذا الفضل الكبير، ولكني أرجو أن تجيب لي قبل ذلك طلبًا بسيطًا.» قال: «ما هو هذا الطلب؟» قال: «تقسم لتحفظنَّ ما أقوله لك سرًّا مكتومًا عن كل بشر.» فتبسَّم سليم والتفت إليه قائلًا: «إن في طلبك هذا إهانة لي وطعنًا في كرامتي؛ إذ لا يخفى عليك أن المحامين مكلفون حفظ الأسرار التي يقفون عليها بحكم مهنتهم كما يحفظ الكهنة سر الاعتراف، فلا داعي لأن تكلفني مثل هذا القسم.» فقال داود: «معاذ الله، إني لم أُرِد طعنًا أو إهانة، وأنا أعلم طهارة ذمتك ولولا ذلك ما جئت إليك مستشيرًا، ولكن الأمر الذي جئت فيه يتعلق بالأعراض؛ ولذلك طلبت إليك القسم زيادة في الحرص على هذه الأعراض.» فقال سليم: «إن العادة لم تجرِ بمثل ذلك قبل الآن، ولكنني إكرامًا لخاطرك ولمن أشرت إليهم، أقسم لك بالذمة والشرف لأكتمن كل ما تقوله لي الآن.» فشكره داود على ذلك وقرَّب كرسيه منه ثم أخذ يقص عليه قصته. ••• قال داود: «إني من أصحاب الأملاك الزراعية في مديرية الغربية، ولكن إقامتي بالقاهرة في شارع شبرا قرب منزل الخواجة سليمان.» فلما سمع سليم ذلك خفق قلبه لأن الخواجة سليمان هو والد حبيبته سلمى، فأصغى إلى داود بكل جوارحه، وواصل هذا كلامه فقال: «وكنت منذ أربع سنوات أتردد إلى بيت جاري المشار إليه ونتبادل الزيارات فيما بيننا كعادة الجيران في بلادنا، وكان له ابنة اسمها سلمى …» فاشتد خفقان قلب سليم، وازداد اشتياقًا إلى استطلاع الحكاية فأنصت لسماع تتمة الحديث، ومضى داود فقال: «وقد آنست في تلك الفتاة لطفًا وتهذيبًا قلَّ مثالهما كما رأيت منها مَيْلًا إليَّ، وكنت أستأنس بها كثيرًا حتى علقتها ومال قلبي إليها.» وهنا كاد قلب سليم أن يقفز من بين ضلوعه، وشبت نار الغيرة فيه، لكنه أمسك عن إظهار عواطفه ليقف على نهاية القصة. فقال داود: «فلما رأيتها تحبني وتظهر لي الميل الشديد تلميحًا وتصريحًا، ورأيت أباها يلاطفني ويكثر من دعوتي إلى زيارتهم، لاح لي أن أخطبها منه، وبقي هذا الأمر يتردد في فكري زمنًا طويلًا خوفًا من أن يكون في الأمر دسيسة أو خديعة، ولكن الحب أعمى بصيرتي فصممت على خطبتها منه وفاتحته في الأمر، فرأيت منه ميلًا شديدًا إليَّ، وقال لي: «إن سلمى تكنُّ لك أضعاف هذا الميل.» فازددت تعلقًا بالفتاة وصرت أُكثر من التردد إلى البيت، وكنت أحيانًا أخلو إلى الفتاة ونظل الساعة والساعتين نتبادل عواطف الحب، ولم أكن أرى منها إلا حبًّا وهيامًا وطالما صرَّحت لي بأنها لم يعلق قلبها بسواي إلى غير ذلك من عبارات المَحبة.» فلم يتمالك سليم عند ذلك عن الانتفاض من شدة التأثر، وعلا وجهه الاحمرار وأحس كأن نارًا تتقد في جسمه غيرة وحنقًا، لكنه تجلد حتى يسمع بقية الحديث، مكتفيًا بإظهار عنايته بتتبعه. فقال داود: «ولا أكتمك أني وصلت في حب هذه الفتاة إلى درجة أن صورتها لم تكن تفارق ناظري ليلًا ولا نهارًا، وظننت نفسي قد بلغت نهاية السعادة بالحصول عليها. على أني لم أخطبها رسميًّا لأن أباها العجوز — سامحه الله — قال لي: «إن الخطبة لا بأس من تأخيرها.» ثم طلب مني بعض المال على سبيل القرض، لاحتياجه إليه في دعوى مقامة عليه، لا أعلم ما هي وربما كانت مثل الدعوى التي أرجو أن أستطيع رفعها ضده بمساعدتك، فنقدته مائة جنيه. ونظرًا إلى ثقتي به لم أكلفه كتابة صك بها، وقد كنت أحسبه أشرف رجل على وجه هذه البسيطة كما كنت أحسب ابنته أطهر فتاة رأتها عيني. ولكني اضطررت بعد ذلك إلى العدول عن خطبة الفتاة لسبب أخجل أن أذكره.» فاشتعل قلب سليم غيرة وحنقًا، ولم يتمالك عن النهوض عن الكرسي بغتة لشدة الانفعال، لكنه عاد إلى عقله وخاف الفضيحة فتظاهر بأنه يبحث عن علبة سجايره ثم تناولها ودفع إلى داود سيجارة منها، وأشعل لنفسه أخرى وجلس لسماع الحديث وهو يجاهد نفسه لإخفاء عواطفه. ولم تَخْفَ حالته على داود، لكنه تجاهل وواصل كلامه فقال: «نعم، إنني أخجل من ذكر سبب عدولي عن خطبة الفتاة، ولا سيما أن الأمر يمس العرض.» فقال سليم: «لا داعي للخجل، وقد أقسمت لأكتمن السر.» فتردد قليلًا، ثم قال: «ماذا أقول؟ يكفي أني دخلت يومًا منزل الخواجة سليمان هذا دون أن أقرع الجرس، فلما دخلت غرفة الفتاة وجدتها جالسة بجانب شاب — كنت أعده صديقًا للأسرة — في هيئة مريبة.» وهنا يعجز القلم عن شرح حالة سليم عند سماعه ذلك الاتهام الموجَّه إلى حبيبته التي يعتقد فيها العفاف والطهر، فلم يستطع إمساك عبراته، وغادر الغرفة متظاهرًا بأنه يريد حاجة خارجها، ثم عاد بعد أن مسح دموعه فجلس على كرسيه ساكتًا مصغيًا ولكن قلبه يتقد غيرة وحنقًا. وتجاهل داود ما لاحظه على سليم، وأخرج منديله فمسح به أنفه وشاربيه وعاد إلى إتمام حديثه فقال: «ولما رأيتها مع الشاب المشار إليه في تلك الخلوة المريبة، لم أتمالك عن الخروج حالًا وقد اتقدت نار الغيرة في قلبي، ورجعت من حيث أتيت وبقيت مدة لا أزور ذلك البيت. على أني كنت أفكر دائمًا في أمر المائة جنيه التي اقترضها مني أبو الفتاة، وأخيرًا لاح لي استشارة محامٍ ماهر لرفع الدعوى على الرجل مطالبًا إياه بأداء ذلك الدين. ثم رأيت أن أطالب الرجل أولًا، فلما طالبته أخذ يماطلني ويعدني تارة بالدفع، ويسألني تارة عن سبب عدولي عن خطبة الفتاة فألفق له بعض الأعذار. وأخيرًا كشفت له حقيقة ما وقفت عليه من أمر ابنته فقال لي: «إن ذلك الشاب صديق الأسرة كما تعلم، ولا شكَّ في أنه هو الذي غرَّر بالفتاة مستغلًّا بساطتها، لكنه لم ينل منها شيئًا.» ولما يئس من إقناعي، ورأى أني مصرٌّ على إرجاع مالي الذي أخذه، أنكر أنه اقترضه مني. فهل تظن أني إذا رفعت عليه دعوى أستطيع ربحها؟» فقال سليم وقد أمسك عواطفه: «لا يخفى على فطنتك أن الدعاوى المالية لا تقوم إلا بالبينة، فهل عندك بيِّنة أو شاهد يشهد بذلك؟» فقال: «إني دفعت إليه المبلغ سرًّا دون أن يعلم أحد بذلك، ولكن الشاب الذي حدثتك الآن عن صلته بالفتاة، علم بالأمر خلال تردده إلى المنزل، على أني ما أظنه يقبل إثبات هذه الدعوى؛ لأنه كان السبب الأكبر بل هو السبب الوحيد لما حصل، وبناءً عليه أقول إنه ليس لديَّ بينة أو شهود.» فاشتغل بال سليم بذلك الشاب وأحبَّ معرفة اسمه فقال: «هل تعرف ذلك الشاب الذي أشرت إليه؟» قال: «هو شاب لا أراه في القاهرة الآن إلا يسيرًا، واسمه حبيب.» فاضطرب سليم عند سماعه اسم صديقه بعد أن سمع ما قيل عنه وعن سلمى، لكنه تجاهل وأجاب متظاهرًا بأنه غير مكترث قائلًا: «إني أعرف هذا الشاب معرفة بسيطة، وإذا لم تستطع الحصول على شهادته لا أظنك تستفيد شيئًا من رفع دعواك.» فقال داود: «أما شهادته فأنا واثق بأني إن خاطبته في شأنها فلن يقبل أداءها، وربما ادعى أنه لم يرني قط ولا عرف شيئًا عني، وعلى هذا أرى الأولى بي أن أترك عوضي على الله، وأكتفي بأني تخلصت من الشرَك الذي كان منصوبًا لي، وأشكر الله أني عرفت حقيقة الفتاة قبل العقد عليها، ولو كان ذلك بعد الاقتران بها لكانت المصيبة أعظم. والآن لا حاجة بي إلى أن أذكرك بقسمك، لكي تكتم حديثنا هذا عن كل إنسان كما وعدت وتعتبر أني لم أقابلك الآن ولا خاطبتك في شيء.» ثم نهض مودعًا شاكرًا لسليم حسن مشورته، وأراد أن ينقده أجر هذه المشورة فلم يقبل سليم، فخرج مكررًا الشكر، وترك سليمًا على مثل الجمر. وما كاد ينصرف حتى أغلق سليم باب الغرفة وجلس يناجي نفسه وقد أخذ منه الغيظ كلَّ مأخذ، فقال: «أهذه حقيقتك يا سلمى؟ أين عفافك وأنَفتك؟ بل أين تهذيبك وأدبك؟ أفي يقظة أنا أم في حلم؟ لا لا، لا أصدق ذلك عنك. ولكن كيف أتهم الرجل بالافتراء، وما الذي يحمله على الكذب أو الإيقاع بيننا وهو لا يعرف عني شيئًا، وإنما قاده الاتفاق إليَّ؟ وما أعجب هذا الاتفاق الذي كشف لي أمورًا كنت عنها غافلًا!» لا تغترَّ يا ولدي بمظاهر البنات فإنهن أقدر البشر على المداهنة والنفاق، وقد يظهرن العفاف وهنَّ بعيدات عنه، ويبدين الإخلاص وهن أروغ من الثعلب. وفضلًا عن ذلك فإن الفتاة التي علقتها ليست ممن يليق بك الالتفات إليهن، وقد سمعنا عنها ممن عرفوها هنا أنها قد نصبت مثل هذه الشراك لسواك وأخفقت سعيًا وخابت آمالها ويكفيني التلميح عن التصريح. فلما قرأ هذه العبارة، أخذ يلعن الساعة التي عرف فيها ذلك البيت؛ لأنه لم يعد يعرف الراحة منذ عرفه. وحدثته نفسه بأن يتخلَّى عن سلمى قبل عقد الخطبة، ولكن نار الحب ثارت في قلبه كأنها تكذِّب ما بلغه فقال: «لا لا يا سلمى، أنت والله حبيبتي ومنتهى أملي، وقد وهبتك هذا القلب وملكتك نفسي حتى استوليت على كل عواطفي، ولم ألقَ منك منذ عرفتك إلا كل جميل، فلا أنثني عن حبك ولا أظن بك سوءًا. ولكن ما هذه الحكاية التي سمعتها الآن؟ أهي محض اختلاق؟ كلا فقد علمت بها اتفاقًا، ولو كان بيني وبين راويها علاقة أو معرفة لاتهمته بالافتراء والكذب وقلت إنه واشٍ يريد فَصْمَ ما بيننا من علائق المحبة. أتحبين حبيبًا كل هذه المحبة وتقولين إنك تحبينه من أجل صداقته لي؟ تبًّا لك وله! ولكن … ولكن حبيبًا صديقي وقد عرفته منذ نعومة أظفاره ولم أرَ فيه إلا إخلاصًا وغيرة، ولكن … ولكن النفس أمارة بالسوء وعين الحب عمياء، فلا بد لي من التجلد والصبر، ثم ملاحظتكما ومراقبة خطواتكما وحركاتكما، فإذا تحقق لدي ما سمعته الآن … آه آه من الحب ما أمره وما أحلاه! لا لا، بل هو مر علقم وقد صدق من قال: «إن سوء الظن من حسن الفطن»، فلو أني لم أفتح قلبي لك وأضع ثقتي فيك ما عميت عن حقيقة حالك وحال ذلك الشاب الذي خدعني بصداقته سنين. ولكن مهلًا سوف تريان وأرى، وكل آتٍ قريب!» ثم نهض وهو في أشد الانفعال، وخرج لا يلوي على شيء. وفيما هو في الطريق نظر إلى ساعته فإذا الساعة الحادية عشرة، ففطن لميعاد المرافعة في مجلس الاستئناف. وكان عليه أن يذهب للمرافعة في دعوى وُكِل فيها عن بعض الناس، ولكنه رأى أنه لا يستطيع ذلك وهو في مثل ذلك الانفعال، فسار وهو لا يدري إلى أين يذهب، فقاده الاتفاق إلى حديقة الأزبكية فدخلها وجلس على مقعد بإزاء البركة. وكانت الحديقة في ذلك الحين هادئة لخلوها من الناس، فأخذ يجول بأفكاره فيما سمعه في صباح ذلك اليوم وهو يكاد ألا يصدق أنه سمعه في اليقظة لغرابته وبعده من اعتقاده السابق. ولبث في حيرة تتقاذفه الهواجس وتتلاعب به الظنون، وهو تارة ينقم على سلمى وسوء طويتها، وطورًا يكذب ما سمعه عنها ويجلها عن مثل تلك الدناءة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/4/
خلوة مريبة
عاد حبيب إلى حلوان وهو يفكر في الخطاب الذي تسلمه ويردد في ذاكرته سوابق زياراته بيت الخواجة سعيد وما كان يلحظه في أدما من الحركات والإشارات حتى كادت تنجلي له الحقيقة، وترجَّح لديه أنها هي التي بعثت إليه الخطاب، فاعتزم أن يستطلع ذلك ويتحققه يوم ذهابهم جميعًا للتنزه في منطقة الأهرام. وأمضى حبيب ليلته يفكر في ذلك، دون أن يزور الكرى عينيه. وكانت نفسه تحدثه بأن يتعجل استطلاع الأمر فيذهب في الغد إلى بيت الخواجة سليمان، في موعد لا يكون فيه سليم ولا أحد غير سلمى هناك — وكان لكثرة تردده إلى ذلك البيت، ولما بينه وبين الأسرة من علائق المودة الخالصة لا يستنكف أن يزوره في أية ساعة — وهناك يجاذب سلمى أطراف الحديث على انفراد، لعله يعلم منها شيئًا عن أدما يحقق ظنه. وفي صباح اليوم التالي بكَّر بالخروج إلى مقر عمله على عادته، وبقي هناك حتى الساعة الحادية عشرة، ثم توجَّه إلى منزل الخواجة سليمان، فلم يجد فيه غير سلمى ووالدتها، فرحبا به، واستغربا مجيئه في تلك الساعة، غير أن اللياقة لم تسمح لهما بإظهار ذلك الاستغراب، ثم جلسوا جميعًا في قاعة الاستقبال وسلمى وأمها بثياب المنزل، دون أن تستنكفا ذلك، لما بين حبيب والأسرة من صداقة ترفع التكليف. وشعر حبيب عقب جلوسه باستغرابهما مجيئه في تلك الساعة، فأفهمهما أنه ذهب لمقابلة الخواجة سعيد للتفاهم معه على خطة الذهاب إلى الأهرام وإعداد ما يحتاجون إليه في تلك الرحلة، فلما لم يجده في منزله، رأى أن يزورهم لذلك السبب نفسه، فاقتنعتا بذلك، وأخذ ثلاثتهم يتداولون في أمر الرحلة. وبعد قليل تركتهما والدة سلمى معتذرة بأن الطعام على النار وأنها لا تثق بالطباخ في إصلاحه، فقبل حبيب عذرها وقد سُرَّ جدًّا منه. وما كادت تنصرف حتى عاد إلى الحديث مع سلمى في شأن زيارة الأهرام، ثم تطرق من ذلك إلى حديث أدما فقال: «إني أنتظر صباح الغد بفروغ صبر حتى نذهب في موعدنا هذا؛ وذلك لأني أحب الذهاب إلى تلك الجهة لجودة هوائها وحسن موقعها، ومما يضاعف سروري أن شقيقتي شفيقة أكثر مني تشوقًا لهذه الرحلة، ولا سيما بعد أن علمت بأنكم ذاهبون معنا أيضًا، وكذلك أسرة الخواجة سعيد، وهي لم ترَ الآنسة أدما منذ وقت طويل.» فقالت سلمى: «إن الآنسة شفيقة خليقة بكل محبة وإجلال، ونحن جميعًا نحبها ونجلها لِلُطْفِها وتعقُّلها. ولكن لا شك في أن الآنسة أدما أكثرنا انعطافًا نحوها، وهي لا تفتر عن ذكرها وامتداحها.» فقال: «لقد لاحظت مثل هذا الانعطاف من شقيقتي نحو الآنسة أدما، وكثيرًا ما ذكرتها بالمدح والثناء والإعجاب بحسن خصالها.» فقالت: «الحق أن الآنسة أدما من أحسن البنات تهذبًا وأدبًا ولطفًا، كما أنها على جانب عظيم من العلم والمعرفة.» فقال حبيب وقد خفق قلبه وعلا وجهه الاحمرار: «وأين تعلمت كل هذا؟» قالت: «تعلمته في مدارس بيروت، كما تعلمت فن التصوير وأتقنت الخط.» فقال: «أتقنت الخط؟ هذا عجيب لأن الفتيات قلما يُتقنَّ الخطَّ لقلة استعمالهن الكتابة!» قالت: «الواقع أن خط الآنسة أدما جميل جدًّا، وإذا شئت فإني أطلعك على خطِّها في رسالة بعثت بها إليَّ منذ بضع سنين.» قال وقد استبشر بالفوز: «لا أريد أن أثقل عليك بتكليفك البحث عن هذه الرسالة الآن.» فنهضت قائلة: «لا ثقلة عليَّ في ذلك.» ثم مضت إلى غرفتها وجاءته بتلك الرسالة وجلست بجانبه لتريه جمال خط أدما، ثم قالت له وهي تضحك: «أخشى أن تسخر من العبارات التي تضمنها الخطاب، ولكننا كنا ما زلنا أطفالًا حينذاك.» فقال: «العفو يا آنسة.» وفيما هما في ذلك فوجئا بدخول سليم عليهما، فبغتا وبدا الخجل في وجهيهما، مع أنهما لم يكونا في حالة توجب الخجل ولكنهما لم يكونا ينتظران مجيئه في تلك الساعة. وكان سليم قد ملَّ الجلوس في الحديقة فحدثته نفسه بأن يزور خطيبته في تلك الساعة على غير المعتاد لعله يستطلع شيئًا مما سمعه عنها، ودخل البيت دون أن يقرع الجرس فاتفق وصوله إلى قاعة الجلوس في اللحظة التي كانت سلمى فيها جالسة بجانب حبيب تريه خط أدما في رسالتها إليها، فرآهما ووجهاهما متقاربان، وهما ينظران في ورقة أمامهما ويضحكان، فلما رأى بغتتهما، تحقق صحة ما سمعه عن علاقتهما من داود، ولا سيما أن زيارة حبيب للمنزل كانت في وقت غير عادي، وأن سلمى كانت بثياب البيت. ولا حاجة بنا إلى شرح عواطفه عند مشاهدته سلمى وحبيبًا في تلك الحال، فازداد وجهه انقباضًا وحدثته نفسه بأن يوبخهما ولكنه أمسك وتجلد، إما خجلًا وإما تعقلًا، لكنه لم يستطع إخفاء عواطفه. أما سلمى فإنها لبراءتها لم يخامرها شك في اعتقاد حبيبها، فلما دخل الغرفة خفَّت لاستقباله مسلِّمةً ومدَّت يدها إليه مصافحة، فلما لمست يده شعرت بارتعاشها وبأنها باردة كالثلج، ثم أخفت الرسالة خوفًا من رغبته في استطلاع سبب وجودها معها وذلك ربما يغضب حبيبًا. وأما حبيب فحيَّا صديقه ببشاشة، لكنه لم يلقَ منه إلا إعراضًا. ثم جلس الجميع وسليم مقطب الوجه ممتقع اللون، فأدركت سلمى أن إخفاء الرسالة ربما أوجب سوء ظن سليم، فأخرجتها من جيبها ووجهت كلامها إليه وقالت ضاحكة: «إني ليضحكني تذكر أيام المدرسة يوم كنا نكتب مثل هذا الخطاب الذي كنت أطلع الخواجة حبيب عليه الآن، وهو من صديقتي الآنسة أدما كتبته منذ بضع سنين يوم كانت في المدرسة في بيروت، وكنا نتحدث عن جمال خطِّها فلم يصدق أنه جميل فأخرجته لأطلعه عليه.» ثم دفعت الخطاب إلى سليم لكي يراه فمد يده وتناوله، ولم يكد ينظر إليه حتى أعاده إليها ببرود وهو يتكلف الابتسام. فخجلت سلمى لهذه المعاملة المهينة، لكنها كظمت عواطفها وسألت سليمًا عن سبب اضطرابه، فقال: «إني متكدر من بعض الأمور الشخصية المتعلقة بالعمل.» فقالت: «أرجو ألا يكون في ذلك ضرر عليك يا عزيزي.» فأجابها وهو ينظر إلى نافذة القاعة قائلًا: «لا ضرر هناك إن شاء الله.» قال ذلك وهو يتردد بين عوامل الغيرة والكظم، فَيَهمُّ بأن يظهر غضبه ثم يمسكه التعقل خشية سوء العاقبة. فقال له حبيب وقد جاء بكرسيه إلى جانبه: «لا أراك الله مكروهًا يا عزيزي، ما لك منقبض النفس؟ ألا فرجت عنك وتركت المقادير تجري في أَعنَّتها؟» وقد أراد بذلك أن يخفِّف عنه، ظنًّا منه أن انقباضه بسبب الخطاب الذي ورد إليه من والدته. فأراد سليم أن يجيبه منتهرًا ويوبِّخه، ثم تذكَّر ما بينهما من الصداقة القديمة وما للفتاة في قلبه من المحبة، وما يتجلَّى في وجهها من دلائل الوقار والهيبة والتعقُّل، فغلبت عليه طيبة قلبه، وأجاب حبيبًا: «إني متكدر من أمر عرَضي يتعلق بمهنتي، وليس فيه ما يوجب الخوف أو اليأس.» غير أن لهجته رغم ما حاوله من التلطف كانت تنمُّ عما يعتمل في صدره. فرأت سلمى أن عليها أن تعزي حبيبها وتواسيه، فدنت منه وأمسكت يده بيدٍ كادت تذوب لطفًا، ونظرت إليه بعينيها الجميلتين مبتسمة وقالت: «روحي فداك يا عزيزي، لا يغضبك أمر ولا تجعل للكدر بابًا للتمكن منك فإنك تعلم أن الأعمال في هذه الدنيا تحتاج إلى التبصر والصبر، فلا تستعجل النجاح فلكل شيء وقته، ولا يخفى عليك أن الكدر يضعف الجسم.» فوقعت هذه الكلمات في أذن سليم موقعًا حسنًا، وشعر بأنها ألقت عن صدره حملًا ثقيلًا من القلق والغيرة، وكان يحتاج وهو في تلك الحال من التردد إلى مثل هذه العبارة التي ساعدته في تخفيف غيظه وحملته على الصبر والتأني في حكمه على حبيبته وصديقه. ولما أمسكت يده شعر بمجرًى كهربائي بارد تخلل أعضاءه فأخمد جانبًا كبيرًا مما كان متقدًا فيها من نيران الانتقام والغيظ، فغلبت عليه الحكمة واعتزم إخفاء ما به والتربص ريثما يتحقق الأمر مرة ثانية وثالثة؛ لأن ما علمه حتى ذلك الوقت لم يكن كافيًا لإصدار حكمه بإدانتهما، كما أن العواطف سريعة الحكم لا تصبر على العقل ريثما يتروى فتحمله على الانتقام من البريء لسرعة حكمها. فنظر إليها مُظْهرًا البشاشة وقال: «مهما أكن مثقلًا بالهموم فإني أنساها عند مشاهدتك ومشاهدة عزيزي حبيب، ولكني كما قلت له مرة إذا تكدرت من أمر يصعب عليَّ نسيانه حالًا، فأتقدم إليكما أن تسبلا ذيل المعذرة على ما ظهر لكما مني الآن، فإن ذلك عن غير قصد مني وسببه ما ذكرت.» فقال حبيب: «فليبتهج قلبك يا عزيزي ولا تحزن، إننا الآن نستعد للمسير إلى الأهرام غدًا، وقد جئت الآن لهذه الغاية لكي نتفق على ميعاد نسير فيه معًا. وتم الاتفاق على أن نبدأ الرحلة في الساعة السابعة صباحًا. وسنعد ما نحتاج إليه من العربات ومعدات الطعام وما إليها؛ خشية أن يهمل الخدم في شيء من ذلك.» ثم جاءت والدة سلمى فسلَّمت على سليم وأخذت ترحب به. وكانت قد سمعتهم يتحدثون عن رحلة الأهرام وإهمال الخدم فقالت: «قبَّح الله الخدم فإنهم لا يمكن الاتكال عليهم في أمر البيت، ولا بد لِرَبَّته من المساعدة في جميع شئونه.» فقالت سلمى: «الحق معك يا والدتي، ولكن خادمتنا سعيدة ماهرة، ولعل من الخير اصطحابها معنا في الرحلة.» فقالت: «لا بأس من أخذها معنا.» وفيما هم في الحديث جاء الخواجة سليمان، فجلسوا جميعًا يتحادثون، ثم أراد حبيب وسليم الانصراف فدعوهم إلى البقاء لتناول الغداء. ثم وضعت المائدة وتناولوا الغداء معًا وسليم لا يزال في شاغل داخلي بما تم له في ذلك اليوم، وقد عوَّل على مراقبة حركات سلمى. وبعد الغداء وشرب القهوة استأذن حبيب وسليم وخرجا، فمضى كلٌّ منهما في سبيله وهو في شاغل عظيم. وكان حبيب قد رأى بين خط الكتاب الذي تسلَّمه وخط أدما مشابهة كبيرة جدًّا بحيث كاد يجزم بأنها صاحبة الخطين، لكنه صبر إلى الغد حيث يتقابلان في الأهرام ويستطلع أمرها بنفسه. وما زال سائرًا حتى وصل إلى حلوان فأخبر والدته وشقيقته بموعد الذهاب إلى رحلة الأهرام. وأما سليم فسار إلى غرفته، ثم غادرها إلى الحديقة حيث قضى فيها بقية النهار، ثم عاد في المساء إلى غرفته فجلس مفكرًا فيما سمعه عن سلمى وأبيها من داود في الصباح، وعادت إليه هواجسه وانفعالاته، وأخذت تتقاذفه الأوهام، ثم تذكر كتاب والدته فأراد إخراجه من جيبه لكنه أمسك تجنبًا لمضاعفة هواجسه. وبقي برهة يدخن ويفكر حتى غلبه التعب فذهب إلى فراشه. وقبل أن يروح في النوم تذكر أنه لم يعرف مكان داود حتى يجتمع به مرة أخرى ويستوضحه بعض الأمور، فأسف على ذلك واعتزم أن يغتنم أول فرصة يراه فيها ويسأله عن عنوانه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/5/
في منطقة الأهرام
بكَّر الجميع في الصباح التالي إلى منزل الخواجة سليمان، ثم جاءوا بأربع عربات ركبوها إلى منطقة الأهرام وقد أعدوا كل ما يحتاجون إليه في نزهتهم. وسارت بهم العربات حتى وصلوا إلى الجزيرة وكلهم فرحون بذلك الاجتماع ولا سيما حبيب؛ لأنه كان ينتظر ذلك اليوم بفروغ صبر. أما سليم فكان في العربة مع سلمى ووالديها وكل منهما يسترق النظر إلى الآخر ويحاذر كشف سريرته. وكان ذلك النهار صافي الجو هادئًا، فمرت العربات في طريق الأهرام المظللة بالأشجار تتناغى فوقها الأطيار، وعلى كلٍّ من جانبي الطريق بساتين يانعة تكسوها الأعشاب الخضراء، وتسرح فيها الماشية من البقر والجاموس يسوقها رعاة من الأحداث تكسو أجسادهم خِرق بالية ولكنهم فرحون بما رزقهم الله من العيش السهل على ضفاف النيل الخصبة المرعى الرقيقة النسيم، وليس فيهم إلا مَن أنعشته نسمات الصباح فأخذ يغني كأنه يشارك الأطيار في تغريدها. أما الماشية فكانت تسرح وتمرح في مرعاها غافلة عن شواغل بني الإنسان. كانت العربات تحمل قلوبًا تتقد حبًّا يخامره في بعضها تردد، وفي بعضها الآخر تحسر أو ارتباك، والآباء والأمهات في غفلة عما شَبَّ في أفئدة أولادهم من العواطف، والطبيعة فوق كل ذلك تضحك من ضعف بني الإنسان وتستخف بما يستعظمونه لكثرة ما مر بها من الأجيال، وما شهدت من الأهوال حتى تساوى لديها الكبير والصغير والحب والبغض. وما كادت العربات تدخل ذلك الطريق حتى لاحت لمن فيها أهرام الجيزة الكبرى من خلال الأشجار، قائمة كأنها جبال راسيات. واشتغلت بها أفكارهم وطارت إليها قلوبهم وقد خيِّل لهم لعظمها أنها منهم على أقرب من مرمى القوس، في حين أن بينهم وبينهما مسيرة ساعة أو تزيد. وأخيرًا وقفت العربات بهم عند مرتفع تعلوه الأهرام الثلاثة كأنها جبال منتظمة الهندام، فترجلوا جميعًا ومشوا صُعدًا يطلبون الأهرام وعيونهم شاخصة إليها حتى شغلهم حينًا من الزمان لم ينطق خلاله أحدهم ببنت شفة. ولما دنوا منها أشرفوا على تمثال أبي الهول القابع على مقربة منها كأنه الحارس الأمين. وهُرع لاستقبالهم هناك كثير من التراجمة والأدلاء في ملابس أهل البادية، وجعلوا يخاطبونهم بلسان أعجمي أرادوا به أن يكون اللغة الإنجليزية ولكنه كان مزيجًا منها ومن الفرنسية. وكان هؤلاء لكثرة تردد الإفرنج إلى الأهرام يحسبون كل زائر لتلك المنطقة إفرنجيًّا، وقد رجح لديهم هذا الظن لما رأوا السيدات في الزي الإفرنجي، على أنهم ما لبثوا قليلًا حتى علموا أن هؤلاء القادمين ليسوا من الأجانب؛ إذ سمعوهم يتكلمون باللغة العربية، فتقدم شيخهم وسألهم قائلًا: «هل لكم في الصعود إلى قمة الهرم الكبير؟» وهنا أعرب سليم عن رغبته في الصعود، فأوقفه حبيب محذرًا إياه قائلًا: «إني لا آمن عليك هذا الصعود، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، وكم من أناس خسروا حياتهم لتجرئهم على صعود الهرم، فزلَّت أقدامهم خلال ذلك.» فلما سمعت سلمى ذلك اقشعر جسمها خوفًا على حبيبها ونظرت إليه وفي ملامح وجهها ما ينم عن خوفها على حياته، فتأثر بتلك النظرة تأثرًا شديدًا، ولكنه تذكر حديث داود عنها، فانقبض قلبه وظهر ذلك على وجهه فحوَّل نظره عنها مغضبًا، فدنت هي منه تاركة والديها يذهبان إلى الجانب الآخر من الهرم ليتأملا ارتفاعه ومعهما الخواجة سعيد، ثم التفتت وراءها فإذا بحبيب واقفًا إلى جانب أدما وأخته شفيقة يشرح لهما تاريخ بناء الهرم، وهما شاخصتان إليه مشغولتان بما يقول، فعلمت أن لا أحد يسمعهما إذا تكلمت فقالت لسليم: «ألا تخاف الصعود إلى قمة هذا الهرم، وهي على هذا الارتفاع الهائل؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه وتلاحظ حركاته. فقال: «لو كان ارتفاعه أضعاف ما هو عليه، ما خفت الصعود إلى قمته.» قالت: «ولكنني أنا أخاف عليك.» قال: «مم تخافين؟» قالت: «لا أريد أن تعرِّض حياتك للخطر.» فصمت ولم يُبْدِ جوابًا، وكأنه كان يريد التكلم ويمنعه التردد، فعادت هي تقول: «لعلك لا تخاف عليَّ إذا حاولت الصعود وربما تزلُّ قدمي فلا أصل الأرض إلا جثة بلا روح؟» فلما سمع ذلك منها اقشعرَّ بدنه، وهاجت عاطفة الحب في قلبه، وتذكر ما كان بينهما من الإخلاص وغلبت عليه عواطفه فقال: «نعم أخاف عليك خوفًا شديدًا، لا من الصعود إلى قمة الهرم فقط، بل أخاف عليك حتى من هذا النسيم اللطيف، ومن عيون البشر فإنها أحدُّ من السهام على قلبي!» فعجبت لعبارته الأخيرة إذ لم ترَ لها محلًّا، ولاح لها أنها تخفي وراءها شيئًا يُكنُّه في ضميره ويود إخفاءه عليها، فبهتت وأخذت تفكر في ذلك ثم قالت متجاهلة: «إذا كنت تخاف عليَّ إلى هذا الحد فكيف لا تشعر بأني أخاف عليك أيضًا؟» فازدادت في قلبه عوامل الغيرة والحنق، وضاق صدره بما يكتمه، فأخذ ينكت الأرض بعصاه متشاغلًا ويداه ترتعشان، ووجهه يزداد انقباضًا. فابتدرته قائلة: «ما لك لا تجيب عن سؤالي كأني لا أستحق جوابًا؟» قالت ذلك وهي ترنو إليه بعينيها كأنها تقول له: ما الذي تكتمه؟ ولماذا الكتمان؟ فنظر إليها شزرًا وأراد التكلم فشرق بدموعه، فحوَّل وجهه إلى السهل الرملي المحيط بالهرم إخفاءً لما به. فلحظت منه ذلك وتساقطت العبرات على خديها وقد امتقع لون وجهها، ثم مسحت دموعها بمنديلها من حيث لا يراها، ولكنه التفت إليها بغتة وقد همَّ بأن يبوح لها بما في قلبه، فلما رأى الدموع تترقرق في عينيها، أمسك. وبقي الاثنان لا يتكلمان كأنهما أصيبا بجمود وكلٌّ منهما يفكِّر في أمر يحاذر أن يطلع الآخر عليه وقد نسيا ما حولهما. وفيما هما في ذلك إذا بمنادٍ ينادي سلمى، فبغتا والتفتا إلى مصدر الصوت فإذا بأدما تنادي سلمى قائلة: «تعالي يا عزيزتي سلمى واسمعي ما يقوله حبيب أفندي!» فمسحت سلمى دموعها دون أن يشعر بها أحد، والتفتت إلى صديقتها متظاهرة بخلو الذهن وقالت: «ماذا يقول يا عزيزتي؟» وخطت نحوها وهي ما زالت تمسح عينيها بمنديلها متظاهرة بأن بعض الغبار تطاير إليهما حتى دمعتا، فانطلت حيلتها على أدما وقالت لها حين اقتربت منها: «يقول حبيب أفندي إن هذه الأهرام قد بَنَتْها الأسرة الرابعة من ملوك الفراعنة من حوالي خمسة آلاف سنة!» فقالت سلمى: «قد كنا الآن في مثل هذا الحديث وقال لي سليم: إن ١٢ ألفًا من الناس عملوا في بنائها.» ثم نادت سليمًا وقالت له: «أليس كذلك؟» وكان قد مسح عينيه وأخفى عواطفه، لكنه كان يود لو أنه بقي مع سلمى على انفراد حتى يبوح لها بما في فؤاده من الشك، فلما سمعها تناديه تقدم نحوها مضطرًا وأجاب بقوله: «لا تعجبوا لما يقال لكم عن قِدم هذه الأهرام، فإن أبا الهول الذي تشاهدون قفاه من هنا أقدم منها كثيرًا، وهو من صنع الأسرة الثالثة الفرعونية.» فتعجبت أدما من ذلك وقالت: «كنت أسمع أن في هذه الناحية مكانًا قديمًا اسمه الكنيسة فأين هو؟ إني أود أن أراه.» فقال حبيب: «هو إلى جانب أبي الهول.» قالت: «هل هو كنيسة حقيقية؟» قال: «لا، ولكنه هيكل من هياكل المصريين القدماء وإنما سمي كنيسة لأنه يشبه الكنائس من حيث كبره واتساعه.» ثم أظهرت ميلًا شديدًا لمشاهدة أبي الهول والكنيسة، فقال لها حبيب: «ألا تتمهلين ريثما نشاهد هذا الهرم أولًا ونستريح قليلًا ثم نمضي إلى الكنيسة لمشاهدتها؟» قالت: «أود مشاهدتها الآن، وأخشى أن يشتد الحر بعد قليل فلا أستطيع الذهاب إليها إلا بمشقة.» فاقترح حبيب أن يسيروا جميعًا إلى هناك، وبدا أنهم موافقون على ذلك، لكن سلمى قالت: «إني أعرف ذلك المكان وقد شاهدته مرة قبل هذه برفقة والدي.» وقد أرادت بذلك أن تعود إلى الاختلاء بسليم ليتما الحديث لأنها قلقت لما شاهدت منه. فالتفت حبيب إلى شقيقته شفيقة وقال لها: «هيا بنا يا شفيقة إلى الكنيسة مع الآنسة أدما.» وكان يود لو أن شقيقته لا ترافقهما لكي يخلو إلى أدما ويستطلع ما في قلبها، لكنه تذكر أن شقيقته ساذجة وأنه يستطيع التفاهم مع أدما بالرموز والأحاجي دون أن تفطن هي إلى ذلك، ثم مضى معهما حتى أطلوا على أبي الهول من الخلف فإذا هو تمثال هائل يشبه أسدًا رابضًا ورأسه رأس إنسان، فداروا حوله حتى وقفوا أمام وجهه، فجعلت أدما وشفيقة تنظران إليه وتتعجبان لكبره وهوله، وقالت شفيقة لحبيب: «أخبرني يا أخي عن سر هذا التمثال الكبير، ولماذا جعلوا جسمه جسم أسد ورأسه رأس إنسان؟» فقال: «جعلوه كذلك إشارة إلى اجتماع القوة والعقل؛ لأن الأسد مثال القوة، والإنسان مثال العقل.» فقالت أدما: «ولكن كيف عرف المعاصرون أن القوم جعلوه كذلك لهذه الغاية؟» فنظر إليها حبيب وقد اعتزم أن يستطلع خفايا قلبها وقال: «إنهم عرفوا ذلك بقراءة ما كتب عليه. هذا إلى أن الإنسان المتبصر لا تخفى عليه أن الطبيعة كلها رموز وأن لكل رمز معنًى. والرجل العاقل يستطيع أن يعرف الغايات بالنظر إلى المقدمات. أم أنت تتصورين أن الإنسان العاقل يخفى عليه مثل هذا؟» قال ذلك ونظر إلى وجهها فإذا هي ترنو إليه منتظرة إتمام حديثه وقد كاد الخجل يتجلى في وجهها عند سماعها قوله، لكنها تمالكت عواطفها، وواصل هو كلامه فقال: «ثم هبي أن الإنسان لم يتمكن من فك رموز الطبيعة بوساطة النظر إليها، فإن الكتابة لم تدع سرًّا مسدولًا ولا أمرًا مكتومًا.» قال هذا ونظر إليها بطرف عينه فإذا بها قد تورَّدت وجنتاها خجلًا وأطرقت متظاهرة بالتأمل فيما يقول. فنظر إليها وقال: «ما رأيك يا آنسة أدما؟ أليس صحيحًا ما أقوله؟» فأجابت وقد أبرقت عيناها قائلة: «ماذا أقول؟ ليس لي إلا أن أوافق على ما ذكرته من أمر الكتابة وما تدل عليه.» فأعجبته فطنتها وفهم من ردها أنها التي كتبت إليه ذلك الخطاب، ثم وجَّه خطابه إلى شقيقته قائلًا: «أليس كذلك يا شفيقة؟» فأجابت شفيقة ببساطة قائلة: «إن هذا التمثال مدهش حقًّا.» فأدركت أدما أنه أراد لفت نظرها إلى بساطة شقيقته، حتى لا تتهيب وجودها معهما وتمضي في الحديث معه، فنظرت إليه مبتسمة وقد أسرع خفقان قلبها كأنها تقول له: «قد فهمت مرادك.» ثم تحولوا عن التمثال وانحدروا درجات قليلة إلى الكنيسة، فإذا هي بناء خرب، لكن بقاياه تدل على عظمه، وأكثره مبني بأحجار الجرانيت الكبيرة، فلما وصلوا إلى باب الهيكل قالت له أدما: «إن هذا الهيكل متقن الصنعة من الخارج، فهل ترى هو كذلك من الداخل؟» فأدرك مرادها وأجابها وقد هاجت عواطفه قائلًا: «إن داخله أكثر إتقانًا وإشراقًا من خارجه، فإن الناظر إليه من الخارج يظنه خربًا ولكن لو دخلتِ إليه ونظرتِ إلى داخله لرأيتِ ما يسرُّك وربما تفضلين البقاء فيه.» فقالت وقلبها يزداد خفقانًا: «هل يدخله أناس كثيرون؟» قال: «أؤكد لك أنه لم يدخله أحد سواك قط ولن يدخله أبدًا.» قال ذلك مشيرًا إلى قلبه، ولكن شقيقته لم تفطن إلى ذلك وحسبته يتحدث عن الهيكل فقالت: «كيف تقول إنه لم يدخله أحد قبلها ولا بعدها؟ لعله كان مغلقًا، وسيغلق ثانية بعد أن ندخله الآن!» فاستدرك قائلًا: «أنا أقصد زيارته في هذا اليوم فقط؛ لأننا أتينا إلى هنا مبكرين فلم يأتِ أحد قبلنا لزيارته، وأكبر الظن ألا يأتي أحد بعدنا، أما والدانا فإنهم دخلوه قبلًا ولا يدخلونه اليوم وكذلك الخواجة سليم والآنسة سلمى.» فاقتنعت شفيقة وسكتت، واستأنف هو وأدما حديثهما وقد تحقق كل منهما ما عند الآخر من العواطف المتبادلة. وكانت أدما أكثر من حبيب سرورًا لأنها أحبته قبلما أحبها، وكانت تخشى أن ترى منه صدودًا أو إعراضًا. والواقع أنه كان يرتاح لمجالستها ويلتذ بحديثها لكنه لم يكن يفكر في الاقتران بها، ولا يشعر بشدة خفقان قلبها كلما جاء لزيارة أبيها، ولا بأن الحب تمكَّن من قلبها، وصار يزداد تمكُّنًا يومًا بعد يوم؛ إذ كانت لتعقلها وحسن بصرها بالعواقب تخفي ذلك جهدها، وتنتظر أن يبدأ هو بإظهار المحبة جريًا على الغالب في مثل تلك الحال، فلما طال بها الانتظار، لم تعد تستطيع صبرًا على هذا الكتمان، ولم تجد سبيلًا أفضل من كتابة ذلك الخطاب وإرساله إليه دون توقيع، حتى إذا فازت بمرادها وتحققت أمانيها لم تعد تخشى التصريح له بما في قلبها، ولكنها لم تستطع ذلك لوجود شفيقة معهما فاكتفت بالتلميح. وكذلك كان شأنه أيضًا، فإنه لما تحقق ظنه وأيقن بأنها صاحبة الخطاب وبأنها تحبه إلى هذا الحد، مال إلى مكاشفتها أيضًا، ولكنه اكتفى بأن أوضح لها بالرموز أن قلبه مكرس لأجلها وأنه لن ينظر إلى سواها، واعتبر نفسه بذلك قد ارتبط معها بعهود وثيقة، وأحس أنها أصبحت منذ تلك اللحظة خطيبة له. وحالما تصور ذلك شعر بانقباض داخلي لم يعرف له سببًا، ولكنه كان يلمح في ذلك الانقباض ظلامًا من الندم؛ إذ تذكر حال صديقه سليم وما آل إليه تعجُّله في خطبة سلمى من غضب والدته. لكنه عاد فقال لنفسه: «إن أدما تليق بي، ولا أظن أني أوفَّق إلى أحسن منها ولا سيما أن والدتي وشقيقتي يحبانها كثيرًا.» ثم خرجا من الهيكل صامتين وقلباهما يتكلمان، وشفيقة بينهما مشغولة بالنظر إلى ما حولها من الآثار العظيمة. وما لبثوا قليلًا حتى وصلوا إلى الأهرام حيث كان بقية أفراد الرحلة ينتظرون هناك. ••• سُرَّ سليم وسلمى لبقائهما معًا على انفراد، بعد ذهاب حبيب وشقيقته وأدما لمشاهدة الهيكل. وكانت سلمى أكثر سرورًا بذلك لقلقها مما لاحظته على سليم من مظاهر الانقباض، وتشوقها إلى استطلاع سبب ذلك. أما هو فكان لشدة تأثره يود نسيان ما يخالج ضميره من الشك في إخلاصها. ومع شدة رغبته في استطلاع حقيقة ما بلغه عنها كان كثير الميل لتكذيب ذلك وإجلالها عنه، مدفوعًا بما تمكَّن في فؤاده من حبها واحترامها. على أن الغيرة كانت تدفعه إلى تحقق الأمر بنفسه. فلما خلا إليها نظر إليها نظرة تشفٍّ عما يتردد في قلبه ويتجاذبه من عوامل الحب والغيرة، فأجابته بنظرة تتخللها عواطف تتقد محبة رغم ما يسودها من القلق والاضطراب. وأخيرًا قال لها: «إلى أين ذهب حبيب وزميلتاه؟» قالت: «ذهبوا إلى أبي الهول.» فقال: «وكيف استطاع الذهاب الآن؟» فلم تفهم مراده وقالت: «وماذا يمنعه من الذهاب؟» فأطرق ساكتًا مترددًا بين التصريح والكتمان، وداخلها الريب في سكوته، فعادت تسأله: «هل هناك ما كان يمنع ذهابه الآن؟» فازداد ما عنده من الحيرة والتردد، وقال: «لا أدري.» فقالت: «ومن يدري إذن؟» ونظرت إلى عينيه كأنما تبحث فيهما عما في ضميره، فلم يسعه إلا أن تنهد وقال: «أنت التي تعلمين.» فبُغتت وسكتت قليلًا تفكر فيما ينطوي تحت هذه الكلمة، ثم قالت: «ماذا تعني؟» قال: «لا أعني شيئًا تجهلينه.» فازدادت قلقًا واضطرابًا، وعلا وجهها الاحمرار ثم قالت: «أراك تخاطبني بالأحاجي والمعميات، أفصح عن مرادك.» قال: «هل يخفى عليك فهم ما أريد إلى هذا الحد يا سلمى؟» قالت: «لم أفهم شيئًا، ولا أعلم ما يمنع حبيبًا من الذهاب مع أدما وشقيقته لمشاهدة الهيكل! أم تقصد أن أدما غريبة عنه؟ ولكنه — حتى لو لم تكن شقيقته معهما — شاب مهذب عاقل كما تعلم، فليس هناك ما يوجب المظنة.» فحمي غضب سليم حين سمع امتداحها حبيبًا، واتقدت في قلبه نار الغيرة وقال: «صدقت إنه شاب مهذب وليس هناك ما يوجب أية مظنة.» فازداد تعجبها وسكتت برهة تردد عبارته في ذهنها لعلها تجد لها معنًى، فلما أعياها ذلك قالت له: «ماذا تريد يا سليم؟ إنني أستحلفك بحياة المحبة الطاهرة التي بيننا أن تفصح عن مرادك فقد نفد صبري.» فرنا إليها بعينين تتقد فيهما نيران الغيرة رغم محاولته إخفاءها وقال: «بالله عليك لا تذكري المحبة الطاهرة، فهي شيء كان فيما مضى فقط.» فازداد خفقان قلبها وامتقع لونها، ونظرت إليه وقد نفد صبرها فشرقت بدموعها حين أرادت التكلم، ولم يسعها إلا أن تسكت آخذة في البكاء. فابتدرها بالكلام وقد كادت دموعها تطفئ نار غضبه قائلًا: «كفى الآن يا سلمى، إني لا أعي ما أقول، ولا أستطيع أن أصرِّح بأكثر من ذلك، وعليك أنت أن تفهمي ما أعنيه!» فهمَّت بالتكلم، ومدَّت يدها إليه وهي ترتجف فأمسكت يده ونظرت إليه باكية، ولكنه سرعان ما جذب يده من يدها نافرًا، وابتدرها بالكلام قائلًا: «لماذا تمدين يدك إليَّ؟ ألا تخافين رفضها؟» قالت وقد علا بكاؤها: «ما هذا يا سليم؟ لماذا تخاطبني بمثل هذا الكلام؟ ما الذي جرى لك وماذا تضمر؟ إني أستحلفك بالمحبة أن تخبرني بحقيقة مرادك.» فقال وقد اشتد غضبه: «أية محبة تعنين؟ دَعي ذكر المحبة فقد كفى ما لحق بها!» فلم تتمالك عواطفها، وشعرت بتخاذل قواها، فجلست على حجر هناك، وجعلت رأسها بين يديها وأخذت في البكاء والشهيق حتى كاد يغمى عليها. فنزلت تلك العبرات على قلب سليم بردًا وسلامًا، وأخمدت ما كان متقدًا في قلبه من نيران الغيرة والحنق، وعادت إليه عواطفه نحوها ناسيًا ما سمعه عنها، وأمسك عمَّا كان يريده من توبيخها وتعنيفها، وصار ينظر إليها نظره إلى ملاك طاهر، وقد ندم على ما فرط منه من الكلام، وهمَّ بيدها فأمسكها وأنهضها، فابتلت يده بالدموع التي كانت تتساقط على خديها، ووقفت هي ساكتة تمسح عينيها بمنديلها الذي في يدها الأخرى. فقال لها: «خففي عنك يا سلمى وكُفِّي عن البكاء، فلست أطيق أن أراك باكية.» فرفعت يدها عن عينيها ونظرت إليه بطرف قد كدرته الدموع فذبل وتكسرت أهدابه. فوقعت تلك النظرة في قلبه موقع السهم وهاجت فيه عاطفة الحب حتى ترقرقت الدموع في عينيه وقال: «عفوًا يا عزيزتي، واعتبري ما حدث كأنه لم يكن، فإني ما أردت بما قلته إلا تجربة محبتك.» فتنهدت سلمى تنهدًا عميقًا وقالت وهي غير واثقة بصدق ما يقول: «أما زلت في حاجة إلى تجربة محبتي لك؟ ألم تعلم بمكنونات قلبي من قبل؟ أما والله إنك لأول وآخر من طرق قلبي وأقام به. فهل عندك شك في ذلك يا سليم؟ آه ثم آه من قلوب الرجال ما أقساها!» فلما سمع منها ذلك خفق قلبه؛ لأنه ذكَّره بحديث داود عنها، ولكن الحب كان قد تسلط على عواطفه فقال لها وقد وطَّد نفسه على حبها رغم كل شيء: «كوني كيف شئت وافعلي ما بدا لك، فإني قد ملَّكتك هذا القلب تصنعين به ما تريدين.» فلم يعجبها ما تخلل عبارته من الشك في صدق محبتها وقالت له: «ألا تزال ترميني بنبال الكلام المموَّه يا سليم؟ قلت لك صرِّح بمرادك وأطلعني على حقيقة رأيك إذا كنت مرتابًا في صدق طويتي أو داخلك شكٌّ في حبي لك.» قالت ذلك وتنهدت ثم انقطع كلامها وهي لا تقوى على الوقوف لشدة الانفعال، فحاولت الجلوس على ذلك الحجر فأمسكها بيدها وقال: «كلا يا سلمى، لست أشك في محبتك لي، ولا في محبتي لك، وإن قلبي لا يفتأ يحدثني بأنك تكنِّين لي مثل ما أكنُّه لك، فثقي بما أقول، ودعينا من هذا الحديث وهلمِّ بنا لنلحق ببقية الجماعة فإنهم ولا شك قد استبطئونا، ولنقضِ بقية اليوم في التنزه والترفيه عن النفس، تاركين شكوى الغرام إلى فرصة أخرى.» وانطلقا عائِدَيْن حتَّى أطلَّا على الفضاء الرملي المحيط بالأهرام، فإذا بحبيب قد عاد مع شقيقته وأدما، وجلس الجميع على أكمة من الحجارة كأنها أثر هرم صغير كان قائمًا هناك. ولاحظت سلمى أن الخادمة جالسة القرفصاء بجانب الأهرام حيث كانا واقفين، وهى توقد نارًا لإعداد الطعام الخفيف الذي جاءوا به معهم من القاهرة، فخشيت أن تكون الخادمة قد سمعت شيئًا من حديثها مع سليم، ولكنها استبعدت ذلك، ومضت معه مظهرة الانبساط حتى وصلا إلى مجلس الجماعة فاستقبلوهما بالترحاب. وكانت والدتها تنظر إليهما وهما قادمان وتشكر الله على تآلف قلبيهما لعلمها أن المحبة الطاهرة من ألطف العواطف وأعودها بالفائدة على الأسرة والمجتمع. وبعد قليل فرغت الخادمة من إعداد الطعام، فأكلوا جميعًا، ثم أمضوا بقية الظهيرة يخطرون بين الأهرام وأبي الهول بين تنزُّهٍ وحديث وكل منهم يغنِّي على ليلاه. وكان حبيب ينظر تارة إلى حبيبته أدما، وتارة إلى صديقه سليم وخطيبته سلمى، ويجول بأفكاره حينًا فيما وفِّق إليه من تحقيق ظنه وحينًا فيما عرفه من ارتباك صديقه سليم بسبب رسالة والدته وحنقها على الفتاة التي أحبها. وكان قد لحظ على وجهي سليم وسلمى آثار البكاء والاضطراب، لكنه تجاهل لعلمه أن تشاكي الغرام لا يخلو من مثل ذلك ولا سيما إذا خامره شيء من المصاعب والمعاكسات. أما سليم فتجاهل ما سمعه عن علاقة سلمى بداود وحبيب، ووقر في ذهنه ألا صحة لذلك، ولا سيما بعدما ظهر له من صدق محبة سلمى له وشدة انفعالها ورقة عواطفها ولطيف عتابها. وأما أدما فقد كان ذلك اليوم أسعد الأيام عندها، إذ تحققت آمالها وبلغت أمانيها، ولكنها ودت لو تتاح لها فرصة أخرى تخلو فيها إلى حبيب قلبها فتبثه لواعج حبها في صراحة حيث لا واشٍ ولا رقيب. وفي نحو الساعة الرابعة بعد الظهر، ركبوا العربات عائدين إلى القاهرة. ولما بلغوا باب اللوق عرج حبيب وشقيقته ووالدته إلى محطة حلوان، وواصلت المركبتان الأخريان سيرهما، بعد تبادل عبارات الوداع.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/6/
رسول السوء
كان داود الذي وشى بسلمى وحبيب إلى سليم رجلًا دنيء الأصل، اكتسب ثروةً كبيرة من تعويضات الإسكندرية زورًا وبهتانًا، فابتاع أرضًا وبنى منزلًا هناك، ثم جاء القاهرة وأقام بها دون عمل إلا التردد إلى أماكن اللهو. وكان إلى دناءة أصله فاسد الأخلاق شديد البخل رغم غناه، ولم يكن ليستنكف أن يبيع شرفه وذمته بدراهم معدودة. وكان مقيمًا بالقرب من بيت الخواجة سليمان، وليس في قصته التي قصَّها على سليم شيء من الصدق إلا كونه كان مقيمًا هناك، فلم يكن يزورهم إلا قليلًا، وكانوا يعاملونه معاملة الغريب كلما زارهم لاختلاف المشرب والتربية، ولم يزوروه قط. على أن نفسه الخبيثة كانت تحدثه بإمكان حصوله على سلمى بعد أن فُتن بجمالها ولطفها، ولكنه لم يجرؤ على التصريح بشيء من ذلك، ولا سيما بعد أن لاحظ إخلاص سلمى لسليم، واحتقارها له هو وعدم اكتراثها له. وكان يقيم بالقاهرة شتاءً، ثم يعود إلى الإسكندرية فيقيم بمنزله في جهة محرم بك هناك. واتفق ذات صيف وهو في الإسكندرية أن سكنت في المنزل المجاور لمنزله سيدة من أهل المدينة كانت على شاكلته من حيث دناءة الطبع وخسة النفس وسوء الخلق، فتوطدت العلاقات بينه وبينها، وكثر تردده لزيارتها، حتى تناقل أهل الحي أحاديث لا تسر عن وجود علاقة آثمة بينه وبين السيدة وردة جارته الجديدة. وكانت وردة هذه قبل انتقالها إلى هذا المنزل تسكن منزلًا في شارع المسلة قرب محطة الرمل، بجانب منزل فؤاد، شقيق سليم ولما كانت السيدة والدة فؤاد وسليم من أطيب الناس قلبًا وأخلصهم طوية، فقد خدعتها مظاهر اللطف والرقة والغنى التي كانت تبدو على جارتها وأسرتها. وكان لوردة ابنة حسنة الخلقة بارعة الجمال تدعى «إميلي» تربَّت على يدي والدتها فاكتسبت منها الدهاء وسعة الحيلة والاستهتار. وتحدَّث أهل الإسكندرية بجمالها وخفَّتها وغناها، ولكنها لم تلقَ خاطبًا حتى جاوزت الثلاثين من عمرها. فلما تعرفت والدتها إلى والدة سليم، أخذت تظهر لها كل الميل وتبالغ في التقرب إليها، وكلما اجتمعت بها أكثرت من التحدث بجمال ابنتها إميلي وحسن تربيتها وكمالها، وكانت الفتاة بدورها تظهر الوداد والاحترام للسيدة والدة سليم. واتفق في أثناء ذلك أن عاد سليم من أوروبا حيث كان قد توجه إليها لدراسة المحاماة، فأقام حينًا بمنزل أخيه، وأعجبت به الفتاة ووالدتها كثيرًا. أما هو فكان خلي الذهن من شواغل الحب لاهتمامه بأمر مستقبله واشتغاله بالمطالعة والتنقيب في الكتب. على أن ذلك لم يمنع الفتاة وأمها من الاحتيال لإيقاعه في شباكهما، واستطاعت وردة إغراء والدته بمكرها ودهائها حتى حملتها على خطبة ابنتها له دون علمه، على أن تحببها إليه وتقنعه بأن يتزوج بها بعد حين. ومضت وردة تُكثر من تقديم الهدايا لوالدة سليم، وتبالغ هي وابنتها في إظهار الود والاحترام لها، حتى بعد سفر سليم إلى القاهرة وإقامته بها، وتعدانها بالسعادة الدائمة إذا تم اقتران سليم بإميلي. أما فؤاد، شقيق سليم فكان مشغولًا بمصالحه الخاصة، ولذلك لم يكن يتدخل في شئون والدته، ولا فيما دار بينها وبين وردة وابنتها من الحديث. وكانت والدته لشدة إخلاصها لوردة لا تخفي عليها شيئًا، فلما كتب إليها سليم من القاهرة بأنه أحب سلمى، واعتزم خطبتها تكدَّرت وذهبت بالكتاب إلى وردة وأطلعتها عليه، فأخذت هذه تقذف في حق سلمى مع أنها لا تعرف عنها شيئًا وقالت لها: «إن الناس قلما يخلصون لأحد، وإن ولدك سليمًا يستحق فتاة تليق به، وسيان عندي تزوج ابنتي أم سواها، ولكني لا أرضى له مثل تلك الفتاة!» ثم أشارت عليها بأن ترد على خطابه ذاكرة له أن العادة المتبعة تقضي بألا يتزوج الشاب وفق اختياره هو وحده، وبأن عليه أن يترك أمر اختيار الزوجة لوالدته، ثم تحذره من المضي في صلته بسلمى. ولم تكن أمه تعرف الكتابة، فكلفت وردة جارها داود أن يكتب ذلك الكتاب، فكتبه كما يشاء وبعث به إلى سليم. ورد سليم على والدته بخطاب برهن فيه على صحة رأيه، وأخذ يمتدح سلمى وحسن خصالها، واستمرت المكاتبة بين سليم ووالدته حينًا، وهو لا يزداد إلا ثباتًا في الحب حتى كادت وردة أن تيأس من نيل مرامها، رغم ما دسته من الدسائس، ولفقته من الأقاصيص المختلفة. فلما أعيتها الحيل خلت إلى شيطانها داود، واتفقت معه على أن يسعى لإفساد ما بين سليم وسلمى من العلاقات، على أن يكون له نصيب من «الدوطة». فقال لها: «إني رهين إشارتك، وليس بيننا فرق فإن خدمتك واجبة عليَّ.» فقالت: «إن الأمر لا يخفى عليك، ولو لم أرَ في إميلي مَيْلًا إليه ما أهمَّني أمره، ولا اضطررت إلى أن أحبه أنا أيضًا مجاراة لها.» ولاحظت في وجه داود انقباضًا، لدى سماعه تصريحها بأنها تحب سليمًا، فتداركت الأمر، وتكلفت الضحك، ثم أمسكت يد داود وقالت له: «حذارِ أن تكون قد صدقت أني أحبه، فمهما يكن من الأمر، فإن حبي له لا يبلغ نقطة من بحر محبتي لك.» فضحك داود فرحًا، حتى غارت عيناه الصغيرتان وبرزت أسنانه السوداء، وكاد يستلقي على قفاه، ثم نظر إلى وردة وربَّت ظهرها قائلًا: «بورك فيك يا عزيزتي، أنا أعلم ذلك جيدًا، ولا شك عندي في صدق محبتك لي، وها أنا ذا إكرامًا لعينيك سأسعى جهدي في سبيل بلوغ الغاية التي تريدينها.» فقالت له وهي تنظر إليه بعينيها نظرات الدلال: «هكذا تكون الشهامة والنخوة، وهكذا يكون المحبون، فامضِ إلى القاهرة ودبِّر الأمر بحكمتك وذكائك، وإني لفي انتظار ما يكون.» فنهض داود واعدًا بالتأهب للسفر فورًا، فصافحته مودعة ووضعت في يده بضعة جنيهات قائلة: «هذه نفقات الطريق.» فقبض الجنيهات وخرج بها مسرورًا. ثم أغرت وردة والدة سليم صديقتها بكتابة خطاب إليه تخبره فيه بما يطابق الرسالة التي كلفت بها داود، فتأثرت والدته الطيبة القلب بإغرائها، وبعثت إليه بذلك الخطاب. ••• كانت لوردة خادمة قديمة عجوز اسمها سعيدة، تماثلها في المكر واللؤم والخسة، فدعتها وردة إليها بعد خروج داود من عندها، وأنقدتها جنيهين قائلة: «إن إخلاصك يستحق أكثر من هذه الهبة المتواضعة، ولكن الأيام بيننا.» فعجبت العجوز لهذه العطية على غير انتظار، وعلمت لدهائها ومكرها أن سيدتها تريد منها أمرًا، فهمَّت بيدها وقبَّلتها وقد انبسط وجهها، وأخذت تدعو لها بطول البقاء، وأن يتم الله نعمته عليها بتوفيق ابنتها إميلي إلى زوج يسعدها، فتنهدت وردة وقالت: «أنت تعلمين يا سعيدة أني ترملت منذ سنين وليس لي إلا هذه الفتاة.» قالت: «نعم يا سيدتي، وأدعو الله أن يطيل عمركما، ويعوض صبركما خيرًا.» فقالت وردة: «إني زهدت الدنيا من أجلها، فهي تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، ولا يخفى عليك ما هي عليه من الجمال واللطف والدلال، وقد خطبها كثيرون من خير شباب الإسكندرية، ولكنها لم ترضَ بأحد منهم، ولم أشأ أن أرغمها على القبول، وأخيرًا رزقها الله بخطيب نال رضاها وإعجابها، فكانت فرحتي بذلك عظيمة. ولكن أولاد الحرام أغرو الشاب بحب فتاة أخرى في القاهرة، وعبثًا حاولت والدته أن تنقذه من حب تلك الفتاة.» فقالت سعيدة مغضبة: «لعنة الله عليها وعلى من أوقعوه في شراكها، ألم تعرفي شيئًا عنها يا سيدتي؟» قالت: «إنها تقطن في شارع شبرا بالقاهرة، واسمها سلمى، واسم أبيها الخواجة سليمان. ويبدو أنها وأهلها يشددون الخناق على سليم لكيلا يتركوا له فرصة للتروي والتفكير.» فقالت سعيدة: «صدق من قال: أولاد الحرام لم يتركوا شيئًا لأولاد الحلال، ولكن صبرًا فسأعرف كيف أنقذه منهم بإذن الله، وسأسافر فورًا إلى القاهرة ولن أرجع إلى الإسكندرية إلا وهو معي.» قالت ذلك ومضت إلى غرفتها، فأخذت تعد ثيابها تأهبًا للسفر، وتبعتها سيدتها لتودعها وأخذت توصيها بكتمان الأمر عن كل إنسان. وبعد أن أعدَّت سعيدة ما تحتاج إليه من الثياب في صرة، تناولت شيئًا من الطعام ثم ودَّعت سيدتها وخرجت توًّا إلى المحطة فركبت القطار قاصدة إلى القاهرة، فوصلت إليها في المساء. وكانت تعرف طرقاتها لأنها ربيت فيها وخدمت في كثير من بيوتها، فقضت ليلتها في بيت بعض أقربائها، ثم بكَّرت في صباح اليوم التالي فارتدت ملاءتها وتبرقعت، وقصدت إلى بيت الخواجة سليمان في شارع شبرا، فاتفق وصولها إليها قبل ثلاثة أيام من رحلة الأهرام السالفة الذكر. وقرعت الباب، ففتحته لها والدة سلمى بنفسها وسألتها عما تريد، فقالت: «إني امرأة مسكينة ليس لي من يعولني وقد طرقت أبواب الخدمة في المنازل بوساطة المخدمين فكانوا كلما خدمت في بيت يأخذون نصف أجري ظلمًا وعدوانًا، وإلا عملوا على طردي من المنزل الذي أخدم فيه. وأخيرًا اعتزمت أن أبحث بنفسي عن عمل أعيش منه، وما زلت أواصل البحث عن أسرة كريمة طيبة حتى دلني بعض أولاد الحلال على هذا البيت. وإني أحمد الله على أن وفقني إلى بيتكم؛ إذ يبدو لي أنك سيدة فاضلة كريمة. فإذا رأيت أن أكون خادمة عندك، فذلك ما أتمناه، وسترين مني ما يسرك بإذن الله.» وكانت والدة سلمى قد عانت عذابًا أليمًا بسبب الخدم والمخدمين، وكثيرًا ما كانت تطلب من المخدم خادمة وتنقده أجره على ذلك مضاعفًا، ولكنه لا يلبث بضعة أيام حتى يغري الخادمة بالخروج من عندها؛ لكي يلحقها بالخدمة في بيت آخر وينال أجرًا جديدًا، وهذه حالة يشكو منها أكثر أهل القاهرة، ولا سيما السيدات لاحتياجهن إلى الخدم. وكان في بيت الخواجة سليمان خادمة من هذا القبيل لا تكاد تحسن عملًا من أعمال البيت؛ لهذا ما كادت والدة سلمى تسمع كلام سعيدة، مع ما عاينت فيها من الظواهر الحسنة حتى سُرَّت بتلك الفرصة وهرولت إلى سلمى وأخبرتها بالأمر، فوافقتها على استخدامها بدلًا من الخادمة القديمة، ولكنها قالت لها: «على أني أخشى أن تكون الخادمة الجديدة من المحتالات، وربما سرقت شيئًا من البيت!» فعادت أمها إلى سعيدة وسألتها عن اسمها، فلما نبأتها به قالت لها: «إن العادة جرت يا سعيدة بأن يأتي الخادمات بضمانة، فهل تستطيعين ذلك؟» فتنهدت وقالت: «لقد صرحت لك يا سيدتي بما عانيته من المخدمين وضمانتهم، فلست أستطيع أن آتي بضمانة، ولكنَّ عندي سوارًا وقرطًا ثمينين فاجعليهما عندك إلى أن تتحققي أمانتي.» فاقتنعت بذلك، وألحقتها بخدمة البيت بدلًا من الخادمة القديمة، فأخذت سعيدة تُظهر من المهارة في الخدمة والنظافة ولطف الحديث ما جعلها موضع إعجاب سلمى ووالدتها، وحسبتا أنهما حصلتا على سعادة لم يحصل عليها أحد سواهما. وكانت سعيدة تمتدح سلمى دائمًا، وتبالغ في التقرب إليها وإظهار التفاني في محبتها، فأحبتها سلمى وأشارت باصطحابها معهم في رحلة الأهرام. أما داود فبارح الإسكندرية بالقطار السريع، وقضى معظم الطريق في إعداد القصة التي قصها على سليم، ثم عاد إلى الإسكندرية وفي ظنه أن قصته مع الخطاب الذي كتبته وردة إلى سليم على لسان والدته فيهما ما يكفي لعدوله عن حب سلمى. وتربص الجميع هناك في انتظار رد سليم على خطاب والدته بعد مقابلة داود، فمضى أسبوع دون أن يصل إليهم أي شيء منه. على أن وردة كانت كبيرة الأمل في أن تنال بغيتها على يد سعيدة فلبثت تنتظر أخبارها على أحر من الجمر. ••• ركب حبيب القطار عائدًا إلى حلوان مع والدته وشقيقته، وقد كان في متمناه ألا يفارق أدما، على أنه أشار إليها عند الوداع بما يدل على أنه فارقها مرغمًا، وسيلتقي بها عما قريب. وكانت هي قد أحسَّت عند وقوف العربات للوداع عند محطة حلوان، بأن قلبها سينتزع منها، ولكنها تعللت بقرب اللقاء لأن حبيبًا تعود التردد على بيت أبيها من حين إلى حين. وبقي حبيب في القطار صامتًا سابحًا في تيار من الهواجس التي لم يشعر من قبل بمثلها، لكنه رغم سروره بما تحققه من حب أدما، كان يشعر بانقباض داخلي لا يعرف له سببًا. ولاحظت والدته صمته وانقباضه فقالت له: «ما لي أراك صامتًا يا حبيب بعد أن كنت مسرورًا جدًّا في الأهرام، هل أنت متكدر من شيء؟» فانتبه لنفسه بغتة وقال مبتسمًا: «لا يا والدتي ليس هناك ما يكدرني، بل أنا في غاية السرور من نزهة هذا اليوم، ولا أعلم لماذا يشعر الإنسان بعد مثل هذا السرور بالانقباض، ولعل هذا من قبيل رد الفعل، وعلى كل حال هذه ليست المرة الأولى التي شعرت فيها بمثل هذا الشعور، فإني كلما عدت من مجتمع سارٍّ أبقى مدة صامتًا أراجع في مخيلتي ما شاهدته من المناظر وما سمعته من الأحاديث.» فقالت شقيقته: «هذا صحيح، فأنا أيضًا أشارك حبيبًا في هذا الشعور، وها أنا ذا كنت صامتة مثله أفكر فيما سعدنا به اليوم في رحلتنا اللطيفة، خصوصًا لوجودي مع صديقتي أدما.» فلما سمع حبيب اسم أدما، خفق قلبه وعاد إلى هواجسه، فقالت والدته تخاطب شقيقته: «حقًّا يا شفيقة إن أدما عاقلة لطيفة قريبة من القلب كثيرًا، وقد كنت تمدحينها أمامي كثيرًا ولكنني عاينت منها فوق ما كنت أسمع.» فَسُرَّ حبيب لهذا الحديث، وأراد أن يستزيد من معرفة رأي والدته في أدما، فقال لها: «ألم تعرفيها قبل الآن يا أماه؟» فقالت: «لا يا ولدي، ولكني كنت أسمع عنها مدحًا كثيرًا من شقيقتك منذ كانتا زميلتين في المدرسة في بيروت، وقد رأيتها قبل اليوم في زيارات سريعة لأسرتها. أما اليوم فقد قضينا معظم النهار معًا فرأيت منها لطفًا كثيرًا وأدبًا جمًّا وأعجبني تهذيبها ولطف حديثها، كما سرَّني تعلقها بشفيقة وتعلق شفيقة بها.» فقال: «إن أيام المدرسة تنمو فيها المحبة وتشتد.» فقالت شفيقة: «صدقت يا أخي، ولكني أحببت أدما أكثر مما أحببت غيرها من رفيقاتي.» فقال حبيب وقد ازداد سروره لمحبة والدته وشقيقته لأدما: «إنها حقًّا غاية في اللطف والتهذيب وجديرة بكل إعجاب وتقدير.» وكانت والدته أثناء ذلك تفكر في خطبة أدما لحبيب، فأرادت أن تستطلع رأيه في ذلك ولكنها أمسكت عن ذلك لوجود ابنتها معهما على أن تنتهز فرصة أخرى لمخاطبته في هذا الشأن. وهكذا انقطع الحديث حتى وصل القطار إلى حلوان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/7/
كتاب من سلمى
بقي سليم في العربة حتى وصلت إلى بيت سلمى، فاستأذن في الانصراف، ولكن أبويها ألحا عليه في البقاء لتناول العشاء وقضاء بقية السهرة، ونظر إلى وجه سلمى فإذا هي تلتمس بقاءه أيضًا فأطاع إشارة عينيها مذعنًا، ودخل الجميع المنزل والخادمة سعيدة معهم. وبعد أن غسلوا وجوههم من آثار الغبار الذي تراكم عليها في الطريق، أخذت سعيدة معطف سليم لتنظفه من الغبار، ثم تظاهرت بأنها تبحث عن الفرشاة، ومضت بالمعطف إلى غرفة منعزلة، وهناك أخذت تفتش جيوبه، فعثرت في أحدها بورقة عرفت من لونها وهيئتها أنها هي التي كتبها داود إجابةً لطلب سيدتها وردة وبعث بها إلى سليم على لسان والدته، فأخفتها في جيبها. وجلس الجميع يتجاذبون أطراف الحديث بعد العشاء، وقد سُرَّت سلمى بعودة البِشر والملاطفة إلى وجه سليم، وكان قد وطَّن نفسَه على التظاهر بالسرور أمامها، تاركًا أمر المستقبل للأقدار. وفي آخر السهرة انصرف سليم إلى الفندق الذي يسكنه، وبقي طول الطريق مستغرقًا في التفكير، وما زال صوت سلمى يرن في أذنيه وهي تودعه وتنظر إليه في حب وحنان قائلة: «مع السلامة وإلى اللقاء قريبًا.» واشتدت به هواجسه إذ تصوَّر المصاعب التي أحدقت به ولم يدرِ كيف يتخلص منها، وأشد تلك المصاعب حديث داود عن سلمى وحبيب، ثم تذكر رسائل والدته وما كتبته إليه أخيرًا من إصرارها على تركه سلمى، وتصور مدى التضحيات التي قدمتها والدته في سبيل تربيته وتربية أخيه، فآثرت بقاءها أرملة بعد موت أبيهما؛ رغبة في راحتهما. وتذكر أنها طالما سهرت عليه وتعبت في سبيل إتمامه تعليمه، وأنها أصبحت أشد تعلقًا به بعد زواج أخيه، ولا شيء يسليها عن ترملها وأحزانها إلا اهتمامها بمستقبله، وكيف أنها كانت تعد الدقائق والساعات لكي تزوجه وتفرح به وتقيم ببيته؛ لأنها كانت تؤثره على شقيقه لذكائه ولطفه. ثم نظر إلى ما هي فيه الآن وكيف أنها وقعت في وهدة اليأس من جراء مخالفته لها حتى أنها ربما تقضي أسًى وحزنًا ويكون هو السبب في كل ذلك. فلما تصوَّر هذه النهاية تحرَّكت عواطفه واشتد الحزن حتى بكى وأخذ يناجي نفسه قائلًا: «إن هذه المتاعب مصدرها سلمى، فتركها والتخلص منها ينقذني من جميع هذه الأحزان مرة واحدة، ولكن آه كيف أتركها وكيف أتخلى عنها وقد ارتبطنا معًا برابطة المحبة، وقد وعدتها وعدًا وثيقًا بالاقتران، فماذا يكون من أمرها إذا أخلفت الوعد؟ بل كيف تفعل لو علمت أن هذا الأمر قد خطر ببالي؟! لا لا يا سليم … لا أترك سلمى ويجب ألا أتركها لئلا أكون سببًا لشقائي وشقائها! ولكنها تحب حبيبًا، آه من هذا الحبيب! ولكن كيف يمكن أن تحبه وتخون عهدي؟» ثم صمت برهة وعاد فقال: «أما إذا تحققت أنها تحبه فلا يتعب ضميري بتركها، لكن من يخبرني أنها تحبه أو لا تحبه … ولكنني سمعت ذلك بأذني من رجل غريب لا أعرفه ولا يعرفني، وقد رأيتها بعيني جالسة إلى جانبه يضحكان وعلى وجهيهما آثار المحبة ولما رأياني داخلًا بُغِتا وخَجِلا. أليس ذلك كافيًا لإثبات ما سمعته عنها؟ إذن هي خائنة … وإذا تركتها من يلومني؟ سلمى خائنة؟! لا لا … سلمى لا تخون وكيف يمكن أن يكون ذلك الملاك خائنًا؟ إنها ملاك طاهر نقي وقد عرفت ذلك باختبارها، إنها أطهر البشر، نعم إنها أطهر بنات جنسها ولا يمكن أن تعرف الخيانة والغدر.» وفيما هو في هذه الهواجس وصل إلى باب المنزل وصعد إلى غرفته فدخلها وأضاء الشمعة وأشعل سيجارة وقد ذهب الرقاد من جفنه وضاق صدره، فأراد الجلوس ولكنه أحس كأن تلك الغرفة سجن مظلم، فانقبضت نفسه ولم يستطع الجلوس، فأخذ يذرع أرض الغرفة وهو سابح في هواجسه يردد تلك القصة في ذهنه، تارة يغضب وطورًا يغار وتارة يحزن. فأخذت تتجاذبه جواذب الحب والغيرة والحزن والغيظ والحنق واليأس والحنو حتى ضاق ذرعًا باحتمال ذلك، ولم يعد يستطيع البقاء في الغرفة فخرج منها، ونزل إلى الشارع للترويح عن نفسه فنادى مركبة ركب فيها وهو لا يدري إلى أين يريد الذهاب، فسارت العربة في شارع الفجالة وبعد أن مشت برهة سأله السائق عن الجهة التي يريدها فقال: «سر إلى العباسية.» فَجَرَتِ المركبة وهو غافل عن كل شيء حوله، ولم يجذبه منظر الشارع المضيء بالغاز والأشجار تظلله وتحجب عنه ضوء القمر إذ كانت الليلة مقمرة؛ لأنه كان مشتغلًا بسلمى وحبيب ووالدته عن كل شيء حوله. ولم ينتبه حتى وقفت المركبة إلى جانب المرصد، فتحول سليم منها إلى ذلك الفضاء الرملي الشاسع الأطراف يتخلله بناء المرصد من جهة وقشلاقات العباسية من جهة أخرى والسكون مستولٍ على الفضاء، وضوء القمر يغمره والسماء نقية وليس فيها أثر للغيوم. فمشى بين أشجار السنط المتفرقة على جوانب المرصد، محاولًا التشاغل بالنظر إليها وإلى ما حوله من الفضاء الواسع، والسائق ينظر إليه ويعجب من انفراده هناك في منتصف الليل. وأخيرًا، جلس سليم على حجر وجده خلف شجرة هناك بحيث لا يراه السائق، وأخذ يتأمل حاله، ويفكر فيما أحدق به من الشواغل والعواطف المتضاربة، وتصور سلمى في تلك الساعة راقدة في فراشها وقد استغرقت في النوم فلا تدري شيئًا عن اضطرابه وتردده، ثم تصور والدته وقد جلست حزينة، كئيبة باكية، فارتعدت فرائصه وتساقطت عبراته وأخذ في البكاء محاذرًا أن يسمعه أحد، وكان لشدة اضطرابه يخيل إليه أن تلك الأشجار أشباح رقباء يرونه ويسمعون شهيقه. وما زال بين بكاء وخوف حتى أنهكه التعب فخارت قواه وذبلت أجفانه، فأسند رأسه إلى تلك الشجرة، وما لبث قليلًا حتى أخذه النوم وهو على تلك الحال. ورأى في منامه كأن سلمى قادمة إليه، ووجهها يفيض نورًا، وعليها رداء أبيض ناصع تجرره وراءها، وهي باسمة الثغر، وعيناها السوداوان تنظران إليه في توسل وعتاب. ولما دنت منه جثت أمامه وقالت له والعبرات ملء عينيها: «سامحك الله يا سليم على إساءتك الظن بي، وإني والله لبريئة من تلك التهم، وما كان لي أن أدنس شرفي أو أخون عهدك بعد أن وقفت قلبي وعواطفي على حبك، فهلا أشفقت على هذا القلب الكسير الذي لم يعرف الحب لأحد سواك؟» فاستيقظ بغتةً وقد ارتعدت فرائصه وصاح قائلًا: «سلمى حبيبتي سلمى، روحي وقلبي، لا عاش من ظن بك سوءًا.» ثم التفت حوله فإذا هو في قفر لا شيء أمامه إلا الأشجار الشائكة والخلاء الواسع، فندم على يقظته وود لو يعود النعاس إلى جفنيه فيرى حبيبته في ذلك الثوب الملائكي ويتمتَّع بطلعتها الباهرة، ولكنه لم يستطع فعاد إلى البكاء وأخذ يناجي نفسه قائلًا: «إن خيالك يا حبيبتي أصدق شاهد على إخلاصك، وبياض ردائك دليل على نقاوة ذلك القلب الذي ما عرفت فيه إلا الطهارة والنقاء. قبح الله ذلك الواشي قبيح الوجه، إن وجهه لدليل على ما في قلبه من السوء، وما أنت إلا طاهرة لا عيب فيك. آه لو كنت تعودين إليَّ فأتزود منك نظرة ثانية! إني ثابت في حبك ثبات الجبال الراسيات.» ومرَّت بذهنه صورة والدته ورسائلها، لكن حبه لسلمى طغى على ما عداه. ثم نهض ومضى إلى حيث كانت العربة في انتظاره، وقد أخذ منه برد الليل كلَّ مأخذ، فأحس بالتعب وخشي أن يكون قد أصيب بمرض، ولكنه عاد فودَّ لو يكون مرضه حقًّا فيشغله عن تلك الهواجس. ومضت به المركبة عائدة إلى القاهرة وهو يفكِّر في ذلك، فتصوَّر أنه أصيب بمرض عضال، وأنه اشتد عليه حتى قارب الوفاة، فأجفل وقال يحدث نفسه: «لا، لا أريد الموت الآن حتى لا أكون سببًا لشقاء سلمى.» ثم رجع إلى صوابه فرأى أنه أصبح عبدًا لعواطفه ولم يترك لعقله فرصة للعمل، فقال مناجيًا نفسه: «ما هذا يا سليم؟ خذ الأمر بالصبر، وتدبر الأمور بالحكمة! نعم يجب أن أصبر: ولاح له أن يكاشف أحد أصدقائه بأمره، ولكنه حار ولم يدرِ أيهم يكاشف؟ وتذكر أن مصدر شقائه كان هو حبيب أعز أصدقائه فتأوه وعادت الدموع تنهمر من عينيه، لكنه تجلَّد وقال: «من أدراني أنه كما بلغني عنه ذلك الشيطان؟ أعوذ بالله من شر كل شيطان!» وما زالت المركبة ماضية به حتى بلغت الفندق فنزل منها، ودفع للسائق أجرته، ثم صعد إلى غرفته ودخلها وقد أخذ التعب والبرد منه مأخذًا عظيمًا فبدل ثيابه ونام. ••• استيقظ سليم في صباح اليوم التالي على قرع باب غرفته، فنهض وفتح الباب فإذا بخادم الفندق يحمل إليه كتابًا ليس عليه خاتم البريد قائلًا: «جاءت بهذا الخطاب لك منذ ساعة امرأة عجوز، وقد انصرفت بعد أن أوصتني بأن أسلمه إليك حين تستيقظ.» أكتب إليك هذا الخطاب، ولعله آخر ما أكتب إليك، وهذه هي يدي ترتجف، وهذا قلبي يخفق، بينما دموعي تتساقط على الورق، وأنا في حال لم أشعر من قبل بمثلها، ولكنني أستحلفك بما أكنُّه لك من محبة طاهرة خالصة من كل دنس أن تحفظ ما تقرؤه سرًّا لا يطلع عليه سواك، وأن تعيره أذنًا صاغية وتعتبره صادرًا عن قلب يتقد حبًّا وإخلاصًا، قلب لم يكن يعرف الخفقان قبل أن عرفك، ولا عرف القلق أو السهاد إلا منذ حللت فيه. إنني أكتب إليك الآن وقد انتصف الليل وهجع الناس مطمئنين، وأنا وحدي الساهرة المعذبة أسيرة القلق والاضطراب. وإني لأشكر الله على أن وقفت أخيرًا على سبب متاعبك، بعد أن أخفيته عليَّ كرمًا منك ورحمة بي. نعم أشكر الله على أني عرفت الداء وصرت قادرة على وصف الدواء، وكما أنك تحملت العناء في سبيلي، يجب أن أتحمل في سبيلك مثل هذا العناء. لقد وقع في يدي اتفاقًا خطاب والدتك إليك في شأني، وقد فهمت منه أنك تقاسي أمورًا مضنية من أجل حبي، وتكافح مكافحة الأبطال لكي تفي بعهدك لي، فأكرم بك من محب صادق وصديق مخلص! أما التهم الموجهة إليَّ في هذا الكتاب، فلا أريد أن أبيِّن بطلانها الظاهر، ولكن أكتفي بأن أقول: «إن والدتك طيبة القلب وقد عانت كثيرًا في سبيل تربيتك وزهدت مباهج الدنيا من أجلك، ووضعت كل آمالها فيك، فأقل ما تنتظره منك أن تكون تعزيتها في شيخوختها.» ولا شك في أنك إن أصررت على عزمك وخالفتها، ستكون سببًا لشقائها. ولما كنت أعلم أن العهود التي بيننا هي مصدر متاعبك، لاعتبارك إياها عهودًا مقدسة لا يسمح لك شرفك بنكثها، وأكرم به من شرف أثيل! فقد لاح لي أن أكتب إليك مذكرة إياك بأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأقول لك وكلي أسف إني قد رأيت من الواجب عليَّ أن أجعلك في حِلٍّ من تلك العهود، لتكون حرًّا تختار لنفسك الزوجة التي ترضيك وترضى عنها والدتك. فنحن منذ الآن، كما كنا قبل عشر سنين، لا عهود بيننا ولا روابط. آه يا سليم! إني أكتب هذا وقلبي يقطر دمًا، ويداي ترتجفان، وعيناي لا تريان ما أكتب لما حال بينهما وبين هذا القرطاس من الدموع، ولكن عزائي الوحيد أني أضحي في سبيل راحتك وسعادتك. فإذا قرأت هذا فبادر بالكتابة إلى والدتك جابرًا كسر قلبها، وإنها لأحق مني بالرثاء. وقد يهون عليك أن تعود بتصوراتك إلى ما كنت عليه منذ عشر سنين يوم لم يكن لسلمى صورة في ذهنك. أما والدتك فلن تستطيع نسيانها ولا يليق ذلك بك، وهي التي حملتك وأرضعتك ووقفت حياتها على تربيتك. وثق بأني لذلك أحبها وأؤثر راحتها على راحتي. ولا بد لي قبل الختام من أن أودعك الوداع الأخير فربما لا أراك بعد الآن، وإن كانت صورتك لن تبرح هذا القلب الذي ملَّكتك وحدك إياه. وحسبي أن تذكرني في ساعات صفوك سواء أكنت بين الأحياء أم بين الأموات، فإني على الحالين لن أنسى هواك، وسأبقى إلى الأبد أحب محبيك وأبغض مبغضيك، وأرجو أن تصفح عن جرأتي هذه، ودم سعيدًا سالمًا للمخلصة الوفية … وما انتهى سليم من قراءة الخطاب حتى كان قد بلله بالدموع واشتد به الوجد والحزن فاستلقى على السرير وأطلق لنفسه عِنان البكاء. وكان وهو يقرأ الخطاب قد لاح له أن يتفقد خطاب والدته الذي أشارت إليه سلمى، ولكن الحزن والهيام أنسياه ذلك، فبقي ممعنًا في النحيب حتى جفَّت دموعه وجفَّ ريقه في حلقه وكاد يختنق، ثم أحس بقشعريرة فالتحف بالغطاء وكان لا يزال متعبًا لطول سهره بالأمس وشدة الهيام وكثرة البكاء، فأخذته سِنة من النوم. ••• فلنترك سليمًا نائمًا، لعله يستريح من تلك الجواذب والدوافع، ولنرجع إلى حبيب وما تمَّ له بعد وصوله مع والدته وشقيقته إلى البيت. فإن والدته كانت أثناء سير القطار، وحديث شفيقة يدور مع أخيها حول أدما، تتردد في ذهنها خواطر من هذا القبيل، على أنها سُرَّت لما رأت في حبيب ميلًا إلى أدما. ولما وصلوا إلى البيت وغيَّروا ثيابهم، واغتسلوا من الغبار، كان الخادم قد أعد لهم طعام العشاء، فتناولوه وسارت شفيقة إلى فراشها عاجلًا كجاري عادتها لأنها كانت خالية البال ساكنة العواطف، لا هَمَّ لها سوى مساعدة والدتها في تدبير أمر البيت والترتيب واللبس والطعام، وإذا انتهت من ذلك لا يبقى أمامها سوى النوم. فلما توجهت تلك الليلة إلى فراشها خلت والدة حبيب به، وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وكل منهما يفكر في أدما بغير علم الآخر. فقالت الوالدة، وقد رأت حبيبًا صامتًا كأنه يفكر في أمر: «ما لي أراك منشغل البال يا حبيب؟ ألعلك تشكو من شيء؟» فانتبه حبيب، وانتصب جالسًا، وقال: «لا يا أماه، لست أشكو شيئًا وإني بفضل دعائك ورضائك عليَّ بكل خير وعافية.» قالت: «سلمت يا ولدي وعسى أن يبقيك الله لي سالمًا، وشقيقتك لكي أفرح بك وأزوجك!» قالت ذلك ونظرت إليه كأنها تنتظر ما يبدو منه، وكانت كلما خاطبته في أمر الزواج قبل ذلك اليوم ينكر عليها أمره، ويأخذ في إقناعها بأن الزواج متعب، وأن البقاء بدون زواج أفضل وأكمل وأسعد، وكانت تستاء من ذلك وتتوسل إليه ألَّا يقول ذلك؛ لأن الزواج أمر لابد منه، إن عاجلًا أو آجلًا، وهو يقول أن لا مأرب له فيه، وأنه سعيد بمعيشته مع والدته وشقيقته. أما تلك الليلة فإنه لم يجبها، بل بقي صامتًا. وتذكر الفرق بين حاله في الأمس واليوم، فقد كان خاليًا لا همَّ له سوى إتمام عمله ومرضاة والدته، والاشتغال بالمطالعة والكتابة ساعات الفراغ، والقلب خالٍ والعواطف هادئة والحياة هنية سهلة لا يكدرها اضطراب ولا يشوبها قلق ولا تعترضها غيرة أو شوق، والعقل حر يجول في الموضوعات العلمية والفكاهية والأبحاث الممتعة، فأصبح اليوم منشغلًا تتنازع في نفسه العواطف بين الحب، والشوق، والاهتمام. فلما خاطبته والدته ولم يجبها، ظنته في شاغل مزعج يريد إخفاءه عنها، فعاودته السؤال قائلة: «كيف تقول إنك غير منزعج وأراك صامتًا لا تتكلم؟!» فارتبك في أمره لا يدري بماذا يجيب، وقد صعب عليه التصريح بما يخالج نفسه من ناحية الفتاة، وهو يتردد بين الحياء والارتباك، فغلب عليه الحياء فقال: «قلت إني بخير ولا شاغل لي، ولكنني أفكر فيما رأيناه اليوم في الأهرام من المناظر البديعة، وما تمتعنا به من الهواء النقي.» قالت: «أظنك تفكر في شيء آخر؛ لأن وجهك منقبض، وفي نفسك شيء تريد إخفاءه عني، فإذا كنت تواجه شيئًا يزعجك، لماذا لا تصرح به لي، وإذا كنت تخفي ذلك عني فلمن تبوح به؟» فحاول الدفاع عن نفسه عبثًا حتى رأى والدته قد علا وجهها الانقباض والحزن، وكادت تبكي، فقال وهو بين الإحجام والإقدام: «إذا كان في نفسي شيء فأنت أحق الناس بمعرفته.» قالت: «قل إذن يا حبيبي!» وهمَّت إليه وضمَّته إلى صدرها وقبَّلته، وقد كادت تتساقط العبرات من عينيها. فقال: «لا حاجة بك إلى الخوف يا أماه فإن الذي في نفسي لا يحزنك بل هو سبب كبير لفرحك.» فأشرق وجهها وأبرقت أَسِرَّتها وازداد قلقها لاستطلاع أفكاره، وقالت بلهفة: «قل بالله! قل يا حبيبي لتسري عني وتخفف آلامي.» قال: «أنت تعلمين أن أول شيء أسعى إليه في هذه الدنيا هو فرحك.» قالت: «قل إذن قل! أستحلفك بربك أن تصرح بما في نفسك.» فقال وقد علا وجهه الاحمرار: «إن في قلبي مثل ما في قلبك، والذي أريده هو الذي تأمرينني بإجرائه.» قالت: «وما هو ذلك؟ ألعلك اعتزمت أن تتزوج كي تحقق لي أمنيتي!» قال: «وأكثر من ذلك أيضًا.» قالت: «ألعلك أحببت أدما التي أحببناها نحن!» فأبرقت عيناه وخفق قلبه عند ذكرها وقال: «نعم يا أماه إني أحبها، ولا سيما حين تحققت أنكما تحبانها.» فابتهجت وغلب عليها السرور حتى دمعت عيناها، وهمَّت إلى ولدها تُقَبِّله وقالت: «هذا هو مبعث سعادتي يا ولدي، وهذه هي الساعة التي قضيت عمري في انتظارها، فأشكر الله على ما وفقنا له ودبره بحكمته الأزلية.» فقال حبيب: «ولكن هل المسألة موقوفة على رضانا نحن وحدنا؟ من يدري، لعل الفتاة لا توافقنا على ذلك!» قالت: «إنني واثقة من رضائها، لأنها على ما يظهر لي تحب مبادئك وتميل إلى من كان مثلك، ولا أظنها تطمع في أحسن منك، وهي ليست من الثروة على أكثر مما أنت فيه.» فعاد حبيب إلى تعقله وفكَّر في أمر مستقبله، وتذكَّر أنه كان منذ حين يخشى استغناء الحكومة عن خدمته، فقال لوالدته: «هَبي أنها وافقت، أفلا ترين أن زواجها بموظف مثلي معرض للفصل كل يوم، مما يعرضها للخطر؟» قالت: «إن الله هو الرزاق يا ولدي، وهو يرزق الموظفين وغيرهم. ثم إنك الآن لست في حاجة إلى أكثر من إعلان الخطبة، وإلى أن يحين موعد الاقتران يفعل الله ما يشاء.» فلم يقتنع حبيب بكلام والدته، ولكن حبه لأدما جعله يوافق دون اقتناع. فقال: «صدقت يا أماه! وما دام الأمر كذلك، فإن إتمامه سهل بإذن الله. ولكن أمهليني قليلًا قبل أن تعلن الخطبة لكي أعد لها عدتها.» فقالت: «افعل ما بدا لك، ولنحفظ هذا الأمر مكتومًا حتى يتم بإذن الله.» ثم ذهب كل منهما إلى فراشه، وبقي حبيب حتى اقترب الفجر مسهدًا يفكر في أدما وخطبته لها، وفيما دار بينه وبين والدته في شأنها. وكان على شدة تعلقه بها يشعر بإحجام داخلي وتخوُّف من الإقدام على خطبتها، فأخذ يبحث عن وسيلة لعلاج ذلك الأمر، ولما أعياه البحث دون نتيجة، قرر أن يكاشف بأمره صديقه سليمًا، لعله يشير عليه بالعلاج المفيد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/8/
كشف السر
نهض حبيب من فراشه في صباح اليوم التالي وهو ما زال قلقًا حائرًا، ثم استقلَّ القطار إلى القاهرة، حيث توجَّه إلى مقر منصبه، وبقي يعمل حتى الساعة الثانية عشرة، وانتحل عذرًا أبداه لرئيسه، فسمح له بالخروج من الديوان قبل الميعاد المحدد. ومضى لفوره إلى مكتب سليم، فعلم أنه لم يحضر إليه في ذلك اليوم، فقلق عليه وانطلق إلى الفندق الذي يسكنه، فوجد باب غرفته مفتوحًا، وما كاد يدخل حتى وجده ممددًا في سريره وقد استغرق في النوم، فعجب لرقاده حتى تلك الساعة، ولاحت منه التفاتة فإذا بورقة ملقاة على السرير بجانب سليم، ولاحظ أن خطها يشبه خط سلمى وكان يعرفه، فازداد تعجبه وأراد إيقاظ سليم، لكنه آثر التريث حتى يرى ما في تلك الورقة، فتناولها ويده ترتجف لعلمه بما في الاطلاع عليها من منافاة للآداب العامة، لكنه برر فعلته هذه بأنه على علم بأمر سليم مع والدته بسبب سلمى، وبأن اطلاعه على تلك الورقة بغير علمه قد يعاونه على أن ينفعه بشيء. ولكنه خشي أن يستيقظ سليم فجأة فيراه وهو يقرأ الورقة، فأعادها إلى حيث كانت بجانبه على السرير، مكتفيًا بالنظر إليها وهو واقف بإزائه فوقعت عينه على الفقرة التي ذكرت فيها سلمى أنها تحلُّ سليمًا مما بينهما من العهود، وأنها تفعل ذلك مضحية بقلبها وسعادتها في سبيل إنقاذه من تردده وحيرته بينها وبين والدته. ولم يستطع لاضطرابه أن يقرأ بقية ما في الورقة، ولكنه فهم مضمونها، وأعجب كل الإعجاب بإخلاص تلك الفتاة وتضحيتها. ثم لاح له أن سليمًا قد نام والرسالة في يده وباب الغرفة مفتوح عن غير قصد منه، وهو لذلك قد يغضب ويخجل إذا استيقظ ورآه بجانبه، فتقهقر خارجًا من الغرفة وهو يحاذر أن يحدث صوتًا يوقظه، وكان خدم الفندق مشغولين بمهامهم فلم ينتبهوا لدخوله وخروجه، ولكنه خشي أن يدخل أحد غيره غرفة سليم ويرى مثل ما رأى، فأغلق الباب وراءه وانسلَّ راجعًا من حيث أتى وهو يفكر في أمر صديقه ومتاعبه، وقد نسي ما جاء من أجله. ولم يشأ أن يرجع إلى حلوان قبل أن يراه ثانية ويفهم منه شيئًا عن حاله، فتوجَّه إلى مقهًى قريب وجلس فيه ساعة وهو على مثل الجمر، ثم عاد إلى غرفة صديقه وطرق الباب، فسمع سليمًا يقول بصوت ضعيف: «ادخل» ففتح الباب ودخل فإذا بسليم ما يزال في سريره وقد كلَّل العرق وجهه وتوردت وجنتاه كأنه محموم. وما كاد سليم يشاهده حتى هاجت عواطفه وأشجانه، فدمعت عيناه وهو يرد تحيته في صوت ضعيف مضطرب حزين ويشير إليه بأن يجلس بجانبه، فانفطر قلب حبيب لهذا المنظر المؤثر، وترقرقت الدموع في عينيه، ثم انحنى على صديقه في سريره وأمسك يده يجسها فإذا هي تتقد سخونة، فعلم أنه مصاب بالحمى، لكنه تجاهل وقال له: «ما لي أراك في الفراش يا عزيزي حتى هذه الساعة؟ هل تشكو من شيء؟» فقال: «لا شيء يا عزيزي إلا أني أشعر بانحطاط قواي وارتفاع حرارة جسمي، ولعلي مصاب بالحمى.» قال: «لا بأس عليك، وهل شعرت بذلك اليوم فقط؟» فقال: «نعم، ولكني شعرت أمس ببعض التعب وأرقت قليلًا، فأصبحت اليوم كما ترى ولم أستطع الخروج، ثم اشتد بي التعب وشعرت بالحمى فأخذتني سِنة من الكرى ولم أفق إلا منذ قليل.» وتذكر سليم كتاب سلمى ومجيء حبيب إليه في تلك الساعة على غير المعتاد. ولاح له أن العبارات التي قرأها في كتاب سلمى، رغم ما تتجلى فيها من الشهامة وعزة النفس، لا تخلوا من الاحتيال، ولعل سلمى هي التي أرسلت إليه حبيبًا ليستطلع فكره وأثر ذلك الكتاب في نفسه. على أنه ما لبث قليلًا حتى طرد هذه الخواطر من مخيلته، مستبعدًا تواطؤ سلمى وحبيب ضده، ثم حاول إخفاء ما يعتلج في صدره من الغيرة والشك، وبقي صامتًا متعللًا بانحراف صحته. أما حبيب فراح ينظر إليه نظرة المحب الصادق المخلص الذي يفتدي أصدقاءه بنفسه، وحدثته نفسه مرارًا بأن يستطلعه حقيقة حاله، لكنه خشي أن يذكره بأمر يود نسيانه لما هو فيه من المرض. فلبثا حينًا صامتين وكل منهما مشغول بهواجسه، ثم قال حبيب: «كيف حالك يا عزيزي، لعلك أحسن الآن؟» فقال سليم بصوت مختنق: «أحس صداعًا شديدًا في رأسي وكأن نارًا تتقد في جسمي.» فقال: «هل أدعو لك الطبيب؟» قال: «لا أرى حاجة إلى الطبيب الآن، ولكن ربما أحتاج إليه بعدئذٍ.» قال: «هل أدعو الخادم ليأتيك بشيء من المرق أو شراب الليمون، كي تبل معدتك؟» قال: «لا بأس من ذلك.» فدعا حبيب الخادم وأمره بإحضار قدح من شراب الليمون، فلما جاء به تناوله سليم بعد أن أنهضه حبيب وأسنده جالسًا في السرير، وشرب جانبًا منه، ثم وضعه على المنضدة المجاورة للسرير وعاد إلى التوسد والعرق قد بلل ثيابه. وهنا أشار عليه حبيب بأن يغير ملابسه المبتلة، فقبل، وشعر على أثر ذلك ببعض الراحة، فمضى يجاذب حبيبًا أطراف الأحاديث، ويجاهد لإبعاد الهواجس التي عاودته، في شأن علاقة حبيب بسلمى. وكلما نظر إلى حبيب ازداد غيرة وحيرة وتفكيرًا في سبب مجيئه في تلك الساعة على غير المعتاد، وعقب وصول كتاب سلمى. وما زالت هذه الهواجس تلح عليه حتى تمكن منه الاعتقاد بتواطؤ حبيب وسلمى ضده فأراد أن يحتال لتحقق ذلك، وفاجأ حبيبًا بأن قال له: «أليس مريبًا أن تجيء إليَّ اليوم على غير المعتاد، فتجدني في هذه الحال؟ فهل ترى كان مجيئك اتفاقًا، أم أن قلبك حدثك بأني مريض؟» فقال حبيب: «الواقع أني لم يخطر ببالي أن تكون مريضًا، وقد فارقتك أمس عند عودتنا من رحلة الأهرام وأنت في عافية وسرور، وقد جئت إليك اليوم مصادفة، معتقدًا أني سأجدك معافًى مسرورًا كما تركتك.» ولم يشأ أن يذكر سبب مجيئه؛ لئلا يقوده الحديث إلى ذكر سلمى لعلاقتها بأدما فيثير بذكرها أشجان صديقه المريض. ولكن تكتمه هذا رجح ظن سليم، إذ كيف يمكن أن يكون مجيئه لزيارته في غرفته مصادفة، مع علمه بأنه لا يكون بها في مثل الوقت الذي جاء فيه؟ وعلى هذا وقر في ذهنه أن حبيبًا يحتال عليه ولم يصدقه، ولكنه تجاهل وكظم عواطفه مؤثرًا الصمت. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أحس حبيب بالجوع، فاستأذن سليمًا في الانصراف، ومضى إلى أحد المطاعم فتناول غداءه وفكره ما زال مشغولًا بأمر صديقه وخطيبته. وأخيرًا رأى أن يتوجه إلى منزل الخواجة سليمان لعله يستطيع الوقوف على بعض ما غمض عليه من أمر سلمى وسليم، وكيف وصل إليها كتاب والدته إليه. واستقبلته الأسرة مرحبة، ولكنه لم يرَ سلمى بينهم فسألهم عنها فقالت والدتها: «إنها شعرت ببعض التوعك هذا الصباح، فبقيت في الفراش.» فاكتفى بأن تمنى لها عاجل الشفاء، ولم يذكر أي شيء عن سليم لئلا يشغل بالهم عليه. وبعد أن قضى عندهم بعض الوقت ودَّعهم وانصرف إلى محطة باب اللوق حيث استقلَّ القطار إلى حلوان، عائدًا إلى منزله، فاستقبلته والدته ولاحظت على وجهه آثار الانقباض، فقلقت وخافت أن يكون لذلك سبب يتعلق بأدما، فابتدرته بالسؤال عن انقباضه، فلما أخبرها بأن صديقه سليمًا مريض، سألته في لهفة: «وماذا به يا ولدي، شفاه الله وعافاه؟» فقال: «أصابته الحمى، وقد خفَّت حدتها قليلًا والحمد لله حين فارقته منذ قليل.» قالت: «هل تركته وحده في غرفته؟» فقال: «نعم يا أماه وهذا ما يقلقني عليه؛ إذ ليس عنده من يقوم بخدمته.» قالت: «كيف تتركه وحده وهو غريب لا أهل له في القاهرة، ولو أن والدته علمت بمرضه لسارعت إليه كي تخدمه وتمرِّضه، ولكنها بعيدة عنه وا أسفاه!» قال: «لا شك أنها لو علمت بمرضه لجاءت من الإسكندرية على عَجل، ولكن لا داعي لإزعاجها بنبأ مرضه، وعلينا نحن قيامًا بواجب الصداقة أن ننظر في أمر خدمته وتمريضه حتى يتم شفاؤه بإذن الله.» قالت: «صدقت يا بني، هذا واجب علينا، وأرى إذا عاودته الحمى غدًا أن ندعوه ليقيم معنا بضعة أيام ريثما يَنْقَه منها.» قال: «غدًا أذهب إليه لتدبير الأمر والاتكال على الله.» قالت: «سأذهب معك ليطمئن قلبي عليه، فهو بمثابة ولدي. ولكن هل علمت أسرة الخواجة سليمان بمرضه؟» قال: «لا، وكنت عازمًا على إبلاغهم ذلك، لكني وجدت سلمى مريضة أيضًا فلم أخبرهم به خشية اشتداد مرضها؛ لأنها مخطوبة له كما تعلمين، وهي تحبه محبة عظيمة.» قالت: «إذن نذهب إليه نحن غدًا كما اتفقنا.» ••• كانت الخادمة العجوز سعيدة قد أدركت في الأيام القليلة التي عاشرت فيها سلمى أنها عزيزة النفس أبيتها، لا ترضى بالذل ولا تحب التزلف، وأيقنت أنها إذا اطلعت على ما كتبته والدة سليم إليه في شأنها فلا بد من أن تضحي بقلبها في سبيل الإبقاء على محبة أمه له ورضاها عنه. وكانت قد عرفت مضمون الكتاب قبل مجيئها من الإسكندرية؛ لأن سيدتها وردة هي التي كانت تتولى أمر كتابة الخطابات إلى سليم على لسان والدته، بوساطة داود. وقد اجتمعت بهذا في القاهرة فأخبرها بما فعله مع سليم، واعتقدت أن الطريق قد مهد للتفريق بينه وبين سلمى. ثم انتهزت فرصة تنظيفها معطف سليم حين وجوده في المنزل عقب رحلة الأهرام، وسرقت منه خطاب والدته لكي تطلع سلمى عليه، ثم ذهبت بالخطاب إلى غرفة سلمى وألقته خفية بجانب سريرها. فلما أوت إليه سلمى بعد العشاء، لمحت الخطاب فتناولته وقرأته، وأدركت أنه سبب كدر سليم. وقضت ليلتها مسهدة تفكر في أمره ولا تدري ماذا تفعل، ثم غلبت عليها طيبة قلبها وعِزة نفسها، فكتبت إلى سليم ذلك الخطاب الذي أحلَّته فيه من خطبتها، وبعثت به مع خادمتها سعيدة. على أنها شعرت بالندم على تسرعها بكتابة ذلك الخطاب، وحدثتها نفسها بأن تنادي سعيدة وتأخذه منها، ولكن هذه كانت قد توارت عن نظرها، فشق عليها الأمر وازداد قلقها؛ لأنها كتبت الخطاب وهي شديدة التأثر، فلما خفَّ تأثرها أخذت تلوم نفسها على كتابة تلك العبارات، وكلما تصورت أنها ضحت بسعادتها وآمالها في المستقبل بحرمانها من سليم شعرت بأبلغ الأسى والأسف، وارتعدت فرائصها وبكَّتها ضميرها، فأصبحت من جراء ذلك دائمة القلق خائرة القوى، فلازمت الفراش تسكينًا لما بها وإخفاء لعواطفها، ولكن اعتكافها أقلق والديها لأنها وحيدتهما، وكانا إلى شدة محبتهما لها معجبين بذكائها ولطفها، وما كانا ليقبلا خطبة سليم لها لولا ما لمساه من محبتها له، ومن اتصافه بالشهامة وكرم النفس والاستعداد لمستقبل عظيم. ••• بكَّر حبيب في اليوم التالي فاستقلَّ أول قطار غادر حلوان إلى القاهرة، وما وصل إليها حتى أخذ طريقه إلى غرفة سليم ليعوده ويطمئن عليه قبل الذهاب إلى الديوان. ووجده مستيقظًا في فراشه، وعلى وجهه آثار الضعف والهزال، فحيَّاه وجلس بجانبه يواسيه ويرفِّه عنه بمختلف الأحاديث إلى أن قال له: «لقد أسفت والدتي كثيرًا حين علمت بمرضك، وكانت تعتزم المجيء معي الآن لتراك وتطمئن عليك، ثم اتفقت معها على أن آتي بها بعد الظهر.» فقال سليم: «جزاها الله خيرًا، لا داعي لتعبها.» ولاحظ حبيب أن في نظرات سليم وعباراته ما ينم عن التبرم والجفاء، فعجب من ذلك ثم عزاه إلى اضطراب سليم وقلقه بسبب المرض والوحدة، وواصل ملاطفته ومواساته قائلًا: «إنك اليوم أحسن حالًا منك أمس، ولعلك سعدت بنوم عميق هنيء!» فتنهد سليم أسفًا وقال: «لم أنم إلا فترات قصيرة متقطعة، تخللتها أحلام مزعجة، وقد أرسلت الخادم منذ قليل ليأتيني بمسهِّل أتناوله اليوم، كما أوصيته بإعداد بعض المرق لأتغذى به.» فقال حبيب: «حسنًا فعلت يا عزيزي، وأرجو أن أراك بعد الظهر وقد تم لك الشفاء!» ثم أعطاه بعض الصحف ليتسلى بمطالعتها، وودعه منصرفًا إلى مقر عمله. فلما خلا سليم إلى نفسه، عادت إليه هواجسه في شأن سلمى، وودَّ لو يعلم حالها بعد أن بعثت إليه بخطابها الأخير، وكأن قلبه دلَّه على أنها مريضة مثله. ثم تذكَّر ما كان فيه من النعيم بقربها، وما آلت إليه حاله فلم يتمالك عواطفه وغلبه البكاء. وما زال يطلق لدموعه العِنان حتى عاد الخادم بالدواء المسهِّل، وقرع باب الغرفة مستأذنًا في الدخول به، فمسح سليم عينيه وأذن له في الدخول، ثم تناول منه الدواء وشربه، وأخذ يتشاغل بمطالعة الصحف التي تركها له حبيب، بينما انصرف الخادم لإعداد المرق الذي طلبه. وفي الساعة الأولى بعد الظهر، عاد إليه حبيب فوجده ممددًا في سريره، وجسَّ يده فإذا بنبضه يتسارع وحرارته عادت إلى الارتفاع، فأدرك أن الحمَّى عاودته ولا تلبث أن تشتد وطأتها كأمس، لكنه تجاهل وسأله: «كيف حالك الآن يا عزيزي؟» فقال سليم بصوت ضعيف: «كنت في الصباح أحسن حالًا مني الآن.» فأخذ يغالطه ناسبًا ذلك إلى تأثير المسهل الذي تناوله، ثم قال له: «إن هواء حلوان نقي جافٌّ منشِّط، ويا حبذا لو ذهبت معي للإقامة معنا أيامًا هناك لتبديل الهواء!» فاعتذر سليم من عدم استطاعته ذلك شاكرًا، وقال: «لا داعي إلى مغادرة الفراش والانتقال الآن.» ثم أصر على الامتناع برغم إلحاح حبيب، فرأى هذا أن لا سبيل إلى إقناعه إلا بأن يأتي إليه بوالدته لتتولى إقناعه بنفسها. فاستأذن في الانصراف، وسارع إلى منزله في حلوان مستقلًّا قطار الساعة الثانية بعد الظهر، حيث أنبأ والدته بما حدث، فوافقته على الذهاب معه لإحضار سليم، وبعد أن تناولا الغداء، غادرا المنزل إلى المحطة حيث استقلَّا القطار إلى القاهرة، فوصلا إلى غرفة سليم وقت الأصيل، وكانت الحمى قد اشتدت وطأتها عليه فأخذ يئن ويتوجع. وما رأته والدة حبيب في هذه الحالة حتى تناثرت الدموع من عينيها حنانًا وإشفاقًا، فمالت عليه وقبَّلته قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي!» ثم أخذت تواسيه وتهون الأمر عليه. ولم يتمالك سليم عواطفه إزاء حنانها وعطفها، إذ تذكر والدته فأخذت الدموع تنهلُّ من عينيه، وتمتم قائلًا: «آه يا أماه!» فازدادت والدة حبيب تأثرًا، وانحنت عليه وهي لا تستطيع إمساك دموعها، وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهه قائلة: «أنت بخير يا ولدي، فاطمئن وثق بأني لك كوالدتك، فأنت مني بمنزلة حبيب.» فاشتد هياج أشجان سليم، وأمعن في البكاء برغم محاولته التجلد، وود لو أنه لم يفارق والدته، ولم يعرف الحب الذي أقصاه عنها وحملها على اتهامه بالعقوق. بينما واصلت والدة حبيب تهدئة روعه. أما حبيب فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، لكنه حوَّل وجهه عن سرير صديقه حتى لا يلحظ بكاءه فتزداد أشجانه. وأخيرًا مالت والدة حبيب على وجه سليم وقبَّلته قائلة: «إنني أسألك بحق والدتك عليك أن تكف عن البكاء، وأن تذهب معنا إلى حلوان، فمنزلنا هو منزلك، وكلنا في خدمتك حتى يتم شفاؤك قريبًا بإذن الله.» وحاول سليم أن يرد عليها، فخنقته عبراته ولم يستطع التكلم؛ إذ تذكر أن والدته غير راضية عنه. ثم استطاع التجلد قليلًا بعد حين وقال وكأنه يحدث نفسه: «إنني أستحق هذا الذي أنا فيه، بل أستحق أكثر منه، فهكذا يكون جزاء العقوق ونكران الجميل.» فعجبت والدة حبيب، ولم تفهم مراده لخلو ذهنها مما بين سليم ووالدته. وخشي حبيب أن تلح والدته في سؤال سليم عن مراده فيصرح لها هذا بسره الذي يحرص على كتمانه. فأشار إليها بأن تكف عن الحديث مع سليم لأنه في بحران الحمى، ثم قال لها: «سأذهب الآن لأحضر طبيبًا يفحصه ويقرر ما ينبغي له من العلاج، فامكثي أنت بجانبه ريثما أعود.» ثم غادر الفندق على أثر ذلك، وتوجَّه إلى أقرب طبيب من هناك ودعاه إلى مرافقته لفحص سليم وعلاجه، وفي طريقهما إلى الفندق طلب إليه حبيب أن ينصح لسليم بتبديل الهواء في حلوان، ليقيم بمنزله هناك لأنه غريب عن القاهرة، فوعده الطبيب بذلك، وبعد أن فحص سليمًا قال له: «لا خوف عليك من هذه الحمى، ويكفي لشفائك منها أن تلتزم الراحة وتبدل الهواء بالإقامة في مكان جوُّه جاف، ومع هذا سأصف لك دواء يعاونك تناوله على سرعة الشفاء.» فسأله سليم: «هل ترى أن لا بد من تبديل الهواء والانتقال من هنا؟» فقال الطبيب: «نعم لا بد من ذلك، ويحسن أن تقصد حلوان لجودة هوائها وهدوئها، على أن يكون انتقالك إليها بعد زوال نوبة الحمى.» فسكت سليم موافقًا وهو يقول لنفسه: «لا بأس بإقامتي أيامًا بمنزل حبيب في حلوان، فلعلي أستطيع هناك الوقوف على شيء يكشف لي حقيقة علاقته بسلمى، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.» وبقي حبيب ووالدته مع سليم في غرفته حتى انقشعت عنه نوبة الحمى، ثم ساعده حبيب في ارتداء ثيابه، وبعث في طلب عربة مغلقة لنقله فيها إلى المحطة لركوب القطار منها إلى حلوان. وما زال هو ووالدته يتعاونان على خدمته والمحافظة عليه من البرد حتى وصلوا إلى المنزل، وخصصوا لإقامته أحسن غرفة فيه. وتنافس حبيب ووالدته وشقيقته في الترحيب به وتعهده بالغذاء والدواء والغطاء، حتى داعب النوم جفنيه وما لبث أن غط في نوم عميق، ولم يستيقظ إلا في الصباح، وقد شعر بأنه استرد بعض قواه وتحسنت حالته. ••• أمضى حبيب ليلته مسهدًا يفكر في أمر صديقه سليم بعد أن اطمأن عليه وتركه نائمًا، وهداه تفكيره إلى أن يسافر بنفسه إلى الإسكندرية فيقابل والدة سليم ويشرح لها أمره، فلا بد أن قلبها سيرق لفلذة كبدها حين تعلم بأنه مريض. وقد يكون غضبها وإنكارها عليه خطبة سلمى تأثرًا بوشاية بعض الحساد، فيسهل إقناعها بالعدول عن رأيها وتحقيق رغبة سليم؛ وبذلك يكون قد أدى له خدمة جليلة. ثم تذكر حبيب أن اليوم التالي يوم جمعة، فاغتبط كثيرًا لأن خلوه من العمل في هذا اليوم مما يسهل أمر سفره إلى الإسكندرية. وفي صباح اليوم التالي، خلا إلى والدته وأنباها بما اعتزمه من أمر السفر والغرض منه، وأوصاها بأن تكتم ذلك عن سليم كل الكتمان، ثم صحبها لرؤيته في غرفته فوجداه مضطجعًا في سريره وعليه دلائل البِشر والعافية؛ فاغتبطا بذلك وجلسا بالقرب منه يلاطفانه ويسليانه بمختلف الأحاديث. وبعد قليل، نهض حبيب وغادر الغرفة مشيرًا لأمه بطرف عينيه أنه مسافر في المهمة التي اتفقا عليها، فلحقت به وودَّعته داعية له بالسلامة والتوفيق. ثم عادت إلى سليم في غرفته، ولحقت بها ابنتها شفيقة، وجلستا تجاذبانه الحديث وتقدمان له ما يحتاج إليه من الطعام والشراب والدواء. ومضت ساعة وسليم يبدو باسم الثغر منشرح الصدر، ثم تجهَّم وجهه فجأة وظهرت عليه دلائل الانقباض الشديد؛ إذ تذكر خطاب والدته وحكاية داود عن سلمى وحبيب. على أنه ما لبث أن تجلد وتكلف الابتسام حتى لا ينكشف أمره أمام مضيفتيه، ثم تظاهر بالتلفت حوله وسأل: «أين حبيب؟» فانطلت عليهما حيلته، وقالت أم حبيب: «سيكون هنا بعد قليل، فقد ذهب إلى القاهرة لإنجاز بعض المهام.» فعجب سليم من ذهاب حبيب إلى القاهرة دون أن يخبره، وعاودته الهواجس فخيِّل إليه أن لذهاب حبيب إلى القاهرة علاقة بسلمى، ولا سيما أن اليوم يوم جمعة والأعمال معطلة في دور الحكومة، وكان المنتظر أن يبقى معه طول اليوم لو أنه كان مخلصًا في صداقته له وليس متواطئًا مع سلمى عليه. واشتدت به الوساوس حتى اعتقد أن حبيبًا ما دعاه إلى الإقامة بمنزله في حلوان، إلا ليبعده عن القاهرة، فيخلو جوها لسلمى وله ويتساقيان كئوس حبهما الآثم وهما آمنان مطمئنان! ولاحظت والدة حبيب أن غيابه أقلق سليمًا وأزعجه إلى حدٍّ ملحوظ، فأرادت أن تشغله عن ذلك والتفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هلا أحضرت يا شفيقة كتابًا أو رواية لطيفة مما عند حبيب لكي يتسلَّى عزيزنا سليم بالمطالعة إذا شاء؟» فنهضت شفيقة وخرجت من الغرفة ثم عادت بعد قليل وقالت وهي تشير إلى بضعة مفاتيح صغيرة في سلسلة بيدها: «الحمد لله لقد وجدت كل كتب حبيب ورواياته في خزانته الخاصة التي يحرص دائمًا على إغلاقها والاحتفاظ بمفاتيحها معه، لكنه لحسن الحظ لم يرتد معطفه، وهذه هي وجدتها فيه، فأي أنواع الكتب أو الروايات أحضرها؟» فالتفتت والدتها إلى سليم وسألته: «ألا تحب مطالعة القصص؟» فقال: «لا بأس ففي مطالعتها تسلية.» قال هذا وهو يجاهد لإخفاء ما به. فهرولت شفيقة إلى خزانة كتب حبيب، ثم عادت بعد قليل وفي يدها رواية إفرنجية وقالت: «لا بد من أن تكون هذه الرواية جميلة مشوقة، فمنذ أسبوع رأيتها في يد حبيب يطالعها في شغف عظيم، وأمضى ليلة كاملة ساهرًا في غرفته حتى أتم قراءتها.» فقالت والدتها: «وأنا أيضًا رأيته مشغولًا بقراءتها عند فجر تلك الليلة.» فتناول سليم الرواية، وأخذ يقلب صفحاتها متظاهرًا بالمطالعة. وخرجت شفيقة وأمها من الغرفة ليتركا سليمًا يطالع الرواية في هدوء، ويشرفا على شئون البيت. ••• أخذ سليم يقلب صفحات الرواية، وفكره مشغول بسفر حبيب إلى القاهرة على غير انتظار، وفيما هو في ذلك وقعت عينه على ورقة مطوية بين الصفحات، وما كاد يتأملها حتى لاحظ أنها مكتوبة بخط يشبه خط سلمى، فازداد اشتعال نار الغيرة في قلبه، وتصور حبيبًا جالسًا مع سلمى يتبادلان أحاديث الحب والهيام، فندم على مجيئه إلى منزله. ثم أخذ يقرأ ما في الورقة، وهو يختلس النظر إلى باب الغرفة محاذرًا أن يراه أحد وهو يقرؤها، فإذا بها حافلة بعبارات الحب والاشتياق والصبابة؛ فلم يبق لديه شك في خيانة سلمى وحبيب، وتحقق صحة ما سمعه عنهما من داود، فاشتد خفقان قلبه، وأخذ ينتفض في سريره كأنما عاودته الحمى. ثم لم يتمالك عواطفه فقفز من السرير ثائرًا، وأخذ يخطر في جوانب الغرفة قلقًا حائرًا مضطربًا، والورقة في يده يعاود قراءتها ويناجي نفسه قائلًا: «تبًّا لها من خائنة ماكرة محتالة! بل تبًّا لي من مغفل ساذج إذ انطلت عليَّ حيلتها فاعتقدت أنها ملاك طاهر، في حين أنها ليست سوى شيطان رجيم!» وسكت قليلًا إذ سمع وقد أقدام خارج الغرفة، فلما ابتعدت الأقدام، استأنف مناجاته لنفسه قائلًا: «أهذه هي المحبة الطاهرة التي كانت تستحلفني بها؟ أهذا جزاء إخلاصي ووفائي وعقوقي لوالدتي في سبيل حبك يا سلمى؟ لقد طالما كذَّبت ما سمعته عنك، وعاينت في ذلك ما لا طاقة به لقلبي؛ حرصًا على مودتك، وإيمانًا بطهارتك وعفتك ووفائك. ولكن آه! ها أنا ذا الآن قد تحققت صحة اتهامك، ولمست خيانتك، وإني لأشكر الظروف التي هيأت لي الوقوف على ذلك، لأنبذك نبذ النواة يا خائنة.» ثم عاد إلى تأمل الورقة، فلاحظ اختلافًا يسيرًا بين خطها وخط سلمى، لكنه هزَّ رأسه مستخفًّا بهذه الملاحظة، وعاد يقول: «إنه خطها ما في ذلك شك، ولكنها كتبت هذه الورقة منذ عهد بعيد؛ أي إن حبها الآثم لحبيب ليس جديدًا، وقد استطاعا خداعي والتمويه عليَّ كل هذا العهد الطويل. على أني لا ألومه بقدر ما ألومها على ذلك؛ لأني ملَّكتُها قلبي ووهبتها روحي وأغضبت لأجلها والدتي المسكينة … آه يا والدتي! أين أنت الآن؟ ألا رحماك بولدك المسكين، واصفحي عنه، فقد كفى ما لقيه من الحزن والمرض وخيبة الآمال؛ جزاء عقوقه لك، وركونه إلى وعود فتاة خادعة محتالة، وإلى نفاق عدو في ثياب صديق!» ولاح له أن يبادر بارتداء ثيابه ويغادر المنزل فورًا ليستقل القطار إلى القاهرة، ثم يستأنف السفر منها إلى الإسكندرية حيث يقابل والدته ويقبِّل يديها مستغفرًا نادمًا. لكنه شعر بأنه في حالة من المرض والتعب لا يقوى معها على السفر، وقد تعاوده الحمى وهو في الطريق فيحدث ما لا تحمد عقباه، فلم يتمالك نفسه واستلقى على السرير آخذًا في البكاء لفرط يأسه وغيظه وأساه. وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدة حبيب، وهي تحمل في يدها إناءً فيه شيء من مرق اللحم أعدته له، فبالغ بالتدثر بالغطاء متظاهرًا بأنه شعر بالبرد حتى لا تلاحظ عليه شيئًا ينمُّ عما هو فيه، فحسبته نائمًا ووقفت بإزاء السرير ثم أخذت تدعوه باسمه متلطفة، فمسح دموعه عن وجهه قبل أن يكشفه متظاهرًا بالاستيقاظ من النوم، والتفت إليها وهو ما زال ممدًّا في الفراش، فقالت له: «لقد حان وقت الظهر يا ولدي، ويحسن أن تتناول قليلًا من المرق.» فقال لها: «شكرًا لك يا سيدتي، لا حاجة لي بأي طعام الآن.» فقالت: «إن الطبيب أشار بأن تتناول شيئًا من المرق؛ لأنه يعاون على استرداد قواك.» فاكتفى بأن أشار إليها بيده مصرًّا على الرفض، ولكنها لم تيأس من إقناعه، ووضعت الإناء الذي تحمله على المنضدة المجاورة للسرير، ثم انحنت عليه وأخذت تربِّت على وجهه متلطفة وقالت له في حنان: «إن المرق خفيف على المعدة، وسيفيدك تناوله فائدة كبرى بإذن الله.» فتململ في مرقده ضجرًا، ولم يتمالك نفسه فقال لها: «لماذا لم يعد حبيب حتى الآن؟ أليس اليوم يوم الجمعة ولا عمل له في القاهرة؟» فقالت: «لقد أخبرني بأنه ذاهب في مهمة خاصة، ولعل بعض زملائه أخَّروه هناك كي يتغدى معهم، ولا يلبث أن يعود إلينا بعد قليل.» فحدثته نفسه بأن يرد عليها قائلًا: «بل هو الآن مع سلمى»، لكنه أمسك وسكت، فعادت هي إلى حمل إناء المرق بيدها، وقدمته له قائلة: «بالله يا ولدي إلا قبلت رجائي وتناولت هذا المرق الخفيف!» ثم مدَّت يدها الأخرى إليه بالملعقة، فلم يسعه إلا أن يمد يده لتناولها من يدها متأثرًا بعطفها وحنانها، ثم هَمَّ بالنهوض ليتناول الإناء من يدها الأخرى، وما كاد يحمله بعد أن استوى جالسًا حتى ارتجفت يده واهتز الإناء فانسكب جانب من المرق على حافة السرير، فاحمر وجهه خجلًا وأسفًا. لكن السيدة سارعت إلى تهدئة خاطره قائلة: «لا بأس يا ولدي!» ومسحت حافة السرير المبتلة بالمنشفة، وجاءته بمنشفة أخرى وضعتها على ركبتيه، وقالت: «بالهناء والشفاء يا ولدي، سآتيك بقطعة صغيرة من اللحم المشوي لتتغذى بها وفق مشورة الطبيب.» فحاول أن يعتذر من عدم استطاعته تناول أي طعام آخر، لكنها سرعان ما انطلقت إلى المطبخ ثم عادت وهي تحمل إناءً به بعض اللحم المشوي، فوضعته على المنضدة. ثم فتحت خزانة بجانب السرير وأخرجت منها ملاءة بيضاء نظيفة لتضعها على السرير بدلًا من الملاءة المبتلة بعد أن يفرغ سليم من تناول الطعام. ولم تتركه حتى شرب المرق وتناول شيئًا من اللحم، فأبدلت ملاءة السرير، وبقيت بجانبه تسليه وترفِّه عنه بالأحاديث حتى رأته يغمض جفنيه وكأن النوم يداعبه، فنهضت وتسللت خارجة من الغرفة تاركة إياه لينام. على أنه في الحقيقة لم يكن يريد النوم، بل تظاهر بذلك كي يخلو إلى نفسه، ويعاود التفكير في أمر سفره إلى والدته، وفي أمر سلمى وحبيب. وكلما مضت ساعة دون أن يرجع هذا من القاهرة، اشتدت الغيرة بسليم، وهاج حنقه عليه وعلى سلمى، حتى إن نفسه حدثته أكثر من مرة بأن ينهض ويغادر المنزل كي يستقل القطار إلى القاهرة ويفاجئهما في خلوتهما هناك، ثم ينتقم منهما شر انتقام. ولما جاء المساء دون أن يرجع حبيب، لم يعد سليم يقوى على تحمل ما يساوره من الوساوس والهموم. وكان إلى ذلك يشعر بأنه أشد تعبًا وتخاذلًا منه بالأمس، ويتوقع أن تعاوده الحمى أشد مما كانت. وعبثًا حاولت شفيقة ووالدتها أن تُرَفِّها عنه، وضاق هو بمحاولتهما فتظاهر بحاجته إلى النوم، حتى اضطرهما إلى تركه وحده.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/9/
في الإسكندرية
وصل حبيب إلى الإسكندرية بالقطار السريع الذي يصل إليها في الساعة الأولى بعد الظهر، فاستقلَّ عربة توجَّه فيها من فوره إلى منزل والدة سليم في شارع المسلة. وكان يعرفها من قبل وبينه وبين ابنها فؤاد شقيق سليم صداقة ومحبة، وسبق له أن زار المنزل أكثر من مرة وهو يصطاف في الإسكندرية. ولما بلغ المنزل وطرق الباب، فتحته له سيدة لا يعرفها متوسطة العمر مكتنزة الجسم تنم ثيابها وزينتها عن الغنى وحب الظهور. فلما وقع بصره عليها حسب أنه أخطأ المنزل أو أن من كانوا فيه انتقلوا منه إلى غيره؛ فاعتراه الخجل وقال للسيدة التي استقبلته متلعثمًا: «أليس هنا مسكن الخواجة فؤاد؟» قالت: «نعم، ولكنه ليس هنا الآن.» وظهرت على وجهها أمارات الارتباك. فقال حبيب: «وهل السيدة والدته غائبة أيضًا؟» فقالت: «لا يا سيدي بل هي هنا.» ثم تنحَّت عن الباب وَدَعته إلى الدخول، فدخل مترددًا وجلس في حجرة الاستقبال، بينما مضت السيدة لتدعو والدة سليم. وبعد قليل، سمع وقع أقدام خارج الحجرة، ثم دخلت عليه والدة سليم وهي في ثوب بسيط ووجهها يفيض بالتُّقى والورع وإن بدا فيه شيء من الانقباض، وما كادت تراه حتى عرفته فترقرقت الدموع في عينيها، وهمت به مرحبة فضمَّته وقبَّلته قائلة: «أهلًا وسهلًا بولدنا العزيز حبيب.» فقبَّل يدها وهو يغالب البكاء تأثرًا بلطف استقبالها إياه ولِما أدرك من أن سبب بكائها هو تذكر ولدها سليم، لكنه تجلَّد وتجاهل وسألها: «كيف حالك يا سيدتي، وكيف حال أخي فؤاد وبقية الأسرة؟» فقالت: «كلهم بخير، والحمد لله على سلامتك.» ثم تنهدت وأردفت قائلة: «وكيف حال سليم، ولماذا لم يأتِ معك؟» فارتبك حبيب قليلًا ثم أجاب بقوله: «هو بخير والحمد لله ولا ينقصه غير مشاهدتك. وقد جئت إلى الإسكندرية فجأة قبل أن أقابله، ولولا ذلك لجاء معي.» فتنهدت مرة أخرى وأطرقت ولم تُجب. وأدرك حبيب سر إطراقها وسكوتها فازداد ارتباكه، ولم ينقذ الموقف إلا دخول السيدة التي فتحت له الباب، وقد وضعت قبعتها على رأسها متهيئة للخروج، وقالت لأم سليم: «اسمحي لي أن أنصرف الآن؛ إذ لا بد لي من ذلك، وسأتمم الأمر الذي اتفقنا عليه نيابةً عنك، فكوني مطمئنة.» فقالت والدة سليم: «بورك فيك يا عزيزتي ولا حرمنا الله من فضلك.» ثم نهضت وودعتها حتى الباب الخارجي، وعادت بعد ذلك إلى حبيب، وأخذت تكرر تحيته والترحيب به إلى أن قالت: «لعلك قادم من السفر الآن فقط؟» فقال: «نعم، وقد جئت من المحطة إليكم رأسًا.» فسكتت وأطرقت مفكِّرة، كأنها تحاذر أن تقول شيئًا. ثم رفعت رأسها فإذا بالدموع تنهمر من عينيها، وقالت: «وماذا صنع سليم مع فتاته وأهلها؟» فتجاهل وقال: «أية فتاة يا سيدتي؟» فقالت: «الفتاة التي أحبها وكتب إليَّ بأن أوافيه في القاهرة لإتمام خطبتها.» فقال وهو يجاهد لإخفاء ارتباكه: «وهل اعتزمت إجابة طلبه؟» فقالت: «كلا. بل كتبت إليه بأنني غير موافقة على خطبة تلك الفتاة.» فقال: «ولماذا؟ هل عرفت الفتاة من قبل؟» فتنهدت وقالت: «لم أرها ولا أحب أن أراها، وكفى ما سمعته عنها ممن عرفوا دخائلها ووقفوا على سيرتها. ولولا أن قيضهم الله لإخباري بأمرها وأمر أسرتها في الوقت المناسب لانسقت مع سليم في تيار خداعهم واحتيالهم.» فأدرك حبيب صدق ما ظنه من أن عدم موافقتها على خطبة سلمى لسليم لم يكن إلا لوشايات كاذبة، وأراد أن يعرف من هم أصحاب هذه الوشايات فقال لها: «لكن يا سيدتي أنت تعرفين تعقل سليم وأنه ليس ممن ينخدعون بسهولة. فلعل ما سمعته عن الفتاة وأهلها من سواه غير صحيح.» فقالت: «كلا يا بني، إن السيدة وردة التي رأيتها هنا الآن هي التي تفضلت مشكورة فكشفت لي حقيقة ذلك الأمر، وهي سيدة عريقة الأصل وتحبنا محبة صادقة، ولولا تعزيتها لي، وملازمتها إياي منذ وقع الجفاء بيني وبين سليم بسبب تشبثه بخطبة تلك الفتاة، رغم نصحي له بتركها، لقضيت حسرة وغمًا.» وكان حبيب قد نفر قلبه من وردة منذ وقع نظره عليها وهي تفتح الباب له، لما لاحظ عليها من التبرج والخلاعة، فأدرك أنها سبب كل ما حلَّ بسليم وسلمى من الشقاء، وأنها لا بد قد رمت بوقيعتها ونميمتها إلى غرض خاص. ثم أراد أن يتحقق ذلك فقال: «هل السيدة وردة هذه من القاهرة؟» فقالت: «إنها تقيم بالإسكندرية منذ سنين، ولكنها تعرف كثيرًا من العائلات في القاهرة، ولها أملاك هناك ورثتها عن المرحوم زوجها هي وابنتها الوحيدة.» قالت ذلك وتنهدت، فرجح حبيب أن وردة سعت في إفساد علاقة سليم بسلمى، لكي تزوجه بابنتها، وقال لوالدته: «هل ابنتها هذه متزوجة أم لم تبلغ سن الزواج بعد؟» فعادت والدة سليم إلى التنهد، وقالت: «هي شابة في غاية الجمال والكمال، وقد خطبها كثيرون من أبناء العائلات الكبيرة الغنية، لكن والدتها كانت عند حسن ظني بصداقتها وإخلاصها لنا فلم تقبل أحدًا منهم.» فتحقق حبيب صدق ظنه ولكنه تجاهل، وقال: «ولماذا لم تقبل زواج ابنتها من أولئك الشبان الأغنياء أبناء العائلات الكبيرة، وما علاقة هذا بصداقتها وإخلاصها لكم؟» فقالت: «لا أخفي عليك أنها كانت قد تفضلت ووعدتني بقبول سليم زوجًا لابنتها، وأنت تعلم أن سليمًا ليس له إيراد إلا ما يأتيه من عمله في المحاماة، وهو ما زال مبتدئًا فيها، فزواجه من إميلي ابنة السيدة وردة يجعله صاحب التصرف في ثروتهما الكبيرة فيريحه هذا من عناء الاهتمام بأمر المعيشة ويصبح من الوجهاء. وقد كنت معتزمة مخاطبته في هذا الأمر بعد أن تحققت محبة الفتاة ووالدتها له، ولكنه فاجأنا بأمر تعلقه بتلك الفتاة الأخرى التي وقع في حبائلها. وكتبت إليه محذرة منذرة لكي يقطع صلته بها مبينة له ما علمته عن سيرتها السيئة ودناءة أصلها، لكنه وا أسفاه! لم يستمع لنصحي وتحذيري، ونسي جهادي في سبيل تربيته وإخلاصي في السعي لإسعاده، وقد آليت على نفسي ألا أرضى عنه ما لم يرجع إلى رشده ويترك تلك الفتاة، ويقترن بإميلي التي لن يظفر بزوجة في مثل جمالها وعراقة أصلها وغناها، فضلًا عن اتفاقي مع والدتها على ذلك ورفضها عشرات الخطاب الآخرين مراعاة لهذا الاتفاق.» فقال حبيب: «أرجو أن تصغي جيدًا لما سأقوله يا سيدتي، وأن تحكِّمي عقلك لا عاطفتك؛ فالأمر جِد خطير كما سأبين لك.» فدققت النظر إليه مندهشة، وقالت: «إني مصغية إليك يا ولدي، فقل ما تريد.» قال: «إنك ارتبطت مع صديقتك السيدة وردة في شأن خطبة ابنتها لسليم دون أن يعلم بشيء من ذلك. وكما أنك تستنكفين ألا تتم هذه الخطبة، لا شك في أنه يستنكف ألا يفي بوعده للفتاة التي أحبها، ولا سيما أنه ارتبط بوعده لها وهو لا يعلم شيئًا مما اتفقت عليه في شأن الفتاة الأخرى.» فقالت: «لقد كتبت إليه بما علمته من أمر الفتاة التي وقع في شِراكها، وكان عليه أن يستمع لمشورتي؛ لأني أمه ولا يمكن أن أشير عليه إلا بما فيه خيره وسعادته.» قال: «لا أريد أن أقول إنك كتبت إليه بعد أن تمكن الحب من قلبه وصار من الصعب عليه أن يتخلص من ذلك الحب. ولكني أقول إن صديقتك السيدة وردة لم تكن خالية من الغرض حين أوغرت قلبك على الفتاة التي أحبها سليم، فمن مصلحتها طبعًا ألا يستمر هذا الحب لكي يتم ما اتفقتما عليه من زواج سليم بابنتها.» قالت: «إن إميلي جميلة مثقفة غنية وأمامها عشرات الخطاب كما ذكرت لك، وهم جميعًا أغنى وأحسن مركزًا من سليم. فلو أن صديقتي السيدة وردة كانت لا تبغي سوى مصلحتها ومصلحة ابنتها، لانتهزت الفرصة وزوَّجتْها من أحد أولئك الخطَّاب الوجهاء الأغنياء، ولكنها في الواقع حرصت على مصلحة سليم، وتعبت كثيرًا في سبيل إنقاذه من تورطه في حب فتاة القاهرة، وهي التي تولَّت إرسال الخطابات إليه باسمي في ذلك الشأن لأني لا أعرف الكتابة. وأسأل الله أن يجزيها عنا خير الجزاء فهي حقًّا مثال المروءة والوفاء.» ••• كانت الخادمة قد جاءت بالقهوة وقدمتها لحبيب، فشربها ثم قال لوالدة سليم: «اسمعي يا سيدتي، إني مثلك لا أريد إلا ما فيه الخير والسعادة لسليم، وما جئت من القاهرة اليوم إلا لأبحث معك هذا الأمر. وأنا أؤكد لك أن كل ما سمعته عن الفتاة التي أحبها في القاهرة وسوء سيرتها ووضاعة أصلها ليس له من الصحة أدنى نصيب، وإنما هو محض كذب وافتراء، فهي من أطهر الفتيات وأطيبهن عنصرًا، ولم يحبها سليم إلا لما لمسه فيها من الخلال الحميدة. وسأطلعك الآن على سر وقعت عليه مصادفة دون علم سليم، وفيه ما يكفي دليلًا على شرف تلك الفتاة وعزة نفسها ونبل أخلاقها.» فقالت: «ما هو هذا السر؟» قال: «إن سليمًا لم يطلعها على الخطابات التي أرسلتها إليه في شأنها، أو أرسلتها إليه السيدة وردة باسمك. ولكنها وقع في يدها اتفاقًا أحد تلك الخطابات، فعلمت أنك غير راضية عنها، وأنك لن ترضي عنه إن استمر في علاقته بها، فهل تعلمين ماذا صنعت بعد ذلك؟» قالت: «لا أعلم طبعًا، فماذا صنعت؟» قال: «كتبت إليه مؤكدة له أنها رغم شدة حبها إياه، لا يسعها قط أن تكون سببًا لوقوع الجفاء بينه وبين والدته، ولا سيما بعدما علمت منه بما عانيت في سبيل تربيته؛ ولذلك أحلَّته من جميع العهود والوعود التي ارتبطا بها، لتتيح له النزول عند رغبتك.» فعجبت والدة سليم من ذلك الأمر وكادت ألا تصدقه، فقالت له: «أحق ما تقول يا حبيب؟» فقال: «أقسم لك يا سيدتي أني لم أقل لك إلا الحق، فتصوري الآن كيف ضحَّت الفتاة بسعادة قلبها في سبيل إعادة المياه إلى مجاريها بينك وبين سليم، ثم قارني بين تضحيتها ونبلها وعزة نفسها، وبين تهافت السيدة وردة على تزويج ابنتها من سليم، رغم ما تزعمه من كثرة خطابها وأنهم جميعًا من الوجهاء الأغنياء، ورغم علمها بأنه يحب فتاة أخرى غير ابنتها.» فسكتت والدة سليم قليلًا ريثما أدارت الأمر في ذهنها، وقرأ حبيب في وجهها أمارات التردد، ثم قالت له: «ألا يجوز أن تكون الفتاة قد كتبت إليه ذلك الخطاب إمعانًا في المكر والخداع، لتبرهن له على شدة إخلاصها في محبته ورغبتها فيما يسعده ويرضيه؛ كي يزداد تعلقًا وهيامًا بها؟ لقد سمعت أنها بارعة في الحيلة والدهاء!» فقال: «ما هذا الذي تقولين يا سيدتي؟ إن المكر والدهاء والاحتيال وما إلى هذه الصفات لا يمكن إلصاقها بفتاة نقية طاهرة كهذه، ضحَّت بسعادتها ومستقبلها حتى لا تفرق بين حبيبها ووالدته. وإنما الأَولى بهذه الصفات من تطلق لسانها بغير الحق وتنهش أعراض الناس بالباطل، لكي تحقق أطماعها الخاصة.» فتنهَّدت وأطرقت قليلًا، ثم رفعت رأسها ومسحت بمنديلها دمعة ترقرقت في عينيها، وقالت: «إنني حائرة يا ولدي، وقد زدتني حيرة بما سمعته منك الآن. والحق أني كنت قد يئست من إقناع سليم بترك الفتاة التي أحبها. وخاطبت السيدة وردة في ذلك حين جاءتني اليوم، فأشارت عليَّ بإرسال خطاب آخر إلى سليم تدعوه فيه إلى الحضور إلى هنا في أقرب وقت، لعلنا نستطيع إقناعه بالحديث معه وجهًا لوجه. وقد انصرفت على أن تتولى كتابة هذا الخطاب وإرساله إلى سليم بالنيابة عني كعادتها، وأحسب أنها أتمت هذه المهمة عقب خروجها.» فقال: «فلتكتب إليه ما شاءت، فهو لن يحضر الآن.» فدهشت وسألته: «ولماذا لا يحضر؟» قال: «لأنه لا يستطيع ذلك بسببك يا سيدتي.» فازدادت دهشتها وقالت: «بسببي أنا؟ لعله لا يريد أن يراني حتى لا يغضِب حبيبته؟!» فقال: «كلا يا سيدتي، إن لقاءك أعز أمنية له ولا شك، ثم هو لم يقابل الفتاة منذ تلقى خطابها الأخير، ولو أنه كان لا يعنيه رضاك، ما أتعب نفسه في محاولته إقناعك بوجهة نظره وببطلان التهم التي وجَّهتِها إلى الفتاة، وقد كان في استطاعته أن يعقد خطبتها رسميًّا قبل ذاك.» قالت: «إذن لعله مشغول ببعض القضايا التي لا يمكن تأجيلها؟» فهز حبيب رأسه أسفًا وقال: «ليس هذا أيضًا ما يمنعه من الحضور، ولكنه …» وسكت دون أن يتم عبارته. فأجفلت وتجلَّى القلق في وجهها وقالت: «لعله مريض؟» فقال: «نعم يا سيدتي هو الآن طريح الفراش، ولكن ليطمئن قلبك فلا خطر عليه، وهو عندنا بمنزلنا في حلوان، ووالدتي وشقيقتي تتعهدانه بكل رعاية وعناية.» فلم تتمالك من النهوض من مقعدها ودقت صدرها بيدها فزعًا وجزعًا وقالت باكية: «سليم ولدي مريض؟ وا حسرتاه!» فنهض حبيب، وأمسك بذراعيها داعيًا إياها إلى الجلوس قائلًا: «لا داعي للجزع يا سيدتي، فهو لا يشكو سوى حمى خفيفة أصابته بسبب كدره وحيرته بينك وبين خطيبته. وقد أفاده الدواء الذي وصفه له الطبيب ولا يلبث أيامًا حتى يسترد عافيته كاملة.» فجلست إجابةً لطلب حبيب، ولكنها لم تنقطع عن البكاء والنحيب وهي تردد قولها: «سليم مريض؟ آه يا ولدي العزيز!» وأخيرًا نهضت فجأة وهي تقول: «هلم بنا إلى القاهرة، لا تؤاخذني يا عزيزي حبيب فأنت بمنزلة ولدي، ولا بد لي من السفر.» وسكتت هنيهة مفكرة ثم قالت: «لقد ذهب فؤاد وقرينته للغداء عند أسرتها. ولا شك في أنه سيتأثر كثيرًا حين يعلم بحضورك وسفرك دون مقابلته، ولكن يكفي أن تترك له ورقة تنبئه فيها بحالة سليم وبأننا عجلنا بالسفر للاطمئنان على صحته.» فقال حبيب: «إنني سعيد جدًّا باعتزامك السفر معي لرؤية سليم؛ لأن هذا سيعجِّل شفاءه ويرد إليه مرحه وسعادته. وسنستقل قطار الليل إلى القاهرة بإذن الله. وإلى أن يحين موعد السفر أكون قد أنجزت بعض المهام في المدينة وعدت إلى هنا لمقابلة أخي فؤاد ثم اصطحابك إلى القاهرة.» ثم نهض وقبَّل يدها مكررًا تأكيده أن صحة سليم لا تدعو إلى أي قلق، وخرج مشيعًا بدعواتها الطيبات. ولما عاد بعد حوالي ساعتين كان فؤاد قد عاد إلى المنزل فتعانقا وتبادلا التحيات. ثم جلسا يتحدثان في شأن سليم وغير ذلك حتى حان موعد العشاء، فتناولوه جميعًا، ثم أعدَّت والدة سليم حقائبها للسفر مع حبيب، واستقلَّا عربة من المنزل حتى المحطة مودعين من فؤاد وقرينته ووردة بأطيب التمنيات. وعلم حبيب من والدة سليم وهما في القطار أن وردة أظهرت جزعًا شديدًا حين أنبأتها بمرض سليم واعتزامها السفر إلى القاهرة لرؤيته والاطمئنان عليه. وطلبت إليها أن تخفي نبأ مرضه على ابنتها إميلي زاعمة أنها ربما تموت حزنًا وغمًّا إذا علمت بذلك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/10/
من سليم إلى سلمى
بقيت سلمى معتكفةً في فراشها وهي تغالب تأثرها الشديد، وتفكِّر فيما يكون من أمر سليم بعد أن يطَّلع على خطابها. وقد اشتدَّ ندمها على كتابتها هذا الخطاب، وشعرت بأنها أخطأت في حق سليم، وكان عليها أن تتأنَّى ولا تنساق مع عواطفها المهتاجة فتقضي بجرة قلم على علاقتها بعد أن توطدت وارتبط قلباهما. وكانت تتوقع أن يأتي سليم لمقابلتها على أثر اطلاعه على خطابها، فبقيت حتى عصر ذلك اليوم وهي كلما سمعت طرقًا على باب المنزل حسبت أنه هو القادم، فيشتد خفقان قلبها وتضطرب أعصابها. فإذا تبينت أن القادم غيره عاودها اليأس ولاح لها أنها فقدت حبيبها إلى الأبد، فيزداد جزعها وندمها على كتابة ذلك الخطاب إليه. ولم تكن تستطيع أن تفرِّج عن نفسها بالبكاء؛ لأن أبويها كانا يلازمان غرفتها، ولا يتركانها إلا فترات يسيرة لمقابلة زائر أو إنجاز عمل في المنزل. كما أن سعيدة الخادمة الماكرة العجوز حرصت على أن تبقى قابعة بالقرب من سريرها، متظاهرة بشدة جزعها وتفانيها في خدمتها وتلبية مطالبها. وكان أبواها يتوقَّعان أيضًا أن يجيء سليم كعادته عند الأصيل، فلما ولَّى النهار دون أن يجيء، قلقا عليه، لكنهما لم يذكرا ذلك لسلمى مخافة أن يزيد هذا في توعكها وضعفها، وهما لا يعلمان شيئًا من أمر خطابها إليه وخطاب والدته الذي وقع في يدها. كما أنهم جميعًا لم يعلموا بأمر مرضه وملازمته الفراش؛ لأن حبيبًا حين زارهم عصر ذلك اليوم لم يشأ أن يخبرهم بذلك، لما علمه من أمر مرض سلمى، وخشيته أن يزيدهم قلقًا وانشغالًا، فخرج من هناك مكتفيًا بأن تمنَّى لسلمى عاجل الشفاء، ومضى إلى منزله في حلوان حيث أنبأ أمه بمرض سليم واتفقا على نقله إلى منزلهم للعناية به. وأمضت سلمى ليلتها وهي على تلك الحال من القلق والاضطراب، ولم تنم إلا فترات متقطعة تخللتها الأحلام المزعجة. وأصبحت وهي أسوأ حالًا منها بالأمس. فدعا والدها الطبيب لفحصها، وداخلهما بعض الاطمئنان حين قرر أن مرضها يسير لا يلبث أن يزول بالراحة والاستجمام، ووصف لها دواء يعاون على التعجيل بالشفاء. على أنها في الواقع لم تكن في حاجة إلا لما يعيد إلى قلبها ما فقده من الأمل والسعادة بتبادل الحب مع سليم. فلم يُجْدِها تناول الدواء نفعًا، وبقيت تتقلَّب في فراشها حائرة مضطربة ولا تجد شهية للطعام أو الشراب، إلى أن حان وقت الأصيل، فعاودها الأمل في أن يجيء سليم كعادته، واضطجعت في سريرها متشاغلة بمطالعة أحد الكتب، وهي تُرْهِف السمع لعلها تسمع صوته أو وقع خطاه حين وصوله. وأخيرًا، سمعت طَرْقًا على باب المنزل، فاشتدت دقات قلبها، ولم تتمالك نفسها فألقت بالكتاب على الوسادة بجانبها، ولبثت ترتقب معرفة الطارق بعد أن خرجت والدتها بنفسها لفتح الباب. وكانت أدما هي التي طرقت الباب، وقد جاءت لحاجة في نفسها تتعلق بحبيب، وهي لا تدري شيئًا عن مرض سلمى. فلما علمت بذلك من والدتها، بدا عليها الوجوم والاضطراب، وسارعت إلى الدخول عليها في غرفتها متعثرة الخُطا. وما كادت سلمى تراها حتى تذكرت ما بها من المرض والضعف بسبب الحب ومتاعبه فلم تتمالك عواطفها وأجهشت بالبكاء. فهمت بها أدما وقبلتها، وجلست بجانبها على السرير، محاولةً مواساتها والترفيه عنها، ولكن لسانها لم يكن يقوى على الكلام لشدة ما هي فيه من الارتباك. وكانت سلمى تحب أدما وتأنس إلى حديثها وتثق بإخلاصها لها، فحدثتها نفسها أن تخلوَ إليها وتكشف لها عن سبب مرضها وضعفها. ولكنها عادت فآثرت الكتمان، واكتفت بأن نظرت إليها وتنهدت متحسرة على أنها ليست مثلها خالية القلب من الحب وما يجرُّ إليه من تعب وشقاء. ولم تكن تدري بالحب المتبادل بين أدما وحبيب، ثم قالت لها: «هنيئًا لك يا أدما، إني أغبطك على ما أنت فيه!» فوقعت هذه العبارة وقوع السهم على قلب أدما، إذ تذكرت السبب الذي جاءت من أجله، ولاح لها أن سلمى عالمة بأمر علاقتها بحبيب، وأنها تغبطها على ذلك، ثم همَّت بأن ترد عليها في صراحة، لكنها خجلت من ذلك فتجاهلت وقالت: «على أي شيء تهنئينني يا عزيزتي؟! إن حالتي لأحق بالتعزية.» فهمَّت سلمى بأن تصرح لها بأنها تهنئها على خلو قلبها من شواغل الحب، ولكن الحياء أمسكها، فبدا عليها التردد، ثم قالت وفي صوتها ما ينم عن أنها لا تقول ما تعتقد: «إنما أردت تهنئتك على ما أنت فيه من صحة وعافية.» فتحققت أدما صدق ظنها، وأن سلمى على علم بما بينها وبين حبيب من الحب، ولا تريد أن تظهر ذلك. ومضت فترة وهما صامتتان، وكل منهما مشغولة بالتفكير في شأنها الخاص. ثم مضت أدما مستأذنة في الانصراف وودعت سلمى متمنية لها عاجل الشفاء، ثم عادت إلى منزلها وقلبها يحدثها بأنها ستجد حبيبًا هناك. لكنها لم تجد في المنزل أحدًا غير والدتها، فأظلمت الدنيا في عينيها، وأمضت بقية يومها في قلق وارتباك ما عليهما من مزيد. ••• كانت أدما بعد العودة من رحلة الأهرام تتوقع أن يجيء حبيب لمقابلتها في اليوم التالي؛ ليستأنفا ما بدآه هناك من حديث الحب وما إليه. ولبثت تنتظر مجيئه منذ ظهر ذلك اليوم وهي لا تكاد تحوِّل نظرها عن ساعة الحائط الكبيرة، تعد الدقائق الباقية على موعد انصرافه من الديوان إلى منزلها، وتكاد لفرط شوقها إلى لقائه تهمُّ بعقارب الساعة فتقدمها عمدًا لتقرب موعد اللقاء. وبقيت حتى الساعة الثانية بعد الظهر وهي تارة تعود بذاكرتها إلى مناجاتهما بالأمس بجوار أبي الهول، وتارة تتخيله قادمًا إليها وهو يبتسم فلا يسعها إلا أن تقابل ابتسامته بمثلها، ثم تدرك أنه لم يأتِ بعد، فتأخذ في إعداد العبارات المنمقة لتعبر له بها عن شعورها نحوه متى جاء. كل هذا ووالدتها مشغولة عنها ببعض شئون المنزل، ولا علم لها بما يعتمل في صدرها من عوامل الوجد والهيام. وازداد قلق أدما، ونفد صبرها منذ أخذت الدقائق تمضي بعد ذلك دون أن يحضر حبيب. ولم تعد تستطيع الاستقرار في مكانها، فأخذت تنتقل من غرفة إلى غرفة، ومن شرفة إلى شرفة، وعيناها شائعتان تحملقان في أشباح الغادين والرائحين في الطريق إلى المنزل، وكلما لمحت شخصًا في مثل قامة حبيب، أو يرتدي بذلة قريبة اللون من بذلته، تسارعت دقات قلبها، ثم لا تلبث قليلًا حتى تتبين أن القادم ليس هو، فتصعِّد الزفرات، وتعود إلى غرفتها متخاذلة، لتعاود الوقوف أمام المرآة، لتتحقق أن عينه لن تقع على شيء فيها لا يرضيه، وفي بعض الأحيان كانت تصادف والدتها في إحدى تلك الغرف، فلا يسعها إلا التظاهر أمامها بأنها تبحث عن ورقة أو كتاب، لتخفي عليها ما يشغلها ويقلقها. ومضت ساعتان، كأنهما لطولهما سنتان، وأدما على هذه الحال، وكلما عادت إلى الساعة، حاسبةً أن عقاربها أتمت دورة كاملة منذ رأتها لآخر مرة، وجدت أنها لم تقطع سوى دقائق معدودات. وأخيرًا، وفيما هي مطلة من إحدى النوافذ، إذا بها ترى حبيبًا مقبلًا نحو المنزل، فخفق قلبها، وارتعشت ركبتاها، وبردت أطرافها. ثم أبرقت أسرَّتها، وهان عليها أن تلقي بنفسها من النافذة بين يديه في الطريق، ولا سيما حين رأته يختلس النظر إلى شرفة غرفتها. ثم همَّت بأن تمضي إلى تلك الشرفة لتطل عليه منها، لكنها فوجئت بأن رأته وقد انعطف فجأة عن الطريق المؤدي إلى المنزل، ثم اتخذ سبيله في العطفة المجاورة التي بها منزل سلمى؛ فأخذتها الدهشة ولم تصدق عينيها أول الأمر، ثم حسبت أنه ضل الطريق ولا يلبث أن يرجع. فلما طال انتظارها دون أن تراه راجعًا، تحولت عن النافذة وساقاها لا تكادان تقويان على حملها، وأخذت الهواجس تتقاذفها، ولم تملك عواطفها فارتمت على أول مقعد صادفها واعتمدت رأسها بيديها آخذة في البكاء. وبعد قليل، سمعت وقع أقدام بالقرب منها فانتبهت لنفسها، وأدركت أن أمها على قيد خطوات منها، فمسحت عينيها ونهضت متجلدة حتى لا تلحظ عليها أمها شيئًا. على أن فكرها ما زال مشغولًا بحبيب وسبب توجهه إلى منزل سلمى. ولاح لها أن تلحق به إلى هناك كي تقف على ذلك السبب، غير أنها لم تجرؤ على ذلك، واكتفت بأن تسللت من المنزل إلى المنزل الملاصق له، وتظاهرت بالسؤال عن صديقة لها من الساكنات فيه، في حين أنها كانت تقصد أن تطل على منزل سلمى من نافذة هناك. وما كادت تطل من هذه النافذة حتى وقعت عيناها على حبيب خارجًا من منزل سلمى، فخفق قلبها بشدة، ورجح لديها أنه دخل هناك عن غير قصد ثم انتبه لنفسه فعاد أدراجه إلى منزلها. وسرعان ما تحولت عن نافذة منزل الجيران وعادت إلى منزلها حيث وقفت تطل على الشارع من شرفة غرفتها في انتظار وصول حبيب. وكانت دهشتها أشد حين رأته يخرج من العطفة التي بها منزل سلمى، ثم يلقي على منزلها هي نظرة خاطفة، وينثني عائدًا إلى المدينة دون أن يعرج عليه، وهمَّت بأن تناديه ولكن الحياء غلب عليها فأمسكت، وبقيت واقفة تنظر إليه من الشرفة حتى توارى عن نظرها، فأحسَّت كأن قطعة من قلبها فصلت منه بسكين، وازداد اضطرابها وامتقاع لونها، ثم تحاملت على نفسها متحولة عن النافذة إلى سريرها حيث ارتمت عليه متظاهرة بحاجتها إلى الراحة، وبقيت ملازمة سريرها والهواجس تتقاذفها. وهي تارة يعاودها الأمل في رجوع حبيب لمقابلتها بعد أن ينتهي من إنجاز المهام العاجلة التي شغلته عنها، وتارة يداخلها اليأس فترجح أنه لن يرجع، وأن ما صرح به أمس من مبادلتها الحب والإخلاص لم يكن إلا مجاراة لها. وهنا يأخذها الندم على تصريحها له بأنها التي أرسلت إليه ذلك الخطاب، بل تلوم نفسها كل اللوم على كتابته، وتعد ذلك عملًا من أعمال النزق والطيش لم يكن يليق بمثلها أن تقوم به. وعند العشاء، سمعت وقع أقدام على سلم المنزل، فاختلج قلبها، وقفزت من سريرها لتفتح باب غرفتها وتستقبل القادم الذي رجحت أنه حبيب. ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت القادم فإذا هو أبوها، فعاودت الانقباض، وعبثًا حاولت التجلد حتى لا يلحظ أبواها انقباضها وكدرها، فجلست معهما على مائدة العشاء دون أن تستطيع تناول شيء من الطعام، ولبثت بعد ذلك ساعة تتظاهر بالاستماع لحديثهما، وفكرها مشغول بما هي فيه. ثم فقدت كل أمل في مجيء حبيب، فنهضت وأوت إلى فراشها، وباتت ليلتها تتقلب فيه على مثل الجمر، وتتقاذفها عوامل اليأس والرجاء، والشك واليقين، إلى أن اقترب الفجر وكان ذهنها قد كلَّ وتعب فأدركتها سِنة من النوم، تخللتها أحلام مختلفة متقطعة، بعضها مفرح لأنه يعيد إليها موقف حبيب معها في منطقة الأهرام وهما يتناجيان بعبارات الحب، وبعضها محزن مزعج لأنه يعيد إليها صورته وهو يمر بمنزلها في طريقه إلى منزل سلمى وعودته منه دون أن يعرج لمقابلتها. وأصبحت متعبة مكدودة، فلم تبرح فراشها، زاعمة لوالديها أنها تشعر بصداع شديد. ثم ضاقت بملازمتهما غرفتها للاطمئنان على صحتها، فتحاملت على نفسها ونهضت فجلست على مقعد في الشرفة متشاغلة بالتطريز تارة وبالمطالعة في بعض الكتب تارة أخرى. ولما حان موعد الغداء، تناولت مع والديها قليلًا من الطعام، ولبثت ساعة تترقب أن يجيء حبيب عقب انصرافه من الديوان. فلما لم يجئ، نهضت وارتدت ثوب الخروج، ثم خرجت بعد أن استأذنت والدتها لكي تزور صديقتها سلمى. وهي إنما أرادت بهذه الزيارة أن تبحث ما دعا إلى توجه حبيب إلى هناك بالأمس. ورغم وثوقها بأن سلمى مخطوبة لسليم كان الشك يساورها في وجود علاقة بينها وبين حبيب. ولكنها كانت تستبعد ذلك، وتحاول طرد هذه الوساوس من ذهنها، إلى أن وصلت إلى منزل سلمى ثم قابلتها بعد أن علمت من والدتها بأنها مريضة ملازمة فراشها، فقويت شكوكها ولا سيما بعد أن لاحظت أن سلمى تحاول أن تخفي عليها شيئًا تضمره في قلبها. وعادت إلى منزلها وقد ازدادت ضعفًا على ضعف، وما كادت تصل إلى غرفتها حتى ارتدت ملابس النوم وارتمت على سريرها حيث أخفت وجهها بالغطاء، وأطلقت لدموعها العِنان، لعلها تفرج بعض ما تعانيه من الغم واليأس وضيعة الآمال. وفي الصباح التالي، لاحظت والدتها انقباض وجهها وضعفها. فأشارت عليها بأن تخرج معها للتنزه قليلًا في إحدى الضواحي، فوافقت على ذلك. وخرجتا معًا من المنزل، وما زالتا تتمشيان حتى وصلتا إلى محطة السكة الحديدية، فوقفتا هناك قليلًا وهما تتأملان جموع القادمين إلى القاهرة والمسافرين منها، وفيما هما كذلك، لمحت أدما حبيبًا داخلًا إلى المحطة مسرعًا، فخفق قلبها لهذه المفاجأة، وتوقعت أن يراهما فيعرج عليهما، ولكنه انطلق في سبيله لا يلوي على شيء. وكانت والدتها قد رأته هي الأخرى، فقالت: «ترى ما الذي جاء بحبيب إلى المحطة في هذا الصباح؟ لعله جاء لاستقبال صديق له قادم من الإسكندرية!» فسكتت أدما ولم تُجب لانشغال بالها بأمر حبيب، على أنها ظلت تنتظر مع والدتها حتى يخرج من المحطة وتقف منه على سبب مجيئه، وعلى ما أخره عن مقابلتها منذ رحلة الأهرام حتى ذلك الوقت. فطال انتظارهما حتى غادر القطار المحطة قاصدًا الإسكندرية، وخرج منها جميع من كانوا في تشييع المسافرين فيه وليس فيهم حبيبًا، فأيقنتا بأنه سافر فيه، وشغلهما أمر هذا السفر الذي لا تعلمان سببه. وكانت أدما أكثر قلقًا بطبيعة الحال، لما في قلبها من الشواغل التي لا تعلم بها والدتها. فلم تعد تستطيع المشي ولا الوقوف، وجاهدت لإخفاء ما بها على والدتها متظاهرة بأن الصداع الشديد عاودها، ثم عادتا إلى المنزل في إحدى مركبات الأجرة، فتناولت أدما بعض الأدوية المسكنة، وأوت إلى سريرها للراحة والاستجمام، وهناك انتهزت فرصة انفرادها واشتغال والدتها عنها ببعض شئون المنزل، وأخذت في البكاء. ••• لبث سليم حتى العصر وهو ينتظر رجوع حبيب من القاهرة إلى منزله الذي نقله إليه في حلوان. فلما لم يرجع حبيب حتى ذلك الوقت، نفد صبره ولم يعد يستطيع البقاء في ذلك المنزل لحظة واحدة. ولم تكن الحمى قد فارقته بعد، ولكنه رغم ذلك نهض وارتدى بذلته معتزمًا الخروج. وجاءت والدة حبيب إلى غرفة سليم لتطمئن عليه وهي تحسب أنه ما زال نائمًا كما تركته منذ حين، فلما رأته مرتديًا بذلته أخذتها الدهشة ووقفت تنظر إليه متسائلة، فقال لها: «لقد رأيت أن أخرج للتنزه قليلًا في حديقة حلوان.» فهمَّت بأن ترد عليه مُشيرة بالانتظار حتى يرجع حبيب من القاهرة ويصحبه إلى الحديقة، لكنها خشيت أن تذكِّره بغياب حبيب فيزداد تأثره، وآثرت أن تتركه يمضي وحده للترويح عن نفسه بعض الوقت في الحديقة. حتى إذا رجع منها استسلم للنوم بعد تناول طعام العشاء، ولا يستيقظ حتى يكون حبيب قد عاد من الإسكندرية ومعه والدة سليم، أو يعتذر إليه بما يراه. وغادر سليم المنزل آخذًا طريقه إلى الحديقة، وفيما هو يمر بمحطة السكة الحديدية هناك، رأى القطار قادمًا إليها من القاهرة، فوقف ينتظر هبوط الركاب منه لعل حبيبًا أن يكون بينهم. فلما تحقق أنهم نزلوا جميعًا وليس فيهم حبيب، اشتدَّ سخطه عليه وغيرته منه على سلمى، ثم لاح له أن يستقل هذا القطار عائدًا إلى غرفته بالقاهرة حتى لا يجشِّم نفسه عناء مقابلة حبيب بعد ما رابه من أمره. وكان القطار قد بدأ يتحرك فسارع إلى الركوب، وألقى بنفسه على أحد المقاعد فيه، وهو يتنفس الصعداء كأنما أزيح عن صدره حمل ثقيل. ولما وصل إلى غرفته، خلع بذلته وارتدى ثوب النوم، ثم تمدد في سريره، وقد أنهكه التعب وآثار الحمى وارتيابه في علاقة سلمى بحبيب. أكتب إليك هذا الخطاب ولست أدري هل أستطيع الاستمرار في الكتابة حتى أتمه، أم أنتقل من الدنيا إلى الآخرة قبل ذلك. فأنا أكتب الآن ونار الحمى تتقد في رأسي وبدني، ورعشتها تهز القلم في يدي. ولكن هذا كله ليس شيئًا يستحق الذكر بجانب ما يعتمل في صدري وقلبي. وقد حاولتُ أن أُمسك عن الكتابة إليك، بعدما تحققته من أمرك، ولكني خشيت أن أقضي نحبي قبل أن أُطلعك على معرفتي بخبيئة نفسك، وبكل ما حسبت أنه سيخفى عليَّ. آه يا سلمى! وا أسفاه على الأيام التي قطعتها معتقدًا طهر حبك وإخلاصك، حريصًا على أن أكذِّب ما أسمعه عنك برغم وضوح صحته، وقيام الأدلة والقرائن كلها ضدك. حتى والدتي يا سلمى، عَقَقْتُها لأجلك، ولم أستمع لما كررته من النصح لي بالابتعاد عنك، رغم إنذارها إياي بأنها لن ترضى عني أبدًا ما دمت على صلة بك، وبأنها ستموت حسرة وغمًا إن أبيت إلا التعلق بحبائل هواك. وقد ساقت إليَّ الأقدار رجلًا لم أعرفه ولم يعرفني من قبل، فسمعت منه اتفاقًا قصة علاقته السابقة بك، وكيف انخدع بما أظهرت له من الوفاء والإخلاص، ولم يدخر في سبيل رضاك جهدًا ولا مالًا، ثم إذا به يستكشف مصادفة أنك عالقة القلب بسواه. وشد ما أسفتُ وتحسرت حين كشف لي الرجل عن اسم غريمه ومنافسه فيك، فإذا هو صديق لي طالما اعتقدت وفاءه وإخلاصه، وأنزلته من قلبي منزلة الأخ الشقيق، غير عالم بأنه مثلك داهية في المكر والخداع والنفاق! وأخيرًا، وقعت في يدي بعد خطابك الأخير ورقة بخط يدك، تبثين فيها ذلك الصديق، بل ذلك العدو، ما تُكنين له من شدة الحنين والاشتياق. فكان أن انكشف الغطاء عن عيني، وأدركت أن ما طالما سمعته منك، وما قرأته في خطابك الأخير، عن المحبة الطاهرة، وتضحيتك في سبيلها، لم يكن سوى خداع وتضليل! وا أسفاه على خيبة الرجاء فيك يا سلمى! إني مرسِل إليك مع هذا بالورقة المشئومة التي هي صك خيانتك ودليل خداعك ومكرك. تاركًا لك أن تندبي المحبة الطاهرة التي طالما استحلفتني بها، وأن تذكري العبرات التي ذرفتها عند الأهرام، والعبارات التي نمقتها في خطابك الأخير لتظهري أمامي بمظهر الطهر والنبل والعفاف، ولتوهميني بأنك ما زلت الوفية الحافظة للعهود والمواثيق. وا أسفاه على شدة إخلاصي وصدق محبتي لك يا سلمى! لقد أسلمت زمام قلبي لمن لا ترعى عهدًا ولا ذمامًا! ولكن هذا القلب لن يشقى ويتعذب بعد اليوم. فهذه هي الحمَّى تندلع نيرانها في جسمي، وما أحسبها إلا قاضية عليه القضاء الأخير عما قليل. وحينئذٍ يخلو لك الجو، ولا يبقى هناك ما يحملك على سكب العبرات وتنميق العبارات لتموِّهي بها على سليم الساذج الغر الذي أخلص لك الحب، وعق في سبيلك والدته الحنون، وكذَّب عينيه وأذنيه وقلبه ليبقى معتقدًا أنك ملاك طاهر لا تعرفين المخاتلة والرياء. آه يا سلمى! إن والدتي المسكينة لا علم لها بما أنا فيه الآن، ولا شك في أنها ناقمة غاضبة لمخالفتي نصحها وإرشادها. لكني على يقين من أنها لن تلبث قليلًا بعد موتي حتى تلحق بي حسرة وحزنًا. فإذا قدِّر لك أن تقابليها قبل ذاك فاستغفريها لذنبي وذنبك. ووداعًا يا سلمى! وداعًا إلى الأبد، وإلى غير لقاء! وطوى سليم الكتاب، ثم وضعه في ظرف، ونهض من مقعده وقد شعر بدوار شديد فعاد إلى الاستلقاء في سريره، وأخذ يفكر في وسيلة يرسل بها الكتاب إلى سلمى. ولبث مستلقيًا كذلك حتى الغروب، ثم جاء الخادم فأضاء المصباح وسأله عما يريده من طعام للعشاء، ولم يكن سليم يشعر بشهية لتناول أي طعام، لكنه طلب قليلًا من المرق، ثم تناوله وهو ما زال شاعرًا بدوار الحمى وحرارتها، وعاد إلى التمدد في سريره، والتفكير في أمره. ولاح له أن متاعبه كلها لم تجئ إلا لوجوده غريبًا وحيدًا في القاهرة حيث خابت آماله في الحب والصداقة ولم يلقَ في مهنته النجاح الذي كان يرجوه، فأخذ يناجي نفسه قائلًا: «آه لو أنني نجوت من هذه الحمى الطاغية القاتلة، إذن لسارعت من هذه البلدة الظالم أهلها، ونقلت مكتبي إلى الإسكندرية، وهناك أجد القلب الذي لا يمكن أن يكنَّ لي إلا المحبة والحنان، قلب والدتي العزيزة!» وفي منتصف الليل، زايلته الحمى، وشعر بأنه استرد بعض قواه، كما شعر بأن كتابته ذلك الخطاب إلى سلمى قد أزاحت عن صدره جانبًا كبيرًا من ثقل حيرته وتردده، وما لبث بعد ذلك قليلًا حتى أخذه النعاس، فنام لأول مرة منذ مرضه نومًا عميقًا هادئًا لا تتخلله الأحلام المزعجة. واستيقظ في الصباح وهو أحسن حالًا، فارتدى بذلته، ووضع في جيبه الخطاب الذي كتبه إلى سلمى، ثم هبط إلى الشارع وركب عربة مضى بها حتى بلغ أول العطفة المؤدية إلى منزل سلمى، فأمر السائق بالوقوف هناك، وكلفه أن يصعد إلى المنزل ويسأل عن الخادمة العجوز سعيدة ويدعوها إليه. وبعد قليل جاءت سعيدة، فما كادت عيناها تقعان على سليم وهو جالس في العربة حتى خفَّت إلى استقباله مرحِّبة، وقبَّلت يده متظاهرة بالبِشر والحبور لرؤيته. فقال لها: «لي عندك رجاء فهل أنت على استعداد لإجابته؟» فقالت: «إنني خادمتك المطيعة يا سيدي، ورهن إشارتك في كل ما تطلب، ولو كلفني ذلك حياتي.» فربَّت كتفها شاكرًا، وأخرج من جيبه خطابه إلى سلمى وناولها إياه قائلًا: «كل ما أرجوه منك هو أن توصلي هذا الخطاب إلى سلمى يدًا بيد، دون أن يعلم بذلك أي أحد، وإذا سألك أحد من أبويها عمَّن خرجت لمقابلته الآن، فلا تذكري أي شيء عني، فهل فهمت؟» ثم نفحها ببعض النقود، فتمنعت عن أخذها مؤكدة أن رضاه عنها هو كل ما تتمناه، لكنه أصر على أن تأخذ تلك النقود فأخذتها، وعاد هو في العربة من حيث أتى. فلما وصل إلى محطة السكة الحديدية، تذكر ما فكر فيه أمس من السفر إلى الإسكندرية، وخشي أن تعاوده الحمى بعد الظهر فتقعده عن تحقيق هذه الرغبة، فهبط من العربة ونقد سائقها أجره، ثم دخل المحطة فابتاع تذكرة سفر إلى الإسكندرية، ثم اشترى بعض الصحف وجلس يتسلى بمطالعتها في القطار.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/11/
قلبان يحترقان
كانت سعيدة منذ مرض سلمى تبالغ في التقرب إليها والتظاهر بالتفاني في خدمتها، وهي على يقين من أن مرضها ليس إلا نتيجة لانقطاع سليم عن زيارتها. وكانت تتوقع أن تكاشفها سلمى بأمرها بعد أن وثقت بها، وحينئذٍ تنتهز الفرصة لتحملها على إغفال شأن سليم وقطع علاقتها به إلى الأبد، لتمهد بذلك لتحقيق رغبة سيدتها وردة في تزويجه بابنتها إميلي. على أن سلمى رغم ثقتها بسعيدة واستئناسها بالتحدث معها بقيت حريصة على كتمان أمرها مع سليم، ومضت الأيام وسعيدة لا تجد الفرصة للتحدث معها في شأنه. فلما جاء سليم وأعطاها ذلك الخطاب لتسلِّمه لسلمى، خشيت أن يكون فيه ما يعيد العلاقة بين الحبيبين إلى ما كانت عليه من الصفاء، ولا يبقى لها بعد ذلك سبيل إلى النجاح في مهمتها، فلما عادت إلى المنزل، أبقت الخطاب معها دون أن تسلمه لسلمى. ثم غادرت المنزل بعد قليل، وتوجهت مسرعة إلى منزل داود صديق سيدتها وردة لكي تطلعه على ذلك الخطاب وتستشيره فيما تصنع به. ولاحظت سعيدة على داود دلائل القلق والارتباك منذ وقعت عيناها عليه بعد وصولها إلى منزله، وسألته في ذلك فقال لها: «نعم إني في قلق شديد، لأني تلقيت الآن خطابًا من الإسكندرية بوساطة البريد، فلما فضضته وجدته موجهًا إلى سليم من والدته، تدعوه فيه إلى موافاتها في الإسكندرية في أقرب وقت مستطاع.» فقالت سعيدة: «إن سيدتي وردة هي التي تكتب بخطها خطابات والدة سليم، فهل هذا الخطاب ليس بخطها؟» قال: «إنه بخطها من الداخل والخارج كالمعتاد، وهذا هو الذي يقلقني.» فلم تفهم سعيدة مراده واستوضحته الأمر فقال لها: «إنني أخشى أن تكون سيدتك قد كتبت خطابين في وقت واحد، أحدها لسليم باسم والدته وهو هذا الذي تلقيته الآن، والآخر لي لكنها أخطأت أيضًا ووضعته في الظرف الذي كتبت عليه عنوان سليم. ولعل فيه من الأسرار ما كان يجب ألا يعلم به سليم.» فقالت سعيدة له: «هذه ظنون ووساوس لا ينبغي الاسترسال فيها، ولن تمضي أيام معدودة حتى يتضح الأمر ونقف على حلِّ هذا اللغز. ومن يدري فلعل سيدتي أرسلت إليك صورة من الخطاب الذي أرسلته إلى سليم باسم والدته لتكون على علم به. وعلى كل حال قد جئتك الآن بما هو أهم، فدع تلك الظنون والأوهام جانبًا؛ لكي تشير عليَّ بما يجب أن أصنعه.» ثم أخرجت الخطاب الذي تسلمته من سليم وقالت: «لقد جاء سليم منذ ساعة في عربة وقف بها قرب منزل سلمى، ثم أرسل السائق يدعوني إليه وسلمني هذا الخطاب كي أسلمه لسلمى يدًا بيد، وحذرني أن أذكر عنه شيئًا لأي أحد سواها. ثم انصرف في العربة التي جاء فيها وعلى وجهه آثار الضعف والانقباض.» فتناول داود الخطاب وفضَّه وأخذ في قراءته، وما أتمه حتى تنهد وتهلل وجهه فرحًا وقال لسعيدة: «لقد ساق إلينا الحظ بهذا الخطاب أكبر خدمة، ولا يكاد يصل إلى يد سلمى وتطلع على ما فيه حتى يتحقق ما نرجوه من نجاح مهمتنا، ولا يبقى هناك أي أمل في عودة العلاقات الودية بين سلمى وسليم.» ثم شرح داود لسعيدة ما تضمنه خطاب سليم، وأعاد الخطاب إليها بعد أن لصق ظرفه كما كان، وأمرها أن تعجِّل بتسليمه إلى سلمى. ••• كانت والدة سلمى قد لاحظت خروج سعيدة من المنزل، فلما وجدت أن غيبتها طالت أكثر من العادة قلقت عليها، وما كادت تراها عائدة بعد ساعة حتى سألتها عن سبب خروجها وغيابها، فتنهدت سعيدة وقالت لها: «إن المخدم أرسل يدعوني إليه، وأخذ يتهددني لأني التحقت بالخدمة في منزلكم دون علمه، فذكرت له أني لا أعمل خادمة عندكم، ولكنكم رثيتم لحالي وعطفتم على شيخوختي فآويتموني في داركم وأوسعتموني برًّا وإحسانًا. لكنه لم يصدقني وعاد يهددني بأنه يعرف كيف ينتقم مني. فلم أعبأ بتهديده، وتركته يسب ويتوعد ورجعت إلى المنزل مسرعة لأكون في خدمة سيدتي سلمى وخدمتكم جميعًا.» فصدقتها والدة سلمى وأعجبت بإخلاصها وحسن تخلصها من المخدم، وقالت لها: «هكذا كل المخدمين، ولكن لا يهمك هذا الأمر.» ثم سارعت سعيدة إلى غرفة سلمى، فوجدتها مضطجعة في سريرها وقد امتقع لون وجهها وذبل جمالها، وعيناها مغرورقتان بالدموع. فأدركت أن هذا بسبب مقاطعة سليم لها وعدم رده على خطابها الأخير إليه، لكنها تجاهلت وأخذت تعتذر من تخلفها عن خدمتها بعض الوقت وتسألها عن صحتها فقالت سلمى: «أشعر بأني أسوأ حالًا مما كنت، والحمد لله على كل حال.» فتظاهرت سعيدة بالتأثر الشديد، ثم أخذت تجاذبها الحديث إلى أن قالت لها: «يلوح لي يا سيدتي أن مرضك ليس كأمراض أكثر الناس.» وتنهدت. فعجبت سلمى من هذه العبارة ونظرت إليها متسائلة، فقالت سعيدة: «لو أنه كان مرضًا عاديًّا لأفاد الدواء في علاجه، ولعله مرض نفساني سببه القلق واضطراب الفكر.» فخفق قلب سلمى وكادت تبكي لانطباق هذا الوصف على حالتها، غير أنها أمسكت نفسها وقالت متجاهلة: «إن الشفاء بيد الله يا خالتي، وما قلقي واضطراب فكري إلا بسبب مرضي.» فمالت سعيدة عليها وربتت وجهها متلطفة وهمست في أذنها قائلة: «لست ألومك على تكتمك يا بنيتي، فهكذا كل الفتيات المهذبات العاقلات. ولكنك لا تجهلين أننا معشر العجائز لنا من خبرتنا وتجاربنا ما ليس لغيرنا. كما أنك تعلمين مدى محبتي لك ورغبتي في سعادتك، فلو أنك كشفت لي سبب قلقك واضطرابك، فقد أستطيع أن أنفعك بمشورتي.» فتنهدت سلمى، وهمَّت بأن تصرح بحقيقة أمرها لسعيدة، ثم غلب عليها حياؤها فأمسكت وسكتت. وانتهزت سعيدة هذه الفرصة فواصلت همسها قائلة: «إن ما يراه الفتيات شيئًا خطيرًا يدعو إلى الحزن واليأس، قد يكون في كثير من الأحيان شيئًا تافهًا لا يدعو إلى شيء من ذلك. وقد طالما وقعنا في مثل ذلك في عهد الشباب، فكانت الدنيا لا تسع إحدانا لفرط فرحها وسرورها حين يصرح لها أحد الشبان بأنه أحبها وعلق بها آماله في المستقبل، ثم تروح على هذا الأساس تبني بخيالها قصورًا عالية، وتكرِّس وقتها كله للتفكير في فتى أحلامها المختار الذي ساقته إليها الأقدار، وما هي إلا أيام أو شهور ثم تنكشف لها الحقيقة، فإذا بها كانت ضحية للوهم والخيال، وإذا بذلك المحب المدنف الولهان قد تخلى عنها لأتفه الأسباب، أو لأسباب مختلقة يلفقها لكي يتخلص من عهوده معها ووعوده لها، ليعيد تمثيل الرواية مع فتاة أخرى.» وكانت سلمى تصغي إلى كلام سعيدة إصغاءً تامًا، وتراه منطبقًا كل الانطباق على علاقة سليم بها. وبرغم ثقتها بإخلاص سعيدة وتعقلها، لم تستطع أن تتغلب على حيائها لتكاشفها بأمرها، واكتفت بتصعيد الزفرات. وفيما هما كذلك سمعتا طرقًا على باب المنزل، فأجفلت سلمى إذ تذكرت زيارات سليم السابقة، وإن كان أملها ضعيفًا في أن يكون هو القادم. وخرجت سعيدة لترى من الطارق. ثم عادت بعد قليل إلى سلمى وقالت لها: «لقد جاءت الآنسة أدما ومعها أبوها وأمها، وهم الآن مع سيدتي والدتك في حجرة الاستقبال.» ثم اقتربت منها وهمست في أذنها قائلة: «وهناك زائر آخر حسبته قدم معهم، ثم تبينت أنه جاء وحده ولم يشأ الدخول بل اكتفى بأن أعطاني خطابًا لأسلمه لك يدًا بيد.» قالت ذلك وهي تخرج خطاب سليم وتتلفت نحو باب الغرفة كأنها تحاذر أن يراها أحد. فجف ريق سلمى في حلقها، وشعرت بأن قلبها يكاد يقفز من موضعه، وطفح العرق غزيرًا من جبينها، وتناولت الخطاب من سعيدة بيد مرتجفة، وقالت لها والدموع تنهمر من عينيها: «إنه من سليم، أليس كذلك؟» قالت: «نعم.» ثم تسللت سعيدة خارجة من الغرفة وأغلقت بابها من الخارج، فأدركت سلمى أنها صنعت ذلك لتتيح لها قراءة الخطاب قبل أن تدخل عليها أدما وأمها لعيادتها. وازدادت إعجابًا بذكائها وتقديرًا لإخلاصها، غير عالمة بما تدبره لها من المكايد في الخفاء. ••• ما كادت سلمى تطلع على خطاب سليم حتى اشتد ضعفها واضطرابها، فبردت أطرافها وأخذتها الرجفة حتى سقط الخطاب من يدها على الوسادة، وطارت الورقة الصغيرة الملحقة به ووقعت على الأرض، وهي الورقة التي وجدها سليم بين صفحات الرواية في منزل حبيب بحلوان، وحسب أنها مرسلة إليه من سلمى. ولم تتمالك عواطفها المهتاجة فانفجرت باكية وأخذت تلطم وجهها قائلة: «وا فضيحتاه! وا أسفاه! ويل للمحتالين الخادعين الملفقين!» وكانت سعيدة واقفة بباب الغرفة من الخارج، فسارعت إلى فتحه ودخلت متظاهرة بالارتياع وهي تقول: «ماذا بك يا سيدتي؟ لا بأس عليك!» فانتبهت سلمى لنفسها، وارتمت على سريرها وهي تواصل التأوه والأنين، فقالت لها سعيدة: «هدئي روعك يا سيدتي وخفِّضي من صوتك حتى لا يسمع في غرفة الاستقبال وفيها والدتك مع أدما وأبويها.» ولكن سلمى لم تستطع إمساك نفسها عن البكاء والعويل لفرط تأثرها، ثم أخذت الخطاب الملقى على الوسادة ووضعته في الظرف دون أن تفطن إلى الورقة الأخرى التي سقطت على الأرض، وبعد أن تأملته قليلًا دسته تحت حشية السرير، ثم تلفتت نحو باب الغرفة فلما وجدته مغلقًا، وسعيدة واقفة بجانب السرير وعليها أمارات التأثر الشديد، استوت جالسة فيه، وأخذت تمسح دموعها وتعض على نواجذها من الغيظ قائلة: «آه يا سليم! أهكذا آخرة الإخلاص والوفاء؟!» فبادرت سعيدة بالانحناء عليها وأخذت تربت وجهها وكتفيها متظاهرة بأنها تغالب الدموع وقالت: «هوني عليك يا سيدتي، إن صحتك في حاجة إلى الهدوء.» ثم جاءتها بكوبة ماء وطلبت إليها أن تشرب قليلًا، ففعلت واضطجعت في سريرها وهي تغالب عواطفها، فهمَّت بها سعيدة وقبَّلتها قائلة: «إن من كانت في مثل عقلك ونضجك لا ينبغي لها أن تنساق مع تيار العواطف، وتقتل نفسها كمدًا وحزنًا.» ثم جلست على حافة السرير عند قدمي سلمى، وواصلت مواساتها والترفيه عنها محاولة خلال ذلك أن تحملها على اليأس من حب سليم، والاعتقاد بأن الشُّبَّان جميعًا لا أمان لهم ولا وفاء. وفيما هما في ذلك طُرق باب الغرفة، ففتحته سعيدة. ودخلت أدما وأمها لعيادة سلمى، وقد عجبا لما لاحظاه عليها من النحول والذبول واصفرار الوجه كأنها مريضة منذ أعوام. فقبَّلتها كلٌّ منهما، ثم جلستا على مقعدين بجانب سريرها، وأخذتا تجاذبانها أطراف الأحاديث عن أعراض مرضها وأسبابه ومدى أثر الدواء الذي وصفه لها الطبيب، وما إلى ذلك، وهي متوسدة لا يظهر غير وجهها من تحت الغطاء. ولاحت من أدما التفاتة إلى ما تحت المنضدة المجاورة للسرير، فوقعت عينها على ورقة يشبه لونها لون الورقة التي كانت قد كتبتها وأرسلتها إلى حبيب في البريد. فخفق قلبها، وانتهزت فرصة خروج سعيدة من الغرفة وانشغال أمها وسلمى بالحديث والتقطت تلك الورقة خفية، فما كادت عيناها تقعان على الخط الذي كتبت به حتى كادت تصرخ من الدهشة والجزع إذ تبينت أنها هي خطابها السالف الذكر إلى حبيب. وصورت لها وساوسها أن حبيبًا هو الذي جاء بخطابها إلى سلمى وتركه عندها، فاشتعل قلبها غيرة، وأنَّبها ضميرها على التسرع بمكاتبة حبيب وعلى تصديق دعواه في الحب والإخلاص. ولم تتمالك نفسها فأخفت الورقة في جيبها، ثم اعتمدت رأسها بيديها وأخذت تجهش بالبكاء. وحسبت أمها أن بكاءها ليس إلا تأثرًا برؤية صديقتها سلمى مريضة. وكذلك اعتقدت سلمى نفسها، فدمعت عيناها والتفتت إلى أدما قائلة: «أتبكين يا أدما؟ لا لا، لا ينبغي أن تبكي. إن حالتي تستحق الرثاء، وأنا أشكر لك عاطفتك الرقيقة هذه. ولكن عليك أن تتجلدي وتصبري فليس في البكاء من فائدة!» فلم تزدد أدما إلا بكاء وغيرة، إذ فهمت من عبارة سلمى هذه ما رجح ظنها. وفيما هي كذلك سمعت طرقًا على الباب الخارجي للمنزل، ثم فتح باب الغرفة ودخلت أم سلمى وخلفها حبيب، فما كادت تراه وهي في تلك الحال حتى علا وجهها الاحمرار، وبردت أطرافها ولم تقوَ على النهوض لتخاذل ساقيها وارتجافها، ولم يكن هو يتوقع أن يجدها هناك فبدت الدهشة في وجهه وارتبك فلم يجد ما يقوله لها، واكتفى بأن حياها تحية خاطفة، ثم انصرف بوجهه عنها إلى سلمى وأخذ يسألها عن صحتها ويواسيها متمنيًا لها عاجل الشفاء. وهنا لم يبقَ لدى أدما شك في أنه لا يحبها، وأنه كان يسخر منها حين أوهمها بذلك، فازداد اضطرابها وغيظها ولم يسعها إلا أن تتحامل على نفسها وتتسلل خارجة من الغرفة والدموع تنهمر من عينيها. ولم تشأ أن تدخل غرفة الجلوس إذ تذكرت أن أباها في انتظارها ووالدتها هناك، وخجلت أن تبدو أمامه وهي في مثل تلك الحال من الجزع والاضطراب، فجلست على مقعد أمام الغرفة، وأطلقت لدموعها العِنان، وقلبها تتنازعه عوامل الحب والغيرة والندم والغيظ وحب الانتقام. وبعد قليل، خرج حبيب من الغرفة ومعه والدة سلمى. ومرا بها دون أن يشعرا بوجودها هناك، وانتحيا ناحية وقفا يتهامسان فيها، فزادها ذلك شكًّا في براءة العلاقة بين حبيب وسلمى. ولم تطق البقاء في مجلسها فنهضت محنقة ودخلت غرفة الجلوس، وجلست متجلدة في ناحية منها تجاه أبيها، دون أن تنبس بكلمة. ولم تمضِ دقائق حتى وافتهما والدتها، ثم والدة سلمى ومعها حبيب، وجلس الجميع يتبادلون الحديث عن مرض سلمى وتمنياتهم لها بعاجل الشفاء. ثم نهض حبيب وانصرف بعد أن حياهم مودعًا. ولاحظت أدما أنه لم ينظر إليها ولم يوجه لها أية كلمة، فتحققت صحة ظنونها واتهاماتها؛ فغلا الدم في عروقها، ولم تستطع صبرًا على كبت غيظها وحزنها، فتظاهرت بتوعك صحتها واستأذنت والديها في أن تسبقهما إلى المنزل لتعتكف وتستريح، ثم حيَّت والدة سلمى وانصرفت مسرعة لا تلوي على شيء. ••• كان حبيب قد وصل إلى منزله في حلوان ومعه والدة سليم، ففوجئا بأن سليمًا غادر المنزل عند الأصيل ليتمشى بعض الوقت في الحديقة العامة، لكنه لم يعد. ونزلت المفاجأة نزول الصاعقة على قلب أمه وعلى قلب حبيب، وعبثًا حاولت والدته وشقيقته أن تهونا الأمر على والدة سليم، وأن تقنعاها بأنه عوفي من مرضه ولعله عاد إلى القاهرة لأمر عاجل يتعلق بعمله ولا يلبث أن يعود. وأخيرًا رضيت أن تنتظر هناك ريثما يعود حبيب إلى القاهرة ويأتي بسليم منها. وسارع حبيب إلى القاهرة، وتوجَّه إلى غرفة سليم فلم يجده فيها، لكنه علم بأنه أمضى فيها الليلة السابقة، فانصرف من هناك إلى البحث عنه، فلم يجده في المكتب ولا في غيره من الأمكنة التي يغشاها. ثم لاح له أن يسأل عنه في منزل سلمى، فمضى إلى هناك وهو في منتهى القلق والاضطراب، وحسبت والدة سلمى أنه جاء ليسأل عن صحتها، وقادته إلى غرفتها كي يعودها، ففوجئ بوجود أدما، ولم يستطع لشدة اضطرابه أن يحسن لقاءها، فتشاغل بالحديث مع سلمى والاستفسار عن صحتها. ثم انتهز فرصة خروج أدما وخرج ومعه والدة سلمى مودعة، فسألها عن سليم ولما علم بأنه لم يزرهم منذ أيام، لم يشأ أن يخبرهم بأمر مرضه واختفائه لئلا يزيد في قلقهم، وزعم أنه يبحث عنه لشأن خاص، ولعله سافر إلى خارج القاهرة لعمل يتعلق بمهنته. ثم غادر المنزل لمواصلة البحث عن سليم وقد اشتد قلقه عليه خشية أن يكون يأسه قد دفعه إلى الانتحار. ولم تكن أدما تدري شيئًا من ذلك كله فتوهمت أن حبيبًا تعمد تجاهلها واتخذت من ذلك قرينة تعزز اتهامها إياه. ولما يئس حبيب من وجود سليم في القاهرة، عاد إلى حلوان راجيًا أن يجده سبقه عائدًا إلى هناك، لكنه ما كاد يصل إلى المحطة حتى لمح والدته ووالدة سليم في انتظار القطار، فسقط في يده. ولم يجد هو ووالدته تعليلًا مقنعًا لاختفاء سليم. وخيل لوالدته أن حبيبًا ووالدته يعلمان سبب اختفاء ولدها لكنهما يكتمانه إشفاقًا عليها، فازداد جزعها ولم تعد تستطيع صبرًا وتجلُّدًا، فأخذت تلطم وجهها وتصرخ مولولة لعظم فجيعتها بفقده، وهمَّت بيد حبيب محاولة تقبيلها وهي تقول: «لا تكتم عني شيئًا، قل إن سليمًا مات أو انتحر. آه يا ولدي وفلذة كبدي! لقد كنت أنا سبب فقدك، فليتني مت قبل هذا، أو ليتني لم أعارض رغبتك.» والتفَّ حولهم جمهور كبير من الهابطين من القطار والصاعدين إليه. واستمرت في لطمها وندبها وعويلها حتى تحرك القطار عائدًا إلى القاهرة فتعلق به حبيب وهو يقول لها: «ها إني راجع إلى القاهرة للبحث عنه ولن أرجع إلا وهو معي إن شاء الله.» ولم يسعْ والدة سليم إلا أن تعود إلى منزل حبيب مع والدته في انتظار ما يكون. ولكنها لم تنقطع عن النواح، ولم ترضَ أن تذوق أي طعام. ••• وصل سليم إلى الإسكندرية وهو في حالة يرثى لها من الضعف والاضطراب، وكان كلما حاول أن يتناسى سلمى وتصور ما وقف عليه من علاقتها بصديقه حبيب هاجت أشجانه وسخط على الحب والصداقة، غير أنه كان لا يلبث قليلًا حتى يعود بذاكرته إلى سابق عهده بسلمى وحبيب، وما لمسه فيهما من التفاني في المودة والوفاء. وهكذا لبث طول الطريق من القاهرة إلى الإسكندرية نهبًا لهذه العوامل المتضاربة حتى كاد عقله أن يطير من رأسه لفرط تحيره وتردده. واستقلَّ عربة أوصلته إلى المنزل الذي تقطنه والدته مع شقيقه فؤاد وقرينته. فلما قرع الباب فتحته خادم لا يعرفها وسألته عمن يريد، فحسب أن والدته وشقيقه انتقلا من ذلك المنزل، وسأل الخادم: «أليس هذا منزل الخواجة فؤاد؟» فقالت: «نعم، ولكنه خرج منذ قليل ولن يعود قبل ساعتين.» فقال لها: «أليست والدته أو قرينته هنا الآن؟» فسكتت قليلًا وهي تمعن النظر فيه، ثم قالت: «إن سيدتي قرينته هنا.» وما أتمَّت جملتها حتى كانت قرينة فؤاد قد جاءت لترى مَن الطارق الذي أطالت الخادم الحديث معه، فلم تعرف سليمًا أول الأمر لشدة ضعفه وتغير هيئته. ثم عرفته فبادرت باستقباله مرحِّبة والدهشة تكاد تعقد لسانها، فدخل المنزل وساقاه لا تقويان على حمله وسألها: «أين والدتي؟ أليست هنا؟» فدعته إلى الجلوس كي يستريح، وقالت له: «إنها سافرت إلى القاهرة لكي تراك، وهذا أنت قد جئت لكي تراها. أليس هذا من عجائب الاتفاق؟» فأخذته الدهشة وقال: «سافرت إلى القاهرة لتراني؟ كيف ذلك؟ ومتى سافرت؟» فقالت: «سافرت الليلة الماضية مع صديقك حبيب.» قال وقد ازدادت دهشته: «أي حبيب؟ هذا غير ممكن! ما الذي يجيء بحبيب إلى الإسكندرية الآن؟» فقالت: «لقد عدنا إلى المنزل مساء أمس أنا وفؤاد، فوجدناه هنا مع والدتك، وعلمنا منه أنك كنت مريضًا وما زلت في طور النقاهة. وبعد أن تناولنا العشاء جميعًا، اصطحب والدتك وعاد بها إلى القاهرة في قطار نصف الليل.» فسكت سليم حائرًا، ولم يستطع الاهتداء إلى سبب مجيء حبيب. وأخيرًا دعته قرينة أخيه إلى النهوض لغسل رأسه وتبديل ثيابه. فنهض لذلك متثاقلًا وهو لا يستطيع إخفاء ما به من الدهشة والشك. وما كاد ينتهي من ذلك حتى عاد شقيقه فؤاد من عمله لتناول الغداء في المنزل. فتعانقا طويلًا، ثم جلسوا إلى المائدة جميعًا، وهم يتبادلون الحديث حول ذلك الاتفاق العجيب، وسليم أشد دهشة لأنه لم يكن يتوقع أن تزوره والدته في القاهرة بعد أن أنذرته بمقاطعته إلى الأبد في خطابها الأخير؛ ولأنه لم يهتد إلى سبب مجيء حبيب إليها دون علمه واصطحابه إياها إلى القاهرة. وبعد الغداء، طلب فؤاد إلى سليم أن يتمدد قليلًا في الفراش للراحة من عناء السفر. فوافق على ذلك لكي يخلو إلى نفسه ويعاود التفكير في الأمر. وقبيل المغرب، دخل فؤاد عليه غرفة النوم لإيقاظه، فإذا بالحمى قد عاودته فارتفعت درجة حرارته، وأخذته الرعشة، وتصبب عرقه غزيرًا. فجلس بجانبه يسأله عما به ويهوِّن عليه الأمر. ثم دعا زوجته وطلب إليها أن تكلِّف السيدة وردة باستدعاء طبيبها المعروف ببراعته لفحص سليم ومعالجته، فسارعت إلى إجابة هذا الطلب. وبعد قليل، عادت زوجة فؤاد ومعها الطبيب وسيدتان لم يعرفهما سليم، فاقتربت كبراهما منه وهي في ثياب تنم عن الثراء والتبرج، وقبَّلته بحنان قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي. لقد جزعنا جميعًا حين علمنا بأنك مريض في القاهرة، وكنت مصرَّة على مصاحبة والدتك في سفرها للاطمئنان عليك.» ثم التفتت إلى الطبيب وكان قد شرع في فحص سليم وقالت له: «أرجو يا دكتور أن تبذل أقصى عنايتك بعزيزنا سليم، فهو عندي في معزة إميلي ابنتي.» قالت ذلك وهي تشير إلى الفتاة التي دخلت معها. فعلم سليم أنها ابنتها، وعجب لمبالغتها في الاحتفاء به، ومعاملته كأنها تعرفه منذ عهد بعيد. وبعد أن انتهى الطبيب من فحص سليم، التفت إلى تلك السيدة وقال: «اطمئني يا سيدتي، إنها حمى بسيطة لا خطر منها، ولكن يحسن أن يصحب تناول الدواء الذي سأصفه الآن، العناية بتبديل الهواء، أو الإقامة بمكان هواؤه نقي منعش مثل منطقة الرمل.» فقالت: «هذا أمر سهل جدًّا يا دكتور، وأنت تعرف أن منزلنا في الرمل يمتاز بحسن الموقع. وبما أن والدته ليست هنا، فإن واجبي أن أقوم مقامها، وسأنتقل معه إلى منزلنا ذاك لأشرف على خدمته وتمريضه حتى ترجع والدته من القاهرة بسلامة الله.» ثم التفتت إلى قرينة فؤاد وقالت لها: «إن منزلي ومنزلكم واحد كما تعلمين، وأنت مشغولة بالأولاد وتربيتهم، أما أنا فأستطيع تخصيص وقتي كله للقيام بهذه المهمة.» فأعجب سليم بلطف تلك السيدة وإخلاصها وكرمها، ثم رآها تودع الطبيب وتشير إلى ابنتها أن تكلف بعض الخدم بإعداد منزل الرمل للانتقال إليه بعد قليل، فخاطبها لأول مرة قائلًا وفي وجهه علامات التأثر الشديد: «إننا جميعًا عاجزون عن شكرك يا سيدتي، وليس في الأمر ما يدعو إلى تعجيل الانتقال.» فقالت له: «إنني لم أقم إلا ببعض الواجب عليَّ، فوالدتك أعز عليَّ من أخت شقيقة، وأنت عندي بمنزلة وحيدتي هذه (وأشارت إلى ابنتها إميلي). وكن على يقين من أن وجودك عندنا هو أسعد ما نتمناه. ومتى عادت والدتك بالسلامة فستخبرك كما يخبرك عزيزنا فؤاد وقرينته بأنه ليس بيننا أي تكليف.» ولم يَسَعْ فؤاد وقرينته إلا أن يشكراها بدورهما على صدق مودتها ومروءتها، تاركين أمر الانتقال أو البقاء لرغبة سليم، فقال موجهًا الكلام إلى وردة: «إنني ولا شك يسعدني أن ألبي هذه الدعوة الكريمة المشكورة، ولكني الآن ما زلت في نوبة الحمى، وربما كان في الانتقال ما يزيد وطأتها، فننتظر إلى غدٍ، ثم يفعل الله ما يشاء.» فقالت وردة: «لقد سألت في ذلك صديقنا الطبيب، فأكَّد لي ألا خطر من الانتقال الآن على أن يكون في عربة مغلقة.» ثم التفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هل كلفت الخدم بإعداد منزل الرمل؟» فقالت: «نعم، وقد ذهب أحدهم لإحضار مركبة مغلقة حسب أمر الطبيب.» ثم أطرقت وقد توردت وجنتاها خفرًا وحياءً. فلم يجد سليم وجهًا للمعارضة، وسكت متنهدًا إذ ذكرته رؤية إميلي بسلمى وما كان من إعجابه بكمالها وأدبها وحيائها. وكادت الدموع تنحدر من عينيه تأثرًا لولا أن جاء أحد خدم وردة وقال لها: «إن المركبة بالباب يا سيدتي.» فنهضت، وتعاون الجميع على توصيل سليم إلى المركبة وإدخاله فيها، حيث جلس بين شقيقه فؤاد والسيدة وردة، وسارت المركبة، وخلفها مركبة أخرى فيها إميلي وزوجة فؤاد. وبعد حوالي نصف ساعة وقفت المركبتان أمام منزل جميل فخم، يقع على مرتفع مشرف على البحر، فنزل الجميع ودخلوا وسليم بينهم، حيث جلسوا بعض الوقت في غرفة فخمة الأثاث والرياش معدة للاستقبال، ثم أشارت وردة بالانتقال إلى الغرفة التي خصصت لنوم سليم، فانتقلوا إليها، وأمضوا وقتًا آخر محيطين بسريره، يلاطفونه بمختلف الأحاديث، ما عدا إميلي فقد بقيت ساكتة يبدو عليها الاستحياء، وإن لاحظ سليم أنها تختلس النظر إليه بين آونة وأخرى ثم تعاود إطراقها أو تتشاغل بالإشراف على أعمال الخدم وهم يعدون العشاء. وأخيرًا، انصرف فؤاد وقرينته عائدين إلى منزلهما بعد تناول العشاء. ولم يبقَ مع سليم في غرفته سوى وردة وابنتها، وكانت نوبة الحمى قد زايلته وشعر بتجدد قواه، فأخذ يسرِّح طرفه في الأفق من النافذة المطلة على البحر أمامه، متحاشيًا النظر إلى إميلي كيلا يزيد في خجلها، ولئلا يثير أشجانه بتذكر سلمى. وفيما هو في ذلك نهضت وردة من مقعدها بجانب السرير، وأمسكت زجاجة الدواء الموضوعة على منضدة فخمة تحت النافذة المذكورة، فصبَّت قليلًا منها في قدح، وعادت تحمله إلى سليم، فتناوله من يدها وشرب ما فيه ثم رده لها شاكرًا، فقالت: «إذا شئت أن تزيد في سعادتنا وسرورنا لوجودك معنا، فلا تعد مرة أخرى إلى مثل هذه العبارات. فأنت هنا في منزلك مع والدتك وشقيقتك، وليس عليك إلا أن تأمر وعلينا السمع والطاعة.» فاغرورقت عيناه بالدموع لفرط تأثره بهذه المجاملة، ولاحظت إميلي أن العرق يتصبب من وجهه، فنهضت وجاءت بمنديل كبير من الحرير الأبيض، وأخذت تمسح به وجهه في ترفق وحنان، فضاعف هذا تأثره ولم يستطع إمساك دمعة انحدرت على خده، وخشي أن يتكلم ليشكرها فتخنقه عبراته، فاكتفى بأن ضمن نظراته إليها كل معاني الشكر والاعتراف بالجميل، ثم عاد إلى تحاشيه النظر إليها لِما لاحظه من ازدياد خجلها حتى تضرجت وجنتاها بالحمرة. على أنها ما لبثت قليلًا حتى جاءت بمروحة لطيفة ووقفت تروِّح بها على وجهه، فاحمر وجهه هو حياءً، ونظر إليها وعلى فمه ابتسامة الشكر قائلًا: «لا داعي لتعبك يا عزيزتي.» فقاطعته والدتها قائلة: «إن إميلي بمنزلة شقيقتك، فدعها تقم بالواجب عليها؛ لأن هذا يسعدها ولا شك.» ولم يسعه إلا السكوت، وأخذ يصغي لما تحدثه به وردة عن علائق المودة الخالصة التي تربطها وابنتها بوالدته، وعن تمنياتهن الطيبة المشتركة له قبل رجوعه من القاهرة، بينما قلبه يخفق بشدة، ولا سيما حين كانت تحين منه التفاتة إلى إميلي وهي تروح له فتقع عيناه على يدها البضة تزينها الأساور الذهبية المرصعة بالماس، أو على وجهها المتورد وقد ازدادت حمرته خجلًا من نظراته، وتأثرًا بحركة يدها المستمرة في الترويح له. وكانت صورة سلمى تراود خياله خلال ذلك، فلا يسعه إلا أن يجاهد نفسه كي يبعدها، مستنكفًا أن يفسح لها مكانًا بجانب صورة إميلي التي أَسِرتْه بتواضعها ولطفها وتفانيها في خدمته رغم أنه لم يرها من قبل. ومضى الوقت دون أن يشعر بمضيه إلا حين دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، فأراد أن يستأذنهما في أن تتركاه مشكورتين لينام، لكنه خجل وسكت. وإذا بإميلي تقول: «أظن أنه يستحسن أن نتركك الآن لتأخذ حاجتك من النوم؟» فأعجب بفطنتها وظَرفها وقال: «الواقع أني لا أريد أن تفارقاني لحظة واحدة، ولكني أشعر بأني أتعبتكما كثيرًا.» فافترَّ ثغرها عن ابتسامة كبيرة ونظرت إليه وقالت: «إننا لم نشعر بأي تعب، بل شعرنا على عكس ذلك بمنتهى الغبطة والسعادة لاطمئناننا على صحتك. ولولا خشية أن يثقل عليك وجودنا أثناء نومك، ما فارقناك قط. على أننا سنبقى قريبًا منك في الغرفة المجاورة.» ثم أشارت وردة إلى إميلي فنهضت وعاونتها على تنظيم سريره وتغطيته ثم همَّت به فقبَّلته وقالت: «تصبح على خير يا بني.» وخرجت تتبعها إميلي. وقبل أن تغلق هذه باب الغرفة خلفها، تريثت قليلًا وهي تنظر إليه، فلما نظر إلى هذه الجهة وتلاقت نظراتهما ابتسمت له وأحنت رأسها مودعة، ثم أغلقت الباب بهدوء.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/12/
حب جديد
استيقظ سليم في صباح اليوم التالي، بعد نوم عميق مريح، وقد شعر بأنه استعاد صحته. وما كاد يفتح عينيه حتى وقعتا على إميلي وهي واقفة بجانب سريره، وهي بثياب البيت، وفي يدها المروحة التي تروِّح له بها. فلما تلاقت نظراتهما ابتسمت له وقالت: «صباح سعيد يا عزيزي. كيف حالك الآن؟» فاحمر وجهه حياءً، واستوى جالسًا في السرير، ثم مدَّ يده وأخذ المروحة من يدها قائلًا: «سعد صباحك يا عزيزتي، إنني ما عشت لن أنسى لك ولوالدتك العزيزة هذا الجميل.» ثم أطرق وتشاغل بالترويح على وجهه بيده. فإذا بإميلي تمسك يده في ترفق وتلطُّف وتقول وعيناها تلمعان ببريق ساحر جذاب: «أترى يدي كانت ثقيلة عليك؟» ثم ضغطت يده بخفة ورشاقة وهي تبتسم، فتمشت الرعدة في مفاصله وتسارعت دقات قلبه، وعادت به ذاكرته إلى اليوم الأول لتبادله الحب مع سلمى، فوجم وخشي أن يكون قد نجا من شر ليقع في شر أعظم، فلم يسعه إلا جذب يده من يدها بلطف، وأطرق ساكتًا والهواجس تتقاذفه. فاشتد احمرار وجهها، وبدت فيه آثار الخجل والكدر معًا، وتأخرت خطوة إلى الوراء وساقاها لا تقويان على حملها لفرط تأثرها. فأثَّر في نفسه ضعفها وأَنِف أن يسيء إليها وإن لم يقصد ذلك بعد أن أحسنت إليه وسهرت هي وأمها في رعايته وخدمته، وبالغتا في إكرامه والعطف عليه. فمد يده وأمسك يدها وضغطها مترفقًا وقال بصوت مختنق: «إنني لن أنسى يدك ما دمت حيًّا.» فنظرت إليه في عتاب وقالت هامسة: «ولماذا رفضتها إذن؟» فقال: «أنا أرفض يدك؟ وهل مثل هذه اليد يقدر على رفضها أحد؟» فتوردت وجنتاها، واغرورقت عيناها بالدموع وانكسرت أهدابها ثم رفعت عينها ورمقته بنظرة نفاذة مؤثرة وقالت: «أرجو ألا تندم على أنك طلبتها بعد أن رفضتها.» قالت هذا وركَّزت نظراتها في عينيه منتهزة الفرصة السانحة لإيقاعه في شباكها. فقال متلعثمًا: «حاشا وكلا، ولكني أخشى ألا أكون أهلًا لبلوغ هذه الغاية.» ثم فطن إلى أنه أوشك أن يقع في الحب مرة أخرى، وهو ما زال يعاني آثار الحب الأول. فأمسك عن الكلام متظاهرًا بأنه يشعر بصداع خفيف، وفطنت هي بدورها إلى قصده، لكنها تجاهلت وسارعت إلى إحضار دواء مسكِّن أذابت قليلًا منه في ملء نصف كوب من الماء، وقدَّمته له في أدب ودلال يشوبه الحياء، فشربه ثم شكرها بلسانه بعد أن شكرها بعينيه وبلمس يدها وهو يرد إليها الكوب بعد تناول الدواء. وبعد قليل جاءت والدتها فحيَّته تحية الصباح، وقالت: «إنني أحمد الله على أن استجاب دعواتي لك طول الليل، فهذا أنت قد أصبحت معافًى بادي النشاط والمرح.» ثم التفتت إلى إميلي ابنتها وقالت لها: «أليس كذلك يا إميلي؟» فقالت: «صدقت يا والدتي وقد صرَّحت له بهذه الحقيقة منذ قليل، لكنه لم يصدقني إلا بعد أن أظهرت له استعدادي لأن أقسم له مؤكدة ذلك.» ونظرت إلى والدتها بطرف عينها. ففهمت وردة أن ابنتها بدأت تطبيق التعليمات التي أصدرتها إليها لاجتذاب سليم، غير أنها تظاهرت بالسذاجة والبساطة وهمَّت بسليم فقبَّلته وقالت: «إننا نشكر الله على أن هيَّأ لنا هذه الفرصة الطيبة للنيابة عن الصديقة العزيزة الكريمة السيدة والدتك.» ثم ضحكت بصوت مرتفع وقالت: «أي فرحة عظيمة ستغمر قلبها حين تراك اليوم بعد عودتها من القاهرة. ولا شك في أن فرحتها ستكون مضاعفة حين تجدك في منزلنا هذا. لكن قل لي يا عزيزي سليم: هل جئت من القاهرة إجابةً لطلبها في خطابها الأخير، أم أن هذا الخطاب لم يصل إليك.» فشعر بأنها تسأله هذا السؤال الأخير، لتلهيه عن صوغ عبارات الشكر بالإجابة عنه. وأعجب كل الإعجاب بنبلها وأريحيتها، ولم يسعه إلا أن ينزل على رغبتها الكريمة، فقال: «لم أتلقَّ خطابها هذا مع الأسف لأني كنت في حلوان وجئت إلى هنا دون أن أمر بالبريد لتسلُّم الخطابات الواردة إليَّ. ويا حبذا لو كتبت إلى إدارة البريد الآن كي ترسل إليَّ خطاباتي إلى هنا!» فقالت: «حسنًا تفعل!» ثم أشارت إلى إميلي، فغادرت الغرفة في خفة ورشاقة وهدوء، وعادت بعد قليل ومعها دواة وقلم وأوراق، فوضعتها على المنضدة ثم قرَّبتها إلى سليم وعادت إلى وقفتها بالقرب منه والمروحة في يدها استعدادًا للترويح له، فنظر إليها وابتسم، ثم أمسك القلم وكتب خطابًا بذلك المعنى إلى إدارة البريد في القاهرة ووضع الخطاب في الظرف ثم عاد فأخرجه، وناوله لإميلي قائلًا: «هل لك أن تُسدي إليَّ يدًا أخرى بكتابة عنوان المنزل هنا؟» فقربت وجهها من وجهه وأخذت تملي عليه العنوان في همس رقيق ود لو أنه لم يَنْتَهِ. وما أتمَّ كتابة العنوان حتى سارعت إميلي إلى تناول الخطاب من يد سليم، ثم أرسلته مع أحد الخدم، ليضع عليه طابع البريد ثم يضعه في أقرب صندوق للخطابات البريدية. ووقفت تشرف على بقية الخدم وهم يعدون طعام الإفطار، فلما انتهوا من ذلك وأعدت المائدة انتقل إليها سليم وجلست إميلي أمامه ووالدتها عن يمينه وأخذوا في تناول الطعام وتبادل مختلف الأحاديث. ••• عاد سليم وإميلي ووالدتها إلى الغرفة المخصصة لنومه؛ لكي يستريح قليلًا بعد الغداء. وفيما هم هناك جاء أحد الخدم مهرولًا يقول: «لقد حضرت السيدة والدة سيدي سليم.» فخفق قلب سليم وارتعدت فرائصه وأخذته الحيرة فلم يدرِ أي شيء يفعل. على أن حيرته لم تطل فسرعان ما دخلت والدته راكضة. وما كاد نظرها يقع عليه وهو يهم بالنهوض من الفراش لاستقبالها حتى أسرعت ورَمَت بنفسها عليه محتضنة إياه، ثم ما زالت تعانقه وتقبِّله ودموعها تتساقط من عينيها، حتى شعر ببرودة يدها وتصبب العرق منها وهو يقبِّلها فرفع وجهه إلى وجهها وذراعاها حول عنقه فإذا به يجدها مسبلة العينين، ورأسها يترنح للسقوط، فهمَّ بها ومددها على السرير، وبادرت وردة وإميلي فرشتا وجهها بالماء. فلما أفاقت وانتبهت لنفسها ولمن حولها عادت إلى معانقة سليم وتقبيله وهي تواصل البكاء والشهيق قائلة: «آه يا ولدي! آه يا حبيبي! أهكذا تترك حلوان والقاهرة دون أن تخبر أحدًا. ولقد بحثنا عنك هناك في كل مكان يمكن أن تكون فيه، وكاد قلبي يحترق جزعًا وتلهفًا عليك، ولولا أن جاءني صباح اليوم خطاب أخيك فؤاد فاطمأن قلبي عليك ما قدِّرت لي الحياة حتى الآن.» فهمَّ سليم بيديها فقبَّلهما كما قبَّل رأسها وقال: «كنت متضايقًا من مرضي إلى أبعد حد. وعلى أية حال أنا أعتذر إليك وأحمد الله إذ أراني وجهك الكريم. ولا يفوتني أن أخبرك بأن ما كنت أشعر به من المرض والهم قد زال والحمد لله، والفضل في ذلك يرجع أولًا إلى كرم أهل هذا المنزل ولطفهم وتواضعهم وتحملهم التعب في سبيل راحتي ومعالجتي.» فهمَّت والدته بوردة وإميلي فقبَّلتهما شاكرة ما أبديتاه من المودة والعطف والعناية بولدها وفلذة كبدها. وعادت إميلي فقبَّلت يد والدة سليم بخشوع. ثم جلس الجميع يتحدثون ويضحكون فرحًا مستبشرين باجتماع الشمل، وإميلي أشدهم فرحًا لوثوقها من أن حيلتها قد انطلت على سليم. ••• كان سليم منذ علم بوصول والدته قد هاجت أشجانه وتذكَّر عقوقه إياها ومخالفته نصيحتها من أجل سلمى التي تبيَّن فيما بعد خيانتها وخداعها، وحدثته نفسه أكثر من مرة بأن يخاطب والدته في هذا الشأن ويستغفرها عمَّا سبب لها من المتاعب والأكدار. على أنه آثر أن يؤجل ذلك إلى أن يخلو إليها، فلم تُتَحْ له فرصة لذلك إلا عند فجر اليوم الثالث، أو بعده بقليل حين استيقظ من النوم بعد سهرة طويلة، فإذا يجدها جالسة إلى جواره وهي ترتب شعره وتنظم غطاءه، فنهض وقبَّل يديها وجلس يجاذبها أطراف الحديث إلى أن قال: «كم أنا نادم يا أماه على ما فرط مني وعلى ما سببته لك من التعب والكدر بحماقتي وجهلي!» فأدركت أنه يعني إصراره على خطبته سلمى، وقالت له: «لا بأس عليك يا بني، إن أول ما يهمني الآن هو أن أراك في خير صحية وعافية، على أن معارضتي لك لم تكن إلا عن جهل مني أيضًا، فقد كنت أظن أنك وقعت في حب تلك الفتاة مخدوعًا بمكرها ودهائها، وأن إصرارك على خطبتها ليس إلا استنكافًا منك أن تُخلف ما وعدتها. ولكن لما أخبرني حبيب بجلية الأمر، وأكد لي أنك لم تحبها وتصر على خطبتها إلا بعد طول روية واختبار، لم يسعني إلا السفر معه إلى القاهرة لأطمئن على صحتك، ولأخبرك بأني راضية بأي فتاة تختارها.» فلم سمع سليم حديث والدته عن حبيب وسلمى تحقق خيانتهما لأن معارضة والدته خطبة سلمى لم يكن لحبيب علم بها، فلا بد من أن تكون سلمى هي التي أطلعته عليها وطلبت إليه أن يسافر إلى الإسكندرية ويقابل والدته لإقناعها بالعدول عن معارضتها. غير أنه لم يصرح لوالدته بذلك حتى لا يصغر في عينيها واكتفى بأن قال لها: «إن علاقتي بتلك الفتاة أصبحت في خبر كان. وثقي بأني لن أعود إليها أبدًا، وإنني باقٍ بجانبك هنا في الإسكندرية، ولن أخطو أية خطوة في سبيل الخطبة أو الزواج إلا بمشورتك.» فعجبت والدته من أمر هذا الانقلاب الغريب، ولاح لها أنه يجاريها بما قاله ابتغاء مرضاتها، فقالت له: «على أية حال، كن على يقين من أني لم أقل لك إلا الحق، وإنني موافقتك على كل ما تقرره في شأن زواجك، فإذا كنت تريد خطبة سلمى فأنا على استعداد لأن أخطبها لك بنفسي وأكون لها خادمة بقية حياتي إكرامًا لك.» فقال: «حاش لله يا أماه! إنما أنا وأية فتاة تختارينها زوجة لي رهن إشارتك وطوع بنانك، وأكرر لك أن علاقتي بسلمى قد انقطعت تمامًا ووطدت العزم على ذلك.» فقالت: «على كل حال، أنت الآن ما زلت في طور النقاهة من مرضك، ومتى تم شفاؤك بإذن الله، نعود إلى بحث هذه المسألة، ولا يكون إلا ما ترضاه.» وكانت الشمس قد أشرقت واستيقظت وردة وإميلي، فجاءتا للسؤال عن صحة سليم، وجلستا بجانب والدته تهنئانها بتماثله للشفاء، وتتسابقان إلى إرضائهما بمختلف الوسائل. ••• بقيت إميلي حتى موعد الغداء وهي تترقب أن تسنح لها فرصة تخلو فيها إلى سليم لتستأنف معه حديث الأمس وتتم حيلتها لاجتذابه إليها وحمله على المبادرة بخطبتها. ولكنها لم تتمكن من ذلك لأن والدته لبثت مرابطة بجانب سريره لم تفارقه لحظة واحدة. وبعد الغداء، أوى الجميع إلى الفراش للقيلولة، وحاولت إميلي وأمها إبعاد والدة سليم من غرفته إلى غرفة نومها، على أن تتسلل إميلي خلال ذلك إلى غرفته، ولكنها لم تغادر غرفته إلا بعد أن رأته يتثاءب والنوم يداعب جفنيه. وما كادت تخرج حتى نهض من سريره وأغلق باب الغرفة من الداخل ثم عاد إلى السرير واضطجع فيه، ثم أطلق لنفسه عِنان التفكير في أمره، وقد شعر بأن إعجابه بإميلي ليس إعجابًا عاديًّا، ولكنه أقرب ما يكون إلى الحب أو الشروع فيه. وفيما هو كذلك سمع طرقًا خفيفًا على باب الغرفة، فنهض وفتح الباب فإذا بإميلي هي الطارقة وبادرته قائلة في دلال: «عفوًا يا عزيزي، إذا كان في وجودي هنا الآن ما يثقل عليك.» فتلجلج ولم يدر كيف يجيب، ولاحظت هي من نظراته ثم إطراقه وسكوته ما بشَّرها بنجاح الخطوات الأولى من تدبيرها المشترك مع والدتها. فأرادت انتهاز هذه الفرصة لإتمام الخطوة الباقية ودخلت الغرفة متظاهرة بتبديل أغطية السرير بنفسها دلالة على شدة عنايتها براحته، لكنها ما كادت تنتهي من ذلك وتهم بالجلوس على أقرب مقعد من السرير، حتى جاء أحد الخدم، وقدم مجموعة من الخطابات ذاكرًا أنها جاءت في بريد الصباح، وفاته أن يأتي بها إليه حينذاك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/13/
فصل الخطاب
أخذ سليم يقلب ظروف الخطابات الواردة إليه، فوقعت عينه على ظرف من بينها عرف لأول وهلة أنه بخط سلمى، فبغت وخفق قلبه. لكنه تجلَّد حتى لا تلاحظ إميلي تأثره واضطرابه، ثم تظاهر بحاجته إلى النوم، ووضع الخطابات كلها دون أن يفضها على المنضدة التي بجانب السرير، فانطلت حيلته على إميلي، ونهضت للانصراف وانتظار فرصة أصلح لاستئناف حديثها معه على حدة. ورأى هو أن يطيب خاطرها بكلمة تنمُّ عن مبادلتها مثل شعورها نحوه فقال لها: «يلوح لي أني سأكون في المساء أشد حاجة إلى يدك اللطيفة يا عزيزتي.» فخفق قلبها ونظرت إليه لترى ماذا يقصد بهذه العبارة، فإذا به يبتسم وينظر إليها بطرف عينه كأنه يعجب من أنها لم تفهم مراده، ثم قال لها: «سأحاول بعد النوم قليلًا أن أقرأ هذه الخطابات التي جاءتني من القاهرة، ولا شك في أن الرد عليها بخط يدك سيكون أسرع وأبدع، ولا سيما أن يدي ما زالت ضعيفة من أثر المرض. فما قولك؟» فابتسمت وقالت: «إني رهن إشارتك، ويسعدني جدًّا أن أتولى عنك هذه المهمة.» ثم استأذنت وانصرفت إلى حيث انضمت إلى والدتها ووالدته في الغرفة المجاورة وجلسن يقطعن الوقت بالحديث متهامسات، مبالغة في توفير الهدوء والراحة لسليم. قرأت خطابك الأخير أكثر من عشرين مرة، لعلي أستطيع أن أهتدي إلى تعليل معقول لما تضمنه من تهم خطيرة وأدلة ومستندات ملفقة، ولكني لم أجد سببًا يمكن الركون إليه إلا أنك رغم ذكائك تورطت في تصديق بعض الحساد وذوي الأغراض. وقد حاولت أكثر من مرة أن أُرجع تلك الاتهامات الباطلة إلى رغبتك في التخلص مني لحاجة أخرى في نفسك، ولكني تذكرت أني صرَّحت لك في خطابي الأخير بأني وإن كنت لم أحب ولن أحب سواك، لا يسعني إلا أن أضحي بسعادتي كلها مادامت تتعارض مع ما يجب عليك لوالدتك الحنون من طاعة وبر وإحسان، فأحللتك من عهودك لتكون حرًّا تخطب وتتزوج ممن ترضى عنها والدتك. فهل جزاء من تقدم على مثل تلك التضحية أن تتهمها بالخيانة والغدر والنفاق؟ وليت شعري كيف رضيت لنفسك، وأنت رجل صناعتك المحاماة وتمييز الحق من الباطل، أن تعدل عما كنت تعتقده فيَّ من الطهر والإخلاص، ثم ترميني بشر ما تُرمى به فتاة، لا لشيء إلا أن رجلًا لا تعرفه زعم لك أني أوقعته في حبي ثم اكتشف أني عالقة القلب بصديق لك كنت تُنزله منزل الأخ الشقيق؟ وأخيرًا، ما هذه الورقة التي ذكرت أنها وقعت في يدك اتفاقًا، فكانت صك خيانتي ودليل مكري وخداعي وتضليلي؟ إنني لا أريد أن أصدق أبدًا أنك عنيت ما قلت عن هذه الورقة ولا عن ذلك الصديق، فأنا لم أكتب هذه الورقة ولا علم لي بشيء مما فيها، بل أنا لم أكتب طوال حياتي أي خطاب لرجل سواك. وقد عرضت جميع أصدقائك الذين أعرفهم فلم أجد بينهم أحدًا يمكن أن يصدق فيه ذلك الاتهام! وأخيرًا، قُدِّر لي أن أقف على حقيقة كنت أجهلها وهي أنك اعتزمت خطبة فتاة من أهل الإسكندرية، وصدقني يا سليم إنني لم أحقد على هذه الفتاة قط، بل على عكس ذلك دعوت الله أن يبارك لها فيك ويبارك لك فيها لتعيشا سعيدين بمنجاة من متاعب الوشاة والحساد. وليس هذا لأني لم أتيقن بعد من أنك رميتني بتلك التهم الكاذبة وأنت على يقين من كذبها؛ ولكن لأني رغم ذلك كله ما زلت أرى قلبي أطهر وأنبل من أن ينبذ حب أول من طرق بابه وتربع فيه. ومهما يكن من أمر، فلا تحسب أني أكتب إليك هذا الخطاب طامعة في أن تعود إلى ما كنا فيه، أو لأحملك على الندم والأسف لمقابلة تضحيتي وإخلاصي بالجحود والنكران وتلفيق التهم والأباطيل؛ ذلك لأني وطدت العزم على اعتزال العالم، وقضاء ما بقي لي من العمر في دير أو صومعة أتعبد فيها لخالقي وهو الخبير بما تكنُّ الجوانح والصدور، وإليه ترجع الأمور. لم يأتِ سليم على آخر خطاب سلمى حتى هاجت عواطفه وتناثر الدمع من عينيه، وأخذ يعيد قراءته في تدبر وإمعان، ثم تذكَّر ما لمسه في سلمى من صدق المحبة والوداد وكمال الخلق والعقل، ثم يقارن ذلك بالأسباب التي بنى عليها اتهامها واتهام حبيب، فلاح له أنه ظلمهما، وأن داود القبيح الوجه لا يمكن أن تحبه فتاة مثل سلمى، كما أن دعواه ضدها وضد حبيب، باعترافه هو نفسه، ليس في يده عليها أي دليل! وأخذ يتذكر الورقة التي وجدها في رواية حبيب، فلاح له أيضًا أن خطها مختلف عن خط سلمى قليلًا. فاستبدت به الوساوس وبقي وقتًا غير قصير وهو شارد الذهن حائره. ثم أفاق من ذهوله وهمَّ بقراءة خطاب سلمى مرة أخرى، لكنه أشفق على رأسه أن يتصدع من تضارب العوامل المختلفة فيه، فطواه ووضعه في جيبه، ثم تناول من بين الخطابات خطابًا آخر كُتب بخط يشبه الخط الذي كتبت به خطابات والدته إليه، فتذكر أن السيدة وردة أخبرته بأن والدته كانت قد أرسلت إليه خطابًا طلبت إليه فيه الحضور من القاهرة. وما كاد يفضه ويقرأ أول سطر فيه حتى أخذته الدهشة، إذ وجد أنه موجَّه إلى شخص آخر سواه. فأعاد النظر إلى العنوان المكتوب على الظرف فإذا هو عنوانه كاملًا غير منقوص. بعد السؤال عن صحتك الغالية، نخبرك بأننا تلقينا خطابك الذي أرسلته عقب وصولك إلى القاهرة، وسررنا كثيرًا لنجاح حيلتك اللطيفة مع الشخص المعروف، حتى إنه صدَّق الحكاية التي اخترعتها عن خيانة الفتاة، وبدت في وجهه أمارات الغيظ والقلق. كما أننا تلقينا خطابك التالي الذي بشرتنا فيه بنجاح سعيدة في سرقة الخطاب الذي أرسلناه إليه باسم والدته محذرة إياه أن يستمر في علاقته بالفتاة وتتهمها وأسرتها بالمكر والخداع. ثم نجاح سعيدة في إطلاع الفتاة على ذلك الخطاب، الأمر الذي أثارها وحملها على مقاطعته وإحلاله مما بينهما من العهود. ولكن مضت مدة غير قصيرة دون أن تتلقى أم صاحبنا أي رد على خطاباته إليه، وأنت تعلم أن الانتظار يكلفنا مشاق ونفقات جسيمة في التقرب إلى والدته وغير ذلك، ولولا أن إميلي ميالة إليه ما تكبدنا كل ذلك العناء. وعلى كل حال أخبرك بأنني أغريت والدته بالكتابة إليه لكي يحضر إلى هنا. وقد كتبت بنفسي مع خطابي هذا إليك خطابًا إليه على لسانها، فعليك أن تستمر في مراقبته لترى ما يصنع بعد أن يتلقى خطاب والدته المذكور. ولك أزكى تحياتي وأشواقي وحبي … انقشعت الغشاوة بعد ذلك عن عيني سليم، ووقف على سر المؤامرة التي دبرتها وردة مع داود وسعيدة للتفريق بينه وبين سلمى. ولم يتمالك عواطفه بعد ذلك، فانهمرت دموعه حزنًا وندمًا على ما جعله يفرط في حق سلمى ويتهمها ظلمًا وعدوانًا. ثم انقطع فجأة عن البكاء وأخذ في الضحك بصوت عالٍ فرحًا بظهور براءة سلمى وحبيب، ونجاته من الفخ الذي نصبته لإيقاعه وردة وصاحبها اللعين داود. وفيما هو كذلك، دخلت عليه والدته، فما كاد يراها حتى قال لها: «أغلقي باب الغرفة من الداخل وتعالي.» فعجبت لذلك الطلب، ولكنها أغلقت الباب وسارعت إليه متسائلة، فأشار إليها أن تجلس بجانبه على السرير. ثم أخذ يشرح لها هامسًا جميع الأسرار التي وقف عليها، ومؤامرة وردة من أولها إلى آخرها، فكادت لا تصدقه لغرابة الأمر ولطيبة قلبها، لولا أن قرأ عليها كتاب وردة التي أرسلته بخطها إلى داود ثم أخطأت ووضعته في الظرف الذي كتبت عليه عنوانه هو لتضع فيه الخطاب الآخر الذي كتبته باسمها إليه. واغرورقت عينا والدة سليم بالدموع وقالت: «ويل لكل خائن غدار! وويل لي أنا أيضًا لأني كنت سببًا لشقاء سلمى المسكينة! ولكن عذري أني كنت مخدوعة ولا أعلم أنها ملاك طاهر وأن وردة وابنتها من الشياطين الملاعين!» فقال سليم: «ليس الذنب ذنبك يا أماه، ولكنه ذنب تلك الفاجرة اللئيمة التي دبرت دسيستها القذرة، واشترك معها في تنفيذها ذلك الشيطان داود، وخادمتها الخبيثة العجوز، للإيقاع بسلمى البريئة، والتفريق بيني وبينها، وإن نفسي لتحدثني بأن أنتقم لها منهم شر انتقام.» قالت: «يجب أن نخرج من هنا أولًا، دون ضجة، ثم ننظر في الأمر بعد ذلك.» وسمعا وقع أقدام وأصواتًا خارج الغرفة، فقال سليم لوالدته: «سأتظاهر بورود كتاب إليَّ من القاهرة يدعوني إلى السفر إليها حالًا لعمل عاجل، ثم أذهب إلى منزلنا حيث تلحقين بي بعد أن أكتب إلى حبيب صديقي الوفي المظلوم، ليذهب إلى سلمى، ويبلغها أننا سنزورها بعد يوم أو يومين لتصفية الجو وإعادة المياه إلى مجاريها.» فوافقته والدته على ذلك، ونهضت لتفتح الباب، بينما نهض هو وأخذ في ارتداء بذلته استعدادًا للانصراف.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/14/
فرحة لم تتم
كانت سلمى قد كتبت خطابها الأخير إلى سليم وبعثت به إليه، بعد أن أقنعتها سعيدة العجوز الماكرة بسوء نية سليم، وبأنه ذهب إلى الإسكندرية عقب إرساله خطابه الأخير إليها بوساطتها، لكي يعقد قرانه بفتاة هناك. وكان داود هو الذي أخبر سعيدة بذهاب سليم إلى الإسكندرية؛ إذ علم بذلك من خطاب تلقاه من سيدتها وردة. وقد شعرت سلمى منذ تلك اللحظة بأنها فقدت كل أمل في علاقتها بسليم؛ لأنها كانت شديدة الثقة بإخلاص سعيدة لها وتفانيها في خدمتها، فازداد حزنها وضعفها، وكثيرًا ما كانت نفسها تحدثها بالانتقام من سليم على تغريره بها ثم رميه إياها بالخيانة والغدر والخداع في حين أنه أولى بأن تلصق به هذه الصفات. وحدث أن تفقدت خطابه الأخير ذات يوم لتعيد قراءته وتتأمل تلك الورقة التي زعم أنها كتبتها بخطها إلى شخص آخر تعترف له فيها بأنها تحبه، ولكنها لم تجد تلك الورقة رغم طول بحثها عنها. وذلك لأن أدما كانت قد عثرت بها ملقاة بجانب سرير سلمى وهي تَعودُها، وعرفت أنها الورقة التي كتبتها إلى حبيب، فاحتفظت بها معتقدة أن حبيبًا هو الذي جاء بها إلى سلمى؛ لكي يسخرا منها ويضحكا من سذاجتها وتصديقها أن حبيبًا يحبها. وشغلت سلمى بمرضها وحزنها عن مواصلة البحث عن تلك الورقة. أما أدما فإنها لم تُطِق صبرًا على البقاء في منزل سلمى بعد ما تبين لها من تآمرها عليها مع حبيب، فسارعت إلى منزلها حيث خلت إلى نفسها في غرفتها وأخذت تعض على نواجذها غيظًا وندمًا. ثم لحق بها أبوها وأمها إلى المنزل، فلما شعرت بقدومهما أخفت الورقة، ثم غسلت وجهها حتى لا تبدو آثار الدموع في عينيها، وتظاهرت بانحراف صحتها ولزمت الفراش، وقد نال اليأس منها كل منال. وعلى الرغم من أنها كانت تود لقاء حبيب لتوبخه أو تعاتبه على سخريته منها، كان قلبها يخفق بشدة ولا تتمالك نفسها من البكاء كلما صوَّر لها اليأس والحزن وسوء ظنها به أنه لن يستنكف أن يخاطبها بما يشينها ويحقرها ويحط من كرامتها. فبقيت كذلك حتى ظهر اليوم التالي، دون أن تتناول أي طعام، أو يراود الكرى جفنيها، ولم تكن تنقطع عن البكاء إلا عند وجود والديها أو أحدهما في الغرفة. وهما لا يعلمان من أمرها إلا أنها متوعكة الصحة منحرفة المزاج. وفيما هي مستلقية على سريرها، ووالدتها مشغولة ببعض أعمال المنزل، وأبوها خارج المنزل، تذكرت تلك الورقة التي كانت سبب بلائها وشقائها، فأخرجتها من مخبئها، وأخذت تتأملها وتعيد تلاوتها، وصور لقائها بحبيب في رحلة الأهرام تتتابع على لوحة مخيلتها، ثم تعقبها صورته مع سلمى وهما يتأملان خطابها إليه ويضحكان ساخرين. وهنا لم تتمالك نفسها فانفجرت باكية وعلا شهيقها حتى خشيت أن تسمعه والدتها، لكنها مع ذلك استمرت فيه لعله يخفف بعض ما تعانيه. ••• سمعت أدما بعد قليل طرقًا على الباب الخارجي للمنزل، فعادت إلى ذهنها صورة حبيب حين كان يأتي للزيارة، فأخذتها الرجفة واشتد خفقان قلبها. ثم سمعت الباب يفتح وصوت والدتها ينطلق بعبارات التحية والترحيب. وما لبثت قليلًا حتى دخلت عليها أمها ومعها والدة حبيب وشقيقته، فلم تتمالك عواطفها عند رؤيتهما وأخذت في البكاء والنحيب، فهمَّت بها شفيقة وراحت تحتضنها وتقبِّلها قائلة: «ما هذا يا عزيزتي، أتبكين هكذا كالأطفال لشعورك بصداع أو برد خفيف؟ لا لا، إن عزيزتي أدما أشجع من هذا كثيرًا، فهيا دعي عنك هذه الأوهام، واجلسي لنتمتع بحديثك اللطيف كالمعتاد!» وقبَّلتها والدة حبيب بدورها وأخذت تواسيها وتشجعها بمثل تلك العبارات. فلم يسعها إلا أن تمسح دموعها وتجلس في فراشها متجلدة لتجاذبهما الحديث. ثم قالت لشفيقة شقيقة حبيب وهي تتكلف الابتسام: «ترى ماذا جرى حتى خطرنا ببالك وجئت لزيارتنا بعد ذاك الغياب الطويل؟» فردَّت عليها شفيقة وعلى فمها ابتسامة تنمُّ عن طيبة قلبها وبساطتها وقالت: «إننا لا غنى لنا عن زيارتكم، ولكنا منذ افترقنا بعد رحلة الأهرام اللطيفة كنا في شغل شاغل خطير، وقد انتهى بخير والحمد لله.» فلما سمعت أدما ذكر رحلة الأهرام هاجت أشجانها وكادت تعاود البكاء، لكنها جاهدت لتغالب دموعها وتكبت عواطفها وقالت: «ماذا كان ذلك الشغل الشاغل، خيرًا إن شاء الله؟» قالت: «إن الخواجة سليم أصابته حمى على أثر تلك الرحلة، ونظرًا إلى أنه يقيم وحده بالقاهرة؛ لأن أسرته في الإسكندرية كما تعلمين، نقله أخي حبيب إلى منزلنا بحلوان لنقوم بتمريضه وخدمته حتى يشفى. ثم حدث في اليوم التالي أن سافر حبيب إلى الإسكندرية دون أن يخبره بذلك لكي يجيء من هناك بوالدته لتراه. فلما كان عصر ذلك اليوم، غادر سليم المنزل على أن يتمشى قليلًا في حديقة حلوان العامة لكنه لم يعد إلى المنزل ولم يخبرنا بالمكان الذي قصد إليه. فلما عاد حبيب ووالدة سليم في صباح اليوم التالي، سقط في أيدينا جميعًا، وحسبت والدة سليم أنه مات أو انتحر يأسًا من الشفاء، فانقلب جو المنزل إلى مثل جو المآتم. وزاد الطين بلة أن حبيبًا مضى إلى القاهرة مرتين للبحث عنه ولكنه لم يقف على أي أثر له. وهكذا أمضى حبيب يومين متتاليين وهو يعاني متاعب السفر والبحث هنا وهناك، وضاعت كل محاولاتنا لتهدئة روع والدة سليم. فلبثنا في ذلك الشغل الشاغل الخطير حتى صباح أمس إذ تلقى حبيب من سليم خطابًا من الإسكندرية أخبره فيه بسفره إليها اتفاقًا وبعلمه من شقيقه هناك بأنه كان هناك في اليوم السابق وعاد ومعه والدته، ثم طلب إليه أن يعيدها إلى الإسكندرية ففعل. وما كدنا نشعر ببعض الراحة من كل ذلك العناء حتى جئنا لزيارتكم، فهل هناك بعد ذلك أي تقصير من جانبنا لا سمح الله؟» فَسُرِّي عن أدما قليلًا لوقوفها على سر تردد حبيب إلى منزل سلمى وسفره إلى الإسكندرية وانصرافه عنها. لكنها بقيت في حيرة من أمر وجود خطابها الخاص إليه في غرفة سلمى. وأحبت أن تعلم لماذا لم يأتِ مع والدته وشقيقته ما دام قد اطمأن على صحة صديقه سليم وأعاد والدته إلى الإسكندرية، لكن الحياء أمسكها عن السؤال عنه. فاكتفت بأن تنهَّدت وقالت: «لقد أسفت جدًّا لمرض الخواجة سليم، فالحق أنه من خير الشبان المهذبين الأوفياء، لكن هل مرضه كان لعلمه بمرض سلمى؟ أم أنها هي التي مرضت لعلمها بمرضه؟» فلم تفطن شفيقة لنكتة أدما، وقالت في دهشة: «كيف يكون هذا؟ أيمرض أحد لعلمه بمرض آخر؟ أم أنت تقصدين انتقال العدوى؟» فابتسمت أدما وقالت: «ألا تعلمين أنهما خطيبان، وبينهما محبة متبادلة؟» فقالت: «أعلم هذا، ولكن مرضهما لم يكن بسبب العدوى لأنهما لم يتقابلا منذ رحلة الأهرام.» ثم غيرت مجرى الحديث فجأة وقالت لأدما: «ما بالك لا تسألين عن حبيب وعدم مجيئه معنا؟» فبغتت أدما، وخفق قلبها واحمر وجهها، ثم تجلَّدت إذ فطنت إلى أن شفيقة خالية الذهن لا تعلم شيئًا عن علاقتها بشقيقها، وردَّت عليها بقولها: «لم أسأل عنه لأنه لا بد أن يكون مشغولًا بما لديه من أعمال.» وكانت والدتاهما تسمعان تحاورهما ولا تفقهان أكثره لانهماكهما في حديث آخر. فاقتربت شفيقة من أدما وهمست في أذنها قائلة وهي تبتسم: «إنه اليوم خالٍ من العمل وقد تركناه في المنزل وحده.» فلم تفهم أدما من هذه العبارة إلا إصرار حبيب على هجرها والاستهانة بها، وعاودها حنقها عليه فقالت وهي تجاهد لإخفاء شعورها: «وهل من الضروري أن يتوجه معكما حيث تتوجهان؟» فقالت شفيقة: «كلا، ولكنه لم يتخلف عن المجيء معنا إلا لأمر مهم!» فأجفلت أدما، ولم تعد تستطيع كتمان ما بها، فأشاحت بوجهها وقالت: «هو حرٌّ على كل حال، وليس هناك ما يقتضي الاعتذار من تخلفه.» فضحكت شفيقة وقالت: «الواقع أنه لم يتخلف إلا بسبب ما جئنا لزيارتكم اليوم خصيصى لأجله.» ثم عادت إلى الضحك. فازدادت أدما حيرة وارتباكًا، ثم قالت متضجرة: «ما لك تتكلمين بالألغاز يا عزيزتي، وما الذي يُضحكك هكذا على غير عادتك؟» فأغرقت شفيقة في الضحك، ثم التفتت إلى والدتها ووالدة أدما، فإذا بهما قد غادرتا الغرفة، فقالت: «ألم أقل لك؟ إنهما الآن ولا شك تتكلمان في الشأن المهم الذي جئنا للكلام فيه.» فقالت أدما وقد نفد صبرها: «أهناك سرٌّ لا يجوز لي أن أطلع عليه، أم ماذا هناك؟» واغرورقت عيناها بالدموع. فقالت شفيقة: «ليس في المسألة إلا ما يسرُّك ويسرُّنا جميعًا، ولا أستطيع أن أصرِّح لك الآن بأكثر من هذا، على أنك بذكائك المعهود تستطيعين أن تدركي كل ما هناك.» قالت: «صدقيني يا عزيزتي إني لم أفهم أي شيء.» فبدت الدهشة في وجه شفيقة، وتلفتت نحو باب الغرفة كأنها تحاذر أن يسمع أحد كلامها، ثم همست قائلة: «لقد جاءت والدتي لتخطبك لحبيب، فهل فهمت؟» فلما سمعت أدما ذلك، غلب عليها الحياء وخفق قلبها سرورًا، لكنها لم تصدق النبأ، أو رأت التظاهر بأنها لا تصدقه، فقالت: «دعينا بالله من مثل هذا المزاح، فليس هذا وقته، ولا هو مما يليق بنا.» فقالت شفيقة جادة: «وهل عهدتني أمزح بمثل ذلك؟ إني ما قلت لك إلا الحقيقة. ولولا ما تعلمين من محبتي لك ما صرَّحت لك بشيء قبل أن تتم المحادثة في هذا الشأن بين والدتي ووالدتك.» فتحققت أدما أن الأمر جِد ولا هزل، وكادت الدنيا لا تسعها لفرط سرورها، لكنها آثرت التجاهل وقالت: «اسمحي لي أن أصرح لك بأني غير مستعدة لتصديق ذلك. وعلى كل حال يحسن أن ندع هذا الحديث الآن.» ثم مدت يدها وأخذت تفحص نسيج الثوب الذي ترتديه شفيقة وقالت: «إنه نسيج بديع ولا شك من أين اشتريته؟» فهمَّت بها شفيقة وقبَّلتها ثم قالت وهي تنظر في عينيها: «إنك لا تتصورين كم أنا سعيدة بخطبتك لحبيب، فأنا أحب كليكما كلَّ الحب، وهذا ما كنت أتمناه مخلصة لكلٍّ منكما منذ عهد بعيد.» فلم تتمالك أدما نفسها من البكاء فرحًا بهذه البشرى المفاجئة، وهمَّت بشفيقة فقبَّلتها بدورها وهي تقول: «إن إخلاصك مما لا شك فيه.» وبعد قليل عادت والدتاهما إلى الغرفة ووجهاهما يتألقان بِشرًا وسعادة، وجلسن يتحدثن في مختلف الشئون العادية، ثم نهضت والدة حبيب وشقيقته فقبَّلتا أدما، وودعتاها وأمها وانصرفتا مشيعتين بعبارات المودة والاحترام. ••• كان حبيب بعد أن ارتاح باله واطمأن على صديقه سليم، قد عاد إلى الحديث عن أدما مع والدته، ثم اتفقا على أن تمضي هي وشقيقته لمحادثة والدتها في أمر خطبتها له، فإذا وجدتا منها قبولًا، ذهب هو لمقابلة أبيها وخطبها منه وأعلنا الخطبة رسميًّا. فلما عادت والدته وشقيقته من مهمتهما، وجدتاه في انتظارهما بالمنزل نافد الصبر وعلى وجهه آثار القلق والانقباض، فبشَّرته والدته بأن والدة أدما رحَّبت بخِطبتها له مؤكدة أنها سعيدة بذلك لما عهدته فيه من الأدب والكمال والنشاط في عمله. كما أكدت أن الخواجة سعيد والد أدما لن يكون أقل منها ترحيبًا وسرورًا بهذه الخِطبة. فأشرق وجه حبيب ابتهاجًا، ولكنه قلق لما سمعه من أن أدما منحرفة الصحة وكانت معتكفة في فراشها حين زارتها والدته وشقيقته، ولم يهدأ باله إلا بعد أن أكدتا له أنها بخير، ولا تلبث قليلًا حتى تسترد عافيتها كاملة. ثم استشار والدته في أن يمر بمنزل أدما في اليوم التالي بعد خروجه من الديوان لعيادتها، فقالت له: «إن العادة جرت بأن يمسك الشاب عن زيارة الفتاة التي شرع في خطبتها حتى يتم عقد الخطبة رسميًّا.» فتكدَّر لذلك رغم أن والدته أكدت له أن حرمانه من رؤية أدما لن يستمر أكثر من أيام معدودة ريثما يتم شفاؤها ثم مقابلته لأبيها والاتفاق معه على خطبتها. عندي لك حديث طويل أرجئه إلى أن نجتمع قريبًا بمشيئة الله، وإنما كتبت إليك هذا الخطاب لكي تبادر بمقابلة سلمى وتبلغها فيما بينك وبينها أني شفيت من مرضي، وكل ما أتمناه أن تكون هي في خير وعافية، وأن تصفح عن ذنوبي الكثيرة لديها صفح الكرام. هذا وإني لكبير الأمل في أن تبذل أقصى جهدك في إقناعها بزوال ما اعترض سبيل خطبتنا من عقبات، وأن تواصل تعزيتها والترفيه عنها حتى أعود إلى القاهرة وألتقي بكما بعد أيام، وحينئذٍ أُسمعكما معًا ذلك الحديث الطويل الذي أشرت إليه في أول هذا الخطاب. وهو حديث طريف ينطوي على قصة ليس هناك ما هو أعجب منها، حتى أنها لتفوق كل ما تخيله كتَّاب الروايات. ولكم جميعًا أزكى تحياتي وأشواقي. ودمت لصديقك. فلما أتم تلاوة خطاب سليم عجب لما تضمنه من الإشارة إلى ذلك الحديث الغريب، وأخذ يفكر فيما عساه أن يكون، فرجَّح أنه يتعلَّق بما كان من معارضة والدة سليم في خطبته لسلمى. وسُرَّ لنجاح مساعيه لديها في هذا السبيل، كما سُرَّ لقرب عودة صديقه سليم. وما عاد إلى منزله في حلوان بعد انتهائه من عمله حتى خلا إلى والدته وأخبرها بالمهمة التي كلفه سليم أن يقوم بها وقال لها: «إنني أخشى ألا تتاح لي فرصة أخلو فيها إلى سلمى لأبلغها رسالة سليم؛ ولهذا أرجو أن تعاونيني على إنجاز هذه المهمة، فما قولك؟» قالت: «هذا أمر سهل، وغدًا أمضي أنا وشقيقتك معك إلى القاهرة لزيارة أسرة سلمى، ثم نبذل جهدنا أنا وشقيقتك في أن نشغل والديها بالحديث لنتيح لك فرصة تبليغها رسالة سليم دون أن يشعر أحد.» فاستحسن رأي والدته وشكرها على عنايته بحل تلك المشكلة. ••• كان اليوم التالي يوم جمعة ولا عمل لحبيب بالديوان، فاصطحب والدته وشفيقة إلى المحطة في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم، وما وصل بهم القطار إلى القاهرة حتى توجهوا من فورهم إلى منزل سلمى، ففتحت لهم والدتها الباب ورحَّبت بهم وأدخلتهم غرفة الجلوس فسألتها والدة حبيب عن صحة سلمى فقالت: «إنها ما زلت ملازمة فراشها وصحتها تزداد سوءًا رغم تناولها الدواء بانتظام، وأملنا في الله كبير، وهو القادر على أن يشفيها.» وبعد قليل، وقفت شفيقة وقالت لها: «هل أستطيع الدخول على صديقتي سلمى في غرفتها الآن.» قالت: «نعم.» وقبل أن تغادر شفيقة غرفة الاستقبال، استوقفها حبيب، ثم التفت إلى والدة سلمى وقال: «هل أستطيع أن أصحب شفيقة لرؤية سلمى والاطمئنان عليها؟» فقالت: «ولم لا يا بني؟ إنها ستسر برؤيتكما ولا شك.» فنهض ومضى مع شقيقته ودخلا غرفة سلمى، فإذا هي ممددة في سريرها وقد هزل جسمها وامتقع لونها وغارت عيناها، وما كادت تراهما حتى انفجرت باكية لفرط تأثرها وتذكرها ما كان من أمر سليم معها. فهمَّت بها شفيقة وقبَّلتها وأخذت في تسليتها والترفيه عنها محاولة بث الأمل في الشفاء التام العاجل في نفسها، فازدادت سلمى بكاءً وقالت: «إن ضعفي يشتد يومًا بعد يوم، وأحسب أني لن أغادر هذا الفراش إلا بعد أن أغادر الدنيا كلها.» فلم تتمالك شفيقة من البكاء، وكاد حبيب يبكي معهما لولا أن تذكر المهمة التي جاء لأجلها، وأن في إبلاغ سلمى رسالة سليم ما قد يخفف من ضعفها وحزنها، فتجلَّد ولبث ينتظر أن تسنح له فرصة لأداء تلك المهمة. ثم سمعت شفيقة والدتها تناديها فنهضت ومضت إليها وهي في غرفة الاستقبال مع والدة سلمى لترى ما تريد، فقالت لها والدتها: «إن خالتك — أي والدة سلمى — متعبة ولا شك لكثرة ما لديها من الأعمال المنزلية، ولكنها أصرَّت على أن نشرب القهوة عندها، فاشترطت عليها أن تصنعي القهوة أنت. فهيا يا بُنيتي إلى المطبخ واصنعي لنا القهوة المطلوبة.» فأشارت شفيقة برأسها موافقة، وانصرفت للقيام بهذه المهمة. وفيما هي في المطبخ لاح لها أن تتسلل إلى البيت المجاور الملاصق لبيت أدما لتناديها وتأتي بها لتفاجئها بمقابلة حبيب، وسرعان ما نفذت هذه الفكرة. ••• عادت شفيقة إلى منزل سلمى ومعها أدما، ثم دخلت بها فورًا غرفة سلمى وهي تضحك مقدمًا مما تصورته من موقف شقيقها وخطيبته خلال لقائهما المفاجئ الذي دبرته. وكان حبيب قد أخرج خطاب سليم إليه وتلاه على سلمى فلم تتمالك عواطفها وانفجرت باكية، وتأثر هو ببكائها فبكى بدوره وأخذ يهمس في أذنها بعبارات التعزية والتشجيع. فما وقعت عليهما عينا أدما وهما في هذه الحال حتى بغتت، وخيِّل لها أن حبيبًا ما زال عالقًا بسلمى كما رجَّحت ذلك من قبل، وأن سعي والدته في خطبتها له لم يكن بإرادته وعلمه، فأخذها الغضب، ووقفت ترتجف من الغيظ، ثم حاولت التجلُّد وحيَّت سلمى مستفسرة عن صحتها، وهنا نهض حبيب واقترب منها بعد أن أفاق من ذهول المفاجأة، ومد يده لتحيتها فترددت في مد يدها إليه، ثم صافحته في برود من غير أن تنظر إليه أو ترد عليه كلامه. وما لبثت أن غادرت الغرفة مسرعة نافرة، فانطلقت شفيقة في أثرها وهي تضحك، وذهنها خالٍ من حقيقة ما يعتلج في قلب أدما، فلما رأتها تغادر المنزل فورًا عائدة إلى منزلها، أخذت تناديها مستوقفة إياها، ولكن أدما لم ترد عليها ومضت في سبيلها لا تلوي على شيء وقد أخذت الغيرة منها كل مأخذ. فعادت شفيقة إلى غرفة سلمى مندهشة من تصرف أدما، فأخذ حبيب يعنِّفها ويتهمها بالغباء والجهل وانعدام الذوق لإدخالها أدما بغير استئذان، ولما علم منها أن أدما انصرفت غاضبة، وعادت إلى منزلها فورًا، اشتد غضبه وسألها عما جعل أدما تنصرف هكذا، فقالت: «لعلها غضبت من برود استقبالك لها.» فلم يملك نفسه وصاح بها قائلًا: «اغربي من وجهي عليك اللعنة، ألم أقل لك إنك بلهاء لا تفهمين شيئًا ولا تحسنين صنعًا قط؟!» فخرجت دامعة العينين، وقلبها يكاد ينفطر غمًّا وحسرة. ثم لاح لها أن تلحق بأدما في منزلها لتقف على سر غضبها، فما كادت تصل إلى المنزل حتى وجدتها قد خلت إلى نفسها في غرفتها وراحت تبكي بصوت مرتفع، وأمها في شغل عنها ببعض أعمال المنزل، فدخلت عليها وقالت لها: «شكرًا لك يا أدما، أعلمت أن حبيبًا وبَّخني وأهانني لأنك دخلت عليه دون استئذان؟» فردت عليها غاضبة وقالت: «وهل هذا ذنبي؟ إنما الذنب عليك أنت التي أدخلتني عليهما وهما في خلوة يبكيان ويتشاكيان.» فغضبت شفيقة بدورها لهذا الاتهام الذي لم تكن تتوقعه وقالت: «أية خلوة تعنين؟ وأي بكاء؟ أتغارين على حبيب إلى هذا الحد؟ أين عقلك يا عزيزتي؟» فصاحت أدما قائلة بلهجة التهكم والاستخفاف: «إنني مجنونة لا عقل لي يا سيدتي، ولهذا لا أراني أصلح لمعاشرة أمثالكم من العقلاء!» فوجمت شفيقة، وكفَّت عما كانت فيه من البكاء منذ طردها شقيقها من غرفة سلمى، وأخذت تجاهد نفسها لتنسى ما شعرت به من الإهانة. لكنها ما لبثت أن سمعت أدما تستأنف كلامها قائلة: «أكان من العقل يا سيدتي أن أفاجئ الشاب الذي خطبني يتناجى مع فتاة أخرى في غرفة مغلقة ليس فيها معهما أحد، وهما يبكيان ويتشاكيان، ثم إذا وجدته قد أذهلته المفاجأة وارتبك ولم يدرِ كيف يخفي الورقة التي كان يتلوها على فتاته المفضلة، تقدمت فركعت بين يديه، وقبلت قدميه متذللة مستعطفة كي يغفر لي ما ارتكبته من جرم فظيع بتعكير صفو تلك الخلوة الجميلة؟ لا، لا يا سيدتي إنني لا أقبل أبدًا مثل هذا الوضع، ولا يمكن أن أضحي بكرامتي وأرضى لنفسي مثل هذا الخطيب ولو كان أجمل من يوسف وأغنى من قارون.» وهنا لم تعد شفيقة تملك أعصابها فقابلت ثورة أدما بمثلها وصاحت بها قائلة: «كفاك سخرية وتهكمًا يا سيدتي، إننا ما زلنا على البر، ولم تعقد خطبتك لأخي بعد، وما دمت لا ترينه أهلًا لك فأنت حرة، ولك أن تختاري من هو كفؤ لك وأجدر منه بحبك واحترامك.» وكانت والدة أدما قد سمعت صراخهما فأقبلت لترى ما هناك وقالت لهما: «ما هذا؟ ماذا جرى؟» فقالت أدما: «اتركيني يا أماه، إني لا أريد ذلك الرجل أبدًا والموت خير لي من …» فقاطعتها شفيقة قائلة: «وهو أيضًا لا يريدك فاطمئني.» ثم غادرت المنزل غاضبة باكية، وما كادت تصل إلى العطفة المؤدية إلى منزل سلمى حتى لقيت والدتها وشقيقها خارجين منها، فروت لهما الحكاية من أولها إلى آخرها وهي تبكي وتنتحب. فثارت ثائرة حبيب لاستهانة أدما به ومصارحتها شقيقته بأنها تؤثر الموت على معاشرته، وتتهمه بأنه كان في خلوة مريبة مع سلمى، فقال لشقيقته: «كفى بكاءً يا شفيقة، إنني ما رغبت في خطبة هذه الفتاة إلا مندفعًا بإعجابك بأخلاقها وأدبها. وما دامت هذه حالها فلا رغبة لي فيها.» ثم التفت إلى والدته وقال لها: «هل سمعت؟ وهل أدركت الآن لماذا كنت راغبًا عن الزواج كل ذلك الوقت.» فقالت: «على رِسلك يا بني، إن الفتيات كثيرات، ولك عليَّ ألا تمضي أيام حتى أخطب لك من هي أجمل وأغنى وأجدر بك.» ••• مضت فترة غير قصيرة ساد فيها السكوت، ثم التفتت والدة حبيب إليه فجأة وقالت له: «يخيل إليَّ أن هناك سوء تفاهم لم نقف بعد على تفصيله وأسبابه، فأنت تعرف كما أعرف أن العلاقة بين شفيقة وأدما كانت على أتم ما يكون من الصفاء وتبادل المودة والتقدير، ولم يحدث بينهما قبل ذلك أي شيء يبرر ما حدث. هذا إلى أنه حدث في منزل أدما، وكانت شفيقة بمثابة ضيفة عليها هناك، ولم تجرِ العادة بأن يهين أحد ضيوفه. وعلى كل حال لا بد من وقوفنا بعد قليل على أسباب ما حدث.» فسكت حبيب ولم يُجب، لاشتغاله بالتفكير في ذلك الأمر العجيب، أما شقيقته شفيقة فنظرت إلى والدتها معاتبة ثم قالت والدموع تكاد تخنقها: «ما هذا الذي تقولين يا أماه؟ ألا تكفي الأسباب التي أبدتها دليلًا على أنها لا يمكن أن تصلح زوجة لحبيب؟ أم تريدين بعد هذا كله أن نتذلل لها ونترامى على أقدامها لعلها تتنازل وتتفضل بقبول خطبة حبيب والتغاضي عن الاتهامات التي ألصقتها به، كأنما الدنيا كلها ليس فيها من ترضى الزواج به غيرها؟!» فأخذت والدتها في تهدئة خاطرها، والنصح لها بالصبر حتى تتكشف الحقيقة بعد قليل. وما زالوا في مثل هذا الحديث حتى وصلوا إلى المحطة واستقلوا القطار عائدين إلى منزلهم في حلوان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/15/
على الباغي تدور الدوائر
حاولت والدة أدما أن تلحق بشفيقة بعد خروجها غاضبة، لكنها لم تستطع اللحاق بها، ولم تستمع هذه لندائها. فعادت إلى أدما وأخذت تسألها عما حدث وأدى إلى تلك القطيعة. فلم تجب أدما واستمرت في بكائها حتى تفتَّت قلب والدتها شفقة عليها، وهمَّت بها فقبَّلتها قائلة: «لماذا لا تصارحينني بالحقيقة، ألست والدتك؟» فقالت: «نعم أنت والدتي وليس لي في الحياة من هو أعز منك، ولهذا أؤكد لك أنني لم أعد أريد حبيبًا هذا ولا سواه.» فقالت: «لكن ماذا جرى؟ ولماذا لا تريدينه وهو يحبك وقد أرسل والدته وشقيقته لخطبتك له؟» قالت: «إنه لا يحبني، بل يحب سواي، وقد تحققت ذلك بنفسي.» فقالت: «عجيبة! ومن هي تلك التي يحبها، وكيف عرفت ذلك؟» فسكتت أدما، ولكن والدتها ما زالت تلح عليها حتى علمت منها أنها لاحظت من قبل تردده على منزل سلمى، ولاح لها أن بينهما محبة متبادلة، لكنها لم تلقِ بالًا إلى ذلك. ولما علمت بأنه أرسل يخطبها هي رجحت أنها كانت واهمة في محبته لسلمى، ولكنها فاجأتهما مصادفة منذ ساعة وهما في خلوة يبكيان ويتشاكيان ويد كل منها في يد الآخر، ورأت من بغتتهما وارتباكهما ما أكَّد لها تلك الحقيقة. وعبثًا حاولت والدتها أن تقنعها بأنها قد تكون واهمة؛ لأن سلمى مخطوبة لسليم صديق حبيب منذ عهد بعيد وإن لم تعلن الخطبة رسميًّا، ولأن حبيبًا لو كان يحب سلمى ما أرسل والدته وشقيقته لخطبتها هي، إلى أن قالت لها: «وعلى كل حال، لنفرض أنه أحب سلمى من قبل، فإنه لا يلبث بعد عقد خطبتكما وعقد خطبتها رسميًّا لسليم، أن ينسى ذلك الحب.» وأخيرًا، تم الاتفاق بينهما على ترك الحديث في هذا الشأن، وألا تذكرا شيئًا منه أمام أبيها، في انتظار ما يكون. ••• كانت وردة قد تآمرت مع ابنتها إميلي على أن تخلو إلى سليم وتجتهد في حمله على وعدها بالاقتران بها وإعلان خطبتهما في أقرب فرصة. وتم الاتفاق بينهما على أن تخرج وردة مع والدة سليم للنزهة خارج المنزل بعد الغداء، ليخلو الجو لإميلي. فلما انتهوا من تناول الغداء، وجلسوا في الشرفة يشربون القهوة ويتحادثون، قال سليم: «إني أشعر باكتمال صحتي والحمد لله، وقد جاءني خطاب من وكيل مكتبي في القاهرة يتعجل عودتي لمباشرة إحدى القضايا المهمة، وأرى أن أجيب هذا الطلب، وإن كنت أود من صميم قلبي ألا أفارقكم.» فبغتت إميلي ووالدتها لهذه المفاجأة، وهما لا تعلمان ما دار من الحديث في شأنهما بين سليم ووالدته. واكتفت إميلي بأن تظاهرت بالبكاء جزعًا من ذلك الفراق، بينما ابتدرته والدتها قائلة: «إن صحتك يا بني أغلى وأهم من كل شيء، والأحسن أن تتريث حتى يتم شفاؤك، ثم تعود إلى القاهرة بعد يومين أو ثلاثة.» فقالت إميلي لوالدتها وهي تصوب سهام عينيها إلى سليم: «لا تلحِّي عليه يا أماه فلعله ملَّ الإقامة بيننا.» فردَّت عليها والدته بقولها: «إن الإقامة معكم لا يمكن أن تُمَلَّ ويا حبذا لو أنها دامت إلى الأبد!» وقال سليم: «ما أظن أن الأبد يكفي.» فقالت وردة: «لو كان هذا صحيحًا، ما رغبت في التعجيل بالرحيل، ولكن ماذا نصنع في حظنا؟ إن المحبة لا تكون (بالنبوت)!» فأخذ سليم يعتذر من تعجيل سفره بأن الضرورة المُلحَّة هي التي اقتضته، وحرص على أن يظهر لوردة وابنتها أنه لا يمكن أن ينسى فضلهما ولطفهما، إلى أن اقتنعتا بإصراره على السفر، فقالت وردة: «إذن يحسن أن نقضي اليوم في النزهة على شاطئ البحر، كي يعاونك هواؤه النقي على استعادة قواك.» فقال سليم: «إنها نزهة جميلة ولا شك، ولكني أرى أن أنام قليلًا بعد الغداء؛ إذ إنني متعود ذلك.» فوافقته وردة على أمل أن تخرج هي ووالدته في تلك النزهة ويخلو الجو لإميلي كي تظفر من سليم بما تريدان من مكاشفتها بحبه إياها ورغبته في الاقتران بها. على أن والدته اعتذرت من عدم استطاعتها الخروج، ولم تفارق غرفة سليم حتى استيقظ من نومه بعد ساعة، متظاهرة بإعداد حقائبه للسفر في الغد. وما كاد يستيقظ حتى أعرب عن رغبته في أن يمضي ليلته بمنزل شقيقه فؤاد؛ كي يودعه وقرينته قبل سفره بقطار الصباح، فلم تجد وردة وإميلي بدًّا من النزول على رغبته بعد أن أصرَّ عليها قيامًا بواجبه نحو شقيقه العزيز، ولأن منزله أقرب إلى المحطة. ••• أبت والدة سليم إلا أن تصحبه إلى القاهرة لكي ترى سلمى وتعتذر لها مما سببته لها من المتاعب والآلام. وكان حبيب في استقبالهما على المحطة إذ أبرق إليه سليم بموعد وصولهما، فعانق سليم مهنئًا إياه بالشفاء، وقبَّل يد والدته مرحبًا بها ودعاهما إلى الإقامة بمنزله في حلوان، فشكراه وأجَّلا ذلك إلى ما بعد زيارة سلمى. فقال: «إذن أمضي لأحضر والدتي ونذهب جميعًا في هذه المهمة.» فوافقا على ذلك. وما حان العصر حتى كان قد جاء بوالدته إلى غرفة سليم بالفندق، فعانقت والدة سليم وقبَّلته مهنئة إياه بالسلامة، واعتذر إليها من مغادرته منزلها دون علمها، فقالت له: «ليس بيننا ما يدعو إلى الاعتذار.» ثم جلست تتحدث هي ووالدته حديث المودة في مختلف الشئون. بينما انتحى سليم وحبيب ناحية، فقصَّ الأول حكايته مع سلمى، وقصَّ الثاني حكايته مع أدما، ثم أخذا يتضاحكان لما تخلل القصتين من سوء تفاهم أدى إلى ما وقعا فيه من مشكلات لم ينتهيا من حلها بعد، واعتزما الانتقام من داود وسعيدة العجوز الماكرة على مساعيهما الدنيئة لحساب وردة وابنتها. ثم نهضا واصطحبا والدتيهما إلى منزل سلمى، فلما بلغوا منزل أدما في الطريق إليه اشتد خفقان قلب حبيب وتطلع إلى شرفة غرفة أدما، فإذا هي مطلة منها، فم يعد يقوى على السير ووقف في مكانه جامدًا لا يستطيع رد بصره عن التطلع إليها، وحانت منها التفاتة إليه فلم تصدق أنه هو أول الأمر، ثم رأته يشير إليها بالتحية ويومئ إليها أن تلحق به إلى بيت سلمى. فأخذت تنظر إليه ذاهلة، ثم تحققت الأمر بعد أن تكررت إشاراته لها ووقعت عيناها على سليم بجانبه ولم تكن لذهولها وارتباكها قد تنبهت إلى وجوده. فلم يسعها إلا أن تومئ إليه بأنها ستلحق به إلى هناك، وانثنت داخلة من الشرفة حيث خفَّت إلى والدتها وأنبأتها بما حدث والبِشر بادٍ في محياها قائلة: «ماذا ترين يا أماه؟ لعله عاد إلى صوابه وندم على ما فرط منه كما كنا نؤمل!» فوافقتها على هذا الرأي، وقالت لها: «سأذهب معك إلى هناك.» ثم تركت ما كانت تقوم به من الأعمال المنزلية، وسارعت إلى ارتداء ثوب الخروج وقلبها لا يقل فرحًا عن قلب ابنتها بهذا الاتفاق السعيد. أما سليم فلم يقوَ على مواجهة سلمى مفاجأةً، لشدة خجله وندمه على ما فرط في حقها، فاقترح أن تدخل والدته عليها أولًا مع والدة حبيب لتقوم بمهمة التعارف بينهما، والتمهيد لمقابلته إياها. ••• كانت سلمى بعد أن زارها حبيب وتلا عليها خطاب سليم قد أذهلتها المفاجأة، وكادت ألا تصدق رجوعه إلى حبها والإيمان بطهرها وعفافها ووفائها، ثم تحققت أن الخطاب بخطه الذي تعرفه كل المعرفة. فأشرق وجهها، وشعرت بتحسن كبير في صحتها وما كاد حبيب ينصرف من عندها حتى دعت إليها سعيدة خادمتها العجوز وقالت لها: «يلوح لي يا خالتي أن الله — جل شأنه — قد كتب لي الخلاص من الشقاء والمرض.» فأدركت سعيدة بدهائها أن لهذا التعبير علاقة بسليم، ولا سيما بعد زيارة صديقه حبيب لسلمى، لكنها تظاهرت بالبشر والابتهاج وقالت: «خيرًا يا بنيتي إن شاء الله، هل سمعت نبأً جديدًا عن سيدي سليم؟» قالت: «نعم، أخبرني حبيب الآن بأنه آتٍ إلينا بعد يومين أو ثلاثة.» فأجفلت سعيدة خشية على حبوط مساعيها الدنيئة وقالت: «وماذا صنع مع تلك الفتاة التي علق بها وذهب إلى الإسكندرية لخطبتها؟» فقالت: «تخلص منها بعد أن تبين خطأه.» فوجمت العجوز قليلًا، ثم قالت: «وهل كتب لها خطابًا اتهمها فيه بالغدر والخيانة كي يتخلص منها؟!» فأحسَّت سلمى بانقباض عند سماعها عبارة العجوز، إذ أدركت أنها تشير إلى خطاب سليم الذي حملته إليها، لكنها تجاهلت وقالت: «لا أدري كيف تخلص منها، وعلى كل حال متى حضر سنعرف كل شيء.» فسكتت سعيدة وخرجت من الغرفة متظاهرة بإنجازها بعض الأعمال، ثم غادرت المنزل خلسة وتوجهت مسرعة إلى بيت داود، فقصَّت عليه ما سمعته، فقال لها: «هذا كله سببه حمق سيدتك وردة وتسرعها عليها لعنة الله. فهي التي فضحتنا وسببت فشلنا بإرسالها إلى سليم خطأ ذلك الخطاب الذي كتبته إليَّ، وجاءني بدلًا منه الخطاب الآخر الذي كتبته باسم والدته تدعوه فيه إلى الحضور.» ثم واصل حملته على وردة ونعتها بكل نقيصة متأثرًا بضياع آماله في المكافأة التي وعدته بها. فلما طلبت إليه سعيدة أن يكفَّ عن حملته على سيدتها، بادرها بالشتم ورفسها في بطنها رفسة قوية أوقعتها على الأرض، فصرخت من شدة الألم، وانطلقت تسبه وتلعنه مما زاد في ثورته وغضبه فاستأنف رفسها وهي توالي الصراخ حتى اجتمع عليهما الجيران والمارة، وخلصوها من بين يديه وهي مشرفة على الهلاك. ثم جاء رجال البوليس، فحملوها إلى القسم بين الموت والحياة، وقادوه مكبلًا بالقيود للتحقيق معه في جريمة شروعه في قتلها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/31641375/
جهاد المحبين
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «جهاد المحبين» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام، وهي رواية تاريخية غرامية، كتبت بأسلوب ممتع ومشوق. وتصور العلاقة رومانسية التي جمعت بين سليم وسلمى، حيث تمر هذه العلاقة بمفاجأت وأحداث تعكر صفوها، وتجلب المآسي والمعاناة للمحبين، ولكن الصبر والوفاء والجهاد في سبيل الحب، مكنهم من التغلب علي العقبات، وجعل الدائرة دور علي أهل البغي والعدوان. وتنتهي الرواية بالتمام الشمل بين المحبين مرة أخرى.
https://www.hindawi.org/books/31641375/16/
اجتماع الشمل
تفقدت سلمى سعيدة بعد انصرافها من غرفتها فلم تجدها بالمنزل، وعلمت أنها غادرته دون علم والدتها، فقلقت لذلك، ثم اشتد قلقها حين جاء المساء دون أن تعود. وفيما هي كذلك سمعت طرقًا على باب المنزل، ثم سمعت والدتها ترحب بالقادمين وهي تقودهم إلى غرفة الاستقبال. وخفق قلبها بشدة إذ طرق سمعها اسم سليم، وظنت نفسها واهمة، لكنها ما لبثت أن سمعت صوته هو نفسه فكاد يغمى عليها من فرط الفرح، وازداد خفقان قلبها وبردت أطرافها، فسارعت إلى استنشاق بعض الروائح العطرية، ولبثت ترهف سمعها فسمعت صوته وأصواتًا أخرى عرفت من بينها صوت حبيب ووالدته، وعجبت لسماعها صوت سيدة أخرى لا تعرفها. ثم شعرت باقتراب الأصوات ووقع الأقدام في اتجاه غرفتها، فلم تعد ساقاها تقويان على حملها، وجلست على السرير محاولة التجلُّد. ثم فُتح باب الغرفة ودخلت والدتها ووالدة حبيب ومعهما سيدة متوسطة العمر بسيطة الملابس يفيض وجهها بالطيبة والبساطة والوقار، فهمَّت سلمى بالوقوف لاستقبالهن فبادرتها هذه السيدة بالكلام قائلة: «لا تتعبي نفسك يا حبيبتي!» وهمَّت بها فقبَّلتها في حنان وهي تقول: «سلمت ألف سلامة، وسلم هذا الوجه اللطيف من كل سوء.» فقبَّلت سلمى يد السيدة شاكرة وعيناها تدمعان تأثرًا، وما كادت تسمع والدتها تقول: «هذه خالتك العزيزة والدة عزيزنا سليم.» حتى ازداد تأثرها، وعادت إلى تقبيل يدها والدموع تنهمر من عينيها. ثم تقدمت والدة حبيب وقبَّلتها بدورها، وقالت لها: «الحمد لله على سلامتك يا بنيتي.» ثم جلسن حول سريرها وأم سليم لا تني عن التطلع إليها في إعجاب ملحوظ، معربة عن أطيب تمنياتها لها بالشفاء التام والسعادة. وبعد قليل قالت والدة حبيب لسلمى: «إن قلوبنا قد اطمأنت برؤيتك اللطيفة يا عزيزتي. ولكن قلب سليم لا يطمئن إلا إذا حظي برؤيتك هو الآخر، فهل أدعوه من غرفة الاستقبال؟» قالت ذلك ونهضت وهي تنظر إلى سلمى، فلما رأتها أطرقت حياءً وسكتت، ومضت إلى غرفة الجلوس وعادت ومعها سليم، وما كادت عيناه تقعان على سلمى حتى هاجت أشجانه لما شاهد من نحولها وذبول خديها وتكسر أهداب عينيها، وهمَّ بيدها فأمسكها مصافحًا والعبرات تتساقط على خديهما وهما يرتجفان. وبقيا كذلك هنيهة وهما لا يستطيعان الكلام، ثم قال سليم وهو ما زال ممسكًا يدها: «اصفحي عني يا سلمى، اصفحي عن ظلمي وجهلي وحماقتي، إني لا أستحق الصفح ولكنك ملاك طاهر رحيم، وعفوك أعظم من إساءتي مهما تكن قد سببت لك من الشقاء والعناء!» وخنقته العبرات فعاد إلى سكوته وإطراقه، فشهقت هي الأخرى بالبكاء، وترنحت في وقفتها وازداد امتقاع لونها، فأجلسها مترفقًا على السرير، وجاءتها والدتها بزجاجة بها رائحة عطرية رشت وجهها بقليل منها. فلما أفاقت نظرت إلى سليم وهو واقف أمامها في خشوع وقالت له: «إن الله يغفر الذنوب جميعًا، وحسبي من الدنيا أنك عدت إلى اعتقادك بوفائي وإخلاصي.» فشعر لدى سماعه ذلك منها بكثير من الارتياح، وتنهد ثم حاول الكلام ليشكرها فلم يستطع لفرط تأثره وبكائه. فهمَّت والدته بسلمى وربَّتت كتفها قائلة: «إن هذا لأكبر دليل على عراقة أصلك ونبل أخلاقك يا بنيتي. والحقيقة أني أنا المذنبة في حقك لا سليم؛ لأنني انخدعت بوشاية المغرضين.» ثم أخذت هي الأخرى في البكاء. وهنا نهضت والدة حبيب، فأجلست والدة سليم بجانب سلمى، وأجلسته أمامهما بينها وبين والدة سلمى، وقالت: «الآن يجب علينا أن نحمد الله على اجتماع الشمل وحبوط مكايد الوشاة والحساد. فلنترك البكاء ولنتهيأ للأفراح.» ثم غيَّرت مجرى الحديث إلى مختلف الشئون العادية، فجلسوا جميعًا يتجاذبون أطرافه في صفاء وسرور. وبعد قليل فوجئ الجميع بسماع ضحكات عالية في غرفة الاستقبال، ثم دخل حبيب ومعه أدما ووالدتها وفي وجوههم دلائل البشر والابتهاج، وبعد أن حيوا سلمى وهنئوها بالسلامة وبعودة سليم، انضموا إلى المجلس، واشتركوا في الحديث. ••• كان حبيب قد آثر الانتظار وحده في غرفة الاستقبال حين مضت والدته لدعوة سليم إلى مقابلة سلمى في غرفتها، ليفسح له المجال لإظهار عواطفه. وفيما هو كذلك جاءت أدما ووالدتها فوجدتا الباب الخارجي للمنزل مفتوحًا، فدخلتا وفوجئتا بوجود حبيب وحده في غرفة الاستقبال، فنهض مرحِّبًا بهما، وهمَّ بيد أدما فأمسكها وأجلسها بينه وبين والدتها، ثم أخذ يشرح لهما حكاية سليم وسلمى من أولها إلى آخرها، ومساعيه لإعادة الوفاق بينهما، إلى أن وصل إلى زيارته الأخيرة لسلمى لتلاوة خطاب سليم عليها، وما تلا ذلك من دخول أدما مع شقيقته عليهما، ثم انصرافها غيرانة غاضبة. فاعترفت أدما بأنها تسرعت وأخطأت بما تفوهت به أثناء ثورتها أمام شفيقة. لكنها بقيت في حيرة من أمر خطابها إلى حبيب وكيف وصل إلى سلمى، فروى لها ما حدث من أن سليمًا هو الذي عثر بذلك الخطاب اتفاقًا حين كان مريضًا بمنزلهم في حلوان، فظن هو الآخر مثل ظنها وبعث الخطاب إلى سلمى وهو يحسبها كاتبته لمشابهة خطه خطها، متهمًا إياها بالغدر والخيانة مما سبب مرضها الذي ما زالت تعانيه. وهكذا صفا الجو بين حبيب وأدما، ثم نهضوا وهم يتضاحكون ودخلوا غرفة سلمى مسلِّمين مهنئين. وفيما هم جميعًا هناك، جاء الخواجة سليمان، فرحب بالضيوف ولا سيما سليمًا ووالدته، وجلس يشاركهم الحديث بعد أن اطلع على ما حدث باختصار. ثم قالت والدة سليم لوالدة حبيب: «إن كل ما أتمناه الآن أن نحتفل جميعًا في وقت واحد بعقد خطبة سلمى لسليم وأدما لحبيب.» فأطرقت سلمى وأدما خجلًا، ووافق الجميع على ذلك، وقال حبيب: «لكي تتم فرحتنا، يجب أن ننتقم أولًا من داود الدساس الكذاب وسعيدة العجوز الماكرة.» فضحك الخواجة سليمان وقال: «لقد أراحنا الله منهما وانتقم منهما أعذب انتقام.» فعجب الجميع لهذا النبأ، والتفوا حوله مستفسرين عما حدث لهما، فقال: «مررت منذ ساعتين بقسم البوليس فوجدت زحامًا شديدًا هناك، وعلمت أن رجلًا حاول قتل امرأة عجوز، فقبض البوليس عليه رهن محاكمته على هذه الجريمة وعلى ما اتهمته به المصابة من أنه حصل على جانب من تعويضات الإسكندرية زورًا وبهتانًا. ثم رأيت بعض الجنود وهم يحملون العجوز المصابة إلى المستشفى وهي بين الموت والحياة، وما كدت أرى وجهها حتى تبينت أنها عجوز النحس سعيدة الماكرة الخبيثة. ولم أكن أعلم تفصيل ما وقفت عليه الآن من لؤمها وخبثها، وإن كنت لم أشعر بالارتياح إليها منذ التحاقها بالخدمة هنا، فحزنت على ما أصابها ولعلها قد انتقلت الآن إلى جهنم وبئس القرار.» فقالت سلمى: «على الباغي تدور الدوائر.» وأمَّن الجميع على كلامها وهم يحمدون الله على أن كفاهم مئونة الانتقام من تلك العجوز وصاحبها الخائن الجشع المحتال. وأخيرًا دعتهم والدة أدما إلى تناول العشاء في منزلها القريب فقبلوا الدعوة، وانتقلوا جميعًا إلى هناك حيث أمضوا السهرة مع الخواجة سعيد والد أدما، واتفقوا على تحديد يوم لعقد خطبة سلمى وأدما، ثم احتفل بزفافهما معًا احتفالًا شائقًا شهده جميع الأقارب والأصدقاء. واكتفوا من الانتقام من وردة وابنتها بعد خيبة آمالهما بأن أرسلوا إليهما بطاقة من بطاقات الدعوة إلى الاحتفال بزفاف سلمى وسليم، فكان لهذه الدعوة وقع دونه وقع السهام المسمومة على قلبيهما، ولم تستطيعا تلبيتها طبعًا حتى لا تزيد رؤية العروسين في أحزانهما وحسرتهما على خيبة آمالهما. وكان نبأ ما حدث لسعيدة وداود قد جاءهما قبل هذه الدعوة بقليل. وظل أهل القاهرة زمنًا طويلًا وهم يتحدثون بأبهة ذلك الاحتفال وفخامته، وبما قاساه المحتفَل بهم من جهاد المحبين، إلى أن تكلل ذلك الجهاد بالنجاح.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/0/
مقدمة
لم يخطر لي يوم كتبت رواية المملوك الشارد أنها ستصادف ما صادفته من استحسان الأدباء لها، وإقبالهم على مطالعتها، واعتنائهم بانتقادها أو تقريظها، فإن كتبهم ورسائلهم قد انهالت عليَّ انهيال الغيث، وهم فيها بين منشطٍ ومستحسن ومقترح ومنتقد ومقرظ. وقد تكرم بعضهم بدرج ذلك في بعض الصحف اليومية، وعَنَتْ مجلة المقتطف العلمية بانتقاد تلك الرواية انتقادًا دقيقًا، فعلمتُ من خلال ذلك أن الرواية على حقارتها قد استحثت الأذهان للنظر في الروايات التاريخية وانتقادها؛ مما يدلك على حاجة البلاد إليها، ويوجب ثنائي لحضرات القراء، وشكري لفضلهم؛ لأنهم جرَّءوني على كتابة رواية أخرى هي هذه. اخترتُ لها موضوعًا أقرب إلى حالتنا الحاضرة من موضوع تلك، فجعلتها تتضمن الحوادث الأخيرة في مصر والشام، وأخصها الحوادث العرابية والسودانية، وحادثة سنة ١٨٦٠ في دمشق، وما تخلل ذلك من الأحوال والأعمال؛ مما لا يفي التاريخ بتفصيله حتى يتمثل للذهن تمثلًا واضحًا. وقد أفضتُ بنوع خاص في وصف البلاد السودانية وعوائد أهلها، وأحوال المتمهدي الداخلية، مما لم يرد في كتب التاريخ وإنما عرفتُه باختباري الشخصي مذ وطِئتُ تلك الأقطار سنة ١٨٨٤، واختلطت بأهلها، وحضرت مجتمعاتهم ومواقع قتالهم، وتمرنتُ في لغتهم، واستطلعت سائر أحوالهم، وإما نقلًا عمَّن فرُّوا مؤخرًا من حوزة الدراويش بعد أن قضوا في أسرهم السنين الطوال، وقد عرفوا عوائدهم وأخلاقهم وسائر أحوالهم؛ فكلُّ ما سأذكره عنهم حقيقي يُركن إليه، ويُعتمد عليه اعتمادًا لا يقلُّ عن اعتماد كتب التاريخ بشيء. على أني لم أختر هذا الموضوع إلَّا إجابة لاقتراح بعض الأصدقاء، فلبيت الدعوة راجيًا أن تقع خدمتي لديهم موقع الاستحسان، ولا ألتمس إغضاءَهم عما يلاقونه فيها من الزلل، بل أتقدم إليهم أن يوازروني بما عوَّدوني من النصائح والملاحظات، ولا حاجة إلى تكرار إقراري بالعجز، ولا سيما في فن الروايات التاريخية؛ لوعرة مسلكها، وكثرة عقباتها، وتطفُّلي على خوض عبابها؛ فقد طالما أقررتُ بذلك فيما كتبته قبل الآن، ولكني أكرر الرجاء لحضرات الأدباء وذوي الفضل من المُطَّلعين أن يمدوني بآرائهم، ويتحفوني بإرشادهم؛ توصلًا إلى كتابة ما تروق لديهم مطالعته؛ لأني إنما أكتب لهم، ولا غرض لي إلَّا ارتياحهم لما أرجو أن يقوم لديهم مقام بعض الواجب عليَّ نحوهم، مما تلذ لهم مطالعته ساعات الفراغ؛ آملًا أن تكون هذه الرواية أقلَّ نقصًا، وأقرب إلى رضائهم من تلك، فإذا تحقق لديَّ ذلك نشطت إلى مواصلة الكتابة في هذا الفن، وبذلت الجهد حتى تكون الرواية الثالثة أقلَّ خطأ من الاثنتين. والله الموفق إلى الصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/1/
القاهرة
القاهرة عاصمة الديار المصريَّة، بناها الخلفاء الفاطميون في منتصف القرن الرابع للهجرة في مكان أناخوا فيه جِمَالهم يوم جاءوا لافتتاح الفسطاط؛ عاصمة القطر إذ ذاك. وفي ذلك المكان الآن حي الجمالية والجامع الأزهر وما جاورهما من الجوامع القديمة. وما زالت القاهرة منذ بُنيت تتسع عمارتها، ولا سيما منذ حكمت العائلة المحمدية العلوية، وعلى نوع خاص في عهد الخديوي إسماعيل باشا؛ لأنه كان مُغرمًا بفتح الشوارع، وتنظيم المدينة وتزيينها، فكثرت الشوارع الحديثة، وأُنشئت المنازل والقصور خارج المدينة الأصلية، فكان لنا بذلك أحياء الإسماعيلية والفجالة، وشوارع الدواوين والعباسية وشبرا وغيرها. وجميع هذه الشوارع متسعة، والأشجار محدقة بها من الجانبين. وقد أنار الخديوي المشار إليه المدينة بالغاز، فأصبح ليلها كنهارها، وازدادت بهجة ورونقًا، واستأنس الناس بالأنوار، واتساع الشوارع، وزخرفة الحدائق والمنازل والقصور، فأحبوا الطواف في المدينة في ليالي الصيف، فكثرت بسبب ذلك الأماكن العمومية، ولا سيما حول حديقة الأزبكية التي أصبحت الآن في منتصف المدينة، بعد أن كانت خارجها؛ لتكاثر العمارة هناك. وقد بنى الخديوي إسماعيل باشا حول الحديقة سورًا محاطًا بشبك الحديد تحدق به هالةٌ من الأنوار الغازيَّة، ورتَّب لها الموسيقى العسكرية تعزف كل مساءٍ بالقرب من بحيراتها المستديرة. فإذا دخلت الحديقة في المساء وأتيتَ الدكة المستديرة المزينة بالأنوار الغازيَّة؛ حيث تعزف الموسيقى، ترى الناس محدقين بها أفواجًا على اختلاف أجناسهم ونزعاتهم ومراتبهم ولغاتهم وألوانهم؛ من القوقاسي الأبيض الناصع إلى الزنجي الأسود الحالك، وترى في اختلاف لباسهم من العمامة العربية، والطربوش العثماني، والقاووق الفارسي، والبرنيطة الإفرنجية، والخمار المغربي، والحَبرة المصريَّة، والإزار والبنطلون والقفطان والسراويل وغير ذلك. وقسْ عليه سائر ما يخطر كل من امتزاج الأنواع والأشكال، مما لا يتفق وجوده في غير مصر من الأمصار. أما المدينة الأصلية، فبعكس كل ذلك؛ إذ لا يزال معظم أسواقها على النمط القديم مع الضيق وعدم الانتظام، وأما حاراتها فلم تنجع فيها وسائل التنظيف مع ما أراده الخديوي من الترتيب، وما تحداه من التنظيم، فهي لا تزال ضيقة الطرق، معوجَّة الدروب، وكأن الأقدمين أرادوا بتضييق الطرق استجلاب البرودة بحجب أشعة الشمس عنها. وأما الخديوي فعوَّض عن ذلك في الشوارع الحديثة بغرس الأشجار التي تظلل الطرق، وترطب الهواء بما يتصاعد عنها وعن الطرق المرشوشة بالماء من البخار.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/2/
شفيق
ففي سنة ١٨٧٨ كان في شارع العباسية في القاهرة منزل مبني على النمط الحديث كسائر المنازل الحديثة هناك، ومن أقلها بهجةً وكبرًا، تحدق به حديقة صغيرة بسيطة. والمنزل مُشرفٌ على الشارع العمومي المظلل بأشجار اللبخ المغروسة على جانبيه كسائر الشوارع الحديثة. والبيت مؤَلَّف من غرف قليلة مفروشة بالأثاث البسيط غير الثمين، ولكنه في غاية النظافة والترتيب، وفي جملة هذه الغرف غرفة أثمن ما فيها خزانتان ملآنتان كتبًا في لغاتٍ مختلفة، وفي أحد أركانها طاولة عليها بعض الكتب، وبجانبها رجلٌ بين الأربعين والخمسين من العمر، عليه لباس إفرنجي، وليس على رأسه شيءٌ على أنه لم يكن إفرنجي النزعة، وكان جالسًا على كرسي ساندًا يده الواحدة إلى الطاولة، وفي يده الأخرى كتاب يطالع فيه، وليس في الغرفة غيره، والباب مغلق عليه. أما الرجل فكان قمحي اللون، أسود الشعر، واسع الجبهة، حليق اللحية، في شعره شَيب، وفي وجهه تجعُّد، وفي عينيه ذكاءٌ، وفي أسرَّته عُبوس؛ كأنه ناقمٌ على الدهر الذي قضى عليه بالاكتفاء من الدنيا بولدٍ ذكر قد أنفق كل حياته في تربيته وتثقيفه، فضلًا عن أنه ما انفك منذ سنين كاسف البال، مرتبك الأفكار، منقبض النفس كأنه أصيب بنكبة من نكبات الزمان. ولم يكن أحدٌ يعلم سبب ذلك الارتباك حتى ولا امرأته، مع أنها حاولت استطلاع ذلك مرارًا، وكان ينكر عليها تارة ويعدها أخرى. فمرَّ عليها منذ تزوَّجها نحو العشرين سنة وهي حائرةٌ في أمره لا يهدأ لها بال إلَّا بمعرفة سبب ذلك الانقباض. ومما زاد اضطرابها، وأوجب اندهاشها، صندوق صغير مرَّ عليه منذ عرفت زوجها من الزمن مُقفلًا. وقد تقدمت إلى رجُلها مرارًا أن يُطلعها على ما فيه عبثًا، وإنما كان يقول لها سيأتي يومٌ تعرفين فيه سرَّ جميع هذه الغرائب، وتعذرينني على كتمانها عنك. ولم يكن هذا الكلام إلَّا ليزيد تشوقها إلى الاطلاع. ولكثرة ما ألحَّت عليه، وعَدها أنه يطلعها على ما في الصندوق، بشرط أن يكون ذلك مكتومًا عن كل فرد سواهما، وأنه لا يطلعها على شيءٍ فوق ذلك قط، ولا يفوه بكلمة واحدة، فقبلتْ. ولم تعلم أن اطِّلاعها على ما في الصندوق بغير أن تعلم أسبابه وتفاصيله لمِمَّا يزيد قلقها واضطرابها. وكان ذلك اليوم يوم الموعد، على أن يكون فتح الصندوق في منتصف الليل، بعد أن ينام أهل البيت جميعًا. وكان ذلك الرجل في تلك الساعة جالسًا يفكِّر في حكاية الصندوق وقلبه يرتجف كلما تصوَّر أنه فتَحه، فأخذ يتلاهى بمطالعة بعض الكتب والجرائد التي كانت أمامه على الطاولة. فلما كان الغروب انتبه الرجل بغتةً كمن هبَّ من رقادٍ، فنظر إلى الساعة فإذا الوقت قد أزف، فغمز جرسًا أمامه فحضر خادم أسمر اللون عليه الجلابيَّة والعمامة، فقال له الرجل: ألم يحضر شفيق بعدُ، قال: كلَّا، يا سيدي، لم أره هذا المساء، فاضطرب الرجل وسكت هنيهة ثم قال للخادم: اذهب، يا أحمد، ادعُ لي الست، قال: حاضر. فمضَى. وبعد يسيرٍ، جاءَت الستُّ (امرأته) — وكانت أصغر منه سنًّا. أما وجهها فكان أكثر طلاقةً، ولباسها على الزي التركي — وفي يدها مجلة المقتطف العلمية؛ كانت تطالع فيها في غرفتها تلهي بها نفسها عن التشوُّق في انتظار فتح الصندوق. فلما دُعيت إلى زوجها جاءَت مسرعةً والمجلة بيدها، فقابلها قائلًا: ألم يأتِ شفيق بعدُ يا سعدى، فأجابته بلهفة: ألعله ليس عندك؟ فإني لم أره هذا المساء، ولكني كنت أظنه جاء ودخل حجرتك يطالع الجرائد أو يقرأُ شيئًا آخر. يا ويلاه! أين ذهب الغلام الليلة؟ فإنه لم يسبق له تأخير مثل هذا قط. كم هي الساعة الآن؟ وأخذت تدق يدًا بيدٍ، فقال: هي الساعة السابعة بعد الظهر، قالت: وميعاد حضوره الساعة الخامسة ونصف؛ أي بعد إقفال المدرسة التجهيزيَّة بساعة واحدة، فما سبب هذا التأخير؟ فلما عاين زوجها اضطرابها، ندم على ما أظهره من القلق لديها، فأراد تطييب قلبها فقال: لا بأس عليه من التأخير؛ فإن المدينة في أمانٍ، والناس يسيرون ليلهم كنهارهم، والشوارع آهلة إلى ما بعد نصف الليل، لا يتعدى أحدٌ على أحد، فلعل شفيقًا كان في رفقةٍ من التلامذة فمروا بحديقة الأزبكية ليسمعوا أنغام الموسيقى العسكرية، أو أنهم دعوا إلى منزل أحدهم؛ فلا يضطرب بالك. قال ذلك وقلبه قلِقٌ على الغلام، وإنما أراد تسكين رعب الوالدة، فقالت سعدى: لا تعتمد على الظنون يا إبراهيم، فإن الغلام قد تأخَّر، ولا يخفى عليك شدة تعلقنا به؛ لأنه وحيدنا، وكل الآمال معلقة به؛ إذ قد قدَّر الله ألا يكون لنا غلام سواه. أفيَليقُ بنا أن نهمل أمره؟ فأجابها بصوت منخفض قائلًا: لا خوف على الغلام، بإذن الله، وأؤكد لك بأنك سترينه أمامك بعد برهة، وها إني قد أحضرت له عدة جرائد إفرنجية ومقالات علمية ليطالعها؛ لأن درس المدرسة يدوخ الدماغ. فقالت سعدى: وأنا أيضًا قد عوَّلت أن أُطلعه على مقالةٍ في هذه المجلة شاقني معناها؛ لأنها تبحث عن مآثر العرب في الأندلس، ولكني أصبحت قلقة لتأخره، فقال لها: لا تجزعي؛ إنه في حراسة الله. فسكتتْ سعدى مراعاة لقول زوجها، واحترامًا لرأيه، وعادت إلى حجرتها وأسندت نفسها إلى نافذة مشرفة على الشارع، ولبثت تنتظر مجيء ولدها وهي على مثل الجمر، وقد نسيت اشتياقها إلى استطلاع ما في الصندوق. أما الرجل فلم يعد يستطيع صبرًا، فأخذ يقلب كتابًا أمامه؛ ليشغل نفسه به ريثما يأتي ابنه، وقد أظلمت الدنيا في عينيه؛ لأن شفيقًا لم يتأخر عمره إلى مثل تلك الساعة، فدقت الساعة ثماني دقات، فازدادت دقات قلبه، وأمر بالخادم فحضر، فقال له: أتعرف بيت عزيز أفندي صديق شفيق، قال: نعم يا سيدي، هو ذلك البناء الكبير في شارع عابدين، فقال له: سرْ حالًا وابحث عن شفيق هناك، فإذا وجدته قل له: إن والديك ينتظرانك للعشاء. وأْتِ به معك، قال: حاضر. ومضى، ولم يكدْ يخرج حتى عادت سعدى إلى غرفة زوجها تسأله عن شفيق، فأخبرها بما فعل، ثم عادت إلى غرفتها، ولبث الاثنان ينتظران عود الخادم حتى عاد وليس معه أحد. فبادره إبراهيم بالسؤال عن شفيق، فقال: قد ذهبت إلى بيت عزيز أفندي فإذا به لم يجئ البيت حتى الآن، إلَّا أنهم ليسوا قلقين لذلك؛ لأنها ليست أول ليلة باتها خارجًا، فقال إبراهيم: هل أنت متحقق ذلك؟ قال: نعم، يا سيدي، وأنا أعلم أن سيدي شفيقًا لا يألف الجلوس في القهاوي؛ ولذلك لم أفتش عنه هناك. فبهت إبراهيم وهو في غاية الاضطراب، ولكنه كظم ما به خوفًا على امرأته من سلطان العواطف؛ لأنها كانت شديدة التعلُّق بولدها هذا؛ لأنه وحيدها، ولم يكن أبوه أقلَّ تعلقًا به منها، إلَّا أن الرجال أقوى على احتمال الأهوال من النساء؛ ولذلك كان إبراهيم واجسًا على امرأته. وفيما هو واقف يخاطب الخادم جاءَت امرأته مسرعة، ولما لم ترَ شفيقًا صاحت: أين شفيق يا أحمد؟ قال: يا سيدتي، لم أجده في بيت عزيز أفندي، وقد سألت الخدم عنه فقالوا: إنه لم يجئ. ثم بادرها زوجها قائلًا: لا يلبث أن يأتي؛ لا يضطرب قلبك يا سعدى، وسنصبر قليلًا، فإن لم يجئ أذهب أنا للتفتيش عنه. فضربت سعدى كفًّا بكفٍّ ووقفت صامتة وقد ملأت الدموع عينيها، وأحبت التجلُّد فلم تستطع، فنظرت إلى زوجها فإذا هو غارق في بحار الهواجس، ثم التفتَ فإذا هي تنظر إليه، فتبسَّم محاولًا إخفاء عواطفه وقال: سامح الله شفيقًا؛ أظنه في النزهة لا يبالي بقلب الوالدين، ولقد صدق من قال: قلبي على ولدي انفطر، وقلب ولدي علي الحجر. ومتى جاءَ لا بدَّ لي من أن أعنفه؛ لكيلا يعود ثانية إلى مثل هذا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/3/
التفتيش عن شفيق
أما سعدى فلم تعد تستطيع الجلوس، فذهبت إلى النافذة ووقفت مستطلة تنظر إلى الشارع المضيء بالغاز وعلى جانبيه الأشجار. وما زالا كذلك حتى دقت الساعة التاسعة، فهبَّ الرجل ولبس طربوشه ثم قال لامرأته: ها إني ذاهب للتفتيش عن شفيق، ولا أغيب عنك أكثر من ساعة وأرجع به، إن شاء الله. ثم أخذ عصاه بيده، وغادر امرأته على مثل جمر الغضا. أما هي فبقيت مستطلة من النافذة لا تحوِّل نظرها عن الشارع لحظةً حتى دقت الساعة العاشرة، ولمَّا لم يرجع أحد زاد خفقان قلبها، وأخذت ركبتاها ترتجفان، وهي إلى تلك الساعة لم تذق طعامًا، وكانت تفكر تارةً بولدها، وطورًا بزوجها، وطورًا بذلك الصندوق؛ حتى دقت الساعة الحادية عشرة، فأظلمت الدنيا في عينيها، فجلست إلى طاولة مستلقية رأسها بيدها على تلك الطاولة، وأخذت تندب سوءَ حظها. وفيما هي في ذلك سمعت طارقًا يطرق باب الحجرة طرقًا خفيفًا، فهمَّت إلى الباب بعد أن مسحت دموعها، فإذا بالخادم، فسألته عن أمره فقال: يا سيدتي، إذا أذنتِ لي أسير وآتيك بسيدي شفيق، فأجفلتْ قائلة: وهل تعلم مكانه؟ قال: نعم؛ لأني أذكر قولًا قاله مرةً لعزيز أفندي، فترجح لديَّ معرفة مكانه الآن، فقالت بلهفة: وأين تظن مكانه، قال: أظنه ذهب مع صديقه عزيز (وحرق أسنانه) إلى احتفال فتح الخليج؛ لأني سمعت عزيزًا منذ بضعة أيام يُحبِّب إليه الذهاب إلى هناك لمشاهدة الأنوار، واستماع الأنغام، ورأيت سيدي يتمنَّع قائلًا: إنه لا يعتد بهذه المناظر، وإن المطالعة لأشهى لديه من كل الاحتفالات. وحضرتُك تعرفين دهاء هذا الشاب، وسلامة نية سيدي شفيق وإخلاصه لأصدقائه. فقالت سعدى وقد لاحت على وجهها أمارات البِشْر: وما الذي خافه من ذهابه إلى ذلك الاحتفال؟ فكيف أنه لم يخبرنا ولا أظن والده كان يمنعه من ذلك؟ فقال أحمد: لا يا سيدتي، بل كان يمنعه؛ لأن هذا الاحتفال وأمثاله ليست هنا لمجرَّد الاحتفال المقصود، وإنما يحدث أحيانًا أمور مغايرة للآداب لا يرضاها سيدي الكبير؛ ولذلك قلت إنه كان يمنعه من الذهاب. قالت سعدى: كيف كان الحال، فإن المراد أن تأتي بشفيق. ثم تنهدت وقالت له: سرْ، وفَّقَ الله مسعاك. وكان أحمد هذا في الأصل من أنفار الجهادية، وقد تقلب مع الدهر وعرف دخائل الناس، وكان يظن في عزيز صديق شفيق سوءًا، ولا يحب صداقته لسيده، ولكنه لم يكن له أن يشور عليه في ذلك، فكان رصدًا وعينًا عليهما؛ لأنه كان يحب سيده وابن سيده محبة عظيمة، وكان همامًا غيورًا، فلما أذنت له سيدته بالذهاب خرج قاصدًا فم الخليج، ومكثت سعدى في البيت وهي بين وجل وريب حتى كاد يُغمى عليها، فنادت جارتها للاستئناس بها، وأخبرتها بغياب شفيق، فشاركتها باللهف، وأتتها ببعض المنعشات، ولبثت سعدى تنتظر باب الله والفتح.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/4/
شفيق وعزيز
أما شفيق، فكان شابًّا في التاسعة عشرة من العمر، طويل القامة، معتدلها، قمحي اللون، ذا عينين سوداوين تحت حاجبين متصلين، صغير الفم، واسع الجبهة، أسود الشعر، خفيف العارضين، وكان قد ربِّي في بيت أبيه تربية حسنةً جدًّا، فشبَّ كريم العنصر، طيب السريرة، لا يعرف أبواب المكر ولا أساليب الناس في الخداع. وكان مع ذلك ذكيًّا نبيهًا حاذقًا، فأدخله والده المدرسة التجهيزيَّة الأميرية؛ ليتم دروسه على نفقة الحكومة؛ لأنه لم يكن في سعة كبيرة من العيش، على نية أن يعلمه مهنة الطبِّ أو المحاماة لمَا رأى فيه من الذكاء. وكان لباسه في غاية البساطة، وعلى الزيِّ المعتاد من السترة والبنطلون والطربوش العزيزي، وكان في وجهه — على صِغَر سنِّه — مهابة كبار الرجال؛ قلما يتجرأ أصدقاؤُه على ممازحته، ولو كانوا أكبر منه سنًّا، فكان لذلك كثير الهيبة لدى كل معارفه، وكان على صِغَر سنِّه يخاطب كلًّا حسب مقامه، وعلى مقتضى المقام، وقلَّما كنتَ تراه في مجلس أولاد أو معرض لهو؛ ولذلك كان أساتذة المدرسة وتلامذتها يحبونه، ويعتبرونه كثيرًا. وكان لفرط ذكائه لا يعاني تعبًا في الدرس، ولم يكن أبناءُ صفه يطالعون دروسهم إلَّا إذا جاء شفيق فيشرح لهم الدرس كأنهم تلامذة وهو أستاذهم. ولم يكن أحد منهم يحسده لكثرة ما كانوا يحبونه، إلَّا عزيزًا؛ فإنه كان رفيقًا له في الدروس. وكان كلاهما في السنة الأخيرة من سني المدرسة. أما عزيز، فكان مضادًّا لشفيق في أخلاقه ويحسده؛ لما رأى من منزلته الرفيعة لدى كل من يعرفه، وكان على جانب عظيم من الثروة التي اتصلت إليه بالإرث من والده، وكان قصير القامة، كبير الأنف، شديد سمرة البشرة، محبًّا للتفرنج، فلا يخرج إلى الشوارع إلَّا بالنظارات المسترسل خيطها من جانب عينيه على صدره على غير قصر في نظره، وكان يلبس طربوشه مائلًا فوق حاجبيه تيهًا وعجبًا، وحول عنقه قبة (ياقة) تُزاحم أحناكه، حتى لم يكن يستطيع إدارة رأسه ذات اليمين أو ذات اليسار إلَّا بصعوبة، وإذا وقف يقف منتصبًا، وإن شئت قل متطاولًا، في يده اليمنى عصًا غليظة معكوفة الرأس، وفي اليسرى سلسلة ساعته الذهبية الغليظة يلاعب أصابعه بها، وفي فمه السيكارة الإفرنجية الضخمة. ومِن شرِّ أخلاقه الادعاءُ والحسد والرياءُ وحب الرفعة عن غير استحقاق. ولم يكن شفيق يودُّ مرافقته؛ لأنه يكره كل ما تقدم من أخلاقه، وإنما جمعته به جامعة المدرسة، وكان عزيز يعرف حقيقة أطوار صديقه، فكان يتظاهر أمامه بما يرضيه استبقاءً لصداقته؛ لأنه كان يحتاج إليه بأشياء كثيرة أخصها مراجعة الدروس معًا. ولا يخفى أيضًا أن الغنى والترف يكسبان المرءَ مظهرًا يقرِّبه من رضاء الجمهور. وكان من عادة الخديوي إسماعيل باشا أن يختار أنجب تلامذة هذه المدرسة فيبعثهم إلى أوروبا؛ لدرس الطب والحقوق أو ما شاكل. وكان جميع التلامذة تلك السنة يتوقعون ذلك الفخر لشفيق؛ لامتيازه عنهم في كل شيءٍ، كما تقدم. أما عزيز، فكان كلما تصوَّر ذلك يكاد يتميز غيظًا، ليس رغبة في العلم، وإنما حبًّا للفخر، فصعب عليه أن يكون غنيًّا، ويكون شفيق أكثر اعتبارًا منه في عيون الناس. وكان لا ينفك باحثًا عن وسيلة تمكِّنه من حط شفيق في عيون الأساتذة أدبًا وعلمًا، وما زال حتى كانت أواخر السنة المدرسية والتلامذة يهتمون بمراجعة الدروس، فلاح له أن يسعى إلى إلهاء شفيق عن دروسه، وإيقاعه بما يعاب به، واتفق احتفال فتح الخليج في ذلك الأثناء، فأخذ قبل يوم الاحتفال ببضعة أيام يحسِّن له حضوره. وربما كان له بذلك غرض آخر. ولعِلمِه أنه يريد استئذان أبيه في الأمر قال له: دع هذا إليَّ؛ فإني أبعث لجناب والدك خبرًا مع المجري يوم عزمنا على المسير. وكان في نيته أن يهيج غضب والده عليه أيضًا، فعند انقضاء وقت المدرسة في ذلك اليوم، ألحَّ عزيز على شفيق أن يسير معه للتنزه في الجزيرة حتى يمسي المساءُ فيأتيا إلى مكان الاحتفال عند فم الخليج، فاعتذر بأنه لا بدَّ له من استئذان والده، فأكد له أنه سيبعث خادمه ليخبر والده ووالدته؛ لئلَّا يقلقا لغيابه. وكانت عربة عزيز تنتظرهما عند باب المدرسة وأمامها المجري بلباسه القصبي، فركبا وسارا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/5/
فدوى
فقضيا ساعة الغروب وما بعدها في الجزيرة بين ذهاب وإياب، وأحاديث مختلفة، حتى كادت الجزيرة تخلو من المارة والساقة. وفيما كانت العربة سائرة بهما في شارع الجزيرة المستدير، المظلل بأشجار اللبخ المتعقد فوق الشارع مثل عقد البناء، وصلت إلى الجبلاية، فلاحت منهما التفاتة فرأيا عند مدخل ذلك التل الاصطناعي عربة مقفلة من عربات حريم أصحاب المناصب من الأتراك، أمامها فرسان من الخيل الكبيرة الروسية الأصل. وكان الظلام قد سدل نقابه، والعربة لم يُضئ قنديلها. وكان السكوت مستوليًا على ذلك التل لا يسمع فيه إلَّا حفيف شجر السرو المحدق به، وقرع الأرض بأقدام الجوادين المرة بعد الأخرى، ولم يشاهدا أحدًا في العربة ولا بالقرب منها، وباب الجبلاية يستطرق إلى دهاليز اصطناعية في ذلك التل، فقال شفيق لرفيقه: ما رأيك بهذه المركبة؟ فتبسم عزيز وهزَّ رأسه ولم يبدِ جوابًا، فعاوده شفيق السؤَال بلهفة، فقال له: إن لهذه العربة حكاية سأقصُّها عليك عندما نبعد من هذا المكان. فاشتاق شفيق إلى استطلاع الخبر، فلما بعُدا يسيرًا سأله عن القصة، فقال: إنها عربة أحد كبار الأغراب، وأصله من جهات المورا، وقد جاءَ والده هذه الديار برفقة إبراهيم باشا عند عَودِه من محاربة تلك الجزيرة، فأقام في مصر وتزوَّج فيها، فولد له ابنه هذا، وعاش تحت كنف الحكومة، وترقى إلى رتبة باشا، واكتسب مالًا طائلًا، وله ابنة وحيدة بارعة في الجمال تركب هذه العربة للنزهة غالب الأحيان، فأحبها أحد شبان العاصمة — وهو صديق لي — ولمَّا طلبها من والدها لم يجبْ طلبه، بناءً على أن الابنة لم تحب أخلاقه، فأضمر لها السوء. وقد أخبرني في صباح هذا اليوم أنه تواطأ مع سائق العربة أن يأتي بها متأخرًا إلى هذا المكان للانتقام منها. ولا أخفي عليك أنها أخطأت في رفضه؛ لأنه شاب جميل كريم، راتبه ثلاثون جنيهًا ينفقها كلها على أصدقائه، فإذا حضرهم في قهوة أو معمل جعة (بيرا) لا يدع أحدًا منهم يدفع بارةً، وهو لطيف المعشر للغاية، يُضحك الثكلى للُطْف حديثه ومجونه. فاشتعل شفيق غيظًا لتلك القصة، والتفت إلى صديقه قائلًا: هل هو الآن في ذلك المكان يريد بالفتاة سوءًا؟ يا للدناءَة! ثم أمَر السائق أن يحوِّل الأعنَّة نحو الجبلاية، فأراد عزيز منعه بقوله ما لنا وللتداخل في أعمال الناس؟ فلم يُصغِ إليه، فاقتربا من الجبلاية بأسرع من لمح البصر، فسمعا صوتًا لطيفًا مرتجفًا يتخلل حفيف الأشجار يقول: خف من الله يا رجل. أليس عندك شرف؟ فنزل شفيق من العربة حالًا وطلب جهة الصوت داخل ذلك التل والمكان مظلم، فأنار عودًا كان في جيبه، فتراءى له في أحد الدهاليز المظلمة المعوجَّة شبحانِ؛ أحدهما امرأة والآخر رجل ملثَّم. أما الفتاة فحالما رأت النور نادت بأعلى صوتها: أنقذني من هذا الخائن بحرمة الشرف والشهامة. فلم تكن لحظة حتى كان شفيق بينهما وفي يده عصًا ضرب بها الرجل ضربة أخطأته؛ لأنه طلب الفرار مسرعًا، فناداه بقلب لا يهاب الموت: إلى أين تفر أيها النذل الذميم؟ فلم يسمع له صوتًا ولا رآه لشدة الظلام في تلك المغارة، ثم سمع وقع جواد فعلم أنه طلب الفرار. أما تلك الفتاة فنادت بتأثر عميق: لا عدمت الشهامة رجالها! مَن أرسلك أيها الرجل السماوي؟ أين أنت؟ وكان شفيق قد رجع ليأتي بمصباح من العربة؛ لأن الظلام كان مدلهمًّا هناك، فلم يفهم مقالها، فلمَّا عاد بالمصباح رأى فتاة ترتعد خوفًا وهي في زي نساء الأتراك، وعلى رأسها اللثام (اليشمك) تحته وجه كأنه البدر بهاءً، وعينان سوداوان برَّاقتان قد ملأتهما دموع الخجل والوجل، ووجنتان قد كللهما الاصفرار، فأمسكت يده بيدٍ كادت تذوب لطفًا قائلة: لقد أنقذتني من الموت والعار. جزاك الله عني خيرًا. أما شفيق، فقد خفق قلبه خفوقًا لم يكن يعرفه قبلًا، وغلب عليه الحياءُ حتى تلعثم لسانه عن الكلام، ولكنه تجلَّد وقال لها: لا بأس عليك، أيتها السيدة المصونة، ولا عاش مَن أراد بك سوءًا. هلُمَّ إلى عربتك لنسير بك آمنةً إلى منزلك. أما هي فلم تنفك ممسكةً يده ضاغطةً عليها مع ما كانت فيه من الرعدة والارتجاف مطرقةً خجلًا لا تستطيع رفع نظرها إليه، فلما وصلا للعربة لم يجدا سائقها؛ لأنه كان قد خاف تبعة ما جنته يداه، وأركن إلى الفرار، فأدخلها إلى العربة، ونادى سائق عربة عزيز، وأجبره أن ينير مصابيح تلك المركبة، ويسوقُها إلى حيث تأمره الفتاة، ثم استظل من النافذة وسألها إذا كانت في خير، أو تحتاج إلى شيءٍ، فأشارت بعينيها وملامح وجهها أنها في غاية الراحة، فعاد إلى عربة عزيز، فإذا بصديقه لا يزال في مكانه كأنه قطعة من خشب، ولكنه حالما رآه أظهر اهتمامًا، ونزل من العربة ويده الواحدة على نظارته لئلا تسقط، وفي الأخرى سيكارته المعهودة، وقال بلهفة: هل بك من بأس يا عزيزي شفيق؛ فقد أشغلت بالي؟ ماذا فعلتَ؟ وإلى أين ذهبت؟ فقد كان في عزمي أن أنزل لمساعدتك، لكني أعلم أنك شهم باسل لا تحتاج إلى مثلي، فبقيت بانتظارك هنا، فأين ذلك الخائن؟ فنظر شفيق إليه نظرة الاحتقار ولم يبدِ جوابًا، فقال له: أين سائق عربتنا؟ فقال له: ذهب لسوق العربة الثانية، وأنا أسوق هذه، فضحِك عزيز ضحكة الخجل وقال: هل لك معرفة بسوق العربات يا شفيق؟ فأجاب مبتسمًا: نعم يا عزيزي. أما قيل: «ألبس لكل حالة لبوسها.» ولم يزد. فسارت عربة الفتاة أولًا، ثم تبعتها الأخرى، وما زالوا سائرين وقد استولى عليهم السكوت حتى تجاوزوا جسر قصر النيل (الكُوبري)، فوقفت العربة الأمامية بغتةً، فاضطرب شفيق لذلك، ونزل يبحث عن الداعي لوقوفها. وكان ذلك في شارع مضيء بالأنوار الغازية التي مزَّقت بقوَّة نورها حجاب الظلام عن تلك الأماكن، فأسرع شفيق حتى اقترب من العربة، واستطلَّ من نافذتها يبحث بنظره ليُدرك السبب، فوجد الفتاة جالسة وقد هدأ روعها من الاضطراب الذي اعتراها في الجبلاية، وأبرقتْ أسرَّتها، وأشرق وجهها، فلما رأته أمسكت بيده ضاغطة عليها، وقالت له والخجل يحول بينها وبين التأمُّل في وجهه: اعلم يا سيدي أن حياتي وشرفي هذه الليلة كنتُ خسرتهما لولا شهامتك وشرف مباديك، فأنا مديونة لك بهما. فخجل شفيق ولم يُجبْ، وقد تورَّدت وجنتاه، وأندى جبينه، فقالت له: هل لك أن تخبرني عن اسمك لأذكر أمام والدي ما أبديتْ نحوي من الشهامة والفضل. فأجاب شفيق بصوت رقيق تتخلله شعائر الغرام ونغمة الحب — والله أعلم بما كان له من التأثير الخفي على قلب تلك العذراء: إني أيتها السيدة المصونة لم أفعل إلَّا ما أوجبته عليَّ الإنسانية، فلست أنتظر مكافأةً سوى ألا تذكري هذا الأمر أمام أحدٍ من العالم؛ صيانةً لشرفك، حتى ولا أمام والدك؛ لئلا يوقع فيك شبهة أو مظنَّة.» فبادرته: معاذ الله أن أقصد بكلامي مكافأتك؛ لأنه أمرٌ لو أردته ما استطعت القيام به، ولكنَّ ذكْرَ الجميل فرضٌ على الإنسان، وأي فضل أعظم من الإنقاذ من العار والموت، فقال وقد غلب عليه الخجل حتى كاد يمتنع عليه الكلام: إني لم أفعل ما يستحق هذا الثناء، وإنما عواطفي قادتني بأمر من الله لأنقذ ملاكًا جسمانيًّا من التلطُّخ بحمأة العار، وما ذلك إلَّا لحسن حظي. قالت: وهل من عبارة تفي بأداء الشكر لتلك العواطف الشريفة؟ وأمَّا حُسن الحظ فهو لي؛ لأني ربحت بك حياتي، أو بالأحرى شرفي الذي هو أعزُّ من حياتي. وفيما هما بأثناء الحديث سمعا عزيزًا ينادي: ما بالك يا شفيق؟ لقد أطلت بنا الوقوف وقد حان ميقات العشاء، فهيَّا بنا. فقالت الفتاة: ومن ذا الذي يتكلم؟ أجابها شفيق: صديق لي رافقته للنزهة على أن نسير معًا إلى احتفال فتح الخليج هذه الليلة. قالت: أحسُّ أني أزعجتكما، فأتقدم إليك أن تجيبني على سؤَالين ثم تعود إلى صديقك. قال: مُري ما بدا لك. قالت: أولًا: أرغب إليك أن تخبرني عن اسمك إن لم يكن لإعلام والدي، فلأحفظه عندي ذكرًا لشهامتك ومروءَتك اللتين يعزُّ وجودهما في شبان هذه الأيام. ثانيًا: أن تخبرني عن اسم ذلك الخائن إذا كنتَ قد عرفته من تحت اللثام. قال: أما سؤَالك الأول، فقد يكفيني فخرًا حفظ اسمي عندك، ونِعَمَّ ما طلبتِ، على أني أود ألا تطلعي أحدًا على الحكاية، واسمي «شفيق». أما الثاني، فأتقدَّم إليك أن تسدلي عليه سترًا؛ إذ لا يليق بشريف مباديك وسامي أدبك أن تنتقمي من اللئام؛ فاحسبيها هفوة من هفوات الشباب، على أني لا أتقاعد عن الاقتضاء عن استطلاع اسم الرجل وإفادتك؛ فأْذَني لي قبل أن أودِّعك أن أتطفل بسؤَال أطلب إليك الإفادة عنه، ولكني أخشى أن يثقل عليك. قالت: مُرْ؛ إني رهينة أمرك. قال: هل لك أنت تقولي لي ما الاسم الكريم. قالت: اسم الداعية فدوى. قال: عاشت الأسماء، وفدتك روحي أيها الملاك البشري. ثم ضغط على يدها مودعًا، فأجابته بالمثل، فبارحها عائدًا إلى عربته وهو غارق في تيار الغرام، وقلبه يخفق، وركبتاه ترتجفان، ولسان حاله يقول: فلما وصل كان رفيقه قد ملَّ الانتظار، وكاد يتميز غيظًا، وقد اضطرم فؤَاده حسدًا، لكنه أخفى ما في سرِّه، وأبدى الابتسام، وكان عزيز يعرف فدوى منذ أشهر وقد مال إليها، لكنه لم يجسر على طلبها خوفًا من الفشل؛ لأنه رأى ما ألمَّ بسواه؛ لعلمه أنها لا تنظر إلى الغنى ولا حسن الزي، وتحتقر كل غرٍّ متكبر ولو مَلَك مُلْك قارون. وكان عزيز — لسفالة طباعه — يعدُّ كرم طباع تلك العذراء وأنفتها كبرًا وتيهًا، فسرَّه إذلالها بواسطة أحد السفلة؛ لعله يستطيع بعد ذلك نَيْلها، فلما حبطت مساعيه ورأى ما صنعه شفيق نحوها أيقن أنها أحبته، فخاف أن يسرع في السعي إلى نيلها فتكون البلية عليه أعظم فلاح له أن يوطد أمل شفيق، ويجعل الأمر في يده هو؛ لعله يقوى على تفريقهما فينال مرغوبه. فبعد أن جرت العربتان قال عزيز: إنك يا شفيق لقد صنعت مع هذه الفتاة صنيعًا يجب عليها أن تكون مديونة لك به مدى الدهر. أما شفيق فكان غارقًا في بحار تأمُّله ولم يفقه لخطاب رفيقه، فأدرك عزيز منه ذلك فازداد حسدًا، ثم التفت إليه متلطفًا وقال له وهو يُظهر نحوه المحبة: إن مثل هذه الفتاة الطاهرة لا تليق إلَّا بك. فخفق قلب شفيق ولم يستطع بعد ذلك السكوتَ، لكنه هدَّأ روعه قدر طاقته، وخفَّض من انفعاله وقال: أين أنا من هذه البُغْيَة؛ فإن بيني وبينها أبعادًا؛ لأن أباها لا يتنازل إلى إجابة مثلي، وفضلًا عن ذلك فإني لست في حال تؤَهلني من الاقتران. فقال عزيز: أما أبوها فعليَّ إرضاؤُه؛ لأننا في عصر عزَّت فيه الشبانُ، وهانت فيه البنات، وإني واثق بأنك لو طلبت أيًّا من بنات الأغنياء تنالها، وتنال معها مالًا طائلًا، ولم يعد أحد من المتمدنين يتزوَّج بابنة قبل معرفة مقدار ثروتها. وهذه عادة إفرنجية حديثة النشأة في بلادنا. أما من حيث أهْليَّتك، فالذين بعمرك لا يمنعهم مانع عن الزواج. فإذا شئت فإني أسير إلى أبيها وأكاشفه بما أبديتَه نحو ابنته من الشهامة، ولا أشك بأنه يرغب في مصاهرتك، فقاطعه شفيق قائلًا: أرجو أن تكتم كل ما عرفته عن هذه الفتاة؛ صيانةً لها، وحفظًا لشرفها وشرفي، فأكون لك شاكرًا، وأما من حيث الأهلية، فأنت أليق مني؛ لثرائك وسموِّ حسبك ونسبك. وفيما هما في الحديث وقفت عربة الفتاة أمام باب حديقة تعطر تلك الأنحاء بشذا رياحينها، وعلى جدار الحديقة إلى جهة الشارع يعرش الورد والنسرين والأقحوان. وكان منظر الحديقة من الخارج بغاية الجمال، وفي وسطها قصرٌ بديع الهندسة، مرتفع البنيان، يظهر للرائي اقتدار صاحبه وكثرة غناه. فعلم شفيق أنه منزلها، فنادى سائق العربة أن يأتي إلى عربته بعد دخول الفتاة إلى بيتها، فأنزلها وعاد فساق العربة بهما إلى جهة حديقة الأزبكية حيثما ترجلا وذهبا إلى حانوتٍ تناولا فيه العشاء، ثم دخلا إلى الحديقة وأخذا يتمشيان حول بركتها. كل ذلك وشفيق غارق في بحارٍ من الهواجس، وعزيز يراقب حركاته وسكناته وهو يكاد يتمزَّق غيظًا وحسدًا، وقد نسي حسده له على دروسه ومنزلته بين الأقران. فأخذ يفكر في شرك يوقع فيه شفيقًا، ويجعل لنفسه الحق في الصنع الجميل الذي حملته الفتاة؛ لعله يستطيع به التوصل إليها. وما زالا يخطران حتى مرَّا بقهوة فيها القينات (العوالِم) يُغنين بألحان الخلاعة، فوقف عزيز وأوقف شفيقًا وهو لا يدري أنه فعل؛ لتشتت أفكاره. وهذه أول مرَّة طرق الحب قلبه فوجده خاليًا فتمكَّن. فأمسك عزيز بيده، ودخل به تلك القهوة، وجلسا أمام مائدة، ثم أمر صاحب القهوة فأتاهما بأقداح من الكُنياك، وشفيق لم يفطن إلى شيءٍ، وقد تملك فؤَاده الغرام، فكان حاضرًا بصورة الغائب؛ لأن مجموع حواسه تائهة في جمال فدوى وكمالها. وإذ هو على تلك الحال أخذ عزيز قدحًا وأعطاه ليشرب، فانتبه بغتةً كأنه هبَّ من رقادٍ عميق، والتفت إلى ما حوله فإذا بالناس جماعات ووحدانًا يشربون ويطربون ويقهقهون؛ يترنح بعضهم طربًا لصوت الغناء، وآخر ينادي بأعلى صوته: آه! طيب. كمان يا ستي، وآخرون يصافحون الأقداح، ويشربون بعضهم نخب بعض، فتملأُ ضوضاؤُهم كل تلك الحديقة. فنظر شفيق إلى صديقه مندهشًا وقال له: أين نحن يا عزيز؟ قال: نحن في محل طرب وانبساط. خذ هذه الكأس واشربها. فأجفل شفيق عند لمس الكأس إجفاله من العقرب، ونهض معتذرًا أنه لا يرتاح إلى مثل هذا الاجتماع. فتبسم عزيز ونظر إليه نظر الاحتقار قائلًا: ألعلك لا تزال صبيًّا كأولاد المكاتب تخاف كأس المُدام؟ خذ اشربها يا صاح؛ فإن فيها شفاء للناس. فقال شفيق: اعذرني لأني لم أعتد شربها، وأخشى ضرَّها لئلا تدور في رأسي، وكلا الأمرين صعب؛ فهيَّا بنا من هذا المكان. فضحك عزيز حتى كاد يستلقي، ثم نادى مخاطبًا إحدى القينات من وراء الحجاب: اسمعي يا ست فايقة قال هو خائف من هذه الكأس. فاغتاظ شفيق، وغلبت عليه مبادئه فنهض وارتدَّ عائدًا من حيث أتى، فتبعه عزيز يريد إقناعه في مجاراته، فلم يفعل، فلما رأى منه الإصرار على عدم الرجوع تحول عن عزمه ورافقه حتى خرجا من الحديقة، وشرع يخاطبه بما يقوم مقام العذر لديه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/6/
التفرنج الحديث
فخرجا من باب الحديقة القبلي، فأقبلا على الملهى (الأوبرا)، فوقف عزيز ونظر إلى ساعته وقال: إن الساعة لم تتجاوز التاسعة، واحتفال فتح الخليج لا يكون على أتقنه إلَّا نحو الحادية عشرة، فلنقض هاتين الساعتين في هذا الملهى؛ فإنه من أجمل الملاهي، والتشخيص فيه الليلة باللغة الفرنسوية. وكان شفيق لم يشاهد زمانه تشخيص الروايات لا في هذا الملهى ولا في غيره، فقال لصاحبه: إني أُحسن فَهم اللغة الفرنسوية، ولكني لا أرتاح إلى حديثها كالعربية. فضحك منه حتى فحص الأرض برجليه، ثم قال وهو يعدل وضع نظاراته: يا للعجب منك يا صاح! فإني لم أعرف لك مراسًا. أراك من جهة شابًّا ذكيًّا عاقلًا، ومن جهة أخرى — اسمح لي أن أقول لك — مغفلًا. أيليق بك ونحن في عصر التمدن أن تقول مثل هذا القول؟ وأعجب لقولك إنك لا ترتاح إلى التكلُّم في اللغة الفرنسوية، وجميع أصدقائنا المتمدنين لا يتكلمون إلَّا بها، حتى إنهم أهملوا اللغة العربية؛ لتعقدها وصعوبة التلفظ بها، فلا يتكلم بها الآن إلَّا البسطاء الذين لم يلِجوا المدارس. فبهت شفيق لخطابه، ونظر إليه نظرة مملوءة من الرزانة والكمال متبسمًا تبسمًا خفيفًا، وقال (مسندًا يده إلى قائمة القنديل الغازي أمام باب الملهى): إني لأعجب من رسوخ ذلك في اعتقادك، فكأني بك تحسب التمسك بالأخلاق الشرقية حِطَّة لمقامك حتى أنكرت اللغة التي ربِّيت فيها، وصِرْت تفضل الرطانة عليها، زاعمًا أنها لغة عامة الناس وأسافل السوقة. فما معنى مخاطبتك رجلًا عربيًّا بلغة أعجمية إلَّا التفنن بمبتدعاتك الفرنجية المؤَديَّة إلى سوء المصير؟ أرني واحدًا ممن تتقلدهم من الفرنجة — ولو مهما أتقن العربية — يخاطب ابن لغته بها، فكيف تسير على خطواتهم إلَّا فيما يوافق مصلحة بلادك منها؟ فأنت مقرٌّ بصنيعك هذا أن أحط الناس في عينيك إنما هم والداك، وسائر أعمامك وأخوالك وغيرهم من ذوي قرباك وأصدقائك؛ لأنهم لا يعرفون الرطانة، ولا يهملون لغتهم. فضحك عزيز ضحكة يمازجها الخجل وقال: إن قولك لأشبه بما نسمعه من عجائز بلادنا؛ لأنهم لم يخالطوا الفرنجة، ولا تعلموا التمدن، ولكن ما لنا ولهذا الجدال؟ هل تريد أن تدخل بنا الملهى أم لا؟ فقال شفيق: أما إذا كان لمشاهدة التمثيل، فإني لا أتمناه إلَّا مراعاةً لإرادتك، فقال عزيز: إذا كنت لا ترتاح إلى التمثيل، فإنك تسرُّ بمشاهدة معدَّات هذا الملهى، فهيَّا بنا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/7/
الأوبرا الخديوية
فابتاعا رقعة من مبيع الرقع خارج الملهى، ولما دخلا اندهش شفيق لازدحام الأقدام، ولما هنالك من الإتقان والترتيب؛ لأنه رأى السلالم مكسوَّةً بالمخمل الحريري، والجدران بالمرايا المذهبة الجوانب، الكبيرة الحجم، فلما دخل إيوان المرسح شاهد في سقفه ثريَّا (نجفة) بمئات من الشموع المنيرة بالغاز، فضلًا عن الأنوار الغازية في كل من الخلوات (اللوجات). ومن تلك الخلوات خلوة خاصة بالخديوي مفروشة بأحسن ما يكون من الأثاث، على أن الخلوات — بوجه عام — مكسوَّةٌ جدرانها بالمرايا الجميلة المذهبة، فانبهر شفيق لتلك المشاهد، غير أنها لم تكن لتشغله إلَّا يسيرًا؛ لأنه كان كلما شاهد فتاةً في لباسٍ تركي يختلج قلبه، ويعلو وجهه الاحمرار. وكان يحاول إخفاءَ ذلك جهده فلم يقدر. أما عزيز فما انفك مفكرًا في أمر فدوى، والاقتران بها، والإيقاع بشفيق. وكان يراقب شفيقًا وحركاته ليستطلع عواطفه. فلما رآه مفكرًا بادره قائلًا: بماذا تفكر يا عزيزي؟ قال وهو يخفي ما في ضميره: إني أفكر في هذا الملهى البديع، وما اقتضى لبنائه وفرشه من الزمن والمال، فقال وقد أدرك ما يحاول إخفاءَه: ألا تعجب إذا أخبرتك أن أفندينا إسماعيل باشا بناه وفرشه في خمسة أشهر. فتعجب شفيق وقال: إنه بالحقيقة لأمر غريب، ولكن ما الذي حمله على هذه السرعة، قال: حمله على ذلك قدوم ملوك أوروبا لحضور الاحتفال الذي أعدَّه سموُّه لفتح قنال السويس، فبنى هذا الملهى إتمامًا لدواعي الاحتفاء بهم. وقد دخل فيه بسبب ذلك نفقات طائلة. ثم رُفع ستار المرسح لمشاهدة الألعاب. أما عزيز فجعل ديدنه استراق النظر إلى خلوات السيدات بالمنظار؛ لعله يلمح معصم إحداهنَّ أو وجهها من وراء الحجاب. أما شفيق فكان يودُّ انشغال رفيقه بأي شيءٍ كان ليعود هو إلى التأمُّل بما وقع فيه من الحب، ولم يكن عمره يعلم معنى الوجد، فلحظ أخيرًا من صديقه النظر بمنظاره إلى إحدى الخلوات، والتبسم تبسمًا يدلُّ على أن وراءه شيئًا، مع ما يخامر تبسمه من ظواهر الخلاعة، فخشي شفيق أن يهزأ الحضور برفيقه لما يُبديه من ضروب الخلاعة، فكاد يتميز غيظًا وقد علتْ وجهه حمرة الخجل، فنظر إليه نظرة اللطف والوداعة قائلًا: علامَ تضحك يا عزيزي؟ قال وأمارات النزق والخفة تبدو على وجهه: إني أشاهد من وراء هذا الحجاب معصمًا صيغ من بلور، وكأني به لو لم يمسك بالأساور لسال من الأكمام سيل الجداول، وأرى تلك اليد أشارت إليَّ (قال ذلك وهو يكاد يطير فرحًا)، فالتفت إليه شفيق شذرًا وقال: ما الذي أوجب وضع هذا الحجاب على نوافذ خلوات المخدرات؟ قال: هو منع الناس من النظر إليهنَّ، قال شفيق: ولماذا؟ قال: مراعاةً لحرمة الدين وجاري العادة. فأحدق شفيق ببصره إليه قائلًا: وكيف إذن يليق بنا أن نسترق النظر إلى من يقيم بيننا وبينه حجابًا؟ أفلا نكون قد خرقنا حرمة الشرع والدين؟ فضحك عزيز ضحكة يستر بها خجله وسكت، وبعد يسير عاد إلى منظاره فنظر به إلى جهة المرسح وقال لشفيق: اعذرني قليلًا؛ فإني ذاهب في حاجة وأعود حالًا. فعجب شفيق لتلك الوقاحة، ولكنه لم يسعه إلَّا الإجابة، فبعد خروجه مكث بانتظاره حتى طال غيابه، فلاح له أن هذا التأخير لا يخلو من بأس على رفيقه، فلم يستطع البقاء، فخرج يبحث عنه في سائر الخلوات، وفي حجر المنعشات خارجًا، فلم يقف له على خبر، فبقي في هذا الاضطراب ساعة زمانية، فلما دقت الساعة الحادية عشرة لم يَر بدًّا من الخروج؛ ظنًّا منه أن عزيزًا ربما خرج من الملهى فرارًا من أمرٍ.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/8/
مناشدة الغرام من وراء اللثام
وفيما هو في حيرة أُنزل ستار المرسح لانقضاء الفصل، وابتدأ وقت الاستراحة بينما يبتدئُ الفصل التالي، فهمَّ بالخروج من خلوته، وإذا بعبد طواشيٍّ قد انتصب أمامه وهو طويل القامة، دقيق العضل، ممتلئُ الجسم، لا نبات في عارضيه، عليه لباس إفرنجي أسود، وعلى رأسه طربوش أحمر، فلما رآه شفيق هابه لغريب منظره، فبادره الطواشي بألطف إشارة محييًا، ثم قال له: أيريد سيدي أن يتكرَّم عليَّ بذكر اسمه الكريم؟ قال: اسمي شفيق. فقال له: إن أحد أصدقائك يودُّ مقابلتك الساعة ١١ ونصف بجانب باب حديقة الأزبكية القبلي، فتعجب شفيق من ذلك وقال له: من هم هؤلاء الأصدقاء؟ قال: قلت بعض الأصدقاء وأريد صديقًا واحدًا، قال: من هو؟ قال: هو (وهمس في أذنه) السيدة فدوى. فخفق قلب شفيق خفوقًا سريعًا، واصطكت ركبتاه، وأخذته القشعريرة، ولكنه تجلَّد جهد طاقته، ونظر إلى العبد نظرًا مملوءًا من الوداعة يظهر له امتنانه، وقال: إني سأُتمِّم ما أمرتُ به، ولكني الآن أفتش عن صديق لي تاهَ مني في هذا الملعب ولا أعلم أين مقرُّه، ولا أرى مفارقة هذا المكان قبل أن أقف على أثره، أو أتحقق أين ذهب. ثم خرج إلى خارج الملهى، فإذا بعربة عزيز لا تزال في انتظاره، فعلم أنه لم يخرج، فوقف يفكر في أمر فدوى واستدعائها إيَّاه في ذلك الوقت، وكيف تكون مقابلته إياها. وكلما تصوَّر ذلك يخفق قلبه، ثم يعود فيذكر ضياع رفيقه، فتحدِّثه نفسه أن يجيب داعي الوجد فيسير إلى فدوى، فتناديه المروءَة كيف تذهب قبل أن تجد رفيقك. وما زال مترددًا والخصي ينتظره خارجًا حتى كانت الساعة الحادية عشرة ونصف، فوقع في حيرة بين أن يلبي طلب سالبة لبِّه، أو أن يفتش عن صديقه، فدفعه دافع الوجد إلى أن يسير إلى فدوى ثم يعود بعد ذلك للتفتيش عن عزيز، فاصطحب الخصي إلى الحديقة فوصلا الرصيف بإزاء عمود مصباح غازي، وقد لحظ مركبة فدوى فاضطرب وامتقع لونه فتعثر في سيره حتى كاد لا يقوى على المسير، فلما أقبل على المركبة شاهد فدوى مستطلة من النافذة وهي في أبدع ما يكون من الجمال، وقد زايلها الوجل والاضطراب، فوقف خاشعًا يتأمل وجهها الطافح بهاء وحياة، وعينيها الدعجاوين الممتلئتين ذكاءً ودعة، يحرسهما حاجبان مزججان يكتنفهما لثام أبيض شفاف، ويتراءى من ورائه مبسم كله معانٍ، ويتجلى في وجهها وقار يزينه الحياء. فلما وقعت العين على العين ترامت السهام من الجانبين، وبادرته فدوى بالتحية مبتسمة، ثم مدت يدها إليه تصافحه وقد غلب عليها الحياء وأحست بقشعريرة انتظمت كل أطرافها، وتصبب جبينها عرقًا، ولم تقو على تسكين اضطرابها، فلما أدرك شفيق منها هذا وقد تصافحت الأيدي حتى ارتعدت فرائصه ولم يستطع الوقوف فأسند يده إلى نافذة العربة، وحاول تسكين روعه فلم يستطع ثم رفع بصره إليها وهم بمخاطبتها فامتنع عليه الكلام ولم يقو على إدامة النظر فأطرق حياءً ووجدًا، وأخيرًا تجلد وقال: أطلب إليك المعذرة يا سيدتي لتأخري بضع دقائق عن الموعد الذي ضربته، وما تأخرت إلا لأني كنت أبحث عن رفيق لي ولم أظفر به حتى الآن. قالت: لعله صديقك الذي كان معك في العربة؟ قال: نعم. فتكلفت الابتسام، وأرادت التكلم فمنعها الحياء. والتبس الأمر على شفيق فسألها: أهناك أمر تعرفينه عن صديقي عزيز؟ فلم تجب وظهر اضطرابها جليًا عند ذكر اسم عزيز، فتشاغلت بتثنية طرف اليشمك بين أناملها وبقيت مطرقة. فقلق شفيق، وأدرك أن هناك شيئًا لا تريد التصريح له به، وهم بسؤالها ولكنه استحيى فأجل هذا إلى ما بعد الحديث الذي استقدمته لأجله، وأصاخ بسمعه ينتظر ما تقول. فقالت: ربما تعجب من أني دعوتك الليلة لأخاطبك على انفراد وأنت شاب لم يسبق لي معرفة بك من قبل فضلًا عما تعلمه من عادتنا في التحجب عن كل رجل إلا أقرب ذوي قربانا. وربما تنسب ذلك مني إلى الخفة والطيش. فابتدرها شفيق قائلًا: معاذ الله فأنت أرفع من أن تهبطي إلى مثل هذا وقد خصك الله بكمال الذات والصفات. فنظرت إليه بعين الحب نظرة خرقت أحشاءه، ولم تقو على مكاشفته بما في فؤادها فقالت بصوت منخفض: لا يعرف ما في القلوب إلا الله، وما جرأني على أن أدعوك إلى هذا الموقف إلا الشهامة التي أبديتها لإنقاذي من العار، إذ جعلتني أحس فضلك وكرم أخلاقك وأشعر بأني مقصرة عن شكرك، ولا أقول مكافأتك لأنها أمنية لا يمكنني الوصول إليها ولو ضحيت نفسي بين يديك. فالآن أرغب إليك في أن تتقدم إليَّ بما تشاء لعلي أقوم بشيء من الواجب. قال: كفاك يا سيدتي إطراء، فلا تدعيني أحس قصوري عن بلوغ ما تصفينني به؛ فقد قلت إني لم أقصد بإنقاذك استجلاب المكافأة؛ إذ لم يحملني عليه إلَّا الواجبات الإنسانية، فلا أطمع بغير رضاك إن كنت أستحقه. فقالت وقد رمقته مستعطفة: أهذا غاية ما تتمناه يا شفيق؟ فأجابها وهو مطرق: إن ذلك غاية ما أستحق يا سيدتي. قالت: إنما أسألك عما تتمنى. قال: ولكن «لا كلَّ ما يتمنى المرءُ يدركه.» وكلل جبينه العرق خجلًا. أما هي فأدركت ما وراءَ ذلك، وغلب عليها الحياءُ، فأطرقت خجلًا وانزوت حياءً. فعاودها الخطاب قائلًا: إذا كنت لم أذكر لكِ ما أتمناه وقد نفرتِ؛ فكيف لو ذكرته؟! فدنت من النافذة بلطف وقد خفضت من اضطرابها ومدت يدها إليه فتصافحا بالأيدي، وأوضحا بالإشارة ما يقصر دونه الخطاب. ثم عاودت الحديث قائلة: أظنك تعجب لمعرفتي مقرَّك وإرسالي إليك، فأخبرك أني جئت الليلة مع والدي إلى الملعب لمشاهدة التمثيل، فرأيتك في إحدى الخلوات وأنا في إحداها، وكنت لا تحول بنظرك إلى خلوات السيدات، خلافًا لرفيقك الذي أضحى هزءًا وسخرية عند من لاحظوا حركاته. ونظرًا لما أشعر به من المنة نحوك أحببت مخاطبتك بما يظهر مظهر الشكر لديك، فاستأذنت والدي بالخروج من الملعب لترويح النفس، وبعثت إليك بخادمي الأمين بخيت، الذي أثق به كثيرًا؛ لما هو فيه من الأمانة والبسالة، وكرم النفس، وصدق الطوية. وقد أطلعته على ما أبديتَه نحوي من الشهامة بإنقاذك نفسي من العار والموت، حتى صار يحبُّك محبته لي، ويعجب ببسالتك وكرم أخلاقك. وحيث إن والدي بانتظاري في الملهى؛ فلا يحسن بي التأخير. قال: وأنا أيضًا سأعود للتفتيش عن عزيز. ونظر إليها ليرى ما يبدو على وجهها، فإذا هي مطرقة تريد التكلُّم ويمنعها الحياء. فقال: إني أقرأُ في وجهك كلامًا ترومين إظهاره ويمنعك الحياء، وعلى ما أرى إنه يتعلق بصديقي عزيز، فعلامَ تحجبينه عني؟ قالت: ليس في الأمر ما يوجب التستر، ولا يمكنني الإفصاح بالإجابة أكثر من أن عزيزًا ليس من أمثالك. قال شفيق: وهل عرفتِه قبل الآن؟ قالت: لم أشاهده إلَّا لمحة ساعة الغروب في حال الاضطراب، والآن في الملهى ساعة خرج ولم يعد، وأنت — لحسن طويتك — لا تزال في انتظاره؛ فنعم الشهامة شهامتك، ولكن ليس مع مَن … وأمسكها الحياءُ، ثم قالت: إذا شئت تحقُّق الخبر فاسألْ بخيتًا. والآن استأذنك بالذهاب؛ لأن والدي لا يزال في انتظاري، وإنما لا بدَّ لي من موعد أراك فيه. فبهت شفيق وقد تذكَّر ما مرَّ عليه هذه الليلة من الأهوال، وخاف أن تلحظ منه ما خامره من الارتباك، فقال: إني رهين إشارتك بما تأمرين، ونظرًا لفوات الوقت الآن، يلزم ألا تتأخري أكثر من ذلك. ثم أمرت السائق فساق العربة إلى الملعب.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/9/
دليلة الدلالة
أما شفيق فبقي واقفًا مكانه وقد فقد حواسه بذهاب فدوى حتى زاحمه المارَّة فانتبهَ إلى نفسه، وتوجهَ توًّا إلى الملعب فشاهد بخيتًا ينتظره خارجًا، فلما اقترب منه أخذه جانبًا وشرع يستطلع منه ما أشارت إليه فدوى ممَّا لم تقدر أن تفوهَ به هي، فقال بخيت: إني لا أستحيي أن أقول لك يا سيدي أن عزيزًا لا يستحق أن يكون صديقًا لك. قال شفيق: لماذا؟ – لأنه رجل ذميم. – وكيف ذلك؟ – لأنه غادرك على مثل الجَمر وسار إلى مَن هي على شاكلته. فقاطعه شفيق: ماذا تقول؟ أقول الواقع يا سيدي، وكيفية الأمر أني كنت في الخلوة مع سيدتي نراقب حركاتكما؛ لأنها أعجبت بك وبشريف مباديك، فلاحت مني التفاتة إلى بعض الخلوات، فإذا بواحدة قد أومأت إليه من وراء الحجاب. ولما خرج هو من عندك خرجت هي من خلوتها، ولا أعلم إلى أين، وإنما أؤكد لك أنهما لم يخرجا من الملعب، فإذا بقيت هنا إلى انقضاء التمثيل لا بدَّ من أن تراه خارجًا. فقال شفيق وقد اشتدَّ به الغضب: يا للغرابة! كيف يمكن أن يكون ذلك؟ قال بخيت: إن سموَّ أدبك يا سيدي يجعلك ألا تظن به سوءًا؛ فتعال بنا ندخل الملعب وأنا أبحث عنه، فإذا ظفرت بمكانه أتيتُ بك إليه وأريتُك إياه رأي العين. ثم دخلا وسار شفيق إلى خلوته، وذهب بخيت ليفتش عن عزيز. وبعد يسيرٍ، عاد مهرولًا وعلى وجهه أمارات الدهشة، فسأله شفيق عن الخبر، فقال: لقيت صاحبك وسيدي الباشا في خلوة يتسارَّان، وسأرجع إليك بما يدور بينهما، فانذهل شفيق ولبث مبهوتًا يفكر في أمر صديقه، وعاد بخيت لاستطلاع الخبر. أما ما كان من أمر عزيز، فإنه غادر شفيقًا في خلوته وخرج لمحادثة عجوز دهياء كأنها حية رقطاء بجفن أحمر، وخد أصفر، ووجه أغبش. وكانت هذه العجوز في الخلوة التي أشار إليها بخيت، وهي دلَّالة تبيع الأقمشة والمصاغ على السيدات في بيوت الأعيان وأرباب المناصب، تتكلم التركية والفرنسوية جيدًا، وقد عاشت زمنًا طويلًا حتى صيرها الدهر عظْمًا على جلدٍ، فلما رأتْ عزيزًا رحبت به؛ طمعًا في غنائه، وقالت له: ما وراءك؟ قال: بل أنت ما وراءك؟ قالت: ليس لديَّ إلَّا الخير. فضحك عزيزُ مُظهرًا لها الوقار والاعتبار وقال: أدامك الله لنا يا خالتي دليلة؛ إنك — والله — ملجَؤُنا وهدانا. قالت: بارك الله فيك يا ولدي. فقال: أعندك للسرِّ مكان؟ قالت: بئر عميقة. وهل تجهل ذلك؟ قال: كلَّا، وأنا لديَّ أمر ذو بال أحتاج في قضائه إلى هِمَّتك وغَيرتك. قالت: قل ما بدا لك. إني رهينة أمرك. فمدَّ يده إلى جيبه وأخرج نقودًا في منديل وقال لها (جاعلًا تلك الصرَّة في يدها بإشارة لطيفة): مرادي أن أُكلِّفك قضاءَ أمرٍ أرجو ألا يكون صعبًا لديك. قالت وقد وضعت الدراهم في جيبها: ثق يا حبيبي أنك بمعزَّة ولدي، وما يهمك يهمني، وقد عتبت عليك لدفعك لي دراهم، ولم أقبلْها إلَّا مرضاةً لك. فقال عزيز: ليس لنا بركة إلَّا فيك يا خالتي، وأما ما أطلب إليك قضاءَه فهو: هل تعرفين فلانًا باشا؟ فقهقهت دليلة قائلةً: أليس الباشا المورالي الذي كان أبوه في جند إبراهيم باشا عند عوده من حرب المورا، فإني أعرفه جيدًا، وأعرف امرأته وهي تعرفني، وكل يوم تقريبًا أراها، وذلك من يوم أتى بها من بر الشام؛ لأنه تزوَّج بها هناك. قال: وهل تعرفين ابنته فدوى ذات الحسن والجمال والبهاء والكمال. قالت: كيف لا أعرفها وهي عندي بمنزلة ابنتي، وقد عرفتها منذ نعومة أظفارها. قال عزيز: لقد قضي الأمر؛ فإذا كانت هي — كما تقولين — بمثابة ابنتك، أظنُّك لا تكرهين أن أكون عندك بمثابة صهرك. فسكتت هنيهة ثم قالت: ذلك أمر سهل، ولا يكون إلَّا ما تريد؛ فأنت شاب غنيٌّ، وهي لا تطمع بمن هو أكثر منك مالًا، وأعظم نوالًا، ولكني علمتُ منذ بضعة أسابيع أنها معقود عليها لأحد شبان العاصمة. فقاطعها عزيز قائلًا: لم يعقد له عليها، وإنما طلبها من أبيها ولم ترضَ هي، وقد ترتب على ذلك ميله إلى الانتقام منها. فامدُديني برأيكِ لعلِّي أكسب رضاءَ تلك العذراء؛ لأني أحبها حبًّا زائدًا. قالت: عليك بمرضاة أبيها، وعليَّ مرضاة أمها. أما هي فلا أظنها تخالف والديها. قال: وما الذي يُرضي أباها؟ وإلامَ تتوق نفسه؟ قالت: إنه بخيل يحب المال، ويستسهل الصعب في سبيل نواله، ومثله الإطراء والمدح. قال: ماذا يتعاطى من الأعمال؟ – لا يتعاطى عملًا؛ لأنه ذو عقارات كثيرة يعيش مِن دَخْلها، ويقضي معظم أيام السنة في أبعدية له في مديرية الشرقية. قال عزيز: عليكِ إذن استطلاع رأي والدتها. وها إني ماضٍ إلى والدها لعلي أستفيد منه شيئًا. ثم ودَّعها وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/10/
سلاح الضعيف الحيلة
فسار إلى خلوة الباشا ودخل عليه مُسلِّمًا بإحناء رأسه كتحية الإفرنج. فلما رآه الباشا اعتبره لما يظهر على لباسه من مظاهر الرفعة والمجد، فرحب به وأجلسه بجانبه، ثم سأله عن بلاده وإلى من ينتسب، قال وهو يمضغ الكلام في فمه ويقطعه شأن أغراب اللغة الذين لا يحسنون التكلم بالعربية جيدًا: إني من أهل هذه المدينة يا سعادة الباشا. قال الباشا: ولكني أرى في لغتك لهجة إفرنجية. قال: ذلك لأني أسافر إلى باريس كل سنة لقضاء فصل الصيف فيها. – والعائلة الكريمة من أي العائلات. – إني يا سعادة الباشا من عائلة جندب، واسم عبدكم عزيز. فنظر إليه مندهشًا وقال: مِن عائلة جندب! وما هي القربى بينك وبين السيد جندب المغربي المتوفَّى منذ سنتين؟ قال: هو والدي يا سيدي. – هو والدك إذن! فهذا رجل غنيٌّ، ولم يكن له إلَّا ولد واحد، وقد ترك له مالًا وافرًا. – نعم، يا سعادة الباشا، هو والدي، وأنا ابنه الوحيد. – ماذا تتعاطى من الأعمال؟ إني ما أزال في المدرسة، وفي النية متى خرجت منها أن أنشئَ جريدة سياسية ليس بقصد الربح، ولكن لأجل المقام وخدمة ذوي المناصب والأعيان مثل سعادتكم. قال الباشا وقد استبشر: حسنًا تفعل؛ لأن أفندينا إسماعيل باشا يحب المشروعات الأدبية، وينشطها كثيرًا، ويحب رجال العلم، فإذا جاءَه أحدٌ بقصيدة يجيزه عليها بمبالغ طائلة، وقد يمنحه الرتب والنياشين، وكثيرًا ما رأيناه ينشط الجرائد بأن يعين منها نسخًا عديدة لدوائر الحكومة، فإذا عزمت على إنشاء جريدة فعوِّل. فقال عزيز: صدقت يا سعادة الباشا، ولكني أظن أن ذلك قد كان دأب سموِّ الخديوي قبل تشكيل لجنة المراقبة التي تعينت لمراقبة حسابات مالية البلاد برأي الدول، فإن المراقبينِ قد باشرا مراجعة الحسابات، وأغلَّا يدي الخديوي عن النفقات غير الضرورية. أفلا تظن ذلك يحول دون نجاح مشروعنا؟ قال الباشا: نعم، إن المراقبينِ قد أوقفا النفقات غير الضرورية، غير أن إنشاءَ جريدة وتنشيطها لا يدخل في أعمال المراقبة، وفضلًا عن ذلك فإن المراقبة قلما قيدت أعمال الخديوي، حتى إن الوزارة الولسينية التي أدخل الدول فيها وزيرين أجنبيينِ — فرنسوي وإنكليزي — قلما أثَّرت في بسْط كفِّه. قال عزيز: وما قولك في الحكومة الشُّورويَّة؟ ألا تظنها تقيد أعمال الخديوي بعد أن كان الحاكم المطلق يمنح ويحسن دون معارض؟ وأما الآن، فإن لمجلس النظار دخلًا في كل الإجراءَات، جزئية كانت أو كلية. فقال الباشا: لا يعيقنَّك ولا يثْنِ عزمك شيءٌ، فإذا عزمت فعوِّل، وما أنت في احتياج إلى الكسب. قال عزيز: حسنًا، ولكن لديَّ مسألة أخرى مهمة أريد عرضها على سعادتكم، قال: تفضل، قال: قد توفي المرحوم والدي وترك لي مالًا طائلًا، وليس لديَّ أحدٌ من ذوي قرباي يتولى إدارة هذه الأموال وأكون على ثقة منه، ونظرًا لما هو مشهور عن حسن أمانتكم؛ أتيتُ أستشيركم في ماذا أفعل. فاشتم الباشا من كلامه رائحة الربح الكثير، ولا سيما إذا قُدِّر له أن يكون هو الوصي، فقرَّب كرسيه من عزيز وقال له: يصعب عليَّ أيها الحبيب ألا أساعدك بهذا الأمر؛ لأن الأمناءَ قليلون، ولا سيما في هذه الأيام، وإذا شئتَ فإني أبحث لك عمَّن يقوم لك بذلك، فإذا لم يتأتَّ لنا إيجاد رجل أمين، فإني أتعهَّد أن أقوم لك بهذه الخدمة؛ لأن والدك — رحمه الله — كان من أصدقائي. فقاطعه عزيز متلهفًا وقال له: إنها منَّة من سعادتكم إذا كنتُم تتعطفون، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ثقلة عليكم. أما إذا تمَّ لي الحظ وتوليتم وصايتي، فأكون من السعداء؛ لأني أعلم حينئذٍ أني سلمت زمامي لمن هو بمنزلة والدي، وأعاهد سعادتكم أني حالما يقسم لي الله الاقتران أرفع عنكم هذا الثقل؛ إذ أكون قد وطَّنت نفسي. فكاد الباشا أن يطير فرحًا؛ لعلمه بالغنى الوافر الذي ورثه عزيز عن أبيه، وأنه سيحصل على التصرف به إذا تولى الوصاية عليه، ولاح له أيضًا أنه سيسعى إلى تحبيبه بابنته وتزويجه إياها، فيصير كل المال إليه. وكان إذا تصوَّر ذلك يختلج قلبه سرورًا، ويزيد اعتباره لعزيز، ويتوق إلى حديثه، فتقدم إليه بسيكارة، فتناولها عزيز شاكرًا، وجلس يدخن وهو يتنقل بنظره من جهة إلى أخرى؛ تارةً إلى المرسح، وأخرى إلى التمثيل، ثم يرفع النظارات ويمسحها بطرف منديله وهو يفكر بوسيلة يُعرقل بها مساعي شفيق إذا أراد فدوى؛ لما لاحظ من حبهما المتبادل. وفيما هما بذلك جاءَ بخيت يقول: يا سعادة الباشا، إن سيدتي فدوى قد عادت إلى خلوتها، فقال: حسنًا. ثم عاد بخيت. أما عزيز، فعلم أن خروج فدوى لم يكن إلَّا لمقابلة شفيق خارج الملعب، فازداد حسدًا، فأجهد الفكرة لبلوغ مرامه، فاهتدى إلى حيلة، فقال للباشا: أليس الذي خاطب سعادتكم خصيًّا؟ قال: نعم، هو خصي خرج بابنتي في آخر الفصل الأول لترويح نفسها خارج الملعب، وأتى الآن ليخبرني برجوعها. – وهل السيدة فدوى ابنة سعادتكم. فتعجَّب الباشا من ذلك وقال: نعم، هي ابنتي، ومِن أين عرفتها؟ قال عزيز: قد عرفت ذلك بطريق الاتفاق. فاشتغل قلب الباشا كثيرًا، وتقدَّم إلى عزيز ليفصح عن كيفية معرفته بها. فامتنع عن الإجابة أولًا بدعوى أن ليس في الأمر ما يوجب الاهتمام، ثم قال: ولكن يجب عليَّ حبًا بمصلحة سعادتكم، وصيانة لشرف السيدة كريمتكم، أن أوجِّه التفاتكم إلى أمر مهم؛ وهو أن الأجدر بكم ألا تهملوا أمر مراقبة الخاتون ابنتكم؛ لأنها جوهرةٌ ثمينة؛ فلا تعهدوا أمرها إلى الخصيانِ؛ لأن الأمين بينهم قليل. قال الباشا: الحق في جانبك يا عزيزي، لكني قد عهدت أمرها إلى أفضل مَن عرفت بين هؤلاء؛ فإن بخيتًا الذي رأيته الآن خادم أمين صادق يحب الفتاة حبًّا عظيمًا، ويحافظ على شرفها، وقد أظهر أمانته في أحوال مختلفة. قال عزيز: إن قولي هذا لم يكن إلَّا على سبيل التعميم، وقد كفى ما أشرت إليه الآن، وعسى أننا نلتقي مرة أخرى للمفاوضة فيما دار بيننا. قال الباشا: إذا أتيت منزلي غدًا نتفاوض مليًّا. ثم نهض عزيز مودِّعًا وقد أظهر ما استطاع إظهاره من اللطف والرقة والثقة والغيرة حتى حبَّب الباشا به.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/29513059/
أسير المتمهدي
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «أسير المتمهدي» ضمن هذه السلسلة، وهي رواية تاريخية غرامية تشتمل على وصف الوقائع التي مرَّت بها كل من «مصر» و«السودان» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ودسائس ومؤامرات الدول الأجنبية التي أدَّت إلى حدوث الثورة العرابية في مصر بقيادة أحمد عرابي، والثورة المهدية في السودان بقيادة محمد أحمد المهدي، كما تصف الرواية وقائع الاحتلال البريطاني لوادي النيل، وقد عايش مؤلف هذه الرواية بعض وقائع هذه الأحداث، حيث أُوْفِد زيدان كمترجم مع الحملة البريطانية المتوجهة إلى السودان؛ لفك الحصار الذي أقامه المهدي وجيوشه على القائد البريطاني «غوردون».
https://www.hindawi.org/books/29513059/11/
شرُّ الأخلاق المِراء
فخرج عزيز وترك الباشا يفكر فيما سمعه عن ابنته، وقد وجهَ انتباهه من ذلك الحين إلى مراقبتها وهو لا يزال واثقًا بتعقلها وعفافها، فلم يمنعها شيئًا مما اعتادت عليه من ضروب المعيشة والذهاب والإياب، ولكنه صار يلاحظ أميالها عندما تسنح له الفرص، على أن اهتمامه الأعظم كان منصرفًا إلى ما أمَّله من الكسب إذا تولَّى الوصاية على أموال عزيز. وحينما كان عزيز عند الباشا يكلِّمه بشأن ابنته كان بخيت واقفًا عند الباب، فسمع كل ما دار بينهما، فبادر قبل خروج عزيز واختلى بشفيق يقصُّ عليه حكاية صديقه بسرعة؛ خوفًا من أن يدركهما عزيز، وعند نهاية الخبر قال: لا بدَّ لنا من تأجيل اجتماعك بسيدتي ريثما تذهب الشُّبهة عنها. فبُهت شفيق لما سمع من كلام بخيت، ولكنه لم يقطع بأن عزيزًا اجتمع مع الباشا قصد السعاية أو التفريق بينهما؛ لما كان وعده به من المساعدة عند عودهما من الجزيرة، فصبَّر نفسه ريثما يتحقق الخبر. أما عزيز فخرج من خلوة الباشا توًّا إلى خلوة شفيق، فلم يره فيها، فبحث عنه حتى لمحه منفردًا ببخيت، فتغاضى عنهما حتى افترقا، ثم سار إلى شفيق وهو يظهر الخجل. ولعلمه أن بخيتًا أطلعه على كل ما دار بينه وبين الباشا، بادره قائلًا: اعذرني يا عزيزي؛ فقد أطلت الغياب عليك. أما إذا أطلعتُك على ما فعلته، فإنك تعذرني. وأراد بذلك أن يرفع الشبهة عنه. ثم قال: وما هو الوقت الآن؟ فقال: نحن في منتصف الليل، وقد انقضى التمثيل وارفضَّ الجمهور؛ فهيَّا بنا. فقال عزيز: هيَّا بنا نتمم سرورنا بمشاهدة احتفال فتح الخليج. وخرجا من الملعب واستدعيا العربة. فقال شفيق: قد كفانا ما لقيناه الليلة، ولا شك أن والديَّ في قلق عظيم على تأخُّري، وقد أنهكني السهر؛ لأني لم أعتد عليه. قال عزيز هازئًا: مَن ينام الليلة وهي ليلة فتح الخليج؟ أما والداك فلا أظنهما يتقاعدان عن الذهاب إلى هذا الاحتفال؛ لأن أهل القاهرة عمومًا، صغارًا وكبارًا، يذهبون هذه الليلة إلى هناك. وما زال يحاول إقناعه حتى أتت العربة فأمسك بيده وأجلسه فيها، وركبا يريدان فم الخليج وكلاهما تائهٌ في عالم هواجسه؛ هذا يصعد بأفكاره إلى العفاف والحب الطاهر، وذاك يهبط بها إلى الدناءَة والخيانة. والأمر العجيب أن أفكارهما مع تناقضها تنتهي بهما إلى نقطة واحدة هي فدوى. أما شفيق فهذه أول مرَّة خامر ضميره الريب في صداقة عزيز على أثر ما سمعه عنه، فأراد مكاشفته لئلا يكون فيما بلغه عنه تحامُل عليه. وفيما هما بأثناء الطريق قال شفيق: إن الصداقة التي بيننا تقضي عليَّ بمكاشفتك في أمر سمعته، وقد ساءني حصوله؛ فأرجو ألا يكون صحيحًا. قال: ماذا بلغك؟ قال: بلغني أنك تركتني وذهبت لمسامرة إحدى النساء، وقد أفضى بك الأمر إلى الحديث مع بعض الناس بما لا يوافق مصلحتي. قال عزيز نازعًا سيكارته الثخينة من فيه وهو يتميز غيظًا كأنه سمع ما يحط من قدره، وقد أدرك أن شفيقًا علم كل ما دار بينه وبين والد الفتاة فقال: إني مسرور من مكاشفتك إياي بما في ضميرك أيها العزيز؛ إذ ربما ترفع عني بذلك وقيعتك بي، فتبرِّئني مما خامرك من الشك في صداقتي؛ وبناءً عليه سأطلعك على حقيقة الخبر؛ ليتحقق لديك صدق طويتي لك، فإني لم أفعل ما فعلته إلَّا سعيًا إلى مصلحتك قيامًا بوعدي؛ لأني توسَّمت من ميلك إلى فدوى على أثر إنقاذك إياها من مخالب الموت ما حملني على السعي سرًّا إلى ما يسهِّل اقترانك بها. ولا بدَّ لنا في ذلك من الحكمة والتعقُّل. أما الامرأة التي أشرت إليها، فهي التي سيكون عليها معتمدنا في مرغوبنا؛ لأنها عجوز محنَّكة، ولها إلمام تام بدخائل بيت الباشا، وقد علمت منها أن الوسيلة الفضلى لنوال بغيتنا إنما هي استجلاب خاطر والدها، فجالسته في خلوته مدَّة، وبعد الإفاضة معه بالحديث استطردت إلى الخوض في قضيتنا، فجئتُه من حيث رجوت التطرُّق إلى الغرض، فنبهت أفكاره إلى وجوب الاحتراس على ابنته، وعدم الإباحة لها في الخروج وحدها، راجيًا بذلك أن يسألني عن الخطر الذي يترتب على ذلك فآتي على ذكرك، وما كان من أمر إنقاذك إياها من خطر العار والموت، وأستطرد إلى ذكر صفاتك، ثم أُلمح إلى مناسبة اقترانك بها، ولكني لم أستطع الوصول الليلة إلى هذا الحد؛ لأني رأيت منه إعراضًا عن الموضوع، فاقتصرت على قصد أن أعود إلى ذلك في فرصة أخرى. وكان عزيز يتكلم بمظهر السذاجة إيهامًا لشفيق، فأخذه شفيق مأخذ الإخلاص وقال له: إني يا عزيز غير طامع في نيل الفتاة؛ لبُعد الحالة بيني وبينها، ولا أقول: إني أريدها، إنما أقول: إني لا أطمع فيها. فالتفت عزيز إليه بغتةً حتى وقعت النظارات عن عينيه وكادت تنكسر، فمد يده إليها ورفعها وهو يمسحها بطرف منديله ويمسح آماق عينيه قائلًا: وإذا اعتبرت الحقيقة فأنت جدير بها وبأعظم منها. لا أقول ذلك تحقيرًا لها في عينيك؛ لأنها فتاة غنية، وقد زينها الله بكمال الذات والصفات، ولكنك أنت أيضًا شاب نادر المثال بآداب نفسك، وذكاء عقلك، فلو طلبت أي ابنة أردتها لنلتْها ونلتَ معها مالًا وافرًا؛ لأن هذا العصر عصر الشبان، وهم الذين ينالون المهر. وذلك أمر مشهور. فأجابه شفيق هازئًا: إن التعقُّل والرزانة والتأدب جواهر لا تباع ولا تشترى، على أن «الدوتَّا» ليست من عادتنا نحن الشرقيين، ولو أدركت لطف هذه العذراء وأدبها لعلمتَ أنها ليست ممن يدفعن المهور. فقال عزيز متبسمًا وهو يتَّقد غيرة وحسدًا، وقد عمد إلى تحقيرها في عينيه، مشيرًا بيده الطويلة على قامته القصيرة: إني لا أنكر عليك شيئًا من ذلك، ولكن لديَّ ملاحظة؛ فاسمح لي بإبدائها. قال شفيق: قل ما بدا لك، فقال: إن مثلها — ولا أخفي عنك — لم يحسُن بها أن تبقى في الجزيرة وحدها في مثل هذا الليل الدامس، حتى عرَّضت بنفسها إلى الخطر الذي عرفته. فاستعرتْ نارُ الغيرة في قلب شفيق، وأحسَّ كأن تلك الإهانة قد لحقته هو، ولم يرَ بدًّا من دفعها عن مالكة لبه، فقال وقد بدت علائم الخجل على وجهه: كلانا يعلم، يا عزيز، أنها لم تذهب إلى الجزيرة لتبقى هناك إلى الليل، وأنت نفسك أخبرتني أن سائق المركبة أعاقها بتواطؤٍ مع ذاك الرجل الذميم، فهل يحطُّ ذلك من قدر أدبها وتعقُّلها؟ فلما رأى عزيز ما يتخلل كلام شفيق من الغيرة الشديدة على صحة أدب فدوى تلوَّى تلوِّي الحية، وقد اشتعل فؤَاده حسدًا؛ إذ لم يرَ من الإيقاع بها إلَّا إثارة عواطف شفيق للدفاع عنها، فكظم غيظه، وخاف إذا اختلق عليها أكذوبة أخرى أن يقع في شر أعماله، فينكشف أمره، وتحبط مساعيه، فصمت وهو يتلاهى بعصًا عقفاء كانت بيده يضعها بين شفتيه، ثم يعود فيلعِّب بها أصابعه، حتى حوَّل إليه بصره قائلًا: لا أقول لك يا عزيزي إنها بقيت في الجزيرة إلى ذلك الحين باختيارها، وإنما قلت إن ذلك التأخير ربما أضرَّ باسمها، ولا أجهل أن ما حصل لها هو عن غير إرادتها، ولو تنبأت بحصوله ما خرجت من بيتها قط. قال ذلك إخفاءً لما كاد يظهر من حسده وغيرته، ولكنَّ قلبه ما برح يزداد بغضًا وحسدًا لشفيق، حتى حدَّثته نفسه أن يفتك به في المركبة؛ ظنًّا منه أنه يستطيع بذلك الظهور أمام والدها مظهرًا آخر، فيدعي أنه هو الذي أنقذها من مخالب الموت، وأنه استخدم شفيقًا آلة له، ولكنه لم يجسر على ذلك لعلمه أن شفيقًا أشدُّ منه بطشًا، فعمد إلى الحيلة شأن الضعيف الساقط.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.