BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/7/
الفصل السابع
لا أعرف ما سر حبي للحى فى وجوه الناس، غيرى، ولكنى أعرف أنى مارأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة إلا نازعتنى نفسى أن أجعل لها من أصابعى مشطا. وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس فى زماننا يحلقونها أو يقصونها، ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستفتاء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة ولن تجد أحدًا فى هذا الزمن يغضب إذا أحفى الحلاق له لحيته كما غضب شيخ من أصدقائنا كانت له لحية كثة منفوشة ذهب بها إلى برلين ليشترك فى تشيع جنازة زعيم من زعماء الترك قتل هناك. وقد احتفظ بجبته وقفطانه وعمامته فكان كل من يراه يتوهمه من أفتك البلاشفة وأخطر الفوضويين. قالوا. فذهب به صديق له إلى دكان حلاق، وذهب صاحبه يتمشى على الرصيف حتى يفرغ من هذا الأمر، فما راعه إلا صياح وزعيق لا يكونان فى برلين إلا من مثل الشيخ، فارتد إلى الدكان فألفى الشيخ واقفًا وسط الدكان والفوطة على صدره وهو يرسل الصوت مجلجلا بالعربية الفصحى، والحلاق مبهوت فسأله صاحبه عن الخبر فقال: «خير، انظر..» وأشار إلى خده الأيمن فنظر صاحبه فإذا الغابة الكثيفة اللقاء قد ذهبت بقدرة قادر، ولم يبق إلا وسم، على حين بقيت الغابة على خده الأيسر هائجة كما كانت، فلم يسعه إلا أن نضحك، ثم عالجه حتى رده إلى الهدوء والسكينة وسأله (ماذا قلت للحلاق..). قال الشيخ. (إنه رطن لى ولكنى فهمت أنه يسألنى ماذا أبغى، ولم أدر كيف أجيبه فأومأت إلى لحيتى وأشرت بيدى أن سوها — هه — أى بعض الشىء قليلا جدًا، ولكنه لم يفهم فأجرى فيها الماكينة فذهبت بمعظمها). وسأل الحلاق كيف حدث هذا الغلط فقال إنه سأله عما يريد أن يصنع بلحيته ويقصه منها فأشار الشيخ إليها وقال (هاف) أي النصف فهو لم يجُر عليها ولم يجاوزها ما طلب. كلا: لا يغضب أحد فى هذه الأيام كما غضب صديقنا الشيخ، إذا ما جار المقص على لحيته، فيندر أن أنعم بمنظر لحية حقيقية، أو تتاح لى فرصة للعبث بها وتمشيطها، على أنه لا أسف، فقد فزت من ذلك فى حداثتى بأكثر من نصيبى العادل، وكان حسبى لحية جدى. أفتل شعراتها أو أثنيها وأدسها فى أذنه فينتفض ويصيح بى ويطردنى فأذهب أعدو وأنا أكاد أموت من الضحك فلما مات جدى شعرت بأن خسارتى جسيمة، وأنى فقدت ما لا أرى عنه عوضا، ولكن الله كان أرحم وأكرم من أن يطيل عذاب الحرمان، فقد جاء أخو جدتىٍ ليعزينا، فأمسكناه وكنت أنا أشدهم إلحاحا عليه وتعلقا به، وكان قصيرا فلحيته تبدو أطول مما هى فى الحقيقة فتسليت بها أسابيع حتى كان يوم وكنا جلوسًا على وسائد وحشايا مبعثرة على البساط وكان هو مطرقا والسبحة فى يديه! وإذا به ينتفض قائما ويعلن إلينا عزمه على السفر. فاستغربنا وسألته جدتى: «ما هذه المفاجأة»؟ فقال «الحقيقة يا حاجة أنى سمعت صوتا كصوت أبى يدعونى». فزاد تعجبنا وقال إنى «أبوك يا خال.. أبوك يدعوك.. كيف تقول.. أين أنت من أبيك وبينكما ركوب خمس ساعات فى القطار»؟ فقال «نعم يدعونى: لقد سمعت صوته واضحًا جليًا ينادى: يا عمر ولا بد لى من السفر فما أشك فى أن به حاجة إلى..». وأصر على السفر، وأبى أن يبقى، فاستودعناه الله وأرسلنا معه «عم محمد» بالحقيبة إلى المحطة وفى مساء اليوم التالي جاءتنا منه برقية ينعى إلينا فيها أباه أى جد أبى. ومن تمام القصة أقول إنهم تحدثوا فيما بعد بأن هذا الجد كان راقدًا ثم اعتدل فجأة وأطلقها صيحة قوية «يا عمر» ولم يزد. وكان هذا الجد معدودًا من القوم الصالحين، وكان يلبس عمامة — كما لا أحتاج أن أقول، فإن الصالحين لا يكونون على ما يظهر، إلا من أصحاب العمائم ولكن لفتها كانت خضراء، لأنه شريف من نسل الرسول — عليه الصلاة والسلام. وكان السيد محمد هذا قويا، وقد احتفظ بقوته حتى في شيخوخته العالية، فقد جاوز التسعين أو قارب المائة. ولم يركب فى حياته قطارًا ولا تراما ولا مركبة. وكان إذا زارنا فى القاهرة يجىء على قدميه، وعلى كتفه الخرج الذى فى شِق منه ثيابه، وفى الشق الثانى هدية من التمر أو الجبن «الحلوم» أو غير هذا وذاك مما يرى أن يهديه إلينا. وكان أبى قد رزق قبلى بولدين. ماتا. فلما جئت أنا إلى الدنيا، خاف أبواى أن أموت أيضًا. وصارا يجزعان كلما أصابنى برد أو غيره. وأنىَّ لهما أن يعلما الغيب وأن يعرفا أنى ممن قيل فيهم إن «عُمْر الشقى بقى» واتفق أن جاء هذا الجد المبروك فاستكتبوه لى حجابًا، فخطط شيئًا فى ورقة، أو كتب آيات من القرآن الكريم. لا أدرى وطواها وأمر بها أن تغلف ونهى عن فتحها. وقال: علّقوها له جنبه. فغلفوها فى قماش للتنجيد — أى لكسوة المراتب — وبعثوا بها إلى حذّاء. ولم يكن حذّاء فى الحقيقة. وإنما كان رجلا يصنع المراكيب فجلّد الحجاب، وجعل له عينين للحيط. وعلقوه لى فصار كالحجر فيما أحس حين أرقد على جنبى. ولم يفارقنى هذا الحجاب إلا بعد أن انتقلت جدتى إلى رحمة الله. حتى بعد أن كبرت ودخلت فى مداخل الرجال وتزوجت، كانت تصر على لبسه. وكنت أغافلها وأخلعه وأدسه تحت الوسادة. فإذا عرفت ذلك نظرت إلى نظرة أسف وعتاب وإشفاق. وكان لبس الحجاب يثقل على نفسى وكنت أنفر من ذلك نفورًا شديدًا. ولكنى كنت أقول لنفسى إن جدتى كبيرة السن وإنها فجعت فى ابنها وأنها تجزع كلما خطر لها أنها قد تفجع فى حفيدها الذى تتعزى به. فماذا على لو أرضيتها وسررتها وتركتها تقضى ما بقى من عمرها فى راحة واطمئنان. ثم إنى ما أحببت أحدًا قط مقدار حبى لها ولأمى فكنت أشعر أن قلبى تعصره يد قوية غليظة حين أرى على وجهها آيات الفزع. ومن أجل هذا استخرت الله وتوكلت عليه وتركتها تفرح وتطمئن بالحجاب على جنبى. وكانت إذا رأتني مقبلا عليها لتحيتها كالعادة تبتسم لى بفمها الأدرد، وتمد يدها إلى جنبى لتتحسسه، فأضحك وأقول: «لا تخافى» إنه ما زال فى مكانه. وما أبقيه إلا لأنه يسرنى أن أراك راضية قريرة العين «فتمسح لى رأسى وتدعو لى بخير». فلما ماتت، تركت الحجاب. وكانت أمى تقوم فى أول الأمر مقامها في الإلحاح علىّ أن أحتفظ به فقلت لها يوما: «يا ستى. أنك عاقلة، فبيّنى لى لماذا ينبغى أن ألبس هذا الحجاب». قالت: «إنه بركة من جدك». قلت: «صدّقنا وآمنا. وأنْعِم بجدى وأعظم ببركته! ولكن ما جدوى أن أضع حجرًا.» فأطرقت فقلت: «أنا أعلم أنك تخجلين أن تقولى إنه يقينى السوء ويحمينى من الموت لأنك أعقل وأذكى من ذلك. أليس الرب واحد والعمر واحد. أليس ما قدر يكون»؟ قالت: «آمنت بالله». قلت: «كنت أعلم أنك ستوافقين على اطّراح هذا الحجاب. ولكنى أحب أن احتفظ به للذكرى فاحفظيه لى عندك». فأخذته، وبقى عندها مصونًا حتى ماتت فقيل لى أنهم وجدوا حجابا بين أشيائها. وسألونى ماذا يصنعون به.. فأوصيت به أن يحفظوه فإنه أثر له تاريخه الطويل وصلته الوثيقة بأقوى العواطف الإنسانية ففعلوا، ولكنى لم أطلب أن أراه، والحق أقول إنى لم أقو على النظر إليه يومئذ. فقد كان موت هذه الأم الصالحة أوجع ما أصابنى فى حياتى وأعمقه أثرًا فى نفسى، ولقد أبيت إلا البقاء فى البيت الذى وافاها الأجل فيه، لأن كل مافيه يذكرنى بها ولكنى كدت أجن، فقد كنت أتشدد وأظهر الجلد، ولكنى كنت أراها فى كل مكان، وأبصرها تروح وتجىء وأسمع صوتها، فكأنها لم تمت وإن كان غيرى لايعرف ذلك ولا يفطن إليه، وتلفت أعصابى فكانت هذه الخيالات تسرنى أحيانًا، وأحيانًا أخرى تفزعنى فأضطرب وأرتعد، وثقلت علىّ وطأة الهواجس والوساوس وطال الأمر فلم أر علاجًا أحسم به هذا البلاء إلا أن أفارق البيت، وأنأى بنفسى عن مواطن الذكرى ومثارها على قدر الإمكان، وأقول على قدر الإمكان لأن المرء يستطيع أن يهرب من بيت أو بلد ولكن أنى له أن يهرب من نفسه؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/8/
الفصل الثامن
بعد وفاة جدى أدخلنى أبى المدرسة القربية — لقربها من حيِّنا، وإمكان الوصول إليها بلا حاجة إلى قطع الشوارع التى يجرى فيها الترام «الجديد» والتعرض لأخطاره، فقد كانت ضحاياه كثيرة فى تلك الأيام. وكانت للمدرسة بوابتان — واحدة على شارع القربية — أى صانعى الخيام. وكانت رحيبة ولكنها عتيقة جدًا. وقد بقيتُ بها أربع سنوات. ولا أذكر أن أحدًا خطر له أن يجعل لأبوِاب الحجرات فيها مشابك، فكان المعلم إذا أراد أن يترك الباب مفتوحًا، يجىء بحجر يسند به الباب. ولكنِ كان للحجر منافع أخرى لبعض المعلمين وأخص بالذكر منهم شيخًا أعور كان يعلمنا «الخط» فإذا أساء أحدنا الكتابة أو تشاغل عنها بالكلام أو ضحك أو لعب، أو فعل غير ذلك مما يفعل الصبيان، ناداه الشيخ ودق له أصابعه بهذا الحجر. ويكفى للتعريف بالمدرسة أن أقول إن ناظرها كان «وقفًا» عليها وكان الكبار منا يروون عنه أنه كان يقول عن نفسه إنه «جاهل جاهل، لكن أدارجى» — أي إداري. وأنصفه فأقول إنه كان رجلا طيبًا، وإنه لم يسئ قط إلى معلم أو تلميذ أو عامل — أى خادم — وقد أنعم عليه فى السنة التى دخلت فيها مدرسته، برتبة بك من الدرجة الثالثة وهى لا تخول لصاحبها لقب البك ولكنه فرح بها وانتحل اللقب وصار يغضب، إذا لم يطلقه عليه مخاطبه. وقد جمعونا يومئذ صفوفا فى ساحة المدرسة، وأبلغونا خبر الإنعام على «سعادة البك» وهتفوا فهتفنا وراءهم «أفندى مزشوك يشا» وهى عبارة تركية معناها الحرفى «يعيش أفندينا كثيرًا أو طويلا». وكان الناظر جارنا فهو يعرف أبى، ولهذا كان يسمينى «ابن عبد القادر» ولكنه كان أخنف فكان ينطق الباء ميما فيما يخيل إلينا. وكنت على صغري قد فطنت إلى مواطن الضعف فى نفسه. وأدركت أن «سعادة البك» مفتاح كل باب مغلق، فلا يكاد يسمعنى أقول «يا سعادة البك» حتى يهش لى ويهز لى رأسه راضيًا ويعفو عن ذنبى أو يجيبنى إلى ما أطلب. وكنت دقيق الجسم صغير جدًا — ومازلت كذلك إلى اليوم — ولكنى كنت حركة دائمة فكنت لهذا لا أطيق الجلوس ساعة كاملة على تلك المقاعد الخشبية الناشفة. وكان قلقى واضطرابى يثقلان على المعلمين فيضربوننى أو يشكوننى إلى الناظر فتنجينى «سعادة البك» من العقاب. وكان معلمنا فى السنة الأولى شيخًا قصيرًا عظيم الوجه مغضنه جاحظ العينين واسعهما — وكان وجهه الضخم — فيما يبدو لى — فى حجم صدره. وكان يعلمنا القراءة والكتابة والخط والحساب ويحفظنا القرآن. وكانت لنا ألواح من الخشب نكتب عليها الاَيات الكريمة بالحبر، ثم نعود بعد حفظها فنمحوها بالإسفنجة ونكتب غيرها. وهكذا. فجمع الشيخ منا ملاليم اشترى بها «ماجورا» أخضرا كان يملؤه ماء لنغمس فيه الأسفنج ونمسح الألواح. وكانت أدراجنا دكة كبيرة تسع ستة من الصبيان تتصل بها أدراج بعددهم. وكانت قديمة مفككة وقوائمها متخاذلة ولم يكن من النادر أن تقع بنا فنتصايح ونضوضئ، فيخف إلينا الشيخ ويرى أن الدكة قد تفككت فيخرج ثم يعود بالمسامير يدقها فيثبت القوائم والأرجل فى مكانها من مقعد الدكة أو لوحها. وكانت حجرتنا هذه تطل على حجرة المعلمين وكان كثيرًا ما يتفق أن يكون الشيخ قد خرج من بيته على ريق النفس فينادى الفرّاش ويناوله قرشًا فيشترى فولا مدمسًا وزيتًا ورغيفًا ومخللا. ويضع له ذلك كله على النافذة التى بين الحجرتين ويظل الشيخ مترددًا بين طعامه ودرسه حتى يفرغ من الأكل. وكان ربما نطق وفمه محشو. فنضحك. فلا يبالى. فقد كان حليما رحيما لا يقسو علينا ولا يعنف بنا، وأحيانا يلمح الناظر مقبلا من بعيد فيشير إلى أحدنا وهو يحاول أن يبلع اللقمة العظيمة ويتكلم فى آن معا، ويدرك الصبى مراده فيتخطى النافذة إلى حجرة المعلمين وينقل إليها ما بقى من طعام الشيخ ثم يرتد — وثبا من النافذة — إلى مقعده ويمر الناظر بسلام، فيقول الشيخ لأحدنا، وهو يشير إلى النافذة «هات. هات». وكانت ساحة المدرسة واسعة جدًا، فكنا فى أوقات الفراغ نتبعثر فيها ونلعب ما بدا لنا أن نلعب — الكرة أو سواها — وكنا نتخذ الكرة من الجوارب القديمة أو من بذور «ثمر الدوم» وهو ثمر ليفى قليل الحلاوة ولكن نواته عظيمة تصلح أن تكون كرة صغيرة نتقاذفها أو نضربها بأرجلنا. أما فريق كرة القدم، فكان شيئًا رهيبًا. ذلك أن أعضاءه جميعًا رجال كبار. وكان بعضهم لا يعد تلميذًا بالمدرسة إلا على المجاز. وأذكر أن الناظر جمع من تلاميذ المدرسة نفقات التعليم لأحدهم، وكان لاعبا مشهورًا، وكان اسمه «سليمان» ولكنا كنا ندعوه «سللى مان» لأن وجهه كان أبيض مشربًا بالحمرة كوجوه الإنجليز. وكان يدخن «البيبة» فما كنا نراه إلا وهى بين شفتيه ولا أدرى ماذا كان مبلغ علمه بالإنجليزية، فقد كنت صغيرًا. ولكنى أدرى أنه كان يتكلف رطانة كرطانة الإنجليز. وكان له زميل فى فريق الكرة اسمه «أبو تيفه» — أى توفيق — وكنا نحن الصغار نسمع أنهما لا يلعبان إلا إذا شربا خمرًا. فأما «سيللى مان» فلا يبعد أن يكون هذا شأنه ولكنى لا أصدق أن «أبا تيفه» كان يفعل ذلك أى يسكر قبل اللعب، فقد كان وديعًا كريم الشيم، وهادئا رزينا. ولا نكران أن هذا لا ينفى الولوع بالشراب، ولكنى لم أر الرجل قط — فقد كان رجلا لا صبيًا مثلنا خارجا عن طوره، لا فى ساحة اللعب ولا فى المدرسة. وبعيد — فيما أرى — أن يكون مثله سكيرًا. وكانت للمدرسة عناية خاصة بطعام فريق الكرة، فكانت مائدتهم حافلة مثقلة، بل كانت المدرسة تشترى لهم «المخلل» فى سلطانيات صغيرة لتشحذ رغبتهم فى الطعام وكان عملها هذا يستدعى منها التساهل مع بقية التلاميذ، فكان كل من معه قرش منا يقف عند حاجز البوابة قبيل وقت الطعام وفى يده القرش أو الملاليم ويصيح بعم أحمد «الطرشجى» هكذا «هات شوية بنكلة» أو بأكثر أو أقل، فيناوله سلطانية فيها ما طلب فيرتد بها، ويظل يحملها حتى يدق الجرس فيدخل بها حجرة الطعام، ولم أر مثل هذا فى مدرسة أخرى من مدارس الحكومة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/9/
الفصل التاسع
مرض أبى بعد شهور قليلة من دخولى مدرسة القربية الحكومية، وصار كل من فى البيت يلغط بأن زوجته التركية سمته، أو هى لم تسمه، وإنما دأبت على إطعامه لحم الأرنب بعد أن يعالجه رجل مشعوذ، بما لا يعرف أحد، ليحبب أبى فى هذه الزوجة، ويبغّض إليه أمى، وكان أبى يعتقد أن هذه خرافات وأباطيل، وأنها مما يلفقه الخيال بتأثير الغيرة ولكن أمى كان قد أصابها سقم شديد واضطراب عصبى عنيف فعُنى أخى الأكبر بما أشيع من أن هذا بعض ما جره سحر المشعوذ عليها، فراقب بيت هذه الزوجة التركية فرأى يوما شيخًا يدخل، فتبعه من حيث لا يشعر فصعد الشيخ إلى غرفة فوق السطح، وأوقد نارًا، وذبح أرنبا، وكتب على لحمه كلاما وعلقه فى الهواء، ورمى فى الموقد بخورًا فأطلقه وراح يقرأ ويعزم، وأخى يرقبه، ثم خطر له أن يطلع أبى على ذلك فأغلق عليه الغرفة وأوصد باب البيت أيضًا وحمل مفتاحه معه وذهب فجاء بأبى وأراه ما رأى فشق الأمر على أبى فطلق المرأة. ولكنه مرض بعد ذلك لا أدرى بماذا؟ ولزم البيت بضعة شهور كان الطبيب يعوده فيها كل بضعة أيام مرة، ولكنه كان فيما يبدو لى صحيحًا معافى، لا سَقَم به، فقد كان يشرب القهوة علي عادته، ولا ينفك يدخن سجائره المألوفة ويأكل طعامه المعهود — السمك المسلوق والأرز والفاكهة — وكل ما تغير من أمره واختلف من حاله أنه كف عن النزول إلى المكتب. وأن الكاتب وأخى كانا يصعدان إليه بالأوراق فيطلع عليها ويشير بما يرى. وعدت من المدرسة عصر يوم، فلقينى الكاتب على الباب وسألنى «أين عم محمد» فقلت لم أره، فأخبرنى أنه ذهب ليجىء بى من المدرسة لأن أبى يريد أن يرانى فيظهر أنه ذهب من طريق وعدت أنا من طريق. ودخلت البيت فألفيت فى فنائه نفرًا من أقاربنا جلوسا على الكراسى فسلمت فقال أحدهم «اصعد. اصعد. أبوك يطلبك.» فلم أفهم، وصعدت على مهل، ودخلت على أبي، وأنا أنتظر أن أراه قاعدًا على «الكنبة» فإذا به راقد على مرتبة مفروشة له فى وسط الغرفة، وعند رأسه مصحف، فأدرت عينى فى الغرفة، فألفيت النساء من أهلى قاعدات حول المرتبة، مطرقات، وفى أيديهن مناديل، يرفعنها إلى عيونهن ويكفكفن بها الدموع، فنطرت إلى أبى، فأشار إلى بعينيه فانحنيت عليه فقبلنى، ونهضت، وأنا غير فاهم وهممت بأن أدور وأخلع ثيابى، وإذا النساء يصحن ويولولن، وإذا بأُمى تتناولنى وتميل على رأسى وهي تقول «أبوك مات». أبى مات! لم أفهم هذا، ولم يحُدث الخبر فى ذهنى صورة ما، فقد رأيت أبى، كما اعتدت أن أراه، لم يتغير وجهه، ولا نظرته، ولا ابتسامته، ولم يختلف شىء سوى أنه راقد على مرتبة، بدلا من السرير حتى بعد أن ولولت النساء، رددت عينى إليه، فرأيت ابتسامته مرتسمة على شفتيه وفى عينيه، فثنيت طرفى إلى الباكيات النائحات، ثم عدت أنظر إلى أبى فراعنى أن الابتسامة ثابتة، كأنها متحجرة، وأن العين لا بريق فيها ولا ضوء، وأنها كالزجاجة، وأن المعنى الذى لمحته لما انحنيت عليه ليقبلنى قد خبا وانطفأ فبهت ولكن منظرًا جديدًا شغلنى وصرفنى عما وقع فى نفسى من هذا الموت العجيب فقد تشددت جدتى وتحاملت على نفسها، وركعت إلى جانب ابنها وأدنت أصابعها برفق من عينيه فأطبقت عليهما الجفون ولثمت جبينه ونهضت تشهق وتكاد تختنق. ولم يبق لى مقام بين هؤلاء الباكيات، فانحدرت إلى فناء البيت حيث الرجال وكانوا يبكون ولكن في صمت، ففى الوسع احتمالهم، وضمنى أخى الأكبر وأجلسنى إلى جانبه ويده على كتفى والدموع تنهمر من عينيه، وأنا كالصنم وأذكر أنى خجلت، وحاولت أن أبكى ودعكت عينى بأصابعى ولكن العَبْرة لم تسعفنى ولم تنجدني وكنت لا أزال غير فاهم هذا الموت الذى أثار هذه الضجة الشديدة فى بيتنا — فوق وتحت — وترك النساء يلطمن والرجال يبكين مثل النساء. ولا أطيل: أقيم المأتم واقتصر فيه على يوم واحد، وكان مأتما ككل المآتم فلا حاجة إلى كلام فيه ولكن أخى بعد انقضاء الأيام الثلاثة صعد إلى حيث كانت أمى جالسة، وأنبأها أن المأتم تكّلف خمسمائة جنيه فدهشت ولم تصدق وقالت إن هذه ثروة ففى أى شىء أنفقها بل بددها فى يوم واحد.. فنادانى وكنت قريبًا منهما أسمع وأرى ودفع إلى ورقة فيها أرقام وقال «هذا ابنك يذهب إلى المدرسة ويعرف الحساب فليقل لك جملة الأرقام ماذا تبلغ.. فجمعت الأرقام فإذا هى كما قال خمسمائة جنيه لا تنقص مليما واحدًا». ولم يتغير شىء من حالنا فى الشهرين التاليين سوى اختفاء أبى فقد كان المال الذى تركه كثيرًا ولكن أخى بعد ذلك طلق زوجتيه وسرحهما وتزوج جارة لنا كانت عينه عليها — ولا شك — واتخذ لها بيتًا مستقلا فاحتجنا أن ننتقل إلى بيت صغير بعد انتفاء الحاجة إلى البيت الكبير الذى كنا فيه فبدأت متاعبنا من ذلك اليوم فقد أهملنا أخى وبخل علينا بالمال وصار يقتر علينا ويغدق على زوجته الجديدة حتى بدد كل ما ترك أبى فى نحو ثمانية شهور. وكان لجدي أرض وكانت أمى هى الوصية علينا فزور أخى توكيلا منها له وباع الأرض وبعثر ثمنها فيما كان يلهو به ونحن لا نعلم فلما علمت أمى لم تصنع شيئًا وقالت إنها لاتستفيد شيئًا من أن تنزل به ما يستحق. وجاء يوم خلا فيه البيت من الطعام واللبن والسكر والسمن فلو جاءنا ضيف لكانت فضيحة وكنت واقفًا على عتبة الباب أنظر إلى صبيان الحارة وهم يلعبون فرحين مسرورين لا يكربهم شىء ولا يفكرون في بن أو سكر ينقصهم، وإذا بشيخ فاضل من زملاء أبى فى الأزهر مقبل على ففزعت وهممت بأن أتوارى عنه عسى أن لايرانى فيمضى فى سبيله ولكنه لمحنى فنادانى، وقبلنى وقال «ستك الحاجة: كيف حالها»؟ قلت «بخير ولك الشكر». قال: «اصعد إليها وقبل لى يدها وقل لها إنى أريد أن أقابلها». ولم يكن فى هذا غرابة، فقد كان أيام الدراسة ملازما لجدى، وكان ربما أقام فى بيتنا — مع أبى — الأسبوع والأسبوعين. وكانت جدتى تعده كابنها، ولكنى أشفقت من زيارته، فما فى البيت شىء يقدم لضيف كريم مثله، فماذا نقول له. وبأى شىء نعتذر. ولم أر لى حيلة فأنبأت أمى وجدتى، ثم انحدرت إليه وصعدت به فجلس يحدث جدتى وأنا واقف وظهرى إلى الحائط، وعقلى شارد وإذا بى أسمعه يقول إنه كان قد خطف من أبي مبلغًا آخر، فثالثا فرابعًا ليشترى بذلك أرضًا لنا، ولكن الأجل وافى أبى. فبقى المبلغ معه، ولا علم لغير الله بذلك وقد خاف الشيخ أن ينزل به قضاء الله فيضيع مالنا، فهو يريد أن يبرئ ذمته ويرده إلينا. وقد كانت هذه بداية الفرج، فقد وسعنا بعد ذلك أن نعيش بهذا المبلغ وتيسر الإنفاق على تعليمنا، والفضل لله ثم لهذا الشيخ الكريم، وإنصافا له، واعترافًا بفضله، أقول: إنه المرحوم الشيخ إبراهيم بصيلة من كبار العلماء — رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء — فما وسع أحدا منا فى حياته أن يرد له ذرة من هذا الجميل الذى لن ننساه ولا نجحده.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/10/
الفصل العاشر
انتقلنا من اليسر إلى العسر، ومن السعة إلى الضيق، واستغنينا عن «عم محمد» وامرأته «حليمة».. أو استغنيا هما عنا، سيان، فما كانا خادمين، وإنما كانا منا فيما نحس ونعلم، وأحكمنا تدبير أمورنا فى حدود المورد الذى أسعفنا به حسن الحظ، وزايلنا الشعور الأول بالسخط والألم، وألفنا حياتنا الجديدة وإن كانت حافلة بضروب الحرمان مما كنا ننعم به فى حياة أبى، وكل شىء فى الدنيا عادة، حتى النسك والعبادة، كما يقول النواسى، من قصيدة فى ابن الربيع: ومضت الأيام، وانتظمت الأمور واستقرت الأحوال بعد القلق والاضطراب، وكانت نفقات التعليم، على ضآلتها، فقد كانت ستة جنيهات فى العام أثقل ما نضطر إلى الاحتياط له وتدبيره وفى وسع القارى أن يتصور حياة من تثقل عليه ستة جنيهات فى العام. فجاءنا يومًا قريب لنا، واقترح علينا أن نطلب من الوزارة أن تعفينى من نفقات التعليم، فاستحسنا ذلك وقلنا عسى ولعل، وشرعنا نعيِّن الوجوه التى ينبغى أن نحول إليها ما كان يأخذه التعليم. وكتب قريبى الطلب وأرانيه فقرأته على أمى فسرتها عبارته وما فيها من القصد والترفع عن الاستجداء والضراعة، قالت حسبنا التعليم بالمجان مذلة. وغاب قريبنا أيامًا ثم جاءنا بنبأ قال «يا ستى». قالت أمى «نعم. خير إن شاء الله». قال «الغاية تبّرر الواسطة». قالت «يعنى»؟ قال «إن هذا الطلب لا يرجى أن يجاب إلا إذا عززناه بقرشين». فصاحت به «إيه.. هل تريد أن تقول أن فلانًا — تعنى ناظر المدرسة — يطلب رشوة»؟ فقالت أمى معترضة «إذا كنا سنرشو الناس، ونحن فقراء، فأولى أن نؤدى نفقات المدرسة ونستريح ونعفى ضمائرنا من هذا الإثم». قال «ولكن الإعفاء سيظل طول مدة التعليم». قالت «ولو». فانصرف قريبنا ساخطًا على هذا العناد متعجبًا لهذا التحرج الذى لا موجب له فى رأيه، ولكنه لم يقنط، فأعاد الكرة مرة أخرى، حتى كرهت إلحاحه وآثرت أن تريح نفسها من لجاجته، فأنقدته أربعة جنيهات زعم أنه سيفرقها على رجلين. ومر شهر، ودنا موعد افتتاح المدارس ونحن كل بضعة أيام نسأل قريبنا عن الطلب ماذا صنع الله به، وهو يقول إنه يتعقبه فى كل مرحلة من مراحله، ثم فجأنا يومًا بالبشرى، ففرحت جدتى واغتمت أمى، واضطربت أنا فلم أعد أدرى أينبغى لى أن أفرح كجدتى أم أحزن كأمى. وفتحت المدارس، فأهملنا أن نعد مقدار القسط الأول، وهو جنيهان وجاءنا قريبنا يقول إنه أخطأ، وأن الوزارة إنما قبلت أن أتعلم «بنصف مصروفات» فقالت أمى بعد انصرافه «ضيعنا أربعة جنيهات وارتكبنا إثما لنقتصد ثلاثة جنيهات» وناولتنى جنيها — قيمة نصف القسط الأول — وقالت: «اذهب به إلى المدرسة والأمر لله». وذهبت إلى المدرسة وفى جيبى الجنيه — ولكن الله ألهمنى ألا أذهب إلى كاتب المدرسة فاستأذنت على الناظر وقدمت له الجنيه فسألنى وهو ينظر إليه وإلىّ «ما هذا يابنى». قلت «جنيه». قال «ظاهر، ولكن لماذا تعطينيه». قلت «إن فلانا قريبنا أخبرنا أن الوزارة قبلت أن أتعلم بنصف المصروفات فهذا هو القسط الأول». وكان الرجل رقيق القلب عظيم الحنان، وكانت بينه وبين أبى صداقة فرأيت الدمع يترقرق فى عينيه وهو يقول. – «أنا آسف يا بنى، لقد رفضت الوزارة الطلب، ووالله ماقصرت فى السعى لك ولكن هذا ما كان». فشكرته وأعدت الجنيه إلى جيبى، ورجعت به وبالخبر، آخر النهار إلى أمى. ودفعنا القسط كاملا. وسألت أمى قريبنا عن الحقيقة فاعترف لها بأنه كذب عليها وأنه أخذ الجنيهات الأربعة لنفسه، ووعد أن يردها عند الميسرة، وقد مات وهى فى ذمته. وقالت لى أمى يوما: «لست آسفة إلا على خديعتنا، وما أثمرته من زيادة الضيق الذى كنا فيه، أما التعليم فإنى أحمد الله الذى مكننى من أداء نفقاته فى مراحله كلها، فما كان يسرنى أن تشعر أنك دون أندادك وإنك رقيق الحال، وهم فى سعة، وكنت أخشى أثر هذا فى نفسك فالحمد لله الذى حماك هذا الشعور». وأخذت الشهادة الإبتدائية، فقالت أمى: «تذهب إلى المدرسة الخديوية وتقدم إليها طلب التحاق بها» ولكن أخى وقريبى الذى أسلفت ذكره جاءا ليقنعا أمى بأن تقبل توظيفى فاستغربت وقالت: «ولكنه طفل». قال قريبى «إن نفقات التعليم الثانوى كبيرة فمن أين تجيئين بها». وعزز أخى رأيه. وألح الإثنان عليها إلحاحا شديدًا وهى تأبى وتقول إنها لا ترضى بذلك، وإن ابنها يجب أن يتعلم، وإن أوان التوظيف وكسب الرزق لا يزال بعيدًا فأغلظ أخى لها فى الكلام وعنف معها قريبى فطردتهما وأمضت مشيئتها وأدخلتنى المدرسة. وقد بقيا زمنا غير قصير لايجترئان على دخول بيتنا، ولكنها كانت تبعث بى إليهما لأزورهما، وتوصينى ألا أقطعهما، وتقول إنه خلاف أدى الى جفوة بينها وبينهما، وقد فعلتْ ماتريد وقواها الله عليه فلا مسوغ لبقاء النبوة ولا موجب لها على كل حال فيما بينى وبينهما، وهى لا تضمر لهما بغضا، ولكنها تخاف لعبهما ودخولهما مرة أخرى فيما لا يعنيهما، فخير لى أن يبقيا بعيدين حتى أفرغ من التعليم. واعترضت الحمى طريقى فى السنة الأخيرة من التعليم الثانوى وكادت تضيعنى بل تقتلنى. وكان قريب لنا من الأطباء يتولى علاجى، ولكن العلاج لم يكن يبدو له أثر فقضيت الصيف كله أوجله راقدًا لا أكاد أعى شيئًا، من شدة الحمى. وفى إحدى الليالى ثقلت على وطأة المرض جدًا، حتى جزعت أمى — على ما أخبرتنى بعد ذلك — وكادت توقن أنى هامة اليوم أو الغد، لولا أن الأم لا تفقد أملها، وكنا فى بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبًا، وكانت نوافذ الحجرة التى أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة فى الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قلل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمى يدها إلى قلة تريد أن تشرب، فقلبت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمى واضطربت جدًا، وكبر ظنها أن هذا نذير بموتى، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء فى فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت. وكانت لا تشك فى أنها تكسرت فما يعقل أن تقع من أعلى طبقة فى البيت وأن تنجو من التهشم، ولكنها نزلت مع ذلك، لأن القلة لم تكن عندها فى تلك اللحظة إلا رمزًا، وكانت سلامة القلة معناها البشرى بنجاتى. ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة، أو لا أدرى كيف أعلل هذه النجاة من العطب الذى كان ينبغى أن يكون محققًا. ولقد حدثتنى أمى بعد ذلك بزمان طويل وهى تروى لى هذه القصة، أنها بكت، وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل والرطوبة والوحل، وفى يدها القلة والدموع تنهمر من عينيها دموع الأمل والاستبشار. وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت منى وأنا نائم، ولمست وجهى بكفها، مترفقه محاذرة، مخافة أن توقظنى، فإذا أنا أتصبب عرقًا، وإذا بثيابى كلها — كما قالت — عصرة. وأصبحت وقد ذهبت عنى وقدة الحمى وأخذت أتماثل ….
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/11/
الفصل الحادي عشر
سأقتصر فى هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهد كنت فيه تلميذًا، وعهد تال كنت فيه مدرسًا. وسأكتفى بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التى تغنى عن التفاصيل ولست أرمى إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يُستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلا يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائى إذا قلت إن تلميذًا كان معنا فى المدرسة نال الشهادة الإبتدائية فعين فى السنة التالية مدرسًا لنا فى السنة الرابعة التى تعد لنيل الشهادة الابتدائية، وأبلغ من هذا فى الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى «الأشياء» وهى عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الانجليزية. وأرسم خطا آخر تتم به الصورة — فأقول ما قلت فى فصل آخر: إن ناظرنا كان يقول عن نفسه: إنه جاهل جاهل ولكنه إدارى. والآن انتقل إلى طائفة أخرى من الصور للمدارس الثانوية. كان التعليم الثانوى انتقالا بأدق المعانى فقد صار كل ما فى المدرسة انجليزيًا — الناظر والمدرسون والتعليم — ما عدا اللغة العربية. وأنا إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف كنت أنجح فى الامتحانات، وأكبر ظنى أنهم كانوا يترفقون بنا ويعطفون علينا، ويتساهلون معنا، ويتركوننا ننجح على سبيل الاستثناء. وأدع غيرى وأقتصر على نفسى فإنى أعرَف بها، فأقول: إنى ما استطعت قط أن أفهم علوم الرياضة، أو أن أقدر فيها على شىء، ومع ذلك كنت أنتقل من سنة إلى أخرى بلا عائق. وكان الأساتذة يختلفون فمنهم الفظ ومنهم الرقيق. وأذكر أن أحدهم كان يذكرنى درسه بالكتّاب الذى حفظت فيه القرآن الكريم فقد كان يملى درس الجغرافيا، فإذا كان الدرس التالى طالبنا به محفوظًا عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعه واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع فى كل ركن واحد من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئًا عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس فى الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتى كلها بسببها. وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظًا، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له. تهج كلمة بليد مثلا أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرًا من تدريسها فى الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان، لا أدرى لماذا؟ وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبًا ووقورًا مهيبًا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده ويدعو له الشيخ ولا نستغرب نحن شيئًا من ذلك بل نراه أمرًا طبيعيًا جدًا. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس فى نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإنى أرانى إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعنى إلا إكبارهم حين ألتقى بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئًا يستحق الذكر. ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب فى تقريره إلى الوزارة إلا خيرًا. وقد اتفق لى بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين وعينت مدرسًا فى المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت: «يا أستاذ» ما هو الاسم العربى لهذا الدخان والتبغ تارة أخرى؟ «فقال»: انتظرنى يا سيدى حتى أنظر فى «الكناشة» وأخرج مما يلى صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدرى كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت: ومضى عنى. وفكرت أنا فى كلمة الطباق التى جاءنى بها الشيخ، فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة تبغ نعرب بها اللفظ الانجليزى أو الفرنسى «توباك أو توباكو». ومن حوادث الشيخ حمزة معى أنى كنت أؤدى الامتحان الشفوى فى الشهادة الثانوية وكان هو رئيسا للجان اللغة العربية، فلما جاء دورى اتفق أنه كان موجودًا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألنى ماذا أحفظ. وكنت فى صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبى ﷺ فعلقت بذهنى وألهمنى الله أن أقول إنى أحفظ خطبة للنبى، ففرح الشيخ جدًا وخلع حذاءه وصاح: «قلى يا شاطر الله يفتح عليك» وسترنى الله فلم أخطئ، فاكتفى الشيخ بهذا وأعفانى من النحو والصرف والإعراب. ولكنه فى مرة أخرى كاد يضيع علىّ سنة. وكنت طالبا فى مدرسة المعلمين وكانت لجنة الامتحان فى اللغة العربية برياسته فقال أحد إخوانى بعد خروجه من الامتحان: إن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذى يقع عليه الاختيار، ولم نكن ندرس نحوًا ولا صرفا فى المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب فأيقنا بالفشل وجاء دورى فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه وناولنى كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت، ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهى: «اعلم أن العدوان على الناس فى أموالهم ذاهب بآمالهم فى تحصيلها» الخ. فقال: ضع الكتاب. فوضعته، فسألنى عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التى يكون عليها الفعل «واعتدى» مثل «اعتديا» للماضى المثنى «واعتديا» للأمر، فسألنى لماذا كان الماضى بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببًا وقلت إنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بهما هكذا، فدهش لهذا الجواب وقال: «ولكن لهذا سببًا»، قلت: «إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفى ولا داعى للبحث عن سبب مختلق». فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه وحدثت نفسي أنه خير لى وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطى الجهل. وأصررت على رأيى وكاد يحدث مالا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش — وكان عضوا فى اللجنة — تدارك الأمر، فقد نظر فى ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال: «العصر وجب يا مولانا». فنهض الشيخ وهو يقول «أى نعم» وذهب للصلاة ونسينى فكان فى هذا نجاتى. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتى به. ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة فى مدرسة المعلمين، ويكفى أن أقول إنه كانت لنا فى الأسبوع ثمانى ساعات لا نتلقى فيها أى درس، فترك هذا التخفيف وقتًا كافيًا للمطالعة الخاصة.. وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدًا. وقد صرت معلمًا بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين: خمس منها فى الوزارة، وخمس فى المدارس الحرة، وفى هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ فى محاولة المعاكسة ولكنى كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية فى الشقاوة، وكانت طريقتى أن أتجاوز عن الذى لا ضير منه فلا أشغل به نفسى والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه فى ذلك فلا أعد هذا الكلام الذى لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله وقد حدث يوما وأنا مدرس فى المدرسة الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبى كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لاشك أنه متعمد وكان تلاميذى لا يجهلون كرهى للرياضيات، وكنت أنا لا أكتمهم أنى أعد نفسى جاهلا بها حمارا فى علومها، وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثونى عسى أن أثير الضجة التى يشتهونها ولا يفوزون منى بها ولكنى لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت العامل فحمل هذه الأدوات ووضعها فى مكانها ثم بدأ الدرس. واتفق يوما آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفًا والجو حارًّا جدا فضاعف الحر شعورى بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هى المادة التى كنا ونحن تلاميذ نضعها — فى الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسى أنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثى نفسى فإنها تغثى نفوسهم معى أيضا. فحالهم ليس خيرًا من حالى، والإحساس المتعب الذى أعانيه ليس قاصرا علىّ ولا أنا منفرد به، وأنهم الأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معى وقد أرادوا أن يفردونى بهذه المحنة. والفوز فى هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال. فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. تصبرت وتشددت ودعوت الله فى سرى أن يقوينى على الاحتمال، ومضيت فى الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسى عما أعانى من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى فى وجوههم أمارات الجهد الذى يكابدونه من التجلد مثلى فأُسرّ واغتبط وأزداد نشاطًا فى الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا فى الكلام فقد كنت عارفًا أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا فى فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادى المكتوم، واغتنمت فرصة أصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد، قلت افتحها، وفُتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعًا واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بى، وقال لى واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وأن الأمر كان مقصودا به غيرى، وأنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكنى تجاهلت وسألتهم عما يعنون. قالوا. الرائحة الكريهة التى كانت فى الفصل. قلت: «رائحة. أى رائحة.. إننى مزكوم ولهذا لم أشم شيئًا فلا محل لاعتذاركم» ومضيت عنهم، وكان هذا درسا نافعًا لهم ولو أنى عاقبت أحدا لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا على، وأن ينجح معى عبثهم الطبيعى فى مثل سنهم. وفى آخر سنة من اشتغالى بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إننى ألغيت العقوبات جميعًا فلا حبس ولا عيش حاف ولاشىء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ. ونظريتى هى أن المدرس الذى يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغى أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغى له الخير ويخدمه، ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمى استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئًا بل يرغّبه فى الدرس ويحبب إليه التحصيل. وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر منى معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا فى هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان كبار لهم وأصدقاء نافعون. ولم أكتف بهذا بل ألغيت «الجرس» الذى يدق إيذانا بابتداء الدرس أو انتهائه لانى لم أر حاجة إليه بعد أن أصبح التلاميذ يحرصون على الحضور والمواظبة من تلقاء أنفسهم وبدافع من حبهم للمدرسة ورغبتهم فى الوجود بها مع إخوانهم المدرسين، حتى لقد كان الواحد منهم يمرض فيحضر، وبهذا استغنيت أيضًا عن الدفاتر الكثيرة التى تستعمل فى المدارس والتى تحتاح إلى موظفين كثيرين لا داعي لهم. وقد كنت أحب أن أظل فى هذه المدرسة لأرى نتيجة التجربة، ولكن الحركة الوطنية بدأت فى صيف ذلك العام وجرفنا تيارها الزاخر فهجرت التعليم إلى الصحافة. ولو عدت إليه الآن لكان من المحقق أن أخفق فقد اختلف الحال جدًا وانقلبت الأوضاع.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/12/
الفصل الثاني عشر
كان عزائى فى تلك الأيام قول القائلة: أى والله! فقد تبينت أن مصر توشك أن تثور، فقلت أُعفى أهلى من المتاعب التى تجر إليها الثورات واضطراب حبل الأمور، فحملتهم إلى بيت جدى — لأمى — «على حدود الأبد»، وأصلحت فيه شقة اتخذتها لنا، ومضت شهور والثورة لا تقوم، حتى خالجنى الشك فى صحة رأيى، وكادت ثقتى بقومى تذهب، وكنت فى تلك الأيام أعانى أشد البرح، فقد كان عملى فى قلب العاصمة، وبيتى فى الصحراء، والمسافة بينهما أكثر من عشرة كيلو مترات أقطع نصفها وزيادة على قدمى غاديا رائحا كل يوم، ومعى ما يكفى لغذائى، فإنى أكره طعام السوق، وكتاب أقرأ فيه فى فترات الراحة من العمل، فلما هبت الأمة زاد العناء واشتد البرح، فقد بطل العمل. وخرج التلاميذ إلى الشوارع مواكب مواكب وكانوا يُعتقلون بالمئات، ويحُشرون فى كل مكان يخطر على البال، حتى فى مسجد محمد على بالقلعة، وكان الناجون من تلاميذى يرتدون إلى فى المدرسة التى كنت ناظرها يومئذ، ويقصّون عليّ ما جرى، ويذكرون لى أسماء المعتقلين من زملائهم، ومكان اعتقالهم، وكانت العلاقة بينى وبين تلاميذى علاقة أخ كبير بإخوة صغار، فكانوا لهذا لا يكتموننى شيئًا، ولا يحجمون عن مصارحتى بما يدور فى نفوسهم، وما تضطرب به صدورهم، ولا يترددون فى مشاورتى حتى فى أخص الأمور الشخصية، فكنا نعقد كل يوم اجتماعًا لتدبير ما يمكن تدبيره من وسائل الراحة لإخواننا الصغار المعتقلين من أبناء مدرستنا وكانت عقدة العقد أن المال لدينا قليل، وأن الوصول إلى المعتقلين عسير، فكيف نبعث إليهم ما عسى أن تكون بهم حاجة إليه من طعام أو ثياب أو فرِاش؟ ومن حسن الحظ أن الوقت كان صيفًا، ففى الوسع الاستغناء عن الأغطية واحتمال النوم على الأرض، فيبقي الطعام والثياب، ويطيب لى أن أروى أن بعض التلاميذ كان يرتدى عدة أكسية ويدس فى جيوبه ما تتسع له من الآكال الناشفة، ويقصد إلى المعتقل الذى يعلم أن فيه إخوانا له فيقدم نفسه على أنه شريك فيما جر الاعتقال على زملائه، أى فى المظاهرات وما إليها فيلقون به معهم — وقلما كانوا يصرفونه — فيخلع على زملائه أكثر ما كّوم على بدنه ويطعمهم مما حمل، وكان هذا يزيد المعضل تعقيدًا، لأنه يزيد عدد المعتقلين الذين نحاول تزويدهم بما يفتقرون إليه، غير أن الوقت كان أضيق من أن يتسع لطول التردد، فكنا نفعل كل ما يخطر على البال بلا حساب للعواقب، ما دام له غَنَاء إلى حين، وسهل الأمر قليلا أن المعتقلات كانت تضيق بمن فيها فيسرّح بعضهم ليكون فيها محل لمن يُقبض عليهم فى كل يوم. وليس من همى أن أتحدث عن الثورة وما كان فيها، وإنما أريد أن أقول إنها زادت عنائى وضاعفت ماكنت أكابده من مشقات، وكل شىء عادة، فألفنا التعب كما كنا نألف الراحة والرغد، وسكنا إلى الأحوال الجديدة الحافلة بالمنغصات والمتعبات، وانقطع التبرم والضجر ووطنا أنفسنا بسرعة على احتمال كل ما عسى أن تجيء به الأيام. وكان كل طريق إلى بيتى، يحُوج إلى اجتياز المقابر، فكنت أسلكها كل يوم، وأرى الاجداث المبعثرة فى كل صباج ومساء، وتحت ضوء القمر، وفى قدة الظهر، وفى الظلمة الحالكة، وفى البكرة المطلولة فنفعنى هذا وبلّد شعورى بالموت، ومحا استهوالى له وجزعى منه، وجعله فيما أرى وأحس، أمرًا عاديا لا غرابة فيه ولا جدة له، حتى لقد صار يتفق لى بعد ذلك أن أحتاج إلى الراحة بعد طول المشى، فأقعد على صوى قبر من القبور الكثيرة فى طريقى، وأشعل سيجارة، وأروح أدخن، وأدندن، بصوت خفيض، أو أرسل الصوت بالغناء، ولا أشعر بحرج أو استنكار. وكان بدء التحول فى حياتى أن زوجتى ماتت، وإنى لأومن أن لكل أجل كتابا، ولكنى إلى هذه الساعة لا أستطيع أن أعفى نفسى منِ ثقل الاعتقاد أن الطبيب قتلها، وهو سكران، وقد مات هو أيضًا بعد سنوات: فإلى حيث ألقت، وما أعرفني شمتُّ بميت سواه، ولم يعتمد قتلها، ولكنا دعوناه — وقد جاءها المخاض — فشممت رائحة الخمر من فمه، وفحصها ثم قال لى إن الحالة طبيعية، ولم يكن ثم موجب لدعوتى، وسيحصل الوضع في أوانه، ولكنى جئت فلا داعى للانتظار (كذلك قال والله) وكنت أعاونه، فطهر الآلات وشرع فى العمل، وجر الجنين فإذا الآلة التى طوق بها رأسه قد حفرت فيه إخدودًا يسع الخنصر، وشغل نفسه دقائق بالجنين، والتنفس الصناعى على غير جدوى، فألححت عليه أن يتركه ويعنى بالأم، فما ثم شك فى أن الجنين مات، فرجع إلى الأم ليخرج «الخلاص» فكان والله يشده كما رأيت الفرق الرياضية تتجاذب شد الحبل بينها بأعظم ما يملك من قوة، ثم رأى أن هذا لم يجد، فدس يده وأخرج الخلاص مقطعًا إربا، ثم لفها، وقال ترقد ولا تسقوها ماء، وأخذنى معه، فقال لى إن الحالة خطرة، وإنه آسف. فلم أطق هذا اللف وسألته: «متى تتوقع أن تكون الوفاة..؟ إنى أسألك عن هذا لأنى أوثر أن أكون على بصيرة، ولا تخش جزعى، فإن واجباتى الآن لا تدع لى وقتا للجزع، فلم يجبنى جوابا صريحا، وقال: سترى ما يكون صباح الغد. وعدت إلى زِوجتى فأدركت مما رأيت أن النزف يلح عليها، وأنها تموت شيئًا فشيئًا، فبقيت إلى جانبها أقوّى نفْسها — وأنا يائس — وأشد من عزيمتها، وأبتسم لها وقلبى يتفطر، وبالغت في التظاهر بالاطمئنان حتى لقد خلعت ثيابى وارتديت ملابس النوم، ولكنها كانت تحس من نفسها ما لا أحس، فأوصتنى بولدنا خيرا، وودعتنى، وجادت بالنفس الأخير ويدى على يدها. وكاد عقلى يطير، وهممت بأن أشكو الطبيب، ولكن ما الفائدة؟! وكيف أثبت تقصيره أو خطأه أو سكره؟ وشق علىّ الأمر حتي لقد تغير رأيى فى الناس والحياة الدنيا، والخير والشر، وحدثت أكثر من طبيب بما كان ووصفت له ما حدث فكانوا يتعجبون، ولكن هذا لم يُجْدنى، ولم يمنع أن طبيبًا ثملا قتل امرأتى، وأين العزاء فى أنه غير عامد، وأن هذا قضاء وقدر على كل حال. ولم ينجنى من الجنون إلا إكبابى على ابن الرومى والاشتغال بتصحيح الأخطاء فى ديوانه الذي كنت أستنسخه قبل ذلك وهذه أول مرة نفعنى فيها شاعر. تغيرت جدًّا بعد هذه الحادثة فأنا فيما أحس وأرى مخلوق آخر غير الذى عرفته فى ثلاثين سنة، على أنى مع ذلك ظللت قادرًا على كبح النفس فلم يفلت من يدى العنان أو لم أدعه يفلت. وانقضت الأربعون — وأحسب أن عادة استمرار المأتم أربعين يوما موروثة من أيام الفراعنة الذين كانوا يبقون الجثة أربعين يوما لتحنيطها — فلم أعد أطيق بيت جدى بعد أن خرجت زوجتى من دنياى فيه، فتركت فيه ما كانت زوجتى قد جاءتنى به فى جهازها واستأجرت بيتًا آخر حملت إليه أثاثنا القديم وعكفت فيه على ديوان ابن الرومى لأصححه على قدر الطاقة. واتفق فى ذلك الوقت أن عقدت محكمة عسكرية لمحاكمة كثيرين فيما زعموه مؤامرة كبرى، وكان المتهمون أكثر من عشرين بينهم سكرتير اللجنة المركزية للوفد المصرى الذى كان يفاوض لجنة ملنر بلندن، وكنت أعمل يومئذ فى «الأخبار» مع المرحوم أمين الرافعى بك فسألنى: من نبعث إلى المحكمة لحضور جلساتها؟ قلت سأحضرها أنا. قال إنه عمل طويل شاق، فدعه لغيرك، قلت كلا، وإن بى لحاجة إلى عمل مضن يشغلنى عن نفسى، ويصرفنى عن التفكير فى أمرى، وما أُصبت به فى حياتى. فوافق ودعا لى بخير، ولم تدع لى المحكمة العسكرية وقتا لسواها؛ وكانت تعقد فى اليوم جلستين، وظللت كذلك من يوليو إلى سبتمبر، وكنت فى مساء كل يوِم أعود إلى البيت فأرتمى على الفراش وأنام كالميت، فنفعنى هذا أيضًا وإن كان أسقمنى. ومن المضحكات أن جريدة الأخبار دعت الأمة إلى الاكتتاب لإقامة تمثال نهضة مصر للمرحوم مختار المثال وبلغت جملة ما جمعته حوالى ستة آلاف من الجنيهات وكانت الاكتتابات تودع بنك مصر أولا فأول. ولكن بعض البلهاء ظن أن ما تتلقاه الأخبار من الاكتتاب يحفظ فى بيتى أنا، وكان البيت طبقة واحدة، وله فناءان، واحد قدامه وآخر خلفه، وفيه الفرن وما إليه، وكان الجدار الخلفى واطئًا، فأيقظنى ذات ليلة صوت جسم وقع فى الفناء الخلفى فتوهمت فى أول الأمر أن حجرًا مزعزعًا أسقطه قط أو نحوه، ولكني سمعت بعد ذلك حركة كحركة من يعالج فتح باب، فنهضت، ومضيت إلى الباب الموصد، وفتحت شباكه ونظرت فإذا واحد من أهل الحى ولم يخطر لى أنه جاء ليسرق، فما فى البيت ما يستحق أن يطمع فيه أشد اللصوص قناعة، وظننته جاء يطلب شيئًا، فحييته وإن كان قد أسخطنى عليه أن يجىء فى هذا الوقت المتأخر، وفتحت له الباب وقلت له «تفضل» وحملت ما بدا لى من تردده واضطرابه على محمل الخجل فألححت عليه فدخل، فمضيت به إلى المكتبة، وناولته سيجارة وقمت لأصنع له قهوة، فاستغرب سلوكى معه، وأعجبه على ما يظهر، فأقر لى بالحقيقة وسألنى الصفح، فضحكت، وقلت له والله إنى لجدير بأن أخجل منك، فإن البيت فارغ، ودرت به على الغرف ليرى بعينيه مبلغ فراغها فزاد خجله، وطال اعتذاره وعظم أسفه، فخطر لى أن من نقص المروءة أن أرده خائبًا، صفر اليدين، ولم أجد غير الكتب، فتناولت طائفة منها، وقلت له خذ هذه وبعها، وإذا احتجت إلى سواها فتعال إلى فقد مللت عبادة الأصنام، وكتبت له رقعة وقلت فيها إنى أعطيته هذه الكتب، حتى لا يزعجه الشرطة. والطريف بعد ذلك أنه صار صديقى فقال لى يومًا إن هذا البيت غير مأمون لأنه «منطة» وأن الأولى أن أتخذ حارسًا، ولولا أنه مشغول بكسب رزقه لتولى الحراسة الواجبة. ولكنه سيجىء برجل أمين يقظ، يؤدى هذا الواجب. وبعد بضعة أيام جاءنى بفقيه أعمى وقال هذا حارسك، فلم أر أن أرده، فكان يبيت كل ليلة عندى على الشرفة، وإلى جانبه نبوته. وكان خفيف النوم فكل شىء يوقظه، وإذا استيقظ ضرب الأرض بنبوته وصاح «من القادم»؟ فأستيقظ أنا أيضًا! فلم أجد لى فى هذه الحراسة راحة فحولته إلى المقبرة، وقلت له اقرأ على هذا القبر كل يوم ما تيسر من القرآن الكريم. وانتقلت إلى بيت آخر آمن وأقل حاجة إلى هذه الحراسة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/13/
الفصل الثالث عشر
منذ مئات من السنين، أو الحقب فما أبعد هذا الماضى فيما أحس، وما أقربه أيضًا! قرأت قصة هيبسيا لشالز كنجزلى، وكان صديقى العقاد هو الذى دفع بها إلى وأوصانى، وأنا أقرأها، أن أحضر إلى ذهنى قصة تاييس لأناتول فرانس ففعلت، ورأيت — كما رأى — أن من الممكن أن يقول المرء أن القصة الانجليزية هى التى أوحت إلى الأديب الفرنسى بموضوع تاييس، وأنا أفضل القصة الانجليزية، وإن كان أناتول فرانس أبرع فنا وأسحر أسلوبا، على أن هذا موضوع آخر، وكل ما أريد أن أقوله أن في هيبسيا — على ما أذكر — رجلا عجيب الأطوار غريب الفلسفة، يكون في زورق أو سفينة — فما أدرى الآن — فيروح يتفلسف في ضعف دلالة الحس على وجود المحسوس، حتى ينتهى إلى إمكان القول بأنه هو غير موجود على الرغم من إحساسه بنفسه، وشعوره بوجوده. وقد راقنى هذا الرجل يومئذ وأعجبتنى فلسفته، وإن كانت تؤول إلى لا شىء، وبعد كل هذه السنين لا يزال منطقه يدور فى نفسى، ومع ذلك لا أستطيع أن أتذكر اسمه، أو ماذا هو فى الرواية، وكنت فى صباى — أى نعم فى صباى — أحببت فتاة كانت جارة لى، وكانت فى مثل سنى ومن أجلها كففت عن اللعب فى الحارة مع الغلمان ومن أجلها كنت أسقط من سطح بيتنا على سطح بيتها لأنعم بحديثها وأتملى بالنظر إلى حسن وجهها، فقد كان أهلى يزجروننى عن لقائها وأهلها لا يرضون عن حبنا الصبيانى، وهؤلاء وأولئك جميعًا يخشون العاقبة ولا يطمئنون إلى النهاية. وكنت لا أكتم حبي لها، بل أشعر به وأنا جذل مسرور وأحدث به غلمان الحارة؛ فيستغربون، وخادمنا فيدعو لى بطول العمر والسعادة، والشيوخ الوقورين من أصدقاء أخى الأكبر فيضحكون، ويتسلون، ويربتون على كتفي ويقولون: «عال عال، ما شاء الله ما شاء الله». وكنت أقول لأمى حين تنهرنى عن هذا الذى كان فى رأيها عبثًا: «ماذا يضير أحدًا أن أحبها». فتقول: «اختشى يا ولد عيب»! فأتعجب وأسألها: «عيب؟ أى عيب فى حبى لها؟ إنى لا أصنع شيئًا سوى أنى أحبها». فتقول: «هذا هو العيب». فأسألها: «ألست تحبينى»؟ فتبتسم وتقول: «يا بنى كيف تسأل»؟ فأقول: «لست أسأل، فإنى أعرف أنك تحبيننى، وأنا أحبك وليس حبك لى عيبًا، ولا حبى لك، فلماذا يكون ذلك عيبًا»؟ فتقول: «هذا شىء آخر أنت ابنى وأنا أمك ولكن هذه.. هذه ليست منا». فأسألها: «إن أبى لم يكن منك. ولكن تحبينه، ومازلت تلبسين السواد حدادًا عليه منذ سنوات». فتقول: «ولكنك صغير لا تفهم». فأقول: «صحيح إنى صغير، وإنى لا أفهم، ولكنى أحس يا أمى.. ألا يكفى أن أحس؟ وصدقينى ولا تغضبى أو تستائى حين أقول إنه أشهى إلىّ أن أكون جالسًا إليها الآن وإن قلبى يرف صبوة إليها». فتطرق شيئًا ثم ترفع رأسها وتضع يدها على كتفى وتقول «وبعد؟ ما هى النتيجة؟ ما هو المآل»؟ فأقول: «لست أعرف ماذا تعنين؟ كل ما أعرفه أنى أحبها وأنا فرح بذلك». فتسأل «ولكن النتيجة؟ ماذا بعد هذا الحب؟ ما آخرته»؟ فأقول «لا شىء.. أحبها، وهذا هو الأول والآخر.. ثم لماذا يكون له آخر»؟ فتقول «إنك طفل.. وهذا غير معقول». وكان حب هذه الفتاة ينمو على الأيام. كما ينمو شعر رأسى. وقد تحولنا إلى بيت آخر وبعدت الشقة جدًا ولم يكن هذا ليمنعنى أن أقطع المدينة من أولها إلى آخرها سيرًا على القدمين كل يوم لأزورها. وثابرت على حبها أعوامًا طوالا ثم زوجوها فى الأرياف فغابت عنى، فغاب الخير والأنس، وغاض السرور من نفسى، وأظلم القلب. كان هذا وأنا صبى فى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وقد مضى ثلث قرن وزيادة على هذا الحب الأول، وزحفت المدينة، وهُدم الحى الذى كان فيه بيتها. هُدم كله، ورفعت عمائر جديدة، وشقت طرقا، ووسعت ميادين، وغرست أشجارًا؛ ومدت قضبانًا، وأجرت تراما. وإذ بى فى يوم الأيام أزور هذا الحى وأجوبه شبرًا شبرًا، وأتمثل ماضيه كيف كان، حتى أهتدى إلى الرقعة التى كان بيتها قائمًا عليها فأرجع مغتبطًا قرير العين، وأزداد اعتزازًا بذكرى ذلك الحب. ولم تبهت ولن تبهت صورة الفتاه وإنى لأراها الآن، كما كنت أراها فى ذلك العصر الحالى، واقفة إلى جانبى وأمامنا على النافذة طبق فيه «لب» تقشره لى، وتعطينه، لأنى لا أحسن قَشْره، أو جالسة على حشية تسرّح شعرها الدجوجى، وترجله وتضفره، فأميل على رأسها، وأدنى أنفى من شعرها الوحف، وأشمه. وإنى ليخيل إلى أنى أجد طيبه الآن أنفى! وما أقول «يخيل إلى» إلا اتقاء لإنكار القارئ فإن شعورى بذلك أصدق ما يمكن أن يكون شعور إنسان بشىء.. وما زلت أراها، تجرى فى الحارة وراء دجاجة لها شاردة، وأنا أدعوها أن تتريث وتقف هناك، وتخطو مترفقة، على حين أقف أنا فى ناحية أخرى لنحصر الدجاجة بيننا، ونزحف ونضيق على الدجاجة المارقة، وهى تصيح وتضرب بجناحيها، وتحاول الإفلات، فتنحنى الفتاة عليها بغتة لتمسكها، فتأخذ عينى ثدييها الناهدين الراسخين وقد ثقلا بالثوب وأحس هزتهما تحته؛ فيدور رأسى وأذهل عن الدجاجة ولا أعود أدرى أفلتت أم وقعت، فتصيح بى وقد اعتدلت «مالك وقفت وسكت؟ ألا تساعدنى»؟ فأفيق وكأنى عدت من عالم آخر، ولا نزال بالدجاجة حتى نمسكها». وصورتها وهى على السطح تنشر الثياب على الحبال الممدودة وتثبتها بالمشابك، وقد كشفت عن ساعديها وطوت الكمين فوق المرفق، فبدت البشرة السمراء مضطرمة من أثر الغسل، وجهد الدعك وفعل الصابون. وصورتها وهى واقفة بفناء البيت تودّعنى، وباب السكة موارب، وقد ضممتها إلى صدرى وطوقتها بذراعى، وعكفت على فمها بالقبل الحرار، وكان وجهها إلى الباب، وظهرى إليه فمر رجل من أصدقاء أخى، نعرفه ثرثارة تماما، وتراه فتحاول أن تفلت من عناقى، وأحسبها ضجرت، أتوهمها فترت، فأكتئب، فتصيح «لالا.. هذا الرجل» وتقص على الخبر وتعيد لى بشاشتى وترد إلى روحى الإشراق. وصورتها وهى راقدة ورأسها على وركى، ويدى على شعرها أمسحه وأتخلله بأصابعى، وألمس خدها الأسيل، وأداعب شفتها الرقيقة بأصبعى، فتغافلنى وتعضه. كلا، لن تبهت هذه الصور أبدا، ولن تكبر الفتاة أو ترتفع بها السن، أو يزداد عمرها عندى يوما، وستظل على الأيام غضة صغيرة. ولكنى نسيت اسمها، فكأنى ما عرفته قط ولا سمعت به. ترى ماذا كان؟ وكيف كان فى السمع؟ وفى وسعى أن أسميها شيئًا وأن أطلق عليها أعذب ما أعرف من الأسماء، ولكنها عندى أحلى هكذا بلا اسم، ولا عنوان. وماذا يزيدها أن يكون لها اسم وماذا أصنع به وليس ينقصُ الصورةَ شىء؟ نسيت اسمها كما نسيت اسم ذلك الرجل المتفلسف فى قصة هيبسيا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/14/
الفصل الرابع عشر
بعد أن كتبت الفصل السابق شق على أنى نسيت لماذا سقت قصة هذه الفتاة التى أحببتها وأنا صبى، ولا يزال لحبها — أو لذكراه — نوطة فى الفؤاد، وعلوق بالنفس، وقضيت أياما أحاول أن أتذكر، حتي وأنا أعمل أو أتكلم، أرى خوِاطرى تنثنى إلى هذا الذى تفلت منى وغاب عنى، وكان يخيل إلى أحيانًا أن السجف المسبل ينمحى قليلا، قليلا، أو ما يشبه السحاب المعقود يرق ويشف، وأن نجما يوشك ومضه الخفاق أن يطالعنى، فأبتسم، وأطمع، وأتشوف، ولكن ما كاد يرق يعود فيتكاثف ويتراكب، فأرتد بالخيبة والأسف، وأتعزى بقولى من يدرى؟ إن للذاكرة معابثاتها، وقد يتفق لى يومًا بعد أن أكف عن تعنية النفس بما نسيته، أن أكون فى مجلس شراب أو فى السينما، أو أكون ناهضًا من رقاد، فيحضر الغائب ويظهر المحجوب أو المتوارى، ويطفو الراسب، ومن يدرى أيضًا؟ لعلى حينئذ أتذكر اسم الفتاة! ولكن أيمكن أن أكون على يقين أن هذا اسمها؟ هل يسعنى أن أطمئن إلى أن هذا الاسم هو الذى كنت أعرفها به، كلا، فما إلى هذه الثقة أو الاطمئنان من سبيل، وعجيب أن أنساه. وأعجب منه أن ما يدور في نفسى من الأسماء لا أجد له فى جوانبى صدى ولا أحس منه هزة أو عسى أن تكون هى قد نسيت اسمى، بل نسيتنى جملة، فما كنا إلا طفلين نلعت بما لا نفهم، وما أحسبها غالت بحبها لى وضننت به على العفاء كما غاليت وضننت، وأكبر الظن أن شئون الحياة وشجونها وأفراحها وأتراحها أذهلتْها عن ذلك العهد على ما كان فيه من حلاوة، وله من سحر، وإنه ليخطر لى أحيانًا، وأنا أرى بنى أن هؤلاء كان يمكن أن يكونوا بنى منها، ولو رأيت أبنائها — أترى صار لها بنون؟ لما وسعنى أن أتصور أنهم بنوها دونى، أو على الأقل أن خاطرى الماثل فى نفسها لم يطبعهم بشىء منى، ولكن أنى لى أن أعرف — بل أكون واثقًا — أن خاطرى يتمثل، أو كان يتمثل، لها؟ ويشق على أن أتصور أنها تنسى. ولعل حبها لم يكن كفاء حبي، ولكن أحسبها تنسى كل شىء إلا أني فزعت إليها واختفيت عندها وفى بيتها، وفى حجرة مظلمة رطبة مهجورة منه، يومين كاملين. وكان أخى الأكبر — رحمه الله فإن به حاجة إلى الرحمة — قد أراد أن يبرنى ويسرنى فدعانى إلى مرافقته فى يوم «شم النسيم» فذهب بى، ومعنا من أصدقائه ذلك الشركسى الثرثار الذى أشرت إليه فى الفصل السابق — والذى رآنى أعانق فتاتى فذهب يقص الخبر على كل من يلقاه ويقهقه فسمعت به أمى واغتمت له جدًا — إلى روض الفرج، وكانت هناك سفن راسية. وقد صفت عليها الكراسى والطولات على هيئة المقاهى، فجعل أخى وصاحبه يشربان «بيرة ستوت» وجاءت امرأة سمينة، ولكنها جميلة فسلمت وجلست، وأديرت عليها الراح التي تدار عليهما، ونظرت المرأة السمينة إلى بعينها المكحولتين وسألت «ألا تشرب»؟ فتبسمت ولم أرد، فقال أخى وكان من أظرف الناس إذا شرب — «خد.. إن هذا لا يضر» فهززت رأسى أن لا، فمال على وهمس فى أذنى: «لا تخف اشرب وأنت آمن» فهززت رأسى مرة أخرى، فعاد يهمس فى أذنى: «اشرب بالله، وسأقول لخالتى» يعنى أمى — ولم تكن خالته ولا أمه: «إنى اسقيتك سوبية» وهى شراب يصنع من الأرز فقبلت وأقبلت على الكوب الكبير أكرع منه كما يكرعون، وكان هذا أول عهدى بالشراب، فدار رأسى قليلا، وأحسست بالدم يصعد إلى ما وراء عينى ويتجمع هناك وانطلق لسانى وراح هذا الشركسى الثرثار يغمز أخى فيسألنى هذا عن فتاتى، فأقول بحبى فيضحكون ويقهقهون، وتكون المرأة السمينة الجميلة أعلاهم ضحكا وأشدهم قرقعة صوت، وكانت صورة هذا المجلس ماثلة لخاطرى، لما نظمت بعد سنوات طويلات المدد — قصيدة مطلعها. ولم أكن أعنى هذه السمينة الجميلة، ولكن صورة مجلس الشراب الأول ألحت على، فمضى القلم يرسمها فى التى يطربنى منها ما نثيره من الذكرى. ولا أحتاج أن أقول أنى سكِرِت، وقد دخلت على أمى، وشمت من فمى رائحة الخل، فغضبت غضبًا شديدًا ودعت جدتى «لأبى» وقالت انظرى ما صنع خيرى بأخيه؟ فنادت جدتى أخى، فأقبل عليها يبتسم لها، فصاحت به: «يا قليل الحيا يا مزبلح.. خد» وخلعت القبقاب، وأهوت به على أخى وهو يضحك فيلاطفها ويعتذر ويسألها الصفح، ويحاول أن يطمئنها على، وكنت أنا قد تسللت إلى غرفتي، وارتميت على السرير، ولم أكد أفعل حتى ألقيت ما فى جوفى على البساط، فخجلت. ولم أعد أطيق أن أنظر إلى وجه أمى أو جدتى، فصعدت إلى السطح وانحدرت منه — على السلم المعهود — إلى سطح الفتاة ونزلت إلى الفناء، وأهبت بها أن تؤوينى، وتخفينى عن العيون — حتى عيون أمها وأختها — فحارت كيف اصنع، ورأيت أنا باب الحجرة المهجورة فدفعته ودخلت وقلت هنا أختبئ، ولم يكن فى الحجرة شىء يصلح للجلوس أو الرقاد، فسرقت الفتاة كرسيا قعدت عليه حتى نتدبر الأمر، ثم جاءتنى بحصير ومخدة فارتميت ونمت ساعات، ولما أفقت كانت قد هيأت لى طعامًا — بيضًا مسلوقًا وقطعة من الجبن وبضع زيتونات وخبزًا — فأكلت هنيئا وشربت ماء كثيرًا. فى هذه الحجرة قضيت ليلتين، وكنت فيها كأنى فى سجن، فما كنت أبرحها إلا دقائق حين آمن العيون، وكانت الفتاة تؤنسنى بوجودها، وتجيئنى بأخبار البحث عنى، وقد ضحكنا جدًّا لما روت لى أنهم أطلقوا مناديا يصيح فى الشوارع «ياللى شاف ولد تايه عمره اتناشر سنة لابس جلابية بيضة وراسه عريانة اسمه إبراهيم … الخ الخ». وكان ضحكنا لأنى لست طفلا حتى يظنوا أنى تهت وضللت الطريق وكان قلبى يعصره الألم كلما تصورت جزع أمى وجدتى، وبكاءهما، وقد هممت مرارًا أن أبعث إليهما بخبر مطمئن، ولكن الوقت كان يمضى ولا أفعل، وكان التردد فى هذا والحيرة شر ما أعانى، ولكنى كنت راضيًا مغتبطًا بقرب الفتاة وحسن رعايتها لى، وصدق سريرتها فى كتمان سرى، حتى عن أمها وأختها. ولم أكن أبالى الرطوبة أو الظلام فقد كان الوقت صيفًا، والظلام جُنة، وألفت عيناى النظر فيه فكان حسبى أن أرى محيا الفتاة. ولكن الحب — بالغًا ما بلغ من القوة والعمق — لا يمنع أن يضيق المرء صدرًا بهذا الحب، وأن تلح الرغبة فى الخروج من مثل هذا المحبس على ما كان فيه من الأنس، ولم تنكر الفتاة منى ما كان يبدو من تململى وضجرى واشتهائى الخروج إلى النور، بل تطوعت فكانت رسولى إلى أمى تطلب لى منها الصفح، فما كان من أمى إلا أن ائتزرت وخفت إلى، وضمتنى إلى أحلى صدر وأرق قلب كأنما كنت قد غرقت أو خطفت..! كلا، قد تنسى الفتاة كل شىء إلا هذه الحادثة ولكن أين هى؟ فوق الثرى أم تحته ياترى؟ قد تكون ماتت! أو تكون الآن عجوزًا شمطاء! فهل أنا أحب اليوم أن أراها، وأن أعرف كيف صارت من بعدى؟ لا! وإنى لأذكر أنى كنت يومًا أتمشى مع صديقى الأستاذ العقاد، فرأيت رجلا قصيرًا مرسل اللحية أبيضها، مقوس الظهر، مغضن الوجه، فقلت لصديقى «انظر.. هذا هو المازنى فى السبعين من العمر! تالله ما أقبح ما نحن صائرون إليه من الضعف والتهدم والدمامة! لا ياسيدى، خير من هذا المصير عمر قصير مع الصحة والقدرة.» نعم؟ أكره أن أرى الفتاة فى حاضرها، وأن أفسد على نفسى صورة صباها النضير، وشبابها الريان، وهبها ماتت، فما ماتت عندى، وإنى ليموت منى كل شىء، ولكنها هى عندى ومعى حية لاتموت ولاتهرم مابقيت.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/15/
الفصل الخامس عشر
أراني منذ بضع سنوات أزداد كل يوم انقباضا عن الناس، وفتورًا عن لقائهم، ومخالطتهم، ونفورًا من الاتصال بهم، وكنت قبل ذلك أحس الضيعة إذا لم أجد من أجالس وأحادث، وكان يسرني أن أسمع صوتى — لا شاديا بل متحدثا — وكانت لذة الحديث لاتعادلها عندى لذة، وكنت في سبيل هذه المتعة البريئة أصنع كل ما يراني الإخوان ذا ولوع به أو طلب له، من برىء، وكانت الوحدة تتلف أعصابي، وتعصف باتزاني، وتكلفنى شططا، ثم ألفيتني — من حيث أشعر، ولا أشعر، أضيّق الدائرة، أو أوسع لنفسي المخرج من محيطها، وأتسلل شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت أتلفّت فلا أجد حولى أحدًا، وصرت إذا احتجت إلى لقاء صديق قديم، أتردد، وبى من التهيب والخجل مثل ما يحس المرء عادة عند لقاء غريب لاعهد له به. وقلت لنفسي مرة: «ياهذا، إنك لتمشي فى شارع غاص بالخلق مائج بالرائحين والغادين والرائحات والغاديات، وتروح وتجيء مثلهم أو مثلهن ساعة أو بعض ساعة، وتقطع خمسة فراسخ فى الذهاب والإياب فلا يتفق أن تلقى وجها تعرفه. نصف المدينة القارئة تخرج إلى هذا الشارع وتسير فيه. وكل من ترى معه صاحب أو صاحبة، ولا تزال يده ترتفع بالسلام أو رأسه يهتز بالتحية لهذا وذاك، إلا أنت فما يمر بك من تعرفه أو يعرفك. ومع ذلك أنت أشهر مَن يمشى فى هذا الشارع ولعل كثيرين ممن تأخذهم عينك قد قرأوا لك، وأعجبوا بك أو سخطوا عليك فهم يعرفونك إذا كانوا يعرفونك — ورقات مغلفة أو مجلدة ولا يعرفونك فى الأحياء من أمثالهم، ومن يدرى، لعلهم يستغربون، بل يستنكرون أن يروك في الطريق! فكثيرا ما تحصل في نفوس القراء صور للكتاب ليس أغرب منها ولا أعجب. وقد خابت لى أنا آمال كثيرة فى أدباء عرفتهم قبل أن أراهم، لأنى وجدتهم علي خلاف ما كنت أتخيلهم مما أقرأ لهم. والصورة التى يرسمها المرء للمجهول تكون على هواه، وقلما يكون الأصل على حقيقته كذلك. والنفس بعد أن تفرغ من رسم الصورة وتلوينها وإنطاقها بالتعابير المستوحاة من الآثار المنشورة يعز عليها أن تتناولها بالتنقيح والتبديل بل بالتغيير التام فى أحيان كثيرة وهذه الصورة المتخيلة تكون من جهد النفس، والنفس لايطيب لها أن يذهب جهدها عبثًا، وأثقل من ذلك على المرء أن يعترف بأن فراسته لم تكن صادقة، وأن التوفيق أخطأه فيما تعب فيه، وباهي فيما بينه وبين نفسه به، وما أكثر ماسمعت من الناس فى أول لقاء «غريب»! لقد كنا نتخيل المازني شيئًا جسيما له طول وعرض. «أو قولهم» لقد كنا نتصور أنك تكور على رأسك عمامة عظيمة وترسل لحية كثة. «أو قولهم» أأنت المازنى أم اختزاله؟ «ومتى كان هذا هكذا أفلا يكون الأمثل أن أبقي في أذهان الناس كما يشاءون أن يتخيلونى، وأن أظل عندهم كتابًا يقرأونه ويرضون عنه فيما أرجو — أو لا يرضون فقد استوى هذا وذاك عندي؟ وقلت لنفسي أيضًا «إنك لم تعش إلى الآن» كما تحب وتؤثر أن تعيش، ولا سبيل إلى حياة تشتهيها مادمت تخوض العباب مع الخائضين وتضرب فى اللجة مع الضاربين، لأنه لا يسعك إلا أن تنزل فى الأغلب على حكم الجماعة، ولكل جماعة قواعد حياتها، والأمر في جد الحياة مثله فى لعبها ولهوها. وكما أن للعب أصوله ونظامه، كذلك للجد، ولا مفر من التزام هذه الأصول إلى حد كبير والنزول على حكمها؛ وإن كان كل خاضع لها يتسخطها ولا يرتاح إليها، إذ القيد قيد على كل حال فإذا أردت أن تحيا حياتك على النحو الذى هو آثر عندك فلا مهرب من التعزل ليتسنى لك أن تكون على هواك». وقلت لنفسى أيضًا — على سبيل التشجيع: «واعلم أنك لا تخسر شيئًا تتحسر عليه، وتألم فقدانه إذا أنت انصرفت عن الناس وزهدت فى مخالطتهم، فسيكون عندك خير عوض عما يفوتك، ذلك أنك تكون كالذى يشرب عصارة ولا يمص، فهل من الخسارة أن تعفى نفسك أن تعب التقشير والمص، ومنظر النفاية التى لم يبق فيها خير، وأن تقنع بالعصارة التى هى الخير كله»؟ وصحيح أن بذل الجهد لذة، وأن ما يتعب فيه الإنسان يكون أحلى وأمتع مما يجىء بلا عناء، ولكنى لن أحرم لذة الجهد، حين أستغنى بالكتب عن الناس. وقد صرت آكل ما يريح وينفع، لا ما هو أشهى وأمتع، وأشرب ما يفيدنى لا ما هو أعذب فى فمى أو ما أنا إليه أمْيل وإنى لأردّ نفسى عن كثير مما يتحلب عليه الريق، لأن طاعة النفس فيه يجىء فى أعقابها ما لا يطاق من الآلام والأوجاع وهذا كله رياضة على الحرمان وعلى أن الحرمان لا يكون إلا من الطلب، ولا أعرف لى الآن مطلبا عند الناس، فقد بعد ما بينى وبينهم جدًا، وإنى لأرانى مع الواحد منهم فأحس أنه فى كوكب آخر وعالم غير عالمى. ليس همى همهم، ولا أنا منهم ولا هم منى فى قليل أو كثير، ومتى ذهب الشعور بالمشاركة فماذا يبقى؟ ولست أعنى أنى خير منهم أو أفضل، ولكنى أعنى أنى أرانى مختلفًا، والاختلاف ليس مزية، ولا أفضل فيه ولا رجحان. وقلت لنفسى أيضًا: «لقد ثار بى صديق مرة لأنى سألته ألا تشتهى أن تتمرغ كالحمار على الأرض؟ وحسب أنى أقول إنه حمار، وأنه لا ينقصه إلا أن يتمرغ وأعترف أنى أسأت العبارة عما أريد ولكنى إنما عنيت أن النفس تنزع إلى الحرية، وما دام لا ضير فيها على أحد فماذا يمنع منها؟ ولماذا نحيط أنفسنا بأسلاك شائكة لا ضرورة لها ولا منفعة منها؟» وهبنى تمرغت على الترِاب، وتقلبت على الأرض، كما يفعل الحمار، فأين البأس هنا؟ إذا كان ثمَّ بأس فهو علىّ لا على أحد غيرى، وثيابى هى التى ستتسخ، ووجهى هو الذى سيتعفر، وإذا كانت نفسى تنازعنى أن أفعل ذلك، فإنى أنا الذى يؤذيه الإحجام عنه، وأنا الذى ترتاح أعصابه وتسكن نفسه إذا فعل. ولكن صاحبى غضب، وإن كنت لم أقصّر فى الشرح والبيان، وفى الاعتذار من سوء العبارة وقبح الاختيار للمثل. ولا يزال يذكرنى بالسوء كلما عرض ذكرى فى مجلسه، ولاينفك يقول إنى وقح قليل الأدب، ولاشك أنى كما يقول، مادام الأدب هو ما يعرف. وقد يسرّه ويخفف من سخطه على أن يعرف — إذ أمكن أن يحمل نفسه على قراءة شىء لى — أنى أخرج فى بعض الأحيان، إلى الصحراء وأتمرغ كالحمار على رمالها، وأعوى كالكلب وأموء كالقط، وأصرخ وأصيح فى هذا الفضاء الشاسع، ثم أنهض وأنفض عن ثيابى الغبار، وأمسح وجهى ويدى. وأعود إنسانا محتشما ذا سمت ووقار، ولكن بعد أن أكون قد أرضيت نفسى وأشعرتها أنى حر ولى فى هذا الذى لا قيمة له عند الأكثرين، وأن فى وسعى أن أفعل ما أشاء، وأكون على ما أحب. ولا نكران أن هذا لا يتاح لى إلا وأنا منفرد وحدى، ولكنه ليس بالقليل أن تستطيع أن تكون متفردًا وحدك وأن تنعم بذلك، ولا تستوحش نفسك ولا تصبو إلى الناس. ولعل المتعة مستفادة من القدرة على مغالبة الصبوة إلى المجتمع لا مما عسى أن تفعل وأنت وحدك. ولكن كثيرين يكونون وحدهم، ولا عين عليهم، ولا خوف من أن يراهم أو يسمعهم أحد ومع ذلك لا يجرأون أن يفعلوا ما تحدثهم به نفوسهم.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/16/
الفصل السادس عشر
وقلت لنفسى أيضًا: «لا أدرى لم هذا الموت؟ وإنى لأشتهى أن أرى حياة من لا يموتون، وبودى لو يمتد بى الأجل إلى زمان يسع الإنسان فيه أن يغالب هذا الردى العادى. وأحسب أن الموت هو مصدر ما نعده فضائل فى الإنسان، وقد شرحت هذا فيما كتبته عن المتنبى فى «حصاد الهشيم» فلا أعود إليه، ولكنى أحسبه أيضًا علة ما ألفنا أن نسميه الرذائل. غير أنه ما الخير والشر؟ وما الفضيلة والرذيلة؟ أخشى ألا يكون هذا وما إليه أكثر من ضوابط للسلوك، ووسيلة لتنظيم الجماعة والانتفاع بما فى الطباع. وإنا لفى زمن يُعد فيه الخير فى مكان شرًا فى مكان غيره، والفضيلة هنا مرذولة هناك. ولقد أدركت عهدًا كان ذكر الحب فيه عيبًا؛ وكان تقبيل الفتى لأمه التى نجلته، قلة حياء، فالآن نعلّم أولادنا أن الرجل والمرأة ما لم يتحابا لا يجوز أن يتعايشا، ونطلب لغير الشرعى من الأبناء مثل ما لصنوه الشرعى من الحق والكرامة، ونرى الخطيبين أو الزوجين، أو الصاحب والصاحبة يتلاثمان على قارعة الطريق وفى المجلس الحافل، ونحس الرضى والاغتباط من الناظرين، ونشعر أنهم يدعون لهما، ولا نحس أنهم يستهجنون أو ينفرون وليكن هذا كيفما شاء الله أن يكون، فأين العزاء فيه لحى لا يلبث أن يصبح «هالكا وابن هالك، وذا نسب فى الهالكين عريق»؟ وطال تفكيرى فى هذا الموت، وخامرنى خاطره، فهو لا يفارقنى فى يقظة أو منام، وإنى لأحلم به وإن كنت — بلطف الله — أصبح ناسيا ما تراءى لى من الصور والحوادث فى رقادى، وما غمضت عينى ليلة إلا وأكبر ظنى أن أفقد نفسى فلا أعود إلى الشعور بها، وقد أحب أن أهوّن على نفسى الأمر فأتساءل متغابيًا أو مغالطا: «أترى كل ما فى الموت هو هذا الفقدان للشعور بالذات»؟ ولا ينفعنى هذا فأرتد وأقول: «وكيف يُعد حيا من لا يعرف أنه حى ولا يحس بنفسه؟ وماذا تكون إذن جدوى استمرار حياة لايحسها الحى ولا يفطن إليها ولا يدرك بها أنه موجود؟ أطبق الجفن على الجفن وأنا أحدث نفسى أن ما لا حيلة لى فيه لا حيلة لى فيه، فلأقصر عن تدبره، ولكن على واجبا هو ادخار القوة والدفاع بها إلى آخر رمق. ولكن قلبى يظل يخفق ويدق، ويكبر فى وهمى أنى إذا نمت قد تُختلس منى الحياة وأنا ذاهل غافل لا أقدم دفاعا ولا أقوم بكفاح، وأحس دقات قلبى فى رأسى قوية تكاد تفلق العظم، وأسمعها بأذنى مدوية تعصف بسكون النفس واتزان الأعصاب، وأشعر كأن كيانى كله يرتج، بل يزلزل، فاحتال لاستعادة السكون، وأوثر لهذا أن أنام وأنا قاعد فإن القعود، فيما جربت، يعفينى من حدة الشعور بدقات القلب، وأروح أقول لنفسى: يا هذا إن الدقات منظمة وإن كنت أسمعها عالية، وكل إنسان يستطيع أن يسمعها ويستهولها كما نفعل إذا هو جعل باله إليها، فقلبك بخير ولا خوف عليه — على الأرجح — من سكتة مفاجئة، يجمد من جرائها تيار الحياة، وقد قال لى طبيب — استشرته: إن القلب سليم وإن جسمك الضئيل لا يكلفه جهدًا وأن أيسر عمله كاف جدًّا لإدارة الدم فى البدن كله وهذه أعصابك قد أتلفتها بهذا التفكير الدائم فى الموت، فهل تستطيع أن تبين لى على أى شىء تحرص فى الحياة حتى تجزع من الموت هذا الجزع؟ وأشغل نفسى بجواب هذا السؤال، وأروح أعرض على نفسى وجوه حياتى، ولا أبخس الحسن حقه ولا أغالى بالقبيح أو أهوّل به، ويطول بى ذلك فيأخذنى النوم وأستريح من هذا العناء الباطل. ولكن الخاطر يظل حاضرًا أبدًا، على الرغم مما أحاول أن أدافعه به، فأنا أقعد للطعام وأحس من نفسى الإقبال عليه والرغبة فيه، ولكن كل لقمة أتناولها يصحبها إنذار: «حاذر من الكظة» فأنهض عن المائدة وما شبعت وتقول زوجتى — وهى تقوم معى: «لا أراك تأكل الكفاية» فأقول متمثلا: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع؛ وإذا أكلنا لا نشبع» وأتقى أن أعديها بما ينغص عيشى. وأكون كما يقول الشاعر القديم: ولكنى أنظر إلى هذه التى هى منى النفس، وروح الحياة وريحانها فأرى بأول الظن «آخر الأمر من وراء المغيب» فتبدو لى ملفوفًا عليها كفن وقد شاعت الصفرة فى محياها المتوهج، وآضت عينها التى تنفث السحر كقطعة من زجاج، وشاع فيها البلى علوا وسفلا، وصارت غضارتها ونضارتها صديدًا سائلا تسد من نتنه الأنوف. وأرد نفسى إلى عينى وأترفق بها وأنا أتصور مآلها، فأراها شجرة يذوى نورها، وتذهب زهرتها ويجف ورقها ويسقط عنها، فتتعرى، ثم يجىء الحطّاب ويهوى على أصلها بالفأس.. وكانت هنا شجرة ثم غابت.. هذا كل شىء. ويحضرنى بيت للخيام مما ترجمته عنه: فأديره فى نفسى وأدهوره فى شدقى، بلا صوت، وأظل مع ذلك أتبسم للجالسين وأحادثهم وأمازحهم وأجدّ معهم وهم لا يدرون أنى قبر مظلم، وأنى أستر نفسى وأحجبها عنهم بأزاهير الضحك المتكلف، أى نعم، فما أعرفننى ضحكت ضحكة من القلب.. ضحكة سرور حقيقى عميق.. ولكن مالهم هم أقول لهم ذلك، وأغش به نفوسهم وأفسد نعيمهم وأسود الدنيا فى عيونهم؟ ويلقانى الشبان، ويسألوننى، ويرهفون السمع لما أقول، وفى ظنهم أنى أحكم منهم وأعلم، وإنى لكذاك ولكنها حكمة خير منها الطيش وعلم أفضل منه الجهل، فأقول لنفسى. يا هذا. إنك مسخ كريه، وإن كان هؤلاء الشبان لا يعلمون، فلا تنزع القناع، ولا تكشف لهم عن الخراب والقبح اللذْين فى نفسك، ولا تدع عيونهم تأخذ الديدان التى تمرح فى جوفك وترفق بهم فإن حسبهم ما لابد أن تصدمهم به الحياة عاجلا أو آجلا بل آجلا — كما أرجو لهم وأحب — وإنى لأتمنى لهم السلامة والنجاة، ودوام الاغترار بالعيش، وإن قلبى ليعصره عاصر حين أتخيلهم وقد فتحوا عيونهم على حقائق أخرى غير التى يعرفونها أو يأملونها، وأروح أرسم لهم صورة للحياة الزاهية وأضع نفسى فى موضعهم وأتكلم بمثل لسانهم ويكلفنى هذا شططًا، فليس أقسى من ثنى الأعصاب وإكراهها على حالة غير حالتها ويخيل إلى وأنا أبذل هذا الجهد من نفسى أنى أوقدت نارًا تحت أعصابى لتحمى، وأنى أدقها بمطرقة لتلين وتتخذ الصورة التى أريدها ويؤسفنى أنى لا أجد ما آمرهما به بعد ذلك لتخمد الجذوة وتبترد، ويذهب عنها الحر. وأسأل نفسى «أتراك تتمنى أن تستأنف حياتك وتبدأها من البداية كرة أخرى؟» ولا أكذب نفسى فأقول (لا) وأحس أنى فى حيرة، فلا أستطيع أن أقول (نعم) وما خير التكرار إذا كانت النهاية واحدة؟ وإذا تسنت العودة من جديد واستئناف الحياة فى الدنيا مرة ثانية، فهل يكون ذلك بهذه النفس التى ألفتها؟ وأرى الجواب كلا على التحقيق، فأزهو فى فراق النفس، ولا أرى هذا الاستئناف للحياة، أو ابتداءها من جديد، إلا ضربا من الموت، فكأنى سأموت ميتتين بدلا من واحدة. وأحيانا هذا الخاطر بالتهكم والسخرية، أركب بهما نفسى والناس والحياة وكل ما فيها، وتستغرقنى العاطفة الفنية فترة، فأذهل، وأهنأ، لأن بالى خلا من التنغيص، ولأن عاطفتى الفنية جعلتنى فيما أحس أقوى من الحياة نفسها؛ لأنها انتزعتنى من اللجة، ووقفت بى على الشاطئ وأتاحت لى أن أتأمل صورة الحياة من ناحيتها المسلية، وأنا بمعزل عنها فكأنى محلق فوقها، غير خاضع لها … ومن يدرى؟ لعلى أدخل السرور على نفس أخرى مظلمة كنفسى، بما أعالج من فكاهة الحياة. وليس قليلا أن أستطيع ذلك وإنه ليسعدنى أن أتوهم أنى استطعت إسعاد غيرى ولو دقائق معدودات وقد أكون واهما ولكنه وهم جميل، بل جليل، وأنه الذى يغرينى بتلمس الجوانب الفكاهية فى الحياة، ولا أنكر أن هذا يسرى على نفسى أيضًا، ولكن ما ينفعنى ويشفينى ساعة ولا يخلو من نفع لغيرى. وما أظن بى إلا أنى أصبحت كذاك الذى شفاه دواء لا يعرفه الأطباء؛ فهو يعد منه ملء زجاجات يهبها للشاكين المتوجعين لوجه الله وشكرًا لله. وقلت لنفسى أيضًا: «يا هذا، لقد جاوزت الخمسين، فأنت الآن فى المنحدر، كنت على جانب آخر من جهل الحياة، تصعد وتتوقل، ويصرفك ما فى الصعود من مشقات وما يتقاضاك من جهد، وما تأخذه عينك من صور ومناظر — عن التفكير فى الذروة وما بعدها، فالآن أشرفت على الجانب الآخر، ولا مفر لك من النزول. وعبث باطل ليس يجدى أن تخادع نفسك، وتوهمها خلاف ذلك. وقد يتيسر لك أن تقف هنا قليلا، وتتلبث هناك لحظة، ولكن الانحدار مهما طال الوقوف، لا مهرب منه، ثم إنك وأنت لا تستطيع أن تجعل عينك إلى فوق، فهى أبدًا — أو فى الأغلب الأعم — إلى تحت … إلى المصير المحتوم … وهو محتوم … محتوم، ما فى هذا أدنى شك فما قولك فى رياضة النفس عليه؟ تروض نفسك على الموت.. على الاطمئنان إليه.. على السكون إلى ما يهولك منه، والرضى به؟ واعلم أن هذا لا ينفي حرصك على الحياة وضنك بها، وكل ما فيه أن يعدك لما بعدها، فأنت كالذي يذهب إلى مدرسة ليهيئ نفسه لغده المأمول، فهذا غدك الذى لا ريب فيه، فمن أصالة الرأى أن تتهيأ له. وسينفعك هذا، ومواجهة الحقائق أولى وأردّ على المرء من تجاهلها والمكابرة فيها …». وراقنى هذا، فصح عزمى على رياضة النفس على السكون إلى الموت.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/17/
الفصل السابع عشر
سألت نفسى: «لو أمكن أن أبدأ حياتي من البداية، مرة أخرى، فهل ترانى أسير فيها كما سرت» ؟ وخطر لى، وأنا أدير هذا السؤال فى نفسى أن الأولى أن أسأل: هل يسرنى أو أنا أشتهى، أو أتمنى أن يرتد عقربا الساعة، وأن أكر راجعًا إلى تلك البداية؟ ولا أدّعى أني كرهت هذا، ونفرت منه، ولكنى أقول. لأنى ترددت وصحيح أنها كرّة — لو أتيحت — يكبر بها الأمل فى طول البقاء فى هذه الدنيا، والتلبث على الأرض، ولكن المعول فى الحياة ليس على الطول والعبرة ليست بالمدة، وعدد السنين، بل الامتلاء والسعة، ولولا شهادة الميلاد لما صدّقت أنى تجاوزت الخمسين، فإنى — كما قلت قديمًا أيام كنت مغرى بالنظم: ويضحكنى الآن أنى قلت هذا، فما أعرف أخى المزعوم هذا ما عسى أن يكون؟ وقد كنت أعنى نوحا، ولكن نوحا لم يغرق أرضًا، ولم يفجر ماء، وكل ما كان منه أنه صنع فلكا حمل فيه من كل شىء زوجين حتى أقلعت السماء، وبلعت الأرض ماءها، فليته ما فعل؟ وهذا البيت مثال للتأليف السخيف الذى لا دقة فيه ولا إحكام. وبعد أن يقول المرء إن الدهر كله، عمره، لا يقبل منه هذا القياس المحدود، بأن يكون أخا نوح أو حتى أخا لآدم، فإن مسافة هذا الزمن مهما طالت لا تعدو أن تكون جزءًا من الدهر. وقد كنت فى هذا البيت شبيهًا بالعامة أو الأطفال حين يقيسون ما لا حد له إلى ماله حدود قريبة. وللعامة عذر من أنهم محدودون، وأن فجاج الفكر والخيال والشعور مسدودة عليهم، وليس كذلك الأديب الذى يزعم أنه واسع، وأنه عالم صغير «يسع السبعة الأقاليم طرًا» كما يقول ابن الرومى فى بيت يهجو به ابن بوران، أو أمه، ويقول بعد: والذي يزعم نفسه قادرًا على أن يطوى العالم كله فى ضميره، وأن فؤاده يتسع للدنيا لا يجوز له أن يكون قاصرًا محدود الخيال، ضعيف التصور كالطفل والجاهل العامى النفس. وكان بعض الإخوان قد أشار على أن أعيد طبع ديوانى بعد أن أضيف إليه ما لم ينشر، فقلت له إنى لا أرضي الآن عما قلت من الشعر في صدر حياتى — وأنه يحتاج إلى مراجعة طويلة متعبة، ليصبح فى رأيى صالحًا للنشر، ولا صبر لى على هذا، ولا وقت له عندى، ومن الخطل أن أنشر ما لا أستجيد، فقال إن رأيك فيه ليس من الضرورى أن يكون رأى الناس مثله، وأن ما لا يعجبك قد يعجب غيرك، وأن ما يروقك قد لا يروق سواك. فقلت هذا صحيح، ولكنه شعرى، ونشرى له معناه رضاى عنه وارتياحى إليه، وغير مقبول أن أشتم الناس بأن أقول لهم خذوا هذا الشعر، فهو حسبكم وإن كان ليس حسبى، ثم إن رأيى أنا فى كلامى هو الذى يعنينى، وما قلته إلا للتعبير عما في نفسى.. فإذا كنت أرانى لم أجد العبارة ولم أوفق في التصوير، وأنى تشابه الأمر على، لجهلى، وخلطت بين العرض والجوهر، وركبنى الغلط حتى فيما توهمته حقيقة إحساسى وخوالجي، فكيف أستبيح أن أعرض هذا الخلط والغلط والعجز على الناس؟ وكما لا أحب أن أنشر ما قلت من الشعر بعد أن أدركت مافيه من قصور، كذلك لا أحب أن أبدأ حياتى — كرة أخرى — من البداية، وأكبر الظن أن ذكرى الشباب أحلى من حقيقته، وأعذب. وإنى لأغوص فى أعماق نفسى الآن، فأجد أنى فى شبابى لم أسعد به كما أسعد بذكراه، وأنى لم أجعل بالى فى عهده إلى الحلاوة التى أتذوقها الآن من عرض أيامه على خاطرى، ونشر المطوى من زمانه، وأحسب أن الذى يكسب ذكرى الشباب هذه الحلاوة ويرقق القلب له ويعطفه عليه، ويعصره أيضًا، هو أن الإنسان ينتقي منه وينتخب، ويغربل وينخل، ويبرز ما يحب، ويحجب ما يكره ويقول هذا هو الشباب! كلا، ليس هذا بالشباب، وما كانه قط، ولن يكونه، وإنما هو الحميد منه، مستخلصًا، ومصفى، ومعروضًا على نفس تحس دبيب الفناء، وتشعر بأنها مولية عن الدنيا، وكل ما يذهب ولا يرجع يلتفت إليه القلب، وما ينفرد الشباب بما يدعو إلى الصبوة إليه والرغبة في استعادته، فما يخلو عهد من عهود العمر من بواعث الرضى، وللكهولة لذاتها ومتعها، كما للشباب، بل لعل متع الحياة ولذات العيش فى الكهولة أقوى وأعمق، فإن للتجربة مزيتها وللمعرفة فضلها، والمرء يغالط نفسه حين يقول إن ما مر به كان أطيب مما هو فيه، فما كان كذلك، ولكن الذى فى الماء لا يستطيع أن ينعم بمرأى البحر ومناظر السابحين فيه، كما ينعم بذلك الواقف على الشاطئ، والماضى أوقع فى النفس لأن ذكراه تثير السرور بما كان فيه من حسن، والأسف على انقضائه، وتمنى عودته، ولكن الحاضر يشغل بمعاناته عن التفكير فيه والإحساس به من نواحيه جميعًا. كالسابح في الماء يشغل بجهد السباحة عما حوله من المناظر. وإذا وسع الإنسان أن يكون فى اللحظة الحاضرة وأن ينأى عنها ويلاحظها من بعيد، ويتأملها ويوقظ لها نفسه وحسه وعقله، كما يفعل حين يتدبر الماضى — إذا وسع المرء أن يفعل هذا، فإنه يستطيع أن يضيف إلى لذة الحاضر المتع المستفادة من رجع البصر أو التذكر. والأمر يحتاج إلى رياضة، وقد استطعت أن أروض نفسى على هذا، فأنا حين أكون على حال ما، لا أعجز عن انتزاع نفسى منه، والوقوف بمعزل عنه بحيث يتسني لى أن أراقب ما يجرى — كأنه يقع لسواى — وأن أدير فيه خاطرى فأكون فى الحاضر وكأنه مضى وظفر بالمتعة المحسوسة والمتعة المتخيلة وأضرب مثلا فأقول هبنى أعانق فتاة وأقبلها، فأنا حين أفعل ذلك أشعر بمتعة القبلة ولذة الضمة، ولكنى أزيد على ذلك أنى أستطيع أن أسبق هذه اللحظة بسنة أو سنتين. وأتصور نفسى جالسًا أتذكر حلاوة القبلة التى فزت بها من تلك الفتاة ويكون تصورى هذا فى أثناء التقبيل. فهما قبلتان — واحدة أحسها بفمى ويرف لها قلبى وأخرى يجسدها لى خيالى كما ستكون بذكراها بعد انقضاء عام أو عامين وهكذا فى غير ذلك. لهذا لا أرى مزية للعودة إلى الشباب.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/18/
الفصل الثامن عشر
سألنى «بعضهم»: هل تعتزل الناس، أو تروم أن تعتزلهم، لأنك مللت الحياة، وزهدت في العيش؟ أو أنت تفعل ذلك لأنك لا تأنس من نفسك القدرة على خوض الغمار، ومصارعة التيار، أي لفتور عراك وضعف أدركك؟ وليست هذه ألفاظ السائل، فقد نسيت الموضع الذى كنت أدخر فيه رسالته إلى أوان الرد عليها، والنسيان آفتى التي تكاد تذهب بلبى فإنى أنسى كل شىء إلا أنى أكلت، وما أذكر الشبع إلا بما أعانيه من كربة الثقال، وأحسب أنه — وأعنى النسيان، لا الشبع — هو الذى حمانى أن أحب وأعشق، وكيف بالله يكون حب من يمسى عاشقًا ويصبح ساليًا؟ أى والله، وإن الحسن لفتنة، وإن القلب ليصبوا. ولكنى أنسى أني صبوت. وتطير من رأسى الأسماء والأحاديث، كما تطير العصافير عن أعشاشها. وقد اتفق لى أن خرجت يومًا بالسيارة وحدى إلى آخر مصر الجديدة، فأوصدت أبواب السيارة وذهبت أتمشى في الحدائق الممتدة إلى حدود الصحراء، وكنت مطرقًا أنظر إلى الأرض وأنا أخطو، وكان بالى إلى الفرق بين وقع قدمي — قدم رجلى السليمة، وقدم رجلى المهيضة — وإلى مسافة الزمن التى يستغرقها الخطو بكل منها وأيهما أثقل وأبطأ فيما أحس وأرى. وكان الداعى إلى هذا أنه خطر لى أنى مخطئ فى اجتناب الرقص، وأنه عسى أن تسعفنى ساقى المهيضة ولا تعبأُ بالحركة الخفيفة السريعة المطلوبة فلا يبقي موجب للصبر على هذا الحرمان ومسوغ لتوطين النفس عليه، وأنا أحب الرقص، ولكنى لا أحب أن أكون حجر طاحون، وأخشى أن تخذلنى ساقي، فأتلكأ وأبطئ، أو دوس قدم التى أراقصها وأدور بها، وأخجل أن أجرب قبل أن أتبين وأستوثق، وإنى لهكذا وإذا بي أصدم بفتاة داخلة من بعض أبواب الحديقة، فاتقيت الوقوع بإسناد كتفى إلى كتفيها، واتقته هى براحتيها على صدرى وأفقنا فشرعت أعتذر، فقاطعتنى وقالت «أهو أنت»؟ فابتسمت وقلت «ليس عندى أدنى شك فى أنى أنا، فهل يكفيك هذا الجواب؟ إنه على كل حال من نوع السؤال». قالت «إنما أعنى أن هذه مصادفة عجيبة. أين كنت كل هذا الزمن»؟ فتأملتها، وأطلت التحديق فى وجهها الصابح، ولكن رأسى لم يختلج فيه شىء. فهززت رأسى وقلت «كل هذا الزمن؟ هل؟ هل أقص عليك تاريخ حياتى من البداية»؟ قالت «ألا تذكر»؟ قلت «هذه هى المسألة — كما يقول هملت، فهل سمعت به»؟ قالت «كيف تنسى؟ كيف يمكن أن تنسى»؟ قلت «اسمعى» وجررتها من ذراعها إلى مقعد «هذا موضوع يحتاح إلى تقص طويل، فقولى لى: هل أنا مدين لك؟ هل اقترضت منك مالا، أو استعرت شيئًا»؟ فضحكت وقالت «لا مال لى أقرض منه، وليس عندى ما يستحق أن يعار». قلت: «هذا حسن. فإنى الساعة أدنى ما أكون إلى الإفلاس. سؤال آخر …». فقاطعتنى وقالت: «لاتسأل.. سأذكرك بكل شىء». قلت: «خيرًا إن شاء الله، هاتى ما عندك». قالت: «أتذكر السويس»؟ قلت: «أعرف السويس، مصيف جميل وشتى أجمل فهل تلاقينا هناك على ساحل البحر، أو فى الكازينو، أو على الباخرة التى ركبتها إلى الحجاز أو …». قالت — وهي تضحك — انتظر لا، لم نتقابل فى السويس، بل فى طريق السويس، عند الكيلو الخمسين، وكنا عائدين إلى مصر..». فقاطعتها «كنا؟ من تعنين»؟ قالت «ألا تنتظر؟ أخى وصديقتان وصاحب لهما، وأنا، فانكسر غطاء المحرك فوقفنا ننتظر نجده، وكاد يدخل الليل، وكدنا نيأس، فقد كانت السيارات التى تمر بنا، لا تقف، وهى صغيرة لا تتسع لنا، ولا تقوى على جرنا وإذا أنت مقبل فاعترضت طريقك وأشرت إليك فوقفت، وسألتنا عما نريد، فأخبرناك، فاقترحت أن تحملنا جميعًا فى سيارتك، ولكننا اعترضنا، وقلنا إننا لا نستطيع أن نترك سيارتنا واقترحنا عليك أن نربط السيارتين فتجرنا، ففعلت وركبت أنا معك فقلت لى: «ستخرب سيارتى، وسينهكها هذا العبء، ولكن حسبى عوضًا أن ست عيون كفّت عن البكاء، وثلاث وجوه عاد إليها الإشراق».. وقد عرفتنا وعرفناك، وكتبت أسماءنا كلها فى رقعة، ولقيتك أنا وأخى بعد ذلك مرتين، دعوتنا فى أولاهما إلى السينما، وفى المرة الثانية قضينا أكثر من ساعتين فى (الأمريكين)، وقد أخبرتك فى ذلك اليوم أنى مسافرة إلى الإسكندرية لقضاء شهر فيها، وأعطيتك عنوانى فوعدت أن تزورنى، وأن تكتب إلى، قبل الحضور، ولكنك لم تفعل لا هذا ولا ذاك». قلت «الحمد لله». فقطبت وقالت «إيه؟ ماذا تعنى»؟ قلت «اسمعى. إن رأسى هذا غربال واسع الخروق، كما يعرف كل من يعرفنى، وقد كنت أخشى، وأنت تقصين على الحكاية، أن أكون قد قلت أو فعلت شيئًا.. الحمد لله على كل حال، فقد اقتصر الأمر على هذا القدر». قالت: «ولكن لماذا لا تنتظر؟ لقد وعدتنى أيضًا …». فقاطعتها قائلا: «هل تريدين أن تضحكى على ذقنى؟ لأنك عرفت أنى سريع النسيان، تخترعين وعودًا و…». قالت «ولماذا أخترع»؟ فتناولت ذراعها وسألتها «سأوجه إليك سؤالا قد يبدو لك محرجا أو ثقيلا، ولكن عذرى هو هذا النسيان، هل قلت لك إنك جميلة»؟ قالت «نعم» قلت: «إن عينى زرقاوان كالبحر، وعميقتان مثله». قلت «هذا صحيح» ففرحت وصاحت: «هل تذكرت»؟ قلت: «كلا» إنما أعنى أن عينيك هكذا تمامًا وأن هذا الوصف هو الحقيقة على كل حال — وهل.. هل..»؟ قالت: «نعم». قلت: «ماذا تعنين بنعم» (بعبوس). قالت: «منتظرة سؤالك». فتشهدت وسألتها «هل قبلتك؟؟ معذرة»! قالت «أوه.. هذا … نعم ثلاث مرات … مرة فى الطريق وأنا معك فى السيارة ومرة …». قلت «كفى.. كفى.. إنى آسف.. ولم يبق إلا أن أسأل هل كانت القبلة حلوة؟ أظن أنى سأجن …». فقالت — وهى تضحك: «إنك مدهش. ولكن هل صحيح أنك تنسى إلى هذا الحد؟ أم تراك تتكلف لتعابثنى»؟ قلت: «لا والله ما أذكر أنى رأيتك فى حياتى». وغريب أن أنسى الأصل وأذكر الهوامش! فهذه حادثة تريك كيف يكون من المستحيل على أن أعشق، لأنى أنسى كل حب، بل كل عاطفة، لا يزيد عمرها على أربع وعشرين ساعة، على الأكثر، ثم تنطوى. وأعود إلى السؤال الذى بدأت به هذا الفصل، فأقول: إنى لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها، ولا فترت عنها، بل أنا أطْلَبُ لها، وأقوى رغبة فيها مما كنت فى أى عهد مضى، ولست آنس من نفسى عجزًا عن مسايرة الدنيا، أو الناس، فإن الأمر على النقيض، وأحسب أن الرغبة فى الحياة تقوى مع ارتفاع السن وقلما يلتفت الشاب إلى الحياة وطولها أو قصرها، أو يفكر فى أنها إلى زوال، لأن ما يحسه من فيض الحيوية لا يجعل له بالا إلى شىء من ذلك، ولأنه يكون مشغولا بإنفاق هذه الحيوية الزاخرة عن كل أمر أو حال آخر، فهمه أن يريح نفسه من ثقل الضغط، وأن يفتح «البوابات» كلها لينحدر منها ويخرج ما يجاوز طاقته، ويزيد على قدرته على احتمال ضغطه ثم ينقضى الشباب فيسلس التدفق وتخف وطأته ويزداد شح المعين على الأيام، فيتسنى للمرء أن يفكر بعقله وينظر بقلبه وأن يدير عينه فى الماضى، والحاضر، وأن يمد بصره فى المستقبل ويرى أنه يدلف إلى النهاية، فيفرَق ويشفق وقد يجزع. وتحدثه نفسه أن النهاية قد تكون أدنى إليه مما يرجو فيشتهى أن يفوز فيما بقى له من العمر. بأضعاف أضعاف ما فاز به فيما مضى وانقضى ويطلب أن ينعم أعظم نِعم فى أوجز وقت لأنه من يدرى؟ قد لا يطول العمر. وقد يتخونه الموت. وهبه طال فقد لا تبقى الصحة. وما خير حياة بلا صحة ولا قدرة على العمل والاستمتاع؟ فهو لهذا يقبل على الحياة، لم يكن يفعل فى شبابه، لأنه كان مغترًا بالعباب الزاخر فى شبابه، ومفتونا به، ومصروفا، عن التأمل والتدبر، أما فى الكهولة فلماذا يغتر؟ وماذا يتوقع، وهو يحس النضوب يوما بعد يوم؟ ومن أجل هذا يخطئ من يتوهم أن الشباب هو وحده سن الإقبال على الحياة. فما ينقطع أو يفتر الإقبال، ولكن المرء فى صغره يركب الحياة بالجهل، أما فى الكهولة فإنه يركبها بالإرادة. وهو فى شبابه يكون محمولا على متن تيار لا يستطيع أن يقاومه أو يصده، وفى كهولته يكون كراكب السفينة المطاوعة، يمخر بها إلى حيث يبغى، وقد صارت فى عونه تجربته، وسكون التيار. كذلك يخطئ من يحسب الكهولة أضأل استمتاعا بالحياة، فإنها أدرى بالمتعة، وأحس بها، وأفطن لها، وأعرف بوجوهها، وأخبر بالوسيلة إليها. كلا، لست أنشد الاعتزال لشىء من هذا الذى سأل عنه بعضهم، بل لأسباب أخرى أعمق، أحاول أن أجلوها، وأرانى كلما عالجت ذلك أذهل عنها، أو أستطرد، أو أغرق خطر أنها فى بحر من الذكريات والتأملات.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/19/
الفصل التاسع عشر
قلت إن من الخطأ أن يتصور أحد أن الشباب أشد إقبالا على الحياة، وطلبًا لها ورغبة فيها، أو أن الكهل أقل تشبثا بالحياة أو أكثر فضيلة أو آثر لها وللعفة والزهادة في سيرته. وقد أثار هذا القول اعتراض بعض الإخوان، فأنشأوا يجادلوننى فيه، فكان مما قلته لهم إنكم لا تواجهون الحقائق بل تهربون منها، وتشيحون بوجوهكم عنها، لأنكم ترون هذا أكرم لكم وأبعث على توقيركم، أو أنتم تجهلون نفوسكم، أو تغالطونها أو لا أدرى ماذا غير هذا وقد كنت شابا كما كنتم؟ ولعل الفرق بينى وبينكم أنى كنت — وما زلت — مغرى بإدارة عينى فى نفسى، والغوص فى لجتها على ما عسى أن يكون فيها من طيب وخبيث، وأنى لا أحب أن أسمّى الأشياء أحسن أسمائها بل أسماءها الحقيقية، وأنى قد أغالط الناس، وأخدعهم ولكنى أصدُق نفسى. وليس أحلى عندى وأمتع ولا أوقع وأروع، من أن أتناول نفسى، كله، تيسرت لى الخلوة بها، وأحطها على كرسى أمامى، وأتدبرها، وأجيل فيها عينى، وأفحصها وأجسها، وأسبر أغوارها، وأمتحن نزعاتها وبواعثها، وألتمس المصادر الأولى لأهوائها فى أعماقها، وإصلاحها بحقيقة ما أرى وأعتقد، بلا تلعثم، أو مصانعة، أو مغالطة، وعسى أن يكون هذا مدعاة للإسراف والشطط ولعله يحمل على التجنى، ولكنه خير عندى من المغالطة على كل حال. والقول بأن الإنسان يركب الحياة بشبابه غلط، والصواب أنها هى التى تركبه فى شبابه تركض به من غير أن يكون له رأى أو إرادة، ومن غير أن تدع له فرصة للراحة والاستمتاع، وما يركب الحياة بالرأى والإرادة إلا الكهل على خلاف المظنون والشائع. أو هذا — على الأقل — ما بلوته من نفسي، وعرفته وأيقنت أنه الصحيح. كنت شابًا. فكيف كانت حياتى؟ وكيف كان الشعور بها؟ أرد عينى إلى هذا الماضى وأحدق، وأستشف، وأستجلى، وأستوضح. ثم أهز رأسى ولا يسعنى إلا أن أقول: لا أدرى! كل ما أدريه أنى كنت محمولا على متن تيار قوى، وكنت أقرأ، وأعمل، وأجد وألعب، وأشتهى وأطلب أو أقصّر ولكن بغير فهم صحيح، أو إدراك تام لما أنا فيه، أو لبواعثه أو لمصائر الأمور، كانت الكتب تعدينى وتسحرنى، فأنظر إلى الدنيا بعيون أصحابها لا بعينى، وأحسها بقلوبهم لا بقلبى، وأتصور حياتى وأقيسها على ما يروقنى من صور الحياة فى هذه الكتب، وأنتحل آمال أصحابها ومخاوفهم، وهماتهم وعزماتهم، ومثلهم العليا، وصور الكمال عندهم، وأوحى ذلك كله إلى نفسى، ثم أزعمنى ندهم وقريعهم فأُزهى وأتكبر، وأغتر، لأنى أرى نفسى كما رسمها خيالى الذى استمد من هذه الكتب لا كما هى فى الواقع، وكنت أفعل الشىء أو أتركه بوحى هذه الكتب. وأضرب مثلا: عشقت مرارًا، وقال فىّ صديقى الأستاذ العقاد قصيدة بعث بها إلىّ، فى ذلك الزمان: وأذكر أنه بعث إلى يومئذ برقعة كتب فيها أسماء المعشوقات وإلى جانبها أرقامها، وكان الرقم الأخير ١٧ وسلسل الأرقام تحتها ووضع أمامها أصفارًا لا أسماء، إشارة إلى أن معاشقى لا تنتهى، وأنه ينتظر أن يعرف الأسماء ليقيدها قبالة أرقامها. وإذا قلت عشقت، فإنما أعنى الآن أنى اشتهيت، وأنى عانيت هذا الضرب من الجوع الذى يسميه الناس الحب، ولكنى لم أكن أدرك هذا يومئذ، أو أنظر إلى حقيقة الأمر فيه، وإنما كان ما أقرأ من الشعر يغرينى بنشدان الحال، ويطلقنى كالنحلة بين أزاهير الحسن، ويدفعنى إلى إيحاء الشعور بالحب إلى نفسى، فأتوهم أنى محب، وأنى عاشق، فأقضى الليل مسهد الجفن مؤرق النفس، أنظم الشعر وأقول فى هذا المحبوب أو ذاك. وألقى المحبوب، فماذا كنت أصنع؟ لا شىء أكون معه كما أكون مع أى واحد من خلق الله، ولا يخطر لى حتى أن أتملى بهذا الحسن وأسعد بنضارته ورونقه، أكلمه كما أكلم غيره، وأجدّ أو أمزح، على نحو ما أفعل مع إخوانى بلا أدنى فرق وأرجع إلى بيتى، وأقعد بين كتبى، فأروح أتصور هذه الجلسة العادية على نحو آخر، وأخلع عليها من الخيال حللا ذات ألوان شتى، وأستبعد ما دار من الحديث وما كان من إشارات أو نظرات لم أعبأ بها فى حينها، وأحملها المعانى التى أريدها، فأُسرّ بهذا، وأتألم لذاك، وأرى فى هذه الكلمة والإشارة أو النظرة، معنى الرضى أو التشجيع، وفى تلك معنى التدلل أو الملل، أو القصد إلى الإيلام ولا أزال هكذا حتى تجتمع مادة كافية من ضروب الإحساسات لنظم قصيد! لا، لم أكن أعيش، أو أشعر بالحياة، وإنما كنت أنظم شعرًا، وكنت وأنا أنظمه أتمثل الإحساس الذى أريد العبارة عنه، والعاطفة التى أتخيل الصدور عنها، وأُوحى لنفسى هذا كله، وأنتهى بأن أعتقد بأن هذا هو الذى شعرت به حقيقة لا توهما، وأنه هو الذى خامر نفسى لا الذى أنشأته أنا لها بقوة الايحاء. ولا يخلو من فائدة فى بيان هذه الحقيقة، وأن أقول إن قرض الشعر هو الذى كان المقصود والذى اتجهت إليه الرغبة وتعلقت به الإرادة وإن ما كان من حب متوهم وإنما كان ثمرة هذه الرغبة فى قرض الشعر، أى أن قول الشعر كان يبعث على التماس المادة له، كما يريد النجار أن يصنع كرسيا فيطلب الخشب وما إليه، والدليل على أن هذا كله كان بفعل الإيحاء، أن من أعرف الآن من نفسى أنى صغوت بقلبى إليها لم تكن قط موضوعًا لشعرى، فإذا كنت قد نقلت قلبى مرات وطرت عن زهرة إلى زهرة فى بستان الحسن، فذاك لأن العاطفة لم تنشأ نشوءًا طبيعيًا، بل بإيحائها إلى النفس. وفى وسع القارئ أن يقيس على هذا. فأنا لم أكن فى شبابى أتلقى وقع الحياة مباشرة، بل عن طريق الكتب، وكنت لهذا كالذى نوّمه غيره تنويما مغنطيسيا، فرأيه، وشعوره، وعاطفته، وهواه، وأمله وخوفه، وحبه وبغضه، هو ما يحدثه فى نفسه إيحاء منِّومة. وقد شببت عن هذا الطوق. وما زال ولوعى بالكتب كما كان، ولكنه لم يبق لها شىء من ذلك السحر القديم، فقد استطعت بفضل معاناتى للحياة أن أقى نفسى وأجنبها تلك الفتنة، فأنا أنظر فى الكتب، وفى الحياة، بعينى، لا بعين الكاتب أو الشاعر، وأحس بقلبى لا بقلب سواى وأتلقى وقع الحياة منها لا من إيحاء الكتب، وأطلب الشىء لأنى أريده وأراه جديرًا بالطلب، وأقيس قدرتى إلى رغبتى، وأوازن جهد السعى وثمرته المرجوة وأقدم أو أحجم بعد القياس المضبوط، والموازنة الدقيقة. وأحاول أن لا أغالى بقيمة شيء، أو أن أبخسه حقه، ولا يستخفنى هوى، أو يغرنى حال، أو يخرجنى عن طورى أمر، أو يفقدنى اتزانى فرح أو حزن، ورضى أو غضب، ولا تجمح بى شهوة، ولا تركض بى صبوة، لأنى أصبحت أعرف القيم الحقيقة للأشياء، ولا أعدو بها مكانها. ولا أخلط بها الأوهام، ولأنى أسير فى الحياة بالإرادة الصارمة لا طوع الجواذب، فإذا سألتنى لماذا أفعل الشىء، فإنى أعرف الجواب الصحيح، إذ كنت لم أفعله إلا بعد الروية والحساب والوزن، وكذلك ما أترك أعرف علة تركه. ويمكن أن أقول — ويمكن أن يصدق القارئ: أنى كنت فى شبابى أواقع الحياة مواقعة الهواء، أما الآن، فإنى أواقعها مواقعة المحترف، وقد صارت الحياة عندى حرفة، تعلمتها، وحذفت منها الجانب الذى طلبته ورأيته أوفق لى، والفرق بين الهاوى والمحترف لا يحتاج إلى بيان. وكل عواطفى وأهواء نفسى، طوع إرادتى، وإرادتى لا تخضع إلا لتقديرى لما ينبغى — ويحق لى فى رأيى — أن أفوز به من الحياة. والعمد فى سيرتى محقق، إلى الحد الذى يتيسر للمخلوق الخاضع لسنن الخلق. وهذا العمد من بواعث السعادة لنفسى. لأنه يكسبنى حظًا من الاستقلال ويجعل لى فيما أشعر نصيبًا من الحرية فى الحياة، ولا شك أنه يجعل شعورى بالتبعات أقوى وأثقل، ولكن هذا هو الأكرم، إذ أى قيمة لإنسان لا يشعر أنه مسئول عما يصنع؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/92790962/
قصة حياة
إبراهيم عبد القادر المازني
لم تكن حياة إبراهيم عبد القادر المازني (هذا الأديب العملاق والناقد الفذ) منذ نعومة أظفاره إلى أن صار رجلًا بالحياة المرفهة. فقد ولد المازني في بيت فقير، ومات أبوه وهو بعد طفل، فقامت أمه وحدها على تربيته ورعايته، بما توفر لها من قليل المال، وضئيل المورد. وقد عانى المازني في تعليمه أيضًا، فبعد أن عقد العزم على أن يكون طبيبًا، ودخل مدرسة الطب، لم يتحمل قلب الأديب مشاهد التشريح والدم التي اعتاد عليها أهل الطب، فأغمي عليه. وانتقل بعدها إلى مدرسة الحقوق، التي عدل عنها فيما بعد إلى مدرسة المعلمين نظرًا لارتفاع مصاريفها. وما لبث المازني أن عمل بالتدريس فور تخرجه حتى تركه، واتجه إلى عالم الصحافة والأدب ليبدأ الطريق من هناك. وهناك فقط، سطر بقلمه ما سطر، وقدَّم لنا ما قدَّم، من بديع الكلام، شعرًا ونثرًا، أدبًا ونقدًا. وفي هذه السيرة يلج المازني بأسلوبه البليغ إلى عمق تفاصيل حياته بكافة نتوآتها منذ النشأة حتى الكبر.
https://www.hindawi.org/books/92790962/20/
الفصل العشرون
كانت حياة الشباب، حياة كبت، وحرمان وحيرة ولم أكن أعرف لى يومئذ مُعادًا غير الإكباب على القراءة والإكباب على قرض الشعر وكنت أقول — ولا يخفى علىّ عبث ما أحاول: وكنت أقول لمن يذكرون شعرى: وأحب أن أتعزى بالوهم فأردف ذلك بقولى: ولم يكن زعمى أنى أحد الذين ينصفون نفوس الناس من الأيام وظلمها، بعزاء صادق أو دائم، فكانت وطأة الحرمان والكبت تثقل على كاهل صبرى فأصيح: فيوم كان فيض الحياة زاخرا، كنت أقول يا ليتنى ما كنت، ولم يكن هذا طبيعيا، ولكنه كان ثمرة الكبت، وجنى الحرمان، وقطاف الحيرة، والآن، وأنا أدلف إلى الخمسين، لشد ما أتمنى أن يثقل الزمان رجله، ليطول التلبث، وتقضى النفس وطرها من التزود قبل أن يستأنف الركب مسيره إلى «فجر لا شىء» كما يقول الخيام فى إحدى رباعياته. وقد صار ما كان يشق على أن أراه، باعثا على التسلية ومجلبة للسرور، ولم يصدق ظنى حين توهمت فى أيام الشباب الكاذب، أنى سأقضى حياتى ثائر النفس، هائجا، أنه ليس لى عن ذاك معدى أو مهرب فقد قلت: كما قلت على لسان غيرى. بل لم أسكن، ولكنى نظرت إلى الحياة من ناحية أخرى، فقد تغيرت الدنيا، واختلفت أحوال الحياة، فراجعت نفسى، ورضتها على غير ما ألفت وانعطفت بها إلى سبل أخرى. فقد عرفت أن شعورى القديم بالمقت للحياة كان غير صادق، وأنه لم يكن سوي مظهر لحالة عارضة أعانيها، وأن حب الحياة والتعلق بها أعمق من ذلك، لكن حب الحياة كان يصطدم أحيانا بالجزع من الموت، فكان يرجّني هذا ويخرجنى عن طورى، ويعصف باتّزانى فأرانى أثور وأحاول فى مثل هذه الحالة الوقتية أن أنغّص على الناس كأنّ لهم ذنبا، أو كأنهم ليسوا مثلى سواء بسواء، فأروح أقلد «هينى» الشاعر الألمانى، وأكتب وصية ليس أكشف منها عن جنون الثورة، أقول مثلا: ولم يكن لى فى ذلك الحين بنون ومن أجل هذا فاتنى أن أوصي لهذه الطبقة بشىء من تلك الثروة البغيضة! وكان عقلى يثوب، فأطوى هذا الهراء، ولا أنشره فيما كنت أنشر من شعرى.. على أنى كنت هادئا ساكنا، لما عثرت — وأنا أحاول عبثًا أن أتعلم الألمانية وحدى — على بيتين فيهما غير قليل من خبث المكايدة ففرحت بهما وترجمتهما فيما يلى — والمفروض أنهما يكتبان على قبر صاحبهما: وترجمتى هذين البيتين، وأنا هادئ، دليل على أن الثورة كامنة في النفس وإن كانت لا تبدو في العادة. ثم صرت لا يعزينى علمى أن غيرى لا محالة ذاهب، إلى حيث أذهب وإن المآل واحد، ولا يقنعنى إلا أن أصور لنفسي فَناء العالم كله، بل العوالم أجمع، حتى هذا لم يكن فيه مقنع، فكنت أشتهى أن أكون آخر من في الدنيا لأشهد مصرعها بعينى، وأطمئن. وربما غالطت نفسى فزعمت لها أن هذه شهوة فنية، ولكنى لا أصدق! كلا، لا أصدق. وكان مظهر هذا قصيدة تصورت فيها ثلاثة نساجين (ولا أدرى لماذا لم أجعلهم أربعة أو عشرين!) يصنعون كفنًا للعالم. وقد خلفت ورائى هذه المرحلة أيضا، فلست ألتمس عزاء، أو أنشد ما أغالط به نفسى فى الحقائق. وسيان عندى اليوم أن يذهب الناس أو لا يذهبون، فما أحفل شيئًا من هذا، وإنه لآثر عندى أن يبقوا — لو كان إلى هذا سبيل — على أنى لا أعنىّ نفسى بأمرهم، وحسبى أمر نفسى، وهمى في هذه الآونة أن أروضها رياضة جديدة على سكون لا يفسده اضطراب، لا على الركود فإن هذا شر من الموت؟ بل طعمه يذاق في الحياة، والسكون قوة لأنه ابن الإدراك الصحيح والإرادة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/0.1/
كلمة
هذه الرسالة الوجيزة التي ستقرأ أُلقيَتْ محاضرةً في جمعية الشابات المسيحية في منتصف شهر مايو سنة ١٩٢٤م ونُشرت تباعًا في «المقتطف». تُوفيت وردة اليازجي في مطلع تلك السنة بمدينة الإسكندرية. والأستاذ سليم سركيس صاحب الأسلوب اللبق الخاص في التمهيد لبعض الموضوعات والتنبيه إلى ما يحب من الأغراض، نشر يومًا في مجلته خطابًا منه إلى وردة اليازجي في السماء، وأخبرها في الختام أني عاكفة على درس آثارها على الطريقة التي درستُ بها «باحثة البادية» من قبل. فوقعت كلمته مني موقع الحضِّ والاستحثاث. وأردت أن أقوم بالواجب نحو اليازجية، مع علمي بصعوبة الكتابة عنها؛ لتشابه المعاني التي تركتها في الشعر والنثر وخلو آثارها مما قد كان يرسم صورة من طبيعتها وميولها الصميمة. وإذ تلقيت دعوة الجمعية لإلقاء محاضرة مع الحرية في اختيار الموضوع، كان خيال الست وردة يطوف في خاطري، وديوانها بين يديَّ أقلبُ صفحاته وأستخرج عصيره. ولا يسعني هنا إلا أن ألمِّح ولو بإشارة طفيفة إلى تقديري لجهود العاملات من اللاتي سبقن جيلنا، ففتحن لنا الطريق. أقول: «فتحن الطريق» مع أنهنَّ وضعن عند عتبة المجاهل علامةً ليس غير. على أن لتلك العلامة قيمتها وفائدتها، لا سيما إذا ما ذكرنا الوقت الذي وُضعت فيه. فبقي علينا نحن أن نستكشف طبيعة المرأة الشرقية لنسجلها في الوجود، ونسعى بعدئذٍ لإنمائها وصقلها فنبرزها كما هي في جوهرها تحفةً وينبوعًا وذخيرةً. إنَّ خير ما تركته شاعرتنا أبيات النوح والرثاء. وهي لم تكن تدري أنها ستنشئ بعد وفاتها «قصيدة» من أنفع قصائدها. ألا وهي أن تُباع هذه المحاضرة التي أوحاها اسمها في سبيل إعانة المنكوبين ببلادها. ألا فلتُرفرفْ هذه الفكرة على مضجعها الأخير رفرفة رقيق النسمات وحبيب الذكريات!
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/0.2/
وردة اليازجي
أيتها السيدات والأوانس! أكادُ أشعر بأني معبِّرة عن رأي كلٍّ منكنَّ بتحبيذ هذه الاجتماعات النسوية والتنويه بالفائدة منها والنتيجة؛ لأنَّ المرء كثيرًا ما يتجرَّدُ من شخصيته الصميمة أمام من يختلف عنه بطبيعته وأحوالهِ، وذلك ليهتمَّ بأمور غريبة عنه وقد لا تروقهُ دائمًا. وفي هذا التجرُّد من الشخصية لاستيعاب ما هو غريب عنَّا غيرية ممدوحة توسِّعُ النفس وتهيِّئها للإلمام بجزءٍ أكبر من الحياة. ولكنَّ من طبيعة الإنسان — فردًا كان، أم مجموعًا، أم جنسًا — أن يرجع إلى نفسه حينًا بعد حين. فيتعهَّدها بالسكوت والتأمُّل، أو يتحدَّث عنها بأسلوب من الأساليب، أو هو يصغي إلى المتحدِّثين عن نفوسهم أو عن نفوس الآخرين بما في وجدانه من الخوالج الواضحة أو المبهمة. ولمَّا كنا في مثل هذا الاجتماع عاكفات على شئوننا النسوية دون رقيب أو محاسب، تيسَّر لنفوسنا أن تصفو من الشوائب، فتستسلم لما يجوز أن نسميه «مغناطيس الخير». وما هو إلَّا ذلك الفيض الذي يغمر كلَّ جمهورٍ التأمَ لغرضٍ نبيل. فيدفق في كلِّ قلب وينعش منه القوى، ويحمله على تقدير ممكناتهِ وتقدير الحياة. فيعود القلب جذلًا كأنهُ وجد نفسه فهزَّته عواملُ العطفِ والصلاح والنشاط وحبِّ السعي لغاية نافعة. وإني لشاكرة لهذه الجمعية الكريمة دعوتها. ولكنتُ أشكرها الشكر ذاته لو هي دعتني أصغي إلى إحداكنَّ بدلًا من التحدُّث إليكنَّ. فإن كل امرأة مخلصة يسمعُ الشرقُ صوتها في هذه الأيام إنما تترجم عن بعض ما يخامر جميع الشرقيات. ويزيد في سروري أن يضمَّ هذا الاجتماع طائفتين من الطوائف التي تعلِّق عليها البلاد أعزَّ آمالها؛ أعني طائفة المعلمات وطائفة المتعلِّمات. تساءل يومًا لورد بايرن الذي احتُفل أخيرًا بيوبيله المئوي: «ما هو الشعر؟» ثم أجاب: «هو الشعور بعالمٍ مضى وعالمٍ مقبل.» وهذه الكلمة من خير ما يُعرَّف بهِ طور التربية والتعليم. أي إن المنحنى على النفوس الفتية يعالج إنماءَها وصقلها لا بدَّ له أن يسبر غور الماضي ليكون على بصيرة مما يمكنه أن يعدَّ للمستقبل من الشخصيات الصالحة. هي هذه الفكرة — وقد علمتُ أن هذا الاجتماع سيضم الناظرات والمعلمات والطالبات من مدارس الحكومة — التي ساقتني إلى الكلام عن وردة اليازجي، وهي من أشهر النساء اللائي عرفهنَّ تاريخ الآداب العربية ومن أذكاهنَّ وأفضلهنَّ.
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/1/
لمحة في حياتها
يُخيَّلُ إليَّ أن آلهة اليقظة والنشاط شاءت أن تتفقَّد الشرق حوالي منتصف القرن الماضي، فنشأت فئة من فُضليات النساء على مقربة من الرجال الذين قُدِّر لهم أن يكونوا عاملين في صرح الشرق الجديد. فوُلدت عائشة عصمت تيمور في مصر سنة ١٨٤٠م، ووُلدت في تلك الأعوام بسوريا وردة الترك، ووردة كبا، ولبيبة صدقة وغيرُهنَّ. ووُلدت زينب فواز صاحبة «الرسائل الزينبيَّة» و«الدُّر المنثور»، في صيدا سنة ١٨٦٠م. ووُلدت في العام نفسهِ فاطمة عليَّة ابنة المؤرخ التركي جودت باشا. وهي رغم كونها كتبت بالتركية فإن لها الحقَّ أن تُذكر بين أديبات العرب؛ لأنها عرفت لغتهنَّ، وانتشر صيتها في أقطارهن، وعاشت طويلًا في بلادهن التي جاءتها طفلةً في عامها الثالث يوم تولَّى والدها ولاية حلب بعد أن كان وزيرًا للمالية في الدولة العثمانية. ويوم أن وُلدت زينب فواز وفاطمة عليَّة، أي سنة ١٨٦٠م، كانت وردة اليازجي في الثانية والعشرين من عمرها. لأنها وُلدت سنة ١٨٣٨م، هي ومريانا مرَّاش الشاعرة الحلبيَّة في عام واحد. تذكُرنَ، أيتها السيدات، أن ذوي المواهب البارزة ينقسمون إلى فريقين أوَّلين، ينقسم كل منهما بعدئذٍ إلى أجزاء صغيرة شتَّى؛ وهما أولًا: الفريق الذي يشذ عن محيطهِ ويسبق جيلهُ بإدراكهِ وفطنتهِ وابتكارهِ. وثانيًا: الفريق الذي هو ابن محيطهِ وابن يومهِ، تتلخص عندهُ مدركات جماعتهِ وعواطفها فيحدثهم عنها بلهجةٍ بليغة قريبة المنال. والفريق الأول يكثُر مناهضوه في الغالب فيظل منفيًّا في قومهِ، غريبًا في جماعتهِ. إنْ هم أنالوه مرَّةً ما لا يضنُّون بهِ وبأكثر منه على من هو دونهُ، فإنهم يكفِّرون عن ذلك بتعذيبهِ بعدئذٍ ووضع العراقيل في سبيله ما استطاعوا. ولا ينفك الحسد والعجز يهاجمانهِ بالدسائس والوشايات والتحريف والانتقاص، غير مغتفرين له ما تفرَّد بهِ. قلائل هم أبناء هذا الفريق. ولكنهم رسل الإلهام. بل هم المستقبل الذي يحيا في الحاضر، ومنهم تنبثق الأفكار الكبيرة والآراء النيِّرة، وأياديهم هي التي تنثر أنفس البذور، وأصواتهم هي التي ترسل أجرأ الصيحات. فلا يُثمر جهادهم إلَّا بعد وفاتهم؛ يوم يشبُّ النشء الجديد متوقدًا يقظًا فيتلقف مبادئهم ويحققها شيئًا فشيئًا. وإني لأضرب لكُنَّ مثلًا بواحدٍ من هؤلاء؛ وهو قاسم أمين الذي اضطُهد في سبيل دعوتهِ إلى الإصلاح الاجتماعي. وتولَّى ربعُ قرن تقريبًا، فإذا بآراء قاسم أحيا اليوم منها في حياتهِ. لقد أنضجها الدهر على مهل. فتناولتها بمعانيها الأصلية القويمة فئة من صفوة رجال الأمة ونسائها. أما الفريق الآخر فيتكلم بلغة أبناء جيلهِ، ويعبر عن حاجتهم، ويشعر بما بهِ يشعرون. فيكونون أقرب إلى فهمهِ وأبعد عن مناهضتهِ؛ لأنه ثمرة هذا الوسط؛ نشأ على ما كان ينبغي أن ينشأ، وأظهر من شخصيتهِ مثالًا كريمًا وجاء بأحسن ما يُنتظر منهُ. وكأنَّ أهل هذا الفريق هم الذين يغذُّون الجمهور بما يناسبه لينمو، ويقودونه خطوةً خُطوةً نحو مستقبل يصير عنده أهلًا ليدرك ما يريده أهل الفريق الأوَّل؛ جماعة الشاذين والخياليين والنَّظريين كما يسميهم «العمليُّون»! من أهل الفريق الثاني كانت وردة اليازجي. نشأت في أسرة يقوم على رأسها ذلك الأستاذ الكبير والدها الشيخ ناصيف الذي كان في طليعة العاملين لإيقاظ الشرق الأدنى من غفوتهِ. وقد اقتفى أثره في الفضل والده العالم اللغوي الشيخ إبراهيم، والأديب الشاعر الشيخ خليل اليازجيان، فكانت هي باستعدادها الأدبي وتوقُّد جنانها جديرةً بأن تكون ابنة هذا الوسط بالمعرفة والاجتهاد كما هي ابنته بالدم والقُربى. فقرضت الشعر في الثالثة عشرة من عمرها، وتعاطت التدريس مدةً في إحدى المدارس الأهلية. وكانت في بيت والديها تساعد على الاعتناء بتربية أخواتها وإخوتها الاثني عشر وهي رابعتهم. وظلت بعد زواجها ابنة وسطها وابنة يومها؛ شرقية تلبس الطربوش، وتأتزر عند الخروج من البيت، وتشرب القهوة التركية على وقع نقير الماء المعطر في قلب الشيشة الفارسيَّة، وتنتسب لأسرة أبيها على الطريقة العربية. ولا علم لنا بتاريخ حياتها الفردية، وهل هي كانت بها سعيدة أم غير سعيدة. ولا أثر لتلك الحياة الخاصَّة في شعرها الذي لا يرسم إلَّا الخطوط الظاهرة، ولا يتكلَّم إلا عن الحوادث المألوفة من زواج وولادة وموت. وإذ أستجوبُ صورةً لها من صنع شقيقها الشيخ إبراهيم وهي في سن الخمسين — أشعر بوضوحِ أنها كانت في طبيعتها أغنى منها في شعرها. وكان زوجها من أهل العلم كذلك؛ فظلت تنظم بعد الزواج، واستخرجت من منظوماتها ديوان «حديقة الورد» الذي طُبع أوَّل مرَّة في بيروت سنة ١٨٦٧م؛ أي بعد زواجها بعام واحد. وأُعيد طبعه بعد عشرين سنة. ثم طُبع مرة ثالثة سنة ١٩١٤م في مطبعة هندية بمصر. وكانت تضيف إلى كل طبعة جديدة خير ما نظمته في تلك الفترة، حتى استقرت الطبعة الثالثة على نحو مائة صفحة من القطع الكبير. وهي هذا الكتاب الذي ترين، أيتها السيدات. وكانت الشاعرة قد انتقلت بعد وفاة زوجها سنة ١٨٩٩م إلى الإسكندرية فصرفت فيها بقية حياتها مع ولدها الدكتور سليم شمعون، من خيرة أطباء الثغر. ولها ابنة تُدعى لبِيبَة يظهر أنها نشرت بعض آرائها في الصحف، ولكني لم أطَّلع على شيءٍ من تلك الكتابات. وتُوفيت الشاعرة في أوائل هذه السنة وهي في مطلع عامها السابع والثمانين. فذوى بها الغصن الأخير من الدوحة اليازجية الأثيلة.
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/2/
ديوان حديقة الورد
يقول السيد جورج باز، نسيب الشاعرة، مناصر المرأة في سوريا، ومن أخلص مناصريها في العالم: إن «حديقة الورد» هو الديوان الوحيد الذي طُبع ثلاث مرَّات لشاعر معاصر. وعلى كلٍّ فهو الأثر الوحيد الباقي من آداب وردة اليازجي، ولا شك أنها اقتبست اسمه من اسمها. كما يلوح أن اسم الورد المتواتر في كتابات الشعراء كان يذكُره بلذةٍ أدباءُ عائلتها، ولو أنهم عُنوا بهِ رمزًا غريبًا، كأنه صار يخصُّهم أكثر من غيرهم لاتصال شاعرتهم بهِ. ففي ديوان أخيها خليل المدعو «نسمات الأوراق» أبيات شجية عن الورد. هذا مثال منها: ••• كذلك نتخيل أن ابن شقيقتها الشيخ نجيب الحداد متشبع من ذكرها عندما يترنم بذكر الورد في ديوان «تذكار الصبا» حيث يقول فيما يقول: ••• وقال شقيقها الشيخ إبراهيم في تقريظ ديوانها: وهذه كما يظهر أبيات تقريظ للإرضاء لا للتعبير عن رأي في المجموعة. ولقد دُعيت الوردةُ ملكةَ الزهور منذ أقدم العصور، وتغنَّى بمدحها شعراءُ جميع الأمم؛ فزعم الإغريق في أساطيرهم أنها نشأت من قطرة من دم أدونيس حبيب الزهرة. أو من قطرة كوثر تناثرت من يد الآلهة يوم ولادة هذه الزهرة، ربَّة الجمال. وحسبها آخرون منوَّرة من ابتسامة إله الحب، أو متساقطة من رأس إلهة الفجر عند تسريح شعرها في الضحى. ومهما كثرت الرموز فالوردة ما زالت كما كانت دوامًا زهرة الأحزان كما هي زهرة الأفراح. ترمز إلى الشباب والجمال والحبِّ، كما تُستعمل في الزينة والأرواح العطرية والأدواء الطبية. وتتناسق منها الأكاليل؛ أكاليل الوداع، على قبور الأحباب ونعوش الراحلين، كما نراها جميعةً ومُفرَّقة في حفلات الأُنس واللهو والطرب. وذلك شأنها عند وردة اليازجي. ففي حديقتها ورود باهتة في اللطف والمجاملة، وأخرى حمراء قانية في المودَّة والشوق، والقسم الطامي هو ورود قاتمة؛ ورود الفراق والحداد، ورود الرثاء والنحيب المبللة بدموع العين، المضمخة بزفرات القلوب.
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/3/
شعرها
كل ما نظمته ينقسم إلى قسمين: المدح والرثاء. ففي باب المدح يدخل شعر التقريظ والترحيب والتراسل مع أدباء العصر وأديباتهِ. فهي تستهلُّ حديقتها بأبيات ردَّت بها على الشاعرة وردة ابنة نقولا الترك الشاعر. والشطر الأول من المطلع سار في الآداب السورية مسير الأمثال وصار نعتًا للسيدة وردة. وهو: وقالت تجيب شاعرة أخرى، وردة كبَّا (ويظهر أن الشعر في ذلك العصر كان محظوظًا «بالوردات»): ولئلَّا تؤاخذ بامتداح نفسها عن طريق غيرها فقد استدركت في الختام بقولها: هذا أسلوب من التواضع في الشعر العربي، ونجده كما نجد معاني المدح ذاتها مكرَّرة تقريبًا في كلِّ قصيدةٍ وجهتها إلى مراسليها ومراسلي والدها من مصريين وعراقيين وسوريين. فقد ردَّت على عالِمٍ من أصدقاء والدها بقولها: وتهدي إلى أمين بك سيد أحمد في الإسكندرية نسخة من ديوانها فتقول: وجوابًا على رسالة أخرى من أديب مصري: وقالت مرحِّبة بالأميرة تاج الشهابية وقد جاءت «رأس بيروت»: ورحلت تلك السيدة إلى مكان يقال له «الوادي»، فقالت الشاعرة: وأصْغِينَ جيدًا إلى هذا البيت: وحيت البرنسِسْ نازلي المصرية يوم زارت لبنان كما حيت الأميرة نايلة شقيقة السلطان عبد الحميد، ومما قالته في الترحيب بها: ومنها هذا البيت الذي أودُّ أن أوجِّهَه إلى كل فاضلةٍ من أخواتنا المحجوبات: وجوابًا لعيسى أفندي إسكندر المعلوف المؤرِّخ والعضو في المجمع العلمي بدمشق: ••• وقالت مقرِّظة تاريخ الصحافة العربية للفيكونت فيليب طرازي، وقال لي حضرته: إن هذه الأبيات آخر ما نظمتْ: وقالت حينما انتُخب دولتلو سليمان أفندي البستاني مبعوثًا عن بيروت: ومن أهمِّ هذه المجاملات ما راسلت بهِ الشاعرة المصرية عائشة عصمت تيمور، التي أثنت عليها في مقدمة ديوانها «حلية الطراز» ثم أهدت إليها نسخة منهُ. فعقب ذلك مساجلة لطيفة في الشعر والنثر؛ حيث تبارت كل من الشاعرتين في مدح صاحبتها وتنضيد القول. وقد أثبتت هذه المراسلة زينب فواز في «الدر المنثور». أما في «حديقة الورد» فلا نجد إلا قصائد اليازجية إلى التيمورية. ومنها شكر على الهدية: وردًّا على رسالة: ••• ثم تشكر على ما في الرسالة من ثناءٍ شعريٍّ: وفي قصيدة أخرى على كتاب «نتائج الأحوال»: ••• ولا ندري ما إذا اجتمعت الشاعرتان بعد هذه المراسلة يوم جاءت وردة اليازجي مصر سنة ١٨٩٩م قبل وفاة عائشة تيمور بثلاثة أعوام. ففي أبيات الحنين إلى مصر لهجة صادقة، رغم أن موضوع الأبيات من الموضوعات التي تتطلب المجاملة لا سيما في ذلك العصر؛ حيث لم يكن الصدق غرض الشاعر، وكان يندر من الكتَّاب الذي يُعنى بأمانة التفكير والتعبير. أقول: «في ذلك العصر»؛ مع تمام العلم بأن أكثر ما يتهاداه الأدباء والشعراء في أيامنا من هذا النوع وإن صار بعضهم أحرص على كرامة آرائهم وإحساساتهم. قالت اليازجية للتيمورية: إلا أني أشك في أن التيمورية وحدها هاجت عند «وردة العرب» ما هاج حبُّ بثينة بجميلِ. وأرجح أنها ككلِّ قلبٍ حسَّاس تعلمت ذلك القول في احتياجها إليه، لأن الحبَّ لغة طبيعية لا بدَّ أن تستوفي حقَّها من الوجود بصورةٍ من الصور. وقد كتبت في المودَّة والشوق أبياتًا قلائل إلَّا أنها تستمد من عاطفة تملأُ القلب رغم التقيُّد في التعبير عنها بالمعاني والاستعارات المألوفة. ففي معارضتها لقصيدة ابن زُريق البغدادي حيث تجد ما لا مندوحة عنه من جريان «الأدمع كغوادي السحب» و«ذوب الأضلع من الأشواق»، إذا بنا نعثر على هذا البيت البسيط الصادق حيث نعلم أن القلب المحبَّ: ليس هذا البيت من أجمل أبيات وردة اليازجي، ولكنه من أصدقها. وهي وإن أخطرتنا في العنوان أن الأبيات قيلت في «صديقة» فنحن ندرك أن منها ما هو موجَّه إلى «صديق». وإنما أخفيت وراء برقع التأنيث في العنوان مجاراةً لحُكم المجتمع الذي كان يقضي على المرأة بكتمان عواطفها، حتى في الشعر. أيمكن أن يكون هذا الخطاب «لصديقة»: ••• أما كيفية سير القلب في إثر «الغائب» وإقامة الشوق في ذلك القلب باسم «الفؤاد» «كالجبل»؛ أي كيف يذهب القلب ويبقى في آنٍ واحدٍ وفي بيتٍ واحدٍ، فمن الأمور التي لا يعرِفُ أسرارَها إلا الشعراءُ والعاشقون. وفي رسالة فراق أخرى: ومثلها: ••• ••• وأخرى: ••• وإليكنَّ نشيد الابتهاج بالعودة بعد البعاد: ••• ••• وجميع هذه المعاني على سذاجتها هي أول ما يخطر للمحبِّ شاعرًا كان أم فيلسوفًا أم فلاحًا أمِّيًّا يعمل في الغيطان؛ لأن عاطفة الحبِّ التي تنشر آفاقًا فيحاء لامعة تترقرق فيها عجائب الوجود، تحوِّل في الوقت نفسهِ الحياة إلى أبسطها بتحويلها مجموع الإنسانية وحصرها في شخص واحد، وعاطفة واحدة، وأملٍ واحد. ولكن مرَّ على «وردة العرب» طور الصِّبا والكهولة، واستقرَّت العواطف بحكم الأيام وبحكم الأحزان. وسكنت الإسكندرية على مقربة من ولدها فإذا بتذكارات الشباب تعاودها منغِّمة في قلبها أنغام الإيقاع والموسيقى الشعرية، فقالت في التذكار والشوق إلى لبنان: ••• ••• هنا ننتقل إلى الورود القاتمة، ورود الموت والتأبين المنثورة على القبور. قصائد الرثاء هي النصف الأكبر من هذا الديوان. وجرت الشاعرة في هذه القصائد على عادة عصرها في تأبين العظماء والعلماء والأصدقاء، وفي وضع تواريخ للوفيات وللأضرحة. فتبدأ هذه المراثي عادةً بالحِكَم الشائعة في فلسفة الموت والعجز عن مصارعتهِ، وفي أنه لا يرحم أحدًا. كقولها في رثاء مارون النقاش: وفي رثاء الأمير أمين رسلان اللبناني: ••• وفي رثاء السيدة كاتبة بسترس: وهذا البيت الجميل في بساطته ومتانته: والغريب أنها تجد سبيلًا إلى تفسير الموت على ذلك النحو من «الحكمة» عند وفاة طفل لها تقول إنه كان في غاية الذكاء: وبعد عشرة أسطر بهذه اللهجة تخاطب الطفل قائلة: وليس هذا الطفل بالعزيز الوحيد الذي خلَّف لها الحسرة، بل تُعَدُّ وردة اليازجي بحقّ شاعرة الرثاءِ والتأبين فهي رَثَتْ إخوتها الستة وأختًا، ورَثت والدها وزوجها وولدين لها وبنتًا. فتقول في رثاءِ أخيها حبيب الذي يظهر أنه كان شاعرًا أيضًا: ••• أما فارس الذي تذكره فهو أخٌ لها توفي قبل حبيب. وفي رثاء أخيها نصَّار وقد توفي بمدينة زحلة: ••• وهذا المعنى الأخير كررته في مرثاة أختها راحيل: ••• وفي رثاء والدها: ••• ••• ••• وفي رثاء أخيها خليل الشاعر: ••• وهكذا نراها تهتدي شيئًا فشيئًا إلى التعبير البليغ المجرَّد من التعمُّل؛ لأن الشعور بالحزن لا يترك مجالًا للتطويل، فتقول في رثاء زوجها: كلُّ هذا كلامٌ صادق مملوء بالعبرات؛ عبرات مَن رثت كثيرًا من رجالها، وما زال القدر العنيف يرغمها على رثاء البقية الباقية. على أن أجمل مراثيها وأمتنها نظمًا وأشبعها عاطفة — ولو أن المعاني منها غير جديدة لنا — قيلت في ولدها أمين شمعون، وفي أخيها الشيخ إبراهيم. تتجرَّد في مرثاة ولدها أمين شمعون من الخواطر التي ليست هي حزنها مباشرة. فلا تأمُّل هناك، ولا فلسفة، ولا دروس في حكمة الموت. بل تساؤل كيف تحتمل الحياة وقلبها مع ولدها دفين: ••• ويمضي قلب الأمِّ في تصوُّر أوصاف الولد التي تجعله في عينها فريدًا بين الورى: ••• أيتها السيدات والأوانس! أراكنَّ تبكين، وعزيزٌ عليَّ أن أكون سببًا في حملكنَّ على البكاء؛ لذلك سأقصر عن تلاوة شيء من مرثاتها لأخيها الأخير. الآنسة ميليا بدر وكيلة مدرسة الأمريكان للبنات تقف وتقول: هو الإلقاء الذي يبكينا. ولكن لا تحذفي من المحاضرة شيئًا! – رغم البكاء، ورغم هذه المناديل المنشورة في أيدي أخواتنا؟ – نعم رغم البكاء! أصوات: لا بأس من قليل من الحزن والبكاء. – حسنٌ يا سيداتي، وقد صدقتنَّ. لا بأس من البكاء على آلام الغير. ولابد في الشعر من الحزن والدموع؛ فقد قال إدجر آلن بو بعد كثيرين غيره: «إن العبقرية الشعرية حزينة في جوهرها، وإن الطبائع التي تدرك ذلك وتحبه تقرب من تلك العبقرية عند التعاطف في الشجو والكآبة.» قلتُ إذن: إن شقيقها الشيخ إبراهيم كان آخر الباقين من إخوتها، فرثته من قلب متقطع لم يبقَ فيه صبر ومقدرة على الاحتمال، قلب يعرف أنه فقد أخًا تجددت بفقدهِ اللوعةُ على جميع الذين سبقوهُ، ويعرف كذلك أن الذي فقده صاحب شهرة ذائعة فلا تنسَ الأخت في الحزن سبب افتخارها: ••• ••• ثم تنسى هذا إذ تتجسَّم أحزانها في شهيق واحد: تُوفِّيَ الشيخ إبراهيم في مصر، ثم نُقلت رفاته إلى بيروت سنة ١٩١٣م، فرافقتها الشاعرة الحزينة. وهناك على ضريح العائلة تُليت منها أبيات، هذه بعضها: ••• ••• وفي حفلةٍ أقيمت لتأبينهِ في بيروت قالت في قصيدة شكر للمؤبِّنين: واشترك السوريون في البرازيل في إقامة تمثال للشيخ إبراهيم؛ فأرسلت قصيدة إلى شكري أفندي الخوري صاحب جريدة «أبي الهول» وصاحب الاقتراح. ومن تلك القصيدة: ••• ••• لا تصدُق على هذه الشاعرة تهمة ألحقوها بالنساء؛ وهي أن الرجال يكتبون لهنَّ، بل كانت هي صاحبة أشعارها؛ وأكبر شاهد على ذلك — كما قال لي دولتلو سليمان أفندي البستاني — أنهم كانوا بديًّا يزعمون أن والدها وأخويها حبيب وخليل ينظمون لها. فماتوا فرثتهم. فقال الناس: ولكن الشيخ إبراهيم حيٌّ، فهو ناظم المراثي باسمها. فتوفي الشيخ إبراهيم فرثتهُ بأبياتٍ هي من خير شعرها في الصدق والأمانة. وعلى ذكر الشيخ إبراهيم أقول: إنهم سيحتفون قريبًا بنصب تمثالهِ في إحدى ساحات بيروت العمومية. على أن شاعرة آل اليازجي لن تحضر ذلك الاحتفال، ولن ترسل فيه دمعة وزفرة … إن جسدها يرقد تحت ثرى مدينة الإسكندر حيث تثوي على هدير البحر الذي ما فتئ مهمهمًا في مسامع الأحياءِ والأموات …
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/4/
نثرها
يقول جورج أفندي باز: إنها نشرت بعض المقالات في الصحف والمجلَّات. وأكبر الظنِّ أنها جُمعت كلها في «حديقة الورد»؛ حيث نجد تقريظ مجلَّة الفردوس وفتاة الشرق وغير ذلك، فضلًا عن مراسلتها لعائشة تيمور. على أن ليس في تلك السطور غير المجاملة والثناء. والرسالة التي عبَّرت فيها عن رأيٍ اجتماعيٍّ نُشرت في «الضياء» قبل أن تُجمع في «حديقة الورد». ونهتم بهذا الرأي بعد أعوام؛ لأنه يعالج مشكلًا من مشاكل وقتنا. ومعلوم أن المشاكل الاجتماعية وغير الاجتماعية لا تُحلُّ في يوم وليلة. بل تقتضي مرور الزمن لتتناولها الأقلام بالتمحيص. ثم يأتي المران بنبذ ما يَحسن نبذه، واستبقاء ما هو في مصلحة المجتمع؛ فهي تنتقد المرأة الشرقية لتفرنجها حتى صارت تخجل باستعمال لغتها والسير على عادات وسطها وتهزأ بقومها لتفاخر بأنها أجنبية؛ ظنًّا منها أن كل الارتقاء في اقتباس قشور المدنية وظواهرها في الأزياء والأساليب وتلك الفوضى في السلوك التي تسميها خطأ باسم الحرية. في حين — تقول السيدة وردة — كان على المرأة الشرقية أن تنظر إلى أختها الغربية من الوجه الآخر؛ فترى اهتمامها بالأمور الجدية، وبراعتها في العلوم والفنون وسائر دوائر النشاط الإنساني، وكيف أن المرأة الغربية — رغم تأنقها — تقوم بواجبها نحو الأسرة والمجتمع واللغة والوطن. وتستحثُّ اليازجيَّةُ بنات الشرق للرجوع عن ضلالهنَّ وإكبار اللغة العربية — وإن هنَّ تعلمن اللغات الأخرى وأحببنها — وذلك تشبُّثًا بعاطفة الوطنية ورغبة في النفع القوميِّ. ولتجعل نداءَها أبقى أثرًا تعمد إلى ذكر بعض شهيرات العرب من كواتب وشواعر، وتضرب بهنَّ المثل لتستفز همَّة بنات العصر وتدفعهنَّ إلى العناية بصالح الأمة. وهذا النداء الذي سمعنا مثلَه ولكن بلهجة أخرى من عائشة تيمور، وبعدئذٍ من باحثة البادية، نصغي إليه اليوم باحترام وشكر وافتخار. نصغي إليه باحترام؛ لأنه صوت الإخلاص، صوت الغيرة والحماسة، ولأنه جليل نبيل. ونصغي إليه بشكر؛ لأننا إن نحن سرنا اليوم خطوةً في طريقنا على بصيرة فبفضل هؤلاء الذين تقدَّمونا وتركوا لنا صيحاتهم المباركة يتردد بيننا صداها المتزايد بانضمام أصواتنا إلى أصواتهم. ونسمع هذا الهتاف بافتخار؛ لأن نداء الموتى لم يذهب ضياعًا، بل نهضت المرأة في مصر، في سوريا، في جميع أنحاء الشرق العربي بمقدار ما يسَّرَ لها الوسط والأحوال. نهضت تتطلَّع إلى الحرية النبيلة وتتعرَّف حدودها، وتعزز قوميتها ووطنها ولغتها. نسمع هذا الهتاف بافتخار؛ لأن نفوسنا اتسعت وعمقت فصارت ترى للأدب والشعر دورًا ساميًا جليلًا. مضى وقت التقريظ والمدح والثناء وتنميق الألفاظ. وتناول الأدب جميع مظاهر الحياة القومية في الأخلاق والتهذيب والفنِّ والاجتماع والسياسة، وترويج الدعوة الوطنية للنهوض بالنفوس إلى آفاق العلوِّ والنخوة والشمم والاستقامة. نفهم الأدب اليوم كما يجب أن يفهمهُ العائشون في هذا العصر، إنه لحافل بعجائب العلم والاكتشاف والاختراع، هذا العصر الذي سخَّر فيهِ الإنسان العناصر لخدمتهِ وحاجتهِ. العجائب أصبحت مألوفة لدينا. فأيُّ عجيبة في التليفون، والتلغراف اللاسلكي، والكهربائية، وفي قاطرات الحديد، والسفن والبواخر والطيارات، وأشعة رنتجن التي تنفُذ إلى داخل الجسم فترى منه الخبايا والتفاصيل كمن ينظر إلى سطحهِ! وأي عجيبة في عديد الاكتشافات في الرياضيات والكيماويات، في قياس الأشعة، في تحديد دورة الكواكب، في التخاطب بين القارات، في معجزات الطب والجراحة والهندسة! إن عجائب العلم لا تُحصى، وهي في خدمتنا في كل شأن من شئوننا، في حياتنا الفردية والمنزلية، في يقظتنا القومية، في مناهضة المراتب وثورات الأمم. نحن نعرف أن نُعجب بما تركه الذين تقدَّمونا، ولكن في تحدِّيهم التقهقر لا التقدُّم. هم قالوا كلمتهم الموافقة لعصرهم. فعلينا أن نقول الكلمة التي توافق عصرنا. وردة اليازجي ترى كل المنفعة من علم المرأة في تربية البنين، ونحن نوافقها على ذلك. وسيوافقها كل جيل حصيف في كل عصر، على أن هذا ألزم واجبات المرأة. وأن أكبر فخرها أن تكون مليكة المنزل وعبدتهُ، وتعزية الرجل، والبطلة الكبيرة في سكوتها وانزوائها، التي تتربَّى في حضنها الذراري وتتهذَّب بين يديها الشعوب. ولكنَّ تأثير المرأة ليس مقصورًا على هذا؛ لأن الأمومة ليست اختيارية، وقد تكون المرأة أفضل أُمٍّ وأفضل زوجة فيظل عليها أن تتمَّ أمورًا أخرى شتَّى. المرأة اليوم تستطيع أن تعمل وتؤثر في جميع الجوانب. تعمل بتذكية العاطفة الوطنية في أبناء الوطن ببث الشهامة والنبل في نفوس رجاله، في تعزيز كيانهِ المعنوي بالحرص على مصالحهِ الجزئية، بالسهر على مهود أطفالهِ، بتكييف النفوس الغضَّة من فتيانهِ، بترقية لغتهِ، بنشر فكرهِ، بتمجيد البليغ من أقلامه، بترويج صناعتهِ وفنهِ ومنسوجاته، بالاقتصاد، وإحكام وضع الأشياء في مكانها. تؤثر بإنعاش روح الوطن، بتقدير تاريخه، بالثقة في مستقبله، بعبادةِ شاراتهِ وأعلامهِ! الشرق ينهض، أيتها السيدات، وهنيئًا لمن أدرك كل ما في المسئولية من فخر، وكل ما في العمل من نصر. الشرق ينهض ولو كانت جباه رجالهِ مثقلة بالأحزان، وجماعات من شبيبتهِ منصرفة إلى اللهو والنسيان! الشرق ينهض، وهنيئًا لكل من كان بعملهِ وقلمهِ وصوتهِ ذا أثر في تكييف النفوس! وهنيئًا لطلاب العلم بالممكنات التي يتمتعون بها ممتازين بذلك عن كل جيل سبقهم؛ لذلك كان ما يُنتظر منهم أعظم من كل ما جاء بهِ غيرهم. علمت أمس الأوَّل أن سيدات بيروت اكتتبن لصورة وردة اليازجي وأهدينها إلى دار الكتب الأهلية في تلك المدينة؛ لتُرفع صورة الشاعرة بين صور كبار الرجال والعلماء. هذا في بيروت. وحسبها في تقدير فضلها هنا أن تجتمع اليوم على ذكرها السيدات المصريات وغير المصريات فيُحيين من اسمها النفحة الشجية! وليكنْ لكنَّ من هذه الذكرى أثرٌ يبقى بعد هذا الاجتماع. فلتحمله ربَّات البيوت؛ لأن «وردة العرب» كانت بنتًا مباركة، وأختًا حصيفةً، وزوجة وفيَّة، وأمًّا صالحة! ولتحمله ناظرات المدارس والمعلمات؛ لأن الشاعرة بتعاطيها التدريس وعنايتها بأخوتها وأخواتها في حداثتهم كانت مثالًا يُحتذى ومثلًا تُستمدُّ منه التعزية في مهنة التعليم الشاقة النبيلة. ولتحمله الطالبات اللاتي سيجتزن عمَّا قريبٍ عقبة الامتحان السنوي. فاليازجية كانت تلميذة نشيطة وإن لم يكن لها وسائطهن، وظلت طول حياتها تطلب العلم وتوصي بالمعرفة والاستنارة. وليقُل ذكرها لكل منا إن العمل الصالح الذي تأتيه المرأة يتخطَّى جيلَها ويخدم الأجيال التالية، كما أن حبة القمح في أرض خصبة تضمن تغذية الجماهير في مقتبل العصور. فلتذكر نساءُ مصر وردة اليازجي وأخواتها السوريات الناهضات كما تذكر نساءُ سوريا عائشة تيمور وباحثة البادية وأخواتهما المصريات الناهضات! وليتأثرن بذكرها وفضلها كما تتأثر بنات سوريا بنهضة المرأة المصرية فيتحمسن لها ويفاخرن بها! وحسبي ابتهاجًا — أنا ابنة القطرين — أن أرسم صورةً ولو واهية من امرأة شرقية لأخوات شرقيات أحبُّ منهن الوطنية، واهتف مثلهنَّ هتاف الحماسة، وأنشد من قدوتهن التقدم والعرفان وخير الأوطان!
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/46979259/
وَرْدَةُ اليَازجِي
مي زيادة
وردة اليازجي هي أديبة لبنانية، اشتهرت بكتاباتها الأدبية والشعرية، فقدمت لونًا مميزًا من الأدب والشعر، وكانت لها الريادة في النهضة الأدبية النسائية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وقد أظهرت وردة اليازجي نبوغًا فكريًّا منذ الصبا، حيث قرأت الأدب على أبيها الشيخ ناصيف اليازجي، كما نظمت الشعر، وكان أكثر شعرها في المراثي، وقد تجمع لها ديوان صغير بعنوان حديقة الورد، وقد حاولت الآنسة مي زيادة في هذا العمل أن تبرز القيمة الأدبية والشعرية لوردة اليازجي، حيث قدمت مي عملًا نقديًّا متميزًا وفريدًا، تابعت من خلاله الأديبة والشاعرة وردة اليازجي في حياتها وفكرها وشعرها.
https://www.hindawi.org/books/46979259/0.3/
كلمة أخرى
فاتني أن أذكر تحت صورة وردة اليازجي المنشورة في صدر هذه الرسالة أن «الكليشيه» تكرَّمَتْ بها إدارة «اللطائف المصورة». فَلْتقبلْ خالصَ الشكر على هديتها هذه. وإذ كنتُ أصلح «بروفة» الملزمة الأولى فُوجِئنا بنَعْي سليم سركيس الذي أوحى إليَّ هذا البحث، والذي نزيد شعورًا بفقده وبالفراغ الذي تركه يومًا بعد يوم. أَلَا فَلْتطلَّ روحُهُ على هذه الصفحات من عالَم البقاءِ باسمةً لآراء إخوانها وأصدقائها على الأرض، متلقِّيةً تحيةَ الوداع ونفحةَ الأسى التي يسيرها الأحياء نحو الأرواح العزيزة في موكب الذكريات المتحددة.
مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا. مي زيادة: شاعرة وأديبة فلسطينية، وواحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. ولدت ماري إلياس زيادة، المعروفة ﺑ «مي زيادة»، في الناصرة بفلسطين عام ١٨٨٦م، لأب لبناني وأم فلسطينية. ارتحلت مع ذويها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة. استطاعت إجادة العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي. انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية الموجودة في القاهرة آنذاك، فكانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء» وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو جبران خليل جبران، الذي ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! نشرت العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، حيث نشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم «أزاهير الحلم»، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ «باحثة البادية»، و«كلمات وإشارات»، و«المساواة»، و«ظلمات وأشعة» … إلخ. كما ترجمت ثلاث روايات منهم رواية «ابتسامات ودموع» لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. عاشت الاثنتي عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، هم والدها الذي توفي عام ١٩٢٩م، والحبيب جبران خليل جبران الذي تلاه في عام ١٩٣١م، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه المفجعات المتتاليات جعلتها تقضي بعض الوقت في مستشفى للأمراض النفسية، ثم خرجت بعدها وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر لتموت بالقاهرة في ١٩٤١م، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا رائعًا ومتميزًا.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/0.1/
مقدِّمة
كل مسألة من المسائل التي أجملتها في هذه الأسطر القليلة يصحُّ أن تكون موضوعًا لكتاب على حدة، وقد تعمَّدت الاختصار فيها؛ حتى ترتبط تلك المسائل ببعضها كأنها حلقات سلسلة واحدة، وغاية ما أريد هو أن أستلفت الذهن إلى موضوع قلَّ عدد المفكرين فيه لا أن أضع كتابًا يوفِّي الكلام في شأن المرأة ومكانتها من الوجود الإنساني، وقد يُوضَعُ مثل هذا الكتاب بعد سنين متى نبتت هذه البذرة الصغيرة ونمى نباتها في أذهان أولادنا، وظهرت ثمراتها، وعملوا على اقتطافها والانتفاع بها. ويرى المطَّلع على ما أكتبه أني لست ممن يطمع في تحقيق آماله في وقت قريب؛ لأن تحويل النفوس إلى وجهة الكمال في شئونها مما لا يسهل تحقيقه، وإنما يظهر أثر العاملين فيه ببطء شديد في أثناء حركته الخفيَّة. وكل تغيير يحدث في أمَّة من الأمم وتبدو ثمرته في أحوالها، فهو ليس بالأمر البسيط وإنما هو مركَّب من ضروب من التغيير كثيرة تحصل بالتدريج في نفس كلِّ واحد شيئًا فشيئًا ثمَّ تسري من الأفراد إلى مجموع الأمَّة؛ فيظهر التغيير في حال ذلك المجموع نشأة أخرى للأمَّة. وما نحن فيه اليوم ليس في الطاقة البشرية تغييره في الحال، وليس من العار علينا أننا وُجِدنا في مثل هذه الحالة؛ لأن كل عصر لا يُسأَل إلَّا عن عمله، وإنما العار أن نظنَّ في أنفسنا الكمال، وننكر نقائصنا، وندَّعي أن عوائدنا هي أحسن العوائد في كل زمان ومكان، وأن نعاند الحق وهو واحد لا يحتاج في تقريره إلى تصديق منا به، وكل ما نقوله أو نفعله لإنكاره لا يؤثِّر فيه بشيء، وإنما يؤثِّر فينا أثر الباطل في أهله، ويقوم حجابًا بيننا وبين إصلاح نفسنا؛ إذ لا يمكن لأمَّة أن تقوم بإصلاح ما إلَّا إذا شعرت شعورًا حقيقيًّا بالحاجة إليه، ثمَّ بالوسائل الموصِّلة له. لا أظنُّ أنه يوجد واحد من المصريين المتعلِّمين يشكُّ في أن أمته في احتياج شديد إلى إصلاح شأنها؛ فهؤلاء المتعلِّمون الذين أخاطبهم اليوم أقول إن عليهم تبعة ما نألم له في عصرنا هذا، ولا يليق بمعارفهم ولا بعزائمهم أن يسجِّلوا على أنفسهم وعلى أمتهم العجز واليأس والقنوط؛ فإن ذلك صورة من صور الكسل، أو مظهر من مظاهر الجبن، أو حال من أحوال مَن لا ثقة له بنفسه، ولا بأهله، ولا بملَّته، ولا بشرعه، ولا بآله، وأراهم بهذا يستسلمون إلى تيارات الحوادث تتصرَّف فيهم كما تتصرَّف في الجماد والنبات، وتقذف بهم إلى حيث يحبُّون أو لا يحبُّون. قد طرقت بابًا من أبواب الإصلاح في أمتنا، والتمست وجهًا من وجوهه في قسم من أفراد الأمَّة له الأثر العظيم في مجموعها، وأتيت في ذلك بما أظنُّه صوابًا، فإن أخطأت فلي من حسن النية ما أرجو معه غفران سيئة أخطائي، وإن أصبت — كما أظن — وجب على أولئك المتعلِّمين أن يعملوا على نشر ما أودعته في هذه الوريقات، وتأييده بالقبول والعمل.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/0.2/
تمهيد
إني أدعو كلَّ محبٍّ للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريَّات، وأنا على يقين من أنه يصل وحده إلى النتيجة التي وصلت إليها، وهي ضرورة الإصلاح فيها، هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدَّة طويلة كنت في خلالها أقلِّبها وأمتحنها وأحلِّلها حتى إذا تجرَّدت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وزاحمت غيرها، وتغلَّبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبِّهني إلى مزاياها، وتذكِّرني بالحاجة إليها؛ فرأيت ألا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر. ومن أحكم الأشياء التي يدور عليها تقدُّم النوع الإنساني، ويؤكِّد حسن مستقبله، هذه القوَّة الغريبة التي تدفع الإنسان إلى نشر كل فكرة علمية أو أدبية متى وصلت إلى غاية نموها الطبيعي في عقله، واعتقد أنها تساعد على تقدُّم أبناء جنسه ولو تيقَّن حصول الضرر لشخصه من نشرها؛ تلك قوَّة يدرك سلطانها مَن وجد في نفسه شيئًا منها، يشعر أنه إن لم يسابقها إلى ما تندفع إليه، ولم يستنجد بقية قواه لمعاونتها على استكمال ما تهيَّأت له غالبته إن غالبها، وقاومته إن قاومها، وقهرته إن عمل في قهرها، وظهرت في غير ما يحبُّ من مظاهرها كأنها الغاز المحبوس لا يُكتَمُ بالضغط، ولكن الضغط يُحدِث فيه فرقعة قد تأتي على هلاك ما حواه. والبراهين على ذلك كثيرة في الماضي؛ فإن تاريخ الأمم مملوء بالمناقشات والجدل والجلاد والحروب التي قامت في سبيل استعلاء فكر على فكر ومذهب على مذهب، وكانت الغلبة تارة للحق وأخرى للباطل، وكانت الأمم الإسلامية على هذه الحال في القرون الأولى والوسطى، ولم يزل الأمر على ذلك أو يزيد في البلاد الغربية التي يصحُّ أن يُقال فيها إن حياتها جهاد مستمر بين الحق والباطل والخطأ والصواب: جهاد داخلي بين أفراد الأمَّة في جميع فروع المعارف والفنون والصنائع، وجهاد خارجي بين الأمم بعضها مع بعض، خصوصًا في هذا القرن الذي ألغت فيه الاختراعات الحديثة المسافات والأبعاد، وهدمت الحدود الفاصلة والأسوار المانعة حتى إن الأشخاص الذين ساحوا في جميع أنحاء الأرض يُعدُّون بالألوف، وإذا ألَّف رجل من مشاهيرهم كتابًا تُرجِمَ في أثناء طبعه، وظهر في خمس أو ست لغات في آن واحد. ولم يركن إلى حب السكينة إلَّا أقوام على شاكلتنا؛ فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال بنا الكسل إلى معاداة كل فكر صالح مما يعدُّه أهل الوقت حديثًا غير مألوف، سواء كان من السنن الصالحة الأولى، أو قضت به المصالح في هذه الأزمنة. وكثيرًا ما يكتفي الكسول وضعيف القوَّة في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه فيقول: تلك بدعة في الإسلام. وما يرمي بهذه الكلمة إلَّا حبُّ التخلُّص من مشقَّة الفهم، أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء، كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية. سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول نعم أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمَدُ طلب الكمال فيها. لِمَ يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟ ولِمَ يجري على هذا الاعتقاد في عمله مع أنه هو وعوائده جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل في كل آن؟ أيقدر المسلم على مخالفة سنَّة الله في خلقه إذ جعل التغيير شرط الحياة والتقدُّم والوقفة والجمود مقترنين بالموت والتأخُّر؟ أليست العادة عبارة عن اصطلاح أمَّة على سلوك طريق خاصة في معيشتهم ومعاملاتهم حسبما يناسب الزمان والمكان؟ مَن ذا الذي يمكنه أن يتصوَّر أن العوائد لا تتغيَّر بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان، وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان؟ المسلمون منتشرون في أطراف الأرض، فهل هم أنفسهم متَّحدون في العادات وطرق المعاش؟ مَن ذا الذي يمكنه أن يدَّعي أن ما يستحسنه عقل السوداني يستحسنه عقل التركي أو الصيني أو الهندي؟ أو أن عادة من عادات البدوي توافق أهل الحضر، أو يزعم أن عوائد أمَّة من الأمم — مهما كانت — بقيت جميعها على ما كانت عليه من عهد نشأتها بدون تغيير؟ والحقيقة أن لكل أمَّة في كل مدَّة من الزمن عوائد وآدابًا خاصة بها موافقة لحالتها العقلية، وأن تلك العوائد والآداب تتغيَّر دائمًا تغيُّرًا غير محسوس تحت سلطان الإقليم والوراثة والمخالطات، والاختراعات العلمية، والمذاهب الأدبية، والعقائد الدينية، والنظامات السياسية وغير ذلك، وأن كل حركة من حركات العقل نحو التقدُّم يتبعها حتمًا أثر يناسبها في العادات والآداب؛ وعلى ذلك يلزم أن يكون بين عوائد السوداني والتركي مثلًا من الاختلاف بقدر ما يوجد بين مرتبتيهما في العقل، وهو الأمر المشهور الذي لا ريبة فيه؛ وعلى هذه النسبة يكون الفرق بين المصري والأوروباوي. ولا يمكن أن يتصوَّر أحد أن العادات التي هي عبارة عن طريق سلوك الإنسان في نفسه، ومع عائلته، ومواطنيه، وأبناء جنسه تكون في أمَّة جاهلة أو متوحِّشة مثل ما تكون في أمَّة متمدِّنة؛ لأن سلوك كل فرد منها إنما يكون على ما يناسب مداركه ودرجة تربيته. ولهذا الارتباط التام بين عادات كل أمَّة ومنزلتها من المعارف والمدنيَّة نرى أن سلطان العادة أنفذ حكمًا فيها من كل سلطان، وهي أشد شئونها لصوقًا بها، وأبعدها عن التغيير، ولا حول للأمَّة عن طاعتها إلَّا إذا تحوَّلت نفوس الأمَّة وارتفعت أو انحطت عن درجتها في العقل؛ ولهذا نرى أنها تتغلَّب دائمًا على غيرها من العوامل والمؤثِّرات حتى على الشرائع، ويؤيد ذلك ما نشاهده كل يوم في بلادنا من أن القوانين واللوائح التي توضع لإصلاح حال الأمَّة تنقلب في الحال إلى آلة جديدة للفساد، وليس هذا بغريب؛ فقد تتغلَّب العادات على الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كلُّ مَن عرفه. وهذا هو الأصل فيما نشهده ويؤيِّده الاختبار التاريخي من التلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمَّة وتوحشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدُّم الأمَّة ومدنيتها؛ فقد علمنا أن في ابتداء تكوُّن الجمعيات الإنسانية كانت حالة المرأة لا تختلف عن حالة الرقيق في شيء، وكانت واقعة عند الرومان واليونان مثلًا تحت سلطة أبيها، ثمَّ زوجها، ثمَّ من بعده أكبر أولادها، وكان لرئيس العائلة عليها حق الملكية المطلقة؛ فيتصرَّف فيها بالبيع والهبة والموت متى شاء، ويرثها من بعده ورثته بما عليها من الحقوق المُخوَّلة لمالكها، وكان من المباح عند العرب قبل الإسلام أن يقتل الآباء بناتهم، وأن يستمتع الرجال بالنساء من غير قيد شرعي ولا عدد محدود، ولا تزال هذه السلطة الآن سائدة عند قبائل أفريقيا وأمريكا المتوحِّشة، وبعض الأمم الآسيوية يعتقد أن المرأة ليس لها روح خالدة، وأنها لا ينبغي أن تعيش بعد زوجها، ومنهم مَن يقدِّمها إلى ضيفه إكرامًا له كما يقدِّم له أحسن متاع يمتلكه. كل هذا يُشاهَدُ في الجمعيات الناشئة التي لم تقم على نظامات عمومية، بل كل ما فيها يقوم بروابط العائلة والقبيلة، والقوَّة هي القانون الوحيد الذي تعرفه، وهكذا الحال الآن في البلاد التي تدار بحكومة استبدادية؛ لأنها تُحكم كذلك بقانون القوَّة. أمَّا في البلاد التي ارتقت إلى درجة عظيمة من التمدُّن فإنا نرى النساء أخذن يرتفعن شيئًا فشيئًا من الانحطاط السابق، وصرن يقطعن المسافات التي كانت تبعدهن عن الرجال: هذه تحبو، وتلك تخطو، وهذه تمشي، وتلك تعدو، كل ذلك بحسب حال الجمعية التي تنتسب إليها، ودرجة المدنيَّة فيها؛ فالمرأة الأمريكيَّة في أوَّل صف، ثمَّ تتلوها الإنجليزيَّة، وتأتي بعدها الألمانية، وتليها الفرنساويَّة، ثمَّ النمساويَّة، ثمَّ التليانيَّة، ثمَّ الروسيَّة إلخ، كلُّها نفوس شعرت أنها حقيقة بالاستقلال؛ فهي تبحث عن الوسائل لنيله، وأنها جديرة بالحرية فهي تسعى للوصول إليها، وأنها من نوع الإنسان فهي تطالب بكل حق للإنسان. والغربي الذي يحب أن ينسب كل شيء حسن إلى دينه يعتقد أن المرأة الغربية ترقَّت؛ لأن دينها المسيحي ساعدها على نيل حريتها، ولكن هذا الاعتقاد باطل؛ فإن الدين المسيحي لم يتعرَّض لوضع نظام يكفل حرية المرأة، ولم يبيِّن حقوقها بأحكام خاصة أو عامَّة، ولم يرسم للناس في هذا الموضوع مبادئ يهتدون بها، وقد أقام هذا الدين في كل أمَّة دخل فيها بدون أن يترك أثرًا محسوسًا في الأخلاق من هذه الجهة، بل تشكَّل نفسه بالشكل الذي أفادته إيَّاه أخلاق الأمم وعاداتها، ولو كان لدين ما سلطة وتأثير على العوائد لكانت المرأة المسلمة اليوم في مقدِّمة نساء الأرض. سبق الشرع الإسلامي كل شريعة سواه في تقرير مساواة المرأة للرجل؛ فأعلن حريتها واستقلالها يوم كانت في حضيض الانحطاط عند جميع الأمم، وخوَّلها كل حقوق الإنسان، واعتبر لها كفاءة شرعية لا تنقص عن كفاءة الرجل في جميع الأحوال المدنيَّة من بيع وشراء وهبة ووصيَّة من غير أن يتوقَّف تصرُّفها على إذن أبيها أو زوجها، وهذه المزايا التي لم تصل إلى اكتسابها حتى الآن بعض النساء الغربيات كلها تشهد على أن من أصول الشريعة السمحاء احترام المرأة والتسوية بينها وبين الرجل، بل إن شريعتنا بالغت في الرفق بالمرأة؛ فوضعت عنها أحمال المعيشة، ولم تلزمها بالاشتراك في نفقة المنزل وتربية الأولاد خلافًا لبعض الشرائع الغربية التي سوَّت بين الرجل والمرأة في الواجبات فقط، وميَّزت الرجل في الحقوق. والميل إلى تسوية المرأة بالرجل في الحقوق ظاهر في الشريعة الإسلامية حتى في مسألة التحلُّل من عقدة الزواج؛ فقد جعلت لها في ذلك طرقًا جديرة بالاعتبار، سيأتي الكلام عنها خلافًا لما يتوهَّمه الغربيون، ويظنُّه بعض المسلمين. ولم أرَ إلَّا مسألة واحدة ميَّز الشرع فيها الرجال على النساء وهي تعدُّد الزوجات؛ والسبب في ذلك واضح يتعلَّق بمسألة النسب التي لا يقوم للزواج حياة بدونها، وسيأتي الكلام عليها أيضًا فيما يلي، وبالجملة فليس في أحكام الديانة الإسلاميَّة ولا فيما ترمي إليه من مقاصدها ما يمكن أن يُنسَب إليه انحطاط المرأة المسلمة، بل الأمر بالعكس فإنها أكسبتها مقامًا رفيعًا في الهيئة الاجتماعيَّة. لكن وا أسفاه! قد تغلبت على هذا الدين الجميل أخلاق سيئة ورثناها عن الأمم التي انتشر فيها الإسلام، ودخلت فيه حاملة لما كانت عليه من عوائد وأوهام، ولم يكن العرفان قد بلغ بتلك الأمم حدًّا يصل بالمرأة إلى المقام الذي أحلَّتها الشريعة فيه، وكان أكبر عامل في استمرار هذه الأخلاق توالي الحكومات الاستبدادية علينا. تجرَّدت الجمعيات الإسلاميَّة على اختلاف الأزمان والأماكن من النظامات السياسية التي تحدِّد حقوق الحاكم والمحكوم، وتخوِّل للمحكومين مطالبة الحاكمين بالوقوف عند الحدود المقرَّرة لهم بمقتضى الشريعة والنظام، بل أخذت حكوماتها الشكل الاستبدادي دائمًا؛ فكان لسلطانهم وأعوانه سلطة مطلقة، فحكموا كيف شاءوا بلا قيد ولا استشارة ولا مراقبة، وأداروا مصالح الرعيَّة بدون أن يكون لها صوت فيها. نعم كان الحاكم صغيرًا أو كبيرًا ملزمًا باتباع العدل واجتناب الظلم، لكن من المجرَّب أن السلطة الغير المحدودة تغري بسوء الاستعمال إذا لم تجد حدًّا تقف أمامه، ورأيًا يناقشها، وهيئة تراقبها؛ ولهذا مضت القرون على الأمم الإسلاميَّة وهي تحت حكم الاستبداد المطلق، وأساء حكامها في التصرُّف، وبالغوا في اتباع أهوائهم، واللعب بشئون الرعيَّة، بل لعبوا بالدين نفسه في أغلب الأزمنة، ولا يُستثنَى منهم إلَّا عدد قليل لا يكاد يُذكَرُ بالنسبة إلى غالبهم. إذا غلب الاستبداد على أمَّة لم يقف أثره في الأنفس عند ما هو في نفس الحاكم الأعلى، ولكنه يتَّصل منه بمَن حوله، ومنهم إلى مَن دونهم، وينفث روحه في كل قوي بالنسبة لكل ضعيف متى مكَّنته القوَّة من التحكُّم فيه، يسري ذلك في النفوس رضي الحاكم الأعلى أو لم يرضَ. كان من أثر هذه الحكومات الاستبدادية أن الرجل في قوته أخذ يحتقر المرأة في ضعفها، وقد يكون من أسباب ذلك أن أوَّل أثر يظهر في الأمَّة المحكومة بالاستبداد هو فساد الأخلاق. قد يمكن أن يُتوهَّم من أول وهلة أن الشخص الواقع عليه الظلم يحبُّ العدل، ويميل إلى الشفقة لما يقاسيه من المصائب التي تتوالى عليه، لكن المُشَاهَد يدلُّ على أن الأمَّة المظلومة لا يصلح جوُّها، ولا تنفع أرضها لنمو الفضيلة، ولا يربو فيها إلَّا نبات الرذيلة، وكل المصريين الذين عاشوا تحت حكم المستبدين السابقين — وما العهد منهم ببعيد — يعلمون أن شيخ البلد الذي كان يُسلَبُ منه عشرة جنيهات كان يستردُّها مائة من الأهالي، والعمدة الذي كان يُضرَبُ مائة كرباج كان عند عودته إلى بلدته ينتقم من مائة فلاح. فمن طبيعة هذه الحالة أن الإنسان لا يحترم إلَّا القوَّة ولا يُردَع إلَّا بالخوف، ولمَّا كانت المرأة ضعيفة اهتضم الرجل حقوقها، وأخذ يعاملها بالاحتقار والامتهان، وداس بأرجله على شخصيتها، عاشت المرأة في انحطاط شديد أيًّا كان عنوانها في العائلة؛ زوجة، أو أمًّا، أو بنتًا، ليس لها شأن ولا اعتبار ولا رأي، خاضعة للرجل؛ لأنه رجل ولأنها امرأة. فني شخصها في شخص الرجل، ولم يبقَ لها من الكون ما يسعها إلَّا ما استتر من زوايا المنازل، واختُصَّت بالجهل والتحجُّب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعًا للذة، يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطرق متى شاء، له الحرية ولها الرق، له العلم ولها الجهل، له العقل ولها البله، له الضياء والقضاء ولها الظلمة والسجن، له الأمر والنهي ولها الطاعة والصبر، له كلُّ شيء في الوجود، وهي بعض ذلك الكلِّ الذي استولى عليه. من احتقار الرجل المرأة أن يملأ بيته بجوارٍ بيض أو سود أو بزوجات متعدِّدات يهوي إلى أيهن شاء منقادًا إلى الشهوة، مسوقًا بباعث الترف وحب استيفاء اللذة، غير مبالٍ بما فرضه عليه الدين من حسن القصد فيما يعمل، ولا بما أوجبه عليه من العدل فيما يأتي، من احتقار المرأة أن يطلِّق الرجل زوجته بلا سبب، من احتقار المرأة أن يقعد الرجل على مائدة الطعام وحده ثمَّ تجتمع النساء من أم وأخت وزوجة ويأكلن ما فضل منه، من احتقار المرأة أن يُعيَّن لها محافظًا على عرضها مثل أغا أو مقدم أو خادم يراقبها ويصحبها أينما تتوجَّه، من احتقار المرأة أن يسجنها في منزل ويفتخر بأنها لا تخرج منه إلَّا محمولة على النعش إلى القبر، من احتقار المرأة أن يعلن الرجال أن النساء لسن محلًّا للثقة والأمانة. من احتقار المرأة أن يُحال بينها وبين الحياة العامَّة والعمل في أي شيء يتعلَّق بها؛ فليس لها رأي في الأعمال، ولا فكر في المشارب، ولا ذوق في الفنون، ولا قدم في المنافع العامَّة، ولا مقام في الاعتقادات الدينية، وليس لها فضيلة وطنيَّة ولا شعور مليٌّ. ولست مبالغًا إن قلت إن ذلك كان حال المرأة في مصر إلى هذه السنين الأخيرة التي خفَّت فيها نوعًا سلطة الرجل على المرأة تبعًا لتقدُّم الفكر في الرجال، واعتدال السلطة الحاكمة عليهم، ورأينا النساء يخرجن لقضاء حاجاتهن، ويتردَّدن على المنتزهات العمومية لاستنشاق الهواء وترويح النفوس بتسريح النظر في الكائنات التي عرضها الصانع — جلَّ شأنه — على نظر كل مخلوق رجلًا كان أو امرأة، وكثير منهن يذهبن مع رجالهن إلى السياحة في بعض البلاد الأخرى. وكثير من الرجال قد أعطوا لنسائهن مقامًا في الحياة العائلية. وهذا إنما طرأ على بعض الرجال من نشأة الثقة في نفوس أولئك الرجال بنسائهم واطمئنانهم إلى أمانتهن؛ وهو احترام جديد للمرأة. نعم لا ننكر أن هذا التغيير لا يخلو من وجوه انتقاد، لكن سبب الانتقاد في الحقيقة ليس هو نفس التغيير ولكنه الأحوال التي احتفت به، وأهمها رسوخ عادة الحجاب في أنفس الجمهور الأعظم، ونقص تربية النساء، فلو كملت تربية النساء على مقتضى الدين، وقواعد الأدب، ووقف بالحجاب عند الحدِّ المعروف في أغلب المذاهب الإسلاميَّة؛ سقطت كل تلك الانتقادات، وأمكن للأمَّة أن تنتفع بجميع أفرادها نساءً ورجالًا.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/1/
تربية المرأة
المرأة وما أدراك ما المرأة! إنسان مثل الرجل، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها، ولا في الإحساس، ولا في الفكر، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان، اللهم إلَّا بقدر ما يستدعيه اختلافهما في الصنف. فإذا فاق الرجل المرأة في القوَّة البدنيَّة والعقليَّة فذلك إنما؛ لأنه اشتغل بالعمل والفكر أجيالًا طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوَّتين المذكورتين، ومقهورة على لزوم حالة من الانحطاط تختلف في الشدَّة والضعف على حسب الأوقات والأماكن. ولا يزال الناس عندنا يعتقدون أن تربية المرأة وتعليمها غير واجبين، بل إنهم يتساءلون هل تعليم المرأة القراءة والكتابة مما يجوز شرعًا أو هو محرم بمقتضى الشريعة؟! وأتذكَّر أني أشرت يومًا على أب وقد رأيت معه بنتًا بلغت من العمر تسع سنوات أعجبني جمالها وذكاؤها بأن يعلِّمها، فأجابني: «وهل تريد أن تعطيها وظيفة في الحكومة؟» فاعترضت عليه قائلًا: «وهل في مذهبك لا يتعلَّم إلَّا الموظَّفون؟» فأجابني: «إني أعلِّمها جميع ما يلزم لإدارة منزلها ولا أفعل غير ذلك.» قال هذا على وجه يُشعِر أنه لا يحبُّ المناقشة في رأيه، ويعني هذا الأب العنيد بإدارة المنزل أن بنته تعرف شيئًا من صناعة الخياطة، وتجهيز الطعام، واستعمال المكوى وما أشبه ذلك من المعارف التي لا أنكر أنها مفيدة بل لازمة لكل امرأة، ولكني أقول — ولا أخشى نكيرًا — إنه مخطئ في توهُّمه أن المرأة التي لا يكون لها من البضاعة إلَّا هذه المعارف يوجد عندها من الكفاءة ما يؤهِّلها إلى إدارة منزلها. ففي رأيي أن المرأة لا يمكنها أن تدير منزلها إلَّا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقليَّة والأدبيَّة. فيجب أن نتعلَّم كل ما ينبغي أن يتعلَّمه الرجل من التعليم الابتدائي على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها بعد ذلك باختيار ما يوافق ذوقها منها، وإتقانه بالاشتغال به متى شاءت. فإذا تعلَّمت المرأة القراءة والكتابة، واطلعت على أصول الحقائق العلميَّة، وعرفت مواقع البلاد، وأجالت النظر في تاريخ الأمم، ووقفت على شيء من علم الهيئة والعلوم الطبيعيَّة، وكانت حياة ذلك كله في نفسها عرفانها العقائد والآداب الدينية استعدَّ عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك الآن بعقول النساء. وعلى مَن يتولَّى تربية المرأة أن يبادرها من بداية صباها بتعويدها على حبِّ الفضائل التي تكمل بها النفس الإنسانيَّة في ذاتها، والفضائل التي لها أثر في معاملة الأهل وحفظ نظام القرابة، والفضائل التي يظهر أثرها في نظام الأمَّة حتى تكون تلك الفضائل جميعها ملكات راسخة في نفسها، ولا يتمُّ له ذلك إلَّا بالإرشاد القولي، والقدوة الصالحة. هذه هي التربية التي أتمنى أن تُحمَل عليها المرأة المصرية ذكرتها بالإجمال، وهي مفصَّلة في المؤلَّفات المخصَّصة لها في كل اللغات، ولا أظنُّ أن المرأة بدون هذه التربية يمكنها أن تقوم بوظيفتها في الهيئة الاجتماعيَّة وفي العائلة. فلأن النساء في كل بلد يُقدَّرن بنصف سكانه على الأقل، فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمَّة، وفيه من الضرر الجسيم ما لا يخفى. ولا شيء يمنع المرأة المصريَّة من أن تشتغل مثل الغربيَّة بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة إلَّا جهلها وإهمال تربيتها، ولو أُخِذَ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووُجِّهت عزيمتها إلى مجاراتهم في الأعمال الحيويَّة واستعملت مداركها وقواها العقليَّة والجسميَّة لصارت نفسها حيَّة فعَّالة تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هي اليوم عالة لا تعيش إلَّا بعمل غيرها. ولكان ذلك خيرًا لوطنها لما ينتج عنه من ازدياد الثروة العامَّة والثمرات العقليَّة فيه. وإنما مثلنا الآن مثل رجل يملك رأس مال عظيم فيدعه في الصندوق، ويكتفي بأن يفتح صندوقه كل يوم؛ ليتمتع برؤية الذهب، ولو عرف لاستعمله وانتفع منه وضاعفه في سنين قليلة. من عوامل الضعف في كل مجتمع إنساني أن يكون العدد العظيم من أفراده كلًّا عليه لا عمل له فيما يحتاج إليه، وإن عمل كان كالآلة الصماء أو الدابة العجماء لا يدري ما يصدر منه. المرأة محتاجة إلى التعليم لتكون إنسانًا يعقل ويريد، بلغ من أمر المرأة عندنا أننا إذا تصوَّرناها وجدنا من لوازم تصوُّرها أن يكون لها ولي يقوم بحاجاتها ويدير شئونها، كأن وجود هذا الولي أمر مضمون في جميع الأحوال، مع أن الوقائع أظهرت لنا أن كثيرًا من النساء لا يجدن من الرجال مَن يعولهن؛ فالبنت التي فقدت أقرباءها ولم تتزوَّج، والمرأة المطلَّقة، والأرملة التي تُوفِّي زوجها، والوالدة التي ليس لها أولاد ذكور أو لها أولاد قصر — كل هذه المذكورات يحتجن إلى التعليم ليمكنهنَّ القيام بما يسدُّ حاجتهن وحاجات أولادهنَّ إن كان لهنَّ أولاد، أمَّا تجرُّدهنَّ عن العلم فيلجئهن إلى طلب الرزق بالوسائل المخالفة للآداب، أو إلى التطفُّل على بعض العائلات الكريمة. ويمكن أن يُقال إننا لو بحثنا عن السبب الذي قد يحمل تلك المرأة المسكينة التي تبذل نفسها في ظلام الليل لأوَّل طالب — وما أكبر هذه المذلَّة على المرأة — لوجدناه في الأغلب شدَّة الحاجة إلى زهيد من الذهب والفضة، وقلَّما كان الباعث على ذلك الميل إلى تحصيل اللذة. ثمَّ إنه لا يكاد تخلو عائلة مصرية من تحمُّل نفقات عدد من النساء اللاتي وقعن في العوز، ولا قدرة لهنَّ على العمل للخروج منه، ويمكننا أن نعدَّ هذا من الأسباب المانعة للعائلات من السير على قواعد الاقتصاد. لهذا السبب وغيره نرى الاختلال الجسيم في مالية العائلات؛ فإن الرجل المصري الذي يشتغل لكسب عيشه وعيش أولاده يرى شطرًا من المال الذي يجمعه يُنفَق على أشخاص من أقاربه أو معارفه أو ممن لا علاقة له بهم، ولكن تلزمه الرأفة الإنسانيَّة بأن يبذل لهم من كسبه ما يستطيع كي لا يموتوا جوعًا، وهم يرون أنه إنما يفعل ما يجب عليه، ومع ذلك هم قادرون على الكسب، ولكن يحول بينهم وبينه جهلهم باستعمال ما أوتوا من القوَّة؛ وذلك بسبب ما حُرِموا من التربية. ولو فُرِض أن المرأة لا تخلو من زوج أو ولي ينفق عليها أفلا تكون التربية ضرورية لمساعدة ذلك العائل إن كان فقيرًا، أو تخفيف شيء من انتقال إدارة المال داخل البيت إن كان غنيًّا؟ فإن كانت المرأة غنيَّة بنفسها — وهو نادر — بأن كان لها إيراد من عقارات ونحوها أفلا يفيدها التعليم في تدبير ثروتها وإدارة شئونها؟! نرى النساء كل يوم في اضطرار إلى تسليم أموالهن إلى قريب أو أجنبي، ونرى وكلاءهن يشتغلون بشئون أنفسهم أكثر مما يشتغلون بشئون موكلاتهم فلا يمضي زمن قليل إلَّا وقد اغتنى الوكيل وافتقر الأصيل. نرى النساء يضعن أختامهن على حساب، أو مستند، أو عقد يجهلن موضوعه أو قيمته وأهميته؛ لعدم إدراكهن كلَّ ما يحتوي عليه، أو عدم كفاءتهنَّ لفهم ما أودعه؛ فتُجرَّد الواحدة منهن عن حقوقها الثابتة بتزويرٍ أو غشٍّ أو اختلاسٍ يرتكبه زوجها أو أحد أقاربها أو وكيلها. فهل كان يقع ذلك لو كانت المرأة متعلِّمة؟ على أن التعليم في حدِّ ذاته هو في كل حال حاجة من حاجات الحياة الإنسانيَّة، وهو الآن من الحاجات الأولى في كل مجتمع دخلت فيه المدنيَّة، وأصبح العلم هو الغاية الشريفة التي يسعى إليها كل شخص يريد أن يحصِّل سعادته الماديَّة والروحيَّة. ذلك لأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي يرتفع بها شأن الإنسان من منازل الضعة والانحطاط إلى مراقي الكرامة والشرف، ولكل نفس حق طبيعي في تنمية ملكاتها الغريزيَّة إلى أقصى حدٍّ ترمي إليه باستعدادها. وقد جاءت الشرائع الإلهيَّة والقوانين الوضعيَّة تخاطب النساء كما تخاطب الرجال، والفنون الجميلة والصنائع والمخترعات والفلسفة العالميَّة كل ذلك يستلفت من المرأة مثل ما استلفته من الرجل، فأي نفس شريفة لا تشتاق إلى مطالعتها والتمتَّع بكنوزها؛ طلبًا للحقيقة وللسعادة في الدُّنيا والآخرة؟ وأي فرق بين الرجل والمرأة في هذا الشوق ونحن نرى أن الصبيان من الذكور والإناث يستوون في الاستفهام عن كل شيء يعرض لهم وطلب العلم بأسباب ما يقع تحت أبصارهم من الحوادث؟ وربما كان الولع بذلك في الأنثى أشدَّ منه في الذكر. أي نفس حسَّاسة ترضى بالمعيشة في قفص مقصوصة الجناح مطأطأة الرأس، مغمضة العينين، وهذا الفضاء الواسع الذي لا نهاية له أمامها، والسماء فوقها، والنجوم تلعب ببصرها، وأرواح الكون تناجيها وتوحي إليها الآمال والرغائب في فتح كنوز أسرارها؟ التكاليف الشرعية تدلُّنا على أن المرأة وُهِبت من العقل مثل ما وُهِبَ الرجل، أيظنُّ رجل لم يُعمِه الغرض أن الله قد وهبها من العقل ما وهبها عبثًا، وأنه آتاها من الحواس وآلات الإدراك ما أتاها لأجل أن تهملها ولا تستعملها؟! يقول المسلمون إن النساء ربَّات الخدور يعمرن المنازل، وإن وظيفتهن تنتهي عند عتبة باب البيت، وهو قول مَن يعيش في عالم الخيال، وضُرِبَ بينه وبين الحقيقة بحجاب لا ينفذ بصره إلى ما ورائه. ولو تبصَّر المسلمون لعلموا أن إعفاء المرأة من أول واجب عليها — وهو التأهل لكسب ضروريات هذه الحياة بنفسها — هو السبب الذي جرَّ ضياع حقوقها؛ فإن الرجل لما كان مسئولًا عن كل شيء استأثر بالحق في التمتُّع بكل حق، ولم يبقَ للمرأة حظ في نظره إلَّا كما يكون لحيوان لطيف يوفِّيه صاحبه ما يكفيه من لوازمه تفضُّلًا منه على أن يتسلَّى به. مضت الأجيال عندنا والمرأة خاضعة لحكم القوَّة مغلوبة لسلطان الاستبداد من الرجل، وهو لم يشأ أن يتَّخذها إلَّا امرأً صالحًا لخدمته مسيرًا بإرادته، وأغلق في وجهها أبواب المعيشة والكسب؛ بحيث آل أمرها إلى العجز عن تناول وسيلة من وسائل العيش بنفسها، ولم يبقَ أمامها من طرقه إلَّا أن تعيش ببضعها إمَّا زوجة أو مفحشة. ولمَّا لم يبقَ للعقل ولا للأعمال النافعة قيمة لديها وإنما بضاعتها أن تسلِّي الرجل وتمتِّعه من اللذة بجسمها بما شاء؛ وجَّهت جميع قواها إلى التفنُّن في طرق استمالته إليها، والاستيلاء على أهوائه وخواطر نفسه، مضت تلك الأزمان الطويلة على المرأة ولم يمس عقلها شيءٌ من التربية الصحيحة؛ فضعفت منها القوَّة العاقلة والمفكِّرة، وانفرد الحسُّ بالتصرُّف في إرادتها؛ فحسُّها هو المميِّز عندها بين الخير والشر، وهو الرائد لها في الاختيار بين النفع والضرر فهي تنفر أو تميل، فإن أحبت أخلصت لا عن عقل، وصدرت منها الأعمال الجميلة في ما تحبُّ ولمَن تحبُّ بمحض الهوى لا بأصالة الرأي، وإن نفرت ارتكبت أكبر الجرائم غير بصيرة بالعواقب ولا عارفة بالمصائر. فلو كانت أدركتها العناية بتربية عقلها وتنمية الملكات الفاضلة فيها لنمت فيها بذلك قوَّة الحكم على إحساسها، ولتصرَّفت في أعمالها على مقتضى الحكمة وقواعد الأدب. أضلَّت المرأة عقلها في ظلمات الأجيال الماضية؛ ففقدت رشدها، وأدركها العجز عن تناول ما تشتهي من الطرق المسنونة؛ فاضطرت إلى استعمال الحيلة، وأخذت تعامل الرجل — وهو سيِّدها وولي أمرها — كما يعامل المسجون حارس سجنه والحفيظ عليه، ونمت فيها ملكة المكر إلى غاية ليس وراءها منزع؛ فأصبحت ممثِّلة ماهرة ومشخِّصة قادرة تظهر في المظاهر المتضادة والألوان المختلفة في كل حال بحسبها، كل ذلك لا عن عقل وحكمة وإنما هي حيل الثعالبة. ولكن لا لوم عليها وعذرها أنها ليست حرَّة، وإنما فقدت الحرية؛ لأنها فقدت السلامة في قوَّة التمييز، بل اللوم كل اللوم على الرجال؛ أريد بهم مَن سبقنا ممن أهملوا تربية نسائنا. فيكفي لكل إنسان متفكِّر أن يتأمَّل في حالة عائلته ليتأكَّد أن استمرار الحال على ما هي عليه الآن صار مما لا يمكن احتماله. إني أكتب هذه السطور وذهني مفعم بالحوادث التي وردت عليَّ بالتجربة، وأخذت بمجامع خواطري، ولا أريد أن أذكر شيئًا منها؛ لعلمي أنها ما تركت ذهنًا حتى طافت به، ولا خاطرًا حتى وردت عليه؛ فإن مثار هذه الحوادث جميعها هو شيء واحد وهو المرض الملم بجميع العائلات، لا فرق بين فقيرها وغنيها، ولا بين وضيعها ورفيعها، وهو جهل المرأة؛ فقد تساوت النساء عندنا في الجهل مساواة غير محبوبة، ولا يظهر اختلافهن إلَّا في الملبس والحلي. بل يمكن أن يُقال إنه كلَّما ارتفعت المرأة مرتبة في اليسر زاد جهلها، وإن آخر طبقة من نساء الأمَّة وهي التي تسكن الأرياف هي أكملهن عقلًا بنسبة حالها. المرأة الفلاحة تعرف كلَّ ما يعرفه الرجل الفلاح، مداركهما في مستوى واحد لا يزيد أحدهما عن الآخر تقريبًا، مع أننا نرى أن المرأة في الطبقة العالية أو الوسطى متأخِّرة عن الرجل بمسافات شاسعة؛ ذلك لأن الرجال في هذه الطبقات تربَّت عقولهم واستنارت بالعلوم، ولم تتبعهنَّ نساؤهم في هذه الحركة، بل وقفن في الطريق، وهذا الاختلاف هو أكبر سبب في شقاء الرجل والمرأة معًا. فالرجل المتعلِّم يحبُّ النظام والتنسيق في منزله، وله ذوق مهذَّب يميل إلى الأشكال اللطيفة، والإحساسات الدقيقة، والالتفاتات الرقيقة، ويبلغ الاهتمام بها عند بعض الأفراد حدًّا ينتهي إلى إهمال الأمور الماديَّة، يفهم بكلمة ويودُّ لو يفهم بالإشارة، يسكت في أوقات، ويتكلَّم في أخرى، ويضحك في غيرها، له أفكار يحبُّها، ومذهب يشغله، وجمعية يخدمها ووطن يعزُّه، له لذائذ، وآلام معنوية؛ فيبكي مع الفقير، ويحزن مع المظلوم، ويفرح بالخير للناس، وفي كل فكرة تتولَّد في ذهنه أو إحساس يؤثِّر على أعصابه يودُّ أن يجد بجانبه إنسانًا آخر فيشرح له ما يشعر به ويتسامر معه، وهذا ميل طبيعي يجده كل شخص من نفسه. فإذا كانت امرأته جاهلة؛ كتم أفراحه وأحزانه عنها، ولم يلبث أن يرى نفسه في عالم وحده، وامرأته في عالم آخر؛ إذ هي تعتبر أن الرجل ما خُلِقَ في هذه الدُّنيا إلَّا ليشتري لها الأقمشة الغالية والجواهر النفيسة، وليصرف أوقاته في ملاعبتها، كأنه صورة أكبر من الصور التي كان يشتريها لها والدها في صغرها لتلهو بها. ومتى رأى الرجل امرأته بهذه المنزلة من الجهل؛ بادر إلى نفسه احتقارها، واعتبرها من الأعدام التي لا أثر لها في شئونه، وهي متى رأته أهمل وأغضى ضاق صدرها، وظنَّت أنه يظلمها، وبكت سوء حظها الذي ساقها إلى رجل لا يقدِّرها قدرها، ونبتت البغضاء في قلبها، ومن ثمَّ تبتدئ عيشة لا أظنُّ أن الجحيم أشدُّ نكالًا منها، عيشة يرى كلُّ منهما فيها أن صاحبه هو العدوُّ الذي يحول بينه وبين السعادة. ولا يُظنُّ أن هذا يختصُّ بذوي الأخلاق الفاسدة من الرجال والنساء؛ فقد تكون المرأة طيبة صالحة، والرجل شريف الإحساس ولكن العيشة بينهما خصام مستمر، ولا ذنب على أحدهما؛ بل الذنب على اختلافهما في التربية كما تقدَّم، ومنتهى هذه الحالة — إن استمرَّ الاقتران بينهما — أن يميت أحدهما حقَّه في سبيل راحة الآخر، أو يجرَّ كلاهما قيده الثقيل إلى آخر العمر، ولكن مهما كان حال الزوجين — وهما على ما ذكرنا من الوصف — فلا سبيل إلى ارتباطهما برابطة المحبَّة إذا أُخِذَت بمعناها الخاص؛ ولا خسران في الدنيا يبلغ فقد لذَّة الحب بين الرجل والمرأة. جاء في القصص الدينية المسطورة في الكتب السماوية أن الله خلق حواء من ضلع آدم، وفيه على ما أظنُّ رمز لطيف إلى أن الرجل والمرأة يكوِّنان مجموعًا واحدًا لا يتمُّ إلَّا باتحادهما، ومن هذا المعنى أخذ الغربيون تسميتهم المرأة بنصف الرجل، وهو تعبير فصيح يدلُّ دلالة واضحة على أن المرأة والرجل هما شقان لجسم واحد مفتقر بعضه إلى بعض ليتمَّ له الكمال بالاجتماع. وهذا الانجذاب الغريزي الذي أوجده الله في كل المخلوقات الحيَّة — حتى في النباتات التي يُشاهَدُ في بعضها حركة محسوسة بين الذكر والأنثى إذا آن وقت التلقيح على طريقة حار في تفسيرها علماء الطبيعة — هو أهم عنصر يدخل في تركيب الحبِّ، وهو يكفي لحدوث الميل بين الرجل والمرأة، ولا يختلف في الإنسان عن الحيوان، أمَّا أصل هذا الانجذاب وطبيعته وسببه فهو أمر لا يزال غامضًا كأصول كل الأشياء تقريبًا، وإنما يرجِّح قسم من العلماء أنه سيَّال يتولَّد في المراكز العصبية، فمتى وُجِدَ هذا الانجذاب بين رجل وامرأةٍ، شعرا بضرورة اقترابهما، فإذا تلاقيا أخذت كلًّا منهما هزَّة الفرح، تتكلَّم عيونهما، وتترجم عن الاضطرابات التي تهيِّج قلوبهما قبل أن ينطق اللسان، كأن روحيهما صديقتان افترقتا في عالم قبل هذا العالم وأخذت كل واحدة منهما تبحث عن الأخرى حتى إذا التقتا؛ وجدتْ كل منهما ضالتها التي كانت تنشدها؛ وتنشأ فيهما بعد اللقاء آمال وأمانٍ أكبر من مجرَّد التلاقي فتختلطان ويحدث بينهما شبه العهد على ألا تفترقا. ترى كل واحدة منهما أن لا سعادة لها إلَّا باتصالها بالأخرى. لكن هذا الانجذاب المادي لا يلبث مدَّة حتى يأخذ في التلاشي ويتناقص شيئًا فشيئًا. فمهما كانت شدَّة الرغبة عند أول التلاقي فهي صائرة إلى الزوال في زمن يختلف طوله وقصره باختلاف الأمزجة، وتضمحل تلك الآمال وتتساقط تلك الأماني، ويكاد التقاطع يحلُّ محلَّ التواصل لولا ما اختصَّ الله به الإنسان من القدرة على استدامة تلك العاطفة، والاستزادة من لذَّة الوصال بما يستجلي من بهاء الأرواح وسناء العقول، فهو يضمُّ إلى المنظر البديع الجسماني منظرًا آخر قد يكون أبدع في اعتباره، وهو المنظر الروحاني العقلي، وكثيرًا ما يستبدل لذَّة الحسِّ التي لا بقاء لها بلذَّة العقل والوجدان التي لا تنتهي أطوارها، ولا تفنى مظاهرها، يستهويه الحبُّ لمشهد الوجه الجميل وسواد العيون ورشاقة القدِّ وطول الشعر، ولكن يمتزج العشق بروحه حتى يكون كأنه طبْع لها إذا وُجِدَ بجانب ذلك الجمال لطف الشمائل، ورقة الذوق، وبهاء الفطنة، ونفاذ العقل، وسعة العرفان، وحسن التدبير، والحذق في العمل، مع المحافظة على النظام فيه، ونظافة الباطن والظاهر، وحنو القلب، وصدق اللسان، وطهارة الذمَّة، وعظم الأمانة، والإخلاص في الولاء ونحو ذلك من الفضائل المعنويَّة التي تُرجَّح عند العقلاء على جميع المحاسن الجسمانية، ووجدان اللذَّة بهذه المعاني عنصر آخر يدخل في تركيب الحب أيضًا؛ ومن هذين العنصرين يتركَّب الحبُّ التام. وأمَّا ما يُروَى من أن رجلًا عشق امرأة عشقًا روحانيًّا محضًا أو أن آخر عشق أخرى للذة الماديَّة ليس إلَّا بدون اعتبار تلك الصفات الأدبيَّة؛ فقد يكون لأن الأول رجل خيالي، والثاني رجل جاهل شهوي، على أن التجارب دلَّت على أن هذه الشهوات البتراء ليس لها حظ من البقاء؛ فهي كالنار ذات اللهب تهبُّ وتنطفي بسرعة. اللذة الجسمانية المتَّحدة في النوع مهما تخالفت في الأفراد فهي دائمًا واحدة؛ فإن أفراد اللذة المتَّحدة في النوع تتشابه إلى حدٍّ تكاد لا تتميَّز إلَّا باختلاف الزمان أو المكان مثلًا، فما يحصل منها أولًا هو ما يحصل ثانيًا وثالثًا ورابعًا وهكذا. ومن البديهي أن تكرار لذَّة بعينها مهما كانت سواء كانت لذَّة نظر، أو لذَّة سمع، أو لذَّة ذوق، أو لذَّة لمس يفضي في الغالب إلى فقد الرغبة فيها، فيأتي زمن لا تتنبه الأعصاب لها لكثرة تعوُّدها عليها، والأمر بخلاف ذلك بالنسبة للذَّة المعنويَّة، هذه اللذَّة في طبيعتها أنه يمكن تجدُّدها في كلِّ آن، تأمل في مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى، متى تلاقيا يفرغ كل منهما روحه في روح الآخر، فيسري عقلاهما من موضوع لموضوع، وينتقلان من الجزئيات إلى الكليات، ويمرَّان على الآلام والآمال والقبيح والحسن والناقص والكامل، كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يكسب عقليهما غذاءً جديدًا، ويفيد نفسيهما لذَّة جديدة. كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقليَّة والوجدانية، وكلُّ ما تحلَّت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة تنعكس منه على نفس الآخر لذَّة جديدة، ويزيد في رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة. ومن هنا يُعلَمُ مقدار سلطان الحب الحقيقي على الإنسان، وكيف أن العارف يعتبر العثور على ذلك الحب الشريف من أكبر السعادات في هذه الدنيا، فإن كان المال زينة الحياة؛ فالحب هو الحياة بعينها. فهذا الحبُّ لا يمكن أن يوجد بين رجل وامرأة إذا لم يوجد بينهما تناسب في التربية والتعليم، ولا يجب أن يُفهَمَ أن الرجل المتعلِّم إذا لم يحب زوجته فهي يمكنها أن تحبَّه، فإن توهُّم ذلك يُعدُّ من الخطأ الجسيم؛ لأن الحب الحقيقي الذي عرفت عنصريه المادي والمعنوي لا يبقى إلَّا بالاحترام، والاحترام يتوقَّف على المعرفة بمقدار مَن تحترمه، والمرأة الجاهلة لا تعرف مقدار زوجها. سل جمهور المتزوِّجين هل هم محبوبون من نسائهم يجيبونك نعم، لكن الحقيقة غير ما يظنون — إني بحثت كثيرًا في عائلات مما يُقال إنها في اتفاق تام، فما وجدت إلى الآن لا زوجًا يحبُّ امرأته، ولا امرأة تحبُّ زوجها، أمَّا هذا الاتفاق الظاهري الذي يُشاهَدُ في كثير من العائلات فمعناه أنه لا يوجد شقاق بين الزوجين، إمَّا لأن الزوج تعب وترك، وإمَّا لأن المرأة تركت زوجها يتصرَّف فيها كما يتصرَّف المالك في ملكه، وإما لأنهما الاثنان جاهلان لا يدركان قيمة الحياة، وهذه الحال الأخيرة هي حال أغلب الأزواج المصريين، ولا أرى ما يقرب من السعادة إلَّا في هذا النوع الأخير، وإن كانت سعادة سلبية لا قيمة لها. أمَّا في النوعين الأوَّلين فقد اشتُرِي الوفاق بثمن غالٍ، وهو فناء أحد الزوجين في سبيل إبقاء الآخر، وغاية ما يمكن أن أسلِّم به هو أنه قد يُشاهَدُ في عدد قليل من الأزواج شيء يقرِّب من المودة يظهر في بعض الأحيان ثمَّ يختفي، وهو استثناء يؤيِّد القاعدة وهي عدم الحب: عدم الحب من طرف الزوج؛ لأن امرأته متأخرة عنه في العقل والتربية تأخُّرًا فاحشًا بحيث لا يكاد توجد مسألة يمكن أن يتحدَّثا فيها لحظة بسرور متبادل، ولا يكاد يوجد أمر يتَّفقان في الحكم عليه برأي واحد، ولأنها بعيدة عن العواطف والمعاني والأشغال التي يميل إليها، ومغمورة في شئون ليس لها من ميله نصيب، حتى إنها في الأمور التي هي من عملها وترى أنها خُلِقَت لأجلها لا يرى منها زوجها ما يروق نظره، فأكثر النساء لم يتعوَّدن على تسريح شعرهن كل يوم، ولا على الاستحمام أكثر من مرَّة في الأسبوع، ولا يعرفن استعمال السواك، ولا يعتنين بما يلي البدن من الملابس مع أن جودتها ونظافتها لها أعظم تأثير في استمالة الرجل. ولا يعرفن كيف تتولَّد الرغبة عند الزوج وكيف يُحَافَظُ عليها، وكيف يمكن تنميتها، وكيف تكون موافاتها؛ ذلك لأن المرأة الجاهلة تجهل حركات النفس الباطنة، وتغيب عنها معرفة أسباب الميل والنفور، فإذا أرادت أن تستميل الرجل جاءت في الغالب بعكس ذلك. وأمَّا عدم الحب من طرف المرأة؛ فلأنها لا تذوق معنى الحب، ولو أردنا أن نحلِّل إحساسها بالنسبة لزوجها نجد أنه يتركَّب من أمرين: ميل إليه من حيث هو رجل أُبِيح لها أن تقضي معه شهواتها، وشعور بأن هذا الرجل نافع لها للقيام بحاجات معيشتها، أمَّا ذلك الامتزاج بين روحين اختارت كل منهما الأخرى من بين آلاف من سواهما امتزاجًا تامًّا يؤلِّف منهما موجودًا واحدًا، كأن كلًّا منهما صوت والآخر صداه، ذلك الإخلاص التام الذي يُنسِي الإنسان نفسه ولا يدع له فكرًا إلَّا في صاحبه؛ ذلك الإخلاص الذي لا نجد له مثالًا أظهر من حب الوالدة لوالدها — فهي بعيدة عنه بُعدَ السماء عن الأرض؛ لأن الحب بهذه الدرجة إن لم يكن طبيعيًّا كحب الأم لولدها فهو ثمرة عزيزة لا تُطلَبُ إلَّا عند النفوس العالية التي تغلَّبت فيها العواطف الكريمة على الاستئثار. والزوجة المصريَّة مهما كانت لا تعرف من زوجها سوى أنه طويل أو قصير، أبيض أو أسود، أمَّا قيمة زوجها العقليَّة والأدبية، وسيرته، وطهارة ذمَّته، ودقَّة إحساسه ومعارفه وأعماله ومقاصده في الوجود، وكل ما تُصاغ منه شخصية الرجل منا ويصير به إلى أن يكون محترمًا محبوبًا ممدوحًا في أمته — فهذا لا يصل إلى عقلها شيء منه، وإن وصل فلا يؤثِّر على منزلته في نفسها، وعلى هذا يكون أول مَن يجهل الرجل زوجته. فكيف يظنُّ أنها تحبه؟ نرى نساءنا يمدحن رجالًا لا يقبل رجل شريف أن يمدَّ لهم يده ليصافحهم، ويكرهن آخرين ممن نعتبر وجودهم شرفًا لنا؛ ذلك لأن المرأة الجاهلة تحكم على الرجل بقدر عقلها، فأحسن رجل عندها هو مَن يلاعبها طول النهار وطول الليل، ويكون عنده مال لا يفنى لقضاء ما تشتهيه من الملابس والحلي والحلوى، وأبغض الرجال عندها مَن يقضي أوقاته في الاشتغال في مكتبه، كلَّما رأته جالسًا منحني الظهر مشغولًا بمطالعة كتاب؛ غضبت منه ولعنت الكتب والعلوم التي تسلب منها هذه الساعات، وتختلس الحقوق التي اكتسبتها على زوجها، ومن هذا يتولَّد على الدوام نزاع لا ينتهي إلَّا بنزاع جديد، ولا يدري الزوج المسكين ماذا يصنع إذا أراد أن يجمع بين هذين العدوين: الزوجة، والعلم. أراه في حيرة أشدَّ من الرجل الذي جمع بين زوجتين؛ فقد رأينا أحيانًا كثيرة مظاهر الوفاق بين زوجتين لرجل واحد. وما سُمِعَ قط أن امرأة مصرية ممن نعني رضيت بمباشرة العلم. ومن البديهي أن الرجل الذي يكون هذا حاله ينتهي بفقد كل استعداد للعمل؛ لأن العلم لا يثمر إلَّا إذا كان العقل متمتعًا بالهدوء والسكون، خاليًا من الاضطراب والتشويش؛ ولأن الرجل يطلب راحته وهي في يد امرأته ولكنها تبخل بها عليه. رأينا مما تقدَّم أن المرأة المصريَّة لا تجد ذوق الحبِّ خصوصًا إذا كان زوجها متعلِّمًا يصرف وقته في الأعمال النافعة. قد يُقَال إن الحب الذي تكلَّمت عنه هو من كمال السعادة وليس من الأمور الضرورية التي لا يُستغنَى عنها في الزواج، وأنه عند فقده يمكن أن يُعوَّض بصفات أخرى عند الزوجة، ويكفي أن المرأة تكون رفيقة لزوجها شريكة له في المنافع والمضار؛ ولذلك فهي تساعده على حاجات الحياة ليتمَّ له بعض السعادة — هذا يمكن أن يكون، ولكن كيف الوصول إليه أيضًا مع جهل المرأة؟ قلت إن المرأة الفلاحة مع جهلها هي زميلة الرجل في كل أعماله، وهي قائمة بخدمة منزلها، ومساعدة زوجها. ذلك سهل؛ لأن العيشة في الأرياف ساذجة بدوية تقريبًا، وحاجات العائلة قليلة، أمَّا في المدن التي ترقَّت فيها المعيشة، وكثرت الحاجات، وتشعَّبت طرق المنافع، وبلغت فيها إدارة المنزل إلى درجة إدارة مصلحة من كبار المصالح، فالمرأة التي يُسلَّمُ إليها زمامها لا يمكنها أن تديرها إلَّا بالتعليم والتربية. والحقيقة أن إدارة المنزل صارت فناءً واسعًا يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة؛ فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمصرف بقدر ما يمكن من التدبير؛ حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة، وعليها مراقبة الخدم بحيث لا يفُلتون لحظة من مراقبتها، وبغير هذا يستحيل أن يؤدُّوا خدمتهم كما ينبغي، وعليها أن تجعل بيتها محبوبًا إلى زوجها؛ فيجد فيه راحته ومسرته إذا آوى إليه، فتحلو له الإقامة فيه، ويلذُّ له المطعم والمشرب والمنام فلا يطلب المفرَّ منه ليمضي أوقاته عند الجيران أو في المحلات العمومية، وعليها — وهو أول الواجبات وأهمها — تربية الأولاد جسمًا وعقلًا وأدبًا. وظاهر أن تطبيق هذه الواجبات التي ذكرتها بالإجمال على العيشة الجارية بالتفصيل يستدعي عقلًا واسعًا ومعلومات متنوعة وذوقًا سليمًا، ولا يتأتى وجود ذلك في المرأة الجاهلة، وخصوصًا ما يتعلَّق منها بتربية الأطفال. بالغنا في نسيان أن الأولاد هم صناعة الوالدين، وأن الأمهات لهنَّ النصيب الأوفر في هذه الصناعة، بالغنا في اعتقاد أن الله يُخرِج الفاسد من الصالح، ويُخرِج الصالح من الفاسد، وأنه يوزِّع العقول ويهب الصفات كما يشاء، وهو اعتقاد صحيح إذا أُخِذَ من جهة أن الله قادر على كل شيء، ومن متناول قدرته أن يفعل مثل ذلك، فإن كان المقصود أن الله يمكنه أن يفعل مثل هذا فلا شكَّ في قدرته سبحانه وتعالى، وليس مَن ينازع في أنه لو شاء فعل ذلك، كما أنه لو شاء لجعل الناس أمَّة واحدة ولأنبت الحيوان من الأرض، لكن الله وضع للعالم سُنَّة، وللحياة نظامًا، وللمخلوقات نواميس تجري عليها أحكامها. فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وتاريخ الإنسانيَّة من عهد وجودها على الأرض إلى الآن أيَّد ثبات هذه السنن واستمرارها. من أكبر مظاهر حكمته — جلَّ شأنه — هذه الحقيقة التي كشفها لنا العلم، وهي أن كلَّ فرد من الأنواع الحيَّة — وفيها النوع الإنساني — ليس إلَّا نسخة مطابقة للأصل المتولِّد منه؛ ففيه صورة نوعه الكلي، وفيه صورة والديه خصوصًا، بمعنى أن هذا الفرد يحتوي أولًا على الخواص المميِّزة لنوعه، وعلى الصفات الخاصة بأبويه. ودلَّت الاكتشافات الحديثة أيضًا على أن كل المَلَكات العقليَّة والأدبيَّة في الإنسان إنما هي مظاهر من وظائف المخ، كما أن الصفراء من عمل وظيفة الكبد، وما يُسمَّى عقلًا أو عاطفة فلا عمل له إلَّا عمل تلك الوظائف، وعملها تابع لحالة الأعصاب والمخ، وإنما مادة تلك الأعضاء منتزعة من الأصل الذي تولَّدت منه، فلا ريب أن يكون لها تبعية عظمى لذلك الأصل، ثمَّ من الظاهر أن الجسم لا يستغني في نموه وبقائه بما دخل فيه من تلك المادة الأولى، بل لا بُدَّ في النمو والبقاء من التربية والغذاء، فكذلك حال العقل والمَلَكات لا يستغني بما أودعته المدارك والقوى من الاستعداد الأول بل لا بُدَّ في ظهور أثرها وسيرها فيما أُعِدَّت له من الغذاء الذي يوافقها، والتربية التي تلائمها. فالوراثة والتربية هما الأصلان اللذان ترجع إليهما شخصية الطفل ذكرًا كان أو أنثى، وليس هناك شيء وراء ذلك. فبالوراثة يُكسَبُ الطفل استعدادًا لكل ميل كان عليه الوالدان صالحًا كان أو فاسدًا، ويرتكز فيه ذلك الاستعداد وهو في بطن أمه؛ فصفات الطفل مرتبطة بما كان عليه أسلافه من جهة الأم ومن جهة الأب، وبالتربية يمتلئ ذهن الطفل بالصور الواردة عليه من الإحساس، وبأثرها في نفسه ألمًا كان أو لذَّة، وتعرُّض حسُّه لقبول هذه الصور موكول إلى إرادة مربيه؛ فهو الذي يريه ويُسمعه ويذيقه ويفيده كل معلوم، وهو الذي يعرض على وجدانه من العواطف ما يراه لائقًا به، فإن لم يرد عليه من صور المحسوسات إلَّا ما هو قليل غير متبوع بما ينشأ عنه من العواقب البعيدة، أو لم يشعر من العواطف إلَّا بما يظهر أثره في أقرب الأشياء من لذَّته الجسمانية كان سريع الاندفاع مع أول خاطر يبدو له كما يفعل الطفل والمتوحِّش والمجنون، وإن كانت معلوماته كثيرة تحتوي على صور الأشياء وصور ما يحدث عنها لأول التصوُّر وما ينشأ عنها فيما بعد ذلك، وكان وجدانه رقيقًا لطيفًا كان الناشئ كثير التأمُّل، شديد التبصُّر، بطيء الاندفاع مع أوَّل انفعال يتأثَّر به من الحسِّ والشعور؛ فينشأ وبيده ميزان يزن به أعماله، ويقدِّر به حركاته، ويشاهد فيه وهو في صباه الميل إلى النافع والنفرة من الضار. لا نقول إن الطفل يكون في ذلك كما يكون الرجل البالغ الرشيد، ولكنها أوائل وجراثيم من الكمال العقلي والأدبي تصل بالتنمية والتربية إلى تلك الغايات الشريفة التي يسعى إليها كلُّ مَن عرف معنى الإنسانيَّة، وذاق لذَّة الفضيلة. فسلامة العقل لا تتمُّ إلَّا بحسن الوراثة، وحسن التربية؛ وهذا ما جعل العلماء ينسبون اليوم كلَّ فساد في الأخلاق إلى مرض في المخ أو في الأعصاب موروث أو مكتسب. وإن شُوهد أن الولد لا يشابه أبويه في بعض الأحوال؛ فذلك إنما لأن قانون الوراثة قد يرجعه إلى أحد أسلافه القريبين. متى حسنت التربية على الوجه الذي ذكرناه ضعف الاستعداد الذي كسبه الطفل من والديه إن كان رديئًا، وتأصَّل فيه استعداد جديد يرثه عنه مَن يتولَّد منه، ويقوى فيه ذلك الاستعداد إن كان حسنًا؛ فيبلغ غاية ما يُرجَى لإنسان فاضل من أبوين فاضلين، ويظهر أثر ذلك أيضًا في أولاده وأعقابه إن استمرَّ نظام التربية فيهم على الوجه الذي صار به هذا الوالد رجلًا صالحا، أمَّا إن كانت التربية فاسدة، وكلُّ ما يرد على الطفل إنما يثير فيه أهواء باطلة؛ فالاستعداد الخبيث يقوى، والاستعداد الطيب يضمحل ويموت؛ ويجني على أولاده تلك الجناية التي جناها عليه والداه. قال الغزالي في التربية عبارة جميلة مختصرة اشتهيت أن أوردها هنا وهي: «الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكلِّ ما يُنقَش، ومائل إلى كل ما يُمَال إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه وعَلِمه؛ نشأ عليه وسعد في الدُّنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكلُّ معلِّم له ومؤدِّب، وإن عُوِّد الشرَّ، وأُهمِلَ إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.» والتربية تنحصر في أمر واحد، هو تعويد الطفل على حُسْنِ الفعل، وتحلية نفسه بجميل الخصال، والوسيلة إلى ذلك واحدة: هي أن يشاهد الطفل آثار هذه الأخلاق حوله؛ لأن التقليد في غريزة الطفل يكتسب به كل ما تلزم معرفته، فإن كانت الأم جاهلة تركت ولدها لنفسه يفعل ما يزيِّنه له عقله الصغير وشهواته الكبيرة، ويرى من الأعمال ما لا ينطبق على محاسن الأدب؛ فيتخلَّق بالأخلاق القبيحة، ويعتاد العوائد الفاسدة. ويرى الأسوة السيئة في بيته وفي الخارج، وكلَّما تقدَّم في السنِّ رسخت فيه هذه الأخلاق، وكبرت معه بكبره، فإذا وصل إلى سنِّ الرجولية؛ رأى نفسه أو رآه الناس رجلًا سيئ التربية، ولا سبيل له بعد ذلك إلى إصلاح نفسه مهما كانت إرادته ومعارفه وعقله، ويندر جدًّا أن يوجد شخص يبتدئ بعد بلوغه سنَّ الرجولية في إصلاح ما فسد من مَلَكاته ثمَّ ينجح في ذلك، اللهم إلَّا إلى حدٍّ محدود. ومن المعلوم أن الطفل لا يعيش من طفوليته إلى سنِّ التمييز إلَّا بين النساء؛ فهو دائمًا محاط بأمه وأخواته وعماته وخالاته وخادماتهن وصواحباتهن، ويرى أباه في أوقات قليلة، فإذا كان هذا الوسط الذي ينشأ فيه طيبًا، كانت تربيته طيبة، وإن كان سيئًا، ساءت تربيته، والأم الجاهلة ليس في استطاعتها أن تصبغ نفس ولدها بصبغة الصفات الجميلة؛ لأنها لا تعرفها، وغاية ما تستطيع هو أنها تدعه يلتقط الخلال الرديئة بما يعرض له إن لم تبذر بيدها حبوبها في نفسه، وتغرس فيها الملكات السيئة. أليس من جهل الأم بقوانين الصحة أن تهمل ولدها من النظافة؛ فيعلوه الوسخ، وتتركه متشرِّدًا في الطرق والأزقة يتمرَّغ في الأتربة كما تتمرَّغ صغار الحيوانات؟ أليس من جهلها أن تدعه كسلان يفرُّ من العمل، ويضيع وقته — الذي هو رأس ماله — مضطجعًا أو نائمًا أو لاهيًا مع أن سنَّ الطفولية لا يعرف الكسل؛ وهو سنُّ النشاط والعمل والحركة؟ أليس من أثر جهلها أننا جميعًا مصابون بشلل في أعصابنا حتى صرنا لا نتأثَّر من شيء مهما بلغ في الحسن والقبح. فإذا رأينا عملًا جميلًا مدحناه من طرف اللسان، وإذا شاهدنا فعلًا قبيحًا استهجناه بهزِّ الرءوس، وظاهر من القول، بدون أن نشعر بانبعاث باطني يقهرنا على الاندفاع إلى الأول، ولا على الابتعاد على الثاني؟ أليس من جهلها أن تسلك في تأديب ولدها طريق الإخافة بالجنِّ والعفاريت، وأن تأخذ من وسائل صيانته ووقايته من المُضرَّات تعليق التعاويذ والطواف به حول القبور وفي زوايا الأضرحة وغير ذلك مما لا يبالي به الجاهلون بأصول الدين وفضائل الأعمال وله من الأثر السيئ في أنفس الناشئين بل وفي أرواح الرجال ما يجرُّ إلى كل شرٍّ ويبعد عن كل خير؟ قد صار من المقرَّر عندنا أن الأمهات لا يفلحن في تربية الأولاد حتى صار من المثل في الحطة ورداءة السير أن يُقال فلان تربية امرأة — على أننا نرى أن تربية المرأة في البلاد الغربيَّة تفوق تربية الرجل، وأن أحسن الناس تربية هم مَن ساعدهم الدَّهر في أن تتولَّى تربيتهم امرأة، وليس هذا بغريب؛ فإن المرأة تمتاز على الرجل بغرائز طبيعية هي بها أقوى استعدادًا للنجاح في التربية؛ ذلك أنها أصبر من الرجل فيما تحبُّ، وأنها ألطف منه في المعاملة، وأرق منه في العواطف والإحساسات، ويفتخر الغربيون بتأثير النساء في أحوالهم حتى بعد بلوغ رشدهم؛ فقد قرأت في أحد كتب رونان الفيلسوف الشهير ما محصِّله: «إن أجمل ما وضعه في مؤلفاته كان إلهامًا من أخته.» وقال ألفونس دوديه الكاتب المجيد في بعض ما كتبه: «إن كنتُ أستحق فخرًا فلامرأتي نصفه.» وأمثال هذه الشواهد كثيرة يعلمها كلُّ مَن اطلع على أحوال الأوروباويين، وكلُّها تدلُّ على أن تربية المرأة أمر لا يُستغنَى عنه، وأن القسم الأعظم منها منوط بالمرأة. وقد نجد في هدي نبينا ما يشير إلى ذلك، بل كان يجب أن يُعدَّ أصلًا من الأصول التي نركن إليها في بناء أمورنا الملِّيَّة؛ حيث قال في شأن عائشة — رضي الله عنها: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء.» وعائشة امرأة لم تؤيَّد بوحي ولا بمعجزة وإنما سمعت فوعت، وعلمت فتعلَّمت. أودُّ أن كلَّ مصري يرى أن مسألة التربية عندنا هي أمُّ سائر المسائل، وأن كل مسألة غيرها مهما كانت أهميتها داخلة فيها. عُرِفَ المصريون بعوائد وأخلاق استفادوها من حوادث تاريخية ليس هذا محلُّ ذكرها، تلك العوائد والأخلاق ليست معروفة في الدين، ولا هي موافقة لما يستحسنه العقلاء حتى من المصريين أنفسهم، وقلَّ ما يُشاهَدُ مثلها عند غيرهم. وقد آن الوقت — على ما أظن — لتربية نفوسنا تربية صحيحة متينة علمية، تربية تنشئ رجالًا أولي علم، وأصالة رأي يجمعون بين المعارف، والأخلاق، والعلم والعمل، تربية تنقذنا من جميع العيوب التي يقذفنا بها الأجنبي في كل يوم وبكل لسان، وكلُّها ترجع مهما اختلفت في الاسم إلى سبب واحد؛ وهو النقص في تربية نفوسنا، وقد اتفق جميع أهل النظر في مصر على أن التربية هي الدواء الوحيد لذلك الداء، وانتشر هذا الرأي الصائب في الكتب والجرائد وأحاديث المجالس حتى صحَّ أن يُقال إنه أصبح رأيًا عامًّا، وتولَّد عن ذلك شعور بأن مستقبل الأمَّة تابع لتربيتها. ولكن أرى همم الناس موجَّهة إلى التعليم، ولا أرى أحدًا يلتفت إلى تربية النفوس، وأرى أن الحرص على التعليم منحصر في تعليم الذكور، مع أن تهذيب الأخلاق مُقدَّم على التعليم، وتعليم البنات مُقدَّم على تعليم الذكور. ولست ممن يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم؛ فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن — ولا أتردَّد في الطلب — أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل، وأن يُعتنَى بتعليمهن إلى هذا الحدِّ مثل ما يُعتنَى بتعليم البنين. أمَّا ما يتعلَّمه بعض البنات الآن فأراه غير كافٍ؛ لأنهنَّ يتعلَّمن القراءة والكتابة بالعربية وبلغة أجنبية، وشيئًا من الخياطة والتطريز والموسيقى ولا يتعلَّمن من العلوم ما يستفدن منه فائدة يُلتفَتُ إليها، وربما زادتهن تلك المعارف غرورًا بأنفسهنَّ؛ فتظنُّ الواحدة منهن أنها متى عرفت أن تقول نهارك سعيد باللغة الفرنساويَّة فقد فاقت أترابها وارتفع شأنها وسما عقلها، ولا تتنازل بعد ذلك لأن تشتغل بعمل من الأعمال المنزلية؛ فتقضي حياتها في تلاوة أقاصيص وحكايات قلَّ ما تفيد إلَّا في إثارة صور من الخيالات تطوف بها وتتمثَّل لها عالمًا لطيفًا تسرِّح فيه طرفها وهي شاخصة إلى دخان السجارة التي تقبض عليها. أكثر ما تعرفه المرأة التي يُقال الآن إنها متعلِّمة هو القراءة والكتابة، وهذه واسطة من وسائط التعليم وليست غاية ينتهي إليها، وما بقي من معارفها فهي قشور تجمعها الحافظة في ريعان العمر ثمَّ تنفلت منها واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى شيء. أين هذه القشور من الحقائق العلميَّة التي يتغذى منها العقل ويتقوى بها على مطاردة الوهم — لا شيء ينفع الإنسان مثل اكتسابه ما يُسمَّى عقلًا عمليًّا، أريد بذلك ما يقابل التخيُّل — الذي يعيش به صاحبه في أوهام وهواجس لا ترجع إلى حق ثابت؛ فإن كل مصائب الإنسان تأتي له من باب واحد وهو الخيال، كلَّما تجرَّد الإنسان عن الأوهام والخيالات قرب من السعادة، ويبعد عنها بقدر ما يبعد عن الحقيقة. الحقيقة هي ضالة الإنسان في العالم، ويجب عليه أن يسعى وراءها بلا قصور ولا تعب، الحقيقة هي الكنز الذي أودع الله فيه كل آمال الإنسان لا يجدها إلَّا مَن رغب فيها ومال عن سواها، الحقيقة هي مشرق السعادة؛ لأنها الوسيلة وحدها لوصول الإنسان إلى كمال العقل والنفس، والنساء مثل الرجال في الحاجة إلى معرفة الحقيقة، وإلى اكتساب عقل سليم يحكم على نفوسهنَّ ويرشدهنَّ في الحياة إلى الأعمال الطيبة النافعة. انظر إلى الطفل تجده يشتهي وينفر، ويحبُّ ويكره، ويفرح ويحزن، ويضحك ويبكي، ويسكن ويغضب، وهو في كل ذلك إنما ينفعل بحسٍّ، وينبعث بوهم، وينقاد إلى خيال، وإذا أراد شيئًا فمُنِعَ عنه لم يستعمل للوصول إلى غرضه إلَّا شيئًا من الغشِّ والمكر والكذب. لِمَ ذلك؟ لأن عقله ضعيف ومعارفه قليلة، ولم تصل قواه العقليَّة إلى درجة تتمكَّن فيها من المقياس والموازنة بين الأعمال والرغائب والآلام حتى تحمله على الصبر أحيانًا، وطلب المرغوب من أبوابه ووسائله الصحيحة أحيانًا أخرى، والمرأة الجاهلة مثلها مثل الطفل فيما ذكرنا. سلب الرجال ثقتهم من النساء، واعتقدوا أنهنَّ أعوان إبليس، فلا تسمع إلَّا ذمًّا لخصالهنَّ، وتنقيصًا لعقلهنَّ، وتحذيرًا من مكرهنَّ، وأنا لا أبرئ النساء الآن من هذه الصفات، ولكن أرى أن التبعة ليست عليهن بل على الرجال. هل صنعنا شيئًا لتحسين حال المرأة؟ هل قمنا بما فرضه علينا العقل والشرع من تربية نفسها وتهذيب أخلاقها وتثقيف عقلها؟ أيجوز أن نترك نساءنا في حالة لا تمتاز عن حالة الأنعام؟ أيصحُّ أن يعيش النصف من أمتنا في ظلمات من الجهل بعضها فوق بعض لا يعرفن فيها شيئًا مما يمرُّ حولهنَّ كما في الكتاب صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون؟ أليس بينهن أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا، وهنَّ زينة حياتنا الدُّنيا والجزء الذي لا يمكن فصله منا دمنا من دمهنَّ ولحمنا من لحمهنَّ؟ أليس الرجال من النساء والنساء من الرجال وهنَّ نحن ونحن هنَّ؟ أيتمُّ كمال الرجل إذا كانت المرأة ناقصة؟ وهل يسعد الرجال إلَّا بالنساء؟ نحن حرمنا أنفسنا من أكبر لذَّة في الدُّنيا؛ وهي التمتُّع بمحبة ذوي القربى من النساء. كلٌّ منا يذوق حلاوة الساعات التي تمرُّ به بدون أن يشعر بها حينما يطول الحديث بينه وبين صديق له، وتختلط نفساهما بعضها ببعض حتى يذهل كلٌّ عن أيهما يتكلَّم وأيهما يسمع؛ فهذا السرور يتضاعف بلا شكٍّ إذا وُجِدَ هذا التوافق بين رجل وأمه أو أخته أو زوجته، ولكن يحول الآن بيننا وبينهنَّ عدم التوافق بين عقولنا وعقولهنَّ ونفوسنا ونفوسهنَّ؛ ولهذا فإنا نشفق عليهنَّ ونحنُّ إليهنَّ ونعذرهنَّ، ولكن لا تكمل محبتنا لهنَّ؛ لأن الحبَّ التام هو ذلك التوافق، وهو معدوم. والإنسان محتاج إلى أن يكون محبًّا، وأن يكون محبوبًا، ومن فضل الله عليه أن وضع بجانبه أمهات وزوجات وغرس في قلوبهنَّ محبته، وفي قلبه محبتهنَّ، وهذه أكبر نعمة منَّ الله علينا بها؛ لأن هذه المحبَّة النقيَّة الطاهرة الكاملة إذا صُرِفَت فيما وُضِعَت له كانت المسليَّة لنا في سجن الحياة، وهوَّنت علينا الآلام والمصائب التي لولا هذه التسلية لأفضت في بعض الأوقات بأقوى رجل منا إلى اليأس؛ فعدم تقديرها قدرها وانصراف العناية عن تنميتها وتكميلها كفران بنعم الله وتقصيرٌ في شكره. بقي علينا أن ندفع اعتراضًا لا يمكننا السكوت عنه؛ لأنه في الحقيقة هو المانع الوحيد الذي اتَّفقت أغلب العقول على وضعه حاجزًا يحول بين المرأة والتعليم، وهو الخوف من أن التعليم يفسد أخلاقها. رسخ في أذهان الرجال أن تعليم المرأة وعفتها لا يجتمعان، وقال الأقدمون في ذلك أقوالًا طويلة، وحكايات غريبة، ونوادر سخيفة استدلُّوا بها على نقصان عقل المرأة واستعدادها للغشِّ والحيلة، فلو تعلَّمت لم يزدها التعليم إلَّا براعة في الاحتيال والخدعة، واسترسالًا مع الشهوة. فحذونا مثالهم واعتقدنا أن التعليم يزيد تفنُّنها في المكر، ويعطيها سلاحًا جديدًا تتقوَّى به طبيعتها الخبيثة على ارتكاب المفاسد. أمَّا أن المرأة الآن ناقصة العقل شديدة الحيلة فهذا مما لا يختلف فيه اثنان، وقد بيَّنا أن هذه الحالة هي أثر من آثار الجهل والانحطاط اللذين عاشت فيهما أجيالًا طويلة، وأنه متى زال السبب فلا شكَّ أن المسبِّب يتبعه، وأمَّا كون التعليم يفسد أخلاقها فهذا ننكره ونشدد النكير عليه؛ فإن التعليم — خصوصًا إذا كان مصحوبًا بتهذيب الأخلاق — يرفع المرأة، ويردُّ إليها مرتبتها واعتبارها، ويكمل عقلها، ويسمح لها أن تفتكر وتتأمَّل وتتبصَّر في أعمالها، وإن وقع أن امرأة تعرف القراءة والكتابة حادت عن الطريق المستقيم، وخاطبت حبيبها بالرسائل الغرامية فقد وقع أن ألوفًا من النساء الجاهلات دنَّسنَ عروضهنَّ، وكان الرسول بينهنَّ وبين رفيقهنَّ خادم، أو خادمة، أو دلالة، أو جارة عجوز. والحقيقة أن طهارة القلب في الغرائز والطبائع، فإن كانت المرأة صالحة زادها علمها صلاحًا وتقوى، وإن كانت فاجرة لم يزدها العلم فجورًا، وهكذا الحال في الرجال، وضلال فريق من الناس بضرب من ضروب التعليم لا يمنع من تعاطيه؛ فقد قال الله في شأن كتابه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ. فأثر التعليم لا يمكن أن يكون ضررًا محضًا، ولا يمكن أن يكون منشئًا حقيقيًّا لضرر، والمرأة المتعلِّمة تخشى عواقب الأمور أكثر مما تخشاه الجاهلة، ولا تقدم بسهولة على ما يضرُّ بحُسْنِ سمعتها، بخلاف الجاهلة فإن من أخلاقها الطيش والخفة، وأذكر ملاحظة واحدة تؤيِّد ما قدَّمته وهو أن نساء الإفرنج على العموم مهما كان حالهنَّ في الباطن يحافظن على الظواهر، فيعيش الواحد بين رجل وامرأة يحبُّ بعضهما بعضًا أيامًا وأشهرًا ولا يكاد تقع منهما هفوة تظهر ما كان خافيًا بينهما، وتراهنَّ في الطريق سائرات مرتديات بجلابيب الجِدِّ والسكينة والوقار يغضضن أبصارهنَّ عن الرجال، وإن نظرن إليهم فمن طرف خفي. أمَّا نساؤنا العفيفات فيغلب فيهنَّ أن يكون باطنهنَّ خيرًا من ظاهرهنَّ، ومتى رأت الواحدة منهنَّ رجلًا نظرت إليه وتأمَّلته والتفتت نحوه ولوت عنقها إليه، ولا شعور لها بأن مثل هذه الحركات التي تصدر منها من غير تمييز تخلُّ بشأنها وتحطُّ من قيمتها واعتبارها، أمَّا الفريق الآخر من النساء في بلادنا ممن طرحن العفة وجرين مع الشهوة فلا تسل عما يصدر منهنَّ في الطرق والمجتمعات العامَّة من الأمور المخلَّة بالأدب التي يستحي القلم عن أن يجري برسمها، هذا الفريق من الأجانب يصعب تمييزه عن الحرائر إلَّا ببعض أمور يعرفها أهل الخلاعة. ثمَّ إن البطالة التي ألفتها نفوس النساء عندنا وصارت كأنها من لوازم حياتهن هي أمُّ الرذائل، إن كان نساؤنا لا يعملن شيئًا في المنازل، ولا يحترفن بصنعة، ولا يعرفن فنًّا، ولا يشتغلن بعلم، ولا يقرأن كتابًا، ولا يعبدن الله فبماذا يشتغلن حينئذٍ؟ أقول لك وأنت تعلم مثلي أن ما يشغل امرأة الغني والفقير والعالم والجاهل والسيد والخادم هو أمر واحد يتفرَّع إلى ما لا نهاية له، ويتشكَّل في كل آنٍ بشكل جديد، وهو ينبوع رضاها أو سخطها على حسب الأحوال — ذلك الأمر هو علاقتها مع زوجها؛ فتارة تتخيَّل أنه يكرهها، وتارة تظنُّ أنه يحبُّها، وأحيانًا تقارنه بأزواج جاراتها، فيخرج من هذا الامتحان الصعب كاسبًا أو خاسرًا، وأحيانًا تجرِّب ميله لتعلم هل تغيَّر أو هو باقٍ، وأحيانًا تدبِّر طريقة لتغيير قلبه على ذوي قرابته؛ لتنزع منه محبتهم إن كان ودودًا لهم، ولا تغفل عن مراقبة سلوكه مع الخادمات، وتراقب لحظاته عند دخول الزائرات، وتجعله دائمًا موضوع الشكِّ، ومن وسائل الاحتياط ألا تقبل الخادمة إلَّا إذا كانت من شناعة الصورة، وقبح المنظر، وبشاعة الهيئة بحيث يطمئن قلبها، وتأمن ميل زوجها إليها، ولا تستريح من هذا الشاغل إلَّا إذا أفرغته في أذن أخرى من أمثالها، فإذا فرغت من تصويره في العبارات رجعت إلى تمثيله في الخيالات وهكذا؛ لهذا ترى إذا اجتمعت مع جاراتها وصواحباتها تصاعدت مع دخان السجاير وبخار القهوة زفراتها، وارتفع صوتها، فنقص ما بينها وبين زوجها وأقارب زوجها وأصحاب زوجها وحزنها وفرحها وهمَّها وسرورها، وتفرغ كل ما في صدرها حتى لا يبقى سرٌّ من أسرارها — ولو كان متعلِّقًا بالفراش — إلَّا وقد أخبرت به. هذا إذا كانت المرأة محبَّة لزوجها. أمَّا إذا كانت لا تميل لزوجها، أو كانت غير متزوجة فأكرِّر سؤالي بماذا تشتغل حينئذٍ؟ أمَّا الأولى فإنها تفتكر في طريقة للخلاص من زوجها والبحث عن سواه، أمَّا الثانية فأعظم همها أن تشتغل كذلك بالبحث عن زوج أيًّا كان، ولا تضيع وقتها في حسن انتقاء الرجل الذي يصحُّ أن يكون لها زوجًا؛ فإنها إنما تطلب رجلًا، ومن البديهي أن المرأة التي يكون هذا حالها إن كانت فاسدة الأخلاق ووجدت فرصة لا تتأخر عن انتهازها، ولا تكلِّف نفسها عناء البحث عن صفات الرجل الذي تريد أن تقدِّم له أفضل شيء لديها، وهو نفسها. وعلى خلاف ذلك يكون أمر النساء المتعلِّمات، إذا جرى القدر عليهنَّ بأمر مما لا يحلُّ لهنَّ لم يكن ذلك إلَّا بعد محبة شديدة يسبقها علم تام بأحوال المحبوب وشمائله وصفاته، فتختاره من بين مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت، وهي تحاذر أن تضع ثقتها في شخص لا يكون أهلًا لها، ولا تسلِّم نفسها إلَّا بعد مناضلة يختلف زمنها وقوَّة الدفاع فيها على حسب الأمزجة، وهي في كل حال تستتر بظاهر من التعفُّف، وتخفي ما في نفسها عن أخصِّ الناس بها. والمعوِّل في كل ذلك هو — كما ذكرته فيما مضى — على الأخلاق التي نشأت عليها المرأة في تربيتها الابتدائية، فإن اعتادت على أن تشغل أوقاتها بالمطالعة، ومزاولة الأعمال المنزلية، وتربَّت بين أهل وعشيرة رأت فيهم أسوة الجد والاستقامة، وغاب من بينهم كل ما يؤثِّر في مشاعرها أثرًا غير صالح، أو يهيِّج حسَّها إلى أمر غير لائق، وتعوَّدت على أن تقيم من عقلها حاكمًا على قواها الحسيَّة، كان من النادر أن تحيد عن الطريق المستقيم، وأن تلقي بنفسها في غمرات الشهوات التي لا تسلم مهما كانت من الخطر والعذاب والندم. وبالجملة فإنا نرى أن تربية العقل والأخلاق تصون المرأة ولا يصونها الجهل، بل هي الوسيلة العظمى لأن يكون في الأمَّة نساء يعرفن قيمة الشرف وطرق المحافظة عليه، وأرى أن مَن يعتمد على جهل امرأته مثله كمثل أعمى يقود أعمى مصيرهما أن يتردَّيا في أول حفرة تصادفهما في الطريق.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/2/
حجاب النساء
سبق لي البحث في الحجاب بوجه إجمالي في كتاب نشرته باللغة الفرنساويَّة من أربع سنين مضت؛ ردًّا على الدوك داركور، وبيَّنت هناك أهم المزايا التي سمح لي المقام بذكرها، ولكن لم أتكلَّم فيما هو الحجاب، ولا في الحدِّ الذي يجب أن يكون عليه، وهنا أقصد أن أتكلَّم في ذلك. ربما يتوهَّم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرَّة، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلًا من أصول الأدب التي يلزم التمسُّك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلاميَّة، وهو على ما في تلك الشريعة يخالف ما تعارفه الناس عندنا؛ لما عرض عليهم من حب المغالاة في الاحتياط والمبالغة فيما يظنُّون عملًا بالأحكام حتى تجاوزوا حدود الشريعة، وأضرُّوا بمنافع الأمَّة. والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشُّف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصوَّن المرأة من التعرُّض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياة، وقد تغالينا نحن في طلب التحجُّب والتحرُّج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيَّرنا المرأة أداة من الأدوات، أو متاعًا من المقتنيات وحرمناها من كلِّ المزايا العقليَّة والأدبيَّة التي أُعِدَّت لها بمقتضى الفطرة الإنسانيَّة، وبين هذين الطرفين وسط سنبيِّنه — هو الحجاب الشرعي — وهو الذي أدعو إليه. إني أشعر أن القارئ الذي سار معي إلى هذه النقطة وتبعني فيما دعوته إليه من وجوب تربية النساء ربما يستجمع قواه لمقاومتي فيما أطلب من الرجوع بالحجاب إلى الحدِّ الشرعي، ويستنجد جميع الأوهام التي خزنتها في ذهنه أجيال طويلة ليدافع عن العادة الراسخة الآن، ولكن مهما استجمع من قوَّة الدفاع عنها، ومهما بذل من الجهد للمحافظة عليها فلا سبيل إلى أن تبقى زمنًا طويلًا. ماذا تفيد الشجاعة والثبات في المحافظة على بناءٍ آل أمره إلى الخراب والتهدُّم، وقد انقضَّ أساسه، وانحلت مواده، ووصل حاله من الاضمحلال إلى أنك ترى في كل سنة تمرُّ جزءًا منه ينهار من نفسه؟ أليس هذا كله صحيحًا؟ أليس حقًّا أن الحجاب في هذه السنين الأخيرة ليس كما كان من عشرين سنة؟ أليس من المُشاهَدِ أن النساء في كثير من العائلات يخرجن لقضاء حاجاتهن ويتعاملن بأنفسهن مع الرجال فيما يتعلَّق بشئونهنَّ، ويطلبن ترويح النفس حيث يصفو الجوُّ ويطيب الهواء، ويصحبن أزواجهنَّ في أسفارهم، ونرى أن هذا التغيُّر حدث في عائلات كانت أشدَّ الطبقات تحرُّجًا من ظهور النساء؟ إذا قارنا بين ما نشاهد اليوم وبين ما كان عليه النساء من عهد ليس بالبعيد عنا حيث كان يشين المرأة أن تخرج من بيت زوجها، وأن يرى طولها أجنبي، وكان إذا عرض للمرأة سفر اتُّخذ كل احتياط ليكون سفرها ليلًا؛ حتى لا يراها أحد من الناس، وحيث كانت أمُّ الرجل أو أخته أو بنته تستحي أن تجلس معه على مائدة واحدة — إذا قارنا بين هذا وذاك نجد بلا شك أن هذه العادة آخذة في الزوال من نفسها. وكلُّ مَن عرف التاريخ يعلم أن الحجاب دور من الأدوار التاريخية لحياة المرأة في العالم. قال لاروس تحت كلمة خِمار: «كانت نساء اليونان يستعملن الخِمار إذا خرجن ويخفين وجههنَّ بطرف منه، كما هو الآن عند الأمم الشرقية.» وقال: «ترك الدين المسيحي للنساء خِمارهن، وحافظ عليه عندما دخل في البلاد؛ فكنَّ يغطين رءوسهن إذا خرجن في الطريق وفي وقت الصلاة، وكانت النساء تستعمل الخمار في القرون الوسطى خصوصًا في القرن التاسع؛ فكان الخمار يحيط بأكتاف المرأة، ويجرُّ على الأرض تقريبًا. واستمرَّ كذلك إلى القرن الثالث عشر؛ حيث صارت النساء تخفِّف منه إلى أن صار كما هو الآن: نسيجًا خفيفًا يُستعمَلُ لحماية الوجه من التراب والبرد، ولكن بقي بعد ذلك بزمن في إسبانيا وفي بلاد أمريكا التي كانت تابعة لها.» ومن هذا يرى القارئ أن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصًّا بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه كان عادة معروفة عند كل الأمم تقريبًا، ثمَّ تلاشت طوعًا لمقتضيات الاجتماع، وجريًا على سُنَّة التقدُّم والترقِّي، وهذه المسألة المهمة يلزم البحث فيها من جهتيها الدينية والاجتماعيَّة. لو أن في الشريعة الإسلاميَّة نصوصًا تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب عليَّ اجتناب البحث فيه، ولَمَا كتبت حرفًا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرَّة في ظاهر الأمر؛ لأن الأوامر الإلهيَّة يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة، لكننا لا نجد نصًّا في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة. وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم؛ فاستحسنوها، وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكَّنت في الناس باسم الدين والدين براء منها؛ ولذلك لا نرى مانعًا من البحث فيها، بل نرى من الواجب أن نُلمَّ بها ونبيِّن حكم الشريعة في شأنها وحاجة الناس إلى تغييرها. جاء في الكتاب العزيز: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. أباحت الشريعة في هذه الآية للمرأة أن تظهر بعض أعضاء من جسمها أمام الأجنبي عنها، غير أنها لم تسمِّ تلك المواضع، وقد قال العلماء إنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفًا في العادة وقت الخطاب، واتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية، ووقع الخلاف بينهم في أعضاء أُخَر كالذراعين والقدمين. خوَّلت الشريعة للمرأة ما للرجل من الحقوق، وألقت عليها تَبعة أعمالها المدنيَّة والجنائيَّة؛ فللمرأة الحقُّ في إدارة أموالها والتصرُّف فيها بنفسها. فكيف يمكن لرجل أن يتعاقد معها من غير أن يراها ويتحقَّق شخصيتها؟ ومن غريب وسائل التحقُّق أن تحضر المرأة مغلَّفة من رأسها إلى قدميها، أو تقف من وراء ستار أو باب، ويُقال للرجل ها هي فلانة التي تريد أن تبيعك دارَها أو تقيمك وكيلًا في زواجها مثلًا؛ فتقول المرأة بعت أو وكَّلت، ويكتفي بشهادة شاهدين من الأقارب أو الأجانب على أنها هي التي باعت أو وكَّلت، والحال أنه ليس في هذه الأعمال ضمانة يطمئن لها أحد، وكثيرًا ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغشِّ والتزوير في مثل هذه الأحوال. فكم رأينا أن امرأة تزوَّجت بغير علمها، وأجَّرت أملاكها بدون شعورها، بل تجرَّدت من كل ما تملكه على جهل منها، وذلك كله ناشئ من تحجُّبها، وقيام الرجال دونها يحولون بينها وبين مَن يعاملها. كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتَّخذ صناعة أو تجارة للتعيُّش منها إن كانت فقيرة؟ كيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة بمنزل فيه رجال؟ كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال؟ كيف يتسنَّى لزارعة محجوبة أن تفلح أرضها وتحصد زرعها؟ كيف يمكن لعاملة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجَّرت نفسها للعمل في بناء بيت أو نحوه؟ وبالجملة، فقد خلق الله هذا العالم، ومكَّن فيه النوع الإنساني؛ ليتمتَّع من منافعه بما تسمح له قواه في الوصول إليه، ووضع للتصرُّف فيه حدودًا تتبعها حقوق، وسوَّى في التزام الحدود والتمتُّع بالحقوق بين الرجل والمرأة من هذا النوع، ولم يقسِّم الكون بينهما قسمة إفراز، ولم يجعل جانبًا من الأرض للنساء يتمتَّعن بالمنافع فيه وحدهنَّ، وجانبًا للرجال يعملون فيه في عزلة عن النساء، بل جعل متاع الحياة مشتركًا بين الصنفين، شائعًا تحت سلطة قواهما بلا تمييز — فكيف يمكن مع هذا لامرأة أن تتمتَّع بما شاء الله أن تتمتَّع به مما هيَّأها له بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينها وبين الرجال إذا حُظِر عليها أن تقع تحت أعين الرجال إلَّا مَن كان من محارمها؟ لا ريب أن هذا مما لم يسمح به الشرع ولن يسمح به العقل؛ لهذا رأينا أن الضرورة أحالت الثبات على هذا الضرب من الحجاب عند أغلب الطبقات من المسلمين كما نشاهده في الخادمات والعاملات وسكان القرى حتى من أهل الطبقة الوسطى، بل وبعض أهل الطبقة العليا من أهل البادية والقرى، والكل مسلمون، بل قد يكون الدين أمكن فيهم منه في أهل المدن! إذا وقفت المرأة في بعض مواقف القضاء خصمًا أو شاهدًا كيف أن يسوغ لها ستر وجهها؟ مضت سنون والخصوم وقضاة المحاكم أنفسهم غافلون عما يهمُّ في هذه المسألة، متساهلون في رعاية الواجب فيها؛ فهم يقبلون أن تحضر المرأة أمامهم مستترة الوجه وهي مدَّعية أو مدَّعى عليها أو شاهدة، وذلك منهم استسلامًا للعوائد، وليس بخافٍ ما في هذا التسامح من الضرر الذي يصعب استمراره فيما أظنُّ؛ ذلك لعدم الثقة بمعرفة الشخص المستتر؛ ولما في ذلك من سهولة الغشِّ، كلُّ رجل يقف مع امرأة موقف المخاصمة من همِّه أن يعرف تلك التي تخاصمه، وله في ذلك فوائد كثيرة، من أهمها صحَّة التمسُّك بقولها، ولا أظنُّ أنه يسوغ للقاضي أن يحكم على شخص مستتر الوجه، ولا أن يحكم له، ولا أظنُّ أنه يسوغ له أن يسمع شاهدًا كذلك، بل أقول إن أول واجب عليه أن يتعرَّف وجه الشاهد والخصم خصوصًا في الجنايات، وإلَّا فأي معنى لما أوجبه الشرع والقانون من السؤال عن اسم الشخص وسنِّه وصناعته ومولده؟ وماذا تفيد معرفة هذه الأمور كلها إذا لم يكن معروفًا بشخصه؟ والحكمة في أن الشريعة الغرَّاء كلَّفت المرأة بكشف وجهها عند تأدية الشهادة كما مرَّ ظاهرة؛ وهي تمكُّن القاضي من التفرُّس في الحركات التي تبدو على الوجه، والعلامات التي تظهر عليه، فيقدِّر الشهادة بذلك قدرها. لا ريب أن ما ذكرنا من مضار التحجُّب يندرج في حكمة إباحة الشرع الإسلامي لكشف المرأة وجهها وكفيها — ونحن لا نريد أكثر من ذلك. واتفق أئمة المذاهب أيضًا على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوَّجها، بل قالوا بندبه عملًا بما رُوِي عن النبي؛ حيث قال لأحد الأنصار — وكان قد خطب امرأة: «أنظرت إليها؟» قال: لا. قال: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.» هذه هي نصوص القرآن، وروايات الأحاديث، وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جليَّة في أن الله تعالى قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها، وذلك للحِكَم التي لا يصعب إدراكها على كل مَن عقل. هذا حكم الشريعة الإسلاميَّة كله يسر لا عسر فيه لا على النساء ولا على الرجال، ولا يُضرَب بين الفريقين بحجاب لا يخفى ما فيه من الحرج عليهما في المعاملات، والمشقة في أداء كل منهما ما كُلِّف به من الأعمال سواء كان تكليفًا شرعيًّا أو تكليفًا قضت به ضرورة المعاش. أمَّا دعوى أن ذلك من آداب المرأة فلا إخالها صحيحة؛ لأنه لا أصل يمكن أن ترجع إليه هذه الدعوى، وأي علاقة بين الأدب وبين كشف الوجه وستره؟ وعلى أي قاعدة بُنِي الفرق بين الرجل والمرأة؟ أليس الأدب في الحقيقة واحدًا بالنسبة للرجال وللنساء وموضوعه الأعمال والمقاصد لا الأشكال والملابس؟ وأمَّا خوف الفتنة الذي نراه يطوف في كل سطر مما يُكتَبُ في هذه المسألة تقريبًا؛ فهو أمر يتعلَّق بقلوب الخائفين من الرجال، وليس على النساء تقديره، ولا هنَّ مطالبات بمعرفته، وعلى مَن يخاف الفتنة من الرجال أن يغضَّ بصره، كما أنه على مَن تخافها من النساء أن تغضَّ بصرها، والأوامر الواردة في الآية الكريمة موجَّهة إلى كلٍّ من الفريقين بغضِّ البصر على السواء؛ وفي هذا دلالة واضحة على أن المرأة ليست بأولى من الرجل بتغطية وجهها. عجبًا! لِمَ لم تُؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوهِهم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهنَّ؟ هل اعتُبِرَت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتُبِرَ الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه، واعتُبِرَت المرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أُبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحُسْنِ والجمال. ومُنِعَ النساء من كشف وجوههنَّ لأعين الرجال منعًا مطلقًا؛ خوف أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرَّضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخَلق؟ إن زعم زاعم صحَّة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل — فلِمَ تُوضَعُ حينئذٍ تحت رقِّه في كل حال؟ فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فلِمَ هذا التحكُّم المعروف؟ على أن البرقع والنقاب مما يزيد في خوف الفتنة؛ لأن هذا النقاب الأبيض الرقيق الذي تبدو من ورائه المحاسن وتختفي من خلفه العيوب، والبرقع الذي يختفي تحته طرف الأنف والفم والشدقان، ويظهر منه الجبين، والحواجب والعيون، والخدود، والأصداغ، وصفحات العنق — هذان الساتران يُعدَّان في الحقيقة من الزينة التي تحثُّ رغبة الناظر، وتحمله على اكتشاف قليل خفي بعد الافتتان بكثير ظهر، ولو أن المرأة كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلقها ما يردُّ في الغالب البصر عنها. ليست أسباب الفتنة ما يبدو من أعضاء المرأة الظاهرة، بل من أهم أسبابها ما يصدر عنها من الحركات في أثناء مشيها، وما يبدو من الأفاعيل التي ترشد عما في نفسها، والنقاب والبرقع من أشدِّ أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة؛ لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول فلانة أو بنت فلان أو زوجة فلان كانت تفعل كذا؛ فهي تأتي كلَّ ما تشتهيه من ذلك تحت حماية ذاك البرقع وهذا النقاب، أمَّا لو كان وجهها مكشوفًا فإن نسبتها إلى عائلتها أو شرفها في نفسها يشعرانها الحياء والخجل، ويمنعانها من إبداء حركة أو عمل يتوهَّم منه أدنى رغبة منها في استلفات النظر إليها. والحق أن الانتقاب والتبرقُع ليسا من المشروعات الإسلاميَّة لا للتعبُّد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده، ويدلُّنا على ذلك أن هذه العادة ليست معروفة في كثير من البلاد الإسلاميَّة، وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التي لم تتدين بدين الإسلام. إنما من مشروعات الإسلام ضرب الخُمُر على الجيوب، كما هو صريح الآية، وليس في ذلك شيء من التبرقُع والانتقاب. هذا ما يتعلَّق بكشف الوجه واليدين، أمَّا ما يتعلَّق بالحجاب بمعنى قصر المرأة في بيتها، والحظر عليها أن تخالط الرجال؛ فالكلام فيه ينقسم إلى قسمين: ما يختصُّ بنساء النبي، وما يتعلَّق بغيرهن من نساء المسلمين، ولا أثر في الشريعة لغير هذين القسمين. أمَّا القسم الأول فقد ورد فيه ما يأتي من الآيات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا. يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى. إنا نطلب تخفيف الحجاب، وردَّه إلى أحكام الشريعة الإسلاميَّة لا لأننا نميل إلى تقليد الأُمم الغربيَّة في جميع أطوارها وعوائدها لمجرَّد التقليد، أو للتعلُّق بالجديد لأنه جديد؛ فإننا نتمسَّك بعوائدنا الإسلاميَّة ونحترمها، ونرى أنها مزاج الأمَّة التي تتماسك به أعضاؤها، ولسنا ممن ينظر إليها نظره إلى الملابس يخلع ثوبًا كل يوم ليلبس غيره. وإنما نطلب ذلك؛ لأننا نعتقد أن لردَّ الحجاب إلى أصله الشرعي مدخلًا عظيمًا في حياتنا المعاشية. لسنا في مقام استحسان أمر واستقباح آخر لما فيه من موافقة الذوق أو منافرته، وإنما نحن بصدد ما به قوام حياة المرأة، أو ما به قوام حياتنا. كلَامُنا الآن في هل يلزمنا أن نعيش ونحيا أو نقضي على أنفسنا بأن نموت ونفنى؟ هل علينا أن نهتزَّ مكاننا ونرضى بما وجدنا عليه آباءنا والناس من حولنا يتسابقون إلى منابع السعادة وموارد الرفاهية ومعاهد القوَّة، ويمرُّون علينا سراعًا ونحن شاخصون إليهم إمَّا غير شاعرين بموقفنا وإمَّا شاعرين ولكنا حيارى ذاهلون؟ أو من الواجب علينا أن ننظر كيف تقدَّم الناس وتأخَّرنا. كيف تقوَّوا وضعفنا، كيف سعدوا وشقينا، ثمَّ نرجع أبصارنا كرَّة ثانية في ديننا وما كان عليه أسلافنا الصالحون، ثمَّ نقتدي بهم في استماع القول واتباع أحسنه، وانتقاد الفعل والأخذ بأفضله، ونسير في طرق السعادة والارتقاء والقوَّة مع السائرين؟ ذلك هو الأمر الخطير الذي وجَّهنا إليه نظرنا. ها هي مسألة الحجاب مسألة من أهم المسائل، ولها مكان عظيم في شئون الأمَّة. إذا ترك القارئ نفسه لعواطفه واستسلم إلى عوائده ظهر له الحجاب في مظهر حسن؛ لأنه ألِفه في صغره ونشأ بين المحجبات، وعاش معهنَّ حتى صار ذلك عادة مألوفة له، ثمَّ إنه ورثه عن آبائه وأجداده فلا يستغربه بل يميل إليه ميلًا غريزيًّا ليس للعقل فيه مدخل وإنما هو حركة ميكانيكية ليس إلَّا. وأمَّا إذا نزع من نفسه العوامل التي أحدثت فيه تلك العواطف، وخلع ما ألبسه إيَّاه أسلافه من أردية الوراثة، وبحث في المسألة من جميع جهاتها بحث مَن لم يتأثر إلَّا بالتجربة التي تجري في الوقائع الصحيحة، وحصَّل لنفسه رأيًا من ملاحظاته الشخصية. وكان ممن تنجذب نفسه إلى الحق، وتنبعث إلى السعي للوقوف عليه وتأييده لما له عندها من المنزلة العليَّة والمكان الرفيع، وكان لا يغشُّ نفسه بالتزويق والتزيين الوهميين، وإنما يسمع صوت وجدانه السليم، ويرجِّحه على كل هوى سواه مهما كانت درجته من التمكُّن فيمَن حوله من الناس، فعند ذلك يرى أن المرأة لا تكوِّن — ولا يمكن أن تكوِّن — وجودًا تامًّا إلَّا إذا ملكت نفسها، وتمتَّعت بحريتها الممنوحة لها بمقتضى الشرع والفطرة معًا، ونمت ملكاتها إلى أقصى درجة يمكنها أن تبلغها، ويرى أن الحجاب على ما ألفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها؛ وبذلك يحول بين الأمَّة وتقدُّمها. بيَّنا عند الكلام على تربية المرأة ما لها من المزايا الجليلة والآثار الحسنة التي تترتَّب عليها في شئونها نفسها وشئون بيتها، وفي الاجتماع الذي هي فيه، وذكرنا أن من أكبر أسباب ضعف الأمَّة حرمانها من أعمال النساء، وأن تربية الطفل لا تصلح إلَّا إذا كانت أمُّه مرباة، وقرَّرنا أن الولد ذكرًا كان أو أنثى لا يملك صحَّة، ولا خلة، ولا ملكة، ولا عقلًا، ولا عاطفة إلَّا من طريقين: الوراثة والتربية، واستدللنا على أن الولد يرث من أمه قدر ما يرث من والده على الأقل، وأن تأثير الأم في تربية الطفل بعد ولادته أعظم من تأثير أبيه، ونريد أن نبرهن هنا على أن تربية الأم نفسها لا يمكن أن تتمَّ إذا استمرَّ حجاب النساء على ما هو عليه الآن حتى إذا انتهى القارئ من تلاوة هذا الباب رأى كيف ترتبط المسائل بعضها ببعض، وكيف أن أصغرها يتوقَّف عليه أعظمها. إذا أخذنا بنتًا وعلَّمناها كل ما يتعلَّمه الصبي في المدارس الابتدائية، وربَّيناها على أخلاق حميدة، ثمَّ قصرناها في البيت ومنعناها عن مخالطة الرجال فلا شكَّ أنها تنسى بالتدريج ما تعلَّمته وتتغيَّر أخلاقها على غير شعور منها، وفي زمن قليل لا نجد فرقًا بينها وبين أخرى لم تتعلَّم أصلًا؛ ذلك لأن المعارف التي يكسبها الإنسان وهو في سن الصبا لا يحيط بدقائقها ومناشئها؛ ولذلك لا يكون علمه فيها علمًا تامًّا كاملًا. وإنما يتمُّ له شيء من ذلك إذا بلغ سن الرجولية، واستمرَّ على مزاولة العمل والاشتغال؛ فالصبي يحفظ أسماء الأشياء أكثر مما يفهم معانيها، وأكبر فائدة يستفيدها في هذا الطور من التعليم إنما هي التعوُّد على العمل، وحب استطلاع الحقائق، والاستعداد للدراسة. فإن وقف سير التعليم في هذا السنِ اضمحلت المعلومات المستفادة، وانتثرت من الذهن شيئًا فشيئًا، وكان ما مضى من الوقت في التعلم زمنًا ضائعًا. ولمَّا كان السنُّ الذي تُحجَّب فيه المرأة — وهو ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمرها — هو السنُّ الذي يبتدئ فيه الانتقال من الصبا إلى الرجولية، وتظهر فيه حاجة المرأة كما تظهر حاجة الرجل إلى اختبار العالم والبحث في الحياة وما تستدعيه، وهو السنُّ الذي تزهر فيه المَلَكات وتظهر الميول والوجدانات، وهو السنُّ الذي يتعلَّم فيه الإنسان نوعًا آخر من العلم أنفس مما تعلمه في المدارس وهو علم الحياة، وطريق تحصيل ذلك العلم إنما هو بالاختلاط مع الناس واختبارهم واستعراف أخلاقهم. وفي هذا السنِّ يبتدئ الإنسان يعرف شعبه وملَّته ووطنه ودينه وحكومته. وفي هذا السنِّ يبتدئ استعداد كلِّ شخص وميله وكفاءته في الظهور؛ فيندفع إلى الأعمال اندفاع الماء في المنحدرات، وهو سنُّ الآمال والرغائب والنشاط، فإن حُجِّبت فيه الفتاة، وانقطعت عن هذا العالم بعد أن كانت المواصلة بينه وبينها مستمرَّة؛ وقف نموها بل رجعت القهقرى، وفقدت كل ما كان يزيِّن نفسها، ونسيت كل معارفها، وخابت كل مساعيها، وضاعت آمالها وآمال الناس فيها، ولا ذنب عليها في ذلك؛ فهي عاجزة مسكينة قضت عليها عادة سخيفة بالحرمان المؤبَّد من الترقِّي والكمال. ربما يُقال إن في طوع المرأة وإمكانها أن تستكمل تربيتها وتتمَّ دراستها في بيتها، وهو وهم باطل؛ فإن الرغبة في اكتساب العلم والتشوُّف لاستطلاع ما عليه الناس في أحوالهم وأعمالهم، وحب استكشاف الحقائق، وكل ما يستميل النفس إلى المطالعة والدرس لا يتوفر للمرأة مع حجابها؛ ذلك لأن الحجاب يحبس المرأة في دائرة ضيِّقة فلا ترى، ولا تسمع، ولا تعرف إلَّا ما يقع فيها من سفاسف الحوادث، ويحول بينها وبين العالم الحي؛ وهو عالم الفكر والحركة والعمل فلا يصل إليها منه شيء، وإن وصل إليها بعضه فلا يصل إلَّا محرَّفًا مقلوبًا، أمَّا إذا استمرَّت المواصلات بينها وبين العالم الخارجي؛ فإنها تكتسب بالنظر في حوادثه وتجربة ما يقع فيه معارف غزيرة تنبث فيها من المخالطات والمعاشرات والمشاهدة والسماع ومشاركة العالم في جميع مظاهر الحياة، وقد يكفي في إعانتها على كسب ذلك كله، والانتفاع منه ما حصَّلته بالتعلُّم من المعارف الأولى، وربما يمكنها أن تستغني عن تعلُّم تلك المعارف الأولى إذا حسنت الفطرة وجادت القريحة. وعلى فرض أن المرأة يمكنها في احتجابها أن تستكمل ما نقص منها علمًا وأدبًا بقراءة الكتب، فمن البديهي أن كلَّ ما تحصِّله من الكتب يُعدُّ من قبيل الخيالات إن لم تمكِّنه التجربة ويؤكِّده العمل، ولو عاملنا أخوتها الصبيان كما نعاملها وحجبناهم في البيوت حتى بلغوا سنَّ الخامسة عشرة لكانت النتيجة واحدة، بل لو أخذنا رجلًا بلغ الأربعين من عمره، وحجبناه عن العالم، وألزمناه أن يعيش بين أربعة جدران وسط النساء والأطفال والخدم لشعر بانحطاط تدريجي في قواه العقليَّة والأدبيَّة، ولا بُدَّ أن يأتي يوم يجد فيه نفسه مساويًا لهم؛ فإذًا يكون من الخطأ أن نتصوَّر أننا متى علَّمنا بناتنا جاز لنا أن نحجِّبهنَّ متى بلغن سنًّا مخصوصًا، وأن مجرَّد ذلك التعليم الأول يكفي في التوقِّي من الضرر؛ لأن الضرر في الحجاب عظيم، وهو ضياع ما كسبنه بالتعلُّم وحرمانهنَّ من الترقِّي في مستقبل العمر، والأمر في ذلك واضح لا يحتاج إلى دليل، ويكفينا أن نرجع إلى أنفسنا ونخطر ببالنا ما كنا عليه في الخامسة عشرة من عمرنا، فيتبيَّن لنا أننا كنا أشبه بالأطفال لا نكاد نعلم شيئًا من العالم، ولا نعرف للحياة قيمة، ولا نميِّز كمال التمييز بين ما لنا وما علينا، ولا تمتاز لدينا حقوقنا وواجباتنا، وليس لنا عزيمة ثابتة في مجاهدة أنفسنا، وأن أكبر عامل له أثر في تكميلنا هو استمرار تعلُّمنا، وتربية عقولنا ونفوسنا استمرارًا لا انقطاع معه، وأن ذلك لم يتمَّ لنا بقراءة الكتب بل بالمشاهدة، والممارسة، والمخالطة، وتجربة الناس والحوادث. وفي الحقيقة أن تربية الإنسان ليس لها سنٌّ معيَّن تنقطع بعده ولا حدٌّ معروف تنتهي عنده؛ فهي لا تُنَال بحفظ مقدار من العلوم والمعارف يجهد الإنسان نفسه في اكتسابه في سنين معدودة ثمَّ يقضي حياته بعد ذلك في الراحة. التربية ليست ذلك الشيء البسيط الذي يفهمه عامَّة الناس حيث يتصوَّرون أنها عبارة عن تخزين كمِّيَّة من المعارف المقرَّرة في بروجرامات المدارس ثمَّ امتحان ثمَّ شهادة ليس بعدها إلَّا البطالة والجمود، وإنما التربية هي العمل المستمرُّ الذي تتوسَّل به النفس إلى طلب الكمال من كل وجوهه، وهذا العمل لا بُدَّ منه في جميع أدوار الحياة حيث يبتدئ من يوم الولادة، ولا ينتهي إلَّا بالموت. وإذا أراد القارئ أن يتبيَّن صحَّة ما أسلفته من مضار الحجاب على وجه لا يبقى للريب معه مجال فما عليه إلَّا أن يقارن بين امرأة من أهله تعلَّمت، وبين أُخرى من أهل القرى أو من المُتجِرَات في المدن لم يسبق لها تعليم؛ فإنه يجد الأولى تُحسِنُ القراءة والكتابة، وتتكلَّم بلغة أجنبية، وتلعب البيانو ولكنها جاهلة بأطوار الحياة بحيث لو استقلَّت بنفسها لعجزت عن تدبير أمرها وتقويم حياتها، وأن الثانية مع جهلها قد أحرزت معارف كثيرة اكتسبتها من المعاملات والاختبار وممارسة الأعمال والدعاوى والحوادث التي مرَّت عليها، وأن كلَّ ذلك قد أفادها اختبارًا عظيمًا؛ فإذا تعاملتا غلبت الثانية الأولى. ومن هذا نرى أغلب نساء نصارى الشرق وإن لم يتعلَّمن في المدارس أكثر مما يتعلَّمه بعض بناتنا الآن فهنَّ يعرفن لوازم الحياة؛ لكثرة ما رأين وسمعن باختلاطهنَّ بالرجال؛ فقد ورد على عقولهنَّ معانٍ وأفكار وصور وخواطر غير ما استفدنه من الكتب، فارتفعن بفضل هذا الاختلاط إلى مرتبة أعلى من المرأة المسلمة المواطنة لهنَّ مع أنهنَّ من جنس واحد وإقليم واحد. نرى في المرأة عندنا من الاستعداد الطبيعي ما يؤهِّلها لأن تكون مساوية لغيرها من الأمم الأُخرى لكنها اليوم في حالة انحطاط شديد؛ وليس لذلك سبب آخر غير كوننا جرَّدناها من العقل والشعور، وهضمنا حقوقها المقرَّرة لها، وبخسناها قيمتها. وقد جرَّنا حبُّنا لحجاب النساء إلى إفساد صحَّتهنَّ؛ فألزمناهنَّ القعود في المساكن، وحرمناهنَّ الهواء والشمس وسائر أنواع الرياضة البدنيَّة والعقليَّة. ليس فينا مَن لا يعرف أن من النساء مَن لا يفارقن بيوتهنَّ لا ليلًا ولا نهارًا، بل يلازمنها ولا يرين لهنَّ شريكًا في الوجود إلا جارية، أو خادمة، أو زائرة تجيئها لحظات من الزمن وتنصرف عنها، ولا يرَين أزواجهنَّ إلَّا عند النوم؛ لأنهم يقضون نهارهم في أشغالهم، ويقضون الجزء العظيم من ليلهم عند جيرانهم أو في الأماكن العمومية. ليس فينا مَن لا يعرف أن نساءً كثيرة فقدن صحَّتهنَّ في هذه المعيشة المنحطَّة، وفي هذا السجن المؤبَّد، وأنهنَّ عشن عليلات الجسم والروح ولم يذقن شيئًا من لذَّة هذه الحياة الدُّنيا. لذلك كان أغلب نسائنا مصابًا بالتشحُّم، وفقر الدم، ومتى وَلَدت المرأة مرَّة تداعت بنيتها، وذبل جسمها، وظهرت عجوزًا وهي في ريعان شبابها، كل ذلك منشؤه خوف الرجال من الإخلال بالعفَّة! على أن القول بأن الحجاب موجب العفَّة وعدمه مجلبة الفساد قول لا يمكن الاستدلال عليه؛ لأنه لم يقم أحد إلى الآن بإحصاءٍ عام يمكن أن نعرف به عدد وقائع الفحش بالضبط والدقَّة في البلاد التي تعيش فيها النساء تحت الحجاب، وفي البلاد الأخرى التي تتمتَّع فيها بحريتهنَّ، ولو فُرِضَ وقوع مثل ذلك الإحصاء لما قام دليلًا على الإثبات أو النفي في المسألة؛ لأن ازدياد الفساد في البلاد ونقصه مما يرتبط بأمور كثيرة ليس الحجاب أهمها. ومن المعروف أن لطرق معيشة الأمَّة، ومزاجها، وإقليمها، وآدابها، وتربيتها دخلًا عظيمًا في فساد أخلاقها وصلاحها؛ ولهذا نرى الفساد يختلف في بلاد أوروبا بين بلد وآخر اختلافًا ظاهرًا، ونرى أيضًا مثل هذا الاختلاف بين البلاد التي لا تزال فيها عادة الحجاب باقية، بل نرى اختلافًا كبيرًا بين زمن وزمن في بلد واحد، والتجارب ترشد إلى أمر يمكن أخذه دليلًا على أن الإطلاق أدنى بالنساء إلى العفَّة من الحجاب؛ فمن المُشَاهَد الذي لا جدال فيه أن نساء أمريكا هنَّ أكثر نساء الأرض تمتُّعًا بالحرية، وهنَّ أكثرهنَّ اختلاطًا بالرجال حتى إن البنات في صباهنَّ يتعلَّمن مع الصبيان في مدرسة واحدة، فتقعد البنت بجانب الصبي لتلقِّي العلوم، ومع هذا يقول المطَّلعون على أحوال أمريكا إن نساءها أحفظ للأعراض، وأقوم أخلاقًا من غيرهنَّ، وينسبون صلاحهنَّ إلى شدَّة الاختلاط بين الصنفين من الرجال والنساء في جميع أدوار الحياة، ومن المُشَاهَد الذي لا نزاع فيه أيضًا أن نساء العرب ونساء القرى المصريَّة مع اختلاطهنَّ بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا أقلُّ ميلًا للفساد من ساكنات المدن اللائي لم يمنعهنَّ الحجاب من مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد. وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة من المرأة المحجوبة؛ والسبب في ذلك أن الأولى تعودَّت رؤية الرجال وسماع كلامهم؛ فإذا رأت رجلًا أيًّا كان لم يحرِّك منظره فيها شيئًا من الشهوة، بل لو عرض عليها شيء من هذا فإنما يكون بعد مصاحبة طويلة وقضاء أوقات في خلوات كثيرة يحدث فيها ما قد يُشْعِرُ كلَّ واحد منهما بانجذاب إلى الآخر؛ وهذا هو ما منعته الشريعة وبيَّنا امتناعه فيما سبق، أمَّا الثانية فمجرَّد وقوع نظرها على رجل يحدث في نفسها خاطر اختلاف الصنف من غير شعور، ولا تعمُّد ولا نيَّة سيئة، وإنما هو أثر منظر الرجل الأجنبي؛ لأنه قد وقَر في نفسها أن لا تراه ولا يراها، فمجرَّد النظر إليه كافٍ في إثارة هذا الخاطر. وقد شاهدت مرارًا كما شاهد غيري هذا الأثر عينه في الرجال؛ فرأيت أن الرجل الذي لم يتعوَّد الاختلاط بالنساء إن لم يغلبه سلطان التهذيب القوي لا يملك نفسه إذا جلس بينهنَّ، فلا تشبع عينه من النظر إليهن ومن التأمُّل في محاسنهن، وينسى في ذلك كل أدب ولياقة، وربما طلب الوسائل لملامستهنَّ بيدهِ أو مماستهنَّ بكتفه، ويندفع إلى أقوال وأعمال تشمئز منها نفوس الحاضرين، كأنه يظنُّ — بل هو يظنُّ بالفعل — أنه لا معنى لاجتماع الرجل مع المرأة في مكان واحد إلَّا أن يتمتَّع كل منهما بشهوته مع الآخر. بخلاف الرجل الذي اعتاد على مخالطة النساء فإنه لا يكاد يجد في نفسه أثرًا من رؤيتهن أكثر مما يجده عند رؤية الرجال، ولا يشعر بأدنى اضطراب في حواسه، ولا في مشاعره، فمن ألزم لوازم الحجاب أنه يهيئ الذهن في الرجال وفي النساء معًا لتخيُّل الشهوة بمجرَّد النظر أو سماع الصوت، وهذا يوضح لنا السبب فيما نشاهده كلَّ يوم من أن المرأة إذا رأت رجلًا في الطريق أودعتها الضرورة لمخاطبته تتصنَّع في حركاتها وصوتها ما تظنُّ أنه يروق في عين الرجل — والرجل كذلك. وقد شاهدت وشاهد كل إنسان ما يخالف ذلك في بلاد أوروبا وفي الآستانة وفي القرى المصريَّة وبين الأعراب في البادية، حيث يمرُّ الرجال والنساء بعضهم بجانب بعض وكتفًا لكتف لا يلتفت أحدهم إلى الآخر: ولا ريب أن استلفات الذهن دائمًا إلى اختلاف الصنف من أشدِّ العوامل في إثارة الشهوة. وبديهي أن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفَّتها، وتصون نفسها عما يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة. فإن عفَّة هذه قهرية أمَّا عفَّة الأُخرى فهي اختيارية؛ والفرق كبير بينهما، ولا أدري كيف نفتخر بعفَّة نسائنا ونحن نعتقد أنهنَّ مصونات بقوَّة الحرَّاس، واستحكام الأقفال، وارتفاع الجدران؟ أيُقبَلُ من مسجون دعواه أنه رجل طاهر لأنه لم يرتكب جريمة وهو في الحبس؟ فإذا كانت نساؤنا محبوسات محجوبات فكيف يمكنهنَّ أن يتمتَّعن بفضيلة العفَّة؟ وما معنى أن يُقال إنهنَّ عفيفات؟ إن العفَّة هي خلق للنفس تمتنع به من مقارفة الشهوة مع القدرة عليها، ولعل التكليف الإلهي إنما يتعلَّق بما يقع تحت الاختيار لا بما يُستكره عليه من الأعمال؛ فالعفَّة التي تُكلَّف بها النساء يجب أن تكون من كسبهنَّ ومما يقع تحت اختيارهنَّ لا أن يكنَّ مستكرهات عليها، وإلَّا فلا ثواب لهنَّ في مجرَّد الكفِّ عن المنكر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَن عشق فعفَّ فكتم فمات فهو شهيد.» والحقيقة أننا نعمل عمل مَن يعتقد أن النساء عندنا لسن أهلًا للعفَّة، أليس من الغريب ألا يوجد رجل فينا يثق بامرأة أبدًا مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟ أليس من العار أن نتصوَّر أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟ أيليق ألا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات وأن نسيء الظنَّ بهنَّ إلى هذا الحدِّ. إني أسأل كل إنسان خالي الغرض: هل هذه المعاملة يليق أن يُعامل بها إنسان له من خاصة الإنسان ما لنا؟ فهو مثلنا له روح ووجدان وقلب وعقل وحواس. وهل سوء الظنِّ في المرأة إلى هذا الحد يتَّفق مع اعتبارنا لأنفسنا واعتبار المرأة لنفسها؟ والعاقل يرى أن الاحتياط الذي يتَّخذه الرجال لصيانة النساء عندنا مهما بلغ من الدقَّة لا يفيد شيئًا إن لم يصل الرجل إلى امتلاك قلب امرأة، فإن ملكه ملك كل شيء منها، وإن لم يملكه لم يملك منها شيئًا؛ ذلك لأنه ليس في استطاعة رجل أن يراقب حركات امرأته وسيرها في كل دقيقة تمرُّ من الليل والنهار. متى خرج أحدنا من منزله أو سمح لامرأته أن تخرج بسبب من الأسباب فعلى مَن يتَّكل إن لم يكن على صيانتها وحفظها نفسها بنفسها؟ ثمَّ ماذا يفيد الرجل أن يملك جسم امرأته وحده إذا غاب عنه قلبها؟ أيستطيع أن يمنعها أن تتصرَّف فيه وتبذله لأي شخص تريد؟ فإذا رأت امرأة من الشباك رجلًا فأعجبها ومالت إليه بقلبها وودَّت أن تواصله لحظة أفلا يُعدُّ هذا في الحقيقة من الزنا؟ ألم يتمزَّق حجاب العفَّة في هذه اللحظة؟ وهل بُعْدُ المسافة بينها وبين الرجل وعدم تمكُّنها من مواصلته يُسمَّى عفَّة؟ نعم إن الشرائع لا تعاقب ولا تقيم الحدَّ على زنا العين والقلب؛ لأن العقوبات والحدود لا سلطان لها على الخواطر والقلوب، ولكن في نظر أهل الأدب والتقوى لا عبرة للبعد بين الأجساد إذا تواصلت الأرواح واجتمعت القلوب. ومع ذلك ما الذي فعل الحجاب؟ ألم نسمع بما يجري في داخل البيوت مما ينافي العفَّة ويخلُّ بالشرف؟ هل منع البرقع وقصر النساء وراء الحجاب والأقفال سريان الفساد إلى ما وراء تلك الحجب؟ كلَّا. ربما يقول قائل إن ما نسمعه اليوم عن كثير من النساء أكثر مما كنا نسمعه سابقًا، وإن الإشاعات عن الفساد أشدُّ انتشارًا، بل ربما كان الفساد في الواقع أوسع دائرة مما كان عليه قبل ثلاثين سنة مثلًا، ولا منشأ لذلك إلَّا رقَّة الحجاب. فالحالة القديمة على ما فيها كانت أصون للأعراض، وأحفظ لشرف المرأة من تلك الحالة التي طرأت على النساء؛ فنجيب عن ذلك بأننا لا ننكر أن بعض الطباع الفاسدة من الرجال والنساء معًا وجدت سبيلًا من تخفيف الحجاب إلى تعارف بعضها ببعض، وإتيان ما تميل إليه من المنكر، بل نزيد عليه أنه لو استمرَّ تخفيف الحجاب يتقدَّم بالسرعة التي سار بها إلى الآن — والنفوس على ما هي عليه — لعمَّت البلوى وازداد الفساد انتشارًا. غير أن السبب في ذلك ليس هو تخفيف الحجاب، بل هو راجع إلى أمور كثيرة يجمعها الجهل وسوء التربية. فسوء التربية هو علَّة الخفَّة والطيش، وهو الذي يسهِّل على امرأة ذات مكانة في بيتها وقومها أن تطيل نظرها إلى شاب يمرُّ في طريقها، وسوء التربية هو الذي يخفف عندها تبعة تحريك يدها لإجابة ذلك الشاب فيما يشير به إليها، وسوء التربية هو الذي يدفع بها إلى الاتفاق معه على التلاقي بل والتواصل قبل أن يدور كلام بينه وبينها، وإنما أركان عقد ذلك الاتفاق هي نظرات وإشارات لا تفصح عن خلق من الأخلاق، ولا عن ملكة من الملكات، ولا عن درجة من العرفان، ولا تدلُّ على حالة نفسية، ولا عقلية ولا جسمية يمكن الارتباط بها بين شخصين. سوء التربية هو الذي يخرق كل حجاب ويفتح على المرأة من الفساد كلَّ باب، وهو الذي يُخشَى معه أن تسري العدوى من امرأة إلى امرأة، ومن طبقة إلى طبقة، فقد نرى أن المحجَّبات مهما بالغن في التحجُّب لا يستنكفن أن يختلطن بنساء أحطَّ منهنَّ في الدرجة، وأبعد عن التصوُّن والعفَّة؛ فسيدة المنزل لا ترى بأسًا في مخالطة زوجة خادمها بل قد تأنس بالحديث معها وسماع ما تنقله إليها من غير مبالاة بما يلائم الحشمة وما لا يلائمها، ولا تأنف التفتُّح في القول مع الدلالات وبائعات الأقمشة. بل قد يطوِّحها الجهل إلى الاختلاط بنسوة لا تعرف شيئًا من حالهنَّ، ولا من أي مكان أتين، ولا بأي خلق من الأخلاق تخلَّقن، وأشنع من هذا كله وأشدُّ منه فعلًا في إفساد الأخلاق أن نساء من المومسات اللاتي يحملن تذكرة رسمية يُدعين في الأفراح، ويرقصن تحت أعين الأمهات والبنات والكبار والصغار! هذا ما يأتي من سوء التربية، وهو من أشدِّ العوامل في تمزيق ستار الأدب، وليست رقَّة الحجاب بشيء في جانب هذا كله. طرقت ديارنا حوادث وداخلنا ضرب من الاختلاط مع أمم كثيرة من الغربيين، ووُجِدَت علائق بيننا وبينهم علَّمتنا أنهم أرقى منَّا وأشدُّ قوَّة، ومال ذلك بالجمهور الأغلب منا إلى تقليدهم في ظواهر عوائدهم خصوصًا إن كان ذلك إرضاءً لشهوة أو إطلاقًا من قيد؛ فكان من ذلك أن كثيرًا من أعليائنا تساهلوا لزوجاتهم ومَن يتَّصل بهنَّ من النساء وتسامحوا لهنَّ في الخروج إلى المنتزهات وحضور التياترات ونحو ذلك، وقلدهنَّ في ذلك كثير ممن يليهنَّ؛ وعرض من هذه الحالة بعض فساد في الأخلاق. تلك حالة طرأت للأسباب التي تقدَّمت وتبعها من العواقب ما بيَّناه، ولكن ليس من مصلحتنا — بل ولا من المستطاع لنا — محو هذه الحالة والرجوع إلى تغليظ الحجاب، بل صار من متممات شئوننا أن نحافظ عليها، ونتقي تلك المضار التي نشأت عنه؛ وذلك هو ما نستطيعه أيضًا. أمَّا أنه ليس من مصلحتنا أن نمحو هذه الحالة؛ فلما قدَّمناه في مضار الحجاب على الوجه المعروف، وأمَّا أننا لا نستطيع ذلك؛ فلأن أسباب هذه الحالة مما فصَّلناه سابقًا لا تزال موجودة، وهي تزداد بمرور الزمان رغمًا عنا؛ ولأننا قد وجدنا من أنفسنا ميلًا إلى حسن المعاملة في معاشرة النساء، وزُيِّن في أنفس الكثير منا حبُّ المجاملة في مرضاتهنَّ، ونشأت لهنَّ في قلوب الرجال منزلة من الاعتبار لم تكن لهنَّ من قبل، وأحسَّت النساء بذلك من رجالهن؛ فعددن ما وصلن إليه من الحرية والإطلاق حقًّا من الحقوق، وضروريًّا من ضروريات المعيشة، فلا يسهل على الرجل أن يقضي على امرأته اليوم بما كان يقضي به من قبل أربعين سنة. والذي يجب علينا هو معالجة المضار التي يُظَنُّ أنها تنشأ عن تخفيف الحجاب، ولا توجد طريقة أنجع في ذلك العلاج إلَّا التربية التي تكون هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وبين كل فساد يُتوهَّم في أية درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق. سيقول معترض إن التربية والتعليم يصلحان أخلاق المرأة، وأمَّا الإطلاق فربما زاد في فساد، فنجيب أن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود بحظر الخلوة مع أجنبي، وفي هذا الحظر ما يكفي لاتقاء المفاسد التي لا تتولَّد إلَّا من الخلوة. أمَّا الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارًّا أبدًا متى كان مصحوبًا بتربية صحيحة؛ لأن التربية الصحيحة تكوِّن أفرادًا أقوياء بأنفسهم يعتمدون على أنفسهم، ويسيرون بأنفسهم، فمَن كملت تربيته استقلَّ بنفسه واستغنى عن غيره، ومَن نقصت تربيته احتاج إلى الغير في كل أموره؛ فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال يرفع الأنفس من الدنايا ويبعد بها عن الخسائس؛ لذلك يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء، حسن التربية واستقلال الإرادة هما العاملان في تقدُّم الرجال في كل زمان ومكان، وهما مطمح آمال كلِّ أمَّة تسعى إلى سعادتها، وهما من أشرف الوسائل لإبلاغها من الكمال ما أعدَّت له. فكيف يمكن لعاقل أن يدَّعي أن لهذين العاملين أثرًا آخر سيئًا في أنفس النساء؟ ومَن زعم أن التربية واستقلال الإرادة مما يساعد على فساد الأخلاق في المرأة فقد قصر نظره على بعض الاعتبارات التي لا يخلو عنها أمر من الأمور النافعة في العالم؛ فإن لكل نافع ضررًا إذا أُسِيء استعماله. هذا تعليم الرجال لا يخلو من العيوب الكثيرة، وكثير منهم يستعمل علمه واختياره فيما يضرُّ بنفسه أو بغيره. فهل ذلك يحمل أحدًا من الناس على أن يقول إن من الصواب ألا يعلم الرجال شيئًا؛ خوف استعمال ما يتعلَّمون فيما يسوءهم أو يسوء غيرهم، وإن من الواجب أن يُترَكُوا في الجهل تحت حجاب الغفلة؟ لا أظنُّ أن عاقلًا يخطر هذا الخاطر بباله. فإذا كان إجماعنا قد انعقد على أن لا خير للرجال في الجهل والاستعباد، وأن لا سبيل لهم إلى بلوغ درجات الفضل إلَّا بالعلم وحرية الفكر والعمل، فما لنا نختلف في هذه القضية نفسها إذا عُرض ذكر المرأة؟ وأي فرق بين الصنفين في الفطرة والخلقة؟ والحق أنا غالينا في اعتبار صفة العفَّة في النساء، وفي الحرص عليها، وفي ابتداع الوسائل لحفظ ما ظهر منها، وتفخيم صورتها حتى جعلنا كل شيء فداءها، وطلبنا أن يتضاءل ويضمحل كل خلق وكل ملكة دونها. نعم العفَّة أجمل شيء في المرأة وأبهى حلية تتحلَّى بها. ولكن العفَّة لا تغني شيئًا عن بقية الصفات والملكات التي يجب أن تتحلَّى نفس المرأة بها من كمال العقل، وحسن التدبير، والخبرة بتربية الأولاد، وحفظ نظام المعيشة في البيت، والقيام على كل ما يُعهَدُ إليها من الشئون الخاصة بها، بل نقول إن لهذه الصفات دخلًا كبيرًا في كمال العفَّة، وفقدان المرأة خصلة من هذه الخصال لا ينقص في ضرره وفي الحط من شأنها عن فقدان العفَّة نفسها. اتفقت الشرائع الإلهيَّة والقوانين الوضعيَّة على أن عقد الزواج وحده هو الذي يحلِّل الاجتماع بين الرجل والمرأة وأن اجتماعهما بدون ذلك العقد المقدَّس ممنوع وممقوت؛ ذلك أمر اقتضاه نظام العشيرة، وكمال النفس الإنسانيَّة، فالعمل على ما يخالفه قبيح مذموم بلا ريب، غير أن تلك الشرائع الإلهيَّة والقوانين الوضعيَّة قد حظرت أعمالًا أخرى، وأنزلتها من الشناعة منزلة لا تنحطُّ عن منزلة الزنا. ووضعت عليها عقوبات أشدَّ من العقوبة عليه؛ لأنها اعتبرت أن لتلك الأعمال من الضرر بالنظام ما هو أشدُّ من ضرر الزنا، ولنضرب مثلًا بجريمة القتل؛ فإنها أعظم من جريمة الزنا في نظر الدين والقانون، فلمَ لم نتَّخذ للوقاية منها من الوسائل الضارة ما اتَّخذناه للوقاية من الزنا؟ إنا معرَّضون في كل ساعة تمرُّ من حياتنا إلى مصائب لا تُحصَى، وهذا لم يمنعنا من أن نتحرَّك ونسعى ونقتحم الأخطار في الأسفار لنحصِّل من رزق الله ما نحتاج إليه، إنا نشعر بأنواع الجرائم تُرتَكَبُ من حولنا فالقتل والنهب والنصب والتزوير والقذف وغيرها من الجرائم تزعج الساكن، وتقلق المطمئن، ومع ذلك فإنا نحتمل مصائبها، ونسلم الحكم للقدر فيها، ونجتهد في تطهير المجتمع منها بالوسائل المشروعة من التربية، أو إيقاع العقوبة على مرتكب الجريمة. فلِمَ لا يكون ارتكاب الفحش من المرأة جريمة من هذه الجرائم التي لا يخلو منها مجتمع إنساني؟ ولِمَ نتخيَّل أنها أشنع وأفظع من سواها حتى اتَّخذنا لمنعها ما لم نتَّخذه لمنع غيرها؟ وعلى أي حال فليس من الجائز أن نأتي ما فيه ضرر محقق لنتَّقي به ضررًا وهميًّا. فوقوع الفحش من المرأة أمر محتمل الوقوع قد يكون وربما لا يكون، أمَّا حجابها ومنعها من التمتُّع بقواها الغريزيَّة فهو ضرر محقَّق لاحق بها حتمًا، ويا ليته اقتصر عليها ولكنه يتعدَّاها إلى كل ما يقع تحت رعايتها. يتوهَّم أحدنا أن امرأته ربما تميل إلى غيره إن رُفع الحجاب عنها؛ فلذلك يزجُّ بها وراء الأبواب، ويغلق عليها الأقفال، ويظنُّ بذلك أنه قد استراح من الوساوس، وهو لا يدري ما ربما يأتيه من … حيث لا يدري، فلم يُفِده حرصه شيئًا في الحقيقة، ومع هذا فهو بعمله قد قتل نفسًا حيَّة وأفسد نفوسًا كثيرة ممن تتولاهم زوجته في بيته في سبيل ما يظنُّه راحة لنفسه. توهَّم كثير ممن سبقنا مثل ما توهَّمنا وحجبوا نساءهم كما نحجب نساءنا، بل فاقونا في التفنُّن واتِّخاذ الطرق لاطمئنان أنفسهم من ناحية زوجاتهم، وإنني أذكر الآن أغرب طريقة كانت مُستعمَلة عند أعيان أوروبا في القرون الوسطى وهي ما كان يُسمَّى عندهم بنطاق العفَّة، وهو نطاق من حديد يتَّصل به حفَّاظ، ولذلك النطاق قفل يكون مفتاحه في جيب الرجل دائمًا، ولكن هذا لم يمنع النساء من أن يمنحن عشاقهنَّ مفتاحًا مصطنعًا! ثمَّ ما لبث هؤلاء الأمم أن أدركوا خطأهم وعرفوا أن ضرر تلك الأوهام أكثر من نفعها، ولمَّا أخذت المعارف تنتشر بينهم شرعوا في قياس أعمالهم المعاشية بمقياس العقل السليم والعلم الصحيح الخالص من شائبة الوهم، وأدركوا أن سعادتهم لا تتمُّ بما ينالون من ثمار ذلك إلَّا إذا شاركتهم نساؤهم في مساعيهم وعاونَّهم في لَمِّ شعثهم وتكميل نقصهم؛ فأعدوهنَّ بالتربية والعلم إلى ما أملوا منهنَّ. فافتككن من أسرهنَّ، وتمتَّعن بحريتهنَّ، وسرن مع رجالهنَّ يعاونَّهم في الحياة، ويمددنهم بالرأي في كل أمر، ولست مبالغًا إن قلت إن ما أقامه التمدُّن الحديث من البناء الشامخ وما وضعه من الأصول الثابتة إنما شُيِّد على حجر أساسي واحد هو المرأة. لم يكن ما استفاده الغربيون من تربية نسائهم والتساهل لهنَّ في مخالطتهم قاصرًا على المزايا التي أشرنا إليها بل كان لهم مع ذلك فوائد جمَّة في تدبير المعيشة وتَيسُّر طرق الاقتصاد. تدخل بيت الغربي من أهل الطبقة الوسطى فتجده أتمَّ نظامًا، وأكمل ترتيبًا، وأجمل أثاثًا من بيت الشرقي من أهل طبقته؛ ومع ذلك تجد نفقة الغربي أقلَّ من نفقة الشرقي بكثير. انظر إلى الواحد منا تجد مسكنه لا بُدَّ أن يكون إلى قسمين: قسم للرجال، وآخر للنساء، فإن أراد أن يبني بيتًا فعليه أن يهيئ ما يكفي لبناء بيتين في الحقيقة، وإذا استأجر بيتًا فهو إنما يستأجر في الواقع بيتين؛ ويتبع ذلك ما يلزم لكل منهما من الأثاث والفرش، ولا بُدَّ له من فريقين من الخدم: فريق يخدم الرجال في القسم المختصِّ به، والآخر يختصُّ بخدمة النساء داخل البيت، ثمَّ لا بُدَّ له من عربة للنساء وعربة للرجال؛ لأنه ليس من الجائز في عرفنا أن يركب الرجل مع زوجته أو مع والدته في عربة واحدة. وهو مضطر لأن يزيد في النفقة للطعام وما يتبعه؛ لأنه إذا أتى ضيف واحد رجلًا كان أو امرأة وجب تحضير مائدتين بدل واحدة كانت تكفي؛ وهكذا ترى نفقات ضائعة، وثمرات كسب مستهلكة ولا سبب لها إلَّا تشديد الحجاب على النساء. هل يظنُّ المصريون أن رجال أوروبا مع أنهم بلغوا من كمال العقل والشعور مبلغًا مكَّنهم من اكتشاف قوَّة البخار والكهرباء واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر في كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعالي وتفضِّل الشرف على لذَّة الحياة، هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي نعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفَّتها؟ هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكُّنه عندهم لو رأوا خيرًا فيه؟ — كلَّا. وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السُّذَّج وتركن إليها نفوسهم ولكنها يمجُّها كلُّ عقل مهذب وكلُّ شعور رقيق. متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور؛ أدرك الرجل أن المرأة إنسان من نوعه لها ما له وعليها ما عليه، وأن لا حقَّ لأحدهما على الآخر بعد توفية ما فرضته الشريعة على كلٍّ منهما لصاحبه إلَّا ما يعطيه كلٌّ من نفسه بمحض إرادته، وحسن اختياره. متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل عرف أن حجاب المرأة إعدام لشخصها فلا تسمح له ذمَّته بعد ذلك أن يرتكب هذه الجريمة توسُّلًا إلى ما يظنُّه راحة بال واطمئنان قلب. متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الزوج؛ وجد من نفسه أن لا سبيل إلى اطمئنان قلبه في عشرة امرأة جاهلة مهما كان الحائل بينها وبين الرجال. متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل أدرك أن الذي تشتاق إليه نفسه هو حبٌّ يصل بينه وبين إنسان مثله بحسن اختيار وسلامة ذوق، لا بمجرَّد نزعات الهوى ونزوات الشهوة؛ فيسعى جهده فيما يقويه ويشدُّ عراه، ويبذل ما في وسعه للمحافظة عليه. متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل والمرأة لا تقتنع نفاسهما بالاختلاط الجسماني وحده بل يصير أعظم همِّهما طلب الائتلاف العقلي والوحدة الروحيَّة. إن طبيعة العصر الذي نحن فيه منافرة للاستبداد، معادية للاستعباد، ميالة إلى سوق القوى الإنسانيَّة في طريق واحد وغاية واحدة. فهذا الطائف الرحماني الذي طاف على نفوس البشر فنبَّه منها ما كان غافلًا لا بُدَّ أن ينال منه النساء نصيبهنَّ؛ فمن الواجب علينا أن نمدَّ إليهنَّ يد المساعدة، ونعمل بقول النبي: «اتقوا الله في الضعيفين المرأة واليتيم»، ولا شيء أدخل في باب التقوى من تهذيب العقل، وتكميل النفس، وإعدادها بالتعليم والتربية إلى مدافعة الرذائل ومقاومة الشهوات، ولا من حسن المعاملة واللطف في المعاشرة؛ فعلينا أن نجعل الصلة بيننا وبينهنَّ صلة محبَّة ورحمة لا صلة إكراه وقسوة، هذا ما تفرضه علينا الإنسانيَّة، وتطالبنا به الشريعة، وهو مع ذلك فريضة وطنيَّة يجب علينا أداؤها؛ حتى تكون جميع أعضاء المجتمع عندنا حيَّة عاملة قائمة بوظائفها. وقبل أن أختم الكلام في هذا الباب أرى من الواجب عليَّ أن أنبِّه القارئ إلى أني لا أقصد رفع الحجاب الآن دفعة واحدة والنساء على ما هنَّ عليه اليوم؛ فإن هذا الانقلاب ربما ينشأ عنه مفاسد جمَّة لا يتأمَّل معها الوصول إلى الغرض المطلوب كما هو الشأن في كل انقلاب فجائي، وإنما الذي أميل إليه هو إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير. فيُعوَّدن بالتدريج على الاستقلال ويُودَع فيهنَّ الاعتقاد بأن العفة ملكة في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم، ثمَّ يُعوَّدن على معاملة الرجال من أقارب وأجانب مع المحافظة على الحدود الشرعية وأصول الأدب تحت ملاحظة أوليائهنَّ؛ عند ذلك يسهل عليهن الاستمرار في معاملة الرجال بدون أدنى خطر يترتَّب على ذلك اللهم إلَّا في أحوال مستثناة لا تخلو منها محجَّبة ولا بادية.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/3/
المرأة والأمَّة
كلُّ مَن تعلَّم من المصريين، وساعده حسن الحظ على أن يستعرف أحوال أمته وحاجاتها ويحيط بها، يعلم أن الأمَّة المصريَّة دخلت اليوم في دور مهم بل في أهم دور من تاريخها. إني لا أجد في ماضيها عصرًا انتشرت فيه المعارف، وظهر فيه الشعور بالروابط الوطنيَّة، وانبث الأمن والنظام في أنحاء البلاد، وتهيَّأت الأسباب للتقدُّم مثل العصر الذي نعيش فيه الآن، ولكنها من جهة أخرى لم يمرَّ عليها زمن صارت فيه حياتها معرَّضة للخطر مثل ما هي في هذا الزمان؛ فإن تمدُّن الأمم الغربيَّة يتقدَّم بسرعة البخار والكهرباء حتى فاض من منبعه إلى جميع أنحاء المسكونة، فلا يكاد يوجد منها شبر إلَّا وطئه بقدمه، وكلَّما دخل في مكان استولى على منابع الثروة فيه من زراعة وصناعة وتجارة، ولم يدع وسيلة من الوسائل إلَّا استعملها فيما يعود عليه بالمنفعة، وإن أضرَّ بجميع مَن حوله من سكان البقاع الأصليين. فإنه إنما يسعى إلى السعادة في هذه الحياة الدُّنيا يطلبها أنى وجدها، وبأي طريقة يرى النجاح فيها، وهو في الغالب يستعمل قوَّة عقله، فإذا دعت الحال إلى العنف واستعمال القوَّة لجأ إليها، فهو لا يطلب الفخار والمجد فيما يمتلك أو يستعمر؛ لأنه يجد ذلك متوفرًا له في أعماله العقليَّة واختراعاته العلميَّة، وإنما الذي يحمل الإنكليزي على أن يسكن الهند، والفرنساوي الجزائر، والروسي الصين، والألماني زنجبار هو حبُّ المنفعة والرغبة في تحصيل الثروة من بلاد تحتوي على كنوز لا يعرف أهلها قيمتها وطرق الانتفاع بها. فإن صادفوا أمَّة متوحِّشة مهما كان بأسها أبادوا أهلها وأهلكوهم أو أجلوهم عن أرضهم، كما حصل في أمريكا وأستراليا، وكما هو حاصل الآن في أفريقيا؛ حيث لا يُرَى أثر لأهالي البقاع التي احتلها الأوروباوي؛ لأنهم خرجوا منها طوعًا أو كرهًا، وإن صادفوا أمَّة كأمتنا دخل فيها نوع من المدنيَّة من قبل ولها ماضٍ ودين وشرائع وأخلاق وعوائد وشيء من النظامات الابتدائية خالطوا أهلها، وتعاملوا معهم، وعاشروهم بالمعروف، لكن لا يمضي زمن طويل إلَّا وترى هؤلاء القادمين قد وضعوا يدهم على أهمِّ أسباب الثروة؛ لأنهم أكثر مالًا وعقلًا وعرفانًا وقوَّة فيتقدَّمون كل يوم، وكلَّما تقدَّموا في البلاد تأخَّر ساكنوها. هذا ما سمَّاه داروين قانون التزاحم في الحياة: فطرة الله التي فطر عليها جميع الأنواع، وأودعها لها؛ لتُعِدَّها إلى الرقي في درجات الكمال. فما ضعف منها عند التزاحم عن مغالبة منازعة اضمحل ونبذه الوجود إلى خفاء العدم، وما قوي عند التغالب أظفره الله بالنصر المبين فيرجع من ساحات هذا القتال الدائم مبرهنًا بظفره على أنه أفضل بني نوعه وأكرمهم؛ فيعيش، ويبقى، ويتناسل، وينمو، ويظهر فيه كمال نوعه، وتخلد به آثاره. فلا سبيل للنجاة من الاضمحلال والفناء إلَّا طريق واحدة لا مندوحة عنها؛ وهي أن تستعدَّ الأمَّة لهذا القتال، وتأخذ له أُهبَتَها، وتستجمع من القوَّة ما يساوي القوَّة التي تهاجمها من أي نوع كانت، خصوصًا تلك القوَّة المعنويَّة؛ وهي قوَّة العقل والعلم التي هي أساس كل قوَّة سواها. فإذا تعلَّمت الأمَّة كما يتعلَّم مزاحموها، وسلكت في التربية مسالكهم، وأخذت في الأعمال مآخذهم، وتدرَّعت للكفاح بمثل ما تدرَّعوا به؛ أمكنها أن تعيش بجانبهم، بل تيسَّر لها أن تسابقهم فتسبقهم فتستأثر بالخير دونهم؛ لأن البلاد بلادها وأرضها أبر بها منها بالغريب عنها، وأبناءها أقدر على المعيشة فيها، وهم السواد الأعظم فكيف إذا ظفروا من أنفسهم بتلك الحال الشريفة لا يفلحون. وهذه الطريق — طريق النجاة — كما قدَّمت مفتوحة أمامنا، ولا يوجد عائق يعوقنا عن السير فيها إلَّا ما يكون من أنفسنا. فإن كان للمصريين همٌّ وصدق عزيمة في طلب سعادتهم، والمحافظة على بقائهم، والسعي إلى خلاصهم ونجاتهم من التهلكة، فعليهم أن يسلكوا تلك الطريق، ويخلعوا عنهم كل عادة سيئة، وينزعوا من أنفسهم كل خليقة ممقوتة تعطِّل مسيرهم، وليعتمدوا على أنفسهم في إصلاح أنفسهم، ولا يضيِّعوا أوقاتهم في أماني باطلة يلتمسون تحقيقها من حكومتهم، فإن حكومتهم لا تستطيع من العمل لهم إلَّا قليلًا، أمَّا هم فإنهم يستطيعون أن يأتوا في إصلاح شئونهم بالجمِّ الكثير. ماذا يفيدهم أن يقولوا كل يوم إن الحكومة لم تقم بما يجب عليها؟ أهذا يمنعنا من أن نفعل ما يجب علينا لأنفسنا؟ نحن اليوم متمتِّعون بعدل وحرية لا أظنُّ أن مصر رأت ما يماثلهما في أي زمن من أزمانها، وهما الأمران اللذان تحتاج إليهما الأمَّة أشدَّ الاحتياج، ولا يتيسر بدونهما نجاح في عمل من الأعمال العظيمة التي يقوم بها إصلاحها. فما علينا إلَّا أن ننتهز فرصة ما وصلنا إليه، ونحرث أرضنا، ونسقي غراسها، وننتظر ما يأتي به من الثمرات فإذا نضجت اقتطفناها، وكما أن الزارع يجب عليه قبل أن يلقي البذور في الأرض أن يهتمَّ بمعرفة طبيعتها وما تحتاج إليه من الأعمال لتحضيرها وتهيئتها؛ حتى لا يضيع ماله وتعبه، كذلك يجب علينا أن نبحث في أسباب تأخرنا، فإذا عرفناها عمدنا إلى إزالتها وصنا أنفسنا من التخبُّط على غير هدى، وأرحنا أنفسنا من التجارب العقيمة. وقبل الكلام فيما نريد البحث فيه نثبت هنا أمرًا لاحظه كلُّ مَن له إلمام بأحوال الشرق: وهو أن تأخُّر المسلمين عام فيه أين كانوا؛ فالسبب يجب أن يكون عامًّا أيضًا. أمَّا اختلاف الشعوب والأقاليم فليس له تأثير كبير في انحطاط المسلمين؛ إذ لو كان له أثر لوُجِدَ اختلاف بين التركي والمصري والهندي والفارسي والبشناقي والصيني من حيث العمران والمدنيَّة، ولكنا لا نرى اختلافًا بينهم من هذه الجهة، وإنما الاختلاف محصور في بعض الصفات النفسانية وبعض العوائد، ذلك هو كل ما فعله اختلاف الشعوب والأقاليم، فالتركي مثلًا نظيف صادق شجاع، والمصري على ضد ذلك، إلَّا أنك تراهما رغمًا عن هذا الاختلاف متَّفقين في الجهل والكسل والانحطاط. إذًا لا بُدَّ أن يكون بينهما أمر جامع وعلَّة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معًا في حالة واحدة. ولمَّا لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعًا إلَّا الدين ذهب جمهور الأوروباويين، وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخُّرهم عن غيرهم حتى الذين يشاركونهم في الإقليم ويساكنونهم في البلد الواحد، ولم يقصد أحد منهم — خصوصًا أفاضل المسلمين المشتغلين بأحوال الأمم الإسلاميَّة — أن يتَّهم الدين الإسلامي الحقيقي بأنه السبب في انحطاط المسلمين، فإن كلَّ مَن عرف هذا الدين من الأجانب فضلًا عن أبنائه المنتسبين إليه يجلُّ قدره ويحترمه، ويعترف أن آثاره الماضية في الأمم التي انتشر بينها برهنت على أنه وسيلة من أفضل الوسائل، وعامل من أقوى العوامل التي تسوق الإنسان في طرق الترقِّي والتقدُّم إلى غايات السعادة، ولكنهم يرون أن ما يزعمه المسلمون اليوم دينًا، وتسميه عامتُهم — بل وأغلب علمائهم — بدين الإسلام، قد اشتمل على أمور كثيرة من عقائد، وعوائد، وآداب موهومة لا علاقة لها بالدين الحقيقي الطاهر وإنما هي بدع ومُحدَثات أُلصقت به؛ فهذا الخليط الذي سمَّاه الناس دينًا واعتبروه إسلامًا هو المانع من الترقِّي. وليس في إمكان أحد أن ينكر أن الدين الإسلامي قد تحوَّل اليوم عن أصوله الأولى، وأن العلماء والفقهاء — إلَّا قليلًا ممن أنار الله قلوبهم — قد لعبوا به كما شاءت أهواؤهم حتى صيَّروه سخرية وهزوًا، وحقَّت عليهم كلمة الكتاب: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا. ولكني أعتقد أن هذا الانحطاط الذي طرأ على الدين ليس سببًا لما عليه المسلمون الآن، وإنما هو نتيجة لأمر هو: الجهل الفاشي في المسلمين عامَّة رجالًا ونساءً. كان النبي وخلفاؤه وأصحابه كلهم يخدمون الدين ويشتغلون بالدُّنيا في آن واحد، وصرَّحت السُّنَّة كما أجمعت عليه الأئمة بأن لا قوام للدين إلَّا بسلطة تحفظه. فلم يمضِ إلَّا قرن واحد من عهد ظهور الإسلام حتى صار عَلَمُ المسلمين يخفق على أهم أقسام العالم، ولم يكن الغرض من هذه الفتوحات العجيبة إكراه الناس على الأخذ بهذا الدين، وإنما كانوا يفتحون البلاد؛ دفاعًا عن الحوز، وتوسيعًا لنطاق الملك والسلطة والانتفاع بالصناعة والتجارة؛ وهو المقصد الذي يعمل له الأوروباويون في بلاد الشرق الآن. ثمَّ لم يمضِ على ظهور الإسلام جيلان إلَّا وقد أضاء الكون بنور العلوم التي نشرها المسلمون في كل أرض احتلُّوها وبلد أقاموا به، فلم يتركوا فرعًا من العلوم ولا فنًّا من الفنون إلَّا تعلَّموه وألَّفوا فيه وزادوا عليه حتى العرب — تلك الأمَّة الأميَّة التي ربما صحَّ فيها قول ابن خلدون إنها لا تصلح للمدنية أبدًا — اندفعت بقوَّة ذلك التيار وعامل تلك النهضة إلى منافسة مواطنيهم في خدمة العلم، وكانت هذه الحركة عامَّة في كل ما يجول فيه الفكر ويمتدُّ إليه النظر وتتناوله مدارك البشر، هذا يشتغل بعلوم الكلام، وآخر بالعلوم الطبيعيَّة، وثالث بالفلك والحساب، ورابع بالتاريخ والجغرافيا، وخامس بالفلسفة والأخلاق، ولم يهملوا الصناعة والتجارة فبنوا وشيَّدوا وامتلأت سفنهم بالبضائع تجري في البحار حول الأرض، واستمرَّ هذا الحال على ضرب من التفاوت بحسب الأزمان إلى أن رُزِئ المسلمون بوقائع التاتار في الشرق وانقراض الخلافة منه، وزالت دولة العرب من الأندلس، وانتقلت العلوم الإسلاميَّة إلى أوروبا، فرجع المسلمون إلى حالة الجاهلية الأولى. ومن ذلك الحين انطفأ مصباح العلم من الشرق بأجمعه، واقتصر علماء الإسلام على النظر في شيء من علوم الكلام، وبعض شيء من قواعد اللغة العربية، وانصرفوا عن كل شيء سواها. ولمَّا ساد الجهل على عقولهم، وتراكمت ظلماته في أذهانهم لم يعد في استطاعتهم أن يفهموا حقيقة الدين؛ وشعروا أن ضعفهم لا يسمح لهم بأن يصعدوا إليه بعقولهم فأنزلوه من مكانه الرفيع، ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد، ثمَّ أخذوا يتصرَّفون فيه تصرُّف الغبي الأحمق؛ والجاهل كالطفل يغترُّ بنفسه، ويعجب بمعارفه، ويؤذي نفسه والناس معه. انظر إلى الجاهل تجده دائمًا يختار من فكرين أقلَّهما صوابًا، ومن طريقين أصعبهما، ومن عملين أضرَّهما؛ ذلك لأن الحق سواء كان فضيلة أو مصلحة يلتبس بالباطل، ويخفى على الناظر فلا يراه إلَّا بعيد النظر نافذ البصيرة في مصائر الأمور وعواقبها، ثمَّ هو يحتاج في الوصول إليه إلى عناء يفرُّ منه الجاهل الكسول، وفيه حرمان من لذَّة حالية في سبيل منفعة مستقبله. ومن رأي علمائنا اليوم أن الاشتغال بشئون العالم والعلوم العقليَّة والمصالح الدنيوية شيء لا يعنيهم، وصار منتهى علمهم أن يعرفوا في إعراب البسملة ما يزيد من غير مبالغة على ألف وجه على الأقل، وإن سألتهم عن شيء من الأشياء المتداولة في أيديهم كيف صُنِعَ أو عن حال الأمَّة التي هم منها أو أمَّة أخرى تجاورهم أو الأمَّة التي احتلَّت بلادهم أين موقعها الجغرافي وما منزلتها من القوَّة والضعف، بل لو سألت الواحد منهم عن وظيفة عضو من أعضائه ومكانه من بدنه، هزُّوا أكتافهم ازدراءً بالسائل والمسألة واحتقارًا لهما، وإن تكلَّمت معهم في نظام حكومتهم الداخلي وقوانينها وحالتها السياسية والاقتصادية وجدتهم لا يدرون منها شيئًا، وسواءٌ عاشوا في العزِّ أو في الذل فهم على كلِّ حال عائشون، وبما ينحطون إليه راضون، ويرون أن ليس للإنسان أن يعمل لمصلحة نفسه، وأن يختار لها أمرًا، ويزعمون أنهم وكَّلوا جميع أمورهم إلى ما يجري به القضاء، مع أنك تراهم أشدَّ الناس احتيالًا في طلب الرزق من غير وجهه وأحرصهم على حفظ ما يجمعون من الحطام ونيل ما يتوهَّمونه شرفًا ورفعة؛ ولذلك ضُرِبَ المثلُ بتحاسدهم فيما بينهم؛ فهم في الحقيقة يريدون التخلُّص من مشقة العمل وإنما يحتجُّون بالقَدَر تضليلًا للعامَّة وإقناعًا للسُّذَّج بأنهم في تقصيرهم في أداء ما فرضته عليهم الشريعة مقهورون بقوَّة القضاء. ظنَّ هؤلاء المساكين أنهم متى عرفوا كيف تستقيم العبارات، وكيف تُعذَّب الألفاظ بالإعراب والصرف عرفوا ما في الدين والدُّنيا، والبعد بينهم وبين الدين الحقيقي عظيم. قال الأستاذ الشيخ محمد عبده في بيان ما جاء به الإسلام كلامًا نأخذ منه ما يناسب المقام هنا؛ لأنه أحسن ما كُتِبَ في هذا الزمان لتنبيه أفكار المسلمين: طالب الإسلام بالعمل كلَّ قادر عليه، وقرَّر أن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وأباح لكل أحد أن يتناول من الطيبات ما شاء أكلًا وشربًا ولباسًا وزينةَ. ولم يحظر عليه إلَّا ما كان ضارًّا لنفسه أو بمَن يدخل في ولايته أو ما تعدَّى ضرره إلى غيره. وحدَّد له في ذلك الحدود العامَّة بما ينطبق على مصالح البشر كافة. فكفل الاستقلال لكل شخص في عمله، واتَّسع المجال لتسابق الهمم في السعي حتى لم يعد لها عقبة لتعثر بها اللهم إلَّا حقًّا محترمًا تصطدم به. أنحى الإسلام على التقليد، وحمل عليه حملة لم يردَّها عنه القدر؛ فبدَّد فيالقه المتغلِّبة على النفوس، واقتلع أصوله الراسخة في المدارك، ونسف ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم، وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته، وهبَّت به من نومة طال عليه الغيب فيها كلَّما نفذ إليه شعاع من نور الحق خلصت إليه هيمنة من سدنة هياكل الوهم، نَمْ فإن الليل حالك، والطريق وعرة، والغاية بعيدة، والراحلة كليلة، والأزواد قليلة. علا صوت الإسلام على وساوس الطغام، وجهر بأن الإنسان لم يُخلَق ليُقَاد بالزمام ولكنه فُطِرَ على أن يهتدي بالعلم والأعلام؛ أعلام الكون ودلائل الحوادث. وإنما المعلِّمون منبِّهون ومرشدون وإلى طرق البحث هادون. صرَّح في وصف أهل الحق بأنهم الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فوصفهم بالتمييز بين ما يُقال من غير فرق بين القائلين؛ ليأخذوا بما عرفوا حُسْنَه ويطرحوا ما لم يتبيَّنوا صحَّته ونفعه. ومال على الرؤساء فأنزلهم من مستوى كانوا فيه يأمرون وينهون، ووضعهم تحت أنظار مرءوسيهم يخبرونهم كما يشاءون ويمتحنون مزاعمهم حسبما يحكمون، ويقضون فيها بما يعلمون ويتيقَّنون، لا بما يظنُّون ويتوهَّمون. صرف القلوب عن التعلُّق بما كان عليه الآباء، وما توارثه عنهم الأبناء، وسجَّل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين، ونبَّه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان، ولا مسميًا لعقول على عقول ولا لأذهان على أذهان، وإنما السابق واللاحق في التمييز والفطرة سيَّان، بل اللاحق من علم الأحوال الماضية واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها في الكون ما لم يكن لمَن تقدَّمه من أسلافه وآبائه، وقد يكون من تلك الآثار التي ينتفع بها أهل الجيل الحاضر ظهور العواقب السيئة لأعمال مَن سبقهم وطغيان الشرِّ الذي وصل إليهم بما اقترفه سلفهم قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وإن أبواب فضل الله لم تُغلَق دون طالب ورحمته التي وسعت كل شيء لن تضيق عن دائب. عاب أرباب الأديان في اقتفائهم أثر آبائهم، ووقوفهم عند ما اختطته لهم سير أسلافهم وقولهم: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ومما يستحق أن نفرح له هو أن نفرًا من علماء عصرنا في مصر وفي غيرها من بلاد الإسلام شرقًا وغربًا يرون ما نرى، ويقولون ما نقول، ويعترفون بأن العلوم التي تُقرَأ الآن في الأزهر وفي غيره لا تفيد إن لم تُؤسس على الحقائق العلميَّة التي تهيئ العقول لقبولها والانتفاع بها. وفي الحقيقة أن علوم التوحيد والفقه لا يمكن الانتفاع بها إذا لم يسبقها الإلمام بالمعارف العامَّة والمبادئ العلميَّة، أليس التوحيد هو خاتمة العلوم كلها وخلاصة مجموعها؟ أليس الفقه علم شريعة كل نفس في ارتباطها بخالقها، وفي معاملتها مع بقية البشر، وكلاهما يحتاج إلى معرفة علم النفس، وتشريح الجسم ووظائفه، والتاريخ، والرياضة، والعلوم الطبيعيَّة، وغيرها مما تسمو به الأفكار ويرتقي به العقل؟ أليس العلم في الحقيقة واحدًا يشبه شجرة ذات فروع وأفنان تتَّصل كلُّها بأصل واحد، وتتغذَّى من جذر واحد، وتخدم حياة واحدة، وتنتج ثمرة واحدة هي معرفة حقيقة كل شيء في الوجود؟ وما علينا إلَّا أن نصغي لمقال هؤلاء العلماء الأفاضل الذين هم أدرى منا بحاجات الدين، ولا يخفى عليهم شيء من حاجات الدُّنيا، وأن نعضدهم في مشروعاتهم الصالحة؛ ليستيقظ الدين من نومته الطويلة، ويذلل العقبات، ويتغلَّب على المصاعب التي أقامها أهله في طريقه. ولا حاجة بنا إلى التطويل في شرح أمر صار معلومًا عند الكل؛ وهو انحطاط الدين اليوم في جميع مظاهره حتى في العبادات، وإنما أردنا أن نبيِّن أن انحطاط الدين تابع لانحطاط العقول، وأن العلَّة الأولى التي هي مصدر غيرها من العلل التي حالت بيننا وبين الترقي هي: إهمال التربية في الرجال وفي النساء معًا. فإن استمرَّ ذلك السبب لم يصلح للأمَّة حال بل يستمرُّ كل أمر على حاله، والدين أيضًا، وإن زال ذلك السبب صلح حال الأمَّة في جميع مظاهر حياتها العقليَّة والأدبيَّة، وصلح معها الدين أيضًا. أمَّا أن تربية الرجال تصلح شأن الأمَّة، وتقوِّم اعوجاجها فهذا مما صار معروفًا عند كل أحد، ومسلمًا عند الجميع، وأمَّا وجوب تربية المرأة أيضًا فلا يزال محتاجًا إلى البيان: المرأة لا تكون خلقًا كاملًا إلَّا إذا تمَّت تربيتها الجسميَّة والعقليَّة، أمَّا تربيتها الجسميَّة فلأنها لازمة لها في استكمال صحَّتها وحفظ جمالها، فيجب أن تُربَّى كما يجب أن يُربَّى الرجال على تمرين الجسم بالحركة والرياضة؛ لأن الجسم الضعيف لا يسكنه إلَّا عقل ضعيف؛ ولأن ما يكثر عروضه للنساء من الاضطرابات العصبيَّة والمخيَّة إنما هو ناشئ عن عدم انتظام وظائف أعضاء الجسم. فسلامة العقل في جميع مظاهره تابعة لسلامة الجسم؛ وهذا هو السرُّ في تقدُّم الجنس الإنكليزي السكسوني على غيره. وأمَّا تربيتها العقليَّة فلأنها بدونها تكون المرأة فاقدة لقيمتها كما هي حالتها الآن عندنا. نعم إنها تلد ويُحفَظُ بها النوع الإنساني، لكنها في ذلك إما تؤدِّي وظيفة كل أنثى من سائر أنواع الحيوانات، وهي لا تمتاز في عملها هذا عن نحو هرَّة ولود. وفي الحق أننا ضيَّقنا دائرة وظيفة المرأة وخصصناها بالنتاج ولم نطلب منها شيئًا غير ذلك؛ وسببه أننا توهَّمنا أن المرأة لا تصلح لعمل آخر، وأن الرجال غير محتاجين للنساء في القيام بشئون الحياة الخاصة والعامَّة، وغاب عنا أن الرجل إنما يكون في كبره كما هيَّأته والدته في صغره. فهذا الارتباط التام بين الرجل وأمه هو الأمر المهمُّ الذي أريد أن يفهمه الرجال، وهو ثمرة كلِّ ما وضعته في هذا الكتاب. إني أكرِّر ما قلته من أنه يستحيل تحصيل رجال ناجحين إن لم يكن لهم أمهات قادرات على أن يهيئنهم للنجاح؛ فتلك هي الوظيفة السامية التي عهد التمدُّن بها إلى المرأة في عصرنا هذا، وهي تقوم بأعبائها الثقيلة في كل البلاد المتمدنة؛ حيث نراها تلد الأطفال ثمَّ تصوغهم رجالًا. وبديهي أن العمل الأول — وهو الولادة — هو عمل بسيط مادي تشترك فيه المرأة مع الحيوانات، فلا يحتاج إلَّا إلى بنية سليمة، أمَّا العمل الثاني — وهو التربية — فهو عمل عقلي امتاز به النوع الإنساني وهو محتاج في تأديته إلى تربية واسعة، واختبار عظيم، ومعارف مختلفة. والأمر الذي يلزم أن تلتفت إليه كل أمَّة لا تغفل عن مصالحها الحقيقية هو وجود النظام في العائلات التي يتكوَّن منها جسم الأمَّة؛ لأن العائلة هي أساس الأمَّة، ولمَّا كانت المرأة هي أساس العائلة كان تقدُّمها وتأخُّرها في المرتبة العقليَّة أوَّل مؤثِّر في تقدُّم الأمَّة وتأخُّرها. المرأة ميزان العائلة؛ فإن كانت منحطَّة احتقرها زوجها وأهلها وأولادها وعاشوا جميعًا منحلِّين لا يرتبط بعضهم ببعض، ولا يعرفون نظامًا ولا ترتيبًا في معيشتهم؛ فتفسد آدابهم وعوائدهم، أمَّا إن كانت المرأة على جانب من العقل والأدب هذَّبت جميع العائلة، واحترمها أفرادها، واحترموا أنفسهم وعاش الجميع في نظام تام تحت لواء محبَّتها متضامنين أقوياء باتحادهم، وهذه الصفات التي تُشَاهَدُ في العائلة هي الصفات التي تُشاهَدُ في الأمَّة؛ إذ كلٌّ منا يسلك في أمته مسلكه في عائلته، ومن المحال أن يكون للإنسان من الصفات والأخلاق في أمته ما ليس له نموذج في منزله، وأن يعامل مواطنيه بأخلاق غير التي يعامل بها أفراد عائلته، فإن كان حسن الأخلاق في عائلته كان كذلك في أمته، وإن كان سيئ الأخلاق في عائلته ساءت أخلاقه في أمته أيضًا؛ ومن هذا يتبيَّن مقدار عمل المرأة في تقدُّم الأمم وتأخُّرها. وبالجملة فإن ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل مختلفة متنوِّعة من أهمها ارتقاء المرأة، وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة متنوِّعة أيضًا من أهمها انحطاط المرأة. فهذا الانحطاط في مرتبة المرأة عندنا هو أهمُّ مانع يقف في سبيلنا ليصدَّنا عن التقدُّم إلى ما فيه صلاحنا، وعلى هذا فليست تربية المرأة من الكماليات التي يُنتَظرُ بها مرور الأزمان، ويجوز الإبطاء في إعداد الوسائل لها كما يتوهَّمه كثير من الناس الذين يطنطنون بمزايا تربية الذكور ويقدِّمونها على تربية البنات، وإنما هي من الحاجيات — بل من الضروريات — التي يجب البدء بها والعناية بتوفير ما يلزم لها من المعدات، وهي الواجب الخطير الذي إن قمنا به سهل علينا كل إصلاح سواه، وإن أهملناه أفسد علينا كلَّ إصلاح سواه. دلَّت التربية الجديدة التي مُنِحتها نساء أوروبا من نحو قرن على أن المرأة ليست تلك الآلة البسيطة التي وقفها أولئك الأسلاف الغافلون على التناسل، فبمجرَّد ما حلَّ العقل محلَّ القوَّة، وحلَّت الحريَّة محلَّ الاستبداد رأى العالم أن في المرأة أسرارًا لم تعرفها الجاهلية الأولى، وأنها تصلح لوظائف سامية مثل التي يصلح لها الرجال، وأن انحطاطها كان عارضًا لا طبيعيًّا، فلمَّا استيقظت من نومها، واستنار عقلها، واستقامت ملكاتها، وتحلَّت نفسها بالفكر والعلم، ومُرِّنت قواها على العمل؛ صعدت من العقل إلى درجة، وذهبت في رقَّة الشعور إلى غاية لم تكن تخطر في خيال أحد من أهل تلك العصور الخالية، وهي إلى الآن كلَّما تمتَّعت بحريتها زاد ارتقاؤها. كلُّ مطَّلع على حركات النساء الغربيات وأعمالهن لا يشكُّ في أنهن يأتين من الأعمال العظيمة ما لا قوام للمدنيَّة بدونه: لا يوجد فرع من فروع الصناعة والتجارة، ولا علم من العلوم، ولا فن من الفنون إلَّا والمرأة عاملة فيه مع الرجل كتفًا لكتف، ولا يوجد عمل خيري إلَّا وهي في أوَّل العاملين فيه، ولا تقع حادثة سياسية إلَّا وللمرأة نصيب فيها، وليس بين الصنفين فرق إلَّا أن المرأة لم تنل الحقوق السياسية، فإذا مُنِحَتها كما هو المنتظر في بلاد أوروبا تمَّت المساواة بينهما، على أنها قد نالت منها الآن شيئًا كبيرًا؛ حيث خُوِّل لها حق الانتخاب في أمريكا، وفي إنكلترا في المجالس البلدية، وفي فرنسا في المحاكم التجارية، وفي بعض ممالك الولايات المتحدة تجلس المرأة في المجالس الشورية، ولا تخلو اليوم عاصمة من عواصم أوروبا وأمريكا من جمعية للنساء همُّها أن تطالب بحقوق المرأة والسعي في سبيل اكتسابها، وكلُّ سنة تمرُّ تترك في تاريخ أعمالهن أثرًا شريفًا، وتنتهي بفوز جديد. ولا يشكُّ أحد من الواقفين على هذه الحركة — التي أظهر فيها هذا الصنف الضعيف قوَّة عجيبة — أن المرأة لا بُدَّ أن تصل في زمن قريب إلى مستوى تبلغ فيه منتهى ما تطلب من مساواتها للرجال في جميع الحقوق، ولا يعلم ماذا يكون بعد ذلك إلَّا الله. وهل يقف النساء عند هذا الحدِّ أو يسبقن الرجال في ميدان التقدُّم والترقِّي. ومن البديهي أن هذه القوى التي تصرفها النساء في التجارة والصناعة والفنون والعلوم — وإن كانت كل واحدة منها على حدتها — لا يظهر أثرها للناظر في أحوال الأمَّة ولكن لجميعها مجموع واحد يظهر أثره في أحوالها تمام الظهور، وهي رأس مال عظيم نحن مقصِّرون في العناية والانتفاع به. وعندي أن من أعظم ما يُؤسف عليه حرمان بلادنا من أعمال النساء الخيرية؛ لأن الميل إلى الخير من غرائز المرأة الفطرية، ويقودها إليه رقَّة الإحساس، وحنوُّ القلب، ولها من الصبر على خدمة الفقراء والمرضى ما لا يتحمَّله أعظم الرجال جَلَدًا، ولها اعتناء جميل، واندفاع قلبي، وهذه الصفات توجد عند النساء في الغالب، غير أن المرأة الجاهلة لا تجد من نفسها مرشدًا يهديها إلى سبل الخير فتصرف ما أودعه قلبها من كنوز الرحمة في أصغر الأمور وأحقرها. ويُروَى عن أم عطية أنها قالت: «وغزوت مع رسول الله سبع غزوات، وكنت أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.» والذي يقرأ هذه الأسطر يتخيَّل له أنه يرى امرأة غربيَّة من الممرضات اللاتي وهبن حياتهنَّ لخدمة الإنسانيَّة. والناظر في الأحوال التي فضَّلت فيها شريعتنا الرجل على المرأة مثل الخلافة والإمامة والشهادة في بعض الأحوال لا يجد واحدة منها تتعلَّق بعيشتها الخصوصية وحريتها، وأن الشارع لم يراعِ في هذه المسائل القليلة إلَّا عدم الخروج بالمرأة عن وظيفتها في العائلة، وحصر الوظائف العمومية في الرجال؛ وهو تقسيم طبيعي جرى على مقتضاه إلى الآن التمدُّن في أوروبا، ولا يوجد فيه شيء يمنع من ترقية المرأة والوصول بها إلى أعلى مرتبة تستحقها، وما من عاقل يدرك الغرض الصحيح من تلك الحقوق العظيمة التي خوَّلتها الشريعة الإسلاميَّة إلى المرأة في جميع الأعمال المدنيَّة — ومنها أهليتها لأن تكون وصيَّة على رجل — يستحسن ما يخالفها من عوائدنا التي تؤدِّي إلى حرمان المرأة بالفعل من استعمال هذه الحقوق. والقارئ الذي تتبع سلسلة القواعد الكلية التي سردتها بغاية الإيجاز لا بُدَّ أن يكون قد لاحظ أنها كلها تتلخَّص في عبارة واحدة هي: أنه لا بُدَّ لحسن حال الأمَّة من أن تحسن حال المرأة. فإذا أرسل الناظر فكره ليحيط بأطراف هذا الموضوع الواسع وبجميع ما يرتبط به من المسائل؛ انجلت له الحقيقة، وتجلَّت له بجميع أسرارها فيرى صورة لا تشابه الخيال الذي كان يظنُّه جسمًا، يرى المرأة التي يهيِّئها المستقبل تتلألأ في أنوار جمالها ظاهرة مظهرها الفطري، ولابسة حلَّة كمالها الثنائي: الجسم والعقل.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/4/
العائلة
لا يتمُّ إصلاح حال المرأة بمجرَّد التربية وحدها بل يحتاج إلى تكميل نظام العائلة، نعم إن ارتقاء مدارك المرأة مما يساعد على كمال نظام العائلة، ولكن هذا النظام نفسه — على ما به من الارتباط بالعوائد والأحكام الشرعية — له هو الآخر دخل كبير في ارتقاء المرأة وانحطاطها؛ ولهذا رأينا من الضروري استلفات الذهن إلى أهمِّ المسائل التي تمسُّ بحياة العائلة وهي الزواج وتعدُّد الزوجات والطلاق، وسنتكلَّم عليها باختصار على هذا الترتيب: رأيت في كتب الفقهاء أنهم يُعرِّفون الزواج بأنه: «عقد يملك به الرجل بضع المرأة»، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن بين الزوج والزوجة شيئًا آخر غير التمتُّع بقضاء الشهوة الجسدانية، وكلها خالية عن الإشارة إلى الواجبات الأدبيَّة التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذَّبان كلُّ منهما من الآخر. وقد رأيت في القرآن الشريف كلامًا ينطبق على الزواج، ويصحُّ أن يكون تعريفًا له، ولا أعلم أن شريعة من شرائع الأمم التي وصلت إلى أقصى درجات التمدُّن جاءت بأحسن منه. قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً والذي يُقارن بين التعريف الأول الذي فاض من علم الفقهاء علينا، والتعريف الثاني الذي نزل من عند الله يرى بنفسه إلى أي درجة وصل انحطاط المرأة في رأي فقهائنا، وسرى منهم إلى عامَّة المسلمين، ولا يستغرب بعد ذلك أن يرى المنزلة الوضيعة التي سقط إليها الزواج حيث صار عقدًا غايته أن يتمتَّع الرجل بجسم المرأة؛ ليتلذذ به، وتبع ذلك ما تبعه من الأحكام الفرعية التي رتَّبوها على هذا الأصل الشنيع. فهذا النظام الجميل الذي جعل الله أساسه المودة والرحمة بين الزوجين آل أمره — بفضل علمائنا الواسع — إلى أن يكون اليوم آلة استمتاع في يدِّ الرجل، وجرى العمل على إهمال كل ما من شأنه أن يوجد المودة والرحمة، وعلى التمسُّك بكلِّ ما يخلُّ بهما. فمن دواعي المودة ألا يقدم الزوجان على الارتباط بعقد الزواج إلَّا بعد التأكُّد من ميل كل منهما للآخر، ومن مقتضى الرحمة أن يحسن كلاهما العشرة مع بعضهما، ولكن لمَّا غفلنا عن معنى الزواج الحقيقي الشرعي استخففنا به وتهاونا بواجباته؛ وكان من نتائج ذلك أن يتمَّ عقد الزواج قبل أن يرى كلُّ من الزوجين صاحبه. بينَّا فيما سبق أن جميع المذاهب في اتفاق على أن نظر المرأة المخطوبة مباح لخاطبها، وذكرنا حديثًا عن النبي أمر به أحد الأنصار أن ينظر إلى خطيبته وهو قوله: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.» فما بالنا أهملنا هذه النصيحة على ما فيها من الفائدة مع أننا نتمسَّك بغيرها مما يقلُّ عنها في الأهمية؟ — ذلك لأن الجاهل من عادته أن يميل إلى ما يضرُّه وينفر مما ينفعه. كيف يمكن لرجل وامرأة سليمي العقل قبل أن يتعارفا أن يرتبطا بعقد يلزمهما أن يعيشا معًا وأن يختلطا كمال الاختلاط؟ أرى الواحد من عامَّة الناس لا يرضى أن يشتري خروفًا أو جحشًا قبل أن يراه، ويدقِّق النظر في أوصافه، ويكون في أمن من ظهور عيب فيه. وهذا الإنسان العاقل نفسه يقدم على الزواج بخفة وطيش يحار أمامهما الفكر. لعلك تقول إن المرأة ترى خطيبها من الشباك مرارًا، وإن الرجل يعرف بواسطة أمه أو أخته أوصاف خطيبته مثل: سواد شعرها، وبياض خدودها، وضيق فمها، واعتدال قوامها، ورزانة عقلها وما أشبه ذلك؛ فيكون عنده علم بما هي عليه من جمال وشمائل — نقول هذا قد يكون، ولكن كل هذه الصفات متفرِّقة لا تفيد صورة ما، ولا يمكن أن ينبعث عنها ميل إلى طلبها لتكون عشيرة تطمئن لصحبتها النفوس، وتتعلَّق بها وبنسلها الآمال، وإنما الذي يهمُّ الإنسان البصير هو أن يرى بنفسه خلقًا حيًّا يفتكر ويتكلَّم ويفعل، خلقًا يجمع من الشمائل والصفات ما يلائم ذوقه، ويتَّفق مع رغباته وعواطفه. كثيرًا ما يرى الواحد شخصًا لم يكن رآه قبل ذلك، وبمجرَّد ما يقع عليه نظره تنفر منه نفسه في الحال نفورًا تامًّا ولا يعلم لذلك سببًا، وربما يستقبح الناظر شخصًا على بعد ولكنه متى دنا منه وفاض الحديث بينهما تبدَّل عنده ما وجد منه أولًا بضده، وربما زُيِّن لأول نظرة منك صورة يظهر عليها بهاء الجمال حتى إذا دنوت منها تبدَّل ذلك الإحساس بضده لأول كلمة تصدر منها، وخصوصًا أن هذا الإحساس المادي سواء كان ميلًا أو نفورًا لا يتعلَّق بجمال وقبح المنظر، ولا يحسُّ به جميع الناس على طريقة واحدة؛ فإن الإنسان الواحد يكون منظره سببًا للنفور عند شخص، وللميل عند شخص آخر. فهذه الجاذبة الحسيَّة لا بُدَّ منها عند الزوجين، وهي إن لم تكن ضرورية بين رجل وامرأة يطلبان الزواج مع بعضهما فلا أرى في أي شيء آخر تكون لازمة. على أن الانجذاب المادي ليس كافيًا في الزواج بل يلزم أن يوجد أيضًا توافق بين نفوس الزوجين؛ أي إنه يوجد — لا أقول اتحادًا لأنه مستحيل — ائتلاف بين ملكاتهما وأخلاقهما وعقولهما، ولا تتأتى معرفة وجود هذا التوافق وعدم وجوده إلَّا إذا خالط كل منهما صاحبه ولو قليلًا. ولا يختلف اثنان في أن الزواج الذي يُبنَى على هذا التوافق يكون أمرًا مُحترَمًا في نفوس الزوجين، وتكون عقدته من المتانة بحيث لا يسهل انحلالها، ويكون أيضًا موجبًا للعفَّة والتصوُّن، وعندي أن كل زواج لا يُؤسَس على هذا الائتلاف فهو صفقة خاسرة لا خير فيها لأحد من الزوجين مهما طال أجل الزواج، ومهما كانت صفات الرجل والمرأة؛ ولهذا قال الأعمش: «كل تزويج يقع على غير نظر فأمره همٌّ وغمٌّ.» ولمَّا كان الزواج لا يُراعَى فيه اليوم هذا الشرط كانت الرابطة بين الزوجين واهية العقد تنحلُّ لأول عرض يطرأ عليها، وأغلب ما يكون من ذلك لا سبب له إلَّا رغبة كلٍّ منهما في الخروج من قيد لا يرى وجهًا للمحافظة عليه، والتنصُّل من أمر لا قيمة له في نفسه. وكل ذي ذوق سليم يرى من الصواب أن يكون للمرأة في انتخاب زوجها ما للرجل في انتخاب زوجته؛ فإنه أمر يهمُّها أكثر مما يهمُّ ذوي قرابتها، أمَّا حرمانها من النظر في كل ما يختصُّ بزواجها، وقصر الرأي في ذلك على أوليائها دون مشاركة منها لهم؛ فهو بعيد عن الصواب. قضت العادة عندنا أن يُجتنَب الحديث مع البنت فيما يتعلَّق بالرجل الذي خطبها، فلا يصلها خبر عن صفاته وأخلاقه، ولا تُسأَلُ هل تحبُّ الاقتران به، ولا يبحث أحد عن ذوقها ورغبتها وميلها، وهي لا تجد من نفسها جرأة على أن تبدي ما في ضميرها، ويرى الناس أنه لا يليق بالمرأة أن يكون لها صوت في أهم الأشياء لديها؛ فيعطي القريب أو البعيد رأيه في زواجها ما عداها، ويظنُّون أن هذا من تمام فضيلة الحياء وكمال الأدب، وهم مخطئون فيما يظنون. منحت شريعتنا السمحاء إلى النساء حقوقًا لا تنقص عن حقوق الرجل في الزواج؛ فلها الحق مثله في أن تتأكَّد بنفسها من إمكان تحقيق آمالها، وما علينا إلَّا أن نسمع صوت شريعتنا، ونتبع أحكام القرآن الكريم، وما صحَّ من سُنَّة النبي وأعمال الصحابة لتتمَّ لها السعادة في الزواج. جاء في الكتاب العزيز: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وكان ابن عباس يقول اتباعًا لهذه الآية الكريمة: «إني أحبُّ أن أتزيَّن لامرأتي كما أحبُّ أن تتزيَّن لي»، وقال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وقال في تعظيم حقهن: وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا وجاء عن النبي: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله»، وكان النبي يحبُّ النساء كما ورد في الحديث: «حُبِّب إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجُعِلَت قرَّة عيني في الصلاة»، وكان يحترم النساء احترامًا برهن للعالم على حسن خلقه حتى إنه كان يضع ركبته على الأرض لتضع زوجته عليها رجلها إذا أرادت أن تركب، وكان يتنازل إلى ملاعبتهن وممازحتهن حتى رُوِي أنه كان يسابق عائشة — رضي الله عنها — فسبقته يومًا وسبقها في بعض الأيام فقال: «هذه بتلك»، وكان يرأف بالنساء ويوصي عليهنَّ دائمًا. فمما رُوِي عنه قوله: «خياركم خياركم لنسائكم» وقوله: «استوصوا بالنساء خيرًا»، والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة كلُّها تدلُّ على أن الدين الإسلامي يحثُّ على اعتبار المرأة، واحترام حقها، ومعاملتها بالإحسان والمعروف. ولكن ما دامت المرأة على ما هي عليه اليوم من الجهل فالزواج لا يكون — كما هو الآن — إلَّا شكلًا من الأشكال العديدة التي يستبدُّ بها الرجل على المرأة. أمَّا إذا تعلَّمت المرأة حقوقها، وشعرت بقيمة نفسها؛ عند ذلك يكون الزواج الواسطة الطبيعيَّة لتحقيق سعادة الرجل والمرأة معًا، عند ذلك تؤسس الزوجية على انجذاب شخصين يحبُّ أحدهما الآخر حبًّا تامًّا بجسميهما وقلبيهما وعقليهما، عند ذلك تعيش المرأة تحت حكم عقلها، فتنتخب من بين الرجال مَن تحبُّه وتميل إليه، وترتبط به بعقد الزواج، ويعرف أهلها أن في كمال عقلها ما يكفي لحسن اختيارها؛ فيكونون معها على اتفاق في الرأي فلا تخشى غضبهم، ولا انتقاد الناس عليها؛ عند ذلك يعرف الرجال قيمة النساء، ويذوقون لذَّة الحب الحقيقي. انظر إلى زوجين متحابين تجدهما من اليوم في نعيم الجنة، ماذا يهمُّهما أن يكون الصندوق خاليًا من المال، أو أن يكون على المائدة عدس وبصل؟ أما يكفيهما فرح القلب في كل دقيقة تمرُّ من اليوم؛ هذا الفرح الذي يبعث النشاط في الجسم والطمأنينة في النفس، ويحيي في القلب شعورًا بلذَّة الحياة ويزيِّنها له، ويخفف ثقلها عليه، ويجعلها منه في مكان الرضا حتى قال عمر بن الخطاب: «ما أُعطِي العبد بعد الإيمان خيرًا من امرأة صالحة.» أين هذا من حال عائلتنا اليوم التي نرى فيها الزوجين وأحدهما أبعد الناس عن الآخر، ولو لم يكن إلَّا هذا البعد لخفَّ احتماله، لكن لمَّا كان في طبيعة الإنسان أن يجري وراء سعادته؛ كان كلُّ من الزوجين يعتقد أن صاحبه هو الحجاب الحائل بينه وبينها، ومن هذا الاعتقاد يتكوَّن في المنزل جوٌّ مشحون بالغيام والكهرباء يعيش فيه كل منهما وقلبه ملآن بعيوب الآخر، وتبدو فيه المناقشات والمخاصمات في كل آنٍ بسبب وبغير سبب في الصباح وفي المساء، حتى وفي الفراش. وتنتهي هذه الحالة بأن تتخلَّى المرأة عن بيتها إلى الخدم يفعلون فيه ما يشاءون؛ فيستولي الاختلال على ما فيه، وتظهر فيه آثار الإهمال، فيبدو للناظر إليه كأنه غير مسكون بأهله، ويعلو التراب فراشه، والقذر موائده، وتغفل شئون الزوج والأولاد في مأكلهم ومشربهم وملابسهم، وتقضي الزوجة أوقاتها في مكان واحد تفكِّر في سوء ما وصلت إليه، أو تترك منزلها من الصباح وتطوف على جاراتها؛ لتفرِّج عن نفسها تلك الهموم. وليس الرجل بأحسن منها حالًا؛ فإنه يهجر منزله، ويستريح إلى العيش في القهاوي، أو عند جيرانه، فإذا رجع إلى بيته طلب العزلة عن زوجته، والتزم السكوت. نتج مما تقدَّم أن الزواج على غير نظر — كما هو حاصل الآن — إنما هو طريقة يستعملها الرجل في الغالب للاستمتاع بعدد من النساء يدخلن في حيازته دفعة واحدة، أو على التعاقب، ولا تجد فيه المرأة مزية ترضي نفسها. وكل رجل يقصد من الزواج أن تكون له صاحبة تشاركه في السرَّاء والضرَّاء يصعب عليه بل قد يتعذَّر أن يبلغ ما يريد من ذلك؛ ولهذا السبب رأينا في هذه السنين الأخيرة كثيرًا من الشبان القادرين على الزواج لا يرغبون فيه، ولمَّا كان عدد الرجال المهذَّبين يزداد في كل سنة — لأن الشعور بوجوب تربية البنين تقدَّم وسيتقدَّم كثيرًا في المستقبل — صارت تربية المرأة على مبدأ التعليم والحرية أمرًا ضروريًّا لا يُستغنَى عنه، وإلَّا فما علينا إلَّا أن نعلن أن الثقة بالزواج قد فُقِدَت، وأن المعاملة به قد بطلت، وحق عليه الإفلاس. ولست مبالغًا إن قلت إن رجال العصر الجديد يفضِّلون العزوبة على زواج لا يجدون فيه أمانيهم المحبوبة، فإنهم لا يرضون الارتباط بزوجة لم يروها، وإنما يطلبون صديقة يحبُّونها وتحبُّهم لا خادمة تُستعمَلُ في كل شيء، ويطلبون أن تكون أمُّ أولادهم على جانب من العلم والخبرة يسمح لها بتربية أولادها على مبادئ الأخلاق الحسنة وقواعد الصحَّة. وكلُّ مَن تجرَّد عن التعصُّب وحبِّ التمسُّك بالعوائد القديمة لا بُدَّ أن ينشرح صدره عندما يرى نمو هذا الميل في نفوسهم، ويرى من نفسه وجوب الإصغاء إلى مقالهم، والنظر في مطالبهم، فلا يستهجنها لأول وهلة، ولا يرميهم بالتفرنج في آرائهم قبل البحث فيها، بل يزنها بميزان العقل والشرع ومتى ثبت له أن هذا التغيير الذي نطلبه ليس إلَّا رجوعًا في الحقيقة إلى أصول الدين وعوائد المسلمين السابقين، وأنه إصلاح يقضي به العقل السليم لا يتأخَّر عن مساعدتهم على تأييدها. تعدُّد الزوجات هو من العوائد القديمة التي كانت مألوفة عند ظهور الإسلام ومنتشرة في جميع الأنحاء يوم كانت المرأة نوعًا خاصًّا مُعتبرَة في مرتبة بين الإنسان والحيوان، وهو من ضمن العوائد التي دلَّ الاختبار التاريخي على أنها تتبع حال المرأة في الهيئة الاجتماعيَّة؛ فتكون في الأمَّة غالبة عندما تكون حال المرأة فيها منحطَّة، وتقلُّ أو تزول بالمرَّة عندما تكون حالها مرتقية، اللهم إلَّا إذا كان التعدُّد لأسباب خاصة قضت به عند فرد أو أفراد مخصوصين فتقف عندهم وتُقدَّر بقدرهم، حتى في الأمَّة التي أُلِف تعدُّد الزوجات فيها نرى الرجل إذا بلغ من كمال العقل ما يشعر معه بمنزلة زوجته من أهله وأولاده، وعرف أن من حقوقها أن تكون في المرتبة التي تستحقها بمقتضى الشرع والفطرة؛ مال إلى الاكتفاء بالواحدة من الزوجات، ويمكن الاستدلال على ذلك بما نشاهده، ولا نظن أحدًا ينازعنا فيه من أن هذه العادة خفَّت في بعض الطبقات من أهل بلادنا عما كانت عليه من قبل عشرين أو ثلاثين سنة. نعم إن منع الرقيق كان له أثر محمود في سقوط هذه العادة؛ حيث قطع ورود الجواري التي كانت تملأ بيوت أكابر القوم وأعيانهم، ولكن يظهر لي أن ترقِّي عقول الرجال وتهذيب نفوسهم له أثر مهم أيضًا في تلاشيها؛ ذلك لأن الرجل المهذَّب لا يرضى معاملة المرأة بالاستبداد، ولا تطاوعه مروءته إن همَّت شهوته بامتهانها. وبديهي أن في تعدُّد الزوجات احتقارًا شديدًا للمرأة؛ لأنك لا تجد امرأة ترضى أن تشاركها في زوجها امرأة أخرى، كما أنك لا تجد رجلًا يقبل أن يشاركه غيره في محبَّة امرأته، وهذا النوع من حبِّ الاختصاص طبيعي للمرأة كما أنه طبيعي للرجل، ولو سلَّم أنه ليس بطبيعي كما ذهب إلى ذلك قوم استشهدوا على رأيهم بمثل الديك الواحد الذي يعيش بين العشرات من الدجاج، فأقل ما فيه أنه ميل مكتسب بلغ من النفس الإنسانيَّة بالعادة والتوارث مبلغ جميع الكمالات التي تولَّدت في نفوس أفراد هذا النوع عند ارتقائه من أدنى درجاته من الحيوانية إلى ما أُعِدَّ له من الكمال الإنساني؛ فهذا الاختصاص بما كسبه من التأصُّل في الأنفس والرسوخ فيها لا يقلُّ أثره عن أثر الغرائز الفطرية. وعلى كل حال، فكل امرأة تحترم نفسها تتألم إذا رأت زوجها ارتبط بامرأة أخرى؛ إذ لا يخلو حالها من أحد أمرين: إمَّا أن تكون مخلصة في محبَّتها لزوجها؛ فتلتهب نيران الغيرة في قلبها وتذوق عذابها، وإمَّا ألا تكون كذلك لكنها راضية بعشرته لسبب من الأسباب؛ فهي مع ذلك ترى لنفسها مقامًا في أهله فإذا ارتبط بأخرى سواها قاست من الألم ما يبعثه إحساسها بأن ذلك المقام الذي كان باقيًا لها قد انهدم ولم يعد لها أمل في بقاء شيء من كرامتها عنده؛ فالألم لاصق بها على كل حال. وإن قيل إن التجارب دلَّت على إمكان الجمع بين امرأتين أو أكثر مع ظهور رضاء كل منهنَّ بحالتها؛ فالجواب عنه من وجهين: الأوَّل أن ما يُدَّعى من رضا كل منهنَّ بحالها فليس بصحيح إلَّا في بعض أفراد نادرة لا حكم لها في تقدير حال أمَّة، وإن وقائع المنازعات بين النساء وأزواجهنَّ والجنايات التي تقعُ بينهم مما لا يكاد يُحصَى، وهو شاهد على أن تعدُّد الزوجات مثار للنزاع بينهنَّ وبين ضرائرهن وبين أزواجهن، ومصدر لشقاء الأهل والأقارب، فمَن يدَّعي أن نساءنا يرضين بمشاركتهنَّ في أزواجهنَّ ويعشن مع ذلك باطمئنان قلب وراحة بال فهو غير عارف بما عليه حالة النساء في البيوت. والثاني أن ما يكون من ذلك الرضاء في القليل النادر فهو ناشئ عن أن المرأة إنما تعتبر نفسها متاعًا للرجل؛ فله أن يختصَّ بها، وله أن يشرك معها غيرها كيفما شاء. وليس لها على هواه حق تطالبه به، كما كان الرجال عندنا يعتبرون أنفسهم متاعًا للحكام في عهد ليس بعيدًا عنا. ويظهر لي أن رجلًا مهذَّبًا عارفًا بما يفرضه عليه الشرع والعدل لا يطيق النهوض بما يضعه على عاتقه الجمع بين امرأتين فضلًا عن أكثر. قدَّمنا أن في فطرة المرأة ميلًا إلى التسلُّط على قلب الرجل، فإذا رأت بجانبه امرأة أخرى في فطرتها ذلك الميل، ويمكنها أن تبلغ منه بضروب الوسائل ما تشتهي، تولَّاها الاضطراب والقلق، وهجرتها الراحة، وكانت حياتها عذابًا أليمًا؛ وتلك الحال لا تخفى على الرجل المهذَّب. فكيف يمكن أن تطيب نفسه بمشهد ذلك العذاب الأليم؟ ويزيد النساء قلقًا واضطرابًا ما صرَّح به الفقهاء من أنه لا يجب على الرجل أن يعدل في محبته بين نسائه، وإنما طلبوا العدل في النفقة وما شاكلها. ولا ريب في أن شقاء المرأة بهذه الحال يكون له أثر شديد في نفس الرجل المهذَّب؛ حيث يشعر دائمًا بأنه هو السبب في هذا الشقاء. ثمَّ إن الأولاد من أمهات مختلفات ينشئون بين عواصف الشقاق والخصام فلا يجدون ما يساعد غرائزهم على تمكين علائق المحبَّة بينهم، بل يجدون ما يعاكس تلك الغرائز وينمِّي في نفوسهم البغضاء، ولا يستطيع أحد أن يحول بين ما يشهدون من تخاصم أمهاتهم بعضهن مع بعض وتخاصمهنَّ مع والدهم وبين أثر ذلك في نفوسهم، بل يسري في أفئدتهم سمُّ الغشِّ والخدعة والشر، ويظهر أثر كل ذلك عند الفرصة؛ مثلهم كمثل الممالك الأوروباوية تظهر بحالة السلم وهي تأخذ أهبتها للحرب حتى إذا حانت الفرصة؛ وثبت كل منهم على الآخر، فمزَّق بعضهم بعضًا كما نشاهده في أغلب العائلات. أين هذا من منظر عائلة متحدة يعيش فيها الأولاد في حضن والديهم، تجمعهم محبَّة صادقة، لا يتنافسون إلَّا في زيادة الحب، ولا يتسابقون إلَّا إلى الخير يصل من بعضهم لبعض، يربطهم ميثاق غليظ جعلهم كأعضاء جسم واحد إن فرح أحدهم فرحوا معه، وإن بكى بكوا معه. هم سعداء الدُّنيا في كل حال، أسبغ الله عليهم أكبر نعمة يتمنَّاها العاقل؛ وهي المودَّة في القربى. فلا ريبة بعد هذا أن خير ما يعمله الرجل هو انتقاء زوجة واحدة، ذلك أدنى أن يقوم بما فرض عليه الشرع فيوفِّي زوجته وأولاده حقوقهم من النفقة والتربية والمحبَّة، وأقرب إلى الوصول إلى سعادته. ولا يُعذَر رجل يتزوَّج أكثر من امرأة، اللهم إلَّا في حالة الضرورة المطلقة؛ كأن أُصِيبت امرأته الأولى بمرض مزمن لا يسمح لها بتأدية حقوق الزوجية. أقول ذلك ولا أحبُّ أن يتزوَّج الرجل بامرأة أخرى حتى في هذه الحالة وأمثالها؛ حيث لا ذنب للمرأة فيها. والمروءة تقضي أن يتحمَّل الرجل ما تُصَابُ به امرأته من العلل، كما يرى من الواجب أن تتحمَّل هي ما عساه كان يُصَابُ به. وكذلك توجد حالة تسوِّغ للرجل أن يتزوَّج بثانية إمَّا مع المحافظة على الأولى إذا رضيت، أو تسريحها إن شاءت؛ وهي ما إذا كانت عاقرًا لا تلد؛ لأن كثيرًا من الرجال لا يتحمَّلون أن ينقطع النسل في عائلاتهم. أمَّا في غير هذه الأحوال فلا أرى تعدُّد الزوجات إلَّا حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية؛ وهو علامة تدلُّ على فساد الأخلاق، واختلال الحواس، وشره في طلب اللذائذ. والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية التي وردت في تعدُّد الزوجات يجد أنها تحتوي إباحة وحظرًا في آن واحد. قال تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا، وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا. ومن هذه الآيات يتَّضح أن الشارع علَّق وجوب الاكتفاء بواحدة على مجرَّد الخوف من عدم العدل، ثمَّ صرَّح بأن العدل غير مستطاع، فمَن ذا الذي يمكنه ألا يخاف عدم العدل مع ما تقرَّر من أن العدل غير مستطاع؟ وهل لا يخاف الإنسان من عدم القيام بالمحال؟ أظنُّ أن كلَّ بشر إذا أراد الشروع في عمل غير مستطاع يخاف بل يعتقد أنه يعجز عن القيام به والوقوع في ضده. ولو أن ناظرًا في الآيتين أخذ منهما الحكم بتحريم الجمع بين الزوجات لما كان حكمه هذا بعيدًا عن معناهما لولا أن السُّنَّة والعمل جاءا بما يقتضي الإباحة في الجملة. وكأن مجموع الآيتين قد قضى بتحليل الجمع بين الزوجات ديانة، وبأن الله تعالى وَكَلَ الناس في ذلك إلى ما يجدونه من أنفسهم. فمَن بلغت ثقته من نفسه حدًّا لا يخاف معه أن يجور إذا أراد أن يتزوَّج أكثر من واحدة؛ أُبِيح له ذلك بينه وبين الله، ومَن لم يصل إلى هذا الحدِّ من الاقتدار والتحفُّظ من الجور حُرِّمَ عليه أن يتزوَّج أكثر من واحدة. ثمَّ نبَّه مع ذلك على أن هذه الغاية من قوَّة النفس لا يمكن إدراكها؛ زيادة في التحذير. وغاية ما يُستفاد من آية التحليل إنما هو حِلُّ تعدُّد الزوجات إذا أُمِنَ الجور، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتَّب عليه من المفاسد والمصالح. فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات كما هو مُشاهد في أزماننا، أو نشأ عن تعدُّد الزوجات فساد في العائلات وتعدٍ للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حدٍّ يكاد يكون عامًّا؛ جاز للحاكم — رعاية للمصلحة العامَّة — أن يمنع تعدُّد الزوجات — بشرط أو بغير شرط — على حسب ما يراه موافقًا لمصلحة الأمَّة. وإنه ليجمل برجال هذا العصر أن يقلعوا عن هذه العادة من أنفسهم، ولا أظن أن أحدًا من أهل المستقبل يأسف على تركها؛ فإن التمتُّع بالنساء وإن قلَّ في هذه الحالة من الجهة الشهوانية فإنه يزيد من الناحية المعنويَّة التي يلزم أن تكون وجهة كل راغب في الزواج، فإن رجلًا يسوقه إلى الزواج سائق العقل، ويوجِّه رغبته إليه حادي الفكر يعلم أنه إنما يتَّخذ لنفسه بالزواج قرينًا صالحًا يمدُّه بالمعونة في شئونه، ويؤنسه في وحدته، ويشفعه في عمله، ويقوم معه على بنيه ومَن يعول من أهله؛ فهو يتخيَّر لذلك خير العقائل، وأكرم السلائل، ويصطفيها على ما يحبُّ من العقل والأدب وطهارة الظاهر وسلامة الباطن؛ فيكون له منها منظر بهي، وملمس شهي، وصورة تُعجِبُ ومعنى يُطرِبُ، فهمٌ يسبق الإشارة، وذكاء يستغني عن العبارة، لذَّة بلطف الشمائل، ومتاع بجمال الفضائل. كل ذلك يكون له من زوجة يختارها لتكون صاحبة له مدَّة الحياة تأمن شرَّه وانقلابه، ويأمن منها المكر والخلابة، تحسن القيام على أولاده بالتربية الصالحة، وتغذِّيهم بآدابها كما غذَّتهم بلبانها؛ فتأخذ أرواحهم من روحها ما أخذته أبدانهم من بدنها، فينشئون على المحبَّة، ويشبُّون على الألفة؛ فيكون للرجل من ذلك كله مشهد ظاهره الراحة والطمأنينة وباطنه السعادة والهناء عيش ساعة مع التمتُّع به خير من حياة دهر مع الحرمان من بعضه. فأين التمتُّع بمثل هذه اللذَّة من الخلود إلى ما انحطَّ من دركات الشهوة؟ قال فولتير الكاتب الفرنساوي الشهير على طريقته من الفكاهة المعروفة في كثير من مؤلَّفاته: «إن الطلاق قد وُجِدَ في العالم مع الزواج في زمن واحد تقريبًا غير أني أظنُّ الزواج أقدم ببضعة أسابيع؛ بمعنى أن الرجل ناقش زوجته بعد أسبوعين من زواجه، ثمَّ ضربها بعد ثلاثة، ثمَّ فارقها بعد ستة أسابيع.» وقد أراد بذلك أن يقول إن الطلاق قديم في العالم، وإنه يكاد أن يكون من الأعراض المُلازِمة للزواج، وهو حقٌّ لا يُرتَابُ فيه؛ فقد دلَّ تاريخ الأمم على أن الطلاق كان مشروعًا عند اليهود والفرس واليونان والرومان، وأنه لم يُمنَع إلَّا في الديانة المسيحية بعد مضي زمن من نشأتها. ولا يزال أثر ذلك المنع باقيًا إلى الآن في شرائع الأمم الغربيَّة التي وضعت الزواج على قاعدة أنه عقد لا ينحلُّ إلَّا بموت أحد الزوجين، وهذا إفراط في احترام هذا العقد ومغالاة فيه إلى حدٍّ يصعب أن يتَّفق مع راحة الإنسان. نعم إن من أماني الأمم الصالحة أن تكون عقدة الزواج عندها عقدة لا تنحلُّ إلا بالموت، ولكن مما تجب مراعاته أن الصبر على عشرة مَن لا تمكن معاشرته فوق طاقة البشر. ولهذا فقد شعرت الأمم الغربيَّة على ممر الأزمان بأن أحكام الكنيسة تطالب الناس بالكمال المطلق بدون مراعاة حاجاتهم وضروراتهم، وكان هذا الشعور من بواعث حركة النفوس إلى التخلُّص من رقَّة تلك الأحكام؛ فنزع الغربيون إلى وضع القوانين على حسب مصالح حياتهم وما تقتضيه الحاجات، ولقد اشتدَّ هذا الشعور في الناس حتى اضطرت الكنيسة نفسها لأن تخضع لمطالبه، وموافاة رغائب الكافة، وحملها الشحُّ بمكانتها أن تسقط على تقرير أحكام في أحوال سمتها «أحوال بطلان الزواج»، ورتَّبت على ذلك البطلان أحكامًا لا تختلف في آثارها عن أحكام الطلاق؛ فقبلت فسخ الزواج إذا أثبت أحد الزوجين أنه لم يكن عند الزواج مطلق الاختيار، أو أنه أخطأ في معرفة الآخر، أو إذا ادَّعى أحد الزوجين أن الآخر لا يستطيع القيام بحقوق الزوجية، وأخذت تتوسَّع في تأويل الحالة الثانية إلى درجة متناهية حتى أدخلت فيها كل شيء، وفي الحالة الأخيرة قد تكتفي بأن يتَّفق الزوجان على أن يدَّعي أحدهما أن الآخر لم يقم أو لم يعد في إمكانه أن يقوم بأوَّل واجب يوجبه الزواج لينالا بطلانه؛ محتجة بأن الإخلال بهذا الحق لا تمكن معرفته إلَّا من قِبَل الزوجين؛ فقولهما هو الدليل الذي يصحُّ التعويل عليه. إلَّا أن هذا التساهل لم يفِ بحاجات الأمم في هذا الباب، فبعد أن قنعت به مدَّة من الزمان انبعثت مرَّة أخرى إلى المطالبة بتقرير أحكام كافلة للراحة، خصوصًا وقد رأت أن هذه الأسباب التي قرَّرتها الكنيسة لبطلان الزواج تغلب فيها الحيلة وقلَّ ما تتَّفق فيها الحقيقة، وأن قيام شريعة على قوائم من الحيل مما لا ترضاه النفوس المهذَّبة والأذواق السليمة. ومن أجل ذلك اضُّطرت الحكومات إلى تقرير الطلاق والتصريح بجوازه على شروط بيَّنتها، وأوسعت له محلًّا من قوانينها، وهكذا انحسر سلطان الكنيسة عما كان يتناوله في هذه المادة، كما بطلت سيطرتها في كل ما لم تتَّفق فيه أحكامها مع مصالح تلك الأمم، وهذا هو الشأن في كل شرع أو دين لا يراعي أهله في أحكامه مقتضيات الزمان والمكان، ويغفلون عن طبيعة الإنسان، ويقفون به في مكان واحد عندما قرَّره بعض مَن سبقهم بدون إنعام نظر في أسراره وطرق تنفيذه. دخل الطلاق في جميع الشرائع الغربيَّة تقريبًا رغمًا عن معارضة الكنيسة وإصرارها على القول بأن مَن طُلِّق بحكم القانون لا يجوز له أن يتزوَّج؛ لعدم اعتبارها ذلك الطلاق، ولكنه لم يصل إلى الدرجة التي يستحقُّها من القبول والاعتبار، ولم يستوفِ أحكامه إلَّا عند الأمَّة الأمريكانيَّة التي فاقت غيرها ببذلها المجهود في الإقدام على طلب الترقي، ففتحت أبواب شريعتها للطلاق، ولم تقيِّده بأحوال مخصوصة كما قيَّده غيرها، وكل مطَّلع على أحوال الأمم الغربيَّة يرى الميل عند جميعها إلى التوسُّع في الطلاق ولا بُدَّ أن تنتهي يومًا إلى الاعتراف بأن ما أباحته إلى الآن من الطلاق المشروط بثبوت الزنا على أحد الزوجين أو الحكم عليه بعقوبة في أحوال مخصوصة غير وافٍ بالحاجة، وعند ذلك تقرِّر إباحة الطلاق متى وجدت أسبابه في نفوس الزوجين، وتتركه إلى مشيئتهما. نعم إن إباحة الطلاق بدون قيد لا تخلو من ضرر، ولكنَّه من المُضرَّات التي لا يُستغنَى عنها، ويكفي لتسويغه أن منافعه تزيد عن مضاره، فإن كل نظام لا يخلو من ضرر، والكمال التام في هذه الحياة الدُّنيا أمر غير مستطاع. ونحن لا نريد البحث في هذا الموضوع الواسع؛ لأننا اجتنبنا في هذا المختصر كلَّ بحث نظري، وإنما نقول إن مَن أجال النظر في نصوص الكتاب العزيز، وما اشتمل عليه من الآيات المقرِّرة للطلاق وأحكامه يشعر بالنعم التي أفاضها الله على المسلمين، ويقتنع بأن كتاب الله قد أتى من الحكمة على منتهاها، وأنه وفَّى كل شيء حقَّه. وأول ما يجب الالتفات إليه هو أن شرعنا الشريف قد وضع أصلًا عامًّا يجب أن تُردَّ إليه جميع الفروع في أحكام الطلاق؛ وهو أن الطلاق محظور في نفسه، مباح للضرورة، والشواهد على ذلك كثيرة في الآيات القرآنية والأحاديث النبويَّة، وما جاء في كلام الأئمة نورد منها ما يأتي: قال تعالى: فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا. وقال جلَّ شأنه: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا. وقال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. وجاء في الحديث: «أبغض الحلال عند الله الطلاق.» وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطلِّقوا النساء إلَّا من ريبة. إن الله لا يحبُّ الذواقين ولا الذواقات.» وقال علي — كرم الله وجهه: «تزوَّجوا ولا تطلِّقوا فإن الطلاق يهتزُّ منه العرش.» وظاهر أن أهل هذا الرأي لم يعوِّلوا على النيَّة التي هي أساس الدين الإسلامي، كما يُستفاد من حديث «إنما الأعمال بالنيَّات»، كما أنهم لم يلتفتوا إلى قصد الشارع في أن الطلاق محظور في الأصل، وأنه أبغض الحلال عند الله، وقد عللوا نفاذ الطلاق في الأحوال التي أشرنا إليها بأسباب أذكرها للقارئ، وأترك له مسئولية الحكم عليها. ولكنا نحمد الله على أن في المذاهب الإسلاميَّة الأخرى ما يخالف ذلك ويتفق مع أصول الشريعة ومصلحة العامَّة ويمكن لمُرِيد الإصلاح أن يأخذ به فيقرِّر بعدم صحَّة الطلاق الذي يقع في تلك الأحوال. ولكن قسَّم الفقهاء الطلاق إلى صريح وبالكناية، وقالوا بالطلاق الصريح تقع واحدة رجعية ولو نوى أكثر من واحدة أو نوى واحدة بائنة، أمَّا بالكناية فيكون الطلاق بائنًا لا تصحُّ بعده الرجعة ولا تحلُّ الزوجة إلَّا بعقد جديد إلَّا في بعض ألفاظ استثنوها، ويقع بها الطلاق ثلاثًا إن نوى الثلاث. إلَّا أنه يوجد في مذهب آخر كمذهب الشافعي أن الكنايات جميعها رجعية، ووجه الحق في هذا المذهب ظاهر؛ فإنما الطلاق طلاق على كل حال، وهو فصل عصمة المرأة من الرجل، فاختلاف الألفاظ بالنسبة إلى هذا المعنى إنما هو اختلاف عبارة لا يصحُّ أن يتعلَّق به اختلاف حكم، ولو سلم اختلاف الأحكام باختلاف الألفاظ في مثل هذا الباب لكان الأوجه أن يكون حكم الكناية أخفَّ من حكم الصريح. وجاء في ابن عابدين: «وعن الإمامية لا يقع بلفظ الثلاث ولا في حالة الحيض؛ لأنه بدعة محرَّمة»، وعن ابن عباس يقع به واحدة وبه قال ابن إسحاق وطاووس وعكرمة؛ لما في مسلم أن ابن عباس قال «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة؛ فقال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، وذهب جمهور الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أئمة المسلمين إلى أنه يقع ثلاثًا.» قال «في الفتح بعد سوق الأحاديث الدالة عليه: وهذا يعارض ما تقدَّم، وأمَّا إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له، وعلمه بأنها كانت واحدة فلا يمكن إلَّا وقد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لذلك لعلمهم بإناطته بمعانٍ علموا انتفاءها في الزمن المتأخِّر.» يرى القارئ من هذه العبارات التي بسطناها ليحصل لنفسه منها رأيًا أن علماء مذهب عظيم كمذهب ابن حنبل لم يعوِّلوا على قضاء عمر بل تمسَّكوا بنصوص القرآن وسُنَّة النبي، ويمكن للأمَّة إذا أرادت الإصلاح أن تأخذ بقولهم؛ لأن عمر قد بيَّن لنا سبب قضائه بقوله: «إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم»؛ فكأنه اجتهد في جعله عقوبة لردعهم عنه، وكلُّنا نعلم أنه لم ينشأ من اجتهاد عمر إلَّا استهتار العامَّة بلفظ الطلاق الثلاث، وتهافتهم عليه في محاوراتهم وإيمانهم. بل لِمَ لا يأخذ مريد الإصلاح بمذهب الإمامية الذي نقله ابن عابدين وهو مذهب الأئمة من آل البيت في قولهم كما مرَّ: «إن الطلاق لا يقع بالطلاق الثلاث ولا في الحيض؛ لأنه بدعة محرَّمة.» وإن سمح لي القارئ أن أبدي هنا كل ما أظنُّه صوابًا، أقول لا يمكنني أن أفهم أن الطلاق يقع بكلمة لمجرَّد التلفُّظ بها مهما كانت صريحة. نعم إن الأعمال الشرعية لا تستغني عن الألفاظ؛ إذ لو حللنا أي عقد لوجدناه مركبًا من ظهور إرادة، أو مطابقة إرادتين حصل الاستدلال عليها أو عليهما من ألفاظ صدرت شفاهيًا أو بالكتابة؛ ولذلك فليس الغرض الاستغناء عن الألفاظ، وإنما مرادنا أن اللفظ لا يجب الالتفات إليه في الأعمال الشرعية إلَّا من جهة كونه دليلًا على النيَّة؛ فينتج من ذلك أنه يجب أن يفهم أن الطلاق إنما هو عمل يُقصَدُ به رفع قيد الزواج، وهذا يفرض حتمًا وجود نية حقيقية عند الزوج وإرادة واضحة في أنه إنما يريد الانفصال من زوجته. لا أن يفهم كما فهمه الفقهاء وصرَّحوا به في كتبهم أن الطلاق هو التلفُّظ بحروف «ط ل ا ق». والذي يطَّلع على كتبهم يندهش عندما يرى اشتغالهم بتأويل الألفاظ والتفنُّن في فهم معانيها في ذاتها بقطع النظر عن الأشخاص، وعندهم متى ذُكِرَ اللفظ تمَّ الأثر الشرعي؛ ولهذا قصروا أبحاثهم جميعها على الكلمات والحروف، وامتلأت الكتب بالاشتغال بفهم طلَّقتُكِ وأنتِ طالِقٌ، وأنتِ مُطَلَّقةٌ، وعليَّ الطلاق، وطلَّقت رجلك أو رأسكِ أو عرقك وما أشبه ذلك، وصارت المسألة مسألة بحث في اللفظ والتركيب ربَّما كان مفيدًا للغة والنحو، ولكنه لا يفيد مطلقًا علم الفقه بشيء. على أننا نظنُّ أن علم الشرائع يقبل أبحاثًا أخرى غير تأويل الألفاظ، والطلاق لم يخرج عن كونه عملًا شرعيًّا يترتَّب عليه ضياع حقوق، وإنشاء حقوق جديدة وهو في حدِّ ذاته لا يقلُّ عن الزواج في الأهمية؛ حيث يتعلَّق به أعظم الحوادث المدنيَّة كالنسب، والميراث، والنفقة، والزواج. فالاستخفاف به إلى هذا الحدِّ أمر يدهش حقيقة كلَّ مَن له إلمام ولو سطحي بالوظيفة السامية التي تؤدِّيها الشرائع في العالم. ولو ترك فقهاؤنا الاشتغال بالألفاظ وبحثوا في مآخذ الأحكام التي يقرِّرونها وعرفوا تاريخها وأسبابها، وقارنوا المذاهب بعضها ببعض وانتقدوها، وبالجملة لو اشتغلوا بعلم الفقه الحقيقي؛ لتبيَّن لهم أن الطلاق لا يكون طلاقًا إلَّا إذا كان مصحوبًا بنيَّة الانفصال. ويمكن لناظر أن يجد في كتب الشريعة الإسلاميَّة ما يفيد عدم صحَّة الطلاق إذا فُقِدَت نيَّة الانفصال؛ فقد نُقِلَ عن شرح التلقين: «إن الرجل لو طلَّق زوجته بكلمة أو كلمات في حال الغضب أو النزاع لا يقع طلاقه.» ورووا في ذلك أحاديث مثل قول علي بن أبي طالب: «مَن فرَّق بين المرء وزوجته بطلاق الغضب أو اللجاج فرَّق الله بينه وبين أحبائه يوم القيامة. قاله الرسول عليه الصلاة والسلام.» نعم، إن ناقل هذا القول اجتهد في ردِّه وبالغ في إبطاله، ولكن مريد الإصلاح له أن يبحث في كتب الشرع كلِّها، ويقف على آراء الفقهاء مهما كانت خصوصًا إذا كان قصده محو فساد عظيم صار ضرره عامًّا. نحن في زمان ألِف الرجال فيه الهذر بألفاظ الطلاق فجعلوا عصم نسائهم كأنها لعب في أيديهم يتصرَّفون فيها كيف يشاءون، ولا يرعون للشرع حرمة ولا للعشرة حقًّا؛ فترى الرجل منهم يناقش آخر فيقول له إن لم تفعل كذا فزوجتي طالق فيخالفه؛ فيُقال وقع الطلاق، وانفصمت العصمة بين الحالف وزوجته وهي لا تعلم بشيء ما ولا تبغض زوجها، ولا تودُّ فراقه، بل ربما كان الفراق ضربة قاضية عليها، وكذلك الرجل ربَّما كان يحبُّ زوجته ويألم لفراقها، فإذا افترق منها بتلك الكلمة التي صدرت منه لا يقصد الانفصال من زوجته وإنما بقصد إلزام شخص آخر بالعمل الذي كان يريده كان الطلاق على غير نيَّة منه. رُبَّ رجلٍ يناقش زوجته في بعض شئون البيت فيَرد على لسانه في وقت الغضب الحلف بالطلاق من باب التخويف والتهديد، وعلى غير قصد منه لهدم العصمة، فيُقال أيضًا وقع الطلاق، ويعقبه أيضًا ما سبق ذكره من البلاء الذي ينزل على الزوجين. ورُبَّ فلاح يرتكب جريمة السرقة مثلًا فيسأله العمدة أو مأمور المركز عما وقع منه فينكر، فيستحلفه بالطلاق فيحلف أنه ما سرق، والحال أنه سرق، فيُقال كذلك وقع الطلاق وهو لم يقصد بيمينه إلَّا تبرئة نفسه، ولم يخطر بباله عند الحلف أنه مباغض لزوجته كارهًا لعشرتها. فلمَ لا يجوز مع ظهور الفساد في الأخلاق، والضعف في العقول، وعدم المبالاة بالمقاصد أن يُؤخذ بقول بعض الأئمة من أن الاستشهاد شرط في صحَّة الطلاق كما هو شرط في صحَّة الزواج كما ذكره الطبرسي، وكما تشير إليه الآية الواردة في سورة الطلاق؛ حيث جاء في آخرها: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ. أليس هذا أمرًا صريحًا بالاستشهاد يشمل كلَّ ما أتى قبله من طلاق ورجعة وإمساك وفراق؟ أليس قصد الشارع أن يكون للطلاق واقعة حال مشهورة لدى العموم ليسهل إثباته؟ لِمَ لا نقرِّر أن وجود الشهود وقت الطلاق ركن بدونه لا يكون الطلاق صحيحًا، فيمتنع بهذه الطريقة هذا النوع الكثير الوقوع من الطلاق الذي يقع الآن بكلمة خرجت على غير قصد ولا رويَّة في وقت غضب؟ نظنُّ أن في الأخذ بهذا الحكم موافقة لآية من كتاب الله، ورعاية لمصلحة الناس، وما يدرينا أن الله سبحانه وتعالى قد اطلع على ما تصل إليه الأمَّة في زمان كزماننا هذا، فأنزل تلك الآية الكريمة لتكون نظامًا لنا نرجع إليها عند مسيس الحاجة كما هو شأننا اليوم. والذي يتأمَّل في الآيات التي سبق ذكرها في الاستشهاد والتحكيم يرى أن نظامًا مثل هذا ينطبق على مقاصد الشريعة ولا يخالفها في شيء، وليس لمعترض أن يحتجَّ بأن نظامًا مثل هذا يسلب الزوج حقه في الطلاق؛ لأن حقَّ الزوج في الطلاق باقٍ على ما هو عليه الآن؛ فهو الذي يملك عصمة الزواج، وأسباب الفراق لا تزال متروكة لتقديره، وغاية ما في الأمر أننا اشترطنا أن يسبق الطلاق تحكيم الحكمين، ونصيحة القاضي، وليس في هذا تعدٍّ على حق من حقوق الزوج، وإنما هو وسيلة للتروِّي والتبصُّر اتُّخذت لمصلحة المرأة وأولادها، بل ولمصلحة الزوج نفسه؛ حيث نرى كثيرًا من الأزواج يأسفون على وقوع الطلاق منهم على غير رويَّة ثمَّ يضطرون إلى استعمال الحيل الدنيئة كالمستحل مثلًا لمداواة طيشهم. ألا يرى أفاضل الفقهاء أن مثل هذه الطريقة البسيطة تترتَّب عليها منفعة عظيمة؛ هي تقليل عدد الطلاق، فضلًا عما فيها من اتباع أوامر الله، وتنفيذ حكم مهم مثل حكم التحكيم المنصوص عنه في الآية التي ذكرناها، واتباع أمر شرعي بقي معطلًا إلى الآن؛ حيث لم نسمع بإجرائه يومًا خصوصا في أمَّة كأمتنا بلغ أمرها من فساد الأخلاق والطيش إلى حدِّ أن الرجل يحلف بالطلاق وهو يأكل ويشرب ويمشي ويضحك ويتشاجر ويسكر وامرأته جالسة في بيتها لا تعلم شيئًا مما جرى في الخارج بينه وبين غيره. دلَّت إحصائية الطلاق عن مدينة القاهرة في مدَّة الثماني عشرة سنة الأخيرة على أن كل أربع زوجات يُطلَّق منهن ثلاث وتبقى واحدة فقط. وإليك بيانها بالتفصيل: وأذكر هنا إحصائية أخرى عمومية عن عدد الطلاق والزواج الذي حصل في عموم القطر المصري في سنة ١٨٩٨: ومنها يظهر أن كل أربع زوجات تُطلَّق منهن واحدة وتبقى ثلاث؛ وهذه النتيجة وإن كانت أحسن من الأولى بسبب أنها تشمل سكان الأرياف الذين لا يطلَّقون مثل أهل مصر إلَّا أن كليهما من أقوى الحجج على اضمحلال حال العائلات عندنا وسهولة تهدُّم بنائها. ومن الغني عن البيان أن المرأة إذا ترقَّت وشعرت بجميع ما لها من الحقوق؛ فإنها لا تقبل أن تُعامَل بطرق القسوة والإهانة التي تُعامَلُ بها وهي جاهلة، وعند ذلك يحسُّ الرجال أنفسهم بأنه ليس من اللائق بهم أن يستعملوا حق الطلاق الذي وكَّله الله بأمانتهم إلَّا عند الضرورة التي شُرِعَ الطلاق لأجلها؛ فتربية النساء مما يساعد على إصلاح أخلاقنا وتأديب ألسنتنا؛ فإن الرجل يحتقر المرأة الجاهلة ولكنه يشعر رغمًا عن إرادته باحترام المرأة إذا وجد منها عقلًا ومعرفة وعلوًّا في الأخلاق؛ فيعفُّ لسانه عن ذكر ما لا يليق بها، ويؤدِّي لها حقوقها. ولكن لا يجمل بنا أن ننتظر ذلك الزمان الذي يبلغ فيه النساء بالتربية والتهذيب ما يملأ قلوب الرجال من توقيرهنَّ واحترامهنَّ بل يجب على كلِّ مَن يهتمُّ بشأن أمته أن ينظر في الطرق التي تخفف من مضار الطلاق إلى أن يأذن الله بتلك الغاية التي هي منتهى كل غاية، وقد بيَّنا أن مجموع المذاهب الإسلاميَّة قد حوى من الأحكام ما يساعد على وضع حدود تقف عندها العامَّة، وتكون مراعاتها من الوسائل إلى تقدُّمنا في طريق الصلاح. وأقل ما يكون من أثرها ألا تجد المفاسد سبيلًا من الشرع إلى ظهورها؛ فبذلك يكمل نظام العائلة، وتعيش المرأة في طمأنينة وراحة بال، ولا تكون في كل آنٍ مُهدَّدة بفقد مكانتها من العائلة بسبب وبلا سبب. ولا يصحُّ في الحق أن شريعة سمحاء عادلة كشريعتنا تسلب المرأة جميع الوسائل التي تبيح لها التخلُّص من زوج لا تستطيع المعيشة معه كأن كان شريرًا، أو من أرباب الجرائم، أو فاسقًا، أو غير ذلك مما لا يمكن معه لامرأة سليمة الذوق والأخلاق أن ترضى بعشرته. وقد وفَّى مذهب الإمام مالك للمرأة بحقِّها في ذلك، وقرَّر أن لها أن ترفع أمرها إلى القاضي في كل حالة يصل لها من الرجل ضرر. إن الزوجة التي في العصمة إذا أثبتت ضرر زوجها بها بشيء من الوجوه المتقدِّمة، والحال أنها لم يكن لها بالضرر شرط في عقد النكاح من أنه إن أضرَّ بها فأمرها بيدها فقيل لها أن تطلق نفسها بعد ثبوت الضرر عند الحاكم من غير أن تستأذنه في إيقاع الطلاق المذكور؛ أي لا يتوقَّف «تطليقها نفسها على إذنه لها فيه»، وإن كان ثبوت الضرر لا يكون إلَّا عنده، كما أن الطلاق المشترط في عقد النكاح أي المعلَّق على وجود ضررها لها أن توقِّعه أيضًا بعد ثبوته بغير إذنه وظاهره اتفاقًا، وقيل حيث لم يكن لها شرط به لها أن توقع الطلاق أيضًا لكن بعد رفعها إيَّاه للحاكم. وبعد أن يزجره القاضي بما يقتضيه اجتهاده من ضرب أو سجن أو توبيخ ونحو ذلك ولم يرجع عن أضرارها، ولا تطلِّق نفسها قبل الرفع والزجر. ومنهم مَن قوله إن الطلاق بيد الحاكم فهو الذي يتولَّى إيقاعه إن طلبته الزوجة، وامتنع منه الزوج، وإن شاء الحاكم أمرها أن توقعه. فعلى هذا القول لا بُدَّ أن يوقعه الحاكم أو يأمرها به فتوقعه، وإذا أمرها به فهي نائبة عنه في الحقيقة، كما أنه هو نائب عن الزوج شرعًا حيث امتنع منه، وروى أبو زيد عن ابن القاسم أنها توقع الطلاق دون أمر الإمام. قال بعض الموثَّقين: والأول أصوب. وهذه الطريقة أفضل من الأولى من بعض الوجوه؛ فإن المضار الحقيقية التي تتَّفق كلُّ النساء في التحفُّظ منها، وبذل المستطاع في اتقائها ما لا يكون سببًا يسمح للقاضي أن يحكم بالطلاق في مذهب مالك؛ وذلك كتزوُّج الرجل بامرأة أخرى وزوجته الأولى في عصمته، فإن الزوجة الأولى لو رفعت شكواها إلى القاضي وطلبت منه أن يطلِّقها لم يَجُز للقاضي أن يجيب طلبها، فلو اشترطت أن تطلِّق نفسها متى شاءت أو عندما يتزوَّج زوجها عليها كان الأمر بيدها، ولكن العمل على الطريقة الأولى أحكم وأحزم؛ فإن وضع الطلاق تحت سلطة القاضي أدعى إلى تضييق دائرته، وأدنى إلى المحافظة على نظام الزواج. ولمَّا كان تخويل الطلاق للنساء مما تقتضيه العدالة والإنسانية لشدَّة الظلم الواقع عليهنَّ من فئة غير قليلة من الرجال لم تتحلَّ أرواحهم بالوجدانات الإنسانيَّة السليمة كان لي الأمل الشديد في أن يحرِّك صوتي الضعيف همَّة كلِّ رجل محبٍّ للحق من أبناء وطني خصوصًا من أولياء الأمور إلى إغاثة هؤلاء الضعيفات المقهورات الصابرات.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/96958241/
تحرير المرأة
قاسم أمين
«تحرير المرأة» هو كتاب لقاسم أمين في الإصلاح الاجتماعي، أثار ضجةً كبيرةً وقت ظهوره ليس فقط بين أوساط المثقفين ولكن أيضًا بين عَامَّة الناس؛ نظرًا لتناول الكتاب موضوع المرأة بصورة غير مألوفة لما تدرجت عليه الأدبيات الاجتماعية المصرية السائدة في ذلك الوقت، حيث حاول قاسم أمين في هذا الكتاب أن يلفت النظر إلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعيشها المرأة المصرية آنذاك، إذ كانت تعاني قهرًا اجتماعيًّا نابعًا من العادات والتقاليد الموروثة المرتبطة في أحيان كثيرة بالفهم الخاطئ للموروث الديني والقواعد الأخلاقية السليمة، وقد تطرق قاسم أمين لهذه الأوضاع التي فرضت قيودًا على حركة المرأة داخل مجتمعها ووطنها، ومنعتها من تأدية دورها النهضوي في بناء الأمة من أجل فهمها وتشخيصها، ومن ثمة معالجتها وإصلاحها.
https://www.hindawi.org/books/96958241/5/
خاتمة
تبيَّن للقارئ مما سبق أن ما نريد إدخاله من الإصلاح في حالة النساء ينقسم إلى قسمين: قسم يختصُّ بالعادات وطرق المعاملة والتربية، والقسم الثاني يتعلَّق بدعوة أهل النظر في الشريعة الإسلاميَّة والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات الأمَّة الإسلاميَّة وضروراتها فيما يختصُّ بالنساء، وألا يقفوا عند تطبيق الأحكام عند قول إمام واحد إنما كان اجتهاده موافقًا لمصلحة عصره، وأن يدقِّقوا البحث فيما تغيَّر من الأحوال والشئون فإن وجدوا في قول إمام ما تتعسَّر معه المحافظة على كرامة الشرع أقاموا مقامه قول إمام آخر يكون في مذهبه ما يسدُّ الحاجة بدون خروج عن أصول الشريعة العامَّة. والعمل على تحقيق هذين النوعين من الإصلاح هو كغيره من سائر الأعمال النافعة إنما يتمُّ بالعلم، والعزيمة: فهو وسيلة الأمَّة لمعرفة حاجاتها، وبه تتنبَّه أذهان أفرادها إلى ما هم فيه وما درجوا عليه من الأخلاق والعوائد والكمالات والنقائص، بحيث يكونون على شعور دائم بأحوالهم، وتكون تلك الأمور دائمًا موضوع بحثهم. إن من الغفلة بل من أسباب الشقاء أن تكون شئوننا في حياتنا قائمة بعوائد لا نفهم أسبابها، ولا ندرك آثارها في أحوالنا بل إنما نتمسَّك بها؛ لأنها جاءت إلينا ممن سلفنا، وورثناها عمن تقدَّمنا، وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا. مع أن هذا وحده لا يكفي لأن يكون سببًا في الأخذ بها، ولا في الثبات عليها، بل يجب أن نفهم أن لنا مصالح ولِمَن سبقنا مصالح، ولنا شئون ولهم شئون، ولنا حاجات لم تكن لهم، وكانت لهم حاجات ليست لنا اليوم، وذلك من البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان. فعلينا أن نأخذ من العوائد، وأن نكسب من الأخلاق ما يلتئم مع مصالحنا؛ فنكون مالكين لمصادر أعمالنا كما يطلب منا العقل والشرع، لا أن نكون عبيدًا لعاداتنا التي وجدنا عليها آباءنا، فيكون مثلنا مثل رجل وجد لباسه ضيقًا فرأى أن يجوع ليهزل ويضعف وينحل حتى يصغر جسمه فيسعه لباسه، لا أن يُصلِح لباسه بتوسعته حتى يتَّفق مع جسمه. إنا لا نجد عقبة في طريقنا إلى السعادة أصعب اجتيازًا من شدَّة تمسُّكنا بعادات مَن سلفنا من غير أن نميِّز بين تلك العادات صالحها وطالحها، نعم إن الماضي لا يصحُّ أن يُطرَح جملة. لكن يجب أن يُنظَر فيه بالتبصُّر والرويَّة؛ لمعرفة ما أظهر من منافع ومضار. لا أرى أعجب من حالنا: هل نعيش للماضي أو للمستقبل؟ هل نريد أن نتقدَّم أو نريد أن نتأخَّر؟ نرى العالم في تقلُّب مستمر وشئونه في تغيُّر دائم، ونحن ننظر إلى ما يقع فيه من تبدُّل الأحوال بعين شاخصة، وفكرة حائرة، ونفس ذاهلة لا ندري ماذا نصنع ثمَّ ننهزم إلى الماضي نلتمس فيه مخلِّصًا، ونطلب منه عونًا، فنرتد دائمًا خائبين. رأينا في هذا القرن حادثة عجيبة أظنُّها وحيدة في التاريخ، رأينا أمَّة بتمامها خلعت عوائدها، وأبطلت رسومها وتخلَّت عن نظاماتها وقوانينها وطرحتها وراء ظهرها، فقطعت كل وصلة بينها وبين ماضيها إلَّا ما كان متعلِّقًا بجامعة شعبها، ثمَّ همَّت فبنت بناءً جديدًا مكان البناء القديم فلم يمضِ عليها نصف قرن إلَّا وقد شيَّدت هيكلًا جميلًا على آخر طرز أفاده التمدُّن، فهبَّت من نومها، ونشطت من عقالها، وشعرت بأن الحياة تدبُّ في بدنها، وتجري في عروقها دمًا حارًّا قويًّا فتيًّا، تلك هي الأمَّة اليابانيَّة صارت تُعدُّ اليوم في صف الأمم المتمدِّنة بعد أن قهرت في بضعة أيام دولة الصين الجسيمة التي لم يقتلها إلَّا إعجابها بماضيها. أليس في ذلك عبرة لكل متبصِّر؟ لو كانت عوائدنا فيما يتعلَّق بالنساء لها أساس في شريعتنا لكان في ميلنا إلى المحافظة عليها ما يشفع لنا. أما وقد برهنا على أن كل ما عرضناه من أوجه الإصلاح يتَّفق تمام الاتفاق مع أحكام الشريعة ومقاصدها فلم يبقَ لنا عذر في التمسُّك بها سوى أنها قد تقدَّست بمرور الزمان الطويل، وأننا غفلنا عن مصالحنا وتدبير شئوننا. إذا توهَّم بعض القُرَّاء أن ما ورد في كتب الفقهاء من استحسان عدم كشف وجه المرأة، وعدم مخالطتها بالرجال دفعًا للفتنة هو من الأحكام الدينية التي لا يجوز تغييرها؛ فنقول إن هذا الاعتراض مردود بأن الأحكام الشرعية جاءت في الغالب مطلقة وجارية على ما تقتضيه العادات الحسنة ومكارم الأخلاق، ووكَّلت فهم الجزئيات إلى أنظار المكلَّفين، ووضعتها تحت تصرُّف اجتهادهم، وعلى هذا جرى العمل بعد وفاة النبي بين أصحابه وأتباعه. ولمَّا اتسعت خطة الإسلام، وكثر اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم، وعرضت عليهم حاجات وضرورات اقتضت أحكامًا ومشروعات جديدة، قام المجتهدون بينهم، واستنبطوا لهم من أصول الشريعة العامَّة ما يناسب الوقائع الخاصة ففصَّلوا ما أجمله القرآن والسُّنَّة من الأحكام، وفرَّعوا منها ما يناسب الأحوال والأمصار والأعصار، فهم لم يضعوا بذلك شرعًا، ولم يضيفوا على الدين شيئًا، وإنما كان اجتهادهم قاصرًا على النظر في الجزئيات، وردِّها إلى كلياتها المقرَّرة في الكتاب والسُّنَّة. ألا ترى أن القرآن لم يبيِّن أهم الفروض مثل أحكام الصلاة، ومواقيتها، وركوعها، وسجودها، ولا مقادير الزكاة وأوقاتها، ولا مناسك الحج، وأن السُّنَّة هي التي رسمت جميع تلك الأحكام مجملة، ثمَّ جاء المجتهدون ففصَّلوا أحكامها وقرَّروا فروعها؟ على هذا النمط تألَّفت شريعتنا: من فروع كلها راجعة إلى أصل واحد؛ فالشريعة الإسلاميَّة إنما هي كليات وحدود عامَّة، ولو كانت تعرَّضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لما حُقَّ لها أن تكون شرعًا عامًّا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمَّة ما يوافق مصالحهما. فهذه القواعد الكلية التي تحدِّد أعمالنا بحدود يجب الانتهاء إليها على حسب ما ورد في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة هي التي لا تقبل التغيير والتبديل، أمَّا الأحكام المبنيَّة على ما يجري من العوائد والمعاملات؛ فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، وكل ما تطلبه الشريعة فيها هو ألا يخلَّ هذا التغيير بأصل من أصولها العامَّة، فكشف الرأس مثلًا قبيح في البلاد الشرقية؛ لأنه كان معتبرًا في العادة مخلًّا بالمروءة؛ ولهذا السبب اعتُبِرَ عند أهل الشرق قادحًا في العدالة، ولكنه غير قبيح في البلاد الغربيَّة، فلا يكون عندهم قادحًا. فالحكم الشرعي يجب أن يختلف باختلاف ذلك، وجواز إثبات التصرُّفات الشرعية بالشهادة لم يكن الغرض منه معنى مخصوصًا في أشخاص الشهود، وإنما الغرض منه إثبات هذه التصرُّفات بالطريقة التي وقع الاصطلاح عليها ولم يكن غيرها مألوفًا، فإذا تغيَّرت الأحوال، وتبدَّل الاصطلاح، واعتاد الناس على التعامل فيما بينهم بالكتابة؛ تغيَّر كذلك الحكم الشرعي وتحوَّلت طريقة الإثبات من الشهادة إلى الكتابة، وإذا قيل باستحباب ستر المرأة وجهها عن الرجال؛ لخوف الفتنة، وعدم اقتضاء الحال لكشفه في زمان، كان هناك محل لخوف الفتنة، ولا تقضي ضرورات الحياة على المرأة بكشف وجهها فلا مانع من أن يتغيَّر هذا الاستحسان إلى ضده في زمان آخر؛ ذلك لأن اختلاف الأحكام باختلاف العوائد والمصالح ليس في الحقيقة اختلافًا في الشريعة، وإنما هو ردٌّ لأحكام الجزئيات إلى أصولها الكلية، ورجوع بها إلى مقاصدها الشرعية. تبيَّن من ذلك أن لنا في مأكلنا وملبسنا ومشربنا وجميع شئون حياتنا العمومية والخصوصية الحق في أن نتخيَّر ما يليق بنا ويتَّفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامَّة التي أشرنا إليها. أمَّا التزامنا بما وجدنا عليه آباءنا، وعدم الخروج عن الدائرة التي رسموها لأنفسهم فهو القضاء على الأمَّة الإسلاميَّة بجمود القرائح، وتقييد الأرجل، وغلِّ الأيدي عن كل عمل تحفظ به كونها، وتدافع به عن وجودها، وتتقدَّم به في سبيل سعادتها. بل قد يكون قضاء عليها بالمحو والاضمحلال. فهي حثُّ الإرادة إلى كل خير أرشدنا إليه العلم والعرفان والفرار بها من كل شرٍّ دلَّنا عليه البحث والتنقيب، العزيمة هي أشرف قوى الإنسان وأجلُّها وأعظمها أثرًا في أعماله؛ فالتعليم، والتهذيب، وسعة العقل، والأميال الحسنة، والغرائز الطيبة كلُّ ذلك لا يفيد فائدة تُذكَر عند شخص مجرَّد عن العزيمة؛ ولهذا كان ضعف الإرادة أكبر عيب في الإنسان. نرى الكثير من أهل بلادنا يستحسنون فكرة أو عملًا ولكنهم لا يجدون من أنفسهم همَّة كافية لخدمة تلك الفكرة أو ذلك العمل، ويكفي أنهم يعلمون أن بعض الناس لا يتَّفق معهم في رأيهم لتلاشي إرادتهم وسقوطها، أمَّا إذا علموا أنه ربما يمسُّهم ضرر ما من ناحية ذلك العمل، رأيتهم يفرُّون منه فرارًا. إن كان لنا أمل في نجاح ما نعدُّه صالحًا لنا فإنما يكون في الرجل الذي يجب أن يعرف ويبحث ليعرف ويعرف بالفعل ما تحتاج إليه بلاده، وله عزيمة تدفعه إلى العمل في جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرُّها بالوسائل التي تؤدِّي إلى المطلوب بطبيعتها طال الزمان أو قصر. فعلى مثل هذا الرجل الكامل نعرض طريقة للعمل فيما نحن بصدده بعد العلم بأن الخطوة الأولى في كل شيء هي من أصعب الأمور؛ لأن الانتقاد جميعه ينصبُّ على مَن يبتدئ في أي أمر خطير، ومن النادر أن يوجد شخص يحسُّ من نفسه قوَّة كافية لمقاومة تيار الانتقاد العام. فأحسن طريقة أراها لتنفيذ ما عرضناه في هذا الكتاب هي أن تُؤسَّس جمعية يدخل فيها من الآباء مَن يريد تربية بناته على الطريقة التي شرحناها، وأن يُختَار لتلك الجمعية رئيس من كبار المصريين (ولا أظنُّ أن الطبقات العليا من أهل بلادنا تخلو من واحد منهم)، وأن يكون عمل هذه الجمعية في أمرين: الأول التعاون على تربية البنات على هذه القاعدة الجديدة، والثاني السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها، بشرط ألا تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية، ولكن بدون أن تتقيَّد بمذهب من المذاهب بل تأخذ عن كلٍّ منها ما هو موافق لحاجاتنا الحاضرة وضرورات عصرنا، كما حصل مثل ذلك في وضع المجلة العثمانية، وكما حصل عندنا مرارًا في بعض المسائل المتعلِّقة بالمحاكم الشرعيَّة. فإذا تشكَّلت هذه الجمعية يخفُّ اللوم عن كل واحد من أعضائها؛ فإن قوَّة الانتقاد تأتي متوزِّعة على جملة من الأفراد فيسهل احتمالها ومقاومتها فلا يكون في شدَّة الانتقاد ما يبعث على فتور الهمَّة، وضعف الإرادة عن العمل؛ لأن في قوَّة الجماعة من الاقتدار على المدافعة ما ليس في قوَّة الفرد الواحد، والاجتماع هو القوَّة الحقيقية التي بدونها لا ينجح شيء. نرى حكومتنا تهتمُّ بمسألة صغيرة كمسألة الشفعة فتعيِّن لها لجنة شرعيَّة لتبحث في المذاهب، وتجمع ما تراه منها مناسبًا من الأحكام، ونرى كثيرًا من المصريين يدخلون في كثير من الجمعيات مثل جمعية الرفق بالحيوان، ومعارض الأزهار وغيرها، ولا يضنون بوقتهم ولا بمالهم في تعضيد مشروع من هذه المشروعات يعتقدون صلاحيته. ونرى الجرائد تنشر بين طبقات الأمَّة من المعارف ما يساعد على تربيتها وتهذيبها، وقد آن الوقت الذي يجب فيه على الحكومة، وعقلاء الأمَّة، وأرباب الأقلام أن يوجِّهوا التفاتهم إلى حال المرأة المصريَّة؛ فإني لا أرى مسألة تمسُّ بحياة الأمَّة أكثر منها ولا أحق منها بأن تكون موضوعًا لنظرهم ومجالًا لآرائهم وأفكارهم.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/0/
مقدمة
«ما جدوى هذه المساعي؟ ما خير أن تزخر على ظهري الحياة؟ لأي غاية أو في أي سبيل إرهاقي وكدي وإملالى على الأدهار؟ إنه عبث متواصل في الوسع رفع مئونته بالمحو والسلب. وقد تكون لهذا حكمة، ولكنها حكمة كانت تكون عندي أعدل لو أنها شاءت ألا تكون هذه الحيوانات». «باطل الأباطيل، الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟ دور يمضي دور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد … كل الأنهار تجرى إلى البحر، والبحر ليس بملآن … كل الكلام يقصر. لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل. العين لا تشبع من النظر. والأذن لا تمتلئ من السمع. ما كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد. أنا الجامعة، كنت ملكا على إسرائيل في أورشليم، ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السموات … فإذا الكل باطل وقبض الريح!». وأنا أيضًا كالجامعة وجهت قلبي إلى المعرفة، وامتحنت نفسي بالسؤال، وعللت روحي بالتفتيش، بنيت لنفسي «اَمالا»، غرست لنفسى «أوهاما»، عملت لنفسي جنات وفراديس غرست فيها «أحلاما» من كل نوع ثمر … وهذا كان نصيبي من كل تعبي … قبض الريح!». واستنفد العناء مجهودي كما تنفد السحابة أراقت ماءها على الأرض. وكل بما عنده يجود! زرعت حصى في أرض صفوان وهذا حصادي وقبضت الريح من كل تعبى تحت الشمس وهأنذا أؤديها إلى القارئ وأطلقها عليه كما تلقيتها لو يقنع الطالب المدل! وقد خرجت كما سيخرج القارئ وكما سنخرج جميعًا من هذه الدنيا، وليس في يدي شيء.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/1/
بين القراءة والكتابة
مضت شهور لم أكتب فيها كلمة في الأدب، لأني كنت أقرأ! والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت — وما زلت — امرءًا يتعذر عليه، ولا يتأتى له، أن يجمع بينهما في فترة واحدة. ولكم أطلت الفكرة في ذلك فلم يفتح الله على بتعليل يستريح إليه العقل ويأنس له القلب. وما أظن بي إلا أن الله، جلت قدرته، قد خلقني على طراز «عربات الرش»! التي تتخذها مصلحة التنظيم — خزان ضخم يمتلىء ليفرغ، ويفرغ ليمتلىء! وكذلك أنا فيما أرى: أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك! فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي هذا الذي خلقه الله لى خلقة عربات الرش كما قلت! حتى إذا شعرت بالكظة، وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء وقمت عنه متثاقلا متثائبًا مشفقًا من التخمة، فلا ينجيني إلا أن أفتح الثقوب وأسح؟! وهكذا دواليك! ولكم قلت لنفسي: أهذا الذي ركبه الله لك يا مازنى بين كتفيك رأس كرءوس الناس أم معدة أخرى؟! وأداة نظر وإدراك وتفكير هو أم مخزن يكتظ حينًا ويخلو أحيانًا تبعًا لانتقال الأحوال بك؟ والحق أقول إن الجواب يعيينى! وإذا لم أكن قد ركبت من الوهم شر الحمير! فإن الناس في الأكثر والأعم إنما يعالجون الكتابة لأن في رءوسهم فكرة أو خالجة، كائنة ما كانت، يبغون العبارة عنها والإفضاء بها، ولست أراني كذلك. ولقد يخيل إلى في بعض الأحايين أن في نفسي معنى معينًا، ويؤكد ذلك عندي ويقرر اعتقادي به، ما أحسه من جيشان الصدر واضطرابه، فأذهب ألتمس هذا المعنى أو الخاطر فإذا به قد تبخر! وإذا بي كابنى حين يجلس إلى جانبي ويحاول أن يقبض على الدخان الذي يتصاعد من سجارتى، وأنا أضحك من هذا الذي يحاوله، وألهو به، وأقول: إنه يجرب في عالم المحسوسات بعض ما أعانيه في عالم المعنويات! وكثيرًا ما يدفعني إلى الكتابة إحساس غامض إلا أنه من القوة بحيث لا يسعني مغالبته فأتناول القلم، وأنا كالمسحور، وكأن القلم هو الذي يثب إلى يدي، كما ينجذب الحديد إلى المغناطيس، وأسرع في الكتابة وأمضى فيها إلى غايتها المقدورة، شأني في ذلك شأن الذي يسير وهو نائم! ينهض من فراشه ويخطو، ويذهب هنا وههنا، ويتكلم أو يباشر بعض الأعمال، ولكن وعيه ليس تامّا، وإرادته لا دخل لها في شيء مما يصدر عنه. وأحيانًا أفعل هذا: أسأل نفسي: «أفي رأسك شيء؟». وأعنى بالشيء ما له قيمة، لا أي شيء على الإطلاق، فتساورنى الشكوك فأنقر بأصبعي على جوانب رأسي كمن يريد أن يتبين من الرنين مبلغ الخلو! وربما أسفت لأنه لا أستطيع أن أتناول رأسي هذا وأن أقلبه بين كفى وأن أفعل به ما يفعل المرء حين يختبر البطيخ! ثم أقول: لا بأس! القلم حاضر والورق تحت عيني، فلأقم حد هذا على صفحة ذاك، ولأفتح ثقب هذه «الحنفية» ثم فلأنظر ماذا يقطر منها أو يسيل. أو لا يدير أحدنا صمام «الحنفية» أحيانًا ليرى أفيها أم ليس فيها ماء؟! نعم! وكذلك أمتحن نفسي من حين إلى حين كلما شككت وكبر في ظني أن رأسي قد أصبح فارغًا! ولا أفعل هذا، حين أفعله، إلا على سبيل الاختبار وطلبًا للاطمئنان لا رغبة في الكتابة ولا عن قصد إليها. حتى إذا وجدت القلم يجرى وألفيت مراعفه تقطر، قلت: الحمد لله! وأقصرت! وقد أبدأ المقال معتمدًا شيئًا بعينه فيجرى القلم بخلافه! وشبيه بهذا أن تريد السفر إلى الإسكندرية فتحملك رجلاك إلى قطار يذهب بك إلى السويس! وأحسب ذلك إنما يكون كذلك لأن الكلام يفتح بعضه بعضًا، وقد يفتنك وأنت تكتب معنى يعن لك فيلهيك عما كنت فيه ويدفعك من طريقه إلى غير ما قصدت إليه. وقد تأخذ في كلام تحسبه هينًا فتتكاءدك الوعور وتتعاظمك العقبات فتميل عنه إلى ما هو ألين. ومن هنا كان آخر ما أكتبه هو العنوان! وكثيرًا ما أستخير الله في الكتابة على نية معقودة ثم أعدل في بعض الطريق عنها وأتحول إلى سواها، ويجيء الكلام متناولا طرفًا من هذا وأطرافًا من ذاك، ويعجزنى أن أختزل مضمونه في عنوان فأدع المقال بلا رأس وأقدمه هكذا إلى الأستاذ أمين بك الرافعي فيضع هو — جزاه الله عنى خيرًا — ما يوافقه من العناوين! وأمري مع الكتب أغرب. كنت في أول عهدي بها — أي منذ عشرين سنة أو نحو ذلك — أذهب في أول كل شهر إلى واحد من باعتها فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له فيرفع رأسه إلى الرفوف ويدور حول نفسه وهو في مكانه ثم يلتفت إلى وعلى شفتيه — دون عينيه — ابتسامة جهل وغباء، ويهز لى رأسه آسفًا. فأنحيه عن الطريق وأمضى إلى الرفوف وأجيل عيني فيها وآخذ منها ما يروقني وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار! وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين إن كان فوقها شيء يستحق الذكر! وكنت لا أتخطى عتبة البيت إلا متأبطًا كتابًا، ولا تمضي على ليلة إلا طلعت في بعضها قليلا أو كثيرًا. وكانت الكتب أنيسي في وحدتي وسميري في خلوتي، وكنت أستغني بها عن متع الحياة ولذات العيش وأقول: إنها «تدخل في متناول الحس، والعواطف والمدركات وكل ما له وجود في العقل»، وإنها توقظ الحواس الخامدة والمشاعر الراكدة وتملأ القلب وتشعر النفس كل ما تستطيع الطبيعة البشرية احتماله وكل ما له قدرة على تحريكها وابتعاثها، وتدرب المرء على الاستمتاع بتدبر عظمة الجلال والأبد والحق، وإنها تمثل ذلك للإحساس وتحضره للذهن وتكشف لنا عن وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم، وإنها تعين القلب على تعرف الهول والفزع والسرور واللذة وتخفق بالوهم على جناح الخيال وتفتنه بسحر عواطفه وخواطره، وإنها تسد النقص في تجارب المرء وتثير فيه تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكًا لها وتجعله أشد استعدادًا لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، لأنه ليس بالإنسان حاجة إلى التجريب الشخصي لتتحرك فيه هذه العواطف بل حسبه «ظاهر» التجريب الذي تهيئه له الكتب. وإنما تستطيع الكتب أن تقوم مقام التجربة الشخصية الواقعة بما تمثل للمرء لأنه كل حقيقة واقعة يجب أن تمثل في الرأي قبل أن يتعرفها الذهن أو تؤثر فيها الإرادة، ومن أجل ذلك كان سواءً على المرء أن تؤثر فيه الحقيقة الواقعة بالذات أو يأتي التأثير من طريق آخر كالصور والرموز التي تمثل هذه الحقيقة، فإن في طاقة الإنسان أن يصور لنفسه ما ليس له وجود حتى يعود وكأن له جسمًا يحس ويلمس، فسيان عند الإنسان أن يؤثر فيه الشيء أو مثاله، لأنه يحرك فيه عوامل الفرح والحزن مثلا على كل حال، وسواء أكان الشيء حاضرًا أم ماثلا في الخيال بصورته، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يحس حركات الغضب والبغض والرحمة والقلق والفزع والحب والإجلال والعجب والشهرة. فكأن هذه الرموز هي اللسان المترجم — كما يقول هوريس — عن الحقائق. كنت أقول مثل ذلك وأصدقه، وكأن مثلى كمثل أشعب الذي حكوا أن صبية هتفوا به وأثقلوا عليه فأراد أن يصرفهم عنه فقال لهم: إن في مكان كذا وليمة فاذهبوا إليها وأصيبوا منها … فلما مضوا عنه بدا له الأمر كأنه صحيح فذهب يعدو في أثرهم. وكما أن أشعب عاد بالخيبة والحسرة والسخر من نفسه كذلك انقلبت عن الكتب، فلا أنا أفدت شيئًا سوى قمع الشباب وإضاعة فرصته وإراقة مائه في تلك الصحراء العارية، ولا أنا فهمت الحياة كما ينبغي أن تفهم أو سددت نقصًا في تجاريبى أو استطعت أن أستغني «بظاهر» هذا التجريب عن التجريب الشخصي. وشر من ذلك أنى اطلعت من هذه الكتب على صورة أو صور للحياة ليس أكذب منها ولا أبعد! ولا نكران أنها أيقظت نفسي وفتحت عيني ونبهت حواسي وابتعثت مشاعري وجعلتني أشد تأثرًا بالحياة وتحركًا لها واستعدادًا لتلقى مؤثراتها، ولكن أليس معنى ذلك أنها جعلتني أتعس وأشقى مما كنت أكون لو ظللت أرتع في بحبوحة الجهل والغفلة والبلادة ولم أفز بهذه النعمة التي لم أعد بها غنيّا؟ ماذا يكون لو أخذنا كنوز هذه العقول ورمينا بها من حالق للرياح والمدر، كما أقول من قصيدة صنعتها بعد أن فطنت إلى ما أضعت من عمري؟ وما أحسبني بالغت، فقد مات «الفتى» المازني حقّا ولم يبق منه شيء، وإني لأمر الآن بالمكاتب فأشيح بوجهي عنها وأغمض عيني دونها، ويردنى الكتاب بكرهي فأتركه حيث يقع وأهمله الأسابيع والشهور. وإذا فتحته اكتفيت بأن أعبره تزجية للوقت، ولم أبال من أي موضع بدأت، وسيان عندي أن أقرأه من أوله إلى آخره، أو من آخره إلى أوله أو أن لا أقرأه. وقد تعاودني الحمى القديمة ويتأوبنى الحنين الماضي إلى الكتب، فأدافع نفسي عنها ما استطعت، فإن عجزت وغلبت على أمري طاوعتها على حذر وسايرتها متحفزًا، وذهبت أتخير لها الكتب وأنتقيها … ومهما يكن من الأمر فلست الآن ذلك الذي كان كأنما يعبد منها دمى وأصنامًا، وقد اغتنمت أول فرصة سنحت فبعتها جملة وتحريت بعد ذلك أن أزداد جهلا! ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب! كما يقول المثل العامي، وللعادة حكم لا يقوى المرء في كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا على ما يريدها عليه من الخمود والتبلد. وقد يزعج المرء أن يرى نفسه يقضى أيامه بطين الجسد وحده، أو بموتها على الأصح، فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد لا ينقصها إلا الرمس. وما لا يصح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، وعسير على من تعود أن يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد ويخلد إلى الركود. فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينا بعد حين. ••• «أما أبو نواس فأمره غير هذا كله، لم يكن عذريا وما كان يستطيع أن يكون عذريا، وهو الرجل الذي شك في كل شيء ولم يؤمن إلا بالمجون واللذة يلتمسهما حيث يجدهما لا يتقيد في ذلك بحرج وجناح … ولم يكن عذريا ولم يكن يتكلف أن يكون عذريا وإنما كان يسخر من العرب ومما كان العرب يتكلفون. لم يكن يتكلف العذرية وإنما كان يهتم باللذة وبلذة غير التي كان يهيم بها عمر بن أبى ربيعة» … إلى أن يقول: «… إن أبا نواس يكرهك حين تقرأ غزله بالغلمان على أن تعجب بهذا الغزل رغم ما فيه من منافرة للطبع والخلق والدين … إلخ». أما نحن فقد قلنا في المقدمة التي وضعناها للجزء الثاني من ديواننا: «فلا جرم كان الشاعر أحسن الناس وأعمقهم حكمة وأصحهم إدراكًا لخلال الخير وخصال الفضل — نقول للفضيلة والخير ولا نخشى أن يهز القراء رءوسهم إنكارًا، فإن الشعر أساسه صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي. ولست بواجد شعرًا إلا وفى مطاويه إدراك أخلاقي أدبي صحيح، وعلى قدر نصيب الشاعر من صحة هذا الإدراك الأدبى تكون قيمة شعره. ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا نقصد إلى إظهار الإحساس الديني في الشعر فليس كلامنا على مادة الشعر بل على مصادره وينابيعه. ولا ينبغي كذلك أن يستخلص أن الشاعر يجب أن يكون صاحب مبدأ عملي لا يتحول عنه، فقد كان بيرنز الشاعر الإنجليزي وأبو نواس وامرؤ القيس متقلبي وجوه الحياة ومظاهرها ولكن نصيبهم مع ذلك من صحة الإدراك الأخلاقي والأدبي عظيم. ولئن كان لهم معايب نؤاخذهم بها فقد أحالها الزمن هباء لا قيمة له ولا وزن، وأنت خليق أن تنظر إلى ما وراء ذلك. فإن أبا نواس أصح مبادئ وأنقى ضميرًا من البحتري على كثرة ما تقرؤه للأول مما يروع ويخجل، وكذلك امرؤ القيس أفطن إلى معاني الفضيلة وأعظم رجولة من أبى تمام وابن المعتز، ولم يكن الأعشى على حبه الخمر واستهتاره بها وتخلعه فيها بالرجل الناضب الفضيلة … إلخ»، إلى آخر ما قلنا يومئذ وكان ذلك في يناير سنة ١٩١٧، ولقد غبرت أعوام ثمانية فلم تزدنا إلا اقتناعًا بهذا الرأي الذي أشرنا إليه في ذلك الوقت إشارة من لا يحس أن المسألة تحتاج إلى إفاضة. ولقد سقنا لك هاتين العبارتين من كلام الدكتور وكلامنا لتعرف مدى الخلاف بين الرأيين ولتدرك ما في المسألة من دقة وتعويص، لا يسع المرء حيالهما إلا أن يسأل الله السلامة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/2/
على شاطئ بحر الروم
أكتب هذا الفصل على شاطئ البحر الأبيض أو بحر الروم، وقد كتبت الذي قبله على حدود الصحراء. وللكلام كما للناس، حظوظ، والمعاني والخواطر أرزاق. ولقد أذكر أنى كنت ذاهبًا إلى مصر الجديدة مع طائفة من الأصدقاء في واحد منهم شذوذ وكان يكتب في الترام! وأنه ليكتب كلمة «السؤدد» إذ انطفأ النور فخط «دالا» في النور و«دالا» في الظلام! ولو أنى كنت اليوم في القاهرة وفى بيتي الذي اتخذته على «تخوم العالمين» لكان الأرجح في الرأي والأقرب إلى الاحتمال أن يجرى القلم بغير ما يسطره الآن، فإن النفس كالزجاج الحساس تنطبع عليها وترتسم فيها صور ما يحيط بها. ولقد كان العزم أن أقول غير ما أنا قائله ولكن المقادير قذفت بي إلى البحر، لا فيه والحمد لله، فتحلل العزم، ومسح من اللوح ما كانت الصحراء قد نقشت عليه … ولو خيرت لاخترت مقامي القديم، ولآثرت أن أكون في هذه الساعة التي أكتب فيها حيث كنت في الأسبوع المنصرم: إلى يميني الصحراء، وإلى يساري المقابر! واحدة تعلو بي، وأخرى تهبط. وإذا استأثرت معاني الأبد والجلال بالقلب ردته إلى الدنيا ومصائر الخلق فيها هذه الأجداث المتلاصقة والعوالم الإنسانية التي خرجت من التراب وعادت إليه وتحللت واستسرت فيه. غير أنى ألفيت نفسي جالسًا على شاطئ بحر الروم أنظر إليه وأتأمل عبابه المزبد وموجه المتجدد، والشمس تنحدر عنه وتبسط عليه أشعتها المتوهجة، وأواذيه كقطع الجبال المتقلعة تتدفع إلى الشاطئ وتستبق سيفه فيغيب بعضها في بعض وترغى وترعد وتصفر وتهمس وترقص وتضحك وتمحو ما أخطه على الرمل! ولا أدرى أذكرنى هذا المنظر ما أنستنيه الأيام من الأقاصيص التي كانت تسلينا وتروعنا وتعمر بها فضاء حيواتنا الصغيرة «العجائز» من ذوات قرابتنا أو جيراننا، إذ يجلس الطفل منا إلى إحداهن ويرهف أذنيه ويود لو صارت كل جارحة فيه مسمعًا، وقلبه الصغير يخفق … وكلما أغربت العجوز في القصة وتبسطت في وصف الجان والمردة أو السحرة وأسهبت في سرد أعمالهم، أدار هو لحظه خلسة في المكان كالذي ينفضه بعينه أو يخشى أن يظهر له عفريت من أحد أركانه، وراح يدنو منها ويزحف إليها حتى يلصق بها، على حين كانت الفتيات الناهدات متكئات في سكون على حوافي النوافذ أو الشرفات، ووجوههن الصبيحة، التي كأنما غذتها الورود، يضيئها القمر الواجم الساري في حاشية من النجوم اليتيمة العذراء التي ينقصها، مثلهن، الحب! ولم يتغير البحر عما عهدته! كل شيء فيه كما في العصر الخالي إلا المدينة القائمة على ساحله، فقد كانت في بعض أيامها الخوالي تشغل مكان أثينا فلم يبق لها من سالف عزها إلا البوم والسفسطائيون! حتى آلهة الإغريق استنكفوا على ما يظهر أن يتراجعوا إلى الإسكندرية بعد أن ثل الزمن عروشهم ونفاهم وشردهم عن ملك السماء، ولم يرض ملك السماء ذو الخصل البيضاء أن يأوي إليها ويعوذ بها بعد أوليمبيا، وآثر عليها التشرد بصاعقته الخامدة، وضن بنفسه عليها زيوس وتجافى عنها وإن كان لم يربأ بنفسه عن عزل أبيه وطرد أعمامه وعن الاستهتاك بين الغلمان الذين كان يهبط إلى الأرض على خلقة النسر ليخطفهم ويصعد بهم إلى ملكوته ويكايد بقبلاتهم زوجه! وكم عذلته في جنميد وأنبته على مشاربته في كأس واحدة فكان يقول لها مستترًا لو شربت بعده من هذه الكأس لأقصرت ولم تلومي! وشاهدي على صحة الرواية «لوسيان!». وما وقفت قط على هذا البحر إلا أحسست أنى مثله، وإلا هممت أن أنظم هذه الأبيات مرة أخرى: … إلخ. وكأنما ضاق صدري بما أجن وقلبي بما أثار البحر من خليط الذكريات وحرك من الآمال، فنهضت عن الصخرة التي كنت قاعدًا عليها ودهورت هذه الأبيات في أشداقي وانطلقت أنشد الريح إياها!! ومن عساني أنشد سواها؟ في أي أذن غير أذنها أفرغها أو أهمس بها؟ في أي نفس إنسانية أجد لنفسي كهفًا يتجاوب بأصداء عواطفي وخوالجى؟ عند من من الخلق أفوز بالتجاوب الذي تمنحنيه الرياح؟ كما تساءلت قديمًا! ثم أهبت بقصائدي التي لم أنظمها — قصائدي الجياد التي لم تند قط عن صدري وإن كانت تعمره، ولم ينطلق بها لسانى وإن تكن على طرفه، والتي لولا مشيئة الأقدار لذهبتها بأصيل هذه الشمس الغاربة، ونسجت منها تاجًا لرأسك الذي يتوسد التراب، ولفصلت من زرقة السماء الحالية بنجوم الليل المتوامضة، ثوبًا متألقًا ينسجم على كتفيك وينسدل إلى قدميك! ••• وغابت الشمس وانتشرت على الأرض غيابات الطفل، فعدت إلى مقعدي أنظر إلى الموج المشرئب، وجاش صدري مثله وجعلت طيوف الماضي تبرز من ظلامه وتخطر أمامي ثم تغيب ويلفها ما هو أظلم، ولكن طيفًا واحدًا ظل ماثلا لعيني في حيثما أدرتها، ومالئًا شعاب نفسي بالإحساس به، ومناجيًا لى من زفيف الرياح وتهزم الأمواج، وفيه وفى تمثل الحب المفقود والأمل الضائع! وخامرنى هذا الخاطر وألح على حتى خلتني جثة غريق ردها الموج الطاغي إلى رمال الشاطئ! ولج بي هذا الوهم حتى ملت عن الصخرة إلى الرمال ورقدت عليها، وأومأت إلى الأمواج أن اركدي فقد ذهب كل شئ: انتسخ الأمل وغاض معين الحب وجفت الحياة! ثم تناولت عودًا كان ملقى إلى جانبي وخططت به كلمات على الرمال البليلة، غير أن الأمواج طغت عليها وغسلتها وعادت بها ولم تترك لى حتى اسمي الذي رسمته في آخرها! فما أوهى العود وأخون الرمال وأطغى هذه المياه المتحدرة! وبأي شيء إذن أكتب؟! أأقطع جذع شجرة بلوط وأغمسه في بركان وأسطر به ما أريد على صفحة السماء ليبقى؟! ••• ولكم وقفت من قبل على شاطئ هذا البحر بعينه، وفى مثل هذا الأوان، مجيلا عيني في قبة السماء اللازوردية، ومرسلا لحاظى في البحر والرمال والصخور، وقائلا لذوات المناقير السوداء إذ تعب بها من الماء وتلقط ما يتقاذف منه: «أيتها الأطيار! إن حياتك مرة مشتوتة كطعامك وشرابك! ولشد ما أتمنى أن أعطيك مما أعطانيه الله، وأن أنشقك ما أشمه من الأزاهير والرياحين، وأطعمك مما آكل من لحم غريض وخضر مستطابة وفاكهة شتى، وأن أشعرك ما أشعر وأتمتع به من لذاذات الحب المتبادل! فإن لى شريكة تحبني، وإني لأراها الآن بعين الخيال مطلة من النافذة منتظرة أوبتي إلى وكرها ومشتاقة رجعتي إلى عشها». وكانت الأطيار تقضى وطرها وتذهب عنى ولا تحفل غبطتي ولا تبالي طعامي ورياحين أنفي وعيني ونفسي، وما أظنها الآن إلا قائلة لي: «يا من كان يفاخر بغيظه ماذا أنت اليوم؟ ماذا صنع الله بآمالك التي أنشأتها وربيتها واعتززت بها، وأحلامك التي نسجها قلبك حول حياتك؟ انظر الظلمة التي تغشى ذهنك! وتأمل الخفافيش التي تمرح فيه! أليس الماء الملح الذي نكرع منه وقذائف البحر التي نلتقطها أهنأ وأرغد؟». فأطرق وأقول: أي والله صدقت! ولشد ما أتمنى أن يكون لى منقارك الأسود! ••• كلا! صحرائي أرفق بي من هذا البحر العاتي الذي لم يتغير منه شيء، والذي يهيج النفس إلى ما بها، ويعديها، فتجيش مثله وتتدافع فيها العواطف وتتلاطم وتتزاخر … ومن لى بالقدرة على نقل هذه الصحراء التي ألفتها وأحببتها، معى في حلى وترحالي، وفرشها وبسطها حوالي في حيثما أكون من الأرض؟! نعم ليت هذا في وسع إنسان؟! إذن لاستطعت أن أطويها كلما غادرت بقعتها، وأن ألفها مع ثيابي وأشيائي في حقيبتي، حتى إذا نزلت مكانًا واستوحشت نفسي أنست بأن أخرجها وأنشرها أمامي وأتأملها وأذكر بها ليالي فيها بما اشتملت عليه من خير وشر، وسرور وحزن، وغبطة واكتئاب، ورضا وألم. ومن أحق بها منى أو بي منها؟ مالي وللماء الذي لا تطمئن إليه قدم ولا يثبت على حال ولا ينفك ينقلب فيه القديم جديدًا، والماضي مقبلا، والمقبل مدبرًا، ولا يفتأ بعضه يفنى في بعض؟! ولعل السبب في حبها وإيثارها أن بي مشابه منها! وأنى أجتلي في انبساط رقعتها وترامى أطرافها وتقاذف أرجائها وجدبها وعريها وتجردها من كل زينة تحفل بها رقع الأرض الأخرى، صورة من نفسي التي تبسط للحياة ولا تزيد الحياة بها، وللدنيا لتحسب عليها ومنها، ولا تزيد الدنيا بها عمارًا، وعسى أن يكون كلفي بها لذكرياتي ومعاهدي فيها، وعلى أنه أي داع يستوجب أن أعلل هذه «العاطفة» التي أنطوي عليها للصحراء؟! ولما كنت مع الأسف لا أستطيع أن أنقلها معى إلى حيث أذهب فإني أكر إليها راجعًا على جناح الخيال! وأراها بضمير الفؤاد كلما خفيت عن عيني. وإني الآن لأتلفت من البحر إليها وأنقل عيني في جنباتها وأسرح طرفي في أرجائها … وحسبك من قوة شعوري بها ومن فرط استيلائها على خاطري واستبدادها بنفسي، أنى نظمت هذه الأبيات في بقعة منها فيها آثار بلدة الفسطاط، أناجى بها ليلة سهرتها بها وعهدًا كان لى فيها: فأنت ترى كيف تغلب طيف الصحراء على البحر المائج، ولا عجبا فإن نفسي كما قلت بالصحراء أشبه وإليها أقرب!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/3/
نظرة أولى
كلمة في الأسلوب أولا … لنا في الأسلوب رأى قديم يعرفه من يعرفنا، ذهبنا إليه في صدر حياتنا، وثبتنا عليه إلى يومنا هذا. ولسنا نتخذ من الثبات على رأى مفخرة، فإنه لا يخفى علينا أن هذا «قد» يكون مرده في بعض الأحيان إلى الإفلاس العقلي — إن صح هذا التعبير — أو إلى ضعف الخيال، أو غير ذلك مما أترك للقارئ استقصاءه إذا شاء، فقد علمتني الأيام أن أكون أرفق بنفسي من أن أرهقها أو أحمل عليها إكرامًا لسواد عيون القراء! ولماذا لا يتكلف القارئ شيئًا من النصب؟! ولله، فاعلم، معشر فقراء العقول، يفرح أحدهم أن يكون له رأى ما، فيضن به ويحرص عليه، ولسنا من هؤلاء فيما نرجو! وسنبسط رأينا ونعيده بأوضح مما فعلناه قديمًا حين كنا نعتقد أن المسألة أدخل في باب البديهيات من أن تحتاج إلى إفاضة أو تحتمل إسهابًا، فنقول إن الغرض الأول من الكتابة على العموم هو الإفهام أو نقل الخاطر من رأس إلى رأس، والخالجة، كائنة ما كانت، من نفس إلى نفس. ومعلوم أن الألفاظ ليست هي المعاني وإنما هي رموز لها، تدل عليها وتشير إليها، كما تفعل إيماءات الخرس التي يتفهمون بها ونظراتهم وحركات وجوههم وأصواتهم القليلة التي يستطيعون إخراجها. ولو أن إشارات الخرس كثيرة كالألفاظ في اللغة، لوفت بكل غرض تعين عليه الألفاظ ولأغنت غناءها. وغير منكور أن الألفاظ مهما بلغت كثرتها، محصورة، وأن المعاني على خلاف ذلك لا آخر لها ولا نهاية، ومن هنا كان لا معدى عن العناية بانتقاء أشف الألفاظ عن المراد وأحكمها أداء للمقصود، وإلا كان الكلام لا خير فيه ولا طائل تحته، وماذا عسى أن تكون قيمة كلام يؤدى الغرض منه ولا يفهم منه قارئه أو سامعه إلا كما يرى المرء في الضباب الكثيف؟! فالإبهام أو نقل الخالجة على العموم إلى نفس أخرى هو الغرض الأولى من الكتابة على وجه الاجمال … ولكن هذه ليست إلا درجة أولى فوقها أخرى يحاول من يسميهم الناس أدباء وشعراء أن يرقوا إليها، وهي طبقة الكتابة الفنية التي لا يكون المطلوب فيها مجرد الإفهام وإيلاج المعنى أو الخاطر ذهن القارئ بل التأثير. وكما أن الإنسان لم يكتف بالأصوات الكلامية وأبى إلا أن يغنى وأن يرفع عقيرته، حين يحس الحاجة إلى ذلك أو الرغبة فيه، بتواليف صوتية تطربه وتشجيه … وكما أنه لم يسعه أن يقنع من المساكن بما يقيه الشمس والرياح والأمطار والضوارى، ومن الثياب بما يعينه على احتمال الأجواء المختلفة ويستره، بعد أن أرهفت الحياة إحساسه ورققته، ومن الطعام بما يسد الرمق ويدفع غائلة الجوع ويؤتيه القوة، ومن المراكب على أنواعها بما فيه العون والكفاية فحسب … نقول كما أن الإنسان أبت له طبيعته التي ركبها فيه خالقه إلا أن يجاوز ما تطلبه الضرورة القصوى في طعامه وشرابه وملبسه ومسكنه وفى كل شئ آخر، كذلك لم يطق صبرا على الاكتفاء من الكتابة بما تبلغ إليه من الأغراض الأولى، وطمع فيما هو أكثر من ذلك وبغى ما وراءه، فنشأ الأدب. وليس من الضروري أن يكون المرء على جانب عظيم من الثقافة والتهذيب ليطلب الفن في حياته، فإن الإنسان حيوان فني، وإنك لتجد الرجل الأمي الكثيف للعقل «السميك» الوجه يضفر شعر حماره ويفرقه يرسله على صفحتي عنقه ويفضض له لجامه ويذهب سرجه ويركبه مترفقًا ويمشي به مختالا وينزل عنه ويسايره وينظر إليه باديًا من بعيد ومن قريب ويربته ويلاطفه ويمسح له وجهه، وقد تفيض نفسه سرورًا بمنظره فيقبله؟! ولو أنه كان لا يتخذه إلا مركبا يريحه من عناء السير وجهده، لما كلف نفسه أن يحليه ولما عنى بتجميل أدواته من سرج ولجام وغير ذلك، وبإراحته جهد طاقته، وبعلفه ما وسعه الإنفاق، فهي عاطفة فنية ملكت عليه قلبه واستولت على لبه، وكان مظهرها العناية بتجميل أتانه! ولكن الحمير، والحمد لله، ليست كل ما يمكن أن يكون مظهرا لهذه العاطفة الفنية! وما يستطاع في عالم الحمير وأشباهها من أبناء أبينا الشيخ آدم رحمة الله عليه وغفرانه له يستطاع مثله في عوالم الكتابة والشعر والموسيقى والتصوير. وما منا إلا من يبغي أن يكون فنه أفعل باللب وأسحر للقلب وأملأ للعين وأوقع في النفس. ولكن الكتابة لا تكون فنية من تلقاء نفسها، وإنما تصير كذلك بما يحدثه المرء فيها من الصور، وما يوفق إليه من الإحسان والتجويد، ولا بد لذلك فيما نظن! من صحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة والاستعداد. فإن الألفاظ موجودة، وهي ملقاة في طريقنا جميعًا وعلى طرَف كل قلم ولسان … ولو أن العبرة كانت بالألفاظ وحدها، وكان المعول على مقدار محصول المرء منها، لكان أكبر الأدباء هم جماعة اللغويين والحفاظ، ولكان ابن منظور والفيروزابادى مثلا شيخي أدباء العرب وشعرائهم. كذلك الموسيقى أصوات، وليس يعنى أحدًا أن يتوفر عليها ويحذقها ويمهر في توقيعها، وقد لا يعجزه أن يصنع بضعة ألحان قليلة أو كثيرة، ولكن ليس كل أحد بمستطيع أن يكون بيتهوفن أو فاجنر أو شوبان. والتصوير أيضًا أصباغ وألوان، أو قل — إن شئت — إن هذه هي مادته ووسائطه، ولكن العلم بها وبأصول الرسم وقواعده ليس حسب المرء ليكون مصورا حتى من الأوساط فضلا عن الفحول من أمثال روفائيل وتيتيان. وما لنا لا نسوق الأمثال مما هو ألصق بحياتنا اليومية؟ خذ صناعة النجارة مثلا وقل لى لماذا لا يستطيع كل نجار أن يكون ككل نجار؟ ما السر في أن واحدا يخرج قطعة تدخل السرور على كل نفس وتحب أن تتعلق بها وتتمهل عندها كل عين، على حين يخرج لك غيره ممن لا يقلون عنه علمًا بالصناعة ودربة عليها ما لا يروق ولا يعجب ولا يعدو أن يكون قطعة منجورة وأخشابًا بعضها إلى بعض والسلام؟ نريد أن نقول إن فن الكتابة، ككل فن، يتطلب استعدادًا طبيعيّا وأنه — ككل فن أيضًا — لا غنى عن الجمال فيه. وماذا يكون قولك في رجل يزعم أن سيغنيك ثم لا يسمعك إلا أصواتًا متنافرة أو ضوضاء منكرة؟ أو في آخر يقول لك هذه صورة فنية، فإذا نظرت إليها لم تلمح فيها ما يميزها عن النقل الفوتوغرافي؟ وكالنقل الفوتوغرافي الكتابة العادية التي لا يقصد منها إلا إلى الإفهام، وكالتصوير الفني لغة الأدب. ولا يفهم أحد من كلامنا أننا نقصد إلى التكلف وإثقال الكلام بالحلى والزينة، فما يخطر لنا شئ من ذلك، وإنما نعنى أن الأدب فن، وأنه لا بد في كل فن من الإحسان والتجويد، ولكل امرئ طريقة هو لمؤثرها أو موفق إليها لإبراز المعنى في أحسن معرض، وليست المزية في التأنق والتحبير فإن للجمال العاطل أيضًا موقعًا حسنًا وروعة ونضرة، بل المزية في إبراز المعاني في أحسن حلاها كيفما كانت … وكل ميسر لما خلق له، فواحد يوشي الكلام ويطرزه، وثان يرسله غفلا، وثالث يدق لفظه ويشف حتى لتتخطاه العين كأنما يعرض لك المعاني في ظروف من النور، ورابع يفرغ خواطره في قوالب ملئت قوة وجمالا وهكذا. والإحسان في كل ذلك والقدرة عليه، ملكة لا تحصل بالمعاناة ولا تتهيأ بالدرس والتحصيل وإن كان هذا مما يقويها وينميها. ولا نطيل القول. فأيما رجل زعم نفسه كاتبًا أديبًا وخلا كلامه من عناصر الجمال فقل له لست به. والآن، ما رأينا في أسلوب صديقنا الدكتور طه حسين؟! الحق أن هذا الموضوع يدق فيه الكلام! ولقد بدأت الكلام وفى عزمي أن أفيض في بيان رأي في الأسلوب، ولكني لم أكد أسود بضعة سطور حتى ألفيت نفسي أوجز وأوجز وأوصد كل باب موارب في طريقي وأضيق دائرة البحث، ثم إذا بي أسأل نفسي: ما رأيي! في أسلوب الدكتور؟! ولقد تقمصنى والله عفريت النقد! وإني لأحس أن عينيّ قد احمرتا، ويبلغ من إحساسي بذلك أو توهمي إياه أنى أهم بالتطلع إلى وجهي في المرآة! ولا أكتم القراء أنى صرت أؤمن بأن لكل منا شيطانًا، وأحسب شيطاني من أخبث الشياطين، فإنه يزج بي في مآزق لا أرضاها لنفسي لو كان الأمر لى … وإن على مكتبي لأكثر من خمسة عشر كتابًا أستطيع أن أتناولها بما شئت من النقد وأنا آمن أن ألقى أصحابها إذ كنت لا أعرفهم، ولكن شيطاني الخبيث ظل يخايلني بكتاب الدكتور حتى أخرجته من بين إخوانه وقلت له: «تعال يا هذا». وأخذت أقلب صفحاته كما يفعل المرء بالخروف يريد أن يشتريه لعيد الأضحى! والحق أقول إنه أعجبنى! وأنا ألقى الدكتور كل يوم وأحادثه أكثر مما أحادث نفسي. ولكم قلت لنفسي وهو لا يدري «لا يا شيخ! دع كتاب الدكتور إلى سواه، فإن للزمالة حقّا واجب الرعاية وستخجل أن تلقاه بوجهك هذا إن نقدته». ثم لا أكاد أخلو بنفسي حتى يهمس في أذني ذلك العفريت اللعين: إن الأدب فوق الصداقة والزمالة، وإن بروتوس كان يقول: «إني أحب قيصر ولكن رومية أحب إلى»، وإن لك كتابًا كما له كتاب فلينقده إذا أحب، وليس من شأن النقد الأدبي أن يفسد ما بين الصديقين. وهكذا حتى اقتنعت وتناولت القلم فكتب به الشيطان ما يأتي: «الدكتور طه حسين رجل أنيس المحضر ذكي الفؤاد جريء القلب، تعجبك منه صراحته وتقع من نفسك رجولته وأنفته، ويعلق بقلبك إخلاصه ووفاؤه، ويثقل عليك أحيانًا اعتداده بنفسه! ولما كان قد ألف أن يملى كتبه ورسائله ومقالاته، فإن كتبه وحديثه، حين يجد، في مستوى واحد، كائنا ما كان ذلك المستوى … فلست تفتقد في أحاديثه ما تجده في كتابته من الخصائص والشيات، ويندر في غيره مثل ذلك. ومن شأن الإملاء أن يحول دون مط الكلام وأن يجعل الجمل قصيرة فلا تطول مسافة ما بين أولها وآخرها، وأن يغرى بالتكرير والإعادة إلى حد ما، كما هو الشأن في الخطابة. ومن هنا كان أسلوب الدكتور طه خطابيّا، أو قل إن الصبغة الخطابية فيه أغلب من الصبغة الكتابية … وخصائص تلك ومميزاتها أوضح، فهو في الأغلب والأعم يوجه الخطاب إلى القارئ كما تفعل حين تحادث جليسًا لك، ويقصر جمله ويؤكد عباراته بالتكرير والإعادة ويلتمس التأثير من طريق ذلك، حتى وأنت تقرأ كلامه كأنما كان يهز قبضة يده حين بلغ هذه العبارة، ويومئ بأصبعه لما وصل إلى تلك إلى آخر ذلك. «والخطابة فن مختلف جدّا عن فن الكتابة. وأحسب أنه لو كان الدكتور قد ألقى هذه الرسائل ولم يكتبها، لما جاءت إلا كما هي الآن. ومن شاء أن يكون منصفًا وأن يوفى كتابة الدكتور حقها ولا يعدو بها مكانها فلينظر إليها بهذه العين وليزنها بما توزن به الخطابة لا بما تقدر به الكتابة. «إني ما كتبت فصلا إلا وأنا أعلم أنه شديد النقص محتاج إلى استئناف العناية به والنظر فيه، وأنا أقدر أن سيتاح لى من الوقت وفراغ البال ما يمكنني من استئناف تلك العناية وهذا النظر حتى إذا فرغت منه ونشرته «السياسة» عرضت لغيره في مثل هذه الحال العقلية التي عرضت له فيها معتزمًا أن أستأنف العناية به والنظر فيه مستحييًا أن أقدمه إلى الناس على ما فيه من نقص وحاجة إلى الإصلاح … والأيام تمضي والظروف تتعاقب، مختلفة متباينة أشد الاختلاف وأعظم التباين، ولكنها كانت تحول دائمًا بيني وبين ما كنت أريد من تجديد العناية واستئناف النظر، وأي الكتاب وأي الباحثين لا يشكو مثلى هذا في مثل هذه الأيام التي نعيش فيها؟». وأما خلوها من مزايا الخطابة فلأنه لا يمليها على أنها خطب تلقى بل على أنها مقالات وفصول تقرأ، وإن كانت طبيعة اعتياد الإملاء تجعلها أقرب إلى الخطب منها إلى الرسائل. ومتى كان هذا هكذا فأي غرابة إذا قلنا إنها خالية مما لم يتحره فيها: أي من خصائص الخطب ومزاياها؟ وكما أن الخطب تفقد كثيرًا من قوتها وتأثيرها في نفوس الناس حين يقرءونها، كذلك مقالات الدكتور من عيوبها أن الناس يقرءونها ولا يسمعونه يلقيها؟ «ولا شك في أن أظهر عيب في مقالات الدكتور هو التكرار والحشو وما هو منهما بسبيل. وعندنا أن علة ذلك ليست فقط أنه يملى ولا يراجع ما يملى بل الأمر يرجع في اعتقادنا إلى سببين جوهريين، أولهما أن ما أصيب به في حياته من فقد بصره كان له تأثير لا نستطيع أن نقدر كل مداه، في الأسلوب الذي يتناول به موضوعاته، وفى طريقة العبارة عن معانيه وأغراضه. ولسنا نتحرج أن نذكر ذلك، فإنه أعرف بنا من أن يشك في عطفنا، بل نحن أعلى به عينًا وأسمى تقديرًا من أن نعتقد أن به حاجة إلى هذا العطف. وليس يخفى أن المرء إذا حيل بينه وبين المرئيات ضعف أثرها في نفسه، ولم تعد الكلمة الواحدة تغنى في إحضار الصورة المقصودة إلى ذهنه بالسرعة والقوة الكافيتين، فلا يسعه فيما نعتقد إلا الإسهاب ومحاولة الإحاطة ومعالجة الاستقصاء والتصفية. «وثاني هذين السببين أنه أستاذ مدرس وقد طال عهده بذلك. والتعليم مهنة تعود المشتغل بها التبسط في الإيضاح والإطناب في الشرح، والتكرير أيضًا، بل تفعل ما هو شر من ذلك: وأعنى أنها تدفع المرء عن الأغوار والأعماق إلى السطوح. وبعبارة أجلى تضطر المدرس إلى أن يجتنب التعمق والغوص، وأن يكتفى — ما وسعه الاكتفاء — بما لا عسر في فهمه ولا عناء في تلقيه. وتلك آفة التدريس، ولولا أنى أعرف كلفه به وإقباله عليه وهشه له، لدعوت له الله أن يريحه منه كما أراحني». قال المازني: وهنا صرف الله عنى السوء وأذهب عنى الشيطان فوضعت القلم وأنا أحمد الله أن لم يستكتبنى إلا هذا التحليل البريء.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/4/
آراء شتى
مما يحببني في الصحراء أن لي فيها سميرين: أحدهما رجل ساذج لا يزال على الفطرة على الرغم مما يحمل من عبء السنين على كتفيه، ومن ثقل لحيته الكثة على خديه! وخير ما فيه أنه يسمح لى أن أمشط له شعراتها الطويلة وأفتلها، بقرش يأخذه؟! وناهيك به من منظر ليس أروح منه للصدر: منظر وجه حوله مثل الإطار من هذا الشعر المفتول، وفوقه عمامة خضراء ضخمة تهوى إلى الحاجبين وتخفى حتى الأذنين! ولصاحبنا هذا رأى طريف في صديقنا الدكتور طه حسين! فهو عنده من أولياء الله الصالحين! ولكتابه في نفسه روعة وحرمة، إذا رآه انبسطت أسارير وجهه والتمعت عيناه ثم مد إليه كلتا يديه، كالمتسول حين تدفع إليه صحنًا فيه طعام! وتناوله مبسملا محركا شفتيه بما شاء الله، وسبحان الوهاب وأمسكه مقلوبًا! فإن صاحبنا بفضل الله أمي؟! وأخذ ينظر إليه وينغض رأسه المثقل بالعمامة ويبسبس بشفتيه إعجابًا، وسر ذلك كله أنه يعتقد — على ما فهم مني! — أن الدكتور لا يكلم الناس إلا يوم الأربعاء!! وأنه يتناوله في كتابه سيرة والبة بن الحباب رضى الله عنه! وحماد عجرد قدس الله سره!! وأبى نواس القطب الأعظم! وقد توسل إلى مرة أن أقرأ له شيئًا من فيض الدكتور فتعمدت أن أنشده للنواسى هذه الأبيات: ثم أمسكت لأن الرجل كان قد سرى في مفاصله كحميا الخمر فجعل يدق ركبتيه بكفيه، ويهز رأسه في كل ناحية هزّا عنيفًا أشفقت عليه منه وخفت أن ينكسر عنقه. ومنذ ذلك الحين صار النواسي قطبًا والدكتور وليّا نفعنا الله بهما. آمين! وبلغ من إكباره لصديقنا وحسن اعتقاده فيه أن سألني أن أشفع له عنده ليعطيه عهدًا! وها أنذا أؤدي الرسالة! فهل بلغت؟ اللهم اشهد! وثاني السميرين الأنيسين سحلية. نعم سحلية! وأي غرابة في ذلك؟ ألا يتخذ الناس الكلاب ويصطحبونها في غدواتهم وروحاتهم؟ ألم يكن آباؤنا المصريون القدماء يعبدون حتى القطط؟ والسحالي كثيرة في صحرائي هذه. ويظهر أنها أحست منى الحب لها والشوق إلى الاتصال بها، فما خرجت إلى الصحراء مرة أو جلست على باب البيت إلا برزت لى السحالي من الشقوق وراحت تدور حولي مطمئنة غير وجلة، وتخطر أمامي وترفع لى ذيلها بالتحية! وبعضها مخطط الجلد منقوش الذيل على نحو ما ترى على آثار آبائنا الفراعنة. وما يدرينا ويدريك؟ لعل ههنا هيكلا قديمًا مدفونًا، ولعل هذه السحالي كهنة مسحورون! فإن صح هذا فقد تكون على هذه الذيول القصيرة أسرار عويصة منقوشة لو ظفر بحلها واحد من أمثال «برستيد» لجلا لنا من أنباء القرون الخالية وحقائق الطبيعة الماكرة ما ينقب عليه أمثاله عبثًا في فدافد الصعيد! ولا بد لحبها وألفتها إياي واطمئنانها إلى من سر، وأحسبه أنها لمحت في مشابه منها! أوكأنى بها تعتقد أنى كنت سأخلق على صورتها ثم عدل بي خالقي، جلت حكمته، إلى ما هو أدنى وأهون. أعنى صورة الأناسى! فإن كان هذا هكذا فلعله السبب في أن عيني تقع على الشقوق بسرعة، وأنى كلما أمسكت عصًا ألفيتني أعالج أن أغرسها في الأرض أو أن أحفر بها في جوفها. ولكم فكرت في هذا فتمنيت أن يتيح الله لنا عالمًا ذكيّا لبقًا يثبت تناسخ الأرواح! إذن لكان هذا أبسط حل لهذه المعضلة! وأنا ألاحظها وأجعلها قيد عيني كلما ذهبت تنساب على الرمال أمامي. ولقد خيل لى يوما، وأنا أرامق واحدة منها، أنها أطرقت قليلا ثم رفعت رأسها الدقيق وحملقت في وجهي بعينين خلتهما عيني كاهن مسحور، وقالت لى بصوت أجش يفيض عطفًا ومرثية: «مساكين أبناء آدم! ما أشد جهلكم وأقل استغناءكم عن الكتب! أو ليس هذا الذي بيمينك كتابًا؟». قلت: «نعم غير أنى لا أقرؤه لأتعلم منه بل لأنقده»؟ فابتسمت كالساخرة وقالت: «وما أشد غروركم أيضًا!». ثم أمالت رأسها وأغمضت إحدى عينيها وسألتني بلهجة مبطنة بالزراية: «وأي كتاب تقرأ؟ حدثني». فقلت: «هذا كتاب وضعه من يدعى الدكتور طه حسين في بعض من كانوا يدعون أبا نواس وبشارًا والحسين بن الضحاك، وكلهم، فيما أرى من هيئتك، مغمور خامل الذكر لم ينتشر به الصوت إلى عالمك!». فدارت حول نفسها من فرط الضجر دورتين أو ثلاثًا ثم لفت ذيلها حتى أدنته من رأسها ولبثت هنيهة تتأمل نقوشه الخفية السر، ثم التفتت إلى وقالت: «وما دكتورك هذا؟». قلت: «أستاذ في الجامعة يدرس الأدب والتاريخ أو كليهما أو لا أدرى ماذا؟». فبدا عليها الاهتمام وتركت ذيلها يعود فيمتد خلفها على مهل، وقالت: «أدب؟! وماذا كانت الدنيا تخسر لو لم يظهر فيها أدباؤكم هؤلاء؟ بل لو لم تخلقوا فيها يا أبناء آدم؟ أكانت الأرض تكف عن الدوران؟ أم كانت تستوحش خلوها منكم رائحين غادين فوق ظهرها ومن جثثكم المرمة في جوفها؟ ودكتورك هذا الذي يدرس في الجامعة هل يستمع إليه أحد؟». فقهقهت، فغيرت وابتدرتنى بهذا التعنيف: «ماذا يضحكك يا هذا؟». فقلت: «معذرة سيدتي إن كنت أسأت الأدب! نعم يذهب إليه الظماء إلى المعرفة ليكرعوا من معين علمه وأدبه. ولا نكران أنه ليس سوى إنسان، لا سحلية، ولكنه يعرف بعض الشئ». فقاطعتني بقولها: «أجبني ماذا تخسر الدنيا أو تخسرون أنتم لو فقدتم هذا الكتاب بل ما عندكم من الكتب؟». فحز في نفسي هذا التحقير الذي تلج فيه ونهضت عن كرسيى وقلت: «إني أحتج يا سيدتي على هذه اللهجة وأؤكد لك …». ••• «أتكلم نفسك؟» فالتفت مذعورًا إلى مصدر الصوت فإذا قريب لى ينظر إلى قلقًا وقد زوى ما بين عينيه! فعدت إلى كرسيى وعالجت نفسي حتى ثابت إلى، ثم شرعت أطمئنه ولكن هيهات!! ••• وقد كففت بعد ذلك عن محادثة السحالي العالمة واعتضت منها محادثة القراء! … غير أن أذني ما انفكت تكن بقولها: «ماذا تخسر الدنيا أو تخسرون أنتم لو فقدتم هذا الكتاب بل كل ما عندكم من الكتب؟». وإني لأردد سؤالها هذا الآن وأعيده على سمعي ويؤلمني ويكوي غروري الجنسي وكبريائي النوعي أن يكون الجواب سلبًا قاطعًا ونفيًا جازمًا، أي لا شىء! فأما الدنيا فلا تخسر شيئًا على التحقيق. وأما الناس فهبهم كأجهل ما كانوا أو كأكمل ما يمكن أن يكونوا علمًا، فما أرى هذا يقدم أو ذاك يؤخر. أليس الفناء الشامل هو الماَل! على كل حال؟ أجيال تمضي وأخرى تأتى، كالخيالات التي تتراءى للحالم، حتى إذا استيقظ المرء اختفت! كذلك الطبيعة تحلم بنا الآن ثم في الصباح يخلو رأسها من أشباحنا!! ولعن الله السحالي فقد سودت بسؤالها عيشي حتى لقد صرت كما أقول: ••• هل فيه من جديد؟ هل زادت معارفنا به قليلا أو كثيرًا؟ أكنا نكون أجهل مما نحن الآن لو لم يكتبه؟! وأذكر أن الأدب العربي ليس إلا بعض الأدب العالمي، وأن الدكتور لم يتناول في كتابه سوى جانب واحد من فترة من عصر من عصور الأدب العربي. والجواب عن هذه الأسئلة التي أوحت بها إلى السحلية اللعينة، نعم ولا. وأعنى بذلك أن الدكتور لم يزدنا علمًا بالعصر العباسي ولم يضف إلى ما نعرفه عنه جديدًا، فلو لم يكتب هذه المقالات لما فاتنا شئ يذكر من هذه الناحية. ولكن هذه المقالات كشفت عن جانب من جوانب نفسه هو، لم يكن يتأتى لنا العلم به والاطلاع عليه لو فقدنا هذه المقالات. وهذا هو الذي ربحناه. والواقع أننا جميعًا نترجم لنفوسنا ونحدث الناس عنها ونكشف لهم عن دخائلها حين نكتب مؤرخين أو مترجمين أو متفلسفين أو ناقدين أو غير ذلك. وأحسبني لم أعد الحقيقة حين قلت — والشاهد في البيت الخامس: ولا يحسب أحد أن من الخسارة أن يعرفنا المرء بنفسه ولا يعرفنا بسواه. كلا! فهذا مكسب كبير وربح طائل.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/5/
الأساليب والتقليد
بسم الله أبتدئ وعليه أتوكل! فما بقيت مندوحة عن تقلد السلاح وملاقاة دكتورنا في الحلبة التي اختارها لنفسه وآثرها على سواها. وعزيز على أن أنازله وأقارعه، فإني أنطوي له — أو صرت على الأصح أنطوي له — على الحب والاحترام. وليتني ما عرفته ولا خالطته! إذن لبقيت يدي حرة ترتفع حين تشاء وتهوى بكل قوتها على رأس كتابه فتهشمه، أو لا تضيره وتوهى عظامها، على قدر ما فيه من مناعة وقدرة على المقاومة، دون أن أجعل بالى إلى صاحب الكتاب أو يبرز لى وجهه من كل صفحة فيه، كأنما ظهر كتابه في الدنيا بفعل الهواء وبتأثير الجو كما ينبت العشب من تلقاء نفسه على الصخور. أما الآن فوا أسفاه! ألف الدكتور كتابًا ودفعه إلى الناس وقال لهم في تواضع كله كبر: هذا ما رضيت لكم! وما هو بسفر أو كتاب (كما أتصور السفر والكتاب) وإنما هي مباحث متفرقة «لست تجد فيها هذه الفكرة القوية الواضحة المتحدة التي يعبر عنها المؤلفون حين يؤلفون كتبهم». وبالغ في هذا الضرب من التواضع المقلوب، فأعلن إلى الناس أنه لم يعن بهذه المباحث «العناية التي تليق بكتاب يعده صاحبه ليكون كتابًا حقّا» وإنه يعلم «أنه شديد النقص محتاج إلى استئناف العناية والنظر» كأنما أراد أن يقول: لستم أهلا للعناية وأن في وسعى أن أؤلف خيرًا من هذا الكتاب، ولكن لمن؟ ألقراء الصحف السيارة — وهم فلا تنس! — جمهور القراء في مصر؟ كلا يا سيدي: (لم يكن بد من أن يتجنب «الدكتور» التعمق في البحث والإلحاح في التحقيق العلمي إذ كانت الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا)! ولكم وددت أنا — أنا المازني — حين قرأت هذه المقدمة التي صدر بها الدكتور كتابه، وقبل أن يصل حائك الأقدار ما بين أسبابي وأسبابه، أن أعلمه احترام القراء! ولكني خالطته فأحببته مع الأسف! وإني لأتمرد أحيانًا على هذه العلاقة التي توثقت عراها بيننا ويتقمصنى عفريت النقد الذي لا يحابي الأصدقاء ولا يجامل الأوداء، فأرفع بالفأس كلتا يدي وأشب عن الأرض، وأهم بالضربة تفلق اليافوخ فيطالعني وجهه الساكن وجبينه المشرق، وهو جالس إلى يحادثني — ويقاسمنى ما أعانيه من المضض ويحمل عنى شر شطريه فتهى قبضتي وتفلت الفأس، وتهوى ذراعاي إلى جانبي وتتملكني عاطفة فنية تجعلني أقول: «خسارة! نعم من الخسارة أن أحطم هذا الرأس! فإن في الجبين لالتماعًا وفى العظام قوة، وفى التركيب متانة — وأولى بذلك كله ريشة المصور لا فأس التحطيم ومعول الهدم! وليتني كنت مصورًا! إذن لأنطقت هذا الوجه بما عجز عنه قلم صاحبه؟». وهكذا كلما نويت للدكتور نقدًا أراني أمسح له جبينه وألاطفه وأربته! وإني لأنقم من نفسي هذا، ولكن ما حيلتي؟ لست أرى لى خيارًا: هذه هي الأسلحة ملقاة أمامي. تتخطى يدي من بينها كل درع مسردة تتكسر عليها النصال ولا نلتقي إلا درعًا من الكتان لا تقى ولا تغنى! وتدع المعاول والفئوس والقواضب والسوط وتتناول ما هو بخيط الحرير أشبه … لا بأس! ولنبرز له عزلا من كل سلاح! وما أظن بالقارئ إلا أنه يقول وهو يتلو هذه السطور: وهل أنت أشد احترامًا لقرائك من الدكتور؟! ألم تصدر «حصاد هشيمك» بكلمة قال كل من قرأها إنها زراية على القراء وتضاحك بهم؟! وجوابي كلا بالخط الثلث! وبراءة إلى الله من هذا الوهم الذي ركب بعض الناس! وهل من الزراية والتهكم أن أقول: إن هذا أقصى ما وسعه جهدي فإن رضى عنه القراء فبها ولله الحمد وإلا فما لا يصلح كتابًا قد يصلح وقودًا؟ وفرق ولا شك بين أن أصارح القراء بأن هذا كل ما في الطوق وبين أن أزعمنى قادرًا على خير منه! فأنا كما ترى أصدق تواضعًا من الدكتور: هو يستخف بقرائه ولا يراهم أهلا لأن يتكلف من أجلهم «التعمق في البحث والإلحاح في التحقيق العلمي» وينشر لهم كتابًا «شديد النقص محتاجًا إلى استئناف العناية والنظر» وأنا على خلافه أقدر في هؤلاء القراء الذكاء والفطنة فأسبقهم إلى الحكم على كتابي على حد قول القائل بيدي لا بيد عمرو! ••• ولم يكذب الدكتور حين قال في هذه المقدمة: «ولقد يكون من الحق على لنفسي وللأدب ولقراء هذه الفصول أن أعترف بأني ما كتبت منه (كذا) فصلا إلا وأنا أعلم أنه شديد النقص «محتاج» إلى استئناف العناية به والنظر فيه»: والدكتور رجل صادق صريح وقد اعترف فوق ذلك بأن الأيام كانت تحول دائمًا بينه وبين ما كان يريد «من تجديد العناية واستئناف النظر». وقد أحسنت الأيام بما حالت دون مرامه، ولو أنها أتاحت له أن ينقح ما يكتب ويتعقبه بالإصلاح، لما تركت لنا معاشر النقاد من عمل نبيض به وجوهنا ونسوغ به طول ألسنتنا. فهل يسمح لنا صديقنا أن ننوب نحن عنه في تجديد العناية واستئناف النظر؟ ويسؤنا أننا لا نحب أن نحاكي أسلوبه ونضرب على قالبه في إرسال الكلام. وليس ذلك لأن أسلوبه الكتابي شاق يتعذر تقليده، بل لأن لنا أسلوبنا الخاص، ومن فضل الله علينا أن ليس لنا فيه مقلدون! ولقد سمعت الدكتور مرة يقول، وقد عرض ذكر أسلوبه، ما معناه أنه لا يطمع من الشهرة في أكثر مما وفق إليه من كثرة المقلدين الذين يقتاسون به ويحتذون مثاله في طريقة الأداء وفى تأليف الكلام. وعندي أن الأساليب التى يسهل محاكاتها هي أحلى الأساليب من المياسم الشخصية والميزات الخاصة التي يختلف بها كاتب عن كاتب، أو بعبارة أخرى: هي التي لا تنطبع عليها صورة بارزة مؤكدة من شخصية أصحابها. وتقريبًا لذلك من أذهان القراء نقول لهم: إن المتنبي مثلا ينطق شعره باسمه وينسب نفسه له، من دون أن يحتاج القارئ أو السامع — إذا كان قد حصل شيئًا من الأدب — إلى النص على أن هذا البيت أو الأبيات للمتنبي. وما من مطلع على الآداب الغربية يعيبه أن يفطن إلى أسلوب كارليل الإنجليزي مثلا ولو سيق غفلا من كل نسبة. والآن فلنسأل: من الذي استطاع أن يقلد المتنبي أو كارليل؟ اجمع أدباء الدنيا وشعراءها قاطبة وكلفهم أن ينظموا لك قصيدة على غرار المتنبى أو يكتبوا فصلا على مثال كارليل يعجزوا جميعًا ويبوءوا بالفشل! ذلك لأن الأسلوب صورة من النفس، ولكل ذهن التفاتاته الخاصة وطريقته في تناول المسائل وعرضها … وكلما كانت هذه الخصوصيات أوكد وأعمق، كانت المحاكاة أشق والإخفاق فيها أقرب، فهي لا تسهل إلا حيث يكون الأسلوب خاليًا من الخصائص التي ترجع في مرد أمرها إلى النفس وما ركبت عليه وانفردت به. وإليك مثالا من عالم الموسيقى: ونعنى به هذه الأغاني الشائعة على الألسن والتي يسمونها «الطقاطيق»: يوقعها الرجال والنساء والغلمان والأطفال على السواء توقيعًا مضبوطًا، ولا يكادون يتفاوتون إلا من حيث حلاوة الصوت وصلاحه للغناء. ومعلوم أن الذين وضعوا هذه الألحان وصنعوا فيها هذه الأصوات، هم من رجال الفن، ولكن الناس يصنعون أصواتًا مثلها في كلام غير كلامها، أي يقلدونها ولا يجدون في ذلك عسرًا. أما الأدوار الكبرى والقطع التي هي أدخل في باب الفن من الطقاطيق، والتي يشتهر بها واضعوها ولا تذكر في الأغلب والأعم، إلا مقرونة — على الأقل في الذهن — بأسماء أصحابها، نقول أما هذه فما أقل مقلديها بل حفاظها! وأنت قد تستطيع أن تصنع بركة أو بحيرة تشرع فيها على الزوارق وتأتى إليها بشتى الأسماك، وتجعل لحوافيها صخورًا، وتنثر على سيفها الحصى، وتفرش الأرض على مستدارها بالرمال، ولكن أيدخل في مقدورك أن تحفر لنفسك فيما شئت من أرض الله الفضاء بحرا أعظم طامي الموج، متدافع الأواذى، مختلف التيارات، يتعاقب عليه المد والجزر بتأثير القمر الذي في السماء؟! فليس من دواعي الفخر أن يكثر مقلدوك وأن يكونوا موفقين في الحكاية. ولعمري ماذا يبقى من المرء إذا كان يكتب على أسلوب إذا رأيت تقليده حسبته ألا يكون الإنسان في هذه الحالة عبارة عن صورة طبق الأصل من سواه؟ ومعنى ذلك أنه يكون إنسانًا عاديّا من الأوساط، أمثاله كثيرون إذ كان لا ينفرد بشئ يرتفع به عن مستواهم. ومن حسن حظ الدكتور أن له مقلدين ولكنهم لا يوفقون كل التوفيق فيما يعالجون من احتذائه، لأن أسلوبه ليس خاليًا من الخصائص وإن تكن من اللطف والدقة بحيث تخفى على مقلديه. وأعرف أناسًا يخلطون بين كلام وكلام سواه، غير أن هذا مرجعه إلى ضعف التميز وعدم التفطن إلى الخصائص الدقيقة التي لا تأخذها العين أول ما تأخذ. ••• لا أعرف، ولا أستطيع أن أفهم، مسألة اسمها «مسألة القدماء والمحدثين»، ولكن الدكتور الذي أثار نفعها بلا مسوغ يبدئ فيها ويعيد ويشغل بها من كتابه حيزًا كبيرًا فلنسمعه يتكلم. قال: «لم يخل عصر أدبي في حياة الأمم التي كان لها نصيب من الأدب وحظ في إتقان القول وإجادته من هذه المسألة، مسألة القدماء والمحدثين … ولم تظهر هذه المسألة في عصر من العصور أو عند أمة من الأمم إلا أحدثت خلافًا عظيمًا وجدالا عنيفًا، وقسمت الأدباء على اختلاف فنونهم الأدبية أقسامًا ثلاثة: قسم يؤيد القدماء تأييدًا لا احتياط فيه، وقسم يظاهر المحدثين مظاهرة لا تعرف اللين، وقسم يتوسط أولئك وهؤلاء ويحاول أن يحفظ الصلة بين قديم السنة الأدبية وحديثها وأن يستفيد من خلاصة ما ترك القدماء ويضيف إليها ما ابتكرت عقول المحدثين من ثمرات أنتجها الرقى وأثمرها تغير الأحوال وتبدل الظروف». وهو كما ترى — أو فيما أرى أنا — كلام يحتاج إلى إيضاح فلنستزد الدكتور سطورًا أخرى: «وفى الحق أن الاختلاف بين القديم والمحدث ليس مقصورًا على الأدب وحده … لأن الحياة الإنسانية تقوم على أصلين لا ثالث لهما ولا محيد عنهما، هما البقاء من ناحية، والاستحالة من ناحية أخرى. فنحن بحكم البقاء وحاجتنا إليه مضطرون إلى أن نصل بين أمس واليوم والغد، مضطرون إلى أن نصل بين القديم والجديد، مضطرون إلى أن نشعر بأن حياتنا الآن هي، إن لم تكن نفس حياتنا قبل الآن، فهي أثر قوى من آثارها ونتيجة لازمة من نتائجها. ونحن بحكم الاستحالة والتطور مكرهون على أن نشعر بأن يومنا يغاير أمسنا وبأن حياتنا الآن، إن أشبهت حياتنا أمس من وجه أو وجهين، فهي تغايرها من وجوه. «وإذن، فنحن بين الشعور بالبقاء، والحاجة إليه، وبين الشعور بالتطور، والحاجة إليه، مترددون في ميولنا وأهوائنا وآرائنا، فمنا من يؤثر هذا الشعور بالبقاء فيغلبه على كل شئ في نفسه حتى تصبح غايته الحقيقية ألا يكون إلا ابن أمسه، وإلا حلقة من حلقات هذه السلسلة المتصلة التي لا تعرف لها أولا ولا آخرًا، وهي سلسلة الحياة. ومنا من يؤثر هذا الشعور بالتطور والاستحالة، فيكلف بالجديد ويرغب فيه، ويندفع في هذه الرغبة وذلك الكلف، فلا يفكر إلا في شئ واحد هو أن يعدو، وأن يعدو ما استطاع، إلى الأمام، دون أن يقف فيفكر في حاضره، أو أن يلتفت فينظر إلى ماضيه. «ويشتد الخلاف ويعظم بين هذين الطرفين المتناقضين، بين أنصار القديم المسرفين في نصره، وأشياع الجديد الغلاة في التشيع له، يشتد هذا الخلاف ويعظم حتى يشعر به أوساط الناس وجماعاتهم المختلفة التي تخضع للحياة وتحياها هادئة وادعة غير شاعرة بتطور ولا ببقاء وإنما هي محققة لهذين الأصلين تحقيقًا طبيعيّا، غير متكلف ولا منتحل. تشعر هذه الجماعات الوسطى بما بين هذين الطرفين المتناقضين من جدال عنيف وخلاف عظيم فتتوسط بينهما ويظهر منها هذا القسم الثالث الذي هو خلاصة الأمة والذي هو المحقق الوحيد لاعتدال الطبع وصفاء المزاج والذي هو المحقق الوحيد للصلة الصحيحة المنتجة بين القديم وبين الحديث» ا.هـ. والآن أفهمت؟ كلا؟ ولا أنا وأحسب الدكتور أراد أن يتفلسف فأخذ بأيدينا إلى أعماق مجهولة من الهواء الراكد فيما وراء المادة ولم يزد على أن أذكرنا تلك السراديب الرومانية التي تذهب في كل اتجاه والتي احتفرتها أيدي الناس بحثًا عما لا ندرى! وخيرًا لنا أن ندع الدكتور وشأنه في هذه السراديب ولنرفض أن ننحدر وراءه إلى هذا الظلام الدامس الذي أفاضه على موضوعه، ولنبق حيث نحن تحت سماء الله المجلوة وبين مظاهر الحياة والطبيعة، وليهنه «البقاء والاستحالة»! نسأل الله له السلامة! والمسألة أبسط من ذلك: أدب خلفه لنا الاَباء يحسبه بعض المعاصرين المثل الأعلى، وقد يكون كذلك أو لا يكون، ويتوهمون أنهم يستطيعون بالمحاكاة أن يبلغوا مبلغهم، وأنهم إذا استعاروا أجنحة النسور حلقوا مثلها في سماء الحياة، وأن في وسعهم أن يوفقوا بين روح العصر الحاضر وأساليب التفكير والحياة القديمة. وهناك قوم آخرون مثلى ومثل الدكتور لا يعنون أنفسهم بهذا التوفيق لا يتحرون إلا شيئًا واحدًا هو الإبانة عما في نفوسهم. وهؤلاء فريقان: فريق يعنى بأن يدرس براعات الأدب القديم. وفريق لا يكترث لذلك. فالأمر كما ترى لا يحتاج إلى كل هذه الفلسفة التي حصب الدكتور بها وجوهنا في فاتحة كتابه. وأريد أن أخطو خطوة أخرى لأقول إن مقلدي القدماء لا يقلدونهم ولا ينسجون إلا على منوال نفوسهم. وإن إمكان النجاح في هذه المحاكاة مستحيل، وإنهم حين يكتبون لا يحتذون مثالا قديمًا، وإنهم واهمون إذ يظنون أنهم يطبعون على غرار السلف، وإن السبب بسيط جدّا وهو أن نجاح التقليد يستلزم أن يتكلف المرء أساليب تفكير عفى عليها الزمن، وأن ينظر إلى الحياة من وجهة غيرها كر الأيام، وأن يتخيل جوّا لا عهد له به، وبيئة ووراثة انقطع فعلهما في هذه الأيام. ولو أن رجلا من رجال العصر استطاع أن يتجرد من زمنه الحاضر وأن يكر إلى الماضي ويجيء بكلام لايختلف في شئ عن كلام رجل من كتاب العرب أو شعرائهم لكان في نظري أعظم من ذلك العربي، وحسبك أن تقدر جهد الخيال الذي يتطلبه أن يرجع المرء بنفسه قرونًا! وخطوة أخرى تخطوها، ذلك أنى أنكر إنكارًا باتّا أن فوق ظهر الكرة الأرضية في هذا العصر رجلا يكتب كالعرب. وهذا صادق أفندي الرافعي زعيم من نسميهم المقلدين وأنصار الأدب القديم: أي عربي كتب أو يمكن أن يكون قد كتب مثله؟ وليس المقام مقام مفاضلة وإنما هو مقام محاجة. وهذه جملة مستقلة من كلامه فيما سماه من كتبه «السحاب الأحمر» لم أتخيرها ولكن وقعت عيني عليها اتفاقا، ويجدر بي قبل أن أنقلها أن أعلن أنى لم أفهمها! وهي قوله: «قد يتغير الرجل في نظر امرأته حتى تقول له: يا أنت الأول ويا أنت الثاني، ولكني عرفت رجلا قال لامرأته: يا أنت الخامسة والخمسين؟!». ولست آتى بجديد حين أقول إن من المستحيل أن يرجع أحد بنفسه إلى عهد العرب لأن الحياة لا سبيل فيها إلى هذا النكوص. فلا قديم ولا جديد، وكل ما هنالك أن واحدًا يركب عقله ويتعثر به في الطريق الذي تسلكه قافلة العصر، وأن آخر يركب رجليه أو مطية أخرى ويسير في طليعة الركب أو بين سواده. وإن الكتاب ليحسنون جدّا إلى الأدب إذا أراحونا من هذه الضجة الفارغة التي أثاروها حول القديم والجديد، فإن الزمن ماض لا يثقل رجلا، فمن سايره فهو معه، ومن شاء أن يتكلف المحال فسينقطع عن القافلة وأمره إلى الله.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/6/
قليل من الفلسفة؟!
نستأذن القراء الكرام في قليل من الفلسفة. ولهم علينا عهد الله ألا نعود إلى ذلك. لا لأن الفلسفة مما يعسر عليهم «هضمها» ولا لأن «الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا» كما يزعم صديقنا الدكتور طه حسين في مقدمة كتابه الذي مللته لكثرة ما ذكرته، بل لأني لا أحسن هذا الضرب من الكلام. وما لنا لا نتفلسف وقد تفلسف الدكتور؟ أترى ما تيسر له يعجزنا؟ ألا يدخل في طوقنا كما دخل في طوقه أن نسوق كلامًا يستحي القارئ أن يقول لا أفهمه؟ وما دام في الدنيا من يشق عليهم أن يعترفوا بالعجز عن فهم ما يزعمه أصحابه فلسفة، فإن الدنيا بخير يا سيدي ولنتفلسف فيها نحن أيضًا! وأحر بفلسفتنا أن ترضى القراء وأن تكسبنا ثناءهم حتى إذا لم يفهموها كما هو المنتظر! ذلك أنها دفاع عنهم فما أطيبنا والله! في سبيلهم نتجشم الغوص في درك اللجة الفلسفية، ومن أجلهم نقامس حيتانها المخوفة ونتعرض لأن يطبق علينا أحدها فكه الرهيب ويبتلعنا بكل ما تنطوي عليه من قدرة وحذلقة، أو لأن نغرق ونرسب في النهاية إلى جانب الدر الذي لا نعود به، وبين الحصى والطين والحجارة التي نرتطم فيها. ولن ينفعنا القراء حينئذ، وقانا الله شر خدمتهم! ويغريني باعتساف الفلسفة ومحاولة الركض بين وعورها ما أشرت إليه في مقالي السابق وأسلفت عليه القول من زراية دكتورنا على القراء واعتباره إياهم غير أهل لأن يتكلف من أجلهم «التعمق في البحث والإلحاح في التحقيق العلمي إذ كانت الصحف السيارة لا تصلح لمثل هذا». لا يا صديقي الدكتور. عفوك! لو وسعك هذا الذي تقول إنك تجنبه لما أحجمت عنه ولا صدك الإشفاق على رءوس القراء والترفق بأدمغتهم. ولو كان في جعبتك ما هو أغلى وأثمن لما طويته عن العيون ولاحتلت وتلطفت وألححت في عرضه ولرفعته قبلنا من كل ناحية. وليس الدكتور وحده هو الذي يفعل ذلك، فإننا جميعًا مع الأسف هذا الدكتور. وما منا إلا من يطيب له أن يدعى أنه قادر على خير مما يصنع. وكما أن الفقير يتظاهر بالثراء ويحب أن يوهم الناس أنه أغنى مما يدل عليه ملبسه ومسكنه وطعامه وسائر ما عسى أن يبدو لهم منه، ويستنكف أن يعترف بخصاصته ورقة حاله، كذلك نحن معاشر الكتاب: يزعم كل معدم منا أو من لا يملك إلا فكرة واحدة أنه غنى العقل، وربما أغرق في الدعوى فقال إنه مليونير! والناس في العادة لا يخفى عليهم الغنى المادي ولا يعنيهم أن يقفوا على حقيقة الدعوى فيه ونصيبها من الصحة … ومن هنا ترى المفلسين لا يزالون يكبحون جماح دعواهم ليجعلوها أقرب إلى العقل وأحرى بالتصديق، إذ كان لا يقبل ممن يمشي في أسمال بالية ويسكن كوخًا حقيرًا أن يقول: إن المال عندي قناطير مقنطرة، ولكنه لا يدفع السامعين إلى الإنكار والجزم بكذبه إذا ادعى أنه ادخر مائة جنيه. فإن مائة جنيه لا تنافى كل المنافاة ما عليه ظاهر حاله. أما غنى العقل أو الفكر فما الحيلة في دعواه؟ ما طريقة حسابه والحكم عليه؟ إنه غنى يدعيه لا الكتاب والشعراء والعلماء وحدهم — ولو اقتصر الأمر عليهم لهان الخطب وسهل الوزن والتقدير — بل كل من له رأس بين كتفيه. وهبك عرفت ما في رأسه وأحصيته فقد بقي أن تعرف أهو من ماله الخاص أو ممن اقترضه من سواه أو مما يستربيه؟! فمجال الدعوى كما ترى واسع رحيب، والحدود هنا غير قائمة، وكل ذي دعوة يرى من الأوفق له أن يغض عن دعاوى سواه ليغضوا عنه وليتبادلوا الموافقة ويتقارضوا التأييد! وليس من مسكين مغموط الحق غير جمهور القراء. نكتب لهم طلبًا لإعجابهم والتماسًا لثنائهم ونشدانًا للشهرة واستفاضة الصيت بينهم. وتأبى لنا طباعنا المنكرة إلا أن نجعل الاستخفاف بهم وسيلتنا إلى اكتساب ذلك: يعرض أحدنا على القراء بضاعة مزجاة فإذا عوتب أو نوقش اعتذر بالسوق وأنها لا تحتمل إلا الخسيس الرخيص من الأصناف، ويُصْفى ثان ويغدو كالدجاجة انقطع بيضها فيكبر عليه أن يقول فرغ رأسي، ويروح يقول إن الأرض غير صالحة للبذر ومن الحمق أن أحاول زرع أرض ظهرها صفوان، وقد علم أن العيب عيبه لا عيب التربة، وأن ما لا وجود له إلا في رأسه — إن كان فيه شئ — هو في حكم المعدوم، وأنه وجود لخاطر على الحقيقة إلا إذا ترجمه الجمهور عن صاحبه. ويجئ ثالث بكلام لا يكتبه بالقلم كما يكتب الناس، بل بالبرجل كما يقول صديقنا الأستاذ العقاد في وصف واحد من هؤلاء، فإذا قلت له إنك تكتب ما لا يفهم استشاط وسب الشمس والقمر وقال: إن منزلتي أن أكتب ومنزلتكم ألا تفهموا، إذ كنت أختلف عنكم في الحس وفي التفكير وفي الحكم على الأشياء، وأصدر فيما أكتب عن الإلهام الذي لا ينزل على العامة وأشباهها! وهكذا. نعم، هذا هو دستور الفن الإلهي: قوى مطلقة تحكمها وتنظمها قوانين وبغير ذلك لا نستطيع، ولو فاضت أرواحنا من شدة التفكير، أن نعلل ما نلمحه من مظاهر التناقض في الحياة. وهذه الفقرة بعينها من مقدمة العقاد التي أعلن الدكتور طه أنه لم يفهمها، هي مفتاحي الذي سأديره فيما سأتناوله الآن. وإذا كان لكل شيخ طريقته الخاصة به فسأبدأ بحثي من حيث أريد أنا لا من هذه الرُّباوة العالية التي أشرف العقاد من قمتها على الحياة، وفى مرجوي أن آخذ بيد القارئ وأن أصعد معه درجة بعد درجة حتى نبلغ جميعًا هذه القمة. بأيهما يحس الآدمي أولا: بنفسه أم بغيره؟ أظن أنه لا شك في أن أول ما يحس به المرء بعد أن يأتي إلى هذه الدنيا ويشعر بشئ فيها، هو نفسه. وفى وسع كل امرئ أن يتحقق من ذلك ويقطع الشك فيه باليقين وذلك بأن يلاحظ طفله لأول عهده بالحياة، فإن كل طفل يظل زمنًا غافلا عن كل ما يحيط به من الأشياء والناس، بل أبويه بل أمه أو ظئره. وظاهر أن إحساسه بوجود غيره لا يكون إلا على الأيام، أي شيئًا فشيئًا، ولا ينمو ويقوى إلا تبعًا لنمو إدراكه لما بينه وبين ما حوله من الناس والأشياء من الصلات. ومعنى ذلك أن الإحساس بالنفس أو بالفردية سابق للإحساس بالغير وناشئ قبله. ولك أن تقول بعبارة أخرى إن الغرائز الاجتماعية مكتسبة إلى حد كبير. وليست كذلك الغريزة الفردية. أضف إلى ذلك أن الفرد وجد قبل النوع. فالفردية هي السمة الأولى التي تبديها الحياة أو تبدو معها. وثم سمة أخرى لا خفاء بها هي أنه لا سبيل إلى الخلط بين اثنين وأن التطابق التام حتى بين التؤمين لا وجود له. وبعبارة أخرى، ليس في الحياة فردان يمكن أن تصفهما بأنهما مترادفان كما تصف بعض الألفاظ تساهلا في التعبير. نريد أن نقول إنه لا آخر للتنوع في صور الحياة. أي أن الحياة مطلقة الحرية في انتقال الصور التي تبدو فيها وتتشكل بها وأن سبيل الحياة أن تخرج أشكالا متنوعة وأنها لا تتقيد في ذلك بقالب معين ولا تلتزم فيه ما نلتزم نحن مثلا في الشعر أحيانًا من الوزن أو القافية. ولا يتعجل القارئ فيعترض، فما نريد أن نذهب إلى أبعد من أن «الأصل» هو الحرية المطلقة في اختيار الصور والأشكال. ولو أن هذا لم يكن كذلك، أي لو أن الحياة مقيدة بصورة أو صور معينة لا تخرج عنها لكان تعاقب الأحياء تكرارًا سخيفًا لا معنى له. وتصور أن الناس مثلا يخلقون على طراز واحد لا يتغير ويصبون في قالب لا يتعدد! ألا يكون كل جيل في هذه الحالة صورة معادة لكل جيل سبقه؟! نعم بلا شك! وماذا يكون معنى هذا التكرار المستمر؟ لا معنى على الإطلاق وأحر بالحياة أن تكون إذن مسرفة سفيهة مملة. وما أحقها حينئذ بأن يحجر عليها من يستطيع؟! كلا! ليس في الحياة إسراف ولا إملال لأنه لا تكرار هناك ولا إعادة. وكل فرد يخرج من يدي الحياة يكون الأصل فيه أنه نمط قائم بذاته مختلف عما عداه وحريتها في ذلك مطلقة لا نهاية لها ولا حد. ولكن — نعم «ولكن» — لا بد من القيد الذي تنتظم به الحرية وتصان من التبدد والانحلال المفضيين إلى العدم: وهذا القيد هو أن الناس لا يخلقون في هذه الأيام كما خلق أولهم من الطين مباشرة أو من المواد الأولية. وإنما يأتي الإنسان من إنسان مثله، وتخرج صورة الحياة الجديدة من صورة سابقة أي من أبوين. وهذا الجهاز الذي تمر به مادة المخلوق الجديد يطبعه بطابعه ويترك أثره فيه فيجيء الجديد مشابهًا للقديم. وإذا كان هذا هكذا فكل فرد يأتي إلى دنيانا يكون نتيجة عاملين: حرية الاختيار التي تتوخاها الحياة في صورها، والوراثة الناتجة من التناسل والتي ترمى إلى الاحتفاظ بالصورة القديمة وإلى إعادتها، وهذا هو علة الاختلاف من ناحية والتشابه من ناحية أخرى. والمسألة كما ترى بسيطة سهلة المساغ وليس فيها تعويض بل لا جديد فيها في الحقيقة ولا فلسفة! وعسى من يسأل: ولكن ما علاقة هذا بالدكتور طه حسين وبما افتتحت به هذا المقال؟! وجوابنا أن العلاقة وثيقة والصلة متينة. ذلك أولا أن الدكتور قد شاء أن يتفلسف في كتابه فلم يبق لغيره عذر إذا لم يتفلسف! وثانيًا أننا أردنا أن نعلل هذه الظاهرة العجيبة: ونعنى بها تزلف المرء للجمهور وتظاهره بالاستخفاف به وبرأيه واستصغاره لقدره. فأردنا أن نقول بلسان الفلسفة إن من الدلائل القوية على أن الأصل أن الحياة مطلقة الحرية في أخذ صورها وتنويعها أن كل واحد منا يحب أن يرتفع عن المستوى العام بالحق أو بالباطل لأن التميز دليل على وفرة الحيوية وإربائها في المرء على النصيب العادي. وهذا التميز هو الدليل من جهة أخرى على تغلب الفردية أي قانون الحياة على الوراثة التي تحاول كما قلنا وكما تعلم أن تجعل الناس صورًا متطابقة. ومن الذي يرضى أن يكون صورة مكررة من سواه لا تختلف عنه في كثير أو قليل؟ من الذي لا يحب أن يسمو في نظر نفسه أو في نظر سواه، وهو المهم، عن هذا المستوى العام؟ وإنها لرغبة تنبئ عن احترام الحياة وتكشف عما بين قانونها والوراثة من التنازع. فإذا رأيتني أو رأيت سواي يتسامى عن منزلة الجماهير فاعذره فقد عرفت الداعي إلى ذلك والباعث عليه … واعلم أن «الجمهور» لفظ مرن يسعك في كل لحظة أن تضيقه وتوسعه، وأن تجعله كلما شئت يشمل كل الناس إلا «أنت وأنا».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/7/
القديم والجديد
من الأوهام الشائعة أن الناس مولعون بكل جديد، ومن الأمور التي يشكوها من يتنكبون الطرق المعبدة أن الناس لا يبادرون إلى متابعتهم حيثما يذهبون. فأي القولين أصدق؟ وبأيهما نأخذ؟ لقد أشرنا من قبل إلى أن سبيل الطبيعة أن تصل إلى غايتها من أهون سبيل، أي أنها تتوخى أسهل السبل وأقلها كلفة وأعظمها اقتصادًا. ولا بأس من أن نعود إلى ذلك بشئ من البيان يجلو غامضه ويحل مشكله. ولنضرب مثلين أحدهما من الإنسان وثانيهما من غيره. ولنبدأ بثانيهما فإنه أخف وأيسر إيضاحًا: تسقط الأمطار على الجبال أو سواها فينحدر الماء ويحتفر لنفسه مسيلا. فهل علم أحد أن هذا الماء الجاري آثر، منذ سال على وجه الأرض أن يخترق الصخور أو يعلوها وزهد في اللين الدمث الذي لايشق عليه أن ينساب فيه؟ كلا! ما علمنا على الماء من حماقة كهذه! فهو إذا صادفته أرض صخرية لم يتلبث عندها ريثما يحفر فيها مجراه بل راح يترقرق فوقها. وإذا اعترضته وعور ذاهبة في الجو لم يتجشم أن يعلوها ويطم فوقها إذا وجد مجازًا له عن يمينها أو شمالها. ودع هذا وتأمل الإنسان وسل نفسك: ما السر في أن المرء يصعب عليه أن يغير ما كوَّن لنفسه من العادات؟ أليس لأنها لا تتقاضاه من الجهد ما تكلفه مخالفتها؟ مثال ذلك أن تكون قد ألفت أن تسلك طريقًا معينًا بين بيتك وبين المكان الذي تزاول فيه عملك اليومي. فأنت كلما ذرت الشمس تكرر ما عملته في الصباح الماضي وتزايل بيتك وتقودك رجلاك وأنت لا تشعر إلى هذا الطريق المعين وتدبان بثقلك عليهما فيه كعادتهما في كل يوم. ومن المؤكد أن سلوك هذا الطريق لا يكلفك تنبها خاصّا أو تفكيرًا وأنك حين تمشى فيه وتمر به كل يوم لا يلفتك فيه شئ. شأنك في ذلك من بعض الوجوه كشأنك حين تأكل: تمتد يدك إلى اللقمة فتتناولها ثم ترتفع إلى فمك ومنه تهوى إلى جوفك. وليس ليدك عين ترى بها مكان فمك من وجهك. ولسنا نعلم أن يد المرء تخطيء وترتفع إلى الأنف، فقد اعتادت أن تحسن تقدير المسافة وأصبح الجهد اللازم لذلك يبذل بطريقة آلية … وكذلك رجلاك تحملانك في الطريق المألوف وتذهبان بك في منعطفاته دون أن تفكر أنت في شئ، ولكنك حين تسلك طريقا آخر غير الذي ألفته تلفي نفسك تستعمل عينيك وتجيلهما فيما هو أمامك وعن يمينك وشمالك، وقد تفكر في طوله أو قصره بالقياس إلى طريقك المعتاد، وفيما هو قائم على جانبيه من المساكن أو الأشجار وغير ذلك، وقد يعقد ذهنك مقارنات ومقايسات كثيرة ويجرك هذا إلى مواضيع شتى قد تشغلك النهار أو بعضه أو أكثر من ذلك، وهذا كله جهد لا تبذل شيئًا منه حين تأخذ في طريقك المألوف. وكذلك الحال، حين تتناول طعامك بغير اليد التي ألفت أن تتناوله بها. ولم تكن الحياة نفسها تعجز عن أن تخلق الناس في أيامنا هذه كما خلقت أولهم وأسبقهم في الوجود، أعنى من طينة الأرض التي صيغ منها المخلوق الأول — كائنا ما كان هذا المخلوق — ولست أعنى بطينة الأرض وحلها، وإنما أعنى المواد الطبيعية الأولية. كما هو ظاهر بالبداهة. ولكن الحياة لا تفعل ذلك الآن، وقد كفت من زمان طويل لا يعرف حسابه إلا الله سبحانه وتعالى، عن إخراج المخلوقات على هذا النحو العتيق، وصرنا نخرج إلى الدنيا بطريقة التوالد، إذ كان خلق الإنسان بالتوالد أسهل من إعادة كل أدوار التطور الماضية، كلما أريد خلق إنسان. ولأن التوالد يتيح المرور بمختزل هذه الأدوار وبسرعة، فلا حاجة لتكلف المرور بها على نحو مطابق للأصل. وإذ كان هذا الكلام يحتاج إلى تفسير فليعلم القارئ — إذا كان ممن يجهل ذلك — أن المرء يعيد على صورة مصغرة مختزلة ما مرت به الإنسانية من أدوار النشوء. وللقارئ أن يصدق هذا أو لا يصدقه، فإن كانت الأولى فله منا الشكر الجزيل على الثقة بنا والاطمئنان إلينا، وإن كانت الثانية فلا ضير عليه أو علينا … ولن يمنع إنكاره أن الأمر كما نقول، والحال على ما نصف، ووقتنا وصدرنا أضيق من أن تتجشم إثبات ذلك له على حين يستطيع هو أن يريحنا بأن يقرأه في أكثر من كتاب واحد. والآن فلننتقل إلى شئ آخر، وليحضر القارئ إلى ذهنه تلك الآلة الموسيقية التي يسمونها القانون. وهي آلة ذات أوتار كثيرة يحتاج الضارب عليها إلى أن يعيد إصلاح أوتارها كلما أراد أن ينتقل إلى «نغمة» مغايرة للنغمة الأولى ومن باب غير بابها. ولكنه لا يحتاج إلى إعداد أوتاره وتهيئتها من جديد إذا كان الانتقال بسيطا وفى موضع واحد أو مواضع قليلة من الصوت الذي يوقعه ولم يكن عاما شاملا. ونحسب هذا معروفًا مفهوما. وما منا إلا من رأى ذلك وشهده بعينيه. فصاحب القانون لا يغير شد الأوتار، ولا يكف عن التوقيع عليها ليعالجها من جديد، إذا كان الخروج عما هيأ له أوتاره جزئيا غير تام. وهو حين يحدث هذا الخروج الجزئي عما استعد له بآلته لا يتعبه هذا الخروج ولا يصدمه ولا يكلفه أو يكلف الأوتار فوق طاقته وطاقتها فيستمر العزف أو التوقيع كأن لم يحدث انتقال ما. كذلك الناس حين يجيئهم واحد منهم بما هو أشبه بقديمهم الذي ساروا عليه وألفوه، لا يحسون أن جديدًا طرأ أو أنهم يحتاجون إلى أن يصلحوا نفوسهم ويهيئوها تهيئة خاصة لتلقى هذا الطارئ واستقباله. ولا يشعرون بدافع إلى المقاومة اتقاء لما يكلفهم اطراح ما اعتادوه من الجهد. ومن الأمثلة كتابات المنفلوطي رحمه الله. وهذه لم يكن فيها جديد، بل كلها مما شبوا وشابوا عليه. وكل ما في الأمر أنه جعل لكلامه طلاء أو لونًا لا يحيله عن أصله، ولا يخرجه عن تياره. وشبيه بذلك أن تستحدث ألوانًا جديدة في الملابس دون أن تغير الشهرة (المودة) في تفصيلها — فلا يصدم الناس منها شئ كبير، ولا يجعلهم على التردد في قبولها والإقبال عليها أنها مخالفة لما يجرى عليه العرف. ولكن لنفرض أن حائكا سن لنا شهرة جديدة كل الجدة، كأن يرتد بنا إلى خمسين أو ستين سنة، ليحيى طرازًا كان شائعًا يومئذ، أو كأن يستحدث أسلوبًا تكون الأزرار من الخلف لا من الأمام أو تكون السترة أو ما يسمونه «الجاكتة» أشبه بالشملة. فهل يقبل الناس على تلقف هذا الطراز؟ كلا! يتحرجون في أول الأمر وينكرونه، ويظلون يتهيبونه زمنا طويلا أو قصيرًا على قدر بعده من مألوفها، حتى يتهيئوا لقبوله شيئًا فشيئًا، ويقتنعوا بصلاحه وجماله على الأيام، إن كان له نصيب من الجمال والصلاح. وهذا هو الذي يحدث حين يخرج كاتب أو شاعر على التقاليد والسنن، وينهج سبيلا غير التي ألفَ الناس أن ينهجها الكتاب، أو حين يأتي عالم أو فيلسوف برأي يقلب مانشأ الجمهور على اعتقاده. ولماذا في ظنك كان أهل أوربا في القرون الوسطى يستنكرون أن يذهب أحد إلى أن الأرض دائرة، أو أنها ليست محور الوجود وقطب الكون، أو أن الشمس لا تدور حولها، بل هي التي تدور حول الشمس. ماذا كربهم من ذلك في حياتهم أو أفسدها عليهم حتى آذوا القائلين بما اعتقدوا من خلافه؟ لا شئ سوى أن الرأي الجديد كان خطوة في عكس الطريق الذي درجوا عليه، كما درج اَباؤهم، وكان من شدة المغايرة وفرط المعارضة لمألوفهم، بمثابة القول بأن الأنف مجعول لمضغ الطعام، والأذن للشم، والعين للسمع. والناس إنما يسهل عليهم الأخذ بالجديد إذا كان مقاربا لما اعتادوه وكان كأنه امتداد له ولم يكن مغايرًا في جوهره لآرائهم أو أذواقهم. وقد قلت حين سقت مثل الحائك: «لنفرض أنه سن لنا شهرة جديدة كل الجدة، كأن يرتد بنا خمسين أو ستين سنة ليحيى طرازًا كان شائعًا يومئذ»، وأعنى بذلك أن القديم الذي مضى زمنه وانقضى عهده يكون في حكم الجديد، وله وقعه وصدمته حين يراد إحياؤه، لأنه يكون جديدًا في نظر من لم يألفوه، واعتبار من لم يدركوا زمنه، وعلى أن هذا فرض قائم على استحالة إذ كان إحياء القديم يتطلب أن تتوافر الأحوال والمقتضيات والحالات النفسية والفكرية التي عفى عليها الزمن وطوى صفحتها. وبعد، فليس بصحيح أن الناس مولعون بكل جديد، وإنما الصحيح أنهم يقاومونه ويتهيئون له على الأيام، وأن جديد اليوم إذا كان صالحًا خليق أن يصبح مألوف الغد. ومن حق الجمهور علينا أن نحمد له ذلك، وأن نشكر الله عليه. إذ حقيق بالدنيا أن تنقلب بيمارستانًا ضخمًا، لو أن الناس فيها كانوا يبادرون إلى الأخذ بكل جديد، وإجابة كل مهيب، فليس كل جديد صالحا … والاتزان في الحياة ألزم وأجدى وأكفل، باطراد التقدم من طيش التعجل.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/8/
العمى والغريزة النوعية
ليس الأعمى كالبصير. هذه، فيما نظن، قضية مبرمة. ولسنا نعنى أن أحدهما دون الآخر أو أفضل منه، فليس المقام مقام مفاضلة. ولكنما نعنى أنهما مختلفان … وهل يستوي أن يكون أو لا يكون للمرء في وجهه عينان؟ أليس لهذه الجارحة عمل يمتنع إذا تعطلت؟ ألا يحدث كف البصر تأثيرًا في مزاج الإنسان وفى تفكيره وإحساسه بالحياة والناس وغير ذلك مما لا يسعنا حصره؟ نعم. وإن الأمر لأوضح من أن يحتمل الخلاف. وسنتناول في هذا المقال وجهًا من وجوه الاختلاف الكثيرة لعل ذلك يجلو ما أشرنا إليه في الفصل السابق إنجازًا لوعدنا وإتمامًا لكلامنا. الغريزة النوعية من أقوى غرائز الإنسان، ومظهرها الحب كما هو معروف، والحب — كما لا نحتاج أن نبين — هو أداة التنظيم الكبرى لحياة الناس، والقوة الدافعة إلى تحسين النوع والحيلولة دون انحطاطه. وليس هنا محل الكلام في الحب ولكن هنا موضع التنبيه إلى أن العين أداته الأولى، والنظر حاسة «اجتماعية» ليس أعون منها على الإحساس بالجمال ومضاعفة هذا الإحساس وتقويته. ومن هنا عجب الناس لبشار بن برد كيف يعشق امرأة «معينة» وهو ضرير، فسألوه في ذلك، أو أحس هو أن الأمر يحتاج إلى إيضاح وتفسير، فذكره في شعره فكان مما قال: وقد أحسن الاحتياط في قوله «أحيانًا» فما تستطيع الأذن أن تقوم مقام العين أو تسد اختلالها. ولقد صدق ابن الرومي حين قال: ولكل منهما عمل. وتأمل بيتي بشار اللذين سقناهما لك، وانظر كيف روى عن الناس أنهم قالوا له إنه «يهذي» بمن لا يرى. وما أرى أصلح من هذا اللفظ ولا أحق بهذا الموضع. وهل هو إلا ضرب من الهذيان الصريح مهما أولته وكيفما خرجته؟ ولقد احتاج إلى أن يكرر الرد والاحتجاج لنفسه فقال: وما نشك في أنها صورة ملتاثة. إن صح أن من الممكن أن تتمثل لضمير الأعمى صورة ما، أو يجاوز الأمر معه الإحساس العام. وعلى أي شئ تراه يقيس؟ ومن أي شئ يؤلف هذه الصورة؟ وقوله: وقوله: وقوله: ولأمر ما عالج هذا المعنى في قصائد عدة ولم يجتزئ بالإشارة إليه مرة. والعين باب القلب كما يقول البحتري. والجمال منظر ومعان وتعبير. والعين أقدر من السمع واللمس على إفادة الاستمتاع به. إذ كانت هي الطريق الأكبر للالتفات إليه والشعور به والإحاطة بمعانيه. ولأنها هي المعين على تأليف الصور الذهنية. وهي صور تتألف من أشتات أخرى علقت بالذاكرة وحصلت بالنظر. وبحسبك أن تقرأ قصيدة ابن الرومي في وحيد المغنية وكان بها مشغوفًا: وقد أطلنا الاقتباس لأنا لا نعرف قصيدة أخرى في لغة العرب، وقد كدنا نقول أو في سواها من آداب الأمم الأخرى — هي أجمع من هذه لمعاني الحب والجمال، ولأن ابن الرومي تناول فيها المرئي والمسموع ولقد يذكر الكفيف الغصن والظبي وما إليهما مما يشبه به شعراء العرب، ولكن هذا منه لا يكون إلا تقليدًا وعلى السماع وبمقدار ما أشربت نفسه من روح اللغة وأساليب التعبير فيها، ومن غير أن يكون ذلك صادرًا عن صورة في الضمير وأي صورة في ظنك يمكن أن تكون قد حصلت في نفس بشار وهو يقول: لا صورة على الإطلاق! وكل ما هنالك مما دفعه إلى هذا التشبيه هو نسيم الرياض المنعش الجسم المحيى للنفس. وقد يتناول المكفوف الصوت ووقعه، ولكن الهيئة والشكل يفوتانه، ولا يسعه أن يحضر بما يسمع ما يحضره البصير، ويتمثله من الصور، كما فعل ابن الرومي في وصفه لغناء وحيد. فقد تراه يتعلق بهيئتها، وسكون أوصالها إذا تغنى، واحتفاظها بجمال شكلها، فلا عين تجحظ كالوارمة، ولا وريد يدر ويمتلىء بالدم وينتفخ ويشوه شكل الجيد وانسجامه. وانظر كيف جعل لغنائها وَشيًا وَحلْيًا «مصوغًا» لا ساذجًا لم يعمل فيه الفن. وجعل الشعر «يختال» في هذا الحلى وكيف مثل لك فسحة الخلو وفراغ البال، بالقياس إلى ما صار إليه من أخذ الحب عليه بالإسداد، وذلك بقوله: «سد شيطان حبها كل فج»، وكيف نبه إلى ما يمليه النظر ويفيده من معاني الجمال بقوله: «ألها كل ساعة تجديد؟» وتشبيهه إياها بالعيش الذي لا يزال يعرض الغرائب. وما لنا نقول إن بشارًا اضطر إلى أن يعلل عشقه للنساء بأعيانهن وتشبيبه بهن؟ ما بشار هذا؟ إنه ليس سوى فرد قد لا يصح اتخاذه قاعدة. ولكن تأمل أمثال الأمم وأساطيرها فإنها خلاصة صادقة لتجاريبها وغرائزها. ومن الأمثال التي نجدها في كل لغة أن الحب أعمى. نعم. ولقد صور القدماء «كوبيد» معصب العينين. وليس أحذق من هذا الطفل مع ذلك ولا أشد ساعدًا ولا أحكم، وكأنما أرادوا أن يقولوا إنه لا يرى ما لا يحب، بل أرادوا أن ينبهوا إلى أن كوبيد هذا كله عيون، ولولا ذلك ما عصبوها فلفتونا إليها ودلونا عليها. ولو شئنا لاجتزأنا بهذا من أساطير القدماء، ولكن بنا حاجة إلى أسطورة أخرى. تلك أن فينوس أو الزهرة كانت في بادئ الأمر ربة الربيع وبساتين الزهر، ثم جعلوها ربة الجمال. وفى ذلك ما لا يخفى من الشعور الباطني بالعلاقة القوية بين الحب والطبيعة في عيدها. وفى خرافاتهم أن الزهرة هذه مخلوقة من زبد البحر، ومن حقها أن تولد منه. فياما أفطن القدماء وأهدى غرائزهم! ذلك أن المحدود الذي يقاس طولا وعرضًا لا يروقنا، ولا يقع من نفوسنا، كما يستولى على هوانا، ويسحرنا ما تتدفق فيه الحياة. والجمال ليس شكلا فحسب، بل هو أيضًا تعبير ولحظة انتقال، كأنما يريد الشكل المتجلى أن يتدفق في أشكال أخرى. وكل ثبات أو تكويم أو ركوز أو حصر مفسدة، كما تحس ذلك من الأنف الضخم أو الظهر المحدوب. ومن هنا كان الإنسان أجمل ما في الطبيعة. ومن الوجوه ما يموج فيه تعبير النفس، أو حركة الفكر، حتى لتكاد تتخطى العين معارفه، وتخطئها ولا تراها. والعيون نصف الجمال، وهي مدار السحر ومبعث الفتنة، لأنها أنطق الجوارح وأقدرها على التعبير، وليس من المصادفات أن ولع الشعراء بذكرها ورمزوا بها في كثير من الأحيان إلى الجمال وأطلقوا هذا الجزء على الكل، كما ترى مثلا من قول المتنبي: فما يعنى الأحداق على وجه التخصيص، وإنما هو من قبيل ما ذكرنا وليس في وسع المكفوف أن يحس الجمال كما يحسه البصير أو يتأثر به مثله، لأنه ليس محرومًا من منظره وحده، بل من أكثر معانيه كذلك، ومما يتصل به عن قرب أو بعد، ومن الطبيعة أيضًا. وقد حجب عنه كل ما يمكن أن يقيس به. وأحر بألاّ يكون عنده فرق يذكر بين النساء، وأن تكون كل امرأة متسربة في الجنس، والإحساس بها إحساسًا جنسيّا عامّا، وأن تكون النساء كلهن كأنما أفرغن في قالب عام، وقيمهن واحدة من حيث التناسل، وألاّ تثير الغريزة النوعية إلا رغبة عامة في الأنثى. لا ترتقي (أي الرغبة) إلى درجة التمييز ولا تبلغ أسمى منازله لانعدام ما يعين عليه. وفى وسعنا أن نقول مع قليل من التجوز، إن الفرق بين المكفوف والبصير من هذه الناحية كالفرق بين الشعوب الساذجة التي لا تزال على الفطرة والشعوب التي ارتفعت عن هذا المستوى، وصار التميز الفردي فيها حادّا أو بارزًا مؤكدًا. تلك تكون الغريزة النوعية عندها عبارة عن رغبة عامة من الذكر في الأنثى ومن الأنثى في الذكر وهذه تتوخى التعيين والاختيار. وكذلك الكفيف تستوي عنده امرأة وامرأة، وهو إذا اختار وميز لا يكون ذلك مرجعه إلا إلى أسباب لا نخطىء جدّا، إذا قلنا إنها سطحية أو عارضة بعد أن لم يبق له من الأدوات سوى السمع واللمس، وما أقل غناءهما وأشد ضلالهما. السمع واللمس — والشم أيضًا — كل ما للمكفوف من وسائط الإحساس بالجمال، وهي، كما بينا، أقل من النظر غناء، لأن العين هي الأداة الكبرى. وهي أنفس الجوارح وأوثق الحواس اتصالا بالعقل، حتى لترى أكثر المجازات في هذا الباب مستمدة من حركاتها وإحساساتها، والعقل عنها أفهم، وبها أقوى وأقدر، وما يسع الكفيف أن يفهم الجمال أو يتأثر به كالبصير. والمرأة عنده في الأعم أنثى يصبو جسد الرجل إلى جسدها، وأداة يرضى بها غريزته. وهو مهما بلغ من السمو يظل إحساسه بالمرأة أدنى إلى الطبيعة الحيوانية منه إلى المعاني النفسية. وسنورد لك أمثلة من شاعرين متباينين أشد التباين: بشار والمعرى. وكان أولهما حيوانًا والثاني إنسانًا. وكان بشار إن فرغ من التشبيب بالنساء، أو على الأصح من وصف ما يشتاق إليه منهن ويطلبه عندهن من اللذات، لم يفرغ من ذكر فحولته، وَتَنَزِّيه، فهو أبدًا حيوان حين يذكر نفسه وحين يذكر المرأة. فمن ذلك ما حكوه من أنه علق امرأة وراسلها، يسألها أن تواصله. فقالت لرسوله: «أولك في وأنت أعمى لا تراني؟ فتعرف حسنى ومقداره؟ وأنت قبيح الوجه فلا حظ لى فيك؟ فليت شعرى لأي شئ تطلب وصال مثلى؟». فأدى الرسول الرسالة. فقال بشار عد إليها فقل لها — ونحن نمسك عن إيراد الأبيات لفرط ما فيها من الفحش، وحسب القارئ أن يعلم أنه أهمل كل ما يمكن أن يتفضل به الرجال، ولم ينظر إلا إلى الجانب الحيواني الصريح الذي يتساوى عنده الناس والبهائم، وأخلق بالبهائم أن ترجح على الإنسان من هذه الناحية. وحتى حين يتخيل حبيبته لا يخرج بها عن دائرة الحواس ومن ذلك قوله في عبدة: والمرأة عنده أنثى تشتهى وتنال ولا تستعصى على الطالب: وهو القائل أيضًا: وكان يعمل بما يعلم، وحكايته مع أمامة مشهورة، قالوا كان يبعث بغلامه إليها فتتمنع. فلما أضجرها بإلحاحه عرفت زوجها، فقال لها أجيبيه وعديه أن يجيء إلى هنا، ففعلت، وجاء بشار مع امرأة أنفذتها إليه، فدخل وزوجها جالس وهو (بشار) لا يعلم فجعل بشار يحادثها ثم قال: فأخذت يده ودفعتها إلى زوجها ففزع بشار ووثبَ!! ومن قوله: وله رأى في شعر النساء يوافق تصويره لهن. قال: ما من شعر تقوله امرأة إلا وفيه سمة الخنوثة. ولبشار حكاية ليس أنم منها على انحصار الإحساس بالمرأة في الرغبة الحيوانية، وانتفاء الاهتمام بما وراء ذلك، والعجز عن إدراكه، ولكنا مع الأسف لا نستطيع أن نسوقها لشناعتها. فليبحث عنها من شاء في أخباره المبعثرة، أو فيما جمع له الأديب أحمد أفندي القرنى. ونوجز فنقول: إن بشارًا لم يكن ينظر إلا إلى الأنوثة في المرأة والفحولة في الرجل، وإنه لم يعرفها سوى متاع يجس ويشم ويستمع إليه. أما أبو العلاء فقد كان وقورًا محتشمًا متشائمًا، رافضًا للحياة مزدريًا للمرأة، وهي (أى المرأة) عنده لا تضمن عفتها، وأقل ما تجنيه، التبرج، ومن الواجب أن يداريها الرجل الذي يعايشها، ويسترضيها ويتقى غضبها ويراقبها، فكثيرًا ما تظهر الغيرة على بعلها، وتسود عيشه من أجل ذلك، بينما هي تسقى الخليل ريقها! ويحول سخطه على الحياة، إليها، ويصب نقمته على رأسها، ويقلب ما يكبحه من اشتهاء نفسه لها ورغبة جسمه فيها، فيجعله تهالكا منها على اللذات، واستهتارًا في إرضاء الشهوات، ويسلبها كل ما عدا ذلك، ولا يراها إلا أداة نسل، ومطية شهوة ذلول، فهي عنده حية سامة. وما فضل النساء؟ ولأي غاية يطلبن الرجل؟ أليس للنسل؟ وما النساء عنده إلا: ولا يغرنك عكوفهن على المصلى: والمغزل أولى بهن من القلم: وليكن أخذهن التلاوة عن عجوز مهتمة: وإذا احتاج الأمر لمعلم فينبغي أن لا تدنو الفتاة حتى ولا من رجل ضرير إلا أن يكون هرمًا همّا مرتعش اليدين أبيض اللمة. وخير للشيخ الفقير أن يتزوج متنعمة، فإن الفقر والشيخوخة بابان إلى العظائم، والشيب مغتفر مع الغنى إذا كانت «قوى الرجل موفورة» وفي زوجة واحدة كفاية: ويختم هذه النصائح بأنها من خبير مجرب شفيق: والرجال لا يؤتمنون على النساء: وإذا بلغ الغلام العاشرة فاحجب النساء عنه ولا تدخله عليهن فإنهن حبال غي بهن يضيع الشرف: واضرب على المرأة فإن إرخاء العنان لها يغريها بركوب ما لا يحمد: وأخف ما وصفها به أنها خيالات ولعبة: وأنتقل الآن من شعره إلى نثره، ومن كلامه في الدنيا وأوصابها ومتاعبها إلى تخيله للآخرة ونعيمها الخالص الخالد. وتأمل وصفه للحور العين، وهن على ضربين: ضرب خلقه الله في الجنة لم يعرف غيرها، وضرب نقله الله من الدار العاجلة لما عمل من الأعمال الصالحة. وهو يجعل ابن القارح يلتقي باثنتين من الضرب الثاني، ويقبل على كل واحدة منهما يرتشف رضابها فيهيجه ذلك إلى ما به ويقول: «إن امرأ القيس لمسكين مسكين تحترق عظامه في السعير وأنا أتمثل بقوله: فتستغرق إحداهما ضحكا، فيقول: مم تضحكين؟ فتقول فرحًا بتفضل الله! أتدري من أنا؟ … إني كنت في الدار العاجلة، أعرف بحمدونة وأسكن في باب العراق بحلب، وأبى صاحب رحى، وتزوجني رجل يبيع السقط، فطلقني لرائحة كرهها من في، وكنت من أقبح نساء حلب. فلما عرفت ذلك زهدت في الدنيا، وتوفرت على العبادة، وأكلت من مغزلى ومردنى، فصيرنى ذلك إلى ما ترى». وتقول الأخرى «إنني كنت توفيق السوداء، التي كانت تخدم في دار العلم ببغداد، على زمان أبى منصور محمد أبى على الخازن، وكنت أخرج الكتب إلى النساخ». ودع ما في هذا الموقف من التهكم، واجعل بالك إلى إقباله الشديد على ترشف الرضاب، وشرهه في ذلك، وإلى صرخته «إن امرأ القيس لمسكين مسكين» وتكريره هذا اللفظ وما يشعرك به ذلك من تحرق الرجل، الذي يكبح نفسه، حتى إذا أمكنته الفرصة اندفع كالمنفجر. ولا تنس تعلقه بالرضاب ورائحة الفم واختصاصه ذلك بالذكر. أما الحور التي خلقها الله في الجنة، ولا تعرف الدنيا، فتخرج لابن القارح من سفرجلة أو رمانة، جارية «حوراء عيناء» فيسجد لله إعظامًا. ويخطر في نفسه وهو ساجد أن تلك الجارية، على حسنها، ضاوية (نحيفة) فيرفع رأسه من السجود، وقد صار من ورائها ردف يضاهى كثبان «تل»!! عال فيهال من قدرة الله، ويقول: «يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، ودعا إلى الحلم الجهال، أسألك أن تقصر بوص هذه الحورية». فيقال له أنت مخير في تكوين هذه الحورية كما تشاء، فيقتصر من ذلك على «الإرادة». وهنا أيضًا تهكم ولكنه مشوب بما لا يخلو من دلالة على التفات إلى الجسد، وإلى مواضع معينة منه، التفاتًا كان المعرى يزجر نفسه عنه في حياته احتشامًا ونقمة. فهو يسىء بها الظن كبشار، ولايرى لها عفة يحفظها عليها دين أو تأديب، ولا يعتدها إلا ملهاة وغواية، ولا ينظر إلى ما وراء أنوثتها وخورها وضعفها، وإن كان مزاجه قد ذهب به مذهبًا خلاف مذهب بشار، والنظرتان متفقتان في النهاية، وصادرتان عن أصل واحد، وإن كانتا مرسلتين من نافذتين متباعدتين. وإنك لتحس مرارة الحرمان وألم الاضطرار إلى الكف عن التماس الملاذ، في شعر أبى العلاء، كما يطالعك من شعر بشار حيوانية التسور إلى اللذائذ الحسية. وهو فرق أوجده اختلاف المزاج وتفاوت العقل. والعمى في كلا الرجلين علة أولى. وقد كان أبو العلاء شديد الإحساس بعماه وإن له لهذا البيت: وهو حسب المتأمل ولو لم يكن له غيره لكفى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/9/
ليلة بين الصحراء والمقابر
هي ليلة حالكة متراكبة الظلمة، وفى الصدر ضيق، فأين عن صحوني أعدى؟ — صحرائي التي لا يلقط الطير فيها حبا، ولا يجاوب في صحرائي قلب قلبًا، ولا يغيرها صيف ولا شتاء، ولا يدوم عليها إلا العفاء! — كذلك كانت قديمًا، وكذلك أبقاها الله لي! ولكم توهمتها وأنا أضرب فيها، وأطوف في فيافيها — وجهًا مستعارًا يبدو فيه «الوجه الأعظم» متقنعًا! ولكم وقفت أدق رملها بقدمي وأفحص فيه بعصاي وأدمدم كالذي يريد أن يرقيها بالعزائم ليشفيها من هذا السحر الذي ضرب عليها وألزمها هذا المحل! ولقد أعجب في الليالي القمراء كيف لا تحسر وتنفض عنها هذه الرمال وتبرز للقمر الذي يناجيها ضوءه وينام على صدرها المتموج، في مثل وشى الرياض تنفح روحًا وريحانًا، ويتداعى الطير على أيكها إعلانًا، وتتهدل أغصانها فتسمو «وتمس الأرض أحيانًا»؟! ولكني أتكلم كأنما هي قد رزقت الحس والإرادة! ••• وقالت الرمال لى وأنا أقتلع منها رجلي اقتلاعًا إذ أخبط في الصحراء والريح تجذب أطراف الرداء: «بودي لو تماسكت حباتي، وثبتت ذراتي ولانت مواطئى لقدميك، ولكني مثلك لا حيلة لى فيما قضى به!». قلت: «كلا!». وانجابت طبقة من الظلمات المخيفة على الصدر وخلصت أنفاسي قليلا. ••• وهبت الريح بي كالمجنونة فعدت، وكأني أمشى على ماء لجي يعلو ويهبط، وسفت الرمال في وجهي حيثما أدرته كأنما أرادت الحياة أن ترجمني، وتسابقت زمازمها إلى أذني فوقفت مكاني لا أريمه وأغمضت عيني وقلت لنفسي: ماذا يصنع العود النابت في الخلاء هبت به مثل هذه الرياح الهوجاء؟ يلين أو ينقصف! فملت إلى الأرض حتى سكنت الثورة وهدأت الفورة وجعلت أفكر في هذه الحياة الغريبة التي يمتزج فيها الصراخ بالغناء، ويختلط بها الألم والطرب، وأقول لا شك في أن الحياة عمياء صماء فليتها توهب البصر هنيهة لترى هذا الخليط من الحسن والقبح والخير والشر. ويا ليت من يدري ماذا تصنع إذن؟! أترى يثور بها الخجل فتعصف بكل شئ وتمحوه أم تأخذ في إصلاحه وعلاجه في صبر وأناة؟ أما لو كنت أنا الحياة لتناولت ما أخرجت كفاي من طينة الأرض المحدودة ودككته وحطمته ثم ذروته لهذه الرياح! فهمست في أذني الرياح: ما الحسن والقبح؟ وما الحزن والسرور؟ وما الخير والشر؟ وما الإحساس والعقل، والخصب والجدب؟ والصحة والسقم، واليأس والأمل، والبكاء والضحك؟ فرفعت رأسي حائرًا وأدرت عيني واجما ثم أطرقت مفحما ثم نهضت أمشى! ودلفت بي رجلاي إلى المقابر فتخللتها إلى جدث فيه شطر من ماضيّ، وقعدت وأسندت ظهري إلى حجارته وأنا أقول لنفسي: «الموت على الأقل راحة، فليت الحادي يعجل بنا! فقد سئمت الحياة ومللت النظر إلى وجهها الملطخ وثوبها المرقع. واشتقت أن أرقد هنا إلى جانب» … فخلص إلى صوت من جانب القبر أن «لا!». قلت: كيف لا؟ واستدرت حتى واجهت أصواء القبر. قال الصوت: لا على التحقيق! إن لى هنا سنوات لا أعلم عددها، ولعلها أقل مما توهمني وحشة الوحدة التي تطيل أيامى التي صارت كلها ليالي، أو لعلها كثيرة فما أدرى وقد حجبت عنى الدنيا. ولو كان المرء يموت مرة واحدة لقلت لك: صدقت. ولكنه يموت مرة كلما نسيه واحد من الأحياء، ويشتمل عليه الفناء شيئًا فشيئًا. وأنت — على الأقل — تذكرني فأبقى بذكراك، فلا تسلمني إلى العفاء بموتك. ولسنا نألم الرقاد هنا، وإن كانت ظهورنا توجعنا أحيانًا من طوله، ولكنما نألم فتور الذكرى عنا وإشفاءنا على التلف الأخير، وههنا في قبري — في حجرة أخرى — جد أعلى لى، مسكين مسكين، قد استوفى ميتاته جميعًا ولم يبق منه شئ. وليت ادكاريه ينفعه! إذن لرددت إليه بعض الوجود ولكن هيهات! إنما يجدي الذكر ممن فوقها دون من هم في جوفها مثلنا. قلت: «ولكن إذا تعلقت بالحياة فلا معدي عن إجابة دواعيها أفلا يسوءك ذلك؟». قال الصوت: «كلا! سيان عندي أن تفي لى ولا تفي، ومن العبث أن تتكلف لى الحفاظ، فإنني بعد أن مت لا يسعني أن أوليك الشكر الذي تستحقه أو تنتظره، ولا ألتفت إلى وفائك أو غدرك، وإنى لأدرى فوق هذا، أنك لا تذكرني لذاتي بل لما طابت به نفسك على عهدي؛ فافعل ما بدا لك ولا تعن نفسك بي من هذه الناحية، ولكن أبق لى رقعة صغيرة في زاوية من ذاكرتك أفيد بها عذوبة البقاء». قلت: فإذا نسيتك كغيرى؟ قال الصوت: إذا نسيت؟ آه! ولكن ما لنا وما لم يقع؟ دع هذا إلى أوانه، وعسى أن يكون بعيدًا! قلت: حسن سأحيا من أجلك. وأتقى المهالك إكراما لك وضنّا بك أن تلحقي الأموات جدّا! قال الصوت: اتفقنا. فإلى الملتقى! فسرت في جسدي رعدة خفيفة ولم يسرني أن تقول «إلى الملتقى»! ونهضت عن القبر ممتلئًا رغبة في الحياة، وضنّا بها وحرصًا عليها، وعدت أدراجي إلى دارى خفيفًا كأنما حططت عن كاهلي وقرًا. وجعلت أقول في الطريق: «نعم سأحيا من أجلها!». ولما أدرت المفتاح في الباب همس في أذني الشيطان اللعين «تقول من أجل من؟!» وقهقه!! فغاظني ذلك فأشحت بوجهي وأسرعت فدخلت وأغلقت الباب في وجهه!! ثم صنعت هذه الأبيات وألقيتها إليه من النافذة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/10/
إيحاء التمثيل
من رأى أفلاطون، فيما وضع على لسان أستاذه سقراط، أن الحكاية تنشئ العادة. قال: «أو لم تشاهد أن الحكاية، سواء أكانت تقليدًا للحركات البدنية أو نبرات الأصوات أو أساليب التفكير، إذا واظب عليها المرء منذ الحداثة، تحور عادة وطبيعة ثانية؟». وكانت أدوار النساء في ذلك العصر يؤديها الرجال فعاب سقراط ذلك وزجر الشبان الشرفاء عن «محاكاة» المرأة، فتاة كانت أو عجوزًا، وسواء أكانت تنتقص رجلا أم تتمرد على الاَلهة أو تكابد المصائب والآلام والأوجاع. وهم (أى الشبان) أحق بأن يردعوا عن تقليد امرأة تعاني مرضًا أو حبّا أو وضعًا. وأما أدوار الرجال فليس يجوز في رأى سقراط لممثلها تقليد الأرقاء أو الجبناء أو غيرهم من الناس «حين يشتم بعضهم بعضًا أو يركبه بالمجون أو حين ينطقون بالبذاء والفحش أو يقترفون من المعايب فيما بينهم أو ضد غيرهم ما اعتاده أمثالهم بالقول أو بالفعل. ومن رأيي أيضًا أنه لا ينبغي لنا أن نعودهم أن يحاكوا المجانين في كلامهم أو أفعالهم لأنه إذا كان من الصواب ألا تنقصهم الدراية بالمجانين والأشرار من الرجال والنساء فليس من الرأي أن يقتدوا بهم أو يقلدوهم». ••• هذه خلاصة وجيزة لرأى سقراط، أو أفلاطون تلميذه على الأصح، فيما تجوز وما لا تجوز محاكاته، وما يحسن أن ينهى الشبان عن تمثيله ويزجروا عن تقليده. والعلاج عنده أن تكون الرواية مزيجًا من التمثيل والقصص، وأن يقتصر التمثيل على الأدوار التي تنطوي على النبل والسمو وما هو من ذلك بسبيل، ويذهب القصص بالأدوار الوضيعة. وواضح من ذلك أنه يرى أن لتمثيل الدور مرة بعد أخرى أثرًا في نفس من يؤديه. وليس يعنينا هنا علاجه الذي وصف ليصون للجماعة فضائل نفوسها وليوقيها أسواء التمثيل مع استبقاء ما يسعه استبقاؤه من مزاياه المستفادة من الحكاية ومن الشعر فيه، فإنها طريقة للتوفيق لا سبيل إليها في هذا العصر الذي لا شك في أن نطاق التعاطف الإنساني فيه أوسع وأرحب منه في عصر أفلاطون. ولقد كانت عناية أفلاطون بتربية ما نسميه الآن «السوبر مان»، ومن أجل هذا كان يجب أن يوقيه ما يخشى أن يفسد عليه صورته التي رسمها له في خاطره، وما عن قلة إجلال لأفلاطون أن نعجب لـ«سوبر مان» لا يخرج إلى الدنيا إلا في مثل صوب النبات أو في بيوت من الزجاج ترد عنه عادية الرياح والقر والأمطار!! وماذا عسى أن يبلغ مناعته ومن الجلد والقدرة على احتمال الحياة ومغالبة صروفها وفتنها وبوائقها؟ وما لهذا نكتب. وإنما الذي نريد أن نقوله هو أنه لا يخالجنا شك في أن للتمثيل أثره القوى في نفوس أهله رجالا كانوا أو نساءً، ومعلوم أنه ليس كل ممثل بصالح لكل دور، وأن بعض الأدوار هي في أيدي بعض الممثلين أنجح. ونحسب أن مما هو في حكم البديهي أن الصفات البدنية وحدها — من طول أو قصر، وضآلة أو جسامة، ووسامة أو دمامة وسائر ما يجرى هذا المجرى مما يتعلق بالصوت والنظر — ليست كل ما يتطلبه أداء الأدوار المختلفة، بل إن القدرة على استعارة الشخصية الروائية وإفراغها على النفس والجسم، تستدعى استعدادًا وتحتاج إلى وجود مقدار من التناسب ودرجة من التطابق. وليس معنى ذلك أن دور الخسيس لا يجيد أداءه إلا الخسيس من الناس بطبعه وفطرته، ولكن معناه أن أصلح الممثلين له أقدرهم على فهمه وعلى الإحاطة بجوانبه وعلى سهولة التسرب فيه. ومن هنا يسعك أن تقول إنه ما من ضرب من التمثيل يوفق المرء في أدائه إلا وثم مقدار من التقارب بين هذا الضرب وبين لابسه. وما أظن بالممثلين الذين قد يطلعون على هذا الفصل إلا أن بعضهم سيحمى من ذلك أنفه وينزو في رأسه الغضب على والمقت لى. وما أحب أن يسوء أحدًا كلام لى في هزل أو جد، ولكن من العسير على أن أصدق أن امرءًا يحسن ما لم يركب في طبعه ذرة من الاستعداد له، وقد يعزى هؤلاء ويكسر سورة غضبهم أن أقول لهم إن الناس في الاستعداد للخير والشر متقاربون على كثرة ما يتفاوتون، وإننا جميعًا من طينة الأرض «وأين عن طينتنا نعدي؟» كما يتساءل ابن الرومي، إن كان مثل هذا الهراء البديهي يعزى نفسًا أو يطفئ غضبًا! كذلك من العسير أن أصدق أن يظل الممثل يستعير نوعًا من الشخصيات معينًا وأن يفعل ذلك شهرًا بعد شهر وعامًا في أثر عام أن يخرج بعد ذلك كما دخل. وألا يكون من آثار ذلك توكيد بعض الخصائص فيه أو بروز بعض السمات. عرفت فيمن عرفت من الممثلين المرحوم أحمد فهيم أفندي وكان ذلك في أخريات أيامه فلفتني فيه من صوته وهيئته إذ يمشي أو يقف أو يلتفت أو يحدق ببصره مشابه مما يؤدى على المسرح من أدوار الملوك والنصحاء الأمناء المخلصين ومن إلى هؤلاء، وكثيرًا ما تمنيت لو أنى كنت عرفته — رحمة الله عليه — قبل أن يبلغ أثر التمثيل فيه هذا المبلغ. وعلى أن من التعسف أن يلجئنا ما نقدر أن يلقانا به بعض القراء من إنكار الدهشة — لا التفكير — إلى سوق الأمثلة الفردية وهي مما لا يدخل في الطوق أن يسوق الكاتب منها الكفاية. وبحسبنا وبحسب القراء أن نرتد جميعًا إلى الأصل، وهو «الإيحاء» ولا يتسع المقام هنا للإسهاب في بيان وقع النفس في النفس ولكنا، إيضاحًا لغرضنا نقول: إن كل حركة باعثها الإرادة وإن الإرادة تفضي ببواعثها على الحركة إلى الجهود المدركة للفكر أو لغير المدركة من الجانب الإحساسى. فإذا كان مصدر هذه الجهود التي تغذى الإرادة بالنشاط ليس ذهن الفرد نفسه بل ذهن أجنبي عنه، وبعبارة أخرى إذا صارت إرادة المرء طوع رأى سواه أو عاطفته فإن ما يصدر عن أولهما يكون موحى به إليه. وقد فسر نورداو هذا الإعداء في فصل طويل ممتع سبق به كل علماء النفس، ويلخص رأيه أو نظريته في أن «الإيحاء هو نقل الحركات الذرية من ذهن إلى ذهن على النحو الذي تنتقل به اختلاجات سلك إلى سلك غيره بجواره، أو كما يفضي الحديد المحمى إلى آخر بارد بحركات ذراته. ولما كانت كل الآراء والخوالج تنطوي على حركات لذرات الذهن فإن مما يستتبعه نقل حركات الذرات أن تنتقل الآراء والخوالج معها». وأظهر ما يكون ذلك في التنويم المغناطيسي. فإن المنوم يستطيع مثلا أن يقول للنائم: «غدًا صباحًا في الساعة الثامنة ستمضي إلى منزل فلان بشارع كذا وتضربه بسكين مطبخ تحملها معك»، وهو مثل متطرف ضربه نورداو لمثل ما صحت التجربة فيه. قال: «ثم يفيق المنوم ويمضي إلى سبيله وهو لا يعي شيئًا مما جرى حوله في نومه، وقد لا تكون له معرفة ما بفلان هذا، ولعله أيضًا لم يمش قط بشارع كذا، وعسى ألاّ يكون قد آذى في حياته ذبابة. ولكنه في صباح اليوم التالي يتناول سكين المطبخ — وقد يسرقها إذا كان لا بد له من ذلك للحصول عليها ويذهب إلى شارع كذا ويقرع باب فلان هذا في الساعة الثامنة تمامًا ويوشك أن يضربه لولا أن فلانًا يكون قد أنذر من قبل بالتجربة وأحيط بها خبرًا فاتخذ لها ما ينبغي من الحيطة». وقد قلنا إن هذا مثل فيه شئ من التطرف؛ لأن الثابت أن الإيحاء لا يبلغ هذا المبلغ من القوة إلا في المرضى دون الأصحاء، وفى الضعفاء دون الأقوياء. وواضح من هذا المثل أنه لكي يتخذ الذهن لنفسه حركات ذهن آخر ويعدى بآرائه وعواطف وبواعث إرادته يجب ألا يكون هو مجالا لحركات من ضرب آخر قوية أو أقوى من تلك التي يراد نقلها والإعداء بها … وبعبارة أخرى ينبغي ألا يكون مجدّا في التفكير، ومثال ذلك السلك المهتز الذي أشار إليه نورادو، لا يثير في سلك آخر مثل اهتزازاته إلا إذا كان هذا الآخر ساكنًا أو ضعيف الاختلاجات. فعلى قدر ضعف الذهن يكون تأثره بحركات ذهن غيره. وعلى قدر قوته ونشاطه تكون مقاومته. على أن حركات أذهان عدة — ولو كانت ضعيفة — إذا اجتمعت وتجاوبت بإحساس واحد قد تكون أقوى من حركات ذهن واحد قوى، ومن هنا كان تأثير الجماعة المحتشدة في الفرد وحملها إياه على تيارها على الرغم من مغالبته لفعلها في نفسه، ومن هنا أيضًا تكون ضيعة العقول القوية في المجالس النيابية وأشباهها إذا زخرت نفوس الأكثرية بعباب إحساس واحد أو متقارب. والتمثيل حين ترجعه إلى الأصل، استيحاء لما يدل عليه الكلام، وقوامه إخلاء الذهن مما يشغله في العادة وإحلال الحالة النفسية التي يراد استعارتها محله أو بعبارة أخرى إنامة العواطف والخوالج والآراء الشخصية على قدر ما يستطيع المرء أن يفعل ذلك والاعتياض منها آراء وعواطف وخوالج أخرى، وتمكين هذه المستعارات من استغراق النفس بإخلاء المجال لها، وهذه أصلح الحالات النفسية للإيحاء، وهي قريبة شبه بحالة النائم نومًا مغناطيسيّا حين يكون الجهاز العصبي بحيث لا تؤدى ذرات الذهن من الحركات إلا أضعفها، وحين تكون من أجل ذلك غير مستقرة التوازن فيسهل بأيسر باعث دفعها إلى حركة يعينها نوع الباعث وقوته. فالممثل الذي يؤدى الدور مرة بعد أخرى يقع تحت تأثير الشخصية التي يستعيرها بضع ساعات كل ليلة ويكون استعداده لتقبل الإيحاء منها أقوى على التكرار كما يكون النائم أشد خضوعًا وأعظم طواعية في يد منومه على الإعادة. وليس من الضروري أن يكون المرء أخبر الناس بنفسه وأقلهم خديعة في أمرها، ولولا ذلك لكان الممثلون أنفسهم أقدر على بيان الأثر الذي تخلفه أدوارهم التي يؤدونها وأعرف بمداه. ولكن المرء أسرع في العادة إلى إنكار الإيحاء لتوهمه في أول الخاطر أن الإقرار به يغض منه وإن كان متبادلا شائعًا وكان فعله ظاهرًا في التوافه والصغائر ظهوره في الأمور الجسيمة. وكيف تفسر عدوى الثؤباء وكون كثرة المؤاكلين أشحذ لشهوة الطعام، وما إلى ذلك إذا لم تفسره بالإيحاء.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/11/
ليلة
من أمتع ما مر بي في هذه الحياة، التي لا أراها ممتعة ولا أحب أن تطول أو تتكرر، ليلة قضيتها بين شراب وسماع. فأما الشراب فلعل القارئ أدرى به وأخبر! وأما السماع فقل من شجى به كما شجيت في ليلتي تلك! أي والله! وما زلت إلى الساعة، كلما خلوت بنفسي، أغمض عيني وأتسمع وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع الذي هاجني إلى ما بي كما لم يهجني صوت سواه! وقد أعجب لما يصب في الأذن أين يذهب؟ وربما أثارني هذا العجز عن إحياء صوت بأكثر من تصوره في ضمير الفؤاد، وقد أغالى في إكبار هذه الثروة الصوتية وأتمنى لو رزقت شيئًا منها بكل ما لى — لو أن لى شيئًا! — ثم أعود فأسخر من نفسي وأضحك من أمنية يستخفني إلى إنشائها الطرب العارض، ثم أسخر من سخرى وأقول لنفسي في حدة: «أولا يسر الإسكندر وقيصر وسليمان أن ينزلوا لمثلى عن نصف ما أحرزوا من مجد لو أنه وسعني أن أخول كلا منهم مما أضفى الله على من الحياة ما فيها، ليلة واحدة كهذه التي نعمت فيها؟!» نعم! ولكنهم قد شملهم ظلام أو ركوس على حين أحيا وأطرب! وما أدراني أنهم نعموا بمثل هذا الصوت؟! أمن أجل أنهم كانوا ملوكا أو أقوى وكان لهم سلطان وبأس وبطش، يلزم أن يكونوا قد سعدوا بغناء كهذا، يخف منه حليم؟! «راجح حلمه، ويغوي رشيد»؟! ••• وكانت السماء قد جاد الأرض منها هاضب، ثم أقلعت وصفا الجو ورق النسيم فنهضنا إلى مائدة مدت تحت أعين النجوم المتلامحة ودرنا عليها نأكل ونشرب ما لا يحسب الحاسب. وأرسل كل منا نفسه على سجيتها وورد من صاحبه «غير المكدر المطروق» وانبسط إليه غير باخس واجبًا، ثم أخذنا مجالسنا للسماع وآذاننا العود «بالإحسان وإيذان صادق الخبر» وأطفنا ببكر من الألحان لم يفض لها خاتم من قبل، ثم رضينا من منظر بمسمع وانطفأ النور، وهفت إلى أسماعنا الأنغام من وراء ستور الظلام. وكأني لم أكن أسمع بل أسقى من رحيق الجنان، وكأنه لم يكن غناء مصوغًا من شجى القلوب بل من شعاع العقول، فلم تطر قلوبنا وحدها بل لحقت بها عقولنا … ومضى الصوت على دله بتوحده يجيش نفوسنا ويعصف بسكونها ويزخر أمواجها ويستثير كوامنها ويرسم على الوجوه آثارها، وغبت عن حاضري برهة كررت فيها — ولا أدرى كيف؟ — إلى لحظة من الماضي المغيب الذي استقر في زاوية مظلمة من الذاكرة، فأبصرتنى واقفًا مرة أخرى أستودع الله لى أحب الناس إلى وأعزهم على وقد امتدت الكفان وتصاغتا عن أحنى عاطفة وأوجع إحساس … وتدانى الوجهان، واختلجت الشفاه وهمت بالتلاقي في قبلة حارة طويلة، ثم تباعدت في فزع كأنما كانت ترقبنا عين، ولا رقيب هناك … وثبت إنسان العين بعد أن حرمناها قبلة فيها برد العاطفة المضطرمة وازدجرت عنها الشفاه ازدجارًا أضاف إلى ألم الحرمان سخر القدر! وتشبثت هذه الصورة بالارتسام أمام عيني وأنا أصغى إلى ذلك الغناء الساحر الذي يسمو إلى سامعيه مبارزًا ويستكبر أن يعتصم بمساعد فيخفت حتى العود، ويأبى أن يضاعف تأثيره بالنظر فيضوى حسن الوجه إلى الظلام! وهكذا أمتعنا عبد الوهاب بغبطته في ليلة كانت كلها سحرًا. وردني بعدها بغير ذي أذن إلى كل نغمة من سواه، وغير ذي صور إلا إلى فتنة من هوى فنه وشجاه. ولولا أن يعد ذلك جحودًا ولؤمًا لتجاوزت عن ذكر اسمه فإنه أحلى عندي وأوقع في نفسي أن أجرد غناءه من صورته الآدمية على حسنها النرجسي، وأن أتصوره أبدا هوى سابحًا وروحًا هائمًا وصوتًا هافيًا يشرب بالأذن صرفا ولا تشغل العين بمونق زهره ويستريح الفؤاد إلى نسيمه ويتخلى من الشجى بحب مجتهره، ويأنس الصدر إلى هديله وينجو بالقلب من حوره، فعسير على طين ابن آدم أن يجشم احتمال الفتنتين جميعًا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/12/
الخطابة والكتابة
زارني مرة رجل كالعصفور! ولست أعنى أنه صغير في رأى العين أوالعقل، ولكنما أعنى أنه في حديثه كالفزع، لا يكاد يواقع موضوعا حتى يتركه إلى غيره ويثب عنه إلى سواه … وسألني فجأة وبلا مناسبة تقتضي ذلك: «ما أحسن تعريف للكاتب؟». ومن عادتي حين أجالسه أن أنظر إلى شفتيه دون سائر وجهه، وما رأيته قط يهم بأن يدير لسانه في فجوة فمه إلا توقعت أن يبدهنى بجديد … ففي مجلسه إمتاع التنقل وفى حديثه لذة المفاجأة، ولكنه يتعب الجليس بما يكلفه من الجهد في التماس الصلة في ذهنه بين المسائل التي ليس بينها في الظاهر أوهى علاقة … فلما ألقى إلى سؤاله ابتسمت ودعوت الله أن يلهمني الجواب قبل أن يطير إلى موضوع آخر! وذكرت قصة «الجريمة والعقاب» لصاحبها ديستويفسكي ووصف السكير فيها وكيف كان يعب في «الفودكا» ثم يروح ينثر الأسئلة شمالا ويمينًا ولا ينتظر الجواب! وعجبت لهذا الصاحي الذي له طبيعة ذلك السكران! واشتاقت نفسي أن أداعبه فقلت: «أتريد جوابًا لسؤالك؟». قال: وهل في ذلك شك؟ إذن فيم أسألك؟ قلت: فإن لى شرطًا؟ قال: ماذا؟ قلت: ألاّ تطالبني بإيضاح. فأطرق قليلا ثم رفع إلى وجهًا كالدرهم المسيح، ونظر إلى بعينين مظلمتين كالكهفين وقال بلهجة المستسلم إلى قضاء الله وقدره: «قبلت». فقلت، وتكلفت السمت والوقار والجد، وزويت ما بين عيني، وغرزت عنقي بين كتفي، كأنما أوشك أن أفضى إليه بخبر ضخم، أو أنطق بحكم.: «الكاتب، ياسيدى، هو الذي لا يكون وحده حين يكون وحده»!! فحملق مبهوتًا، ثم هز رأسه يمنة ويسرة، ونهض عن كرسيه ومد إلى يده في صمت، ومضى عنى حاسبًا أنى أسخر منه! وقد انقضت سنوات طويلات، ولكن صاحبنا لا يلقاني بعدها إلا صامتًا ولا يناولني يده إلا مطرقًا ولا يغتفر لى هذه الدعابة الخفيفة التي ركبته بها قديمًا! كان هذا منذ سنين كما قلت، ولا أدرى ماذا أذكرنيه الآن، غير أنى لا أرى اليوم فيما قلت له حينئذ شيئًا من الهزل ولا أعد كلمتي تلك التي أسخطته إلا جدّا صرفًا وإن لم أكن أعنى ما أعنى الآن … فقد صارت الدنيا في نظري مدرسة حقيقية سوى أنها سخيفة! يتلقى المرء دروسه فيها حين يكون بين الناس سابحًا معهم على متن الحياة يصارع أمواجها ويغالب أثباجها، حتى إذا كر إلى الشاطئ وارتمى على رماله ليريح أعضاءه ويستجم لخوض العباب مرة أخرى شرع يفكر فيما لقيه ويجيل نظره فيه كالتلميذ، بعد أن ينصرف عن المدرسة، يقلب صفحات كتبه ودفاتره ليستظهر ما فيها ويثبته في ذاكرته، ولكنها كما قلت مدرسة سخيفة يقضى فيها المرء حياته ليتعلم كيف يعيش، وتتصرم أيامه وهو لم يحذق الدرس ولم يفز بالجائزة! ولا شك عندي في أنه لا خير فيمن يحس حين يكون وحده أن حوله فراغا. ألا يهتف به هاتف أو يطوف به طائف من ماض؟ أو ينجم عنه في سماء نفسه نجم من أمل أو فكرة أو خاطر أو خيال؟! إنه إذن ليس سوى طفل كبير كل حيويته في أعضائه. فلندعه يبحث عن ترب له يلاعبه! كان «بيكون» رحمه الله، أو صنع به ما شاء، يقول: «إن بعض العقول ملائم لما يمكن إرساله دفعة واحدة أو في زمن وجيز، والبعض يخلق مناسبًا لما يبدأ بعيدًا ولا ينال إلا بالسعي الطويل». والطراز الأول هو طراز المحدثين والخطباء، والثاني نمط الكتاب. ولقد سمعت في حياتي خطباء كثيرين لا يزال بعضهم ينعم بالحياة وبحنجرته، ولكن أقواهم وأعلاهم لسانًا وأبلغهم تأثيرًا كان كالطبول التي قالت القردة عنها فيما روى ابن المقفع في كليلة ودمنة: «لعل أفشل الأشياء أضخمها صوتًا». وكان يخيل لى إذ أسمعه يخطب الجماهير كأن في وجهه زوبعة ثائرة أو بركانًا فائرًا، وكأنه حين كان ينهض ليتكلم «بلاس» الذي حدثتنا الأساطير أنه خرج من رأس «جوبيتر» شاكيًا مستعدّا تام السلاح. وكان كلما مضى في كلامه يعلو ويبهر كالنار المندلعة، ويقنع السامعين، لا بالحجة والبرهان، بل بقوة انتفاء شكله في نفسه، وكان يجزم ولا يتردد. ويبت ولا يتلعثم، ويقرر ولا يناقش، ويعد ما شاء أقضية مفروغا منها ومسلمًا بها، وينزع المقاومة بكلمة أو نظرة أو إيماءة أو ابتسامة أو دقة على المنضدة، كأنما كانت لألفاظه وهو يطلقها أظافر وأنياب حداد تمزق الظلم الذي قام متمردًا عليه وتبعثر أشلاءه للوحوش والكلاب … وإذا ذكر بلاده وفجائعها خلته «أنطونيوس» واقفًا على جثة «قيصر» ليدفع حجارة رومية إلى الثورة والانتقاض … وكانت عينه تلتمع بنور الوطنية وصدره يعلو ويهبط جائشًا بالعواطف العامة كالعباب الزاخر. ثم كنت أتلو خطبته في المساء أو الصباح فأعجب لتفهها وفراغها وخلوها من كل روعة أو جمال … وأكاد أقول إنها غير ما سمعت أذناي منه؛ لأنها ليست سوى الرماد الذي صارت إليه النار التي كانت تزغرد في مسمعي ولأن الإشارات المقوية ليست هنا، ولا الصوت الفاتن الذي يسحر المرء عن نفسه، ولا النظرات الموحية ولا الوقفة الناطقة ولا الجماعة المتعاطفة المعدية. «تصور أربعمائة من طراز جوته، وكانت، وهلمهولتز، شيكسبير، ونيوتن، وأضرابهم محشودين في مكان واحد ليبحثوا شأنًا عمليّا ويبدوا آراءهم فيه! قد تختلف خطبهم عن الخطب التي تلقى في المجالس النيابية — وحتى هذا مشكوك فيه — ولكن ما يخلصون إليه من النتائج ويتفقون عليه لا يتعرض لمثل هذا الاختلاف. فلماذا؟ لا لسبب سوى أن كلا منهم — فضلا عن خصائصه التي تفرده وتكسبه شخصيته الممتازة — قد ورث خصائص الجنس التي يشاركه فيها، لا زملاؤه المحشودون معه وحدهم، بل كل نكرة من نكرات الشوارع أيضًا. ونقول بعبارة أخرى إن بين الناس العاديين شيئًا مشتركًا لا تكاد تتفاوت قيمته نرمز له بهذا الحرف «أ» وأن الأفراد الممتازين يجمعون بين هذا المشترك وشئ آخر خاص يختلف باختلافهم وينبغي أن نرمز له بحرف مختلف في كل حالة مثل «ب» و«ج» و«د» إلخ. والآن فلنفرض أن أربعمائة من العبقريين اجتمعوا فإن النتيجة اللازمة تكون أن يجتمع عندنا أربعمائة «أ» وباء واحدة وجيم واحدة ودال واحدة وهكذا. فلا يسفر ذلك إلا عن أمر واحد هو أن تحرز الألفات الأربعماية نصرًا مبينًا على الباءات والجيمات والدالات المفردة … أي أن ما هو مشترك بين الجماعة يتغلب على ما هو من الخصائص اليتيمة التي لم تتأم. ولقد تعلمنا منذ زمن بعيد في المدارس أن المختلفات لا تقبل الجمع، وهذا في الواقع هو السبب في أن من الممكن أن نتصور مجتمعًا من الأفراد العاديين لا من الآحاد النوابغ. ومن المستطاع — إذا طرحت الأمر للتصويت — أن تحصل على رأى أغلبية في مذاق توابل الكرنب! أما في قيمة نظريات الحياة فلا سبيل إلى ذلك. والأرجح في الاحتمال — إذا أحصيت الأصوات على هذه النظريات — أن تفوز كل نظرية بصوت واحد هو صوت صاحبها!!». ولكن للكاتب شأنًا مختلفًا جدّا، عليه أن ينضج ما يريد أن يفضي إلينا به ويطلعنا عليه وإلا كان لا شئ. والوقت أمامه فسيح لتلمس المواد وللعبارة عما يدور في خاطره ويتمثل لخياله، والقراء مستعدون أن ينتظروا ويصبروا حتى يهتدى إلى ما يبغي ويوفق إلى ما يشتهى. وهو مطالب بأن يؤدى ولا يمطل دينه للحقيقة وللطبيعة. إذ كان لا يخاطب نفوس الجماعة المتعاطفة بل عقل الفرد، والناس ينظرون إليه نظر التلميذ إلى المعلم لا الظهير إلى الظهير، فمن حقهم أن يتقاضوه الدقة والعمق وموافقة الصواب وتحرى الحقيقة وحسن البيان وعلو اللسان وأن يكشف لهم عما أفاده الدرس والتحصيل والنظر وما ذخر على الأيام من كنوز الفكر وأن ينصف نفسه وعقله ومواهبه وأن يجيل لحظه في سماء فكره لا في وجوه الجماهير، وليس ما يطلبه الكاتب على طرف اللسان أو حد القلم بل هو ملفوف في طيات القلب ومنقوش على صفحات العقل طبقة فوقها طبقة ودونها طبقة يرفعها الخيال والفكر واحدة إثر أخرى ويلتمس لها العبارة التي تجلوها في أحسن حلاها وأقواها. وعسى من يقول: ولكن للخطيب مشجعًا كافيا من ثناء الناس عليه في وجهه وتصفيقهم له وما يراه من الموافقة ويحسه من القبول وما يشهد من قدرته على حمل الناس على رأيه … وليس كذلك الكاتب المسكين الذي يسهر الليل لمن ينامون عنه ويكد قريحته للناعمين بالراحة. فنقول نعم يلقى الخطيب من يصفق له ويهتف، ويدخل السرور على نفسه أن يلمس أثر كلامه ويحس وقعه ويشهد ذلك بعينيه وبكل جارحة فيه. ولا شك في أن الكاتب قد حرم هذا وما يجرى مجراه. غير أن هذا لا يضيره، وبحسبه من التشجيع أنه أمين وفى للحقيقة والطبيعة وله قوة يحسها من نفسه ويحسها الناس منه. ولقد كان هو قارئا قبل أن يكون كاتبا، وليس يخفى عليه ولا من الغريب عنه ما يجده القارئ من المتعة وما يفيده من الغبطة. والخطابة فن أجوف، إذا اعتبرت القيمة الحقيقة للكلام لا التأثير الذي تحدثه والوقع الذي يكون لها، فمن حقها أن يكون الجزاء عليها التصفيق الوقتي وما إليه من الأعراض الزائلة. وفن الكتابة أسمى وأجل فجزاؤه من جنسه معنى سام لا مظهر خشن عامي.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/13/
سر غرفة؟! أم وحي صورة؟!
لا أدرى أحلم هو أم حقيقة، ولكني سأقصه على القراء وأكل الفصل إليهم. وأكبر الظن أنهم أقدر على ذلك منى أنا الذي أعيش بين الأشباح والطيوف، وأغدو وأروح في حاشية منها، وأستوحش إذا افتقدتها فأزورها وأستثيرها من مراقدها وأحف نفسي بها وأنقاد لها وأعاطيها التذكر والحديث حتى ننثني جميعًا «كأنا قد تعاطينا المداما». ولكل واحد من الناس حياته الخاصة ياسيدى القارئ … لك مجالس أنسك ولهوك وسمرك وما شئت غير ذلك صاعدًا ونازلا على جانبي المقياس، ولى أشباحي لا أرتاح إلا إليها، ولا أرسل نفسي على سجيتها إلا معها، ولا تخلص أنفاسي إلا بينها، ولا أستعذب سوى حديثها، وإن كان مثله من غيرها حقيقًا بأن يثير الكبرياء ويكوى الغرور من الإزراء. ولكم قالت لى، وأنا أخبط في الصحراء معها: «أتعرف هذا الوجه الذي يطالعك من الظلام؟». فأنظر إلى حيث تشير فلا تأخذ عيني شيئًا غير الظلمة الدامسة فتقول لى: «لا تحول نظرك عنه تستوضحه». فأغرز عصاي في الرمل وأتكىء عليها وأرسل لحظى إلى حيث تومئ فيرتفع مثل الأستار واحدًا بعد واحد عن وجه لا معنى له ولا حياة فيه فأنكره، وأثنى إليها الرأس سائلا عن صاحبه فتقهقه وتجلجل ضحكتها في الفضاء وتقول: «كيف لا تعرفه؟» فأعجب لإنكارها عجزي عن تذكر وجه كالصورة الميتة ليس فيه ما يحرك الخاطر أو ينماز به من المعارف عن مئات الألوف من أمثاله، فتنطقه لى فلا أزداد به إلا جهالة وله إلا إنكارًا، فتبسم ابتسامة السخر وتقول: «لقد كنا نحسبه أشبه الناس بك! ولكن دعنا من هذا ولنتركه للظلام يحتويه فما هو بأهل لغير ذلك!». ••• والآن إلى القصة، إذا جاز أن تسمى كذلك! … أقمت على ساحل بحر الروم أيامًا، وفى إحدى الليالي أبت إلى غرفتي في ساعة متأخرة وقد أدارت رأسي مناظر الدنيا على ساحله! ومن حقها أن تفعل ذلك بابن الصحراء وساكنها! وكان الليل عاتيا. ففتحت النافذة وجلست أصغى إلى صوت البحر الجائش وأستنشى ريحه … فدخلت على بلا استئذان غادة في حفل من الزينة دخول من هذا مكانه. ونزعت قبعتها وألقتها على منضدة هناك وأقبلت على المرآة تصلح من ثيابها وتمسح شعرها وتلوى خصله الذهبية حول أذنيها وتفرقه على جانبي جبينها وهي تقول، إذ تنظر إلى نفسها بادية في صقال المرآة من قريب ومن بعيد وتصعد طرفها إلى صدرها وثدييها الناهدين الراسخين ونحرها الذي يضيئه عقد من اللؤلؤ، وتصوبه إلى قدميها الصغيرتين وتكشف عن ساقها في جورب بلون الجلد: «من مبلغته أنى هنا الساعة؟! إني أتعقبه حيث يكون من الأرض ولا أدعه يفلت منى — وقد أكون أدنى شئ إليه وهو لا يدري — إلى مباءات الحالمين، وتحت الأشجار التي لا يعشش فيها غير البوم، وإلى سيف البحر حيث اللج يرمى بالزبد … ولكني، مع الأسف لا أستطيع أن أناديه أو أدعوه أو أسمعه صوتي أو أشعره بوجودي وإن كنت منه كظله!! وقد يناجيني فيروى سمعي بنجواه ويطلعني على ما كنت أجهل وما كان يطويه عنى جهده ويكاتمنيه ما وسعه الكتمان، فأعجز عن جوابه إذ كنت لا أملك غير الإصغاء! فياليت من يبلغه عنى ذلك ليعلم أنى ما زلت على وفائي الذي ألزمنيه والذي لم أندم عليه! ولن تبرح مخيلتي قط تلك الليلة التي طال فيها بيننا الحوار وكاد يفضي إلى شر حال، وكيف نهض عن كرسيه «هذا» وأنا قاعدة على سريري، وحدق في عيني وأومأ إلى بسبابته وقالت: «ستفين لى على رغم أنفك هذا (وغرزت أصبعها في المرآة) أتفهمين؟». فدفنت وجهي بين كفى وانطلقت أبكى فما عبأ بي شيئًا! فياما كان أقساه في تلك الليلة! ولما طال الأمر ولم تجف عبراتي صاح بي بصوت قوى: «خير لك أن تنتهي عن هذه الحماقة التي لن تغنى عنك شيئًا، ولقد صارحتك بعزمي ولو نقل هذا البحر بالغرابل ما تحولت عنه. وقد آليت أن أقتلع من بين جنبيك هذه الوساوس والحماقات بجذورها كما تقتلع النباتات الطفيلية، ولو انتزعت معها أصول أحشائك! وسترين أنى فاعل — بسوطي هذا وذراعي هذه، إذا احتاج الأمر إلى هذين!». وقد فعل … ولكني ذويت. حتى صرت إلى ما أرى!». وتراجعت عن المرآة ووجهها إليها، ثم أقبلت عليها ودارت أمامها ثم مضت إلى السرير فارتمت عليه برهة حدثتني النفس في خلالها أن ألوذ بالفرار! والحق أقول إني خفت جدّا! ولكني جمدت مكاني ولم أستطع حراكا حتى لكأني استحلت بعض ما في الغرفة من أثاث! ثم اعتدلت كالمفيق من غشية وجعلت تجيل عينيها في الغرفة وتنفض كل ما فيها. غير أنها كانت نظرة من لا يكاد يرى. وعادت إلى الكلام بصوت مخنوق هاف أيقنت منه أنى في أمان! «نعم كانت ليلة داجية كهذه. عاصفة الرياح مثلها وكنا ضجيعين على هذا الفراش. غير أنى كنت لا أنفك أفلت من عناقه وأشيح بوجهي عنه كلما أهوى إلى بفمه وأمنحه جانب محياي دون صفحته. وأتقى أن تلتقي عيوننا أو أتلقى أنفاسه الحارة بغير خدي. وأعيته الملاطفة وحز في نفسه فتورى فاعتمد على كوعه وهو مستلق إلى جانبي، وألح على يستخبرنى عما بي وعن علة ما كان باديًا عليَّ من الزهادة والسآمة، ويسألني ما لجفونى قد جفاها الغمض ويقول: «ماذا يجول في هذا الرأس الصغير؟ أي هم يقض مضجعك؟». فأقول مرائية: «كيف يستضيفني الهم وأنا إلى جانبك؟». فيقول: «أتراني أخلفت لك وعدًا أو أسأت بكلمة أو إشارة؟ لقد نحيت عنك ذراعي في جفوة لا يتوقعها الزوج بعد أسابيع من زفافه؟ أتراك نادمة على زواجنا؟ أم فاتك من هو خير منى وأحب؟ أم خاب لك أمل؟ أم ماذا؟ قولي بالله؟ صارحينى! لا تخشى شيئًا! دعي هاتين الشفتين الدقيقتين المطبقتين تنفرجان!». «اسمع يا صاحبى! إنك زوجي … لا أنكر ذلك، ولو أنكرته لما أجدانى الإنكار شيئًا، ولكنه كان لى صاحب — أو حبيب إذا شئت وأبيت إلا أن تسمى الأشياء أسماءها كيفما كانت — وهو ممن خلقوا ليعشقوا، ولا تكاد تراه حتى تتعلق وتهواه … ولكنه فقير لا يملك أن يبلغني من الدنيا مناي، وليس يخفى عليه أنى مخلوقة لنعيم الغنى لا لخشونة الفقر وذلة الفاقة ومراقعها، وأن صبري على الإقتار عسى أن يكون عسيرًا … فجعلت من أجله أدافع الخطاب عن نفسي وأتجنى وأبدى الزهادة في حياة الزواج، وأرفض الرجال وأنت في جملتهم! حتى انتهرنى أهلي واستحمقونى وأشبعونى لومًا وتقريعًا فقبلتك بعلا … أتظن أنك لا تعرف صاحبي هذا؟! بلى تعرفه! ومن تراك تعرف إذا جهلته؟! ولقد عاد منذ قليل بملء جيوبه ذهبًا وهو يحسب أن قد ساعفته الأيام على بلوغ أربه ولا يدري أنه آب بعد الأوان! … وأن من حقه أن أكون له دونك … وقد كتب إلى يتقاضانى الوفاء الذي أقسمت له عليه فألهب كتابه النار التي كنت إخالها قد خبت … وماذا عليك لو تركتني له؟ ألقنى له ولو كالعظمة إن شئت! وأنت امرؤ لا يرى الدنيا إلا سوقا تفسدها العواطف. وقد شاء ربك أن يرد قلبي إليه ويحفظه عليه، ولست بقادر، مهما تصنع، أن تعترض قضاء الله أو تحول دون مشيئته … ولخير لك أن ترمى إلى بزمامي، ولأن تدعني جاهلا ما كان من أمرنا أفضل من أن تبقيني فتعلم ما نطويه عنك … نعم فقد رأينا أن الزواج لا سبيل إليه بعد أن بنيت أنت بي، فتوافينا إلى بقعة مهجورة على ساحل اليم وتعاهدنا أن نكون زوجين، وأشهدنا على زيجتنا هذه نجوم السماء والبحر والريح، وإنه لعقد لا يعترف به الناس غير أنه مع ذلك صحيح فيما بيننا، ولأن يكون هو زوجي وعقيدي أولى من أن تكونهما أنت!! ولا نكران أن الأمر كان موكولا إلى اختياري وأنى آثرتك عليه أمام الناس، ولكن هذا كان لا مندوحة عنه ولا بد منه. وهل كنت تتوقع منى غير هذا في سبيل التحفظ بشرفي؟! نعم شرفى! ولست بأول أنثى اتخذت من الزواج ستارًا لحنينها! ولا يخفى على أنى من أجل هذا أستحق اللعنة ولكني كنت مضطرة إليه اضطرارًا. فأنت ترى أن كل شئ يدعوك إلى تركي وإطلاقي إليه …». هممت بأن أكاشفه بهذا، ولكن شيئًا عقد لساني وألجم فمي، فمنحته ظهري واستقبلت الحائط … وكأنما مل طول صمتي وآلمه انصرافي عنه واستدبارى إياه كلما حاول أن يتألفنى من نفرتى، فجذبني إليه بعنف أو لعله لم يعنف ولكن ما كانت تجيش له نفسي جسم لى الأمر، فهاج هائجي واضطرم صدرى وثرت به أرجمه بكلام لا أملك حبس لساني عنه وأقوله له فيما أقول: «إني أبغضك … أمقتك من أخمص قدمي إلى فرع رأسي»! قال: «ماذا تقولين؟!». واعتدل فوق الفراش. قلت: «لقد قلتها! ألم تسمع؟ لقد كان غيرك أولى بي لو أنصفت المقادير!!» فوثب عن السرير إلى قدميه كالنمر الهائج وجذبني إليه من شعرى وصاح بي بصوت وحشي أشاع الرعب في كياني: «من غيرى هذا؟! أفصحي أيتها اللعينة!». فلم أستطع جوابا وعقد الخوف والألم لساني وأنا جاثية عند قدميه وخصل شعرى ملفوفة على يمينه، وشماله على جبيني يرفع بها وجهي إلى عينيه … ومضت برهة كأنها الدهر ونحن كذلك، ثم شد شعرى وقال: «انهضى». ودفعني إلى السرير «اسمعى! لن أقتلك فأنت أهون من ذلك وعندي ما هو شر من القتل. فاعلمي أنى لست كغيرى من الرجال! إنك زوجتي «أنا» — وعض هذه الكلمة — وستظلين زوجتي «أنا» رضيت أم سخطت! ولست أعبأ شيئًا بالناس وما عسى أن يقولوا، ويمينًا ليس عندي لك سوى السوط أمزق به جلدك وأطير به من رأسك الفارغ كل ما يمكن أن يعشش فيه من الأباطيل، ولأطعمنك إياه كلما أجاعك إليه الأهواء السخيفة». فبكيت وسرت في بدني كرعدة الحمى وتصاكت أسناني، فصاح بي أن «ازجرى عينك عن البكاء فلست ممن تلينهم الدموع أو تخدعهم! ويظهر أنك تغفلتنى أو كنت تحدثين نفسك بتغفلى. وسألقى عليك درسا يؤدبك غير هذا الأدب». فلم أجبه، وظهرت على وجهي وهيئتي أمارات الاستخذاء والضراعة ولم يتركني حتى أقسمت له أن أصدقه الولاء وأمحصه الوفاء. ثم نهضت إلى المرآة مرة أخرى وهي تقول: «وقد أخلصت. وحمد لى إخلاصي وتبنى غلام صاحبي ولكني صرت إلى ما أرى! … وقد أسمعه أحيانًا يهتف بي مناجيًا: «أيتها المرأة التي أفتقدها! من لى بأن أراك كما كنت تبدين لى! لشد ما أتعثر الآن في سيرى بعدك! وما أكثر ما يتساقط حولي من أوراق الحياة وأزاهيرها!». ولكني لا أستطيع أن أجيبه حين يهيب بي وإن كنت أتبع له من ظله». ••• وتقشعت السحب عن القمر، فنفذ إلى الغرفة نوره فرفعت طرفي إليه ثم ثنيته إليها فإذا بالفتاة قد غابت! … ذهبت كما جاءت بلا استئذان ولا احتفال … فخطر لى أن أعالج الباب لأنظر أمفتوح هو أم مغلق وأن أرى ماذا في الدولاب وتحت السرير! ولكني استحييت من نفسى! وأشعلت سيجارة وجعلت أدخنها رائحًا غاديًا في الغرفة حتى إذا قاربت الانتهاء منها ألفيتني واقفًا أتأمل صورة حسناء!! فابتسمت وقلت: «أهذا أنت يافتاتى؟! كيف خرجت من إطارك هذا بالله عليك؟ لشد ما أزعجتني يا سيدتى! فما جزاء من يعابث ضيوفه على هذا النحو؟! أن أواريك عن عيني؟! نعم!». وقلبت الصورة وأدرت وجهها إلى الحائط وقلت وأنا أتمطى على الفراش: الآن أستطيع أن أنام في أمان من خيالاتك أيتها الحسناء الماكرة!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/14/
متاعب الطريق
ليس أخطر من التعميم في الأحكام، ولا سيما إذا كان الأمر خارجا عن دائرة العلوم المضبوطة وخاصّا بما يختلف فيه الناس ويتباينون، ولكنا مع هذا نستطيع أن نستغني عن الاحتياط إلى مدى بعيد، وأن نأمن الخطأ إلى حد كبير حين نقول إن المرء حين يعشق، أي حين تستبد به الرغبة وتغطى به العاطفة، قل أن يفكر في الاحتمالات أو فرص النجاح، أو في ما له من الصفات والمؤهلات التي تعين على التوفيق أو تحول دونه أو في طبيعة المرأة التي فتنته واستولت على هواه. ذلك أن المرأة تقع من نفسه فيجيش صدره بالرغبة فيها وتضطرم نفسه عليها ويغيم كل ما عدا ذلك فلا يرى أو يسمع أو يحس إلا هذه العاطفة المتأججة التي تسد عليه كل فجاج النظر. وغير منكور أن في الناس من يسعه ضبط نفسه وقياس آماله إلى قوته وكبح عاطفته إذا تبين أنها موشكة أن تركض به بين الوعور … كما أن فيهم من يمضي على وجهه كالمعصوب العينين أو كالمخمور حتى ينتهي إلى غايته أو يقع دونها. ولكن هذا لا ينفى أن العاطفة تتملكه قبل التفكير، وهذا هو الذي نريد أن ننبه إليه لو أن الأمر محتاج إلى تنبيه. والأديب شبيه بالعاشق، يعرض له الخاطر فيستهويه ويسحره ولا يجرى في باله في أول الأمر شئ من المصاعب والعوائق ولا يتمثل له سوى فكرته التي اكتظت بها شعاب نفسه، ولا ينظر إلا إلى الغاية دون المذاهب، ويشيع في كيانه الإحساس بالأثر الذي سيحدثه، وقد يتصور الأمر واقعًا ولا يندر أن يتوهم أنه ليس عليه إلا أن يتناول القلم فإذا به يجرى أسرع من خاطره، وإذا بالكتاب تتوالى فصوله وتتعاقب أبوابه. وتصف حروفه ويطبع ويغلف ويباع. ويقبل عليه الناس يلتهمونه وهم جذلون دهشون معجبون. وإذا بصاحبه قد طبق ذكره الخافقين وسار مسير الشمس في الشرق والغرب وخلد في الدنيا إلى ما شاء الله!! يكبر كل هذا في وهمه لحظة تطول أو تقصر، ثم يهم بالعمل ويعالج أداءه فيتبين أن عليه أن ينضج الفكرة ويتقصى النظرة ويلم بهذا ويعرج على ذاك، ويستطرد هنا ويمضي إلى هناك، ويدخل شيئًا ويخرج خلافه … ثم أن يصب ذلك في قوالب ملائمة ينبغي أن يعنى بانتقائها، وأن يتوخى في الأداء ضرورات تقسره عليها طبيعة الخواطر أو المسائل — هذه تتطلب إيضاحًا وتلك لا معدي في سوقها عن تحرى القوة في العبارة أو اللين أو السهولة أو الجمال أو غير ذلك. وأحر به حين يكابد كل ذلك أن تفتر حرارته الأولى وأن يدب الملل في نفسه، وأن يضجره أن يضطر إلى أن يقطع الطريق خطوة خطوة، ويكتب الفكرة الرائعة الجليلة التي استغرقته وفتنته، كلمة كلمة. ويتناول منها جانبًا بعد جانب، وأن يعاني في أثناء ذلك مشقات التعبير ومتاعب الأداء، وأن يذعن لأحكام الضرورات، فلا يستعجل فيفسد الأمر عليه، بل يكر أحيانًا إلى ما كتب ويعيد فيه نظره ويجيل قلمه مرة وأخرى وثالثة إذا احتاج الأمر إلى ثانية أو ثالثة، ويصبر على برح ذلك وعنائه وتنغيصه وتغثيته يومًا وآخر، وأسبوعًا وثانيًا، وشهرًا وعاما وأكثر من عام أو أعوام إذا دعت الحال. وفى أثناء ذلك كم خالجة عزيزة يضطر أن ينزل عنها ويدعها مدفونة في طيات نفسه لعجزه عن العبارة عنها وتصويرها وإبرازها في الثوب الذي ينسجم عليها ويجلوها للقارئ كما هي في ذهنه أو لأن كلمة واحدة — واحدة لا أكثر — تنقصها لتستوفى حقها من التعبير الذي يكفل لها الوضوح أو الحياة؟ كم معنى يتركه ناقصًا أو غامضًا وهو «يحسه» تاما ويتصوره في ضميره كأجلى ما يكون؟ وما كل امرئ يدخل في مقدوره أن يحتمل هذا المضض كله. ومن الكتاب من لا يكاد يلتقي بأول صخرة في الطريق حتى ينكص راجعًا وهو يشعر بمرارة الخيبة بعد الغبطة التامة التي أفادته إياها الفكرة حينما نشأت، ويروح يطير من فكرة إلى أخرى ولا يكاد يصنع شيئًا لأن العوائق التي لم يقدرها تغلبه، والوعور التي لم يتوقعها تهيضه، والمشقات التي لم يفكر فيها تسئمه. والأدب إلهام وفن. ولكل فن أدواته وآلاته. ولا بد فيه من الإحسان والتجويد، أي من الصبر وصحة النظر وسلامة الذوق وصدق السريرة وحسن الاستعداد. وما كان الصواب وصحة النظر ودقة الإحساس وحسن التخيل والقدرة على ذاك وغيره بمقصورة على الأدباء ولا هي بوقف عليهم، ولكن كم ممن تفيض خواطرهم بالخيالات الرائعة والآراء السديدة والإحساسات العميقة يستطيعون أن يبرزوا هذه ويحدثوا فيها صورًا ويجلوها للناس كما هي في نفوسهم؟! الألفاظ، التي هي أدوات الكتابة موجودة، ولعل غير الأديب لها أحفظ وبها أعلم، وهي في طريق من شاء، غير أنها ليست كل ما يحتاج إليه المرء ليكون منه كاتب. كذلك الأصباغ والألوان حاضرة من شاء مد إليها يده وتناولها وصنع بها ما أحب، وهي مادة التصوير، ولكن من ذا الذي يحسب أنها كل ما ينقص المرء ليكون مصورًا؟ وكذلك لا يغنى العلم بالقواعد والأصول. وما عسى أن تكون قيمتها وحدها؟ هذا وجه يريد المصور أن يرسمه وينقل إلى اللوح ما يترقرق في صفحته من المعاني ويجول فيه من الأمواه، فكيف بذلك؟ كيف يجعل هذه الشفة ناطقة بالسخرية، أو تقويسة الذقن معبرة عن التصميم، أو لمعة العين شاهدة بسجاحة الخلق ورضا النفس؟ وكيف يشعرك ما يشعر به هو من السحر أو الدلال، أو القوة والجلال، ويفيدك ما أفاد من الأنس والغبطة والروح؟ أو كيف يجعلك حين تنظر إلى الصورة الحاكية تشتهى — مثله حين يجتلي الأصل — أن تغمض عينيك وتنقل نفسك إلى عالم آخر من الخيالات والخواطر والإحساسات؟ وما يقال عن المصور يقال مثله أو أكثر منه عن الكاتب أو الشاعر. والأمر في كلتا الحالتين يحتاج إلى فطرة مهيأة له أسبابها وذوق مؤازر وسليقة مناصرة وملكة معينة على حسن اختيار الرموز الكفيلة بإفراغ الخواطر في القوالب الملائمة، والقادرة على إحداث الصور المطلوبة في أذهان القراء. وعلى ذلك يكون المرء صانعًا لا أكثر إذا رزق الفن وحرم الإلهام — صانعًا كهذه الآلات التي تدور بلا روح وتخرج ألوانًا وضروبًا من الصور تعجب بصقلها ودقتها وإحكام صنعها ولا تحس أن يد إنسان حي أو قلبه وراءها. وكم من الناس يفكرون فيما يقاسيه الأديب؟! أين ذاك الذي يطالع الكتاب أو الديوان ويعنى بأن يصور لنفسه الجهد الذي بذله صاحبه والغصص التي تكبدها وصبر عليها — جهد التفكير والأداء، وغصص النجاح والفشل على السواء؟ إنه لا يقدر ذلك إلا من عانى هذه المآزق وخاض غمراتها وذاق مرارتها. وشبيه بهذا أن يقف رجل من الأوساط العاديين أمام صورة يتأملها ويدير فيها عينه ويعجب بها أو لا يعجب، وهو لا يدري أنها ليست ألوانًا وأصباغًا مزجها المصور وزاوج بينها وساوقها، بل قطعة حية من نفسه إذا نظر إليها صاحبها كرت أمام عينه سلسلة طويلة من الألم واللذة والندم والغبطة والغيظ والكمد والسخط والرضا والأمل والخيبة ومن أسبابها ودواعيها المباشرة وغير المباشرة. لى صديق مصور مخلص لفنه دعاني مرة إلى محله — وكان هذا منذ سنوات ثلاث — وقال: «إني أريد أن أرسمك لأني أتوسم في رأسك مادة صالحة لصورة لها قيمة فنية»؛ فشكرت له ذلك وقلت له إن عندي من الغرور ما هو فوق الكفاية ولم يكن ينقصني أن أعلم من فنان مثلك أن رأسي جدير بالتصوير … ثم جعلت أختلف إلى داره في الأوقات التي يعينها وأجلس إليه في كل يوم من هذه الأيام نحو نصف ساعة تتخللها فترات أستريح فيها من هذه الجلسة المتعبة. فكان ربما بدأ مرتاحًا إلى العمل مقبلا عليه مهتما، ثم لا يلبث أن تعتريه الكآبة ويعلو وجهه الوجوم فتتدلى يداه وينثني رأسه على صدره ثم يرفعه ويرسل زفرة غيظ من بين أسنانه المطبقة، ويعود كالذي يهم أن يتناول اللوح فيمزقه ويعمد إلى فيرمى رأسي بالكراسي والألواح ويطردنى رفسا بقدميه!! وكنت أحاول أن أرد إليه ما يعزب عنه في هذه اللحظات من خلقه الوادع، وأقول له: إن هذا الذي تكابد ليس بغريب عنا معشر الكتاب، وربما كنا أسوأ من المصورين حالا وكان فننا أشق وأمر … فيقول: كلا! إنكم أيها الكتاب تستطيعون أن تسوقوا خواطركم ومعانيكم واحدًا في أثر واحد فإن أغفلتم معنى لسبب من الأسباب فقلما يفطن القارئ إلى ما أهملتم، وهل كان يدري قبل أن يقرأ كلامكم أنه كان في رءوسكم كذا وكذا فأردتم منه هذا واطرحتم ذاك؟ ولكن صورة الوجه على اللوح إما أن تكون حية ناطقة أو ميتة خامدة الروح، وليس يخفى موتها أو حياتها على الناظر إليها. وقلما يفوته التقصير في إنطاق الوجه وأداء المعاني المرتسمة على صفحته، وقد تدق بعض المعاني المكتوبة عن الأفهام لتعويصها أو غرابتها أو سموها أو لطفها ودقتها، ولكن شخصية الإنسان لا تخفى على الإنسان، وقد يعجزه أن يصفها ولكنه لا معدي له عن أن يحسها، والصورة كذلك. ومن هنا كانت أشق وكان الإخفاق أخلق بأن يكون أبين. وأذكر أنى منذ أكثر من خمسة عشر عامًا قام بنفسي أن أضع كتابًا «ضخمًا» في فلسفة الشعر وأن أجعل هذا عملي الأدبي في حياتي وقلت لنفسي: حسبي به إذا رزقت التوفيق فيه. واستخرت الله في إمضاء الفكرة، ولم يكن يغيب عنى فدحها. فشرعت أعد لها العدة الكافية وأقرأ كل ما استطعت أن أقرأه مما له علاقة قريبة أو بعيدة بموضوعي … وقسمت الكتاب إلى أبوابه التي تنطوي تحتها أغراضه، وحصرت كل ما أريد أن يتفرع إليه … ثم لم تزل تقوم الموانع وتعترض الحوائل، ومضت على وعلى كتابي هذه. السنوات الخمس عشرة ولم أتجاوز إلى هذه الساعة المقدمة وفصلين أحدهما هو المدخل!! ويظهر أنه ليس أعون على المثابرة والصبر من «خفة» الإحساس ومن أن يكون المرء بحيث لا تهتاج آماله أو مخاوفه إلى درجة من الألم والإلحاح لا تحتمل ولا يسع المرء معها رفقًا بنفسه وإبقاء عليها إلا أن يفرغ من الأمر الذي يعالجه ولو خسر في سبيل ذلك غايته. وأعنى أن يكون المرء هادئ النفس قليل الاكتراث قادرًا على الانتظار مطيقًا للصبر راضيًا عن نفسه مستعدّا للارتياح إلى كل ما عسى أن يشغله، يستوي عنده أن يكتب في الفلسفة أو يصف حوانيت الباعة، وأن يستكشف القطب الشمالي أو يهتدى إلى حانة تبيع الويسكي بأثمان زهيدة ومقادير كبيرة، ما دام هو الذي يفعل هذا أو ذاك وما دام رضاه عن نفسه لا يضعفه سبب من الأسباب. وليس من النادر أن يرزق هذا الضرب من الناس حظا من البساطة الطبيعية ترفعهم وتذري منهم. ولكن ما عسى صبر الذين تطغى بهم البواعث القوية وتلج بهم الأشواق الحادة والرغبات الجامحة وتدفعهم إلى محاولة الوثوب وتعجلهم ولا تدع لهم فرصة راحة يروضون فيها نفوسهم؟ ولعل هذا هو السبب في أن الأمة الإنجليزية لم تنبغ في شئ نبوغها في الشعر الذي يرجع في مرد أمره إلى الإرادة والعاطفة، وأن الأمة الفرنسية من «أفصح» الأمم. ذلك أن الشعر عبارة عن الإحساس الذي يعترف به المرء لنفسه ساعة الخلوة بها ويرمز له بما هو أقرب إلى الصورة التي هو عليها في نفس الشاعر. أما الفصاحة فإحساس كذلك ولكنه يصب في أذهان أخرى ويلقى إليها طلبًا لعطفها أو التماسًا للتأثير فيها أو نشدانًا لتحريكها وحفزها إلى العمل … ومن هنا كانت الأمة الفرنسية أضعف الأمم الكبرى شاعرية وأفصحها في الوقت ذاته إذ كانت أشدها غرورًا وأعظمها اعتدادًا بالنفس!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/15/
مجالسة الكتب ومجالسة الناس
كنت أهم بأن أكتب غير هذا المقال، وكانت الفكرة حاضرة، والورق مهيأ، والقلم مبريّا. ولكني أشرفت من النافذة فأخذت عيني صبيّا يلعب بالحصى ويهيل الرمال، وفى ناحية أخرى فتاتان تتحادثان وتتضاحكان … فقام بنفسي سؤال لم أستطع التملص منه على فرط ماجاهدت: ماذا يعبأ هؤلاء بما كتبت أو بما عسى أن أكتب؟! بل هبني جعلت الصبي والفتاتين موضوع مقالي وأدرته على ما أرى منهما ومنه! أيكترثن لى أو يحفلن بي وبما أسطر؟ كلا! ولعل أحرى بي أن أسأل: أيعود أحد منهم أصلح للحياة وأقدر عليها وأعرف بها من أجل أنى أجريت هذا القلم بكلمات فيه أو عنه وهو لو قرأها أو تليت عليه لما أحس أنه موضوعها؟! كلا أيضًا، ومع ذلك أباهى بما قرأت، وأعتز — على الأقل فيما بيني وبين نفسي — بما كتبت، وأفرح بالخالجة تدور في نفسي لحظة ويجيش بها صدري برهة، وقد أضعها في كفة وأضع الطبيعة كلها في كفة أخرى! وبعبارة أخرى: أغالى بالفن وأعدو به قدره ثم أنقلب بجزاء من يفعل ذلك! أي شئ هذه الكتب؟ ستقول إنها عالم حافل بالمتع … وإنها لكذلك، ولكن أين ذلك الذي يسعه أن يزعمها العالم الوحيد؟! وهي ديوان قيد فيه السلف ما وسعهم أن يورثونا إياه من معارفهم وخواطرهم وتجاربهم، غير أن هذا ليس معناه أنها كل ما يمكن أن نعرف أو يخطر لنا أو نحسه أو نجربه. والحياة كتاب أوسع وأضخم من كل ما حوت المكاتب قديمها وحديثها، وليس ما على رفوفنا سوى صفحات قليلة من هذه الموسوعة الهائلة. ولقد عبر «هولاكو» على جسر من الكتب فلم تقف الدنيا ولم يثقل الزمن رجله، ومضت الحياة في طريقها كأن لم يحدث شئ ولم يفقد الناس هذه الكنوز، بل كأن لم يكتبها أحد ولم يضن فيها نفسه، ولم يخلق في تحبيرها أيامه، ولم يبل في إخراجها حياته! بل كأن لم يكن أصحابها قد خلقوا قط! وهل ما أخرج الكتاب من آثار أقلامهم هو كل ما كان يمكن أن يكتب؟! لا أظن أحدًا ممن يعاني الكتابة يذهب إلى أن بعض ما كتبوا ليس إلا بعض ما اضطرب في صدورهم وقد لا يكون خيره. والكتاب الذين ظهروا في هذه الدنيا ليسوا كل من يحس ويفكر قرب تاجر يمسي ويصبح بين السلع جيدها ورديئها، والمساومات شريفها ووضيعها، والمكاسب حلالها وحرامها، هو أبعد مدى ذهن وأوسع مضطرب فكر من «كانْت» أو «كونت» أو من شئت غيرهما … ورب حمال يقضى عمره حانيًا ظهره للأثقال! هو أحس بالحياة والطبيعة من ابن الرومي … وقد تزدري أميّا جاهلا وهو — لو علمت — أحد طبعًا من المتنبي، ولكنه الغرور ولا أدرى ماذا أيضًا — فليس أبغض إلى من التقصى — يخيل لنا أن الحياة تعقم بأمثال من ظهروا ويظهرون فيها من الكتاب والشعراء والفلاسفة ومن إليهم! وكل هؤلاء الذين نعدهم «نكرات» يأتون إلى الدنيا ثم يخرجون منها ولا يخلفون وراءهم أثرًا أدبيّا والدنيا لا تنقص بذلك كما أنها لا تزيد بمن نعرف من أبنائها «المعارف»! والحياة كالأوقيانوس الأعظم لا يزيده صوب الغمام ولا ينقصه ما تأخذ منه! وهب الدنيا خلت ممن عليها من الناس، وصفرت من كل أصناف الخلق، فماذا إذن؟ لا شىء! تظل الأرض دائرة حول الشمس، ولا تكف الشمس عن إضاءتها كما تفعل الآن، إذ نحن عليها نروح ونجىء ونكد ونسعى ونشقى ونسعد ثم نموت! ونحن نموت أفرادًا وجيلا فجيلا أليس كذلك؟ ولا تعود الدنيا موجودة في نظرنا — لو أنه بقي لنا بعد الموت نظر — ونعود نحن فيها، أليس هذا هكذا أيضًا؟ فهب جيلنا كان آخر جيل، أفتظن أن الدنيا كلها تقضى نحبها من أجل أننا نحن قضينا نحبنا؟ إذن لا «تصوب» نظرك يا مازنى إلى هذه الحيوات الصغيرة الساذجة التي تبدو لعينيك إذ تطل من نافذتك ولا تبتسم إذ تجتلي مظاهرها كأنك تزدريها أو «ترثى» لأصحابها الذين لم يقرءوا ما قرأت ولم يعرفوا ما عرفت. فإنها حافلة بالمتع والعجائب كهذه الكتب التي تعنى بها ولا تكاد تحفل ما عداها ولعلها — لو بلوتها — أجدى عليك وأشرح لصدرك مما أضعت عمرك فيه. وما من ريب في أنى لو كنت أصغر مما أنا اليوم بعشر سنوات أو خمس عشرة، لخرج المقال من يدي على غير ما يخرج الآن، ولكان الأرجح في الاحتمال أن أشيد بذكر الكتب والعكوف عليها والانقطاع لها والانصراف عن الدنيا من أجلها، ولكني لسوء حظها كبرت!! وبلوت من جرائرها ما أسخطنى عليها. وبحسبي من ذلك أن صارت مجالس الناس وأحاديثهم عندي غثة لا تكاد تساغ ولا تستمرأ، وأنى مضطر إلى أن أعالج نفسي لأطيقها وأصبر عليها ولا أقول لأستمتع بها. وليس ذلك لعزوف طبيعي عن الناس وكراهة لمخالطتهم ولكنها الكتب قبحها الله ردتني كالمترف الذي تؤذيه خشونة العيش!! ألست قد عشت بين خير العقول وأخس النفوس، وألفت أن أتناول عصارة الأذهان وخلاصتها النقية الممحصة، واعتدت الصقل في سوقها والفن في عرضها وإبرازها؟ فما عسى الصبر إذن على أحاديث المجالس الخاوية المبتذلة؟! كيف لمن يقضى الشطر الأكبر من أيامه ولياليه بين شعراء الدنيا وكتابها، بإطاقة المستوى الذي لا تكاد ترتفع عنه أحاديث المجالس؟! وما للكبر دخل في هذا ولا للغرور أصبع فيه ولا ظفر، وإنما هي العادة التي يقولون عنها إنها طبيعة ثانية. وما مثلى إلا كمثل الذي نشأ في بيئة أرستقراطية كما يسمونها ودرج على عاداتها وتقاليدها وآدابها، مثل هذا لا يحسن أن يعايش من هم من طبقة الخدم والطهاة أو العملة وباعة الأسواق. ولا شك في أنه يحادثهم أحيانًا ويحتك بهم قليلا ولكن هذه ليست معايشة، وأكثر ما يكون اتصاله بهم حين يصدر إلى واحد منهم أمرًا أو يبتاع سلعة أو يفعل ما هو من هذا بسبيل، ولو أنه جالس طائفة من هذه الطبقة لملها واستثقل وطأتها على كل صبره. والعكس صحيح أيضًا. وليس السبب أن هذا من طبقة عالية وذاك من طبقة واطية أو متوسطة، بل السبب فيما أظن هو أن من تتباين نشأتهم وتتباعد طبقاتهم تضيق بينهم الدائرة المشتركة، والأحاديث تدور على الأكثر في هذه الدائرة. ومن هنا لا يطرد الحديث في مجاريه العادية بين من ألفوا الكتابة والقراءة وبين سواد الناس. ذلك أن الكاتب اعتاد التفكير وإطالة النظر إلى المسائل من كل الجوانب التي يتفطن إليها ويسعه أن يحيط بها، وأن يعرضها مرتبة مبنيّا بعضها فوق بعض ويسوقها في عبارة يتخيرها لها … وليست الأحاديث كذلك؛ فهي متقطعة متوثبة سطحية في الأعم والأغلب، ولا يزال الناس ينتقلون في مجالسهم من موضوع إلى آخر ولا يتريثون هنا أو ههنا، فيكون الكاتب بين أمرين: أن يلزم الصمت. أو يثقل على جلسائه. ولا شك في أن غشيانه المجالس واختلافه إليها يصقله ويعده لها ويذلل له ما تقيمه عادته من العقبات وقد ينفعه ذلك ويحرك ذهنه ويطلقه من القيود التي تحفه بها مزاولة فنه. ولكنه لا شك أيضًا في أن روح الأحاديث هو التعاطف وأن تباعد ما بين الجلساء يضعف هذا التعاطف ويحيل المحضر موقرًا باحتمالات الملل والسآمة من الجانبين. والمرء لا يستطيع أن يسمو فوق مسعاه لأن استطاعة ذلك معناه أن المرء يسعه أن يحلق فوق نفسه وهو عين المستحيل. وأعلم أن «الماسونية» ليست بمقصورة على رجالها وأن لكل طبقة منها نصيبًا، وكما أنه لا يفهم رموز الماسوني حق فهمها إلا صنوه وقرينه كذلك لا يتم التفاهم إلا بين القرينين. على أن بعض الناس يذهبون إلى أنه لا خير في محادثة القرناء إذ كانوا خلقاء أن يعرفوا ما عساك تقول، وإنما يحلو الحديث ويجدي — كما تجدي الصداقة — بين المختلفين. وهذا صحيح ولكنه ليس كل الصواب لأن كون اثنين في مستوى واحد لا يستوجب التطابق بينهما. وهذه المدارس تلقن التلاميذ علومًا واحدة غير أن هذا لا يجعلهم أشباهًا ولا يحيلهم كالنسخ المتعددة من الكتاب الواحد! وقد يقرأ الكتاب رجلان ويخرج أحدهما بغير ما يخرج به صاحبه. والكاتب يعنى بالفكرة قبل أن يعنى بوقعها، وهمه الأول جلاؤها وعرضها في أحسن حلاها وأقواها. ولا ريب في أنه وهو يكتب يجعل باله أيضًا إلى التأثير، ولكن هذا لا يشغل من نفسه الحيز الأكبر بل هو يأتي تبعًا لمعالجة الأداء. والحال على خلاف ذلك في الأحاديث فإن المرء لا يزال يدير عينه في وجوه الجلساء ليستشف منها الأثر الذي أحدثه كلامه. وما أشبه الكاتب بالممثل الذي يعنى بدوره ويصرف همه إلى القيام به ويخلى ذهنه، على قدر ما يسع إنسانًا أن يفعل ذلك، من التفكير في جمهور النظارة الذين يجعلونه قيد أبصارهم. أما حديث المجالس فقريب الشبه بالخطابة بل هو صورة مصغرة منها، والمرء لا ينفك كما أسلفنا يستنبئ الوجوه ويستخبر العيون ويحاول أن يتخذ منها مرايا يجتلي في صقالها وضاءة حديثه وبهجة كلامه، ومن ذا الذي لا يعنيه ما يند عن شفتيه ولا يبالي أين وقع ولا يكترث لكلامه أتلقفه الناس أم ذهب مع الريح ولم يلتفت له أحد؟ ولهذا لا يسع المرء إلا العناية بأمر جلسائه إلا مراقبة حالة نفوسهم فيرتفع معهم ويحلق إذا رآهم مطيقين للتحليق راغبين فيه مستعدين له ويهوى معهم إذا هوت بهم البلادة أو التعب أو الضجر أو غير ذلك. وأتعس المجالس وأثقلها على نفس الأديب تلك التي تتألف من الأوساط أدعياء الثقافة. فيها يدور الحديث على الآداب والفنون ولكنه حديث منقول عن الصحف والمجلات يلوكون فيه ما تكتبه لهم. ويفسدونه إفسادًا لا سبيل إلى الصبر عليه. وعذرهم واضح وعذرك أوضح … فالموضوع الذي يردونه منك إليك لا يعنيهم كما يعنيك ولا يستمدون الباعث على طرقه من أعمق أعماق نفوسهم مثلك. وقد لا يدرون عنه إلا بعض ما التقطوه منك. وتشعر بالتقزز إذ ترى القوم يمزقون بأنيابهم خواطرك ومعانيك ويلقونها إليك خرقًا قذرة وتصدك الآداب العامة عن تنغيصهم، ويقضى ذلك على صدق السريرة ويذهب بالإخلاص ويغيض من جراء ذلك معين اللذاذة المستفادة من الاجتماع. ومن هذا الضرب أفراد يحفظون من الكتب أسماءها وأسماء مؤلفيها وبعض ما يقال عنها ويدورون بهذا على المجالس يعرضونه عليها كالإعلانات حتى لكأنها فهارس حية أو قوائم متنقلة! وليس من النادر أن يكون الأدب أو العلم أو غير ذلك مما اشتهرت به من ذنوبك عند بعض الناس، فلا يكاد يغشى أحدهم مجلسًا لك أو يلتقي بك حتى يشرع في تنغيص متعك وتكدير صفوك. فإذا كان الشعر فنك أنحى على الفن كله وبسط لسانه فيه وسمى كل سخافة «خيال شاعر». وإذا مدحت شيئًا أو أظهرت ارتياحك إليه أو ولوعك به ذمه وسخر منه أو عرض بسوء رأيه فيه واحتقاره له — ولك ضمنا — إذا جبن عن التصريح … وهكذا يظل يطاردك ويتعقبك حتى يسود الدنيا في عينيك ويملأ نفسك نقمة على الحياة والناس إكراما له! والأديب كالمغنى الذي يرسل صوته غير معتمد على آلة موسيقية تشبع أنغامه وتسد نقصها وتملأ فراغها، وقد ألف أن يجعل معوله على ما للعبارة وحدها من وقع، وليست كذلك الأحاديث التي تستمد جانبًا كبيرًا من قوتها أو حلاوتها أو بهجتها من المكان والاجتماع والجلساء وإشاراته ونظراته وصوته. ومن هنا يخطىء كثيرون ممن يبرزون في المجالس فيحسبون أنهم يستطيعون أن يظهروا في عالم الكتابة كما ظهروا في عالم المجالس ويتوهمون أن الوقع الذي يوفقون إليه في أسمارهم لا يخطئهم إذا تناولوا القلم وأجروه بدلا من اللسان. وليس — أشق عندي على الأقل — ولا أشد إجهادًا للأديب من مجالس النساء! ماذا يقول لهن؟! في أي شئ يحادثهن؟! كيف يجعلهن يرتحن إلى حديثه ويتقى إملالهن؟! هن لا يكدن يحملن معهن غير ثيابهن وزينتهن وعجبهن وما يتصل بذلك من قريب أو بعيد، وهو لا يكاد يحمل معه سوى آرائه، فكيف السبيل إلى التوفيق بين هذه وتلك؟! ومجالسة الكتب تحيل المرء أشبه بها حتى ليعود وكأنما لا ينقصه إلا أن يغلف ويوضع على الرف بين أخوته!! وطول العهد بها يشيب النفس قبل إشابة الرأس، ويطفىء لمعة العين. ويعوق تدفق النشاط الجثماني، ويغرى بالسهوم والصمت، ويفعل ما هو شر من ذلك: يبعث على التعليق بالمثل العليا وصور الكمال ويشرب النفس حبها ويعلمها نشدانها … فإذا راح يضرب في غمرة الحياة تعثر ولقى في كل خطوة صدمة: كالذي يسلك طريقًا ومعه مصور لخلافه!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/16/
لولو …؟!
لولو؟! ما «لولو» هذا أو هذه؟ أهي فتاة حرة المقلد؟ أم طفل غرير مدلل؟ أم زهرة نضيرة؟ أم عصفور مغرد؟ أم أغنية شجية؟ إن في اللفظ ما يشعر «بالصغر» ويكر بالذاكرة إلى «الشباب» — إن كان قد ولى أوانه — وحسبك أن نطقه يتقاضاك زم الشفتين، وتكليف العينين ابتسامة الدعابة ولمعة الغبطة، وتجشيم الأسارير الإبراق، والنفس محاولة الإشراق، فماذا هو؟ لا أدرى!! ولعله كل ذلك، فما أعرف من اللغات إلا ما ليس فيه هذه. ولقد شببت عن الطوق «جدّا» وارتفعت عن كل حداثة ارتفاعًا أجلسني على ربوة الحياة حيث تنازع السحب الضياء. وأما الشباب وإيماض العيون وإشراق النفس فإني أنا القائل: والنفس تهرم أحيانًا قبل الجسم، فتعود وكأن الزمان عمرها، وإن كانت بسنها صغيرة … وكلما أحس المرء دبيب الهرم زاد شعوره بالتبعات ووجد أن الحوادث لا تتوالى على روى واحد، وأن منطق الطبيعة غير منطقه، وأنه يدنو من مركز الدائرة وينأى عن محيطها ويشعر بالدنيا تدور حوله في صخب وضوضاء يزعجان تلك الخلية الضئيلة التي تسمى الحياة، ويرجانها، فيتمنى لو أنه استطاع أن يحول دون النمو. وأن يأخذ على الأيام متوجهها، وأن يبقى عمره طفلا يدور مع الحياة على محيطها. ولكن الذي أدريه أن صديقًا لى، فيه شذوذ قلما أفهمه، قال لى عصر يوم في الإسكندرية «متى تعود إلى مصر؟». قلت «صباح غد». قال: «إذن قم بنا إلى ساحل البحر». قلت: «البحر ولا شك خير من جوف هذه المدينة، فلننهض إليه إذا شئت، ولكن إلى أي بقعة من ساحله نذهب؟». قال: «وما يعنيك من هذا؟ أو ليس كله ساحلا؟». فلم أشأ أن أثقل عليه فيضيق صدره ويسوء خلقه. ونهضنا إلى الترام فركبناه وخليت بين صاحبي وبين سبيله حتى انتهينا إلى آخر موقف ينساب إليه الترام فانحدر بي إلى طريق لا يفضي إلى بحر ولا إلى صحراء!! وإنما يؤدى إلى درب بين الحقول تقطعه السيارات إلى أبى قير ويترقرق على محاذاته جدول صغير. ثم أخذ ينفض المكان بعينه كالذي ينقب عن مخبأ فيه وهو معبس محدق في الأرض يعد خطواته في هذا الطريق الذي ملنا إليه. ومعلوم أن الخواطر كالمطاط لا تشغل حيزًا واحدًا على الدوام فقد ترى الخاطر الضخم مضغوطًا في الذهن من فرط الزحام حتى ليعود كالذرة. وقد تنتفخ الخالجة الصغيرة وتملأ من الذهن كل فراغ يكون فيه. كذلك كان رأس صاحبنا خاليًا إلا من أمر واحد هو الذي ساقه وساقني معه إلى هذا المكان. ولم أرد أن أزعج عصافير رأسه وأطيرها عنه فتركتها تسقسق له وخليته ينصت إليها، وسرت إلى جانبه صامتًا مخففًا الوطأة، وصرت أشفق عليه حتى من وقع قدميه. وكنا قد ملنا إلى جانب معشوشب من الطريق حسبته آثر المشى على حشائشه الندية لأن صوت الأقدام فيه أخفت ولكنا لم نكد نقطع منه بضع عشرة خطوة حتى وقف بغتة كالذي صده جدار وأومأ بسبابته إلى الأرض وهو يقول لنفسه: «هذا هو المكان بعينه». وارتمى على الأرض دون أن يكترث لى كأنه لا يراني أو كأني لست معه! فضقت ذرعا بهذا الحال، وأسفت على مسايرته، وما ذنبي حتى أتكلف الصبر على كل هذه الكتلة من الشذوذ؟ لقد أردت الرياضة ولكني أراني كالذي خرج ليدرس موضوعًا! غير أنى مع هذا كبحت نفسي عن مطاوعة السآمة والاستسلام للضجر، وأقنعتها بأن المروءة أن يحترم الإنسان إحساسًا — كائنًا ما كان — يستغرق النفس الاَدمية إلى هذا الحد، حد الذهول، ويستولى على كل جوانبها، ويملأ كل شعابها وينبض به كل عرق. وما يدريني؟ لعل هذا الإحساس، مهما يكن باعثه المباشر، ثمرة إحساسات عمر بأسره وحياة بكل ما انطوت عليه! ومع هذا، وعلى الرغم من ذلك هممت بأن أقف على كيانه المتداعي هذا وأقول له ساخرًا: «أعاشق أنت يا سيدي؟! إنها لساحرة تلك التي تستطيع أن تصنع هذا بمثلك؟!». ولكنه كان خاطرا كخطف البرق ما جاء حتى ذهب. فقعدت إلى جانبه وخلعت طربوشي وغطيت به وجهه!! فاستوى قاعدا وهو يقول: «إني أعرفك شيطانا! فلماذا أطرت أحلامي؟». فانحنيت له معتذرًا! فقهقه ضاحكا وكف فجأة وأطرق هنيهة ثم رفع رأسه وقال بلا تمهيد: «لقد كان هذا المكان ساحرا وكانت أوراق الشجر والحشائش كالجديدة يومض فيها طلها تحت أشعة الشمس، وكان يخيل لى أنها «مستوردة» لا نابتة، وكانت من رقة النضارة في رأى العين بحيث كنت أشفق أن أطيل النظر إليها مخافة أن أذويها بإجالة الطرف فيها. وكانت الشمس، قوية وكان يقينا لفحها هذا السياج من النبات ومن خلفه هذه الخراف بأعيانها سوى أنها كانت مستلقية على الأرض لا تراعى، وكانت الفراشات لا تكف عن الطيران من هنا إلى هنا كأنما حماها صغرها تأثير الحرارة التي تذبل ما هو أكبر منها. وكان بساطنا هذه الأغصان الندية، والناس يمرون بنا ويديرون عيونهم فينا ثم يذهبون عنا ونحن في شغل عنهم وعن لحظاتهم بأحاديثنا و…». «وماذا كنتم تقولون؟ أو لعله ينبغي أن أقول ماذا كنتما؟!». فلم يلتفت إلى استدراكي وقال: «كانت لولو … فهذا اسمها عندي … ألا تعرفه؟». «قد عرفته الآن!». «… كالتي يفيض قلبها بشىء تحبس نفسها عن الإفضاء به. وكانت ربما أشاحت بوجهها عنى وأسندته إلى كفها وأرسلت لحظها في الفضاء غير ناظرة إلى شئ على التعيين، وتركتني أصب في مسمعها ما أهضب به وقد تجيبني أحيانًا ولكني كنت أقرأ في عينيها غير ما يجرى به لسانها، فكان بيننا حديث مسموع وآخر صامت، وكان الصامت أصدق الحديثين … نعم، فهي عجيبة في تناقضها عجيبة في ازدواج شخصيتها، لينة النظرة، جامدة الفم، رضية الخلق ساكنة الطائر، مكلومة الفؤاد هادئة المظهر تتناول كفها فلا تدري ألينة هي أم صلبة، وتتأمل محياها فتحس فيه الذائب والجامد، والسلس والوعر، والترف والخشونة، والحرارة والفتور والرغبة والزهد، والضعف المتناهي والقوة التي تغرى بقلة المبالاة وتدفع إلى عدم الاكتراث بما كان وهو كائن وما سيكون. ولقد استثارتنى رقة عينيها فأمسكت عن إتمام ما كنت قائلا كأنما كان الكلام يعوقني كالذي يخلع نعليه ويدعهما ويعدو حافيًا … وجذبتها إلى بغتة وإن كان لا شك في أنها كانت تتوقع ذلك وضممتها وطبعت على ثغرها قبلة. ولكنها ضمت شفتيها ولم تعاطنى التقبيل! وإن كانت عيناها قد ظلتا تلمعان بنور الابتسام، ثم مسحت بكفها على الحشائش وقالت: «لا ينبغي أن نظل هكذا جالسين فقم بنا نعد من حيث أتينا فقد أمسينا». قلت: «دقائق أخرى!». قالت: «بل يجب أن نعود أدراجنا». قلت: «فقبلة ثانية أولا». قالت: «حسبك واحدة» بلهجة من يكظم زفرة طويلة حارة. «إني أخشى أن أرعبك إذا أنا كشفت لك عن حدة رغبتي في الاستسلام لعواطفى! كلا! لست بالفاترة التي تراها وإني لأحس أنه كان الأولى ألا أحيا بهذه المفاتن إذا لم يكن من حقي أن أتمتع بها. وهل وهبني الله إياها ليتمتع بها الناس دوني؟!». «ومع ذلك ألحت أن نعود!!». وأكب ينظر إلى الأرض برهة وجعل يقتلع الحشائش ويعبث بها ويقول: «ولها نظرة إنكار أو شك تلقى إليك بها بجانب عينيها، كلها تصديق وكلها تكذيب، كأنما علمتها الأيام أن تستريب ولا تطمئن إلى ما تسمع وأن تعد عبارات الحب والعطف ملقًا ودهانا، أو لهوًا وعبثا، ولكن شبابها يغريها بالركون إلى ما يدرك عقلها الذي نضج قبل الأوان أنه «ألفاظ ألفاظ» كما يقول هملت! فيالها من نفس ظامئة! ما أقسى الحياة التي تحمل زهرة ليس لها غير الحسن قوة، وما تنوء به الشجرة الضخمة!». ثم التفت إلى فجأة وسألني: «وكم تظن عمرها يا صاحبي؟ إنها لا تزال في العقد الثاني من حياتها! فلشد ما أخشى أن تذبل هذه العين وأن تخلو من المعنى لحاظها! لقد جالستها ثلاث ساعات طوال لم تنطق في خلالها بما يملأ خمس دقائق! وشفتاها مع ذلك تهمان أبدا بالانفراج، ولكن شيئًا يطبقهما ويعيد ما يحاول أن ينفذ من بينهما، إلى صدرها فيعلو ويهبط وتظل الشفتان مطبقتين! ولقد قلت لها جادا: «هنا شئ يجثم على هذا الصدر»، فأدارت إلى بعض وجهها ونظرت إلى بمؤخر عينها وقالت واللمعة شائعة في العينين والتحجر مرتسم على الشفتين: «أي شئ؟». قلت: «لا أدرى! ولكن هنا شيئًا على التحقيق! وأراهن!». فهزت كتفيها كالاَسفة وقالت: «لا! أبدًا!!». فألحفت في المسألة وداورتها فلم يجدني ذلك ولم أفز بطائل، فليت لساني كان في فمها! إذن لنطقت عنها ولرفهت عن هذا الصدر المثقل بما لا تحسن العبارة عنه! وهل هو إلا الظمأ إلى الحب؟! هو ذاك على التحقيق … الظمأ إلى ما تحلوها عنه الدنيا وتحرم عليها أن ترد شرعته وتعب فيها كخلق الله: وماذا عسى أن يكون غير ذلك وهي فتاة غضة الإهاب تنأى بها ظروف لا حيلة لها فيها الآن على الأقل عن الزواج وتتقاضاها هذه الظروف عينها أن تبقى عفيفة محصنة؟ شبابها وجنسها يأمرانها أن تنشد الحب وأن تنشد به الحياة والنسل، والدنيا تأمرها أن ترفض هذا، وأن تخرس اللسان الذي يدعوها إليه، وتضع أصابعها في مسمعيها دون الصوت الذي يناجيها به: وأي لسان؟ وأي صوت؟ إنه لسان الجمال الذي يعيدنا جميعًا وصوت الحياة التي تسخرنا ولا ترحمنا ولا تعفينا ولو مقدار ثانية من الإذعان والامتثال. فكر في هذا ثم أنكر وهز رأسك بعد ذلك إذا استطعت». «وتالله ما كان أقسانى عليها، وأعنفنى بها، وأقل ترفقي بهذا القلب الجديد، حين قلت لها وقد ساقني الحديث إلى ذلك: «إن في وسعك أن تستغنى عن زوج بل أنت لا معدي لك عن ذلك ولا خيار لك فيه، ولكنه ليس في مقدورك أن تستغنى عن رجل». ولقد لبثت بعد ذلك وقتًا أعتذر عن نفسي من هذه القسوة بالقول بأني أحسنت إليها بالعبارة عما في نفسها وبأن دللتها بكلامي هذا على مكان الجرح من قلبها ووضعت أصبعها عليه، ولكني أخشى جدّا أن أكون قد نكأته!». – «وماذا كان جوابها؟». – «لم تجب بشئ سوى نظرة طويلة إلى الفضاء! وماذا كنت تتوقع منها؟ أن تنكر أن لها جنسًا! ولقد خاصرتها وأنا أعود بها في هذا الطريق بعد أن انحدرت الشمس فلم تنح ذراعي عن خصرها ولم تتحرك لذلك شعرة واحدة في بدنها! فكأني كنت مطوقًا بذراعي الحي هذه دمية لا تستطيع أن تحس حراراته». – «وماذا أنت منها الآن؟ إني أخشى …». – «وماذا أنا منها؟ لا شئ على الخصوص! أحب أن أراها من حين إلى حين وأن أستشف نفسها وأطلع من عينيها على المغيب في ضميرها. وسم ذلك حبّا إن شئت، أو سمه لهوًا فما يعنيني كيف تصفه، وما أعرفني عبأت قط بهذه الألفاظ. ولكني لا أكتمك أنى أعطف عليها وأرثي لها وأحسبني إنما أعطف على نفسي في شخصها فإن بي منها مشايه. غير أن بيننا حوائل تتعاظم المجتاز، وجونًا عريضًا يعيي ساقي أن تتخطياه. وليتني أدرى كيف أحييها وأرد إليها روح الشباب الذى تقمعه الأيام قبل الأوان! ولكني كبرت واأسفاه. وفقدت أنفاسي حرارتها … والنساء عندي كتب تقرأ وموضوعات تدرس لا جمال يعشق. ولقد كنت في زماني شاعرًا أو شبهه، وكان للدنيا بنفسي حلاوة، ولكني أصفيت بعد أن نضب معين الشباب وعدت كما تقول يا صاحبي «كأني من دمائي أشرب». قلت: «قم بنا عن هذا المكان فقد أوجعت رأسي وسودت الدنيا في عيني. تالله ما أجهلك بالدنيا وبصاحبتك»! قال: «لقد كان لا بد لى من مكاشفة صاحب بما في نفسي وقد فعلت، فاستحمقنى إذا شئت، ولكن خل رأيك لنفسك فما أحفله كيف يكون ما دمت أجهله». ونهضنا نعود فسمعته يقول في بعض الطريق: «لقد كبرت». ولا أدرى كيف حدث منى هذا: ولكني رأيتني أبتسم وأدفع ذراعي حول خصره وأطوقه بها فانتفض مذعورا وصاح بي «أيها الشيطان اللعين».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/17/
نشأة الشعر وتطوره
كنت في ليلة أقلب ديوان ابن الرومي وأدير عيني في صفحاته متأملا ورقها دون ما حوته من الشعر، ولم يكن مرادي أن أقرأ شيئًا بل أن أحول بين العين والمطالعة، وكانت الرغبة فيها شديدة لكن الأطباء يعظوننى ألا أجهد عيني بالقراءة على ضوء المصابيح. وما أدراك ما الأطباء؟! هم الذين يقول فيهم إديسون على ما أذكر: إن المغول والتتار كانت غاراتهم كثيرة قبل أن يعرفوهم، فلما ظهر الأطباء بينهم وكثروا — إلى حد — عندهم انقطعت الغارات!! ولنرجع إلى صاحبنا ابن الرومي فنقول إني بينما كنت أجيل عيني في ديوانه غير معتمد شيئًا على التعيين استوقفني قوله من قصيدة يهجو بها البحتري، وكان معاصرًا له: ولا نعرف ما رقى العقارب ولكننا نعرف ما يعنى بهذر البناة على شعف الجدران، فهي ما ينشدونه ويرددونه في أثناء عملهم من الأغاني الساذجة. وقد ذكرت لما قرأت هذا، بالليلة يومًا وبالبيت موضوعًا له قيمته في نشأة الشعب. فأما اليوم فكان في الأقصر منذ عامين وبضعة أسابيع وكنا — أنا والأستاذ الدكتور حسين بك هيكل — في معبد الملكة حتشبسوت فيما يسمى الآن «الدير البحري» وهو معبد منقوب في الجانب الشرقي من وادى الملوك وممتد شرقا إلى الصخور التي تفصل الوادي عن سهل طيبة. إلى هذا المعبد أقلتنا مركبة ذات عجلات عريضة هي شر ما يحمل إنسانًا فوق تلك الأرض الصخرية. وكان النهار قد انتصف فاتخذنا من الحجارة كراسي ومن صخرة ضخمة هناك مائدة تناولنا عليها طعامنا بين أعمدة البهو الأسفل عند مدخل المعبد وحولنا رسوم ونقوش محت الأيدي والأيام بعضها ولم يبق منها واضحًا سوى صف من الجنود يحملون عدا السلاح أغصانًا وألوية يقابلهم فريق من الرماة وإلى اليسار صور قصابين وكهنة يعدون الضحايا والقرابين، وفوق هؤلاء وأولئك زوارق تنحدر على النيل وفيها مسلات. فلما أصبنا حظنا من الطعام رقدنا على الأرض وأسند كل منا رأسه إلى حجر سد مسد الوسادة. وإنا لكذلك وإذا صوت فضي النبرات يصافح آذاننا فراعتنا حلاوته وضاعف حسن وقعه ما يحيط بنا في هذا الوادي القفر من الأطلال وما تثيره في النفوس من الخوالج والذكريات. وسألنا الحارس فقال هؤلاء عمال يحفرون الأرض ويرفعون التراب عما يظنه مستأجرهم أثرًا أو قبرا، وعادتهم أن يغنوا وهم يعملون … فاعتدلنا حيث كنا وجعلنا بالنا إلى هذا الصوت وكان صاحبه كلما غنى شطرًا أجابه جمهور الفعلة ورددوا على أثره جملة لا تكاد تختلف يعيدونها ويرجعونها بعد كل وقفة منه. وكان الوزن ظاهرًا فيما يغنى الصبي وتعيد الجماعة، فحاولت أن أدون ما ورد سمعي من ناحيتهم ولكن بعد ما بيننا وبينهم حال دون الدقة في النقل وضبط في الرواية وعلى أن ما أثبته من ذلك قد ذهب لا أدرى أين؟ وهذا كل ما اهتديت إليه: ولقد كنت أحب أن أورد للقارئ سطورًا أخرى من ذلك ليس أعون منها على تبيين ما أريد أن أقول، غير أنه يعزيني عن فقد ذلك أن القارئ لا يعيبه أن يجد بديلا يقوم مقام ما ضاع منه، وما عليه إلا أن يلاحظ النوتية وهم يعملون في زوارقهم أو سفنهم أو العمال وهم ينقلون الأحجار أو يحفرون أرضًا أو يجرون ثقلا أو نحو ذلك، فإنهم في أكثر الأحيان يغنون ويتسلون بمثل ما كان جماعة العمال في طيبة يغنون ويتسلون … وأكثر ما تجد ذلك في القرى النائية عن الحواضر وفى حيثما يحتاج العمل إلى أيد كثيرة تشتغل معًا وفى وقت واحد، غير أن هذه الأغاني ليس لها ضابط أو صورة نهائية. إذ هي لا تنفك تتغير ولا تثبت على صورة واحدة بل تنشأ وتتحول ويطرأ عليها جديد يوقع على أنغام قديمة أو تغنى مقاطيع منها قديمة على ألحان جديدة. وقد يثبت ما يردده المشتركون في الإنشاد ويتغير ما يغنيه الفرد، وفى وسمع المغنى الذي يكون كالزعيم للجماعة أن يبتكر ما يشاء ويرتجله وأن يستحدث في المأثور الذي يحفظه ويقدم ويؤخر فيه ويمضي في ذلك كله إلى غير غاية مستمدّا من ذاكرته أو من وحي الساعة أو من إلهام العاطفة التي تتملكه أو من هاتيك جميعًا. فليس أسهل من الارتجال في مثل هذا الموقف. والقارئ إذا تدبر عصور الشعر العربي خليق أن يتبين منها أن الارتجال يكثر في أولاها أي في العصور التي يكون الناس فيها متقاربين متشاكلين لا يتميز بعضهم عن بعض كثيرًا. والمرء إذا ألفى نفسه بين أترابه وأنداده اطمأن وأرسل نفسه على سجيتها لأنه في هذه الحالة يضمن المقدار الكافي من التعاطف إذ كان بين مماثلين له. وهذه الأغاني التي نتكلم عنها كثيرة في المدن والقرى وإن كانت في القرى أكثر منها في المدن. ولكن ما أقل ما يستطيع المرء أن يدون شيئًا منها على أنه مثال لها وعنوان عليها! ذلك أنها كالتيار العام قطرة منه أو ملء ما شئت عمقًا واتساعا، ليس بالتيار! كذلك يكتب أحدنا مقطوعات يسمعها من هذه الأغانى القديمة المتجددة كموج البحر فإذا هو لم يفز بشىء لأنها لا تستقر على حال ولا تثبت كما أسلفنا على صورة. ودع الحاضر وارجع إلى الماضى وصور لنفسك جماعة من الناس لا يزالون على الفطرة لم يأخذوا من المدنية بنصيب ولم تقسمهم الصفات الشخصية والملكات العقلية طوائف ولم يفرق بينهم اختلاف المراتب وتباين الأعمال وتعدد الآراء. وتلك مرتبة من الحياة لا تكون فيها أبواب التعبير الطبيعى موصدة ولا يجهل فيها المرء — أو لا يحس أنه يجهل — ما يجرى فى ذهن جاره أو رفيقه ولا يستحى أن يعرب عمّا يجول فى خاطره ويجيش به صدره مخافة ألاّ يفوز بالعطف والتقدير إذ كانت حدود الفرد هى حدود التقاليد المشتركة بين الجماعة كلها. فى هذه المرتبة من الحياة كيف تكون نشأة الشعر؟ يكون — كما هو ظاهر بالبداهة فيما نظن — عملا من أعمال الجماعة كلها وملكا لها لا لفرد، ويجيء تاليًا للرقص والغناء وتابعًا لهما ومتفرعًا عنهما وغير منفصل منهما … فإن شككت في أن الأمر لابد أن يكون كذلك فقل لى أيهما تظن كان أسبق في تاريخ الإنسان: الحركة أم اللغة؟ نحسب أن الجواب على هذا لا يمكن أن يتعدد! فإن الإنسان قد صدرت عنه الحركات قبل أن يعرف أن له لسانًا يمكن أن يكون أداة لنقل الإحساس أو الخاطر إلى زميله الإنسان … فالحركات البدنية أسبق من اللغة على التحقيق. ولكن هل الوزن كذلك؟ تقول نعم ولا تتردد لأن الوزن ليس شيئا سوى الانتظام في الحركات فهو أشد ارتباطًا وأسهل مسافة لحركات الجسم، وما زالت الإشارات والحركات من متممات التعبير اللفظى إلى الآن. واللغة ليست إلا أداة للتعبير تحل تدريجيّا محل ما كان قبلها هو الأداة لهذا التعبير، لأن العبارة عن العاطفة بالحركة الموزونة على تدفقها، أسهل — ومن أجل ذلك كانت أسبق — من العبارة بالألفاظ التى انتظمت بها الأصوات وتعينت واستقرت على معان صارت محدودة مألوفة. ومتى انتظمت حركات المجتمعين واتزنت على مقتضى العاطفة المشتركة بينهم — لفرط تماثلهم — كان من المعقول بعد ذلك أن تخرج الألفاظ مستوية في ترتيبها على وزن هذه الحركات، وعلى ذلك يكون أول ما عرف الإنسان من الشعر هو عبارة عن لحن موزون يند عن أفواه المجتمعين إذ كان جاريًا على ما تتطلبه وتؤدى إليه الحركات التى يشتركرن فيها ويؤدونها معا على نسق واحد وعن عاطفة عامة شائعة بينهم على السواء، وليس من الضرورى ولا من المفروض أن يكون لهذا اللحن معنى معقولا لأن كونه معقولا أو غير معقول مرجعه إلى الفكر، ولكن العاطفة أسبق في تاريخ النشوء الإنساني من الفكر. إذن كان الشعر لأول ما عرفه الإنسان ألفاظًا مجموعة تكرر، وأسماء تتخلل الألفاظ، وعبارات لها قيمتها الإيحائية عند الجماعة لا أكثر، على الأرجح، وصرخات تند بين ذلك، مصبوبًا كل هذا في قالب موزون على حركات الجماعة في حفلاتها المختلفة لمناسبة زواج أو وفاة أو غير ذلك … ومعقول أن تكون الإشارات أو التلحين أبرز من سواهما في هذا الطور الساذج. ثم ماذا؟ ثم يا سيدى يجد عامل جديد يؤدى إلى التطور. كانت الجماعة متشاكلة الأفراد ولكن التميز يحدث، ويقوى الشعور بالذات شيئًا فشيئًا ويزداد الإحساس بالاستقلال ويبرز الفرد تدريجيّا ويأنس من نفسه مالا يأنس غيره من نفوسهم فلا يقنع بأن يبقى في حلقة الجماعة يردد ما يقولون وليس له من الشأن إلا مثل ما لكل منهم، ويندفع مجترئا على التقاليد — لأنه لا يسعه إلا هذا — ويعلو بصوته أصواتهم فيروعهم فتخفت أصواتهم قليلا ويمضون في حركاتهم ولكن عيونهم تتعلق به وآذانهم ترهف له فإذا به يستحدث مالا عهد لهم به ويدخل على ما كان قصاراهم أن يفعلوه، حوارًا مرتجلاً يقص به قصة ساذجة بطبيعة الحال. فيحسن وقع ذلك فى نفوسهم ويطيب لهم أن ينصتوا ولكن الطفرة محال كما يقولون فلا يصمتون كل الصمت بل يتعلقون بعبارة مما يسمعون منه فيرددونها وراءه كلما سكت. وليست هذه بالخطوة القصيرة. فقد كانت الجماعة قبل ذلك هي المؤلفة للأنشودة — إذا جاز إطلاق هذا اللفظ على ما كانوا على الأرجح يتصاخبون به — وليس للفرد الأمثل ما لسواه من الفضل. ولكن الجماعة بعد الآن بدأت تقتصر على الرقص والإشارات وتجتزئ بسماع ما يصيبه فرد في آذانها وبترديد عبارة معينة لا تعدوها وصار عمل الفرد في ابتكار القصة أو الحوار أبرز وأظهر وهو يروى ويقول ما تحضره الظروف في ذهنه وتجريه في باله وعلى لسانه، وهى تكتفى مما كانت تقوم به بمشاركة هذا الفرد في حالته النفسية وبترديد ما يوكل إليها ترديده. ئم تتوالى الخطوات متتابعة متلاحقة كالعلة تدور بصعوبة في مبدإ الأمر ثم تزداد إدارتها سهولة بعد ذلك. فيتضاءل عمل الجماعة من الاشتراك في التأليف إلى الاقتصار على الترديد إلى صيرورتها معينة بحركاتها للفرد على المحافظة على الوزن، ونمثل لذلك بفرق المغنين عندنا. تجتمع طائفة منهم هذا بعوده وذاك بقيثارته وذلك بقانونه أو مزماره وغير هؤلاء بحناجرهم! ثم يفتتحون العمل بتوقيع موسيقى لا يصحبه غناء ثم بموشح يوقعونه ويغنونه معًا حتى إذا انتهوا من ذلك شرع زعيمهم يغنى صوتًا ينفرد هو بأكثر مقطوعاته ويشترك معه الباقون في بعضها، وقد يغنى بعد ذلك موالا لا يشاركه فى غنائه أحد ولكن يظل ينقر له الموسيقى على وتر معين ليساعده على الاستمرار على تصور الصوت وعدم الخروج عنه. وليس هذا سوى مثل ضربناه تقريبًا للمسألة من الأفهام لا لنقيس هذا على ذاك. وهكذا يختفى أثر الجماعة تبعًا للتطور ويظهر الفرد حتى إذا تألفت تأليفًا سياسيّا وانتقل بذلك مركز الثقل ظهر الشاعر الفنى المستقل عن الجمهور وصار أمر الشعر كله إلى الفرد وأصبح هذا الشعر ديوانًا تقيد فيه الأخبار وتسجل حوادث التاريخ وأعمال الأبطال فيتسع الأفق ويرحب المجال أمام الشاعر ويغشى غمار الحرب والسياسة بعد أن كان لا يلم قديمًا فى شعره بغير المرأة، ويركض فى حلبة الحوادث العامة التي تمس حياة القبيلة أو الأمة ولا يقتصر على ما له علاقة بالأسرة أو النفس. وهكذا … والجماهير يبقى لها شعرها الخليق بمستواها. ولكنه لا يتقدم ولا يترقى. لأن مستوى الذكاء المتوسط يمنع شعر الجماهير أن يعلو ويسمو. وهذا هو حده. أما من يمتاز من الأفراد عن هذا المستوى ويرتفع عن طبقة الجماهير وحاجاتها وأذواقها فلا يبقى له محل إلا بين من يستطيعون أن يقدروا مزاياه التى انفرد بها وخلت به عن الجماهير. وإن أحدنا ليسمع الأنشودة في الأقصر ويسمع أخرى في القاهرة وثالثة في غير هاتين المدينتين فلا يملك إلا أن يحس كأن واضع هذه وتلك واحد إذ لا خلاف ولا فرق إلا فى النطق وإلا فيما تدعو إليه الأحوال المحلية التي لا تقدم ولا تؤخر ولا تمنع التشابه بل التطابق فيما هو جوهري.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/18/
المرأة واللغة
يقول شاعر قديم: وبهذا البيت المفرد لخص وظيفة الجنسين في نظره أوجز تلخيص وأقر به إلى الصواب وأشبهه بالحق. ولكن القافية جنت على المرأة، وساعدها في جنايتها عليها وظلمها لها تعصب الرجل لجنسه. ولعله بعد لم يعد ما كانت عليه الحال في زمنه، أو لعله لم يقصد إلى المقابلة بين وظيفة الرجل في الحياة ووظيفة المرأة فيها وإنما أراد أن يؤكد عظم ما هو موكول إلى الرجل ويجسم خطره ومشقته ويبرزه في أقوى صورة بأن يرفع قبالته ظاهر ما تكون عليه المرأة من خلو البال وفراغ اليد والاطمئنان والتنعم بمجهود الرجل. وعسى أن يكون قد شكا وتضجر من حيث أراد أن يباهى ويفخر. غير أنه على أى وجه قلبت بيته وإلى أى تأويل أخرجته، قد ظلم المرأة وغمطها حقها وجنف في حكمه وقسا عليها فيه وليس قى مقدورنا أن ننصفها نحن من كل وجه بمقال واحد، ولكنا على هذا سنحاول أن نصف بعض ما قامت به في تكوين هذه اللغة وفى تمكين رصيفنا القديم من إرسال بيته هذا الدائر على الألسنة إلى يومنا الحاضر. وما إلى ذلك من سبيل بغير أن نرد عقربى الساعة بضع مئات أو آلاف من السنين علمها عند ربك، وأن نكر راجعين إلى تلك الأيام البعيدة التى كانت الجماعات الإنسانية فيها ساذجة. أيام كان مكتوبًا على الرجل أن يخرج للصيد والقنص، والقتال أيضًا كما يقول شاعرنا، وعلى المرأة أن تقيم في مكانها لتعد الطعام ولتغزل وتهيئ الجلود وتصنع الأوانى وتأتى بالماء وتبنى الأكواخ وترضع الأطفال وتقوم على تربيتهم بينما يغشى الرجل الأحراش والأدغال والغاب ويفترع الجبال وينحدر إلى الأنهار. ولنفرض الاَن أن الحرب نائمة وأن الجماعة تزاول شتى أعمالها في أمن وسكون. في مثل هذه الأوقات يصبح الرجل فيحتمل أدواته كائنة ما كانت ويذهب إلى الماء لصيد الأسماك أو يصعد في الجبل أو يمضى إلى الغابة ليقنص الحيوان. وقد يخرج الرجال في طلب الصيد بأنواعه زرافات ولكنهم لا يلبثون بطبيعة الحالة أن يتفرقوا ويتشتتوا ولو قليلا، ويضطرهم ما هم فيه إلى الصمت أكثر الوقت لأنهم وهم يجوسون الأرض على الطريدة مكرهون أن يخففوا الوطء وأن يمنعوا الجلبة وأن يكتفوا حين يريدون التفاهم فيما بينهم باللمح والإشارة على الأكثر حتى لا يزعجوا الطير أو الحيوان فيفلت منهم وينجو. والمفاجأة هنا نصف الظفر ولا يكون الكر منجحًا إلا بتحريها، وقديما قال ابن الرومي: ومن أجل هذا لا يحسن بهم أن يتلاغطوا كأنهم في سمر، فلا معدى لهم عن الصمت في غاراتهم ولو كانوا كردوسًا متلاصقًا ليصيبوا الغرة ويقعوا على الفريسة. وليس معنى ذلك أنهم لا يتكلمون قط بل معناه أنهم أكثر ما يكونون في صمت يتواصون به ويلزمونه حتى يقضوا وطرهم ما ساعفتهم القدرة على الصمت وأطاقوه لأن طبيعة المهمة تقتضى ذلك وتحتمه إلى حد كبير. أما قبل أن يبلغوا مكان الصيد فهم يتلاغطون ويتضاغون ويعربون ما استطاعوا عن آمالهم التي يرجون أن يبلغوها في يومهم وعما يقدرون لأنفسهم من اللذة والمتعة في السعى وراءها وعما يتوقعون من سرور نسائهم وصغارهم حين يعودون بأكف ملأى وعباب محشوة وقامات معتدلة ورءوس مرفوعة، وقد يصف بعضهم لبعض ما كان في يوم سابق، وربما تضاحكوا بواحد منهم عثر وانكب على وجهه وهو يعدو وراء الطريدة أو رفسته فخر إلى الأرض أو انكسر به غصن فهوى وتدحرج … وأما وهم عائدون فقد يغنون ويرقصون سرورًا بما أصابوا ويتحدثون بفعالهم — هذا بسرعته وذاك بإحكام رميته وذلك بجرأته ورابع بكثرة ما أصاب، وهكذا. حتى إذا بلغوا محلتهم ألقى كل منهم إلى المرأة وبه من الزهو ما يصده عن الكلام أو من التعب ما يغريه بالانصراف عنه والتماس الراحة. ولكنهم في أثناء الطرد والصيد يصمتون أكثر الوقت كما قدمنا. ولما كان الصيد يستغرق أكثر النهار فهم أكثر النهار قليلو الكلام! وندعهم في صيدهم ونعود إلى المرأة. فإذا بها بين أترابها لا يضطرها عملها إلى الوحدة. فهى على الأغلب تباشره في جماعة منهن قليلة أوكثيرة وفى يد كل منهن عملها كائنًا ما كان وهن في أثناء ذلك لا تستريح ألسنتهن في حلوقهن ولا تنقطع عن الجرى، كعادة النساء في كل عصر ومصر. فإن النساء أكثر كلاما من الرجال. وقد يجلس إلى صاحبه وينقضى أكثر الوقت بينهما وكلاهما مطبق الفم. أما النساء فهذا هو المستحيل عليهن! ومتى جلست امرأتان في هذه الدنيا صامتتين؟ إن المرأة لا تصمت ولا تكف عن الكلام إلا إذا عجز لسانها عن الجرى وانقطعت أنفاسها لأن الكلام لا يكلفها نصبا عقليا، وإن الرجل منا ليشهد مجالس النساء فلا يسعه إلا أن يعجب لهن من أين يأتين بمادة الحديث! لقد كنت أعد نفسى في الرجال مهذارًا كثير الثرثرة فإذا بإحدى السيدات الفضليات تزعمنى صموتا!! وما أكثر الرجال الذين يشكون من متاعبهم العائلية عجزهم عن مواصلة الحديث الفارع وتقصيرهم فى واجب الثرثرة! واللغة الكلامية إنما تتقرر وتصقل ألفاظها بالتكرار، وليس يكفى أن ينطق فرد بكلمة أو ينحتها ويستعملها مرة وإنما تشيع اللفظة ويعم استعمالها بتكرر الحاجة إليها وكثرة ترديدها من جراء ذلك. ولقد نحت جونسون الكاتب الإنجليزى المشهور مئات من الألفاظ من اللغة اللاتينية واستعملها في كتاباته وعدل بها عما يؤدى معناها من الكلمات الإنجليزية المستعملة وآثرها عليها لموافقتها لمزاجه ولما فيها من الطنطنة المرضية لذوقه. ثم مات جونسون وذهب في سبيل من غبر، فدفنت ألفاظه التى نحتها معه ولف عليه وعليها كفن. ولم يعش بعده منها إلا النزر الذى سد حاجة وملأ فراغًا. وكم في لغتنا العربية مثلا من ألفاظ يخطئها الحصر لا تدور على الألسنة ولا تجرى بها الأقلام؟ كم يستعمل حتى أشد الناس حذلقة من هذه الألفاظ الميتة؟ ما حاجتنا إلى خمسمائة اسم للسيف أو صفة له على الأصح ونحن لا نكاد نذكر السيف؟ فموافقة اللفظ للحاجة وتكرر استعماله ولوكه مرة بعد أخرى، هذا هو الذى يذيع اللفظ ويشيع استعماله ويجعله مادة حية فى اللغة. وفضل النساء فى ذلك عظيم. هن الثرثارات اللائى يخدمن اللغة ويقررنها بالتداول ويشعنها فى الجماعة ويدرنها على ألسنتها ويثبتنها فى الذاكرة. يجىء إليهن الرجل بقنصه ويقص عليهن ما جرى له فى يومه وقلما يعيد القصة ولكن المرأة تحكيها لأترابها مائة مرة ومرة وعلى مائة صورة وصورة، تارة بإفاضة وأخرى بإيجاز وطورًا توشيها بأخيلتها الحسية وطورًا تطرزها بوصف هيئة الرجل وهو يلقى قصته، أو بنعت ما تقدره فيه من المزايا والصفات، وتخرج من ذلك وتستطرد إلى مائة موضوع اَخر قد يعيى الرجل أن يلمح الصلة التى تربط هذه المواضيع بالحكاية الأصلية. أضف إلى ذلك ما لا تفتأ تتحدث به عن عملها أو أعمالها هي وأكثرها في الأطوار الأولى من نشوء الجماعات الإنسانية صناعى أو أدخل فى باب الصناعة مما عداه. والأطفال؟ أليس يدع الرجل أمر تعليمهم الأول إلى المرأة؟ هى التي تغذى الطفل وتنشئه وتعلمه الكلام بما لا تنفك تصبه في أذنيه من عبارات لها معنى أو ليس لها معنى. وتفعم له ذاكرته بالمحصول الأول من اللغة، وتعد له أول ما يلزمه من الذخيرة في رحلة حياته. فليست المرأة فقط عاملا لا يستهان به في تقرير اللغة الكلامية وصقلها بل هي أيضًا أول معلم نتلقى هذه اللغة عنه ونحذقها منه. ولا نريد أن نقف هنا أو نقتصر على هذا، بل نجاوزه ونقول إن المرأة من أكبر عوامل التوحيد في اللغات أو التشابه بينها. ذلك أن المرأة لم يكتب عليها الحرب والقتال كما يقول شاعرنا القديم. وإنما كتب ذلك على الرجال دونها. ولم يتصل بنا ولا قرأنا أن النساء في أى عصر كن يقاتلن إلى جانب الرجال ويتولين الحرب مثلهم. ولكنهن مع ذلك كتب عليهن السبى. يلتقى الجيشان ويقتتلان ما شاءا حتى يقهر أحدهما خصمه. وليس يندر ولا سيما في الحروب القديمة أن يعمل الظافر السيف أو ما يقوم مقامه من أدوات الطعن والضرب في أقفية المنهزمين وأن يتعقبهم إلى ديارهم وأن يقتل منهم حتى من يضعون السلاح ويسلمون. ولكنه ندر أن يقتل المنتصرون النساء وإنما يسبونهن ويحملونهن معهم في عودهم إلى محلاتهم في جملة ما يحملون من غنائم الحرب ويقتسمونهن اقتسام غيرهن من الأسلاب. وقد كانت الحروب في الأزمنة السابقة أكثر وإن لم تكن على هذا أفتك أو أهول منها الاَن، وقل أن كانت تنتهى حرب بدون سبى. بل لعلنا لا نخطىء جدّا حين نقول إن الرغبة في السبى كانت من أكبر مثيرات الحروب وبواعثها. فهل يحسب أحد أن الخود اللواتى كن يسبين في حروب آبائنا الأقدمين كانت تقطع ألسنتهن وتقتلع من أصولها أو توضع على أفواههن الكمائم؟ لسنا نظن أحدًا سيدعى ذلك أو يقول به. وكيف كان يحدث التفاهم بين المسبية ومن صارت من نصيبه؟ كان يستعصى ذلك فى أول أيام المعاشرة وكانت الإشارات والحركات وملامح الوجه ونظرات العين تغنى فى ذلك بعض الغناء ثم يعتاد كل منهما أن يقرن اللفظة التى يسمعها بالحركة أو الإشارة أو النظرة أو غير ذلك مما يصحبها ويفهم منها ما يستخلصه من اجتماع ذلك. فيزيد محفوظه ومحفوظها ويدخل فى لغتها ولغته الجديد من الألفاظ والأوضاع وطريقة التعبير يؤدى ذلك مع التكرار إلى التقارب من بعض النواحى بين اللغتين. ولقد ذكرنا الحرب ولكنها لم تكن الوسيلة الوحيدة لإحداث هذا الاختلاط والتشابه بين اللغات. فقد كانت الهجرة كثيرة والخطف مستمرا، ولما كانت المرأة بطبيعتها أو بطبيعة وظيفتها أكثر كلامًا من الرجل وكان نطاق أحاديثها أوسع ومادتها أوفر وكان سبيها أعم لذلك كان من المعقول أن تكون المرأة صاحبة الفضل الأكبر فى بذر الألفاظ وما تنطوى عليه من الإحساسات والخواطر. وحتى هنا لا نريد أن نقف. فإنه ليس يكفى أن تخترع اللفظة أو تنحتها أو تشتقها لما تمس الحاجة إلى العبارة عنه. فإن الاحتفاظ بهذه اللفظة الجديدة لازم للغة مثل اختراعها أو اشتقاقها. وليس تغنى اللغة وتبقى لها ثروتها إلا بهذا الاحتفاظ ولا أعون على ذلك من المرأة … ولا تنس أن كلامنا كله دائر على الماضي البعيد لا على الحاضر ولا الأمس القريب. وكما أن المرأة كانت أحسن معاجم اللغة، كذلك كانت أداة المحافظة عليها وتوريثها الأجيال التالية. ذلك أن المرأة هى التى قامت بالصناعات اللازمة للإنسان بينما كان الرجل يتولى الصيد ويباشر الحرب. وهذه الصناعات بقيت على الأيام لأنها من ألزم اللوازم الأولية، وقد طرأ عليها تحوير كثير وتولدت منها أخرى وتعددت وتنوعت، ولكن الحقيقة بقيت دون أن يلحقها تغيير. وهذه الحقيقة هى أن المرأة هى مخترعة الصناعات الأولى. ومن غير المعقول كما أسلفنا أن تزاول المرأة أعمالها يوما بعد يوم دون أن يتحدر لسانها بالكلام على ما تفعل. بل المعقول والذى لا يقبل سواه هو أنها كانت تهضب بالكلام وتسح بلا انقطاع، وأنها سمت الأشياء أسماءها وأوجدت لها نعوتها وافتنت فى ذلك وما هو بسبيله إلى المدى الذى استطاعته. ولما كانت أعمالها مستمرة متوارثة فقد ثبت معها ما تعلق بها من الكلام وصار جزءًا أصليّا من اللغة وأتيحت له فرصة البقاء. وقديمًا لاحظوا أن المرأة على فرط شغفها بالجديد وجريها وراءه وتعلقها به، أكثر «محافظة» من الرجل. ولعله ليس من الخطأ الشديد أن نقول إنها كالذاكرة للنوع. وحسبك أن تتأمل فضلها فى المحافظة على الأساطير والخرافات وأغانى الجماعة وأقاصيصها وحكاياتها. ومن من الرجال يحفظ مثل ما تحفظه المرأة من الأغاني والأساطير؟ إن القارئ خليق أن ينصف المرأة من هذه الوجهة إذا تفضل وذكر جلساته إلى إحدى العجائز في طفولته وصدر أيامه وإلحاحه عليها في أن تقص عليه بعض ما تحفظ من الأساطير والحكايات المروية عن العفاريت والمردة والوحولش وما إلى ذلك. وهى التى تغنى للطفل لينام أو ليكف عن البكاء أو ليهدأ وتسكن نفسه كما لا يحسن الرجل أن يفعل … ونحن الآن في عصر المطابع فلا يسعنا أن نقدر على وجه الدقة قيمة ذلك في العصور الخالية قبل أن توجد المطابع بل قبل أن يهتدى الإنسان إلى طريقة يكتب بها الكلام ويدونه … فى تلك العصور كانت المرأة هي ذاكرة الجماعة ومكتبتها وديوان أخبارها وأغانيها وآمالها وحكمها إن كان لها من ذلك شىء قليل أو كثير. وما زلنا إلى الاَن نرى المرأة أحفظ للأمثال وأشد إحاطة بها. وإذا تدبرنا ذلك كما ينبغى أن نتدبره أفيكون مخطئا من يقول إن المرأة كانت من أكبر العوامل في المحافظة على اللغة وفى صون ثروتها ومساعدتها على الاتساع والنمو تبعًا لذلك؟ هذا وجه أو وجوه مما كان للمرأة من الفضل على اللغة. ثم وجوه أخرى بعضها يسهل الغوص عليه والبعض يشق مطلبه ويعز مناله. ولسنا نستطيع أن نلم بكل أوجه البحث في مقال واحد، ولذلك نرجئ التتمة ولا سيما الفرق بين لغتي الرجل والمرأة، إلى فرصة أخرى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/19/
بين السماء والأرض
قالت الفتاة للفتى — إن كان ابن خمس وثلاثين يعد في الفتيان: «هذا أنا … قد جئت …». فمد إليها يده، ولكنها لم تصافحه، فقال: «أهو كبر ما بنا أم جفوة؟». «لا كبر ولا جفوة … وإنما أنا مغيظة». «منى؟». «كلا!». «ممن إذن؟». «لماذا تسأل؟ … من نفسى …». «مسكينة يا فتاتى؟ وماذا صنعت مما يورث كل هذا الأسف؟». «لست آسفة على شىء … وهذا ما يغضبنى! ولو وجدت للأسف مسا لكبرت في عين نفسي …». وكانت الليلة مظلمة والرياح كالمجنونة، ولا يكاد أحدهما يحس من صاحبه — وهما مستندان إلى سور السطح — غير صوته، فقال: «أنت في عينى كبيرة وجليلة». فلان ما كان متجمدًا من نظراتها، وسلس الصعب من جانبها، ورقت حاشيتها، وانسجم صوتها، ودنت منه ووضعت يمناها على كتفه وأقبلت عليه تسائله: أصحيح ما يزعم؟ أحق أنه يكبرها وسيظل يكبرها على الرغم مما فعلت ومما تفعل؟ فقال، وتناول يدها في يده: «وماذا فعلت يا فتاتى؟ أو ماذا تفعلين الآن أكثر من أنك قد جئت تؤنسين وحشتى تحت عيون هذه النجوم؟». فرفعت وجهها إليه ورمته بعين مفتوحة كمغمضة، وقالت: «أو هذا كل شىء؟». «كل شئ الآن … إلى الآن». ولبثا هنيهة صامتين تحت هذه السماء المهولة المتلامحة النجوم، ثم قالت: «ماذا كنت تريد أن تقول لى؟». «متى؟». «ونحن على الطعام؟». فاربد وجهه ولكنها لم تره في ظلمة الليل، ولم تدر ماذا عانى حتى عاد محياه يرف لها بينما كانت هى تجذبه من كتفه وتلح عليه بالسؤال: «كنت أريد أن أقول إن هذا لذيذ» بابتسامة متكلفة. «ما هو؟». «كون يدك في يدى!». فانتزعتها وقالت: «لقد أنسيت أنها في يدك». «انسيها مرة أخرى!» «لا أستطيع». «تناسيها إذن!». «كلا!». «هل من سبب؟». «لا!» ممطوطهّ طويلة. وتناول يدها وسكتا مرة أخرى وتكلم بينهما الهوى. ••• وقالت: «لن أفعل هذا مرة أخرى!». «لن تفعلى ماذا يا فتاتي؟». «ألقاك هكذا! هى الأولى والأخيرة!». فابتسم صاحبها ابتسامة فيها من الحنان والعطف عليها وعلى نفسه أكثر مما فيها من صبابة الحب وقال: «لا أدرى أى سحر ضربته على حتى صرت، كلما عزمت أن أروض نفسى على مراجعة الصبر فيك، لا تكاد عينى تأخذك حتى يتحلل العزم — في كل يوم أعالج أن أراود نفسى على مكروهها ثم ما هو إلا أن أراك، أو أن تخطر في القلب ذكراك، حتى أنسى كل شىء سواك، ولا يبقى لى منى إلاك!». «وماذا تريد أن تصنع بى؟». «ماذا؟ أريد أن أحملك معى وأخفيك حتى عن عيون أخوتك! هذا ما أريد! إن رأسى ليدور حين أرى أخاك أو ابن عمك أو ابن خالك أو أحدًا من الخلق ينظر إليك! ولكن لك قدرة على المباعدة والمجافاة حين تشائين، وإنى ليخيل لى أحيانًا أن تناسخ الأرواح حق وأنك أنت برونهيلده بعينها يحيط بها سور النار الذى حولها». «ليتنى كنتها!! ليت حول كل فتاة مثل هذا السور من النار! تمتحن به من ينشد قلبها!». «بحسبك غرائزك النسوية سورا من النار». «ولكن ألا تعرف أن ما تبغى عسير لا يقع في الإمكان؟ فما جدوى هذا الذي نحن فيه؟». «أعرف؟ من أين لى علم هذا؟ كل ما أعلمه أن أهلك حمقى وأنهم يضحون بك في سبيل … لا تضعى يدك على فمى! دعينى أتكلم! إنهم يحولون دوننا تقديمًا لغيرى على، وقد علموا أنك لى لا محيد عن ذلك، عن رضا منهم أو محمولين على مكروههم!». وفى هذه اللحظة دفعتها الريح إلى صدره فأسكره قربها وأخذ منه شذا شعرها. فضحك ضحكة عصبية ورفع وجهها إليه وأهوى على فمها يقبله في بساطة كأنما كان هذا حقّا له، وهى تجاهد وتعالج أن تفلت من عناقه ويأبى هو أن يدعها. «إنك …». وعضت شفتها وردت اللفظة التى همت بها. «أنا أى شىء؟ قوليها! اقذفى بها في وجهى!». «وحش! فظيع! هذا أنت! دعنى!». غير أنه لم يدعها بل ضمها وهو يضحك في رقة وجذل وسكر حتى همست في أذنه: «لم أكن أعنى ما قلت كما تعلم». «لم تعنيه أبدًا بالطبع». وقبلها ثانية. وقالت وقد تخلصت من عناقه: «كيف تعيدها وقد وعدت ألا تفعل؟». «أنا؟ متى وعدت؟». «كيف تسأل يا …». «يا وحش! قوليها!». «ولكن أليس لك ضمير؟». «ضمير؟ يا له من سؤال؟ بالطبع لى ضمير!». «لا أراك تحفل به الليلة!». «أنا في شغل عنه! قبلينى!». «أى فكرة؟!» «افعلى». «مستحيل». «من فضلك». «مستحيل! قلت مستحيل». «إذن تعالى أقبلك». «ولا هذا». «لم لا؟ ألا يسرك أن تكونى محبوبة؟». والتفت حول خصرها ذراعه، ووجدت شفتاه السبيل إلى شفتيها، فهل هذا معنى أن تكون محبوبة؟ وهل هى له كما سمعته يقول بلهجة اليقين؟ إنها على كل حال لم تعد تحس أن لها في نفسها كثيرًا أو قليلاً! فيا ليت من يدريها ماذا أصابها ففترها وأفقدها الإرادة والقدرة على ضبط نفسها، وعلى أنها لم تعد تكترث لذلك أو تفكر فيه، فقد كان الدم يتدفق كالمجنون في عروقها! «أمصغ أنت؟». «نعم» بصوت تخفته عربدة الشفتين في نحرها. «إنى أعلم أنى وقعت من قلبك. لا شك في ذلك، وإلا ما فعلت الليلة ما فعلت، ولكن أي فتاة تستطيع أن تفتنك عن نفسك ساعة. وما أحب أن يكون هذا أثرى عندك ولا أن يسهل تلهيك عنى وتعللك بالدنيا. ولقد أردت أن أهبك ما تذكرنى به — ما يطيل ادكارك لى. ألا تفهم الآن لماذا تركتك تقبلنى هكذا؟ إنه الزهو والغرور والأنانية … «بل قولى إنه الحب …». «هو هذا وذاك، ولكنى أردت أن تذكرنى …». «أوتحسبين أن نفسي ستطيب عنك؟». «أخشى!». «لماذا؟». «كل امرئ ينسى القبلة بعد أن تبترد شفتاه». «من علمك هذا يا …». والتقت شفاههما في قبلة طويلة، ثم تناولت خديه بين راحتيها وقالت: «دعنى أذهب الآن». ولكنه ضمها وهو يقول: «أدعك؟ كلا! أنا أيضًا أخشى أن تتسربى في الهواء إذا تركتك». «كلا! لا تخف». وعاطته التقبيل وخنقت صوتها العبرات وهى تلح عليه أن يدعها فسألها: «أواثقة أنت أنك تريدين أن تمضى؟». «كلا! ولكنى واثقة أنه «يجب» أن أذهب». فخلاها فتراجعت قليلا ثم أصلحت ثيابها وشعرها والتفتت إليه وهى تقول: «لا يشق عليك ما يقول أهلى. وأيقن أنى … على … ولكن ليتنى أكون أنا على يقين من وفائك!». ومضت أخف من الفراشة! ••• «أنا صاحب هذه الذكرى. وهى كل ما خرجت به، وإنى لأحييها في كل شهر مرة — في الليلة الظلماء المفتقدة البدر — لأن ليلتنا كانت حالكة، ولأن الليل أوقع ما يكون في صدري حين أرسل اللحظ أريد لأخرق به أحشاء الظلماء فتشف لى عن نجوم السماء ويرتد عما دونها كليلا حسيرًا، وأروع ما تكون السماء عندى، حين تتنقل العين في أجوازها المرعبة فلا نقطع منها سوى بيد هائلة عن بيد أشد هولا … كذلك كانت ليلتى وكذلك أريد أن تكون ذكراها في مثلها. فأصعد إلى السطح وأتكىء على السور وأنظر إلى السماء كما كنا ننظر. هي مفتونة بجمالها وأنا يكاد يسحقنى الرعب إذ أجيل عينى في فيافيها اللانهائية وأقول لها فيما أقول كأنما كان يعنينى أن أنغص عليها متعتها: «ثقى بأن هذه السماء ليست مجعولة للإنسان مهما تكن علة وجودها، وإنه لا شىء في الأرض أو فى السماء مجعول لهذا المخلوق الذى يحسبه الفارغون مركز الدائرة ومحور الوجود! بل ليس أقدر من هذه السماء على إشعار الإنسان ضآلته أو لا شيئيته إذا شئت». فتدير إلى وجهها وتقول وهي لا تفهم حرفًا من كلامى: «ماذا يوجد بين هذه النجوم؟». فأقول: «يوجد — إن صح التعبير بلفظ الوجود — صحراوات فضاء مظلمة تركها من يعلم السر، بلا شموس، وتوجد أوقيانوسات من الفراغ لا آخر لها يجمد الفكر كلما حاول أن يتصورها. هذا ما يوجد!». فتصمت ولا يبدو عليها أنها فهمت فأمضى وكأنى أحدث نفسي وقد شعرت فجأة، على كل حبها، كأنما بيني وبينها بعد ما بين الأرض والمشترى. «وهذه السماء التى يسحق النفس جلالها المرعب! ويهول الخاطر أن يقذف به في أجوازها اللانهائية … ليس جمالها الذى يسحرك بالخالد ولا الباقى! حتى هذه مرجوع وهاجها رماد! انظرى هذا النجم الذى يكاد يخبو وميضه بين أخوته نجوم الدب الاكبر! لقد كان منذ بضعة قرون يخفق مثلها لمعانا! فليس يخلو كل هذا الجلال من دواعى الرثاء!! وتصورى هذه النجوم كلها قد خمدت! تصورى عقلك يتلمس طريقه في سماء مظلمة خبا فيها كل ما كان يضىء!! تصورى عقلك يصطدم في ظلمة الكون بقطعة كابية من هذه الكواكب!! نحى عينك! غضى بصرك من السماء إذا أردت أن تستبقى بشاشة نفسك!». فتفزع وتقبن على وتسند رأسها الصغير إلى كتفى هذه وتريح خدها على جانب صدرى وتعلق يسراها بكتفى الأخرى فأمسح لها شعرها حتى يزايلها الخوف … وإنى لأراها الآن كما كانت في تلك الليلة وإن كنت أنا هنا وهي هناك: وبيننا ما بيننا من الأبعاد. وآه لو أن كل ما بيننا فرسخ أو فراسخ! إذن لأمكن أن نبتسم! وقد يعزينى — لو أن هذا مما يعزى — أننا، سعدنا أو شقينا، سنذهب كما ذهب من كانوا قبلنا وأن الدنيا ستومض فيها عيون غير عيوننا وتخفق فيها قلوب أخرى، وترهق عقول جديدة، وأنها ستشهد أشجاء طريفة تندب ومسرات ومباهج حديثة تطلب ويستعز بها، على حين نعود نحن كما سيعود كل شئ قبضة من تراب! ولكني أحيى هذه الذكرى على خلاف ما تتوهم، فإن الهواء هنا لم يهف باسمها ولا خفق على موجاته للشدو بمفاتنها، والعيون التى تجتلى هذا الفضاء الرهيب لم تتلاق مع لحاظها، وظلها لم يرتم على هذه الرمال، وقدمها الدقيقة لم تطأ ذراتها — كلا! ما من شئ هنا يعرفها أويحمل ذكرها على صدره كما أحمل على صدري حبها، فسبيلي أن أعتمد على سور السطح وأظل كذلك حتى أعود وقد شاطرت ما حولي عدم الشعور بها!». ثم أمسك وقال بعد إطراقة قصيرة: «والآن فلنشرب كأسا على هذه الذكرى».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/20/
المفعول المطلق
ليسمح لى القارئ أن أكون كما خلقنى الله، وأن أسوق إليه الكلام على طريقتى التى أوثرها والتى تلاثم مزاجى ولا تنافى ما بنيت عليه. وقد شاء ربك أن يخلقنى بعين لا تفتأ كلما وقعت على شىء تنثنى مرتدة إلى نفسى تدير فيها حملاقها مفتشة باحثة منقبة، ثم يهتف بى هاتف من ضمير الفؤاد أن هات «المسطرة»، فأمد إليها يدى وأذهب أقيس الأبعاد بين ما كنت وما أنا اليوم. وقد اتفق لى أمس أن أذهب إلى «إدارة الجريدة» في شأن لى فجاءنى من وكلت إليه الإشراف على تحريرها في غيبتى يسألنى أن أراجع كلمة كتبها أحد الزملاء، فيها إشارة إلى اصطلاح نحوى … فلما كان الليل اَويت إلى فراشى وفى مرجوى أن يجيرنى النوم من أوصاب ما أعانيه فرأيت في منامى، وقلما أذكر أحلامى، كأنى بلمتى التى وخطها الشيب — قد عدت تلميذًا، وكان شيخ من أساتذتى، رحمه الله، يختبر الفرقة فى «المفعول المطلق» ولكن الأستاذ كان فيما بدا لى أشبه برئيس جلسة منه بمعلم صبيان، وكان كلامنا نحن التلاميذ «الكبار» أشبه بالخطب والمناقشات البرلمانية. ثم أفقت من حلمى وابتسمت، فقد ذكرت بحلمى هذا الذى جره على زميلى، أستاذًا لى في التعليم الابتدائى أعياه أن يفهمنى «المفعول المطلق» ويوقفنى على «سره» ويحل لى «لغزه» … وكان كلما عرضت مناسبة، يقول لى «يا بن عبد القادر» — فأقول «نعم». فيسألنى: ما هو «المفعول المطلق»؟ ولم يكن من عادتى أن أحمل شيئًا — وبخاصة هذا المفعول المطلق — على ظهر قلبى من كتب التعليم. فكنت أقف جامدًا، وفمى مفتوح وعينى إلى وجهه، ولسانى كأنما استل من حلقى، ويدى تغمز جارى الحافظ الذى لا يهمل حتى يهمس بالتعريف المطلوب فألقيه إليه وأهم بالجلوس وقد ظننت أنى نجوت … وكان يعرف أنى مجاج الأذن فيسألنى الإعادة فأتلعثم وألعن من أصبحت على وجوههم! وقد يتجاوز عن الإعادة ويقول «مثل» وهنا الطامة الكبرى! «مثل»؟! وكيف آتيه بمثال! لما انتهيت منه إلى اليأس من فهمه؟! وكثيرًا ما كنت قبل ابتداء الدرس أتفق مع جار لى أبله على أن ينهض في أثرى ويجيب عنى إذا أعيانى سؤال غير منتظر فكان يبر بوعده ويفعل فيتحول إليه سخط المعلم، ويحل به وحده غضبه، فأدعهما وأقعد وأنجو بهذه الحيلة التي لم تكن تجوز إلا على هذا الجار المغفل! مر ببالى هذا وما إليه من حوادث الصبا على عهد التلمذة، كما تمر أشرطة الصور المتحركة على عين الناظر، فقلت لنفسى — وأنا مستلق على فراشى — إن من حق المفعول المطلق أن يكون له هذا الشأن في صدر أيامى فقد كان له شأن ضخم في حداثة الدنيا أو من عليها من الآدميين. وكما أن آباءنا الأولين لم يعرفوه إلا بعد عصور لا يعلم طولها إلا الله، من معاناة أزم التعبير عما في نفوسهم كذلك أنت «يا ابن عبد القادر» لا عيب عليك إذا كابدت منه نصبًا. والواقع أن هذا «المفعول المطلق» يمثل فى تاريخ النشوء اللغوى خطوة انتقال اتسع بعدها الأفق ورحب على أثرها المجال، وتفتحت أبواب التعبير المغلقة. واللغات — كما يعلم القارئ أو كما لا يعلم! — لم يجدها الإنسان تامة ناضجة مستوفية كل ما يحتاج إليه الرجل للعبارة عن مراده، وإنما نشأت على الأيام واتسعت شيئًا فشيئًا على قدر الحاجة وهى لا تزال إلى الاَن — وستظل — تنمو وترحب وتحيط بما كانت تقصر عنه أداتها. ومن شاء أن يقدر فضل المفعول المطلق على اللغة وعلى العقل الإنسانى أيضًا فليتصورها مجردة منه ولينظر إليها كيف تعود؟ أو إلى أى حد تضيق؟ وقد يتعذر تقدير ذلك على وجه الدقة لأننا الاَن ميراث واحد لها جميعًا. ولكن ما دلالة هذا؟ ولأى غرض نورده؟ دلالته القريبة أن الشعوب التي تتشابه لغاتها في هذا وغيره كانت قد اجتازت مرحلة البداوة وقضت أزمنة مديدة في ظل السلام قبل أن تتفرق ويذهب كل منها في ناحية وتكتسب كل لغة على أثر هذا التفرق شخصيتها وطابعها الذى تمتاز به، فنشات في كل شعب أجيال نحتت لنفسها ما تحتاج إليه من ألفاظ الحرب والمغامرة. ••• دارت بنفسى هذه الخواطر وأنا راقد، وعينى تنظر من النافذة إلى القمر الذي ينام ضوءه اللين على صدري فمددت يدي، إلى المنضدة المجاورة وقد أنساني النظر إلى القمر أنى لم أعد أعنى بإعداد الورق والأقلام إلى جانبي قبل أن أنام وأنى انقطعت منذ سنين عن استيحاء بنات الليل واستلهام طيوف الظلماء، وأنه ردني عن ذاك وصرفني عنه من جعل حاجتي إلى هذه الزجاجات من الدواء.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/21/
الذكورة والأنوثة
… الناس في هذه الأيام آنق أزياء، وأنظف ثيابًا، وأبهج بزة منهم في أى عهد مضى. ولست أذكر أنى قبل خمسة وعشرين عامًا كنت أفنديّا يلبس طربوشا مبطنا بالخوص والحرير، أو يرتدى غير السترة الإستامبولية القديمة ذات الزرارين اللذين يجمعان طرفى بنيقتها على الرقبة والتى يبدو فيها المرء كأنه مربوط من عنقه … حتى الأحذية كانت أكثر ما تكون سوداء، ولم تكن الأقمصة الإفرنجية تتعدد ألوانها وكان الأغلب فيها أن تكون بيضاء لامعة قوراء، ولم يكن الشيوخ يعنون — على الأعم — بإحكام التفصيل ودقة انسجام القفطان أو الجبة على أبدانهم أو بتحرى أن يكون لون «الحزام» مجاوبًا لصبغة القفطان، أو بأن تكون لفة «الشال» على طربوش العمامة بارعة الشكل تخفى من الطربوش بقدر وتبدى منه بقدر. أما النساء فكان زيهن إذا برزن إلى الشوارع يصد العين عن النظر، ولم يكن الواحد يدرى: أهى آدمية تلك الملفوفة في ملاءتها أم حشوها زف يبعثره الريح؟ فالآن صارت العين تتعب من النظر إلى مجالى الذوق حتى في الطرقات، ودع عنك المجتمعات والسهرات … نعم، لا فرق الاَن مثلا بين أزياء المحصنات وغيرهن، ولكن لا بأس، سيتميزن بغير الأزياء. وصحيح أن الرجال والنساء تقاربوا — حسن أيضًا ليس في الإمكان أبدع مما كان! … لا أدرى ممن سمعت؛ أو أين قرأت هذه العبارة، وهى أن الله سبحانه وتعالى وكل إلى ملك معين من ملائكته أن يسبح بحمده جل وعلا على أن أنعم على الرجال باللحى وعلى النساء بالشعر الطويل. والله وحده أعلم بصحة ذلك ولكنى أحسب الملك الموكول إليه هذا الواجب — إن صح الخبر — قد جدت على صوته نبرة تهكم لاذع … علينا نحن بنى آدم الفانين. ومع ذلك لماذا؟ أمن أجل أن النساء يقصصن شعورهن ويتشبهن بالرجال في بعض أرديتهن، وأن الرجال يحلقن — معذرة! فسيختلط الأمر بكرهي وكرهكم — يحلقون شواربهم ولحاهم ويتخذون من الثياب ما لا يخلص الهواء بينه وبين الجسم — أمن أجل ذلك يكون الأمر مدعاة لنبرة سخر ترتفع من تسبيحة الشكر؟ إن الصحيح فسيولوجيا هو أن الآدمي خليط من عناصر الذكورة والأنوثة، وأن نسبة هذا الخليط لا معروفة ولا محدودة، وأن درجات التفاوت فيها كثيرة، وأن هذه العناصر يقوى بعضها أو يضعف على مدار الحياة … فلكل واحد من الذكور حظ ضئيل أو كبير من الأنوثة، ولكل أنثى نصيب كذلك من الذكورة، ومن هنا يكون الشاب الذى هو في رأي العين وفى إحساس النفس به وتقديرها لصفاته، أشبه بالأنثى، ومن هنا أيضًا النساء المترجلات أو اللواتى هن بالرجال أشبه وإليهم أقرب. والمعضل الذى يعنينى أن أحله هو: هل فقد الرجال ما كان لهم فيما مضى من القدرة على اجتذاب المرأة والاستيلاء على هواها بما كان لهم من صفات طبيعية؟ أم أصبحت الرجولة التى كانت تجدى عليهم قديمًا في معركة الجنسية لا تنيلهم شيئًا الاَن؟ أم ضعف إحساس المرأة بهذه الصفات وانحط تقديرها للمزايا الجنسية الطبيعية؟ أو اجعل السؤال من الناحية الأخرى: شهدنا زمنا كانت فيه المرأة إذا بدا منها خنصرها من تحت الملاءة أو ما يماثلها ولمحته عين الرجل شهق وفهق وانتابته كالحمى، فالآن تبدو له نصف كاسية — أو نصف عارية — وما استتر من جثمانها فى حكم الظاهر من فرط الدقة فى جعل التفصيل كفيلا بعرض المحاسن وجلو المفاتن، ومع ذلك لا يكاد الرجل يزيد على الإعراب عن الإعجاب الفاتر، فهل تبرز المرأة الاَن على هذه الصورة المجلوة لأنها تحس أن صفات الرجولة فى الرجل قد ضعفت؟ أم هي بدأت تتجرد وتتزين شيئًا فشيئًا وسايرها هو في إحساسه بجلوتها فألف هذا التجرد والتزين درجة فدرجة فهي أبدا تعالج إن توقظ إحساسه بالجديد فالأجد وهو لا يكاد يألف جديدًا حتى يفتر عن إجابة ما يهيب به منه؟ … نسيت أمس الحرب العظمى وما أفقدت الرجال وكلفت جنسهم من خسارة فادحة في مادة الرجولة لا تعوض في الأجيال، وكيف احتاج الأمر أن يحل النساء محل الرجال وأن يملأن فراغهم في شتى الأعمال، وكيف أنمى ذلك صفات الذكورة فيهن، وكيف تحفظن بالمنزلة التي رقين إليها ولم ينزلن عنها، ثم انتقلت عدوى ذلك من الغرب إلى الشرق كالعادة. مثال لتأثير الحرب … موافقة مجلس العموم الإنجليزى بسهولة وسرعة على تخويل المرأة حق النيابة عن الأمة كالرجل، وقد ظلت النساء في إنجلترا يجاهدن أعنف جهاد بضع عشرة سنة لينلن حق التصويت فقط! إلخ إلخ.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/22/
الإنسان مخلوق غير شريف
… يخيل لى أن الشرف والنزاهة وعفة اليد وسائر ما يجرى هذا المجرى، مما لم يركب في طبع الإنسان ولم يفطر عليه. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن الإنسان بطبعه مخلوق غير شريف!! والدليل حاضر. وهو هذه الآلاف من الأوامر والنواهى والأقاصيص وما إليها مما يقصد به الحث على هذه الفضائل ومجانبة أضدادها. ولو أن الإنسان كان كذلك بفطرته وكان الأغلب والأعم فيمن تلقى من الناس عفيفًا نزيها شريفًا لما احتاج الأمر إلى كل ما في هذه الكتب مما أشرنا إليه. وكثيرًا ما خطر لى أن أسأل: لماذا اتفق أن تجد من يحضك على مزاولة هذه الفضائل وأخذك نفسك بها ولا تجد واحدًا يأمرك بخلافها مثلا، فيقول: إذا استطعت أن تسلب ما في يد غيرك فافعل! أو احذر أن تدع ما في جيوب الناس يبقى في جيوبهم ولا ينتقل إلى جيبك! إلخ إلخ! أليس ذلك لأن الأصل في الإنسان هو التطلع إلى غير ما له والرغبة في غصبه أو انتهابه أو الاحتيال على استلابه، فالحث عليه تحصيل حاصل؟ وأحسب أن من الأدلة على أن الأصل في الإنسان هو هذا أن في كل مصلحة كبيرة من المصالح — حكومية أو غير حكومية — نظامًا دقيقًا للمراجعة يضطر الناس إلى الأمانة أرادوا ذلك أم لم يريدوه، ويحول دون من تحدثه نفسه بالاختلاس. فأكثر الناس لا يختلسون لا لأنهم أشراف أمناء نزهاء، بل لأن السبيل مكتظة بالوعور والعاقبة غير مأمونة. ولست ممن يستطيعون أن يصدقوا أن هذا الصراف الفقير الذى لعله ترك بيته وعياله دون ما يكفى لقوتهم، يعف عن رضا بقسمته وقناعة بحاله، عن قبضة مما يدخل الخزانة التي هو قائم عليها وفى يده مفاتيحها. ولولا الصعوبة وخوف التورط فيما لا يسهل الخروج منه لغش كل إنسان كل إنسان. ولكن من العسير أحيانًا أن تركب الترام إلى حيث تريد دون أن تنقد العامل ثمن التذكرة. وأشق من ذلك كثيرًا وأوخم عاقبة أن تسافر على قطار حديدى بلا تذكرة. وإنى أعترف أنى إذا كنت على شىء من الشرف والذمة والأمانة والنزاهة فليس ذلك لأنى خلقت متحليًا بهذه الفضائل، بل لأنه ينقصنى القدر الكافى من الجرأة والإقدام، أو بعبارة أخرى لأن نصيبى من الجبن فوق المتوسط … فليس لفضيلة فى أنى لا أنشل ما فى جيوب الناس إذا لاحت لعينى متضخمة بما فيها من أوراق النقد، ولكن لأنى أجد نشل الجيوب أشق على وأبعد مطلبًا من الكتابة باللغة اليونانية التي لا أعرفها. وكثيرًا ما تخايلنى التحف الثمينة في الحوانيت من وراء الألواح الزجاجية فأشتهى أن تكون لى بلا ثمن، وأتمنى لو استطعت أن أمد إليها يدى ثم أمضى في سراح ورواح وأمن واطمئنان. ولكن هذا الخاطر وحده! دع عنك الفعل نفسه، يحلل قواى ويفكك أعصابى حتى لأحس أن بى حاجة إلى من يأخذ بيدى ويعيننى على السير. وربما فكرت فيمن يزيفون ورق النقد ويتخذون ذلك حرفة ومتجرًا فيطير النوم من عينى ليالى عدة حول ما يقدمون عليه من المخاطر. وما أظن بى لو أنى كنت نشأت بين اللصوص والسراق، إلا أن جبنى كان قمينًا أن يؤدى إلى تنبيه الشرطة والحراس إلى ما أنوى حتى قبل الشروع فيه، لفرط ما أقدر أنه كان ينتابنى من الاضطراب. والحقيقة أن خراب الذمة يتطلب سكونًا في النفس، وإن شئت فقل برودًا فى الطبع، وجرأة فى الجنان، وقدرة على الاحتيال، ومضاء فى العزيمة، وليس لى من ذلك كله نصيب. ولذلك ترانى إذا غشنى إنسان عفوًا أو عمدًا وأعطانى قطعة مزيفة من النقود لا أجرؤ — إذا فطنت إليها — أن أمد بها كفى إلى أحد على أنها صحيحة، بل أخفيها عندى أو أنتظر حتى أصير إلى طريق مهجور ثم أطوح بها بكل ما فى ساعدى من قوة كأنما أريد أن أجعل بينى وبينها أطول ما يمكن من المسافة. وآه لو مررت بشرطى وهى لا تزال فى جيبى! آه من الاضطراب الذى يصيبنى ويخيل لى أن عين الشرطى قد نفذت من الثياب إلى حيث القطعة المغشوشة وأنه يهم أن يعدو ورائى ليقبض على! وترانى حينذاك أسير وأتلفت وقد أضرب فى طريق غير طريقى لأتوارى عن هذه الأعين التي لا تمنعها كثافة الثياب أن تطلع على ما في الجيوب من مغشوش! وحدث مرة أنى سمعت رجلا يباهى بأنه أنقد «جرسون» قهوة قطعة مزيفة من ذات الخمسة القروش دون أن يفطن إليها، فحسدته وتمنيت على الله أن يرزقنى بعض هذه الجرأة والثبات! وشر من ذلك وأدهى، وأدعى إلى الغيظ والسخط على النفس، أنى ما استطعت قط أن أدع أحدًا — تاجرًا أو صرافًا مثلا — يعطينى أكثر مما لى. وفى الناس من يستبضع ما شاء وينقد البائع الثمن ويتناول الباقى ويعده ويجده أكثر مما يستحق فيدفعه إلى جيبه في هدوء تام ويمضى عن الدكان دون أن يختلج حتى جفن عينه. مثل هذا أغبطه ولكن محاكاته عزيزة المنال مع الأسف! وتالله ما أحسن استقباله لما يجيئه به الحظ! ما أبرع ركوبه للمد في عباب حياته! ما أشد شكرانه لما يناله بغير كد أو تعب! واتفق مرة أن كان في بيتى عمال يبنون حائطًا …، وكان صاحب البيت قد أنقد أحدهم الأجرة مقدمًا فاشتغل يومًا وانقطع أيامًا ثم عاد فسألته: أين كان؟ فقال وهو جذلان والله يا أفندى الحقيقة أنى بعد أن أخذت الأجرة من عمى … سهرت ليلتى تلك وشربت قليلا ومن حسن الحظ أنى أنقدت الخادم ورقة بنصف جنيه فرد لى ثلاثة وثمانين قرشًا ظنًا منه أنى أنقدته جنيها فحمدت الله الذى رزقنى من حيث لا أحتسب وأحييتها ليلة في أثر أخرى! قلت: «نعم هذا حظ غريب، ولكن ألم تنازعك نفسك ولو لحظة أن تخبر الخادم المسكين أنه أعطاك خمسين قرشًا فوق مالك؟». فحملق العامل في وجهى وصوب نظره فىّ وصعده ثم حول وجهه عنى والتفت إلى عمله دون أن ينبس بحرف. وما أشك في أنه كان أعمق ما يكون اقتناعًا بأنى مجنون، من العبث الكلام معه. وقل أن تجد من يصارحك بفساد بذمته كما فعل هذا العامل. والناس في العادة أكثر ولعًا بالكلام على فساد ذمم سواهم. وكثيرًا ما يخيل لى إذ أحادث واحدًا من سواد الناس فى أمثال هذه الموضوعات أنى وإياه الرجلان الشريفان فى هذا الكوكب الحافل بالأنذال.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/17469747/
قبض الريح
إبراهيم عبد القادر المازني
يجمع إبراهيم عبد القادر المازني في هذا الكتاب عددًا من أهم مقالاته النقدية والأدبية التي تناولت آراءه فى كبار المفكرين من الشرق والغرب، كما تحدث فيها أيضًا عن ذاته، وعن الكتب، وعن المشاعر الإنسانية، وعن أثر العمى في الغريزة النوعية، وضرب مثلًا ببشار بن برد وأبي العلاء وكلاهما أعمى، وعرج قليلًا نحو الفلسفة. كما تحدث عن أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي ألفه طه حسين، وأثار عاصفة وزوبعة نقدية في ذلك الوقت. وتناول موضوعات أدبية متنوعة كالشعر والخطابة والتمثيل والتصوير، وحكى لنا أيضًا عن رحلاته وذكرياته وأصدقائه والمرأة في حياته. وذلك كله بسرده الشيِّق والممتع، ونقده اللاذع، وأسلوبه الفكاهي الساخر المحبب إلى النفس.
https://www.hindawi.org/books/17469747/23/
في الشعر الجاهلى
من أشق مباحث الأدب العربى، ذلك العهد الذى يسمونه «بالجاهلية» وإن كان ما أثره الرواة عنه وقالوا إنه انحدر إلينا منه، لا يختلف عن جنى غيره من العصور الإسلامية في شىء. فالروح واحدة، والنظرة إلى الحياة متفقة. والوجهة متحدة، والكلام مستقيم على أوزان وقواف غير مضطربة بين هذه العصور، وأسلوب التفكير نهج غير متعدد … حتى العبارة نفسها لا يكاد يعتورها تغير جوهرى. فما هو هذا العصر الجاهلى إذن؟ إنه عصر يعرفه الفقهاء ومن يبغون أن يقيموا حدّا بين الإسلام وما قبله … أما مؤرخ الأدب فمعذور إذا أنكر أن له سمة يتميز بها وينفرد، فالجاهلية التى انتهى إلينا ما روى من أخبارها وأيامها هي جاهلية دينية واجتماعية إذا شئت، ولكنها من حيث الأدب شئ آخر مختلف جدّا لا يسع الأديب إلا أن يقف حيالها مترددًا شاكا بل رافضًا كما فعل الأستاذ الدكتور طه حسين في كتابه «فى الشعر الجاهلى». ولكل أدب آنفته الساذجة وحداثته المتعثرة كما لكل شىء آخر في هذه الحياة — يصدق هذا على الجماعات صدقه على الآحاد، وعلى العلوم والآداب وسائر ما ينشأ في دنيانا هذه … ولكن الأدب العربى ليس له أول يعرف ولا نشأة توصف إذ أقدم ما وقع إلينا منه — على قول الرواة — بشحم كلاه، إن صح هذا التعبير، ونعنى بذلك أن هذا القديم مستو بالغ أشده وأن الأطوار الأولى التي لا بد أن يكون الأدب قد تقلب فيها ومر بها، كغيره من آداب الشعوب الأخرى، حتى تناهى شبابه على النحو المأثور، نقول إن هذه الأطوار مفقودة ضائعة لا سبيل إلى العلم بها والوقوف عليها إلا تخيلا وإلا بالطبع فى التخيل على غرار ما حدث للاَداب الأخرى التي وقفنا على أصولها ونشأتها، وإلا بأن نرسم لأنفسنا خط التطور طبقًا للسنن الطبيعية. «فالشعر الجاهلى» وصف غير صادق لأن جاهلية الأدب مطوية مع الأزمان التى غبرت، وليس من المعقول، ولا من المقبول، أن يكون هذا الشعر المأثور أو ما قاله العرب لأنه شعر ناضج متساوق الأغراض مطرد النظام، فيه فن وصناعة، ثم هو بعد ذلك تعبير فيه خلط بين الأدب والدين. وليس ثم ما يمنع أن يكون الشعر قد قيل قبل الإسلام، بل الذى يرفضه العقل هو ألا يكون الشعر قد قيل قبله، ولكن هل ما يعزى من الشعر إلى من عاشوا في العصر الجاهلي صحيح النسب غير ملزق بهم؟ وهل إذا سألت هذا الشعر عن نسبه ينتمي إليهم ويعتزى بهم أم ينطق تكوينه ومنحاه وأسلوبه بأنه دعى دخيل؟! هذان هما السؤالان اللذان يلقيهما كل أديب على نفسه. وقد تناولهما الدكتور طه حسين في كتابه «فى الشعر الجاهلى» وطرح السؤالين جميعًا وكان جوابه الرفض! ولم يأخذنى الدكتور طه على غرة بهذا الكتاب فما أعرفنى قرأت شيئًا من أخبار هذه الجاهلية أو شعرها أو خطبها إلا نازعنى في أمره شك ضعيف أو قوى، وإلا حكت في صدرى منه أشياء كثيرة أو قليلة. وأشهد أن الدكتور كان بارعًا فى بسط رأيه وفى إبراز الشبهات التي تحوم حول هذا وتضعف الثقة بنسبته إلى الجاهليين، وفى تأكيدها أيضًا. ومن واجب كل متأدب أن يطلع على هذه الرسالة التي جاءت — على خلاف عادة الدكتور — خالية من كثير من حشوه المألوف. ونحسب أن لا خلاف في ضرورة هذا البحث مهما تكن النتيجة التى يخرج بها المرء، وأن من الحماقة أن نسترسل في الاستنامة إلى ما جاء في الكتب القديمة وإن كان كل شىء يدعو إلى الريب ويغرى بالنقد، وأن نوصد بأيدينا في وجوهنا أبواب التفكير مخافة أن يظن بنا العقوق والتمرد على ما خلف لنا السلف، أو مدفوعين إلى ذلك بحكم النزعة الإنسانية إلى التسليم، فما زال التصديق أمهل من البحث، والإقرار أيسر من النقد، والجمع أهون من الوزن وأمتع وألذ أيضًا. وما من أحد نزع إلى النقد إلا اضطر إلى أن ينبذ بعض ما يقع إليه وفى هذا الاطراح خسارة متوهمة. والنقد مهمة قاسية، وما أكثر ما تكون بغيضة إلى القراء، ولكنا لا نعرف أحدا أحرى بالعطف وأحق بأن تلين له الأفئدة من الناقد، فهو لايجد — كالكيميائى — كل شىء حاضرا مهيأ فى معمله، وليس أمامه شىء من تلك الملاحظات المنظمة المدونة التى تغنى عن الشهود وتقوم مقام المعاينة بل عليه أن يفحص كل ما تقع عليه يده ليستجلى غوامضه ويمحص حقائقه إن كان ثم حقائق يمكن استخلاصها، وأن يخطو بحذر ويتوخى الاحتياط إذ كان العقل الإنسانى نزاعا إلى التساهل ميالا إلى تناول ما يتطلب الدقة، بغير احتفال أو تدبر. وما رأيت أحدا ينكر فائدة النقد ومزيته وضرورته ولكن الإقرار بذلك أسهل من المعاناة. وحسبك أن تفكر في القرون العديدة التى مضت وعصور المدنية التى انقضت قبل أن يظهر «فن» النقد في العالم حتى في عصرنا هذا لا يأمن المرء على الطالب أن يقع فى الأخطاء القديمة. لأن النقد يحيد بالمرء عن اتجاه الذهن فى العادة. وقد تعلم أن الميل المدنى هو التصديق والترديد حتى حين يختلف ما يتلقاه بالتصديق عما انتهى إليه من الآراء والملاحظات. ألسنا فى حياتنا اليومية نتقبل بلا تمييز أو تمحيص ما يتأدى إلينا من الإشاعات والأنباء التي لا نعرف لها مذيعًا ولا ندرى ما مصدرها؟ وقد نشذ أحيانًا عن ذلك ونجنح إلى الشك والتنقيب عن أصل الخبر وقيمته ونحاول امتحانه، ولكن هذا لا يكون منا إلا بدافع من سبب خاص، أما إذا كان ما يتصل بنا غير مستحيل في ذاته ولا بعيد التصديق ولم يبلغنا ما ينقصه أو ينفيه فإنا نزدرده ونفرح به وقد نضيف إليه ونزيد عليه! وقد لا يجهل القارئ أن المرء حين يلقى نفسه فى الماء تكون حركاته الطبيعية الأولى من شأنها أن تؤدى إلى الغرق. وأن السباحة معناها اعتياد المرء الامتناع عن هذه الحركات اللدنية والقيام بغيرها، وكذلك النقد ليس بالعادة الطبيعية وإنما هو شىء يكتسب. وقد تخالف الدكتور طه إذا عز عليك التخلى عما درجت عليه، أو توافقه على كثير أو قليل مما يذهب إليه إذا آثرت التعويل على العقل والمنطق، ولكنك لا تستطيع على الحالين إلا أن تقدر جهده وإلا أن تقر بقيمة هذا البحث الطريف. وما من ريب فى أن الاكثرين يشق عليهم أن ينفضوا أيديهم مما عاشوا مطمئنين إليه، غير أن الشعر الجاهلى لا يصيبه شىء، فهو باق كما هو، لم يحرقه الدكتور ولا سواه من خلق الله وكل ما يجد أن نسبته تتغير أو تصحح. وما أحق ذلك بأن يكون رواية ممتعة. وإنها لكذلك فى كتاب الدكتور. وهنا موضع التحرز: فلسنا نقول إن بحث الدكتور طه قاطع فى إثبات ما ذهب إليه وما نشايعه عليه من الرفض، ولكنا نقول إن حجته أقوى من حجة القدماء، وإن رسالته ليست أكثر من باب فتحه لطالب الأدب الجاهلى إذا أراد أن يصل إلى نتيجة يسكن إليها العقل، وإنها لم تخل من الماَخذ ولم تبرأ من السقاط وإن أولها خير من آخرها، وصدرها أمتن من عجزها … ذلك أنه لم يوفق فى التطبيق ولم يأت بشئ له قيمة، ولو زهيدة، حين أراد أن يتناول الشعر الجاهلي بالتفلية بعد أن مهد لذلك ببحث أسباب الانتحال ودواعيه. ولا بأس من أمثلة تجلو للقارئ ما نريد. يقول الدكتور في رسالته إن «امرأ القيس … يمنى وشعره قرشى اللغة لا فرق بينه وبين القراَن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام. ونحن نعلم … أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغة الحجاز، فكيف نظم الشاعر اليمنى شعره في لغة أهل الحجاز؟ بل في لغة قريش خاصة؟ سيقولون نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان وكان أبوه ملكا على بنى أسد وكانت أمه من بنى تغلب وكان مهلهل خاله، فليس غريبًا أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن، ولكنا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذى ينسب إلى امرئ القيس ونحن نشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل. وإذن فنحن ندور: نثبت لغة امرئ القيس الذى نشك فيه!» … إلى أن يقول: «وأعجب من ذلك أنك لا تجد مطلقًا في شعر امرئ القيس لفظًا أو أسلوبًا أو نحوًا من أنحاء القول يدل على أنه يمنى، فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستطيع أن نتصور أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محوا تامّا ولم يظهر لها أثر ما في شعره؟ نظن أن أنصار القديم سيجدون كثيرًا من المشقة والعناء ليحلوا هذه المشكلة». فامرؤ القيس يمنى، والشعر المعزو إلى امرئ القيس عدنانى اللغة قرشيها. وهذا حسن ولكن أحسن منه أن الدكتور حين تناول الأبيات المنسوبة إلى امرئ القيس رفض بعضها وقبل البعض الآخر — وان كانت كلها عدنانية قرشية!! رفض مثلا هذين البيتين: وقبل هذا البيت الذى يتلوهما: فلماذا؟ أهو يمنى اللغة دونهما؟ أفيه شىء يخالف لغة عدنان وقريش التى نزل بها القرآن من حيث اللفظ أو الإعراب وما يتصل بذلك من قواعد الكلام؟ أم وقعت المعجزة وبلغ من تأثر الشاعر بلغة عدنان أن محيت لغته اليمنية من نفسه محوًا تامّا في هذا البيت فقط؟! وقد وقع الدكتور في مثل هذا الخطأ عينه لما تناول شعر عبيد وعلقمة وعمرو بن قميئة ومهلهل وابن حلزة وطرفة بن العبد إلخ إلخ وإن اختلفت القبائل. وهو مع جنوحه إلى رفض القصص المنحولة يتقبل قصة الفرزدق وان كانت أشبه بالمنحول منها بأن تكون حقيقية، ونعنى بها زعمهم أنه خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة وانتهى إلى غدير فيه نساء. فقال ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جلجل … ثم انصرف فصاح النساء به: «يا صاحب البغلة»! وعزمن عليه إلا ما حدثهن بحديث دارة جلجل … قالوا فقص عليهن قصة امرئ القيس وأنشدهن قوله: ومن سقاطه أنه يذكر «ابتذال» اللفظ، ويعنى أنه مأنوس غير حوشى، ويتكلم على المتانة والجزالة ويريد بهما حشو الكلام بالغريب الذى يحتاج المرء في فهمه إلى مراجعة معاجم اللغة. وهو ما لا يغتفر لرجل تذوق الأدب بله من يدرسه في الجامعة، ومن ذلك قوله عن قصيدة جليلة في رثاء كليب إنها شعر «لا ندرى أيستطيع شاعر أو شاعرة فى هذا العصر الحديث أن يأتى بأشد منه … سهولة ولينًا وابتذالا؟» والأبيات التي يشير إليها هى: وهي أبيات ليست فيها ابتذال بالمعنى المفهوم. ومن نظرياته أن لغة الكلام عند العرب قبل الإسلام كانت وعرة حوشية!! انظر قوله: «فإن في قصيدة ابن كلثوم هذه من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرًا على أقل الناس حظّا من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذى نحن فيه، وما هكذا كانت تتحدث العرب في منتصف القرن السادس للمسيح وقبل ظهور الإسلام بما يقرب من نصف قرن» فمن أدراك يا دكتور؟! ويالها من صورة معكوسة اللغة في ذهن الدكتور!! وقد أطلنا جدّا والصحيفة لا تتسع للإفاضة. ولذلك نختم كلامنا بأن الباب الثالث من الكتاب أشبه بتخبط الطلبة منه بأبحاث الأساتذة. فليته استغنى عنه. وأن الدكتور ليحسن جدّا إلى نفسه إذا تحاشى الخروج من النقد العام الذي يسهل مع التحصيل، إلى النقد التطبيقي أو الدراسات الفردية.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/18472906/
الفيلُ الأبيضُ
كامل كيلاني
تحكي عن فيل وأمه عاشا وحيدين إلى أن أنقذ الفيلُ حطابًا من الهلاك ولكنه خانه وأخذه إلى الملك.
https://www.hindawi.org/books/18472906/1/
الفيلُ الأبيضُ
كَانَتِ الْحَيَوَاناتُ تَتَكلَّمُ في قَدِيمِ الزَّمانِ: أَعْنِي في الْعُصُورِ الْأُولَى الَّتِي انْقَضَى عَلَيْها آلافُ السِّنِيْنَ. كَانَتْ تَتَكَلَّمُ كَما يَتَكَلَّمُ الْإنْسَانُ. وَقَدْ عاشَ — في تِلْكَ الْأَيَّامِ الْغابِرَةِ — جَمْهَرَةٌ مِنَ الْأَفْيالِ عِيشَةً رَغْدَةً هَنِيئةً، في بَعْضِ الْغَابَاتِ الْقَريبَةِ مِنْ جِبال «الْهِمَلَايَا» في الْهِنْدِ. وَكانَتْ تِلكَ الْأَفْيالُ جَمِيلةَ الْمَنْظَرِ، حَسَنَةَ الشَّكْلِ، وَقَدْ فاقَها جَمِيعًا فيلٌ يُدْعَى: «أَبا الْحَجَّاجِ»، وَهُوَ أَبْيَضُ، ضَخْمُ الْجُثَّةِ، نَبِيلُ الْنَّفْسِ؛ فَأَصْبَحَ بَيْنَ الْأَفْيالِ جَمِيعًا خَيْرَ مِثَالٍ لأنْبَلِ الْمَزايا، وَأكْرَمِ الْأخْلاقِ. أَمَّا «أُمُّ شِبْل» — وَهِيَ أُمُّ ذلكَ الْفيلِ الْوَديعِ الكَرِيمِ النَّفْسِ — فَقَدْ كانَتْ، وَالْحَقُّ يُقَالُ، حَكِيمَةً مُجَرِّبَةً، تَجْمَعُ — إِلَى سُمُوِّ السَّجَايا — بُعْدَ النَّظَرِ، وَأَصالَةَ الرَّأْي، وَصِدْقَ الْفَراسَةِ (صِحَّةَ الاِسْتِدْلالِ مِنَ الظَّواهِرِ الْبادِيةِ). وَلكِنَّ الشَّيْخُوخَةَ أَقْعَدَتْها — لِسُوءِ الْحَظِّ — وَأَعْجَزَتْها عَنِ السَّيْرِ، وَكُفَّ بَصَرُها (عَمِيَتْ). فَاشْتَدَّ عَجْزُها، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْها آفَاتُ الْهَرَمِ وَعِلَلُهُ؛ فَلَبِثَتْ — في مكانِها — لا تَنْتَقِلُ خُطْوَةً، وَلا تُحَرِّكُ قَدَمًا. وَقَدْ كانَ وَفاءُ «أَبِي الْحَجَّاجِ» لِأُمِّهِ عَلَى أَحْسَنِ ما يَفي وَلَدٌ بَارٌّ لِوالِدَتِهُ الْحَنُونِ. نَعَمْ، عُنِيَ «أَبُو الْحَجَّاج» ﺑ«أَمِّ شِبْلٍ» الْعِنَايَةَ كُلَّها، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا في إِسْعَادِها وَبِرِّهَا، وَتَلْبِيَةِ طِلْبَتِها. وَكان «أَبُو الْحَجَّاج» يَخْرُجُ — كُلَّ يَوْمٍ — لِيَجْمَعَ لِأُمِّهِ الْعَجُوزِ أَطْيَبَ الْفَواكِهِ الْبَرِّيَّةِ اللَّذيذةِ الطَّعْمِ، وَلا يَدَعُ لَها مَجَالًا لِلتَّحَسُّرِ عَلَى أيَّام شَبابِها الأُولَى؛ لأنَّهُ كانَ يَقُومُ لَها بكلِّ ما تَشْتَهِيهِ مِنْ أَلْوان الْأَطْعِمةِ، وَصُنُوفِ الْأَشْرِبَةِ. وَلكنَّ أَمْرًا وَاحِدًا كانَ يُزْعِجُ «أَبا الْحَجَّاجِ» وَيَهُمُّهُ، وَيَمْلَأُ نَفْسَهَ حُزْنًا وَأَسًى؛ ذلِكَ: أَنَّهُ رَأَى كَثيرًا مِنَ الْأَفْيالِ الْأُخْرَى، تَسْرِقُ طَعامَ أُمِّهِ الْعَجُوزِ، الَّتِي كُفَّ بَصَرُهَا، وَاشْتَدَّ عَجْزُها. وَقَدْ أنَّبَهُمْ «أَبُو الْحَجَّاج» عَلَى ذلِكَ مَرَّاتٍ عدَّةً، وَأَظْهر لَهُمْ — في أَجْلَى بَيانٍ، وَأَوْضَحِ أُسْلُوبٍ — أَنَّ عَمَلَهُمْ هذا غايةٌ في النَّذالَةِ، وَلُؤْمِ الطَّبْعِ، وَفَسادِ الْخُلُقِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِ هذِهِ الْفَعْلَةِ الْمَمْقُوتَةِ الشَّنعاءِ. وَلكِنَّ الْأَفْيالِ لَمْ تُقْلِعْ عَنْ عادتِها، وَلَمْ تَكُفَّ عَنْ سَرِقَةِ الطَّعامِ الَّذِي كانَ «أَبُو الْحَجَّاج» يَكُدُّ — طُولَ يَوْمِهِ — لِيَجْمَعَهُ لِـ«أُمِّ شِبْلٍ». وَفي ذَاتِ يَوْمٍ انْتَحَى «أَبو الْحَجَّاج» أُمَّهُ جَانِبًا، وَقَالَ لَها مَحْزُونًا: «لَقَدْ تَمَادَى أَصْحابُنا الْأَفْيالُ في جَوْرِهمْ وَعُدْوانِهمْ عَلَيْنا. وَخَيْرٌ لِي وَلكِ يا أُمَّاهُ — فيما أَرَى — أَنْ نَعِيِشَ في عُزْلَةٍ، بَعِيدَيْنِ عَنْ هؤُلاءِ اللُّصُوصِ الْخَائِنِينَ، فَإِذا رَأَيْتِ رَأْيِي وَرَضِيتِ عَنْ هذا الاقْترَاحِ فَلا تَتَوَانَيْ في الذَّهَابِ مَعِي إِلَى كَهْفٍ قَرِيبٍ، قَدْ تَخَيَّرْتُهُ لِسُكْنَانَا جَمِيعًا، وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ غَيْرِ بَعِيدَةٍ مِنْ هذِهِ الْغَابَةِ. فَماذا أَنْتِ قَائلَةٌ؟» فارْتاحَتْ «أُمُّ شِبْلٍ» لِهذا الاقْترَاحِ السَّديدِ، وَلَمْ تُعَارِضْ في تَلْبِيَتِهِ، وسارتْ — مِنْ فَوْرِها — إِلَى حَيْثُ يَقُودُها «أَبُو الْحَجَّاجِ»، حَتَّى وَصَلا إلى مَأْواهُما الْجَدِيدِ، وَاسْتَقَرَّا في الْكَهْفِ. وَكانَ الْكَهْفُ حَسَنَ الْمَوْقِع، قَرِيبًا مِنْ بَعْضِ الْمُرُوجِ الْمُخْصِبَةِ، الْمَمْلُوءَةِ بِأَطْيَبِ الْفواكِهِ الْبَرِّيَّةِ، وَأَشْهَى الثِّمَارِ اللَّذِيذَةِ، وَإِلَى جانِبِهِ بُحَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ، مُغَطَّاةٌ بِأَزَاهِيرِ «اللُّوتَسِ» حَيْثُ عاشَ «أَبُو الْحَجَّاج» مَعَ أُمِّهِ زَمَنًا طَوِيلًا، آمِنَيْنِ وَادِعَيْن، قَرِيرَيِ الْعَيْنِ، نَاعِمَيِ الْبالِ، لَمْ يُكَدِّرْ صَفْوَهُما أَيُّ كَدَرٍ. وَذاتَ مَساءٍ كانَ «أَبُو الْحَجَّاج» يَتَحَدَّثُ إِلَى «أُمِّ شِبْلٍ» في الْغَارِ — عَلَى عادَتهما — ويَخُوضانِ شَتَّى الْأَسْمارٍ وَمُخْتَلِف الذِّكْرَياتِ. وَإِنَّهُما لَكذَلِكَ، إِذْ طَرَق آذانَهُما صِياحٌ عالٍ يُدَوِّي في الْغَابَةِ عَلَى مَقْرَبةٍ مِنْهُما. فَقالَ «أَبُو الْحَجَّاجِ»: «أَلا تَسْمَعِينَ — يا أُمَّاهُ — إِلَى هذهِ الصَّيْحاتِ الْعالِيَةِ؟ إنَّها — بِلا رَيْبٍ — صَيْحاتُ إنْسانٍ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ، وَيَلْتَمِسُ الْغَوْثَ، وَلَعَلَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَقعَ فَرِيسةً في قَبْضَةِ أَحِد أَعْدائه، وَلا بُدَّ لي مِنَ الْإِسْراعِ إِلَيْهِ، لَعَلِّي أَسْتَطِيعُ إِنْقَاذَهُ مِنَ الْهَلَاكِ.» فَقالتْ لَهُ «أُمُّ شِبْلٍ»، وَهُيَ تُحَذِّرُهُ عاقِبَةَ هذا الْأَمْرِ، وَتَزْجُرُهُ عَنْ التَّعَرُّض لَهُ: «كَلَّا — يا وَلَدِي — لا تَفْعَلْ؛ فَإِننِي — وَإنْ رَأَيْتَنيِ عَجُوزًا عَمْياءَ، وَذلِكَ حَقٌّ لا رَيْبَ فِيهِ — أَعْلَمُ عِلْمَ الْيَقِين غَدْرَ الآدَمِيِّيْنَ بِنا، وَإِيِقاعَهُمْ بِجِنْسِنا، وَتَفَنُّنَهُم في طُرُقِ الِاحْتِيالِ عَلَى صَيْدِنا. وَإِنَّنِي لَأُؤَكِّدُ لَكَ أَنَّكَ إذا أَنْقَذْتَ هذا الْإِنْسانَ التَّاعِسَ الْمِسْكِين، وَخَلَّصْتَهُ مِنَ الْهَلاكِ، فَلَنْ يُقَابِلَ هذا الْإِحْسانَ بِغَيْرِ الْإِسَاءَةِ وَالْجُحُوْدِ وَالْخِيانَةِ وَالْكُنُودِ.» وَلكنَّ «أَبا الْحَجَّاجِ» لَمْ يُصْغِ إِلَى نَصِيْحَةِ أُمِّهِ، وَلمْ يُطِقِ الْبَقاءَ إِلَى جانبها، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَن يَتَلَكَّأَ في إِغاثَةِ الْبَائِسِ الْمَلْهُوفِ، وَأبَى إِلَّا أَنْ يُنْقِذَهُ مِمَّا أَلَمَّ بهِ؛ فَقالَ «لأمِّ شِبْلٍ» مُتَلطِّفًا: «اغْفِرِي لِي — يا أُمَّاهُ — أَنْ أُخَالِفَ نُصْحَكِ لِلْمِرَّةِ الْأُوْلَى في حياتي؛ فَلَيْسَ في وُسْعِي أَنْ أَكُفَّ عَنْ مُعَاوَنَةِ طَالِبِ نَجْدَةِ أَيًّا كانَ جِنْسُهُ، وَلَنْ أُطِيقُ سَمَاعَ هذهِ الصَّيْحاتِ الْعَالِيَةِ الْمُؤْلِمةَ، دُونَ أَنْ أَبْذُلَ جُهْدِي في إِنْقاذِ صَاحِبِها مِنْ مَأْزِقِهِ.» ثُمَّ أَسْرَعَ «أَبُو الْحَجَّاجِ» صَوْبَ الْجِهَةِ الَّتي انْبَعَثَتْ مِنْها الصَّيحاتُ؛ حَتَّى إذا بَلَغَ بُحَيْرَةَ «اللُّوتَسِ» لَمَحَتْ عَيْناهُ رَجُلًا يَلْبَسُ ثِيابَ الْحَطَّابِينَ. وَلَمْ يَكَدْ «أَبُو الْحَجَّاجِ» يَدْنُو مِنْهُ، حَتَّى هَمَّ الرَّجُلُ بِالْفِرارِ مِنْ شِدَّةِ الْرُّعْبِ وَالْخَوْفِ. وَلكنَّ «أَبا الْحَجَّاجِ» قالَ لَهُ مُتَلَطِّفًا: «لا تَخْشَ مِنِّي شَيْئًا — أَيُّها الْغَرِيبُ — وَحَدِّثْنيِ بِحَدِيثِكَ لَأَتَعَرَّفَ قِصَّتَكَ؛ فَما جِئْتُ إِلَّا لِإِنْقاذِكَ مِنْ وَرْطَتِكَ، وَلَعَلِّي قَادِرٌ عَلَى تَخْفِيفِ أَلَمِكَ، وَدَفْعِ شِكَايَتِكَ.» فَقالَ لَهُ الْحَطَّابُ، وهُوَ شَارِدُ الْفِكْرِ: «وا أَسَفاهُ، أَيُّها الْفِيلُ الْأَبْيضُ النَّبِيلُ الْكَرِيمُ النَّفْسِ! أَلَا لَيْتَكَ قَادِرٌ عَلَى إِغَاثتِي وَإِنْقَاذِي مِمَّا أَنا فِيهِ؛ فَقَدْ ضَلَلْتُ طَرِيقي — مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ كَاملَةٍ — في هذهِ الْغَابَةِ الْوَاسِعَةِ الْمُوحِشَةِ، الَّتِي لا يَقْطُنُها أَحَدٌ مِنْ بَنِي الْإِنْسانِ، وَيَئِسْتُ مِن الْعَوْدَةِ إِلَى مَدِينَةِ «بَنارِسَ»؛ فَمَنْ لِي بِمَنْ يَهْدِينِي سَوَاءَ السَّبِيلِ؟» فَقالَ لَهُ «أَبُو الْحَجَّاجِ»، وَقَدِ امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ سُرُورًا وَغِبْطَةً، لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُسَاعَدَتِه: «ما أَيْسَرَ ما تَطْلُبُهُ أَيُّها الْحَطَّابُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تَرْكَبَ ظَهْرِي، لأَحَمِلَكَ إِلَى حَيْثُ يَعِيْشُ أَبْنَاءُ جِنْسِكَ مِنَ النَّاسِ.» فَابْتَهَجَ الْحَطَّابُ بِذلِكَ أشَدَّ الابْتِهاجِ، وَقَفَزَ عَلَى ظَهْرِ الفِيلِ الْأَبْيَضِ فَرِحًا مَسْرُورًا. ثُمَّ انْطَلَقَ «أَبُو الْحَجَّاجِ» يَعْدُو بِهِ مُسْرِعًا — خِلالَ الْغابَةِ الْوَاسِعَةِ الْأَرْجاءِ — حَتَّى بَلَغا مَدِينَةَ «بَنارِسَ». فَقالَ لَهُ «أَبُو الْحَجَّاجِ»: «لَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ — أَيُّها الْحَطَّابُ — إِلا بُرْهَةٌ قَلِيْلَةٌ، لِتَصِلَ إِلَى بَيْتِكَ؛ فَإِنَّ مَدِينَةَ «بَنارِسَ» — كَما تَراها — قَرِيْبَةٌ مِنْكَ، وَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَها إِلا خُطُواتٌ مَعْدُودَةٌ.» فَهَمَّ الْحَطَّابُ بِأَنْ يَشْكُرَ لِلْفِيلِ النَّبِيلِ هذِهِ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ الَّتِي أَسْداها إِلَيْهِ، إِذْ أَنْقَذَهُ مِنَ الْهَلاكِ الْمُحَقَّقِ، وَهَداهُ إِلَى الطَّرِيقِ بَعْدَ أَنْ ضَلَّ. وَلكِنَّ «أَبا الْحَجَّاج» ابْتَدَرَهُ قائِلًا: «كَلَّا، لا تَشْكُرْ لِي صَنِيعِي؛ فَإِنِّي لَقَرِيرُ الْعَيْنِ، مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِما فَعَلْتُهُ؛ فَقَدْ أَتَحْتَ لِي فُرْصَةً ثَمِينَةً، لِأَداءِ واجبِي في مُعَاوَنَةِ بَائِسٍ مَلْهُوفٍ، وَإِنْقاذِ ضَالٍّ حَائِرٍ، بَعْدَ أَنْ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْأَسْبابُ.» ثُمَّ عادَ «أَبُو الْحَجَّاجِ» إِلَى كَهْفِهِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ مُبْتَهِجٌ بِما أَسْداهُ إِلَى الْحَطَّابِ الْمِسْكِينِ مِنْ صَنِيعٍ. وَلَمْ يَدْرِ الْفِيلُ النَّبِيلُ ما يَخَبِّئُهُ لَهُ الْقَدَرُ مِنْ أَحْداثٍ وَخُطُوبٍ، وَلَمْ يَدُرْ بِخَلَدِهِ أَنَّ الْخَيْرَ قَدْ يَجْلُبُ الشَّرَّ، وَأَنَّ الْإِحْسانَ قَدْ يُجْزَى عَلَيْهِ بالْإِساءَةِ وَالْجُحُودِ. وَكانَ الْحَطَّابُ — لِسُوءِ حَظِّ «أَبِي الْحَجَّاجِ» — غَادِرًا، خَبِيثَ النَّفْسِ، لَئِيمَ الطَّبْعِ. وَقَدْ وَسْوَسَ لَهُ الشَّيْطانُ، فَجَرَّهُ الطَّمَعُ إِلَى الْخَديعَةِ وَالْخِيانَةِ، وَزَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ الْخَبِيثَةُ أَنْ يَغْدِرَ بِصَاحِبِهِ، وَيَجْزِيَهُ عَلَى إِحْسانِهِ أَقْبَحَ الْجَزاءِ. وَلَمْ يَبْقَ في خَاطِرِهِ أَنَّ «أَبا الْحَجَّاجِ» قَدْ أَنْقَذَهُ مِنْ حَيْرَتِهِ وَضَلالهِ، وَوَقاهُ عادِيَةَ الْهَلاكِ، وَأَنَّهُ — لِذلِكَ — جَدِيرٌ بِالثَّناءِ، لِبِرِّه بِهِ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ؛ بَلْ شَغَلَهُ الطَّمَعُ عَنِ الوَفَاءِ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ الْغادِرَةُ أَنْ يَكْفُرَ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ، وَيَجْحَدَ ذلِكَ الْإحْسانَ، فَقالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: «لَقَدْ هَلَكَ الْفِيلُ الْأَبْيَضُ الَّذي كان في قَصْرِ مَلِكِ «بَنارِسَ»، قُبَيْلَ خُرُوجِي مِنَ الْمَدِينَةِ بِأَيَّامٍ، وَلا شَكَّ أَنَّ الْمَلِكَ سيُكَافِئُنِي أَجْزلَ مُكافَأَةٍ، إِذا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُوقِعَ هذا الفِيلَ في قَبْضتيِ أسِيرًا، وَأُقَدِّمَهُ لِلْمَلِكِ هَدِيَّةً ثَمِينَةً.» وَما لَبِثَتْ هذِهِ الْفِكْرَةُ الجارِمَةُ أَنْ أَصْبَحَتْ عَزْمًا وَتَصْمِيمًا، فَراحَ الْحَطَّابُ يُنْعِمُ بَصَرَهُ في تِلْكَ الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَها «أَبُو الْحَجَّاجِ»، وَظَلَّ يُجِيلُ لِحَاظَهُ في أَشْجارِها الْعالِيَةِ، وَتِلالِها الْمُرْتَفِعَةِ، وَهِضَابِها الشَّاهِقَةِ، الَّتِي يَمُرُّ عَلَيْها في أَثْنَاءِ السَّيْرِ؛ حَتَّى لا يَضِلَّ طَرِيقَهُ إِذا هَمَّ بِالْعَوْدَةِ إِلَيْها مَرَّةً أُخْرَى. وَما زالَ كَذلِكَ حَتَّى حَذَقَها، وَتَعَرَّفَ طَرَائِقَها جَمِيعًا. وَلَمْ يَكَدِ الْحَطَّابُ يَصِلُ إِلَى «بَنارِسَ»، حَتَّى مَثَلَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ وَقالَ لَهُ مَسْرُورًا: «لَقَدِ اهْتَدَيْتُ إِلَى الْفِيلِ الْأَبْيضِ الْجَدِيِرِ بِأَنْ يَحُلَّ مَكَانَ «أَبِي كُلْثُومٍ»، ذَلِكَ الْفِيلِ الْهَالكِ الذي فَقَدَهُ مَوْلايَ، وَحَزِنَ لِفَقْدِهِ حُزْنًا شَدِيدًا.» وَظَلَّ الْحَطَّابُ يَصِفُ لِمَلكِ «بَنارِسَ» جَمالَ «أَبِي الْحَجَّاجِ»، وَيُطْنِبُ لَهُ في تَعْدَادِ مَزاياهُ وَمَناقِبِهِ، حَتَّى أُعْجبَ بِهِ الْمَلِكُ — عَلَى السَّماعِ — وَقالَ لِلْحَطَّابِ: «لَيْسَ أَشْهَى إِلَى نَفْسِي مِنَ الْحُصُولِ عَلَى هذا الْفِيلِ الظَّرِيفِ الَّذِي تَصِفُهُ لِي، فَارْجِعْ إِلَى الْغابَةِ — مِنْ فَوْرِكَ — في عِصابَةٍ مِنْ مَهَرَةِ صَيَّادِي الْفِيلَةِ الْمَشْهُورِينَ في مَدِينَتِي. وَمَتَى نَجَحْتُمْ في صَيْدِ الْفِيلِ الْأَبْيَض، فَإِنِّي مُكافِئُكَ ومُكافِئُهُمْ عَلَى ذلِكَ أَجْزَلَ مُكافَأَةٍ.» فَابْتَهَجَ الْحَطَّابُ بِما سَمِعَ، وَأَسْرَعَ — في رِفاقَةِ الصَّيَّادِينَ — يَقُودُهُمْ في شِعاب الْغابَةِ، ويُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرَائِقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى كَهْفِ «أَبِي الْحَجَّاجِ»، حَتَّى بَلَغُوا بُحَيْرَةَ «اللُّوتَس» بِلا مَشَقَّةٍ، حَيْثُ وجَدُوا «أَبا الْحَجَّاجِ» يَجْمَعُ الْفاكِهَةَ لِعَشاءِ أُمِّهِ الْعَجُوزِ. وَلَمْ يَكَدْ «أبو الْحجَّاج» يَسْمَعُ وَقْعَ خُطُوَاتِهِمْ، حَتَّى رَفَعَ إِلَيْهِمْ رَأْسَهُ، وِأَجالَ فيهِمْ بَصَرَهُ؛ فَلَمَحَ صَاحِبَهُ الْحَطَّابَ بَيْنَ صَيَّادِي الْأَفْيالِ، فَأَدْرَكَ الفِيلُ الذَّكِيُّ أَنَّ الْحَطَّابَ قَدْ غَدَرَ بِهِ، وَجازاهُ عَلَى مَعْرُوفِهِ أَلْأَمَ جَزَاءٍ. وَتَحَقَّقَ لَهُ كلامُ أُمِّهِ، وَنَدِمَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ نَصِيحَتَها الثَّمِينَةَ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ. وَأَرادَ «أَبُو الْحَجَّاج» أَنْ يَهْرُبَ؛ حَتَّى لا يَقَعَ في قَبْضَتِهِمْ أَسِيْرًا. وَلَكِنَّ الصَّيادِينَ الْأَذْكِياءَ الْمُدَرَّبِينَ عَلَى صَيْدِ الْفِيَلَةِ، عَدَوْا في أَثَرِهِ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ مَسَالِكَ الْهَرَبِ، وَسَدُّوا مَنَافِذَ الطَّرِيق، وَبَذَلُوا كُلَّ ما في وُسْعِهِمْ — مِنْ حِيلَةٍ وَمَهارَة — حَتَّى أَوْقَعُوهُ في شِبَاكِهمْ أَسِيرًا ثُمَّ سَارُوا بِهِ في طَرِيقِهِمْ إِلَى مَدِينةِ «بَنارِسَ»، مَسْرُورِين مَزْهُوِّينَ بِما وُفِّقُوا إِلَيْهِ مِنْ فَوْزٍ وَانْتِصارِ. وَظَلَّتْ «أُمُّ شِبْلٍ» الْمِسْكِينَةُ جَاثِمَةً في كَهْفِها تَرْتَقِبُ عَوْدَةَ وَحيدِها «أَبِي الْحَجَّاج»، حَتَّى جاءَ اللَّيْلُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْها؛ فَتَوَجَّسَتْ شَرًّا، وَساوَرَتْ نَفْسَها الْهُمُومُ وَالْأَحْزان، وَخَشِيَتْ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ أصابَهُ سُوءٌ، أَوْ لَحِقَ بِهِ أَذًى. وَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَةُ «أَبِي الْحَجَّاج»، أَيْقَنَتْ «أُمُّ شِبْلٍ» الْعَجُوز أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ أَسِيرًا في قَبْضَةِ الصَّيَّادِينَ؛ فَوَلْوَلَتْ وَبَكَتْ، وَظَلَّتْ تَنْدُبُ حَظَّها التَّاعِسَ، وَتَقُولُ في نَفْسِها مَحْزُونَةً مُتَحَسِّرَةً: «الْوَيْلُ لي مِنْ بَعْدِكَ يا «أَبَا الْحَجَّاجِ». فَما أَدْرِي: كَيْفَ أَصْنَعُ بَعْدَ أَنْ فَقَدْتُ مَعُونَتَكَ، وَحُرِمْتُ بِرَّكَ بِي، وَعَطْفَكَ عَلَيَّ؟ وَما أَعْرِفُ: كَيْفَ أَعِيشُ في هَذِهِ الْعُزْلَةَ، وَلَيْسَ لِي مَنْ يُطْعِمُنِي تِلْكَ الْفَاكِهَةَ الشَّهِيَّةَ، أَوْ يَهْدِينِي إِلَى بُحَيْرَةِ «اللُّوتِسِ»، لِأُرْوِيَ مِنْها ظَمَئِي إِذا عَطِشَتُ؟ أَلا إِنَّنِي — مِنْ بَعْدِكَ يا «أَبا الْحَجَّاج» — لَا شَكَّ هَالِكَةٌ جُوْعًا وَعطَشًا، في هذِهِ الْبُقْعَةِ النَّائِيَة! فَيا لَيْتَنا تَنَبَّأْنا بِهذا الْمُصابِ قَبْلَ وُقُوعِه، وَفَطَنَّا إِلَى هذِهِ الْكارِثَةِ، وَعَرَفْنا عَوَاقِبَ الْأُمُورِ قَبْلَ أَنْ تَحُلَّ بِنا مُفَاجِئَةً، وَتَنْزِلَ بِنا عَلَى غِرَّةٍ. وَيا لَيْتَنا لَبِثْنا — حَيْثُ كُنَّا — آمِنَيْنِ، لا يُرَوِّعُنا عَدُوٌّ، وَلا يَجْرُؤُ عَلَى الدُّنُوِّ مِنَّا كَائِنٌ كان!» أَمَّا جَزَعُ «أَبِي الْحَجَّاجِ» وحُزْنُهُ، فَقَدْ فاقا جَزَعَ أُمِّهَ وَحُزْنَها، فَلَقَدْ بَرَّحَ بِهِ الْوَجْدُ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَلَم، لِوَحْدَةِ أُمِّهِ وَضَعْفِها وَعَجْزِها عَنِ الْحَياةِ مِنْ بَعْدِه. وظَلَّ يَقُولُ في نَفْسِه، وهُوَ سائِرٌ في طَرِيقهِ إِلَى حَيْثُ يَقُودُهُ صَيَّادُوهُ الْأَشِدَّاءُ: «لَكِ اللَّهُ يا «أُمَّ شِبْلٍ»! فَما أَدْرِي: كَيْفَ تُصْبِحِينَ في مَحَلِّكِ بَعْدِي، أَيَّتُها الْأُمُّ الْحَنُونُ الْبارَّةُ؟ أَلا لَيْتَني أَصْغَيْتُ إِلى نَصِيحَتِكِ، وَقَبِلَتُ رَأْيَكِ، وَلَمْ أُخالِفْ مَشُورَتَكِ. إِذَنْ غَنِمْتُ السَّلامَةَ وَالتَّوْفيق، وَنَجَوْتُ مِنَ الْغَدْرِ وَالْجُحُودِ. لَقَدْ حَذَّرْتِنِي — يا أُمَّاهُ — كَيْدَ الْإِنْسانِ وَجُحُودَه؛ فَلَمْ أُصْغِ إِلَى نَصِيحَتِك، وَلَمْ أَنْتَفِعْ بِتَحْذِيركِ. وَلَوْ أَنَّنِي سَمِعْتُ مَقَالَتَك، وَأَخَذْتُ بِرَأْيِكِ السَّدِيدِ؛ لَعِشْتُ طُولَ عُمْرِي هَانِئًا وَادِعًا، نَاعِمًا بِالْحُرِّيَّةِ بِجِوَارِك، وَلَمْ أَقَعْ في قَبْضَةِ هؤُلاءِ الْأَشْرارِ الْغَادِرِين. وَما أَدْرِي: كَيْفَ تَصْنَعِين — يا أُمَّاه — بَعْدَ أَنْ تَقَطَّعَتْ بِكِ أَسْبابُ الْحَياة، وَفَقَدْتِ نَاصِرَكِ الْوَفِيَّ الْأَمِينَ، وحُرِمْتِ وَلَدَكِ الصَّادِقَ الْمُعِينَ؟» وَلَمَّا مَثَلَ الصّيَّادُونَ والْحَطَّابُ بيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَمَعَهُمُ الْفِيلُ الْأَبْيَضُ، أُعْجِبَ الْمَلِكُ بِمَنْظَرِهِ، وَسُرَّ بِهِ سُرُورًا عَظِيمًا. وكانَتْ أَماراتُ الْكَآبةِ وَالْحُزْنِ بِاديَةً عَلَى مَلَامِحِ «أَبِي الْحَجَّاجِ»، ولكِنّها لَمْ تَنَلْ مِنْ جَمالِ شَكْلِه، وبَهاءِ مَنْظَرِه؛ فَقالَ الْمَلِكُ: «ما أَجْمَلَهُ فيلًا رَائِعَ الْمَنْظَرِ، بَهِيَّ المَلامِح، مُشْرِقَ الطَّلْعَةِ! فَلَأَتَّخِذَنَّهُ — مُنْذُ الْيَوْم — مَرْكَبي؛ فَهُوَ أَفْخَمُ فِيلٍ رَأَيْتُهُ أَوْ سَمِعْتُ بِهِ في حَيَاتِي.» ثُمَّ أَجْزَلَ الْمَلِكُ مُكافَأَةَ الْحَطَّابِ وَالصَّيَّادِين، وَأَمَرَ أَتْباعَهُ أَنْ يَتَخَيَّرُوا أَحْسَنَ مَكانٍ في الْإِصْطَبْلِ الْمَلَكيِّ؛ لِيَحُلَّ فِيهِ «أَبُو الْحَجَّاج»، كَما أَمَرَهُمْ أَنْ يُحَلُّوهُ بِأَثْمَنِ اللَّآلِئِ وَأَنْفَسِ الْيَواقِيت. وَمَرَّتْ عَلَى هذا الْحادِثِ أيَّامٌ قَلِيلَةٌ، ثُمَّ أَرادَ المَلِكُ أَنْ يَرْكَبَ الْفِيلَ الْأَبْيَضَ، وَيَطُوفَ بِهِ في الْمَدِينَةِ؛ فَقالَ لَهُ أَتْبَاعُهُ، وَالْحُزْنُ بادٍ عَلَى وُجُوهِهم: «إِنَّ الْفِيلَ الْأَبْيَضَ — يا مَوْلانَا — قَدْ مَرِضَ مَرَضًا خَطِيرًا، وانْتابَهُ ضَعْفٌ شَدِيد، وَهُو — مُنْذُ حَضَرَ أَرْضَنا — لَمْ يَذُقْ طَعامًا وَلا شَرابًا. وَقَدْ تَخَيَّرْنا لَهُ أَشْهَى الْأَطْعِمَةِ والْأَشْرِبةِ مِنَ الْفاكِهةِ وَالْحَشائِش، فَلَمْ يَذُقْ مِنْها شَيْئًا.» فارْتاعَ الْمَلِكُ لِهذا النَّبَأِ، وَأَسْرَعَ — في الْحال — إِلَى الْإِصْطَبْل؛ فَرَأَى عَلَى وَجْهِ «أَبِي الْحَجَّاج» سِيما الْكَدَرِ وَالْهَمِّ، فَصاحَ بِهِ قَائِلًا: «ما بالُكَ — أَيُّها الْفِيلُ الْكَرِيِمُ — قَدْ تَغَيَّرَتْ مَلامِحُك، وَسِيءَ وَجْهُك وَتَبَدَّلَتْ أَطْوارُكَ؟ أيُّ شَيْءٍ بِغَّضَ طَعامَنا وَشَرابَنا إلَيْك؟ أَتُرَى خَدَمي قَدْ أَهْمَلُوا الْعِنايةَ بِأَمْرِك؟ أَمْ تُراهُم قَصَّرُوا في تَخَيُّرِ ما يُرْضِيكَ مِنْ لَذائِذِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَشْتَهِيها نَفْسُك؟» فَهزَّ «أَبُو الْحَجَّاج» رَأْسَهُ الضَّخْمَ، وَقالَ بِصَوْتٍ خافِتٍ، قَدِ ارْتَسَمَتْ فيهِ نَبَراتُ الْحُزْنِ والْأَسَى: «كَلَّا يا مَوْلاي!» فَقالَ لَهُ الْمَلِك، وَقَدِ اشْتَدَّ شَوْقُهُ إِلَى تَعَرُّفِ قِصَّتِهِ: «خَبِّرْني — في صَراحَةٍ — أَيُّها الْفِيلُ الْكَرِيمُ عَنْ سِرِّ هَمِّكَ وَاكْتِئابِك؛ فَإِنِّي باذِلٌ جُهْدِي في إِسْعادِكَ وَتَحْقيقِ أُمْنِيَّتِكَ، إِذا وَجَدْتُ إِلَى ذلِكَ سَبِيلًا.» فَقالَ «أَبو الْحَجَّاج» في لَهْجَةٍ حَزِينَةٍ: «شُكْرًا لَكَ أَيُّها الْمَلِكُ الْعَظيمُ عَلَى عِنايَتِكَ بِأَمْرِي، واهْتِمامِكَ بِشَأْني. وَلَقَدْ سَأَلْتَني عنْ مَصْدَرِ حُزْنِي، واقْترَحْتَ عَلَيَّ أَنْ أَتَمَنَّى عَلَيْكَ الْأَمَانِيَّ. وَلَيْسَ لي مِنْ أُمْنِيَّةٍ في هذِهِ الْحياةِ أَعْظَم مِنْ أَنْ أَعُودَ إِلَى أُمِّيَ الْعَجُوزِ التَّاعِسَةِ الْعَمْياءِ، الَّتي تَرَكْتُها في الْغابَةِ وَحيدَةً لا عائِلَ لها، وَهيَ تُوْشِكُ أَنْ تَهْلِكَ جُوعًا وَعَطشًا في كَهْفِها. وَلَنْ أَطْعَمَ شَيْئًا بَعْدَها، ولَنْ أَسْتَسِيغَ الزَّادَ وَهِيَ تَتَضَوَّرُ جُوعًا، وَلا تَجِدُ إِلَى الطَّعامِ سَبِيلًا.» فَسأَلَهُ مَلِكُ «بَنارِسَ» عَنْ قِصَّتِه؛ فَحَدَّثَهُ بها كُلَّها، وَأَخْبَرَهُ بِانْتِقالِهِ هُوَ وأُمُّهُ إِلَى مَكانٍ بَعيدٍ عَنْ قَطِيعِ الْفِيَلَة، وكَيْفَ عاشَ مَعَ أُمِّهِ أَسْعَدَ عَيْشٍ في عُزْلَةٍ وادِعَةٍ هَنيئَةٍ؛ حَتَّى جاءَهُما الْحَطَّابُ، وَكانَ مَقْدَمُهُ عَلَيْهِما شُؤْمًا وَخَرابًا؛ فَكَدَّر صَفْوَ عَيْشِهِما الرَّغِيدِ بِخِيانَتِهِ وَغَدْرِهِ. كَانَ مَلِكُ «بَنارِسَ» عادِلًا رَحيمًا، يُؤْثِرُ الْإِنْصافَ، وَيَرْتاحُ لِلْمَعْرُوفِ؛ فَقالَ لِلْفِيلِ الْأَبْيَضِ، عَلَى شَغَفِهِ بِهِ، وَرَغْبَتِهِ في اسْتِبْقائِهِ: «أَيُّها الْحَيَوانُ النَّبِيلُ، إِنَّ طِيبَةَ قَلْبِكَ، وَحُسْنَ طَوِيَّتِكِ، قَدْ أَظْهَرا — أَمامِي — خِسَّةَ الْجِنْسِ الآدَمِيِّ وَغَدْرَهُ. وَقَدْ أَطْلَقْتُ سَراحَكَ — مُنْذُ الآنَ — فعُدْ إِلَى أُمِّكَ وَارْعَها، وَتَوَلَّ أَمْرَها، وَثابِرْ عَلَى بِرِّكَ بِها، وَعَطْفِكَ عَلَيْها ما حَيِيتَ.» فَشَكَرَ لَهُ «أَبُو الْحَجَّاج» عَدالَتَهُ وكَرمَه وَإِحْسانَه، وقال له مُغْتَبِطًا فَرْحان: «لَنْ أَنْسَى لَكَ هذا الْجَمِيلَ!» ثُم أَسْرَعَ «أَبو الْحَجَّاج» في طَرِيقِهِ إِلَى كَهْفِ أُمِّهِ، عَلَى ما بِهِ مِنْ ضَعْفٍ وهُزالٍ، وجُوعٍ وعَطَشٍ. وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِهِ وَابْتِهاجِهِ حِينَ رَأَى أُمَّهُ لا تَزالُ عَلَى قَيْدِ الْحَياةِ. وَلا تَسَلْ عَنْ فَرَحِ «أُمِّ شِبْلٍ» بِوَلدِها حِينَ عادَ إِلَيْها بَعْدَ يَأْسٍ مِنْ عَوْدَتِهِ! وَلَمْ يَكَدْ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْمُقامُ، حَتَّى قَصَّ عَلَى أُمِّهِ كلَّ ما حَدَثَ لَهُ في أَثْناءِ غَيْبَتِهِ. فقالَتْ لهُ مُتأَلِّمَةً: «لَقَدْ كان عليكَ — يا وَلَدي — أَن تُصْغِيَ إِلَى نَصيحتي! فهلْ آمَنْتَ الآنَ بِغَدْرِ الآدَمِيِّينَ، وجُحُودِ بَنِي الْإنْسان؟ وَهَلْ أَدْرَكْتَ أَنَّ سُوءَ النِّيَّةِ — كَما حَدَّثْتُكَ — مُتَأَصِّلٌ في نُفُوْسِهِمْ مُنْذُ الْقِدَمِ؟» فَقال لَها «أَبُو الْحَجَّاج»: «لَيْسُوا جَمِيعًا خَوَنَةً وَغَادِرِينَ — يا أُمَّاهُ — فَإِنَّ فِيهِمُ الطَّيِّبَ وَالْخَبِيثَ، وَالْمُحْسِنَ وَالْمُسِيءَ. وَلَوْلا أَنَّ مَلِكَ «بَنارِسَ» عادِلٌ رَحِيمٌ، سَرِيُّ النَّفْسِ، لَما وَجَدْتُ إِلَى الْفَكاكِ مِنْ أَسْرِي سَبِيلًا طُولَ الْحَياةِ. وَما أَحْسَنَ أَنْ نَنْسَى — يا أُمَّاهُ — غَدْرَ الْحَطَّابِ، وَلا نَذْكُرَ إِلَّا كَرَمَ الْمَلِكِ وَإِحْسَانَهُ؛ فَإِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ.» وَقَدْ بَرَّ «أَبُو الْحَجَّاجِ» بِما قالَ، وَنَسِيَ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — غَدْرَ الْحَطَّابِ وَخِيَانَتَهُ، وَجُحُودَهُ وَإِساءَتَهُ. وَلكِنَّهُ ظَلَّ — حَياتَهُ كُلَّها — يَذْكُرُ صَنِيعَ مَلِكِ «بَنارِسَ»، وَيَشْكُرُ لَهُ مَعْرُوفَهُ الَّذِي أَسْداهُ، وَلا يَنْساهُ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/83584295/
ثَمَرَةُ الْخِلافِ
كامل كيلاني
تحكي خلافًا بين أخوين على قسمة التفاحة.
https://www.hindawi.org/books/83584295/1/
مُشْكِلَةُ التُّفَّاحَةِ
حَدَّثَ «جُحا، أَبُو الْغُصْنِ»: «دُجَيْنُ بْنُ ثابِتٍ»، قالَ: «سَمِيرٌ» و«مَرْوانُ» أَخَوانِ صَغِيرانِ، مُشاغِبانِ، عَنِيدانِ. كِلاهُما ابْنانِ لِصَدِيقٍ لِي مِنَ الْجِيرانِ، اسْمُهُ الشَّيْخُ «نُعْمانُ». شَدَّ ما ضاقَ صَدْرِي بِما كانا يَخْتَلِفانِ فِيهِ وَيَتَنازَعانِ! لَوْ عَرَفَهُما الْقارِئُ، كَما عَرَفْتُهُما، لَعَذَرَنِي فِي مَوْقِفِي مِنْهُما. لكِنْ ماذا يُجْدِي عِلْمُهُما بِغَضَبِي، فِي سَبِيِلِ التَّقْوِيمِ والْإِصْلاحِ؟ لَمْ أُظْهِرْ لَهُما ضِيقًا، بَلْ تَحَيَّنْتُ فُرْصَةً لِمُحَاوَلَةٍ مُجْدِيَةٍ. قَصَدْتُ بِما قَدَّمْتُ مِنَ الْمُحاوَلَةِ أَنْ أُلْقِيَ دَرْسًا عَلَيْهِما. لَمْ يَخِبْ ظَنِّي فِيما قَدَّرْتُهُ مِنْ نَتِيجَةِ هذا الدَّرسِ الْقاسِي. لَقَدِ اسْتَطاعَ الدَّرْسُ أَنْ يَقَعَ مِنْ نَفْسَيْهِما مَوْقِعَ التَّأْثِيرِ. اقْتَنَعا بِما أَفادَا مِنْ عِظَةٍ، فَأَقْلَعا عَنِ التَّخالُفِ والْخِصامِ. جَنَحا إِلَى الْمُصالَحَةِ والْوِئامِ، وَرَفْرَفَ عَلَيْهِما وُدٌّ وَمَحَبَّةٌ وَسَلامٌ. أَرَاكَ فِي شُوَقٍ إِلَى سَماعِ قِصَّتِي مَعَ هذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ. أَصْغِ بِسَمْعِكَ إِلَيَّ، حَتَّى أَسُوقَ حَدِيْثَ ما كانَ إِلَيْكَ. كُنْتُ — عَصْرَ يَوْمٍ، بَعْدَ انْقِضاءِ عَمَلِي — عَائِدًا إِلَى بَيْتِي. عَلَى الطَّرِيقِ اسْتَوْقَفَنِي هذانِ الشَّقِيقانِ، وَهُما يَتَحاوَرانِ وَيَتَصايَحانِ. هذانِ الشَّقِيقانِ مِنْ أَبْناءِ الْجِيرانِ، كَثِيرًا ما عَهِدْتُهُما يَتَنازَعانِ. لَمْ أَشَأْ أَنْ أَمْضِيَ وَأَتْرُكَهُما، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِما، وَفَرَّقْتُ بَيْنَهُما. قُلْتُ لَهُما: «كَيْفَ اخْتِلافُكُما أَيُّها الْأَخَوانِ؟ وَفِيمَ أَنْتُما مُخْتَلِفانِ؟» ما لَبِثَ الصَّبِيَّانِ الْأَخَوانِ أَنْ كَفَّا عَنِ التَّحاوُرِ والتَّصايُحِ. انِدَفَعا إِلَيَّ، وَتَسابَقَ كُلٌّ مِنْهُما فِي عَرْضِ شَكْواهُ عَلَيَّ. قالا، بِصَوْتٍ واحِدٍ: «أَنْتَ عَمُّنا، فَاحْكُمْ بِما تَراهُ بَيْنَنا.» رَبَّتُّ كَتِفَيْهِما، وابْتَسَمْتُ لَهُما، حَتَّى أُهَدِّئَ مِنْ رَوْعِهِما. قُلْتُ لَهُما: «لَيْسَ مِنَ الْمَقْبُولِ أَنْ يَتَنازَعَ أَخَوانِ شَقِيقانِ. احْكِيا لِي قِصَّتَكُما، وَلا تُخْفِيا عَنِّي شَيْئًا مِنْ أَمْرِكُما. ماذا غَيَّرَ حَالَكُما؟ ماذا كَدَّرَ صَفْوَكُما؟ فِيمَ الْخُلْفُ بَيْنَكُما؟» تَعَجَّلَ أَصْغَرُ الشَّقِيقَيْنِ «سَمِيرٌ»، فَطَلَبَ مِنِّي أَنْ أَسْتَمِعَ إِلَيْهِ. قُلْتُ لَهُ: «لا بَأْسَ بِأَنْ أَسْتَمِعَ إِلَيْكَ أَنْتَ، بادِئَ بَدْءٍ.» قال لِي: «هذِهِ التُّفَّاحَةُ الْمَقْسُومَةُ الَّتِي تَراها سَبَبُ الْخِلافِ. اشْتَرَيْناها مَعًا مِنْ فاكِهِيٍّ. كُلٌّ مِنَّا أَدَّى نِصْفَ ثَمَنِها. رَغِبْتُ إِلَى أَخِي فِي أَنْ يَدَعَ لِي أَنْ أَشُقَّها نِصْفَيْنِ. أَخِي ابْتَسَمَ وَقالَ: «سَأُرِيحُكَ مِنَ الْقِسْمَةِ. دَعْنِي أَقْسِمُها». أَخِي لَمْ يَكُنْ مُنْصِفًا فِي شَقِّ التُّفَّاحَةِ نِصْفَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ. أَخِي اسْتَصْغَرَنِي، فَأَلْقَى إِلَيَّ مِنَ التُّفَّاحَةِ بِالنِّصْفِ الْأَصْغَرِ. أَخِي ظَلَمَنِي بِذلِكَ، فَخَصَّ نَفْسَهُ بِنِصْفِ التُّفَّاحَةِ الْأَكْبَرِ.» سَأَلْتُ «مَرْوانَ» مُتَلَطِّفًا: «لِماذا فَعَلْتَ ذلِكَ، يا ابْنَ أَخِي؟» قالَ «مَرْوانُ»: «أَخِي «سَمِيرٌ» لَيْسَ عَلَى حَقٍّ فِيما ادَّعَى. لَقَدْ حَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَشُقَّ التُّفَّاحَةَ شِقَّيْنِ مُتَساوِيَيْنِ.» صاحَ «سَمِيرٌ»: «أَحَقًّا أَنْتَ مُؤْمِنٌ بِهذا الَّذِي تَزْعُمُهُ؟! لَوْ صَحَّ زَعْمُكَ لَسَهُل عَلَيْكَ إِعْطائِي الشِّقَّ الَّذِي مَعَكَ.» قالَ «مَرْوانُ»: «ما فائِدَةُ ذلِكَ، وَالشِّقَّانِ لا فَرْقَ بَيْنَهُما؟» قالَ «سَمِيرٌ»: «الْفائِدَةُ لِي: إِرْضائِي، وَلَكَ: إِثْباتُ زَعْمِكَ.» قالَ «مَرْوانُ»: «لا داعِيَ لِهذِهِ الْمُجادَلَةِ، ما دامَتِ الْقِسْمَةُ عادِلَةً.» قالَ «سَمِيرٌ»: «أَخْبِرْنِي، بِحَقِّكَ: لِماذا أَنْتَ مُتَشَبِّثٌ بِرَأْيِكَ؟» قالَ «مَرْوانُ»: «كَيْفَ لا أَتَشَبَّثُ بِرَأْيِي، وَأَنَا عَلَى صَوابٍ؟» قالَ «سَمِيرٌ»: «سَلْ عَيْنَيْكَ، تُخُبِراكَ بِما لا يَحْتَمِلُ الْعِنادَ. هُما تَرَيانِ الشِّقَّ الَّذِي فِي يَدِكَ أَكْبَرَ مِمَّا فِي يَدِي.» قالَ «مَرْوانُ»: «عَيْناكَ أَنْتَ هُما الْمَخْدُوعَتانِ، فِيما تَرَيانِ.» قالَ «سَمِيرٌ»: «إِلَى مَتَى نَحْنُ مُتَحاوِرانِ، يا أَخِي«مَرْوانُ»؟» قال «مَرْوانُ»: «اقْنَعْ بِما عَرَضْتُهُ عَلَيْكَ، فَالنِّصْفانِ مُتَسَاوِيانِ.» قالَ «سَمِيرٌ»: «الَّرأْيُ أَنْ نَتْرُكَ الْفَصْلَ لِعَمِّنا «أَبِي جَحْوانَ».» شَعَرْتُ بِفَرَحٍ وَسُرُورٍ، حِينَما عَرَضَ «سَمِيرٌ» هذا الِاقْتِراحَ.» قُلْتُ لِلْأَخَوَيْنِ: «أَقْبَلُ الْفَصْلَ بَيْنَكُما، إِذا قَبِلْتُمانِي قَاضِيًا بَيْنَكُما.» قالَ «مَرْوانُ»: «لا أَسْتَطِيعُ رَدَّكَ، إِذا عَرَضْتَ التَّدَخُّل بَيْنَنا.» قُلْتُ: «رَضِيتُمانِي قاضِيًا لَكُما، فارْضَيا بِحُكْمِي بَيْنَكُما.» قالَ الْأَخَوانِ: «اقْضِ بِما شِئْتَ. ما تَحْكُمْ بِهِ نُذْعِنْ لَهُ.» مَدَدْتُ إِلَيْهِما كِلْتا يَدَيَّ، وَقُلْتُ لَهُما: «هاتِيا شَطْرَيِ التُّفَّاحَةِ، سَأُوَازِنُ بَيْنَ الشَّطْرَيْنِ، لِأَرَى: هَلْ هُما حَقًّا يَتَناصَفانِ؟» لَمْ يَتَوانَ كُلٌّ مِنْهُما فِي إِعْطائِيَ النَّصْفَ الَّذِي فِي يَدِهِ. وَضَعْتُ النِّصْفَيْنِ فِي كِلْتا يَدِيَّ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِمَا، وَوَزَنْتُ بَيْنَهُما. تَبَيَّنَتْ لِي الْحَقِيقَةُ، وَلكِنِّي كَتَمْتُها، وَقُلْتُ لِـ«مَرْوانُ» ساخِرًا: «صَدَقْتَ، يا ابْنَ أَخِي. اَلْحَقُّ مَعَكَ. اَلْقِسْمانِ مُتَساوِيانِ.» ما سَمِعَ «مَرْوانُ» ذلِكَ، حَتَّى بَرَقَتْ عَيْناهُ، وَأَشْرَقَ مُحَيَّاهُ. لَمْ يَغِبِ عَنِّي — مِنْ أَوَّلِ نَظْرَةٍ — أَيُّ الْقِسْمَيْنِ أَكْبَرُ؟ مَدَدْتُ يَدِي بِهِ إِلَى «سَمِيرٍ»، قائِلًا لَهُ: «هذا نَصِيبُكَ.» صاحَ «مَرْوانُ» غاضِبًا: «لا تُعْطِهِ الْقِسْمَ الَّذِي كانَ فِي يَدِي.» بِهذا وَضَحَ لِلْعِيانِ، بِأَجْلَى بَيانٍ، أَنَّ الظَّالِمَ هُوَ «مَرْوانُ». رَأَيْتُ أَنَّهُ آنَ الْأَوانُ، لِإِلْقاءِ دَرْسٍ ينْتَفِعُ بِهِ الْأَخَوانِ. سَيَعِيشانِ عَلَى مَرِّ الْأَزْمانِ لا يَتَخالَفانِ، وَلا يَتَظالَمانِ. قُلْتُ لِـ«سَمِيرٍ»: «تَبَيَّنَ لَنا الْآنَ، أَنَّ الْقِسْمَيْنِ لا يَتَساوَيانِ. سَأَعْمدُ إِلَى الْقِسْم الْأَكْبَرِ مِنَ التُّفَّاحَةِ، فَأَنْقُصُ مِنْهُ قَلِيلًا. سَأَحْرِصُ جاهِدًا عَلَى أَنْ يَتَساوَى الْقِسْمانِ، وَيَتعادَلَ النَّصِيبانِ.» رَفَعْتُ الْقِسْمَ الْأَكْبَرَ إِلَى فَمِي، فَقَضِمْتُ مِنْهُ قَضْمَةً ضَخْمَةً. بهذا انْعَكَسَتِ الْحالُ، فَأَصْبَحَ الْقِسْمُ الْأَكْبَرُ هُوَ الْقِسْمَ الْأَصْغَرَ. أَعْنِي أَنَّ نَصِيبَ «مَرْوانَ» صارَ أَصْغَرَ مِنْ نَصِيبِ «سَمِيْرٍ». صاحَ «مَرْوانَ»: «أَنا الْآنَ أَرْضَى بِالْقِسْمِ الَّذِي كانَ لِأَخِي. لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِسْمَ الَّذِي كانَ — مِنْ قَبْلُ — نَصِيبًا لِي.» قُلْتُ لَـ«مَرْوَنَ»: «الْقَضْمَةُ الَّتِي قَضِمْتُها غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ. لَقَدْ أَرَدْتُ بِها التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَأَخْطَأْتُ، غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ. سَأَقْضَمُ مِنْ قِسْمِ «سَمِيرٍ» قَلِيلًا، حَتَّى يُساوِيَ الْقِسْمَ الْآخَرَ.» داوَلْتُ الْقَضْمَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، مَرَّاتٍ، بِحُجَّةِ الْمُعادَلَة بَيْنَهما. لَمْ أُبْقِ — بَعْدَ الْقَضْمِ، مِنَ الْقِسْمَيْنِ — إِلَّا قِطْعَتَيْنِ صَغِيرتيْن. «سَمِيرٌ» وَ«مَرْوَانُ» كانا يُتابِعانِ ما حَلَّ بِالتُّفَّاحَةِ، فَيَتَأَلَّمانِ. أَقْبَلَ كِلاهُما عَلَيَّ، يُطالِبانِ بِما بَقِيَ مِنْ قِسْمَيِ التُّفَّاحَةِ. لَمْ أَسْتَجِبْ لِمَطْلَبِهِما، لِيَكُونَ فِي صَنِيعِي مَعَهُما دَرْسٌ لَهُما. قُلْتُ: «أَخْشَى عَلَيْكُما أَنْ تُحْدِثَ بَقِيَّةُ التُّفَّاحَةِ خِلافًا لَكُما.» قالَ «مَرْوانُ»: «لَنْ نَخْتَلِفَ. كُلٌّ مِنَّا يَرْضَى بِأَيَّةِ الْقِطْعَتَيْنِ.» ظَهَرَ لِي تَغَيُّرُ حالَيْهِما، فَأَلْقَيْتُ نَظْرَةً ساخِرَةً عَلَيْهِما، وَقُلْتُ: «أَتَظُنَّانِ أَنَّ عَمَّكُما «جُحَا» يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِالْقَضاءِ دُونَ ثَمَنٍ؟ أَلَيْسَ الْعَدْلُ أَنْ تَكُونَ بَقِيَّةُ التُّفَّاحَةِ نَصِيبِي، مُكافَأَةً لِي؟ إِنَّي لَبِثْتُ — أَيُّها الصَّبِيَّانِ — وَقْتًا طَوِيلًا مَعَكُما، مِنْ أَجْلِكُما. دَرَسْتُ قَضِيَّتَكُما، وَأَزَلْتُ الْخِلافَ بَيْنَكُما، وَرَفَعْتُ الظُّلْمَ عَنْكُما.» قالَ «سَمِيرٌ»: «الدَّرْسُ الَّذِي أَلْقَيْتَهُ عَلَيْنا، تَعْوِيضٌ عَنِ التُّفَّاحَةِ. نَحْتَمِلُ مَرارَةَ الْحِرْمانِ مِنْها، لِحَلاوَةِ هذا الدَّرْسِ الْمُفِيِد النَّافِعِ.» قالَ «مَرْوانُ»: «الدَّرْسُ كانَ خاصًّا بِي، فانْتِفاعِي بِهِ أَكْبَرُ.» قُلْتُ لَهُما: «لا تَسْخَطا إِذَنْ عَلَيَّ، لِهذا التَّصرُّفِ مَعَكُما. لا شَكَّ فِي أَنَّكُما مُؤْمِنانِ بِأنِّي لَمْ آكُلِ التُّفَّاحَةَ طَمَعًا فِيها. ارْجِعا إِلَى بَيْتِكُما، وَأَبْلِغا أَباكُما، ما جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَكُما؛ قُولا لَهُ: «إِنَّ عَمَّكُما أَزْعَجَهُ نِزاعُكُما مِنْ أَجْلِ تُفَّاحَتِكُما، لِذلِكَ أَكَلَها دَفْعًا لِخُصُومَتِكُما، وَحِمايَةً لَكُما، وَإِعْزازًا لِأُخُوَّتِكُما».»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/83584295/
ثَمَرَةُ الْخِلافِ
كامل كيلاني
تحكي خلافًا بين أخوين على قسمة التفاحة.
https://www.hindawi.org/books/83584295/2/
قِسْمَةُ الْجُبْنِ
أَخَذْتُ طَرِيقِي إلَى بَيْتِي، وَأَنا أَشْعُرُ فِي نَفْسِي بِالرِّضا والِاطْمِئْنانِ. لَقِيَنِي عِنْدَ البَابِ ابْنَتِي «جُحَيَّةُ»، وابْنِي «جَحْوانُ»، وَهُما قَلِقانِ. قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «مُنْذُ وَقْتٍ وَنَحْنُ مَنْتَظِرانِ، ما أَخَّرَكَ حَتَّى الْآنَ؟» قُلْتُ: «ما جَرَى بَيْنَ «سَمِيرٍ» وَ«مَرْوانَ»: ابْنَيِ الشَّيْخِ «نُعْمَانَ». ما كانَ لِي أَنْ أَتْرُكَهُما، وَقَدْ رَأَيْتُهُما يَتَحاوَرانِ وَيَتَنازَعانِ.» قالَتْ «جُحَيَّةُ»: فِيمَ كانَ يَتَنازَعانِ هذانِ الأَخَوانِ الشَّقِيقانِ؟» قالَ «جَحْوانُ»: «كَيْفَ يَكْشِفانِ عَنْ تَخاصُمِهما فِي الطَّرِيقِ لِلْعِيانِ؟» قُلْتُ: «لَيْسَ مُجَرَّدُ النَّزاعِ بَيْنَهُما، هُوَ سَبَبُ التَّعَجُّبِ مِنْهُما. الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْغَرابَةِ مِنْ أَمْرِهِما: سَبَبُ النِّزاعِ بَيْنَهُما. أَلَيْسَ عَجَبًا تَنَازُعُ الْأَخَوَيْنِ، فِي تُفَّاحَةٍ مَقْسُومَةٍ نِصفَيْنِ؟! أَكْبَرُ الْأَخَوَيْنِ تَوَلَّى قَسْمَ التُّفَّاحَةِ، دُونَ أَنْ يَتَساوَى الْقِسْمانِ. فَعَلَ ذلِكَ لِيَخْتَصَّ نَفْسَهُ بِالْقِسْمِ الْأَكْبَرِ، دُوْنَ أَخِيهِ الْأَصْغَرِ. الْأَخُ الْأَصْغَرُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَخِيهِ الْغُرْمَ، وَرَفَضَ الظُّلْمَ. تَدَخَّلْتُ بَيْنَهُما، فَأَفَقَدْتُهُما تُفَّاحَتَهُما، لِيَكُونَ ذلِكَ دَرْسًا لَهُما! قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «ما أَحْكَمَ ما صَنَعْتَ إِزاءَ الْأَخَوَيْنِ يا أَبَتاهُ!» قالَ «جَحْوانُ»: «هذِهِ نِهايَةُ التَّنازُعِ، فِي كُلِّ زَمانٍ وَمَكانٍ. لَوْلا تَخالُفُ النَّاسِ — فِيما بَيْنَهُمْ — لَعَاشُوا جَمِيعًا فِي أَمانٍ.» قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «لَيْتَ كُلَّ إِنْسانٍ يُحِبُّ لِغَيْرِهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ! إِذَنْ، لَخَلا مَجْلِسُ الْقَضاءِ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ خَصْمانِ.» قالَ «جَحْوَانُ»: «لَوْ حَكَّمَ النَّاسُ عُقُولَهُمْ لَأَظَلَّتْهُمْ رايَةُ الْأَمانِ. لَوِ الْتَزَمَ النَّاسُ بِالْعَدْلِ والْإِنْصافِ، لامَّحَتْ بَيْنَهُمْ دَواعِي الْخِلافِ.» قُلْتُ لِوَلَدَيَّ: «اَلْعَقْلُ والْعَدْلُ جَوْهَرانِ ثَمِينانِ، قَلَّما يَتَوافَرانِ. اَلنَّاسُ — فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، والْتِزامِ الْعَدْلِ — لَيْسُوا عَلَى سَواءٍ. يَمِيلُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الظُّلْمِ طَوْعًا لِما لَهُمْ مِنْ أَهْواءٍ. نَزَواتُ النُّفُوسِ تَبْعَثُ عَلَى نُشُوبِ الْخِصامِ، وَتُفْسِدُ الْوِئامَ.» قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «ما أَذْكُرُ أَنِّي اخْتَلَفْتُ مَعَ أَخِي فِي شَيْءٍ.» قالَ «جَحْوانُ»: «لَيْسَ فِي الْحَياةِ ما نَخْتَلِفُ فِيهِ يا أُخْتاهُ. كِلانا يُفَضِّلُ أَخاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُسْعِدُهُ بِما فِي وُسْعِهِ.» امْتَدَّ الْوَقْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ وَلَديَّ، وَنَحْنُ نَتَجاذَبُ أَطْرافَ الْكَلامِ. كانَتْ دَعْوَتُنا — فِي حَدِيثِنا — إِلَى السَّلامِ، هِيَ مِحْوَرُ الِاهْتِمامِ. ما لَبِثْتُ أَنْ طَرَقَ سَمْعِي — عَلَى الْبابِ — طَرَقاتٌ مُتَوالِياتٌ. أَطْلَلْتُ مِنَ النَّافِذَةِ، فَإِذا الطَّارِقُ هُوَ جارُنا الشَّيْخُ «نُعْمانُ». قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «أَغْلَبُ ظَنِّي أنَّهُ أَبُو «سَمِيرٍ» وَ«مَرْوانَ».» قُلْتُ: «تَوَقَّعْتُ أَنْ يَزُورَنِي، فَلَيْسَتْ زِيارَتُهُ مُفاجَأَةً لِي.» قالَ «جَحْوانُ»: «فِي حُضُورِهِ تَعْبِيرٌ لَكَ عَنْ شُكْرِهِ.» رَحَّبْتُ بِقُدُومِ الشَّيْخِ «نُعْمانَ»، ما وَسِعَنِي أَنْ أُرَحِّبَ بِهِ. لَمَّا اسْتَقَرَّ بَيْنِي وَبَيْنَ ضَيْفِي الْجُلُوسُ، ابْتَدَرَنِي قائِلًا لِي: «لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ أَشْكُرُ ما أَسْدَيْتَ إِلَيْنا مِنْ جَمِيلٍ؟! أَلْقَيْتَ عَلَى وَلَدَيَّ دَرْسًا بَلِيغًا لَنْ يَنْسَياهُ مَدَى الْحَياةِ! أَوْضَحْتَ لَهُما ما فِي الْخِلافِ والْخِصامِ مِنْ شُرُورٍ وآثامٍ. ضاعَتْ تُفَّاحَتُهُما، مِنْ أَيْدِيهِما، بِسَبَبِ اخْتِلافِهِما وَتَشاحُنِهِما. لَوْ عَدَلَ الْأَخُ الْأَكْبَرُ مَعَ أَخِيهِ الْأَصْغَرِ، لاسْتَمْتَعا بِها.» قُلْتُ: «أَدَّيْتُ واجِبِي، كَيْفَ تَشْكُرُنِي؛ لا شُكْرَ عَلَى واجِبٍ.» قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «طالَما ضَجِرْتُ بِالْخِلافِ بَيْنَ وَلَدِيَّ. كانا مَعًا قَلَّما يَتَفاهَمانِ فِي أَمْرٍ، أَوْ يَتَّفِقانِ عَلَى رَأْىٍ! حَرَمْتَهُما تُفَّاحَتَهُما بُغْيَةَ الْعِقابِ، فَدَلَلْتَهُما بِذلِكَ عَلَى الصَّوابِ! بِمِثْلِ دَرْسِكَ تَنْتَفِعُ نَاشِئَةُ الْأَبْناءِ، بِتَجارِبِ الشُّيوخِ الْآبَاءِ. لَقَدْ أَجْرَى اللهُ عَلَى يَدَيْكَ الْخَيْرَ، فَلَكَ حُسْنُ الْجَزاءِ.» قُلْتُ لِلشَّيْخِ «نُعْمانَ»: «هَيَّأَ اللهُ لِي تِلْكَ الْمُصادَفَةَ السَّعِيدَةَ، كَأَنَّما كانَ مُرُورِي بِوَلَدَيْكَ، فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَوْعِدٍ مُحَدَّدٍ! وَفَّقَنِي اللهُ فِي تَصَرُّفِي إِلَى إِصْلاحِ أَمْرِهِما، وَالتَّوْفيقِ بَيْنَهُما.» قُلْتُ لِلشَّيْخِ «نُعْمانَ»: «صَنِيعِي مَعَ وَلَدَيْكَ لَيْسَ وَلِيدَ ابْتِكارٍ. أَلَا تَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّنِيعَ لَهُ نَظِيرٌ فِي دَرْسٍ قَدِيمٍ؟» قَالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «ذَكَرْتُ ذلِكَ، وما يَجُوزُ لِي أَنْ أَنْساهُ. أَنْتَ أَحْيَيْتَ الدَّرْسَ الْقَدِيمَ، بِما صَنَعْتَهُ فِي مَوْقِفِكَ الْجَدِيِد.» قُلْتُ: «لا يَضِيرُ الْعَمَلَ الْمُفِيدَ أَنَّهُ مُحاكاةٌ لَما جَرَى وَتَقْلِيدٌ.» قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «أَلَسْتَ تَعْنِي قِسْمَةَ الْجُبْنِ بَيْنَ اْلقِطَّتَيْنِ؟» قُلْتُ: «إِنَّ هذِهِ الْقِصَّةَ جَرَتْ عَلَى الزَّمانِ، مَجْرَى الْأَمْثالِ. حَكَاها الرُّواةُ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَجْيالِ، واعْتَبَرُوها مِنْ مُحْكَمِ الْأَقْوالِ. مِنْ حَقِّنا أَنْ نَنْتَفِعَ بِها فِي حَياتِنا، كَما انْتَفَعَ مَنْ قَبْلَنا. لَيْسَ بِدْعًا — فِي مَوْقِفِي مِنْ وَلَدَيْكَ — أَنِّي بِها اسْتَنَرْتُ. حُكْمُ قاضِى الْقِطَّتَيْنِ هُوَ شَأْنِي، مَعَ وَلَدَيْكَ، حِينَ قَضَيْتُ.» كانَ ابْنايَ «جَحْوانُ» و«جُحَيَّةُ» يَسْتَمِعانِ لِحَدِيثِنا فِي حَمِيَّةٍ. بَدا عَلَى وَجْهَيْهِما التَّطَلُّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحِكايَة الْمَرْوِيَّةِ. طَلَبَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ» أَنْ يَسْمَعَها مَعَ «جَحْوانَ» و«جُحَيَّةَ». قُلْتُ: «لِتَرَوْا كَيْفَ مَثَّلْتُها مَعَ الْأَخَوَيْنِ، سَأَرْوِيها فِي رَوِيَّةٍ: «فِي أَحَدِ الْبُلْدانِ عاشَتْ فِي قَدِيمِ الزَّمانِ قِطَّتانِ أَليِفَتانِ. كانَتْ هاتانِ الْقِطَّتانِ الصَّدِيقَتانِ تَتَعاونانِ، فِيما إِلَيْهِ تَحْتَاجانِ. كُلُّ قِطَّةٍ تَشْتَرِكُ مَعَ أُخْتِها فِي مُمارَسَةِ اللَّهْوِ واللَّعِبِ. الْقِطاطُ أُعْجِبَتْ بِأُلْفَتِهِما وَإِخائِهِما، وَتَغَنَّتْ بِتَعاوُنِهِما وَوَفائِهِما. اعْتَبَرَتْهُما مِثالًا لِما يَجِبُ أَنْ يَسُودَ مِنْ مَحَبَّةٍ وَسَلامٍ. دامَ وِفاقُ هاتَيْنِ الْقِطَّتَيْنِ طَوَيلًا، وَيَوْمًا دَبَّ بَيْنَهُما خِصامٌ! مَبْعَثُ ذلِكَ ذَهَابُهُما لِرِحْلَةِ صَيْدٍ، لَمْ تُوَفَّقا فِيها لِشَيْءٍ. فِي عَوْدَتِهِما دَخَلَتا بَيْتًا، فَلَمَحَتا فَوْقَ رَفٍّ طَبَقَ جُبْنٍ. اسْتَطاعَتْ كُبْرَى الْقِطَّتَيْنِ أَنْ تَقْفِزَ، فَتُسْقِطَ قُرْصًا كَبِيرًا مِنْهُ. فَرِحَتْ صُغْرَى الْقِطَّتَيْنِ، وَانْتَظَرْتَ مِنْ أُخْتِها قِسْمَةَ الْقُرْصِ بَيْنهُما. عَمَدَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى إِلَى الْقُرْصِ، فَقَسَمَتْهُ قِسْمَيْنِ غَيْرَ مُتَساوِيَيْنِ. حَرَصْتَ عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ لِنَفْسِها بِالْقِسْمِ الْأَكْبَرِ مِنَ الْقُرْصِ. قالَتْ لِلْقِطَّةِ الصُّغْرَى: «لا يَجُوزُ لِي حِرْمانُكِ مِنْ نَصِيبٍ. اسْتَبْقَيْتُ لِنَفْسِي مِنَ الْقُرْصِ قِسْمًا، وبَقِيَ لَكِ هذا الْقِسْمُ.» هَكَذا أَخَذَتْ هِيَ الْقِسْمَ الْأَكْبَرَ، وَأَعْطَتْ أُخْتَها الْقِسْمَ الْأَصْغَرَ. حَمَلَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى الْقِسْمَ الَّذِي قَدَّمَتْهُ لَها الْقِطَّةُ الْكُبْرَى. تَبَيَّنَ لَها أَنَّهُ يَنْقُصُ عَنِ الْقِسْمِ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْأُخْرَى. قالَتْ لِأُخْتِها: «كَيْفَ رَضِيتِ أَنْ تَقْسِمي الْقُرْصَ قِسْمَةً ظالِمَةً؟! نَحْنُ شَرِيكَتانِ فِي سَيْرِنا، فَيَجِبُ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي غُنْمِنا. لَوْ أَنِّي قَفَزْتُ، وَأَسْقَطْتُ الْقُرْصَ، لَما صَنَعْتُ صَنِيعَكِ!» قالَتْ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «ماذا تُنْكِرِينَ؟ قَسَمْتُ الْقُرْصَ قِسْمَيْنِ.» حاوَلْتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى إِقْناعَ الْقِطَّةِ الْكُبْرَى بِخَطَإِ ما فَعَلَتْ. لَمْ يَبْدُ عَلَى الْقِطَّةِ الْكُبْرَى أَنَّها سَتَعْدِلُ عَنْ تَصَرُّفِها! قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «لا أَقْبَلُ هذا الْقِسْمَ الْمَنْقُوصَ نَصِيبًا.» قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «أَتَرْفُضِينَ قَسْمًا لَيْسَ لَكِ فِيهِ جُهْدٌ؟» قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «الشَّرِيكانِ يَتَناصَفانِ ما يَحْصُلُ عَلَيْهِ أَيُّهُما. يَلْزَمُ أَنْ نَقْسِمَ فِيما بَيْنَنا، ما حَصَلْنا عَلَيْهِ فِي رِحْلَتِنا.» قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «فَعَلْتُ ذلِكَ. أَشْرَكْتُكِ فِي غَنِيمَةِ الْجُبْنِ.» قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «نَصِيبِي مِنَ الْجُبْنِ أَنْقَصُ مِنْ نَصِيبِكِ.» قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «كَيْفَ أُقْنِعُكِ بِأَنِّي عَلَى حَقٍّ، فِيما فَعَلْتُ؟» قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «نَحْتَكِمُ إِلَى أَوَّلِ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الطَّرِيقِ.» وَقَفَتِ الْقِطَّتانِ بِجانِبِ الطَّرِيقِ تَنْتَظِرانِ بِفارِغِ صَبْرٍ مَنْ يَمُرُّ. لَمْ تَلْبَثا طَوِيلًا، حَتَّى لَمَحَتا قِرْدًا يَخْتالُ فِي مِشْيَتِهِ. اسْتَوْقَفَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى الْقِرْدَ الْمُخْتالَ، فاسْتَجابَ لَها فِي الْحالِ. قالَتْ لَهُ: «أَنْتَ أَوَّلُ مَنْ يَمُرُّ بِنا، كَيْ يَحْكُمَ فِي نِزاعِنا.» هَشَّ الْقِرْدُ وَبَشَّ، وَهُوَ يَرْمُقُ قُرْصَ الْجُبْنِ الْمَقْسوُمِ بَيْنَهُما. اَلْقِطَّةُ الْكُبْرَى حَكَتْ لِلْقِرْدِ ما جَرَى فِي شَأْنِ قُرْصِ الْجُبْنِ. الْقِطَّةُ الصُّغْرَى أَكَّدَتْ لَهُ أَنَّ قِسْمَيِ الْقُرْصِ غَيْرُ مُتَساوِيَيْنِ. وَجَدَ الْقِرْدُ فِي هذا الْخِصامِ فُرْصَةً لِلِاسْتِغْلَالِ والِاغْتِنامِ. ما أَسْرَعَ أَنْ رَسَمَ الْخُطَّةَ، لإِنْفاذِ ما نَواهُ مِنْ كَيْدٍ وَخُدْعةٍ! قالَ لِلْقِطَّتَيْنِ: «اَلْقاضِي النَّزِيهُ لَا يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ إِلَّا عَنْ بَيِّنَةٍ. الْجُبْنُ الَّذِي مَعَكُما قِسْمانِ، يَجِبُ وَضْعُهُما فِي كِفَّتَيْ مِيزانٍ.» طَلَبَ مِنْهُما الِانْتِظارَ لإِحْضارِ مِيزانٍ يَزِنُ بِهِ قِسْمَي الْقُرْصِ. أَحْضَرَ المِيزانَ وَرَفَعَهُ بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَوَضَعَ الْقِسْمَيْنِ فِي الْكِفَّتَيْنِ. أَظْهَرَ الْوَزْنُ لِلْقِطَّتَيْنِ بِجَلاءٍ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ لَيْسا عَلَى سَواءٍ. رَجَحَتْ كِفَّةُ الْمِيزانِ بِقِسْمِ الْجُبْنِ الَّذِي كانَ لِلْقِطَّةِ الْكُبْرَى. عَمَدَ الْقِرْدُ إِلَى الْقِسْمِ الْأَكْبَرِ الرَّاجِحِ، فَقَضَمَ مِنْهُ قَضْمَةً ضَخْمَةً. أَعادَ الْقِسْمَ الْمَقْضُومَ إِلَى الْكِفَّةِ، فَرَجَحَتْ عَلَيْها الْكِفَّةُ الْأُخْرَى. قالَ الْقِرْدُ: «لا بُدَّ مِنْ تَحْقِيق الْعَدْلِ، بِالْمُساواةِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ.» جَعَلَ الْقِرْدُ يُداوِلُ الْقَضْمَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، أَمامَ أَعْيُنِ الْقِطَّتَيْنِ. كانَ الْقِسْمانِ — مَعَ تَداوُلِ الْقَضْمِ — يَتَناقَصانِ فِي كِفَّتَيِ الْمِيزانِ. أَصْبَحَتِ الْكِفَّتانِ، وَفِيهِما مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ قِطْعَتانِ ضَئِيلَتانِ. كانَتِ الْقِطَّتانِ تَنْزَعِجانِ، وَهُما تَنْظُرانِ تَنَاقُصَ الْجُبْنِ فِي الْمِيزانِ. كُلٌّ مِنْهُما كانَتْ تَشْعُرُ بِالْحَسْرَةِ، لِما أَصابَهُما مِنَ الْخُسْرانِ. الْقِرْدُ كانَ يَلُوكُ الْجُبْنَ فِي فَمِهِ، وَيَتَلمَّظُ بِتَلَذُّذٍ واطْمِئْنانٍ. اَلْقِطَّتانِ الْحَزِينَتانِ كانَتا فِي مَوْقِفِهِما تُفَكِّرانِ: ماذا هُما صانِعَتانِ؟ لا شَكَّ أَنَّ قُرْصَ الْجُبْنِ سَيَفْنَى، إِذا اسْتَمَرَّ هذا النُّقْصانُ. كانَتا تَرَيانِ كِفَّتَي الْمِيزانِ تَتَراقَصانِ، فَيَشْتَدُّ فِي قَلْبَيْهِما الْخَفَقانُ. صَرَخَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى تَطْلُبُ مِنَ الْقِرْدِ أَنْ يَتْرُكَهُما تَتَفاهَمانِ. قالَتْ: «كَفانا ما جَرَّتْهُ عَلَيْنا، فِي مِيزَانِكَ، هاتانِ الْكِفَّتانِ. أَعْطِنا بَقِيَّةَ جُبْنِنا، وَلَكَ مِنَّي وَمِنْ صاحِبَتِي شُكْرانِ.» قالَ الْقِرْدُ: «لَقَدْ فَوَّضْتُما إِلَيَّ الْحُكْمَ بَيْنَكُما، فَكَيْفَ تَتَراجَعانِ؟» قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «كُنَّا مُتَخاصِمَتَيْنِ، وَنَحْنُ الْآن مُتَصالِحَتانِ. حَسْبُنا مِنَ الْجُبْنِ، يا قاضِيَ الْغابَةِ، هاتانِ الْقِطْعَتانِ الْباقِيَتانِ. لَمْ تَعُدْ بَيْنِي وَبَيْنَ أُخْتِي غَيْرُ مُشْكِلَتِنا مَعَكَ الْآنَ.» قالَ الْقِرْدُ: «اسْتَطَعْتُ بِتَصَرُّفِي الْحَكِيمِ أَنْ أَجْعَلَكُما تَتَصافَيَانِ. مُكَافَأَتِي عَلَى قَضائِي بَيْنَكُما: بَقِيَّةُ الْجُبْنِ. فَهَلْ تَسْتَكْثِرانِ؟» قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «أَمَا كانَ فِيما قَضَمْتَهُ مِنَ الْجُبْنِ ما يَكْفِيكَ؟!» قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «أَهكَذا يَكُونُ حُكْمُ الْعَدْلِ، فِي قَضاءِ الْغابَةِ؟!» قالَ الْقِرْدُ: «أَهذا جَزائِي مِنْكُما؟! لا حَكَمْتُ بَعْدَ الْآنَ بَيْنَكُما!» رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهِما الْقِطَّتانِ، وَهُمَا تَتَبادَلانِ الْحَدِيثَ فِيما كانَ. نَدِمَتْ كِلْتاهُما عَلَى ما جَرَى مِنَ الْخِلافِ، وَتَرْكِ الْإِنْصافِ. شَعَرَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى بِأَنَّها أَخْطَأْتْ فِي جَوْرِها عَلَى أُخْتِها. قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «لَيْتَنِي رَضِيتُ بِالْقِسْمِ الْمَنْقُوصِ.» الْقِطَّتانِ عَرَفَتا أَنَّ الْخَيْرَ، كُلَّ الْخَيْرِ، فِي التَّسامُحِ وَالتَّصالُحِ. آمَنَتا بِأنَّ الْخِلافَ يُشِيعُ الْبَغضاءَ، وَيَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ هَباءً. قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «لا آسَفَ عَلَى ما فَقَدْنا مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ.» قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «الْجُبْنُ الَّذِي فَقَدْناهُ كَسْبٌ، لا خُسْران. الَّذِي كَسَبْنا بِفِقْدانِهِ أَثْمَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَحْصُلُ عَلَيْهِ. فَقَدْنا طَعامَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَكَسَبْنا خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً عَمِيقَتَيْنِ. قاضِي الْغابَةِ أَرادَ بِنا الشَّرَّ، فَإِذا هُوَ الْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ!» الْقِطَّتانِ تَعاهَدَتا عَلَى أَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُما ما يَدْعُو إِلَى النِّزاعِ. ظَلَّتا تَذْكُرانِ دَائِمًا ما جَرَى لَهُما كُلَّما ظَفِرَتا بِالْجُبْنِ. كانَتا تَتَلَذَّذانِ وَهُما تَطْعَمانِهِ، لِما لَهُ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِما وَإِحْسانٍ. عاشَتا، فِي سائِرِ تَصَرُّفِهِما، يُظِلُّهُما الْوِئامُ، وَيَسُودُهُما الْأَمانُ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/0.1/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
الحمد لله خالق الكون على نظام محكم متين، والصلاة والسلام على أنبيائه العظام هداة الأمم إلى الحق المبين، لاسيما منهم على النبي العربي الذي أرسله رحمة للعالمين ليرقى بهم معاشا ومعادا على سلم الحكمة إلى عليين. أقول وأنا مسلم عربي مضطر للاكتتام شأن الضعيف الصادع بالأمر، المعلن رأيه تحت سماء الشرق، الراجي اكتفاء المطالعين بالقول عمن قال: وتعرف الحق في ذاته لا بالرجال، إنني في سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وألف هجرية، هجرت دياري سرحا في الشرق، فزرت مصر واتخذتها لي مركزا أرجع إليه مغتنما عهد الحرية فيها على عهد عزيزها حضرة سمي عم النبي (العباس الثاني) الناشر لواء الأمن على أكناف ملكه، فوجدت أفكار سراة القوم في مصر كما هي في سائر الشرق خائضة عباب البحث في المسألة الكبرى، أعني المسألة الاجتماعية في الشرق عموما وفي المسلمين خصوصا، إنما هم كسائر الباحثين، كل يذهب مذهبا في سبب الانحطاط وفي ما هو الدواء. وحيث إني قد تمحص عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. وقد استقرّ فكري على ذلك — كما أن لكل نبأ مستقرا — بعد بحث ثلاثين عاما … بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء. أو أن ذلك فرع لأصل، أو هو نتيجة لا وسيلة. فالقائل مثلا: إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائرا عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل: إن الداء اختلاف الآراء، يقف مبهوتا عند تعليل سبب الاختلاف. فإن قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد … وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها فيرجع إلى القول: هذا ما يريده الله بخلقه، غير مكترث بمنازعة عقله ودينه له بأن الله حكيم عادل رحيم …. وإني إراحة لفكر المطالعين أعدد لهم المباحث التي طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أني ما وافقت على الرأي القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض. وأرجو الله أن يجعل حسن نيتي شفيع سيئاتي، وها هي المباحث: في زيارتي هذه لمصر، نشرت في أشهر جرائدها بعض مقالات سياسية تحت عنوانات: الاستبداد، ما هو الاستبداد وما تأثيره على الدين، على العلم، على التربية، على الأخلاق، على المجد، على المال … إلى غير ذلك. ثم في زيارتي مصر ثانية أجبت تكليف بعض الشبيبة، فوسعت تلك المباحث خصوصا في الاجتماعيات كالتربية والأخلاق، وأضفت إليها طرائق التخلص من الاستبداد، ونشرت ذلك في كتاب سميته: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وجعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيمن نواصيهم. ولا غرو فلا شباب إلا بالشباب. ثم في زيارتي هذه وهي الثالثة، وجدت الكتاب قد نفد في برهة قليلة فأحببت أن أعيد النظر فيه وأزيده زيدا مما درسته فضبطته، أو ما اقتبسته وطبقته. وقد صرفت في هذا السبيل عمرا عزيزا وعناء غير قليل … وأنا لا أقصد في مباحثي ظالما بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه … ولي هناك قصد آخر وهو التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل … وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات. وقد تخيرت في الإنشاء أسلوب الاقتضاب وهو الأسلوب السهل المفيد الذي يختاره كتاب سائر اللغات ابتعادا عن قيود التعقيد وسلاسل التأصيل والتفريع. هذا وإني أخالف أولئك المؤلفين، فلا أتمنى العفو عن الزلل، إنما أقول: هذا جهدي، وللناقد الفاضل أن يأتي قومه بخير منه. فما أنا إلا فاتح بابٍ صغيرٍ من أسوار الاستبداد. عسى الزمان يوسعه، والله وليّ المهتدين.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/0.2/
مقدمـة
لا خفاء أن السياسة علم واسع جدًّا يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى. وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه. وقد جاء في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطرادا في مدونات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب. ولا تعرف للأقدمين كتب مخصوصة في السياسة لغير مؤسسي الجمهوريات في الرومان واليونان، وإنما لبعضهم مؤلفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس ومحررات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج. وأما في القرون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مفصلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام؛ فهم ألفوا فيه ممزوجا بالأخلاق كالرازي والطوسي والغزالي والعلاتي وهي طريقة الفرس، وممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي وهي طريقة العرب، وممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة وهي طريقة المغاربة. أما المتأخرون من أهل أوروبا ثم أميركا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيرا وأشبعوه تفصيلا حتى إنهم أفردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية إلخ. وقسموا كلا منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع. وأما المتأخرون من الشرقيين، فقد وجد من الترك كثيرون ألفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلة وممزوجة مثل أحمد جودة باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلفون من العرب قليلون ومقلون، والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم رفاعة بك، وخير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني. ولكن يظهر لنا الآن أن المحررين السياسيين من العرب قد كثروا، بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضيع كثيرة. ولهذا لاح لهذا العاجز أن أذكِّر حضراتهم على لسان بعض الجرائد العربية بموضوع هو أهم المباحث السياسية، وقلّ من طرق بابه منهم إلى الآن. فأدعوهم إلى ميدان المسابقة في خير خدمة ينيرون بها أفكار إخوانهم الشرقيين وينبهونهم، لاسيما العرب منهم، لما هم عنه غافلون، فيفيدونهم بالبحث والتعليل وضرب الأمثال والتحليل (ما هو داء الشرق وما دواؤه؟). ولما كان تعريف علم السياسية بأنه هو «إدارة الشئون المشتركة بمقتضى الحكمة» يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها بحث (الاستبداد) أي التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى. وإني أرى أن المتكلم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعريف وتشخيص «ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما أعراضه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟» وكل موضوع من ذلك يتحمل تفصيلات كثيرة وينطوي على مباحث شتى من أمّاتها: ما هي طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟ ما تأثير الاستبداد على الدين؟ على العلم، على المجد، على المال، على الأخلاق. على الترقي، على التربية، على العمران؟ من هم أعوان المستبد؟ هل يُتحمل الاستبداد؟ كيف يكون التخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبداد الاستبداد؟ قبل الخوض في هذه المسائل يمكننا أن نشير إلى النتائج التي تستقر عندها أفكار الباحثين في هذا الموضوع وهي نتائج متحدة المدلول مختلفة التعبير على حسب اختلاف المشارب والأنظار في الباحثين وهي: يقول المادي: الداء القوة والدواء المقاومة. ويقول السياسي: الداء استعباد البرية والدواء استرداد الحرية. ويقول الحكيم: الداء القدرة على الاعتساف والدواء الاقتدار على الاستنصاف. ويقول الحقوقي: الداء تغلب السلطة على الشريعة والدواء تغليب الشريعة على السلطة. ويقول الرباني: الداء مشاركة الله في الجبروت والدواء توحيد الله حقا. وهذه أقوال أهل النظر. وأما أهل العزائم: فيقول الأبي: الداء مد الرقاب للسلاسل والدواء الشموخ عن الذل. ويقول المتين: الداء وجود الرؤساء بلا زمام والدواء ربطهم بالقيود الثقال. ويقول الحر: الداء التعالي على الناس باطلا والدواء تذليل المتكبرين. ويقول المفادي: الداء حب الحياة والدواء حب الموت.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/1/
ما هو الاستبداد
الاستبداد لغةً هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. وأما تحكم النفس على العقل، وتحكم الأب، والأستاذ، والزوج، ورؤساء بعض الأديان، وبعض الشركات، وبعض الطبقات، فيوصف بالاستبداد مجازا أو مع الإضافة. هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المرادفات والمقابلات، وأما تعريفه بالوصف فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين. وتفسير ذلك هو كون الحكومة إما هي غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمة، وهذه حالة الحكومات المطلقة. أو هي مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تسمي نفسها بالمقيدة أو بالجمهورية. وأشكال الحكومة المستبدة كثيرة ليس هذا البحث محل تفصيلها. ويكفي هنا الإشارة إلى أن صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل — أيضا الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسئول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله الاختلاف نوعا، وقد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد. ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها بالكلية قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن القوة المراقبة، لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسئولية فيكون المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنها صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب. وأشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول كلما قل وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسئول فعلا، وكذلك يخف الاستبداد طبعا كلما قل عدد نفوس الرعية وقل الارتباط بالأملاك الثابتة وقل التفاوت في الثروة وكلما ترقى الشعب في المعارف. ومن الأمور المقررة طبيعة وتاريخيا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين جهالة الأمة، والجنود المنظمة. وهما أكبر مصائب الأمم وأهم معائب الإنسانية، وقد تخلصت الأمم المتمدنة نوعا من الجهالة، ولكن بليت بشدة الجندية الجبرية العمومية، تلك الشدة التي جعلتها أشقى حياة من الأمم الجاهلة وألصق عارا بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد، حتى ربما يصح أن يقال إن مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان، فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم! نعم إذا ما دامت هذه الجندية التي مضى عليها نحو قرنين إلى قرن آخر أيضا تنهك تجلد الأمم وتجعلها تسقط دفعة واحدة. ومن يدري كم يتعجب رجال الاستقبال من ترقي العلوم في هذا العصر ترقيا مقرونا باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلا لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة، لأن تلك لا تتجاوز التعب وضياع الأوقات، وأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال، وتميت النشاط وفكرة الاستقلال، وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشئوم: استبداد الحكومات القائد لتلك القوة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى. ولنرجع لأصل البحث فأقول: لا يعهد في تاريخ الحكومات المدنية استمرار حكومة مسئولة مدة أكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف، وما شذ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في إنكلترا، والسبب يقظة الإنكليز الذين لا يسكرهم انتصار، ولا يخملهم انكسار، فلا يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم، حتى إن الوزارة هي التي تنتخب للملك خدمه وحشمه فضلا عن الزوجة والصهر، وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون كل شيء ما عدا التاج، لو تسنى الآن لأحدهم الاستبداد لغنمه حالا، ولكن هيهات أن يظفر بغرة من قومه يستلم فيها زمام الجيش. أما الحكومة البدوية التي تتألف رعيتها كلها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية يسهل عليهم الرحيل والتفرق متى مست حكومتهم حريتهم الشخصية وسامتهم ضيما ولم يقووا على الاستنصاف، فهذه الحكومات قلما اندفعت إلى الاستبداد، وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب فإنهم لا يكادون يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبع وحمير وغسان إلى الآن إلا فترات قليلة. وأصل الحكمة في أن الحالة البدوية بعيدة بالجملة عن الوقوع تحت نير الاستبداد وهو أن نشأة البدوي نشأة استقلالية بحيث كل فرد يمكنه أن يعتمد في معيشته على نفسه فقط خلافا لقاعدة الإنسان المدني الطبع، تلك القاعدة التي أصبحت سخرية عند علماء الاجتماع المتأخرين، القائلين بأن الإنسان من الحيوانات التي تعيش أسرابا في كهوف ومسارح مخصوصة، وأما الآن فقد صار من الحيوان الذي متى انتهت حضانته عليه أن يعيش مستقلا بذاته، غير متعلق بأقاربه وقومه كل الارتباط، ولا مرتبط ببيته وبلده كل التعلق، كما هي معيشة أكثر الإنكليز والأميركان الذين يفتكر الفرد منهم أن تعلقه بقومه وحكومته ليس بأكثر من رابطة شريك في شركة اختيارية، خلافا للأمم التي تتبع حكوماتها حتى فيما تدين. الناظر في أحوال الأمم يرى أن الأسراء يعيشون متلاصقين متراكمين، يتحفظ بعضهم ببعض من سطوة الاستبداد، كالغنم تلتفت على بعضها إذا ذعرها الذئب، أما العشائر، والأمم الحرة، المالك أفرادُها الاستقلال الناجز فيعيشون متفرقين. وقد تكلم بعض الحكماء لاسيما المتأخرون منهم في وصف الاستبداد ودوائه بجمل بليغة بديعة تصور في الأذهان شقاء الإنسان كأنها تقول له هذا عدوك فانظر ماذا تصنع، ومن هذه الجمل قولهم: «المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق» والتداعي لمطالبته. «المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو الشر، والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت.» «المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما يقدم على الظلم كما يقال: الاستعداد للحرب يمنع الحرب.» «المستبد إنسان مستعد بالطبع للشر وبالإلجاء للخير، فعلى الرعية أن تعرف ما هو الخير وما هو الشر فتلجئ حاكمها للخير رغم طبعه، وقد يكفي للإلجاء مجرد الطلب إذا علم الحاكم أن وراء القول فعلا. ومن المعلوم أن مجرد الاستعداد للفعل فعل يكفي شرّ الاستبداد». «المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذبلا وتملقا، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خَدمت، وإن ضُربت شرست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يُستأثر عليها بالصيد كله، خلافا للكلاب التي لا فرق عندها أطمعت أو حُرمت حتى من العظام. نعم على الرعية أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة لحاكمها، تطيعه إن عدل أو جار، وخلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف، أم هي جاءت به ليخدمها لا ليستخدمها! والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه فإن شمخ هزت به الزمام وإن صال ربطته». من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا قائده العقل، ففكر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل. خلقه وسخر له أما وأبا بأوده إلى أن يبلغ أشُده، ثم جعل له الأرض أما والعمل أبا، فكفر وما رضي إلا أن تكون أمته أمه وحاكمه أباه. خلق له إدراكا ليهتدي إلى معاشه ويتقي مهلكه، وعينين ليبصر، ورجلين ليسعى، ويدين ليعمل، ولسانا ليكون ترجمانا عن ضميره، فكفر وما أحب إلا أن يكون كالأبله الأعمى، المقعد، الأشل، الكذوب، ينتظر كل شيء من غيره وقلما يطابق لسانه جنانه. خلقه منفردا غير متصل بغيره ليملك اختياره في حركته وسكونه، فكفر وما استطاب إلا الارتباط في أرض محدودة سماها الوطن، وتشابك بالناس ما استطاع اشتباك تظالم لا اشتباك تعاون.. خلقه ليشكره على جعله عنصرا حيا بعد أن كان ترابا، وليلجأ إليه عند الفزع تثبيتا للجنان، وليستند عليه عند العزم دفعا للتردد، وليثق بمكافأته أو مجازاته على الأعمال، فكفر وأبى شكره وخلط في دين الفطرة الصحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره. خلقه يطلب منفعته جاعلا رائده الوجدان، فكفر، واستحل المنفعة بأي وجه كان، فلا يتعفف عن محظور صغير إلا توصلا لمحرّم كبير خلقه وبذل له مواد الحياة، من نور ونسيم ونبات وحيوان ومعادن وعناصر مكنوزة في خزائن الطبيعة، بمقادير ناطقة بلسان الحال بأن واهب الحياة حكيم خبير جعل مواد الحياة الأكثر لزوما في ذاته، أكثر وجودا وابتذالا. فكفر الإنسان نعمة الله وأبى أن يعتمد كفالة رزقه فوكله ربه إلى نفسه وابتلاه بظلم نفسه وظلم جنسه وهكذا كان الإنسان ظلوما كفورا. الاستبداد يد الله القوية الخفية يصفع بها رقاب الآبقين من جنة عبوديته إلى جهنم عبودية المستبدين الذين يشاركون الله في عظمته ويعاندون جهارا، وقد ورد في الخبر: (الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه)، كما جاء في أثر آخر: (من أعان ظالما على ظلمه سلطه الله عليه) ولا شك في أن إعانة الظالم تبتدئ من مجرد الإقامة في أرضه. الاستبداد هو نار غضب الله في الدنيا، والجحيم نار غضبه في الآخرة، وقد خلق الله النار أقوى المطهرات فيطهر بها في الدنيا دنس من خلقهم أحرارا وبسط لهم الأرض واسعة وبذل فيها رزقهم، فكفروا بنعمه ورضخوا للاستعباد والتظالم. الاستبداد أعظم بلاء، يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين ولا يرفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة. نعم، الاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي. وإذا سأل سائل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فأبلغ جواب مسكت هو: إن الله عادل مطلق لا يظلم أحدا، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين. ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسراء الاستبداد مستبدا في نفسه لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذي خلقه تابعين لرأيه وأمره. فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار، وهذا صريح معنى: (كما تكونوا يولَ عليكم). ما أليق بالأسير في أرض أن يتحول عنها إلى حيث يملك حريته، فإن الكلب الطليق خير حياة من الأسد المربوط.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/2/
الاستبداد والدين
تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين، والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل، ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيدا للاستبداد السياسي، وليس من العذر شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن نظرا لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين. يقول هؤلاء المحررون إن التعاليم الدينية ومنها الكتب السماوية تدعو البشر إلى خشية قوة عظيمة هائلة لا تدرك العقول كنهها، قوة تتهدد الإنسان بكل مصيبة في الحياة فقط كما عند البوذية واليهودية، أو في الحياة وبعد الممات كما عند النصارى والإسلام، تهديدا ترتعد منه الفرائص فتخور القوى وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول، ثم تفتح هذه التعاليم أبوابا للنجاة من تلك المخاوف نجاة وراءها نعيم مقيم، ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذلل والصغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران، حتى إن أولئك الحجاب في بعض الأديان يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربها ما لم يأخذوا عنها مكوس المرور إلى القبور وفدية الخلاص من مطهر الأعراف. وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهبون الناس من غضب الله وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم ثم يرشدونهم إلى أن لا خلاص ولا مناص لهم إلا بالالتجاء إلى سكان القبور الذين لهم دالة بل سطوة على الله فيحمونهم من غضبه. ويقولون إن السياسيين يبنون كذلك استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسي، ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم عاملين لأجلهم يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون. ويرون أن هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين الديني والسياسي جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركين في العمل كأنهما يدان متعاونتان، وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنهما اللوح والقلم يسجلان الشقاء على الأمم. ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجر بعوام البشر وهم السواد الأعظم إلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم، والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال، بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقا في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم، وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم وجبّارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات، وهم هم، ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلا بين (الفعّال المطلق)، والحاكم بأمره، وبين (لا يُسأل عما يفعل) وغير مسئول، وبين (المنعم) وولي النعم، وبين (جل شأنه) وجليل الشأن. وبناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله، ويزيدون تعظيمهم على التعظيم لله لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب، وأما انتقام الجبار فعاجل حاضر. والعوام كما يقال عقولهم في عيونهم، يكاد لا يتجاوز فعلهم المحسوس المشاهد، حتى يصح أن يقال فيهم: لولا رجاؤهم بالله وخوفهم منه فيما يتعلق بحياتهم الدنيا لما صلوا ولا صاموا، ولولا أملهم العاجل لما رجحوا قراءة الدلائل والأوراد على قراءة القرآن، ولا رجحوا اليمين بالأولياء المقربين كما يعتقدون على اليمين بالله. وهذه الحال هي التي سهلت في الأمم الغابرة المنحطة دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية، حتى يقال إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقل ما يعنون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ، وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات لا يؤيدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب. ويحكمون بأن بين الاستبدادين السياسي والديني مقارنة لا تنفك متى وُجد أحدهما في أمة جر الآخر إليه أو متى زال رفيقه، وإن صلح، أي ضعف، أحدهما صلح، أي ضعف، الثاني. ويقولون إن شواهد ذلك كثيرة جدا لا يخلو منها زمان ولا مكان. ويبرهنون على أن الدين أقوى تأثيرا من السياسة إصلاحا وإفسادا، ويمثلون بالسكسون أي الإنكليز والهولنديين والأميركان والألمان الذين قبلوا البروتستنتية، فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي والأخلاق أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللاتين أي الفرنسيين والطليان والإسبانيول والبرتغال. وقد أجمع الكتاب السياسيون المدققون، بالاستناد على التاريخ والاستقراء، على أن ما من أمة أو عائلة أو شخص تنطع في الدين أي تشدد فيه إلا واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه. والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين، ويعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي. وربما كان أول من سلك هذا المسلك أي استخدم الدين في الإصلاح السياسي هم حكماء اليونان، حيث تحيلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية، أخذوها عن الآشوريين ومزجوها بأساطير بصورة تخصيص العدالة بإله، والحرب بإله، والأمطار بإله، إلى غير ذلك من التوزيع، وجعلوا لإله الآلهة حق النظارة عليهم، وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم. ثم بعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان لما ألبست من جلالة المظاهر وسحر البيان سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد، وبأن تكون إدارة الأرض كإدارة السماء، فانصاع ملوكهم إلى ذلك مكرهين. وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان أخيرا من إقامة جمهوريات أثينا وإسبارطة. وكذلك فعل الرومان. وهذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارة في الحكومات الملكية والجمهوريات على أنواعها إلى هذا العهد. إنما هذه الوسيلة أي التشريك، فضلا عن كونها باطلة في ذاتها، نتج عنها أخيرا رد فعل أضر كثيرا، وذلك أنها فتحت لمشعوذين من سائر طبقات الناس بابا واسعا لدعوى شيء من خصائص الألوهية كالصفات القدسية والتصرفات الروحية، وكان قبل ذلك لا يتهجم على مثلها غير أفراد من الجبابرة كنمرود إبراهيم وفرعون موسى ثم صار يدعيها البرهمي والبادري والصوفي. ولملاءمة هذه المفسدة لطباع البشر من وجوه كثيرة، ليس بحثنا هذا محلها، انتشرت وعمت وجندت جيشا عرمرما يخدم المستبدين. وقد جاءت التوراة بالنشاط، فخلصتهم من خمول الاتكال بعد أن بلغ فيهم أن يكلفوا الله ونبيه يقاتلان عنهم، وجاءتهم بالنظام بعد فوضى الأحلام، ورفعت عقيدة التشريك مستبدلة مثلا أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة، ولكن لم يرض ملوك آل كوهين بالتوحيد فأفسدوه. ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة والحلم فصادف أفئدة محروقة بنار القساوة والاستبداد، وكان أيضا مؤيدا لناموس التوحيد، ولكن لم يقو دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة، الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية، أن الأبوة والبنوّة صفتان مجازيتان يعبر بهما عن معنى لا يقبله العقل إلا تسليما، كمسألة القدر التي ورثت الإسلامية التفلسف فيها عن أديان الهنود وأوهام اليونان. ولهذا تلقت الأمم الأبوة والبنوة بمعنى توالد حقيقي لأنه أقرب إلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق المحسوسات، ولأنهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأولين أنهم أبناء الله، فكبر عليهم أن يعتقدوا في عيسى عليه السلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثم لما انتشرت النصرانية ودخلها أقوام مختلفون، تلبست ثوبا غير ثوبها، كما هو شأن سائر الأديان التي سلفتها، فتوسعت برسائل بولس ونحوها فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرومان والمصريين مضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها، وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النصرانية تعظم رجال الكهنوت إلى درجة اعتقاد النيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوة التشريع، ونحو ذلك مما رفضه أخيرا البروتستان أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل. ثم جاء الإسلام مهذبًا لليهودية والنصرانية مؤسسًا على الحكمة والعزم هادما للتشريك بالكلية، ومحكما لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديموقراطية والأريستقراطية، فأسس التوحيد ونزع كل سلطة دينية أو تغلبية تتحكم في النفوس أو في الأجسام، ووضع شريعة حكمه إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان، وأوجد مدينة فطرية سامية، وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر حتى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد. فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه إماما، فأنشئوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة، لكل منهم وظيفة شخصية، ووظيفة عائلية، ووظيفة قومية. على أن هذا الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمدي لم يخلفه فيه حقا غير أبي بكر وعمر ثم أخذ بالتناقص، وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إلى الآن، وسيدوم بكاؤها إلى يوم الدين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسي شوري؛ ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي لربما صح أن نقول: قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون. وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع تخاطب أشراف قومها: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ. فهذه القصة تُعلم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ أي أشراف الرعية، وأن لا يقطعوا أمرا إلا برأيهم، وتشير إلى لزوم أن تحفظ القوة والبأس في يد الرعية، وأن يخصص الملوك بالتنفيذ فقط، وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيرا، وتقبح شأن الملوك المستبدين. بناء على ما تقدم لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات التي منها قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ أي في الشأن، ومن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما اتفق عليه أكثر المفسرين، وهم الأشراف في اصطلاح السياسيين. ومما يؤيد هذا المعنى أيضا قوله تعالى: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ أي ما شأنه، وحديث «أميري من الملائكة جبريل» أي مشاوري. وليس بالأمر الغريب ضياع معنى (أولي الأمر) على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد (منكم) أي المؤمنين منعا لتطرق أفكار المسلمين إلى التفكر بأن الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثم التدرج إلى معنى آية إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي التساوي، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي التساوي؛ ثم ينتقل إلى معنى آية وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعا للفتنة التي تحصد أمثالهم حصدا. والأغرب من هذا جسارتهم على تضليل الأفهام في معنى (أمر) في آية: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا؛ فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا إلى الله الأمر بالفسق … تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا … والحقيقة في معنى (أمرنا هنا أنه بمعنى أمرنا — بكسر الميم أو تشديدها — أي جعلنا أمراءها مترفيها ففسقوا فيها (أي ظلموا أهلها) فحق عليهم العذاب أي (نزل بهم العذاب). والأغرب من هذا وذاك أنهم جعلوا للفظة العدل معنى عرفيا وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء حتى أصبحت لفظة العدل لا تدل على غير هذا المعنى، مع أن العدل لغة التسوية؛ فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وكذلك القصاص في آية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ المتواردة مطلقا، لا المعاقبة بالمثل فقط على ما يتبادر إلى أذهان الأسراء الذين لا يعرفون للتساوي موقعا في الدين غير الوقوف بين يدي القضاة. وقد عدد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتى من يأكل ماشيا في الأسواق؛ ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم. ولعل الفقهاء يُعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أخرى؛ ولكن ما عذرهم في تحويل معنى الآية: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إلى أن هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموفقة للخير؛ فخصصت منها جماعات باسم مجالس نواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟! اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت فلا حول ولا قوة إلا بك! كذلك ما عذر أولئك الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلا وليا من أولياء الله، ولا يأتي أمرا إلا بإلهام من الله، وإنه يتصرف في الأمور ظاهرا، ويتصرف فيها قطب الغوث باطنا! ألا سبحان الله ما أحلمه! نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم رسولا من أنفسهم، أسس لهم أفضل حكومة أسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته» أي كل منكم سلطان عام ومسئول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قاله مشرع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرف المعنى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راعٍ على عائلته ومسئول عنها فقط. كما حرّفوا معنى الآية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيروا مفهوم اللغة، وبدّلوا الدين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزة الحرية؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر. وكأن المسلمين لم يسمعوا بقول النبي عليه السلام: «الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى». وهذا الحديث من أصح الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسرا الآية إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ فإن الله جل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ثم جعل الأفضلية في الكرامة للمتقين فقط. ومعنى التقوى لغةً ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله) أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التقوى لغةً هي الاتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازا من عقوبة الله. فقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ كقوله إن أفضل الناس أكثرهم ابتعادا عن الآثام وسوء عواقبها. وقد ظهر مما تقدم أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكم بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، بحضها على الإحسان والتحابب. وقد جعلت أصول حكومتها: الشورى الأرستقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم. وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد. وقد مضى عهد النبي عليه السلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها. ومن المعلوم أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقا في غير مسائل إقامة شعائر الدين ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم، كلها من أجل وأحسن ما اهتدى إليه المشرعون من قبل ومن بعد. ولكن وا أسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهرة فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر والأغلال، وأباد الميزة والاستبداد، الدين الذي ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان، الدين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعا، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضيعوا مزاياه وحيروا أهله بالتفريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة، حتى جعلوه دينا حرجا يتوهم الناس فيه أن كل ما دوّنه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته، إلا من لا علاقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كل عمل، لا تفي بتعلم ما هي الإسلامية عجزا عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما افترقوا إلا وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة أن كلا منهم قد سكت تعبا وكلالا من المشاغبة. وبهذا التشديد الذي أدخله على الدين منافسو المجوس، انفتح على الأمة باب التلوم على النفس، واعتقاد التقصير المطلق، وأن لا نجاة ولا مخرج ولا إمكان لمحاسبة النفس فضلا عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام. وهذا الإهمال للمراقبة، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود. وبهذا وذاك ظهر حكم حديث: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب». وإذا تتبعنا سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع الأمة، نجد أنهما مع كونهما مفطورين خير فطرة، ونائلين التربية النبوية لم تترك الأمة معهما المراقبة والمحاسبة ولم تطعهما طاعة عمياء. وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم وليس هو من دينهم بالنظر إلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال: (اقتبسوا) من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية و(ضاهوا) في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة، والكردينالية والشهداء والأساقفة، و(حاكوا) مظاهر القديسين وعجائبهم، والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها، وحالة الأديرة وبادريتها. والرهبنات ورسومها والحمية وتوقيتها، (وقلدوا) رجال الكهنوت والبراهمة في مراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم، ولبس المسابح في الرقاب، (وقلدوا) الوثنيين الرومانيين في الرقص على أنغام الناي والتغالي في تطييب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها وتكليلها وتكليل القبور بالزهور. (وشاكلوا) مراسم الكنائس وزينتها، والبيع واحتفالاتها، والترنحات ووزنها، والترنمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور، وشد الرحال لزيارتها، والإسراج عليها، والخضوع لديها، وتعليق الآمال بسكانها. و(أخذوا) التبرك بالآثار: كالقدح والحربة والدستار، من احترام الذخيرة وقدسية العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين، من إمرارها على الصدر لإشارة الصليب. و(انتزعوا) الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام و(منعوا) الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة كحظر الكاثوليك التفهم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة الدليل من التوراة في الأحكام. و(جاءوا) من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية أوضاع الكواكب وباتخاذ أشكالها شعارا للملك، وباحترام النار ومواقدها. و(قلدوا) البوذيين حرفا بحرف في الطريق والرياضة وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب بالحيات والعقارب وشرب السموم، ودق الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب، واعتقاد تأثير العزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم، إلى غير ذلك مما هو مشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس والسند إلى يومنا هذا. وقد قيل إنه نقله إلى الإسلامية أمثال جون وست وسلطان علي منلا والبغدادي وحاشية فلان الشيخ وفلان الفارسي، على أن إسناد ذلك إلى أشخاص معينين يحتاج إلى تثبيت. (ولفقوا) من الأساطير والإسرائيليات أنواعا من القربات، وعلوما سموها لدنيات. وكذلك يقال عن مبتدعي النصارى من أن أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية حتى مشكلة التثليث لا أصل له فيماه ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مزيدات وترتيبات قليلها مبتدع، وكثيرها متبع. وقد اكتشف العلماء الآثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والآشورية ومن الصحف التي وجدت في نواويس المصريين الأقدمين على مآخذ أكثرها. وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولا في الأساطير والآثار والألواح الآشورية، وترقوا في التطبيق والتدقيق إلى أن وجدوا معظم الخرافات المضافة إلى أصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنحل الشرق الأقصى، وقد كشفت الآثار أن الاستبداد أخفى تاريخ الأديان وجعل أخبار منشئها في ظلام مطبق، حتى إن أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساسا وجود موسى وعيسى عليهما السلام، كما شوش الاستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان؛ الأمر الذي تولد عنه ظهور الفرق التي تشيعت لهم كالإمامية والإسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم. والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد. والناظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين وبعض العلماء الأعاجم وبعض مقلديهم من العرب المتأخرين أقوالا افتروها على الله ورسوله تضليلا للأمة عن سبيل الحكمة، يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره؛ فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحكم من أن تمسه يد التحريف وهي إحدى معجزاته لأنه قال فيه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فما مسه المنافقون إلا بالتأويل وهذا أيضا من معجزاته؛ لأن أخبر عن ذلك في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ. وإني أمثل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسروا قسمي الآلاء والأخلاق من القرآن تفسيرا مدققا لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغفل السالفين، أو بعض المنافقين المقربين المعاصرين، فيكفَّرون فيقتلون. وهذه مسألة إعجاز القرآن وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث، واقتصروا على ما قاله فيها بعض السلف قولا مجملا من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته، وأنه أخبر عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون. مع أنه لو فتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحكم لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز، ولرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله: وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ، ولجعلوا الأمة تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان لا مجرد تسليم وإذعان. ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ. وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول: وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا إلى أن يقول: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وحققوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي والقرآن يقول: أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. وحققوا أن القمر منشق من الأرض والقرآن يقول: أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا. ويقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول: اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ. وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض أي ترتج في دورتها والقرآن يقول: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ. وكشفوا أن سر التركيب الكيماوي بل والمعنوي هو تخالف نسبة المقادير وضبطها والقرآن يقول: كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور والقرآن يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. وحققوا أن العالم العضوي ومنه الإنسان ترقى من الجماد والقرآن يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ. وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات والقرآن يقول: خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ويقول: فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ويقول: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ويقول: وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وكشفوا طريقة إمساك الظل أي التصوير الشمسي والقرآن يقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا. وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء والقرآن يقول، بعد ذكره الدواب والجواري بالريح: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. وكشفوا وجود المكروب وتأثيره والجدري وغيره من الأمراض، والقرآن يقول: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ أي متتابعة مجتمعة تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ أي من طين المستنقعات اليابس. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديدا لإعجازه بإخباره عما في الغيب ما دام الزمان وما كرَّ الجديدان، فلا بد أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أن الجمادات أيضا تنمو باللقاح كما تشير إلى ذلك آية وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/3/
الاستبداد والعلم
ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي، يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعافا قاصرين، فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم. ولا يخفى على المستبد مهما كان غبيا أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوي يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله. العلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافا مبصرا، ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير فضاحا للشر، يولد في النفوس حرارة وفي الرءوس شهامة، العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام، والمتأمل في حالة كل رئيس ومرءوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرءوس وزيادته. المستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان، نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحل عقد الجيوش لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان أو مونتيسكيو وشيللار. وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعمل حتى إذا ضاع فيها عمرهم، وامتلأتها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علما غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامه في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد؛ وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضا لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر. ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ، وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وفي قوله: وما كنا لنهلك القرى وأهلها مصلحون، وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد كما حركوا معنى مادة الفساد والإفساد من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين. والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رءوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة! كما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضا لذاته لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما. ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكرا، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله (فاز المتملقون)، وهذه طبيعة كل المتكبرين بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكينا خاملا لا يُرجى لخيرٍ ولا لشر. وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطرادا مستمرا: يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا. العوام هم قوّة المستبد وقوته. بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريم؛ وإذا قتل منهم ولم يمثل، يعتبرونه رحيما؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة. والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم بترقيها المستبد اللئيم على الترقي معها والانقلاب رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذذ بالتحابب. وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنية، حياة رخاء ونماء، حياة عز وسعادة؛ ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ، بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد، لأنه كان على الدوام ملحوظا بالبغضاء محاطا بالأخطار، غير أمين على رياسته، بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قط أمامه من يسترشده فيما يجهل لأن الواقف بين يديه مهما كان عاقلا متينا، لا بد أن يهابه فيضطرب باله فيتشوش فكره ويختل رأيه لا يهتدي إلى الصواب، وإن اهتدى فلا يجسر على التصريح به قبل استطلاع رأي المستبد، فإن رآه متصلبا فيما يراه فلا يسعه إلا تأييده رشدا كان أو غيا؛ وكل مستشار غيره يدعي أنه غير هياب فهو كاذب؛ والقول الحق أن الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ بناء عليه لا يستفيد المستبد قط من رأي غيره بل يعيش في ضلال وتردد وعذاب وخوف، وكفى بذلك انتقاما منه على استعباده الناس وقد خلقهم ربهم أحرارا. إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم؛ وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن وهم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه، وخوفهم على حياة تعيسة فقط. كلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تختم حياة المستبد بالجنون التام. قلت التام لأن المستبد لا يخلو من الحمق قط لنفوره من البحث عن الحقائق، وإذا صادف وجود مستبد غير أحمق فيسارعه الموت قهرا إذا لم يسارعه الجنون أو العته. وقلت إنه يخاف من حاشيته لأن أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم لأن هؤلاء هم أشقى خلق الله حياة، يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد الذي يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين يجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرح. فكم ينقم عليهم ويهينهم لمجرد أنهم لا يعلمون الغيب، ومن ذا الذي يعلم الغيب، الأنبياء والأولياء؟ وما هؤلاء إلا أشقياء؛ أستغفرك اللهم! لا يعلم غيبك نبي ولا ولي، ولا يدعي ذلك إلا دجال، ولا يظن صدقه إلا المغفل، فإنك اللهم قلت وقولك الحق: فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا وأفضل أنبيائك يقول «لو علمت الخير لاستكثرت منه». من قواعد المؤرخين المدققين أن أحدهم إذا أراد الموازنة بين مستبدين كنيرون وتيمور مثلا، يكتفي أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذر والتحفظ. وإذا أراد المفاضلة بين عادلين كأنوشروان وعمر الفاروق، يوازن بين مرتبتي أمنهما في قوميهما. لما كانت أكثر الديانات مؤسسة على مبدأي الخير والشر كالنور والظلام والشمس وزحل، والعقل والشيطان، رأت بعض الأمم الغابرة أن أضرّ شيء على الإنسان هو الجهل، وأضر آثار الجهل هو الخوف، فعملت هيكلا مخصصا للخوف يُعبد اتقاءً لشره. قال أحد المحررين السياسيين: إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه، فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين الخوف؛ وهو أهم النواميس الطبيعية في الإنسان، والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف ولا وسيلة لتخفيف الخوف أو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه؛ لينكشف للإنسان أن لا محل فيه للخوف منه، وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأن المستبد امرؤ عاجز مثلهم زال خوفهم منه وتقاضوه حقوقهم. ويقول أهل النظر إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليها في شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسيم التشريفات وعلائم الأبهة ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضا عن العقل والمفاداة، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر، وقليل العلم للتصوف، وقليل الصدق لليمين، وقليل المال لزينة اللباس. ويقولون إنه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستعباد أو الحرية باستنطاق لغتها هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلا، أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية وكتلك اللغة التي لبس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت بل سيدي وعبدكم. والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء. إنَّ الإسلامية أول دين حض على العلم، وكفى شاهدا أن أول كلمة أُنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمرا مكررا، وأول منة أجلها الله وامتن بها على الإنسان هي أنه علمه بالقلم، علمه به ما لم يعلم. وقد فهم السلف الأول من مغزى هذا الأمر وهذا الامتنان وجوب تعلم القراءة والكتابة على كل مسلم، وبذلك عمت القراءة والكتابة في المسلمين أو كادت تعم، وبذلك صار العلم في الأمة حرا مباحا للكل لا يختص به رجال الدين أو الأشراف كما كان في الأمم السابقة، وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذا عن المسلمين! ولكن قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله كالسلعة يعطى ويمنح للأميين، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، أجل، قاتل الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إلى الأمية فالتقى آخرها بأولها ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال المدققون: إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزها، والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما هي لذاتها. أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم كأنَّ العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس معنى كلمة (لا إله إلا الله) ولماذا كانت أفضل الذكر ولماذا بني عليها الإسلام. بني الإسلام بل وكافة الأديان على (لا إله إلا الله)، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقا سوى الصانع الأعظم؛ ومعنى العبادة الخضوع، ومنها لفظة العبد، فيكون معنى لا إله إلا الله: (لا يستحق الخضوع شيء غير الله). وما أفضل تكرار هذا المعنى على الذاكرة آناء الليل وأطراف النهار، تحذرا من الوقوع في ورطة شيء من الخضوع لغير الله وحده. فهل والحالة هذه يناسب غرض المستبدين أن يعلم عبيدهم أن لا سيادة ولا عبودية في الإسلام ولا ولاية فيه ولا خضوع، إنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض. كلا لا يلائم ذلك غرضهم وربما عدوا كلمة (لا إله إلا الله) شتما لهم! ولهذا كان المستبدون ولا زالوا من أنصار الشرك وأعداء العلم. إن العلم لا يناسب صغار المستبدين أيضا كخدمة الأديان المتكبرين وكالآباء الجهلاء والأزواج الحمقاء، وكرؤساء كل الجمعيات الضعيفة، والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/4/
الاستبداد والمجد
من الحكم البالغة للمتأخرين قولهم «الاستبداد أصل لكل فساد»، ومبنى ذلك أن الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للاستبداد أثرا سيئا في كل واد، وقد سبق أن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، وإني الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد. المجد هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان، لا يترفع عنه نبي أو زاهد ولا ينحط عنه دني أو خامل. للمجد لذة روحية تقارب لذة العبادة عند الفانين في الله وتعادل لذة العلم عند الحكماء وتربو على لذة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على لذة مفاجأة الإثراء عند الفقراء ولذا يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة. وقد أشكل على بعض الباحثين أيّ الحرصين أقوى؟ حرص الحياة أم حرص المجد، والحقيقة التي عول عليها المتأخرون وميزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل، وذلك أنَّ المجد مفضل على الحياة عند الملوك والقواد وظيفةً، وعند النجباء والأحرار حميةً؛ وحب الحياة ممتاز على المجد عند الإسراء والأذلاء طبيعةً، وعند الجبناء والنساء ضرورةً. وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت عليهم السلام معذورين في إلقائهم بأنفسهم في تلك المهالك لأنهم لما كانوا نجباء أحرارا فحميتهم جعلتهم يفضلون الموت كراما على حياة ذل، مثل حياة ابن خلدون الذي خطأ أمجاد البشر في إقدامهم على الخطر إذا هدّد مجدهم، ذاهلا على أن بعض أنواع الحيوان ومنها البلبل وجدت فيها طبيعة اختيار الانتحار أحيانا تخلصا من قيود الذل، وأن أكثر سباع الطير والوحوش إذا أسرت كبيرة تأبى الغذاء حتى تموت، وأن الحرة تموت ولا تأكل بعرضها، والماجدة تموت ولا تأكل بثدييها! المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة وبتعبير الشرقيين: في سبيل الله أو سبيل الدين، وبتعبير الغربيين: في سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية. والمولى تعالى المستحق التعظيم لذاته ما طالب عبيده بتمجيده إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم. وهذا البذل إما بذل مال للنفع العام ويسمى مجد الكرم وهو أضعف المجد، أو بذل العلم النافع المفيد للجماعة ويسمى مجد الفضيلة، أو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق وحفظ النظام ويسمى مجد النبالة، وهذا أعلى المجد وهو المراد عند الإطلاق؛ وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة وتحن إليه أعناق النبلاء. وكم له من عشاق تلذ لهم في حبه المصاعب والمخاطرات وأكثرهم يكون من مواليد بيوت نادرة حمتها الصدف من عيون الظالمين المذلين، أو يكون من نجباء بيوت ما انقطعت فيها سلسلة المجاهدين وما انقطعت عجائزها عن بكائهم. ومن أمثلة المجد قولهم: خلق الله للمجد رجالا يستعذبون الموت في سبيله، ولا سبيل إليه إلا بعظيم الهمة والإقدام والثبات تلك الخصال الثلاث التي بها تقدر قيم الرجال. وهذا (نيرون) الظالم سأل (أغربين) الشاعر وهو تحت النطع: من أشقى الناس؟ فأجابه معرضا به: من إذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالا له في الخيال. وكان (ترابان) العادل إذا قلد سيفا لقائد يقول له: هذا سيف الأمة أرجو أن لا أتعدى القانون فلا يكون له نصيب في عنقي. وخرج قيس من مجلس الوليد مغضبا يقول: أتريد أن تكون جبارا؟! والله إن نعال الصعاليك لأطول من سيفك. وقيل لأحد الأباة: ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك؟ فقال: ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين. وقال آخر: عليّ أن أفي بوظيفتي وما عليّ ضمان القضاء. وقيل لأحد النبلاء: لماذا لا تبني لك دارا؟ فقال ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر؟ وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها) وهي امرأة عجوز تودع ابنها بقولها: إن كنت على الحق فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت. وهذا مكماهون رئيس جمهورية فرنسا استبد في أمر واحد فدخل عليه صديقه غامبتا وهو يقول: الأمر للأمة لا إليك، فاعتدل أو اعتزل وإلا فأنت المخذول المهان الميت! والحاصل أن المجد هو المجد محبب للنفوس لا تفتأ تسعى وراءه وترقى مراقيه، وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان. يقابل المجد من حيث مبناه التمجد؟ وما هو التمجد؟ وماذا يكون التمجد؟ التمجد لفظ هائل المعنى ولهذا أراني أتعثر بالكلام وأتلعثم في الخطاب، ولاسيما من حيث أخشى مساس إحساس بعض المطالعين؛ إن لم يكن من جهة أنفسهم فمن جهة أجدادهم الأولين، فأناشدهم الوجدان والحق المهان، أن يتجردوا دقيقتين من النفس وهواها، ثم هم مثلي ومثل سائر الجانين على الإنسانية لا يعدمون تأويلا. وإنني أعلل النفس بقبولهم تهويني هذا فأنطلق وأقول: التمجد خاص بالإدارات المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة، أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل؛ وبتعريف آخر: التمجد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبد ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية. وبوصف أجلى هو أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبّار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان أو يتزين بسيور مزركشة تنبئ بأنه صار مخنثا أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم. قلت إن التمجد خاص بالإدارات الاستبدادية، وذلك لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلال التساوي بين الأفراد إلا لفضل حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا رفعا صوريا أثناء قيامه في خدمتها أي الخدمة العمومية، وذلك تشويقا له على التفاني في الخدمة، كما أنها لا تميز أحدا منها بوسام أو تشرفه بلقب إلا ما كان علميا أو ذكرى لخدمة مهمة وفقه الله إليها. وبمثل هذا يرفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في القلوب لا في الحقوق. وهذا لقب اللوردية مثلا عند الإنكليزية هو من بقايا عهد الاستبداد، ومع ذلك لا يناله عندهم غالبا إلا من يخدم أمته خدمة عظيمة ويكون من حيث أخلاقه وثروته أهلا لأن يخدمها خدمات مهمة غيرها، ومن المقرر أن لا اعتبار للورد في نظر الأمة إلا إذا كان مؤسسا لا وارثا، أو كانت الأمة تقرأ في جبهته سطرا محررا بقلم الوطنية وبمداد الشهامة ممضيا بدمه يقسم فيه بشرفه أنه ضمين بثروته وحياته ناموس الأمة أي قانونها الأساسي، حفيظ على روحها أي حريتها. التمجد لا يكاد يوجد له أثر في الأمم القديمة إلا في دعوى الألوهية وما بمعناها من نفع الناس بالأنفاس، أو في دعوى النجابة بالنسب التي يهول بها الأصلاء نسل الملوك والأمراء، وإنما نشأ التمجد بالألقاب والشارات في القرون الوسطى، وراج سوقه في القرون الأخيرة ثم قامت فتاة الحرية تتغنى بالمساواة وتغسل أدرانه على حسب قوتها وطاقتها ولم تبلغ غايتها إلى الآن في غير أمريكا. المتمجدون يريدون أن يخدعوا العامة، وما يخدعون غير نسائهم اللاتي يتفحفحن بين عجائز الحي بأنهم كبار العقول، كبار النفوس، أحرار في شئونهم، لا يزاح لهم نقاب، ولا تصفع منهم رقاب؛ فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتحمل الإساءات والإهانات التي تقع عليهم من قبل المستبد بل تحوجهم للحرص على كتمها بل على إظهار عكسها، بل على مقاومة من يدعي خلافها، بل على تغليط أفكار الناس في حق المستبد وإبعادهم عن اعتقاد أن من شأنه الظلم. وهكذا يكون المتمجدون أعداءً للعدل أنصارا للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها؛ فيسوقها مثلا لحرب اقتضاها محض التجبر والعدوان على الجيران فيوهما أنه يريد نصرة الدين، أو يسرف بالملايين من أموال الأمة في ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها. أو يتصرف في حقوق المملكة والأمة كما يشاؤه هواه باسم أن ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة. والخلاصة أن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة أو مسئولة الدولة أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أن كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها حتى إنه لا يستثني منها الدفاع عن الاستقلال، لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أن يأسرها عمرو؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا. المستبد لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتخذهم كأنموذج البائع الغشاش على أنه لا يستعملهم في شيء من مهامه فيكونون لديه كمصحف في خمارة أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحيانا بعضهم في بعض الشئون تغليظا لأذهان العامة في أنه لا يتعمد استخدام الأراذل والأسافل فقط ولهذا يقال دولة الاستبداد دولة بله وأوغاد. المستبد يجرب أحيانا في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا اغترارا منه بأنه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشكل الذي يريد فيكونوا له أعوانا خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكل بهم. ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله. وهنا أنبه فكر المطالعين إلى أن هذه الفئة من العقلاء الأمناء بالجملة، الذين يذوقون عسيلة مجد الحكومة وينشطون لخدمة الأمة ونيل مجد النبالة، ثم يضرب على يدهم لمجرد أن بين أضلعهم قبسة من الإيمان وفي أعينهم بارقة من الإنسانية، هي الفئة التي تتكهرب بعداوة الاستبداد وينادي أفرادها بالإصلاح. وهذا الانقلاب قد أعيى المستبدين لأنهم لا يستغنون عن التجربة ولا يأمنون هذه المغبة. ومن هنا ابتدأت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب، والمستبدون المحنكون يطيلون أمد التجربة بالمناصب الصغيرة فيستعملون قاعدة الترقي مع التراخي ويسمون ذلك برعاية قاعدة القدم، ثم يختمون التجريب بإعطاء المتمرن خدمة يكون فيها رئيسا مطلقا ولو في قرية، فإن أظهر مهارة في الاستبداد، وذلك ما يسمونه حكمة الحكومة فبها ونعمت، وإلا قالوا عنه هذا حيوان يا ضيعة الأمل فيه. إن للأصالة مشاكلة قوية للمجد والتمجد فلا بد أن نبحث فيها قليلا ثم نعود لموضوع المستبد وأعوانه المتمجدين فأقول: الأصالة صفة قد يكون لها بعض المزايا من حيث الأميال التي يرثها الأبناء من الآباء، ومن حيث التربية التي تكون مستحكمة في البيت ولو رياء، ومن حيث إن الأصالة تكون مقرونة غالبا بشيء من الثروة المعينة على مظاهر الشهامة والرحمة، ومن حيث إن الثروة تعين أهل البيت على إخفاء بعض رذائلهم عن أولادهم، ومن حيث إنها مدعاة غالبا للتمثل بالأقران مشوقة للتفوق والتميز، ومن حيث تقويتها العلاقة بالأمة والوطن خوف مذلة الاغتراب، ومن حيث إن أهلها يكونون منظورين دائما فيتحاشون المعائب والنقائص بعض التحاشي. وبيوت الأصالة تنقسم إلى ثلاثة أنواع: بيوت علم وفضيلة، وبيوت مال وكرم، وبيوت ظلم وإمارة. وهذا الأخير هو القسم الأكثر عددا والأهم موقعا، وهم كما سبقت الإشارة إليه مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته، وهم الجند الذي يجتمع تحت لوائه بسهولة وربما يكفيه أن يضحك في وجههم ضحكة. فلننظر ما هو نصيب أهل هذا القسم من تلك المزايا الموروثة: هل يرث الابن من جده المؤسس لمجده أمياله في العدالة ولم توجد، أم يدب ويشب على غير الترف المصغر للعقول، المميت للهمم، أم يتربى على غير الوقار المضحك للباطل السائد فيما بين العائلة في بيتهم؟ أم يستخدم الثروة في غير الملاذ الجسمية الدنيئة البهيمية وتلك الأبهة الطاووسية الباطلة، أم يتمثل بغير أقران السوء المتملقين المنافقين، أم لا يستحقر قومه لجهلهم قدر النطفة الملعونة التي خلق منها جنابه، أم لا يبغض العلماء الذين لا يقدرونه قدره حسبما هو قائم في مخيلة خيلائه، أم يرى لجنابه مقرا يليق به غير مقعد التحكم ومستراح التأمر؟ أم يستحي من الناس، ومن هم الناس؟ ما الناس عند حضرته غير أشباح فيها أرواح خلقت لخدمته! وهذه حالة الأكثرين من الأصلاء؛ على أننا لا نبخس حق من نال منهم حظا من العلم وأوتي الحكمة وأراد الله به خيرا فأصابه بنصيب من القهر انخفض به شاموخ أنفه، فإن هؤلاء، وقليل ما هم، ينجبون نجابة عظيمة عجيبة، فيصدق عليهم أنهم قد ورثوا قوة القلب يستعملونها في الخير لا في الشر، واستفادوا من أنفة الكبرياء الجسارة على العظماء؛ وهكذا تتحول فيهم ميزة الشر إلى فائض خير وحسب شامخ من نحو الحنين على الوطن وأهله والأنين لمصابه والإقدام على العظائم في سبيل القوم؛ وأمثال هؤلاء النوابغ النجباء إذا كثروا في أمة يوشك أن يترقى منهم آحاد إلى درجة الخوارق فيقودوا أممهم إلى النجاح والفلاح، ولا غرو فإن اجتماع نفوذ النسب وقوة الحسب يفعلان ولا عجب شبه فعل المستبد العادل الذي ينشده الشرقيون وخصوصا المسلمون؛ وإن كان العقل لا يجوز أن يتصف بالاستبداد مع العدل غير الله وحده؛ ألا قاتل الله الهمة الساقطة التي قد تتسفل بالإنسان إلى عدم إتعاب الفكر فيما يطلب هل هو ممكن أم هو محال. ••• الأصلاء باعتبار أكثريتهم هم جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل. لأن بني آدم داموا إخوانا متساوين إلى أن ميزت الصدفة بعض أفرادهم بكثرة النسل فنشأت منها القوات العصبية؛ ونشأ من تنازعها تميز أفراد على أفراد، وحفظ هذه الميزة أوجد الأصلاء، فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وجد بيت من الأصلاء يتميز كثيرا في القوة على باقي البيوت يستبد وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا كان لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبق أمامه من يتقيه. بناء عليه إذا لم يوجد في أمة أصلاء بالكلية، أو وجد ولكن كان لسواد الناس صوت غالب، أقامت تلك الأمة لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها ابتداء، ولكن لا يتوالى بضعة متولين إلا ويصير أنسالهم أصلاء يتناظرون، كل فريق منهم يسعى لاجتذاب طرف من الأمة استعدادا للمغالبة وإعادة التاريخ الأول. ومن أكبر مضار الأصلاء، أنهم ينهمكون أثناء المغالبة على إظهار الأبهة والعظمة، يسترهبون أعين الناس ويسحرون عقولهم ويتكبرون عليهم. ثم إذا غلب غالبهم واستبد بالأمر لا يتركها الباقون لألفتهم لذتها ولمضاهاة المستبد في نظر الناس. والمستبد نفسه لا يحملهم على تركها بل يدر عليهم المال ويعينهم عليها ويعطيهم الألقاب والرتب وشيئا من النفوذ والتسلط على الناس ليتلهوا بذلك عن مقاومة استبداده، ولأجل أن يألفوها مديدا فتفسد أخلاقهم فينفر منهم الناس ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه فيصيرون أعوانا له بعد أن كانوا أضدادا. ويستعمل المستبد أيضا مع الأصلاء سياسة الشد والإرخاء، والمنع والإعطاء، والالتفات والإغضاء، كي لا يبطروا، وسياسة إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب عقابا شديدا باسم العدالة إرضاء للعوام، وأخرى يقرنهم بأفراد كانوا يقبلون أذيالهم استكبارا فيجعلهم سادة عليهم يفركون آذانهم استحقارا، يقصد بذلك كسر شوكتهم أمام إمام الناس وعصر أنوفهم أمام عظمته. والحاصل أن المستبد يذلل الأصلاء بكل وسيلة حتى يجعلهم مترامين دائما بين رجليه كي يتخذهم لجاما لتذليل الرعية، ويستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان الذين متى شم من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه ينكل به أو يستبدله بالأحمق الجاهل إيقاظا له ولأمثاله من كل ظان من أن إدارة الظلم محتاجة إلى شيء من العقل أو الاقتدار فوق مشيئة المستبد. وبهذه السياسة ونحوها يخلو الجو فيعصف وينسف ويتصرف في الرعية كريش يقلبه الصرصر في جو محرق. المستبد في لحظة جلوسه على عرشه ووضع تاجه الموروث على رأسه يرى نفسه كان إنسانا فصار إلها. ثم يرجع النظر فيرى نفسه في نفس الأمر أعجز من كل عاجز وأنه ما نال ما نال إلا بواسطة من حوله من الأعوان، فيرفع نظره إليهم فيسمع لسان حالهم يقول له: ما العرش وما التاج وما الصولجان؟ ما هذه إلا أوهام في أوهام. هل يجعلك هذا الريش في رأسك طاووسا وأنت غراب، أم تظن الأحجار البراقة في تاجك نجوما ورأسك سماء، أم تتوهم أن زينة صدرك ومنكبيك أخرجتك عن كونك قطعة طين من هذه الأرض؟ والله ما مكنك في هذا المقام وسلطك على رقاب الأنام إلا شعوذتنا وسحرنا وامتهاننا لديننا ووجداننا، وخيانتنا لوطننا وإخواننا، فانظر أيها الصغير المكبر الحقير الموقر كيف تعيش معنا! ثم يلتفت إلى جماهير الرعية المتفرجين، فيرى منهم الطائشين المهللين المسبحين بحمده، ومنهم المسحورين المبهوتين كأنهم أموات من حين، ولكن يتجلى في فكره أن خلال الساكتين بعض أفراد عقلاء أمجاد يخاطبونه بالعيون بأن لنا معاشر الأمة شئونا عمومية وكّلناك في قضائها على ما نريد ونبغي، لا على ما تريد فتبغي. فإن وفيت حق الوكالة حق لك الاحترام، وإن مكرت مكرنا وحاقت بك العاقبة، ألا إن مكر الله عظيم. وعندئذ يرجع المستبد إلى نفسه قائلا: الأعوان الأعوان، الحملة السدنة، أسلمهم القياد وأردفهم بجيش من الأوغاد أحارب بهم هؤلاء العبيد العقلاء، وبغير هذا الحزم لا يدوم لي ملك كيفما أكون، بل أبقى أسيرا للعدل معرضا للمناقشة منغصا في نعيم الملك، ومن العار أن يرضى بذلك من يمكنه أن يكون سلطانا جبارا متفردا قهارا. الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم، إلى الشرطي، إلى الفرَّاش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرا أم خنازير، من آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة وهي أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا أعلاهم وظيفة وقربا، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه دونه لؤما وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه. وربما يغتر المطالع كما اغتر كثير من المؤرخين البسطاء بأن بعض وزراء المستبدين يتأوهون من المستبد ويتشكون من أعماله ويجهرون بملامه، ويظهرون لو أنه ساعدهم الإمكان لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة بأموالهم بل وحياتهم، فكيف والحالة هذه يكون هؤلاء لؤماء، بل كيف ذلك وقد وجد منهم الذين خاطروا بأنفسهم والذين أقدموا فعلا على مقاومة الاستبداد فنالوا المراد أو بعضه أو هلكوا دونه؟ فجواب ذلك أن المستبد لا يخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان، فهل يجوّز العقل أن يُنتخب رفاق من غير أهل الوفاق وهو الذي لا يستوزر إلا بعد تجربة واختبار، عمرا طويلا. هل يمكن أن يكون الوزير متخلقا بالخير حقيقة وبالشر ظاهرا فيُخدع المستبد بأعماله ولا يخاف من أنه كما نصبه وأعزه بكلمة يعزله ويذله؟ بناء عليه فالمستبد وهو من لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنه أظلم منه للناس وأبعد منه عن أعدائه، وأما تَلَوم بعض الوزراء على لوم المستبد فهو إن لم يكن خداعا للأمة فهو حنق على المستبد لأنه بخس ذلك المتلوم حقه فقدم عليه من هو دونه في خدمته بتضحية دينه ووجدانه. وكذلك لا يكون الوزير أمينا من صولة المستبد في صحبته ما لم يسبق بينهما وفاق واتفاق على خيرة الشيطان، لأن الوزير محسود بالطبع، يتوقع له المزاحمون كل شر، ويبغضه الناس ولو تبعا لظالمهم وهو هدف في كل ساعة للشكايات والوشايات. كيف يكون عند الوزير شيء من التقوى أو الحياء أو العدل أو الحكمة أو المروءة أو الشفقة على الأمة وهو العالم بأن الأمة تبغضه وتمقته وتتوقع له كل سوء وتشمت بمصائبه، فلا ترضى عنه ما لم يتفق معها على المستبد وما هو بفاعل ذلك أبدا إلا إذا يئس من إقباله عنده، وإن يئس وفعل فلا يقصد نفع الأمة قط، إنما يريد فتح بابٍ لمستبدٍ جديد عساه يستوزره فيؤازره على وزره. والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد، لا وزير الأمة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ من أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أن الأمة لا تقلد القيادة لمثله. بناء عليه لا يغترُّ العقلاء بما يتشدق به الوزراء والقواد من الإنكار على الاستبداد والتفلسف بالإصلاح وإن تلهفوا وإن تأففوا، ولا ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا، ولا يثقون بهم وبوجدانهم مهما صلوا وسبحوا لأن ذلك كله ينافي سيرهم وسيرتهم، ولا دليل على أنهم أصبحوا يخالفون ما شبوا وشابوا عليه، هم أقرب أن لا يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلاق المستبد وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الرعية أي أموالها. نعم، كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمرا طويلا لذة البذخ وعزة الجبروت في أنه يرضى بالدخول تحت حكم الأمة ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحله أو تكسره تحت أرجلها. أليس هو عضوا ظاهر الفساد من جسم تلك الأمة التي قتلت الاستبداد فيها كل الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس بالإنسانية، حتى صار الفلاح التعيس منها يؤخذ للجندية وهو يبكي، فلا يكاد يلبس كم السترة العسكرية إلا ويتلبس بشر الأخلاق فيتنمر على أمه وأبيه، ويتمرد على أهل قريته وذويه، ويكظ أسنانه عطشا للدماء لا يميز بين أخ أو عدو. إن أكابر رجال عهد الاستبداد لا أخلاق لهم ولا ذمة، فكل ما يتظاهرون به أحيانا من التذمر والتألم يقصدون به غش الأمة المسكينة التي يطمعهم في انخداعها وانقيادها لهم علمهم بأن الاستبداد القائم بهم والمستمر بهمتهم قد أعمى أبصارها وبصائرها، وخدر أعصابها فجعلها كالمصاب ببحران الحمى، فهي لا ترى غير هول وظلام وشدة وآلام، فتئن من البلاء ولا تدري ما هو تداويه، ولا من أين جاءها لتصده، فتواسيها فئة من أولئك المتعاظمين باسم الدين يقولون يا بؤساء: هذا قضاء من السماء لا مرد له، فالواجب تَلَقِّيه بالصبر والرضاء والالتجاء إلى الدعاء، فاربطوا ألسنتكم عن اللغو والفضول، واربطوا قلوبكم بأهل السكينة والخمول، وإياكم التدبير فإن الله غيور، وليكن وردكم: اللهم انصر سلطاننا، وآمنا في أوطاننا، واكشف عنا البلاء أنت حسبنا ونعم الوكيل. ويغرر الأمة آخرون من المتكبرين بأنهم الأطباء الرحماء المهتمون بمداواة المرض، إنما هم يترقبون سنوح الفرص، وكلا الفريقين والله إما أدنياء جبناء أو هم خائنون مخادعون، يريدون التثبيط والتلبيد والامتنان على الظالمين. هذا ولا ينكر التاريخ أن الزمان أوجد نادرا بعض وزراء وازروا الاستبداد عمرا طويلا ثم ندموا على ما فرطوا فتابوا وأنابوا، ورجعوا لصف الأمة واستعدوا بأموالهم وأنفسهم لإنقاذها من داء الاستبداد. ولهذا لا يجوز اليأس من وجود بعض أفراد من الوزراء والقواد عريقين في الشهامة، فيظهر فيهم سر الوراثة ولو بعد بطون أو بعد الأربعين وربما السبعين من أعمارهم ظهورا بينا تلألأ في محيا صاحبه ثريا صدق النجابة. ولا ينبغي لأمة أن تتكل على أن يظهر فيها أمثال هؤلاء، لأن وجودهم من نوع الصدف التي لا تبنى عليها آمال ولا أحلام. والنتيجة أن المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين، والأمة، أي أمة كانت، ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات، حتى إذا ما اكفهرت سماء عقول بنيها قيض الله لها من جمعهم الكبير أفرادا كبار النفوس قادة أبرارا يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم، حيث يكون الله جعل في ذلك لذتهم ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلقهم كما خلق رجال عهد الاستبداد فساقا فجارا مهالكهم الشهوات والمثالب. فسبحان الذي يختار من يشاء لما يشاء وهو الخلاق العظيم.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/5/
الاستبداد والمال
الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: «أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضرُّ، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال». المال يصح في وصفه أن يقال: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والثبات مال، والجاه مال، والجمع مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال، والشهرة مال، والحاصل كل ما ينتفع به في الحياة هو مال. وكل ذلك يباع ويشترى أي يستبدل بعضه ببعض، وموازين المعادلة هي: الحاجة والعزة والوقت والتعب، ومحافظة اليد والفضة والذهب والذمة، وسوقه المجتمعات وشيخ السوق السلطان … فانظر في سوق يتحكم فيه مستبد يأمر زيدا بالبيع وينهى عمرا عن الشراء ويغصب بكرا ماله ويحابي خالدا من مال الناس. إن النظام الطبيعي في كل الحيوانات حتى في السمك والهوام، إلا أنثى العنكبوت، أن النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضا، والإنسان يأكل الإنسان. ومن غريزة سائر الحيوان أن يلتمس الرزق من الله أي من مورده الطبيعي، وهذا الإنسان الظالم نفسه حريص على اختطافه من يد أخيه، بل من فيه، بل كم أكل الإنسان الإنسان! عاش الإنسان دهرا طويلا يتلذذ بلحم الإنسان ويتملظ بدمائه، إلى أن تمكن الحكماء في الصين ثم الهند من إبطال أكل اللحم كليا، سدا للباب كما هو دأبهم إلى الآن. ثم جاءت الشرائع الدينية الأولى في غربي آسيا بتخصيص ما يؤكل من الإنسان بأسير الحرب، ثم بالقربان ينذر للمعبود ويذبح على يد الكهان. ثم أبطل أكل لحم القربان وجعل طعمة للنيران، وهكذا تدرج الإنسان إلى نسيان لذة لحم إخوانه، وما كان لينسى عبادة إهراق الدماء لولا أن إبراهيم شيخ الأنبياء استبدل قربان البشر بالحيوان واتبعه موسى عليهما السلام وبه جاء الإسلام. وهكذا بطل هذا العدوان بهذا الشكل إلا في أواسط أفريقيا عند (النامنام). الاستبداد المشئوم لم يرض أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحا ليأكل لحمه أكلا كما كان يفعل الهمج الأولون، بل تفنن في الظلم: فالمستبدون يأسرون جماعتهم ويذبحونهم فصدا بمبضع الظلم، ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم، ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم، أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل. ••• ثم إن الرجال تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة أيضا، فإن أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقون ذلك في الرفه والإسراف، مثال ذلك أنهم يزينون الشوارع بملايين من المصابيح لمرورهم فيها أحيانا متراوحين بين الملاهي والمواخير ولا يفكرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام. ثم أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون والمحتكرون وأمثال هذه الطبقة ويقدرون كذلك بخمسة في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع. وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظالمة هي الاستبداد لا غيره. وهناك أصناف من الناس لا يعملون إلا قليلا، إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب أو الدين، وهؤلاء يقدرون بخمسة عشر في المائة أو يزيدون على أولئك. نعم لا يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظل الحائط، ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل، ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت، بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته. لا! لا! لا يطلب الفقير معاونة الغني، إنما يرجوه أن لا يظلمه، ولا يلتمس منه الرحمة، إنما يلتمس العدالة، لا يؤمِّل منه الإنصاف، إنما يسأله أن لا يميته في ميدان مزاحمة الحياة. بسط المولى جلت حكمته سلطان الإنسان على الأكوان فطغى وبغى ونسي ربه وعبد المال والجمال وجعلهما منيته ومبتغاه، كأنه خلق خادما لبطنه وعضوه فقط، لا شأن له غير الغذاء والتحاك. وبالنظر إلى أن المال هو الوسيلة الموصلة للجماد كاد ينحصر أكبر همّ للإنسان في جمع المال ولهذا يكنى عنه بمعبود الأمم وبسر الوجود، وروى (كريسكوا) المؤرخ الروسي أن كاترينا شكت كسل رعيتها فأرشدها شيطانها إلى حمل النساء على الخلاعة ففعلت وأحدثت كسوة المراقص. فهب الشبان للعمل وكسب المال لصرفه على ربات الجمال، وفي ظرف خمس سنين تضاعف دخل خزينتها فاتسع لها مجال الإسراف. وهكذا المستبدون لا تهمهم الأخلاق إنما يهمهم المال. ••• المال عند الاقتصاديين ما ينتفع به الإنسان، وعند الحقوقيين ما يجري فيه المنع والبذل، وعند السياسيين ما تستعاض به القوة، وعند الأخلاقيين ما تحفظ به الحياة الشريفة. المال يستمد من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة ونواميسها، ولا يُملك، أي لا يتخصص بإنسان، إلا بعمل فيه أو في مقابله. والمقصود من المال هو أحد اثنين لا ثالث لهما وهما: تحصيل لذة أو دفع ألم، وفيهما تنحصر كل مقاصد الإنسان وعليهما مبنى أحكام الشرائع كلها، والحاكم المعتدل في طيِّب المال وخبيثه هو الوجدان الذي خلقه الله صبغة للنفس، وعبر عنه في القرآن بإلهامها فجورها وتقواها، فالوجدان خُيّر بين المال الحلال والمال الحرام. ثم إن أعمال البشر في تحصيل المال ترجع إلى ثلاثة أصول: استحضاره المواد الأصلية. تهيئة المواد للانتفاع بها. توزيعها على الناس. وهي الأصول التي تسمى بالزراعة والصناعة والتجارة، وكل وسيلة خارجة عن هذه الأصول وفروعها الأولية فهي وسائل ظالمة لا خير فيها. التمول، أي ادخار المال، طبيعة في بعض أنواع الحيوانات الدنيئة كالنمل والنحل، ولا أثر له. في الحيوانات المرتقية غير الإنسان. الإنسان تطبّع على التمول لدواعي الحاجة المحققة أو الموهومة، ولا تحقق للحاجة إلا عند سكان الأراضي الضيقة الثمرات على أهلها، أو الأراضي المعرضة للقحط في بعض السنين. ويلتحق بالحاجة المحققة حاجة العاجزين جسما عن الارتزاق في البلاد المبتلاة بجور الطبيعة أو جور الاستبداد، وربما يلتحق بها أيضا الصرف على المضطرين وعلى المصارف العمومية في البلاد التي ينقصها الانتظام العام. والمراد بالانتظام العام معيشة الاشتراك العمومي التي أسسها الإنجيل بتخصيصه عشر الأموال للمساكين، ولكن لم يكد يخرج ذلك من القول إلى الفعل. ثم أحدث الإسلام سنة الاشتراك على أتمّ نظام ولكن لم تدم أيضا أكثر من قرن واحد كان فيه المسلمون لا يجدون من يدفعون لهم الصدقات والكفارات. وذلك أن الإسلامية، كما سبق بيانه، أسست حكومة أرستقراطية المبنى، ديموقراطية الإدارة، فوضعت للبشر قانونا مؤسسا على قاعدة: أن المال هو قيمة الأعمال ولا يجتمع في يد الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع. فالعدالة المطلقة تقتضي أن يؤخذ قسم من مال الأغنياء ويُرد على الفقراء، بحيث يحصل التعديل ولا يموت النشاط للعمل. وهذه القاعدة يتمنى ما هو من نوعها أغلب العالم المتدن الإفرنجي، وتسعى وراءها الآن جمعيات منهم منتظمة مكونة من ملايين كثيرة. وهذه الجمعيات تقصد حصول التساوي أو التقارب في الحقوق والحالة المعاشية بين البشر، وتسعى ضد الاستبداد المالي فتطلب أن تكون الأراضي والأملاك الثابتة وآلات المعامل الصناعية الكبيرة مشتركة الشيوع بين عامة الأمة، وأن الأعمال والثمرات تكون موزعة بوجوه متقاربة بين الجميع، وأن الحكومة تضع قوانين لكافة الشئون حتى الجزئيات وتقوم بتنفيذها. وهذه الأصول مع بعض التعديل قررتها الإسلامية دينا، وذلك أنها قررت: ولا غرو إذا كانت المعيشة الاشتراكية من أبدع ما يتصوره العقل، ولكن مع الأسف لم يبلغ البشر بعد من الترقي ما يكفي لتوسيعهم نظام التعاون والتضامن في المعيشة العائلية إلى إدارة الأمم الكبيرة. وكم جربت الأمم ذلك فلم تنجح فيها إلا الأمم الصغيرة مدة قليلة. والسبب كما تقدم هو مجرد صعوبة التحليل والتركيب بين الصوالح والمصالح الكثيرة المختلفة. والمتأمل في عدم انتظام حالة العائلات الكبيرة، يقنع حالا بأن التكافل والتضامن غير ميسورين في الأمم الكبيرة، ولهذا يكون خير حل مقدور للمسألة الاجتماعية هو ما يأتي: يكون الإنسان حرا مستقلا في شئونه كأنه خلق وحده. تكون العائلة كأنها أمة وحدها. تكون القرية أو المدينة مستقلة كأنها قارة واحدة لا علاقة لها بغيرها. تكون القبائل في الشعب أو الأقاليم في المملكة كأنها أفلاك كل منها مستقل في ذاته، لا يربطها بمركز نظامها الاجتماعي وهو الجنس أو الدين أو الملك غير محض التجاذب المانع من الوقوع في نظام آخر لا يلائم طبائع حياتها. ••• ثم إن التمول لأجل الحاجات السالفة الذكر وبقدرها فقط محمود بثلاثة شروط وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال: وحكومة الصين المختلة النظام في نظر المتمدنين لا تجبر قوانينها أن يمتلك الشخص الواحد أكثر من مقدار معين من الأرض لا يتجاوز العشرين كيلو مترا مربعا أي نحو خمسة أفدن مصرية أو ثلاثة عشر دونما عثمانيا. وروسيا المستبدة القاسية في عرف أكثر الأوروبيين وضعت أخيرا لولاياتها البولونية والغربية قانونا أشبه بقانون الصين، وزادت عليه أنها منعت سماع دعوى دين غير مسجل على فلاح، ولا تأذن لفلاح أن يستدين أكثر من نحو خمسمائة فرنك. وحكومات الشرق إذا لم تستدرك الأمر فتضع قانونا من قبيل قانون روسيا، تصبح الأراضي الزراعية بعد خمسين عاما أو قرنا على الأكثر كإرلاندا الإنكليزية المسكينة، التي وجدت لها في مدى ثلاثة قرون شخصا واحدا حاول أن يرحمها فلم يفلح وأعني به غلادستون، على أن الشرق ربما لا يجد في ثلاثين قرنا من يلتمس له الرحمة. والشرط الثالث لجواز التمول، هو: ألا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير؛ لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان وهذا معنى الآية: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ والشرائع السماوية كلها وكذلك الحكمة الأخلاقية والعمرانية حرَّمت الربا صيانة لأخلاق المرابين من الفساد، لأن الربا هو كسب بدون مقابل مادي ففيه معنى الغصب، وبدون عمل لأن المرابي يكسب وهو نائم ففيه الألفة على البطالة، ومن دون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك ففيه النماء المطلق المؤدي لانحصار الثروات. ومن القواعد الاقتصادية المتفق عليها أن ليس من كسب لا عار ولا احتكار فيه أربح من الربا مهما كان معتدلا، وأن بالربا تربو الثروات فيختل التساوي أو التقارب بين الناس. وقد نظر الماليون وبعض الاقتصاديين من أنصار الاستبداد في أمر الربا فقالوا إن المعتدل منه نافع بل لابد منه. أولا: لأجل قيام المعاملات الكبيرة، وثانيا: لأجل النقود الموجودة لا تكفي للتداول فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها أيضا. وثالثا: لأجل أن كثيرين من المتمولين لا يعرفون طرائق الاسترباح أو لا يقدرون عليها، كما أن كثيرا من العارفين بها لا يجدون رءوس أموال ولا شركاء عنان. فهذا النظر صحيح من وجه إنماء ثروات بعض الأفراد. أما السياسيون الاشتراكيو المبادئ والأخلاقيون، فينظرون إلى أن ضرر الثروات الأفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها، لأنها تمكن الاستبداد الداخلي فتجعل الناس صنفين: عبيدا وأسيادا، وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل للأمم التي تغني بغناء أفرادها التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة. وهذه مقاصد فاسدة في نظر الحكمة والعدالة ولذلك يقتضي تحريم الربا تحريما مغلظا. ••• حرص التمول، وهو الطمع القبيح، يخف كثيرا عند أهالي الحكومات العادلة المنتظمة ما لم يكن فساد الأخلاق متغلبا على الأهالي كأكثر الأمم المتدنة في عهدنا، لأن فساد الأخلاق يزيد في الميل إلى التمول في نسبة الحاجة الإسرافية، ولكن تحصيل الثروة الطائلة في عهد الحكومة العادلة عسير جدا، وقد لا يتأتى إلا من طريق المراباة مع الأمم المنحطة، أو التجارة الكبيرة التي فيها نوع احتكار، أو الاستعمار في البلاد البعيدة مع المخاطرات، على أن هذه الصعوبة تكون مقرونة بلذة عظيمة من نوع لذة من يأكل ما طبخ أو يسكن ما بنى. وحرص التمول القبيح يشتد كثيرا في رءوس الناس في عهد الحكومات المستبدة حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدّي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء، ورأس مال ذلك هو أن يترك الإنسان الدين والوجدان والحياء جانبا وينحط في أخلاقه إلى ملاءمة المستبد الأعظم أو أحد أعوانه وعماله، ويكفيه وسيلة أن يتصل بباب أحدهم ويتقرب من أعتابه، ويظهر له أنه في الأخلاق من أمثاله وعلى شاكلته، ويبرهن له ذلك بأشياء من التملق وشهادة الزور، وخدمة الشهوات، والتجسس، والدلالة على السلب ونحو ذلك. ثم قد يطلع هذا المنتسب على بعض الخفايا والأسرار التي يخاف رجال الاستبداد من ظهورها خوفا حقيقيا أو وهميا، فيكسب المنتسب رسوخ القدم ويصير هو بابا لغيره، وهكذا يحصل على الثروة الطائلة إذا ساعدته الظروف على الثبات طويلا. وهذا أعظم أبواب الثروة في الشرق والغرب، ويليه الاتجار بالدين ثم الملاهي ثم الربا الفاحش وهي بئس المكاسب وبئس ما تؤثر في إفساد أخلاق الأمم. وقد ذكر المدققون أن ثروة بعض الأفراد في الحكومات العادلة أضر كثيرا منها في الحكومات المستبدة، لأن الأغنياء في الأولى يصرفون قوتهم المالية في إفساد أخلاق الناس وإخلال المساواة وإيجاد الاستبداد، أما الأغنياء في الحكومات المستبدة فيصرفون ثروتهم في الأبهة والتعاظم إرهابا للناس وتعويضا للسفالة الحقيقية المنصبة عليهم بالتغالي الباطل، ويسرفون الأموال في الفسق والفجور. بناء عليه ثروة هؤلاء يتعجلها الزوال حيث يغصبها الأقوى منهم من الأضعف، وقد يسلبها المستبد الأعظم في لحظة وبكلمة. وتزول أيضا والحمد لله قبل أن يتعلم أصحابها أو ورثتهم كيف تحفظ الثروات وكيف تنمو، وكيف يستعبدون بها الناس استعبادا أصوليا مستحكما، كما هو الحال في أوروبا المتمدنة المهددة بشروط الفوضويين بسبب اليأس من مقاومة الاستبداد المالي فيها. ومن طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بينا إلا فجأة قُريب قضاء الاستبداد نحبه. وأسباب ذلك أن الناس يقتصدون في النسل وتكثر وفياتهم ويكثر تغربهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب فتتقلص الثروة وتكثر النقود بين الأيدي. وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح. ••• ولنرجع إلى بحث طبيعة الاستبداد في مطلق المال، فأقول: إن الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المستبد وأعوانه وعماله غصبا، أو بحجة باطلة، وعرضة أيضا لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظل أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يحصل إلا بالمشقة فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم الأمن على الانتفاع بالثمرة. حفظ المال في عهد الإدارة المستبدة أصعب من كسبه، لأن ظهور أثره على صاحبه مجلبة لأنواع البلاء عليه، ولذلك يضطر الناس زمن الاستبداد لإخفاء نعمة الله والتظاهر بالفقر والفاقة، ولهذا ورد في أمثال الأسراء أن حفظ درهم من الذهب يحتاج إلى قنطار من العقل، وأن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأن أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكام ولا يعرفونه. ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتحبب إليهم ببعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغصب أيضا قلوبهم التي لا يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة ونذالة، خوف البُغاث من العُقاب، فهم لا يجسرون على الافتكار فضلا عن الإنكار، كأنهم يتوهمون أن داخل رءوسهم جواسيس عليهم. وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرهم فعلا رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان رضاؤه. وقد خالف الأخلاقيون المتأخرون أسلافهم في قولهم ليس الفقر بعيب، فقالوا: الفقر أبو المعائب لأنه مفتقر للغير والغناء استغناء عن الناس، ثم قالوا: الفقر يذهب بعزة النفس ويفضي إلى خلع الحياء، وقالوا: إن لحسن اللباس والأمتعة والتنعم في المعيشة تأثيرا مهما على نفوس البشر، خلافا لمن يقول ليس المرء بطيلسانه، وحديث (اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم) هو لأنه يحمل على التعود جسما على المشاق في الحروب والأسفار وعند الحاجة. وقالوا: إن رغد العيش ونعيمه لمن أعظم الحاجات، به تعلو الهمة ولأجله تقتحم العظائم. هذا وللمال الكثير آفات على الحياة الشريفة ترتعد منها فرائص أهل الفضيلة والكمال، الذين يفضلون الكفاف من الرزق مع حفظ الحرية والشرف على امتلاك دواعي الترف والسرف، وينظرون إلى المال الزائد عن الحاجة الكمالية أنه بلاء في بلاء في بلاء، أي أنه بلاء من حيث التعب في تحصيله، وبلاء من حيث القلق على حفظه، وبلاء من حيث الافتكار بإنمائه، وأما المكتفي فيعيش مطمئنا مستريحا أمينا بعض الأمن على دينه وشرفه وأخلاقه. قرر الأخلاقيون أن الإنسان لا يكون حرا تماما ما لم تكن له صنعة مستقل فيها، أي غير مرءوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء. وعليه تكون أقبح الوظائف هي وظائف الحكومة. وقالوا إن للصنعة تأثيرا في الأخلاق والأميال، وهي من أصدق ما يستدل به على أحوال الأفراد والأقوام، فالموظفون في الحكومة مثلا يفقدون الشفقة والعواطف العالية تبعا لصنعتهم التي من مقتضاها عدم الشعور بتبعة أعمالهم. وقال الحكماء إن العاجز يجمع المال بالتقتير والكريم يجمعه بالكسب، وقالوا إن أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد، وقالوا خير المال ما يكفي صاحبه ذل القلة وطغيان الكثرة. وهذا معنى الحديث (فاز المخفون) وحديث (اسألوا الله الكفاف من الرزق). ويقال الغنى غنى القلب، والغني من قلت حاجته، والغني من استغنى عن الناس. وقال بعض الحكماء كل إنسان فقير بالطبع ينقصه مثل ما يملك، فمن يملك عشرة يرى نفسه محتاجا لعشرة أخرى، ومن يملك ألفا يرى نفسه محتاجا لألف أخرى. وهذا معنى الحديث: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن يكون له واديان). ولا يقصد الأخلاقيون من التزهيد في المال التثبيط عن كسبه، إنما يقصدون أن لا يتجاوز كسبه الطرائق الطبيعية الشريفة. أما السياسيون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت، والغربيون منهم يعينون الأمة على الكسب ليشاركوها، والشرقيون لا يفتكرون في غير سلب الموجود، وهذه من جملة الفروق بين الاستبدادين الغربي والشرقي، التي منها أن الاستبداد الغربي يكون أحكم وأرسخ وأشد وطأة ولكن مع اللين، والشرقي يكون مقلقلا سريع الزوال، ولكنه يكون مزعجا. ومنها أن الاستبداد الغربي إذا زال تبدل بحكومة عادلة تقيم ما ساعدت الظروف أن تقيم، أما الشرقي فيزول ويخلفه استبداد شرّ منه لأن من دأب الشرقيين أن لا يفتكروا في مستقبل قريب، كأن أكبر همهم منصرف إلى ما بعد الموت فقط، أو أنهم مبتلون بقصر البصر. وخلاصة القول إن الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذلّ للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي: القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء. الاستبداد عهد أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجلهم الموت فيحسدهم الأحياء.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/6/
الاستبداد والأخلاق
الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، ويجعله حاقدا على قومه لأنهم عون لبلاء الاستبداد عليه، وفاقدا حب وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه ويود لو انتقل منه، وضعيف الحب لعائلته، لأنه ليس مطمئنا على دوام علاقته معها، ومختل الثقة في صداقة أحبابه، لأنه يعلم منهم أنهم مثله لا يملكون التكافؤ، وقد يضطرون لإضرار صديقهم بل وقتله وهم باكون. أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب، ولا شرفا غير معرض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالا مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها. وهذه الحال تجعل الأسير لا يذوق في الكون لذة نعيم غير بعض الملذات البهيمية. بناء عليه يكون شديد الحرص على حياته الحيوانية وإن كانت تعيسة، وكيف لا يحرص عليها وهو لا يعرف غيرها. أين هو من الحياة الأدبية، أين هو من الحياة الاجتماعية؟ أما الأحرار فتكون منزلة حياتهم الحيوانية عندهم بعد مراتب عديدة، ولا يعرف ذلك إلا من كان منهم، أو من كشف الله عن بصيرته. ومثال الأسراء في حرصهم على حياتهم الشيوخ، فإنهم عندما تمسي حياتهم كلها أسقاما وآلاما ويقربون من أبواب القبور، يحرصون على حياتهم أكثر من الشباب في مقتبل العمر، في مقتبل الملاذ، في مقتبل الآمال. الاستبداد يسلب الراحة الفكرية فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء، فتمرض العقول ويختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس. والعوام الذين هم قليلو المادة في الأصل قد يصل مرضهم العقلي إلى درجة قريبة من عدم التمييز بين الخير والشر، في كل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية. ويصل تسفل إدراكهم إلى أن مجرد آثار الأبهة والعظمة التي يرونها على المستبد وأعوانه تبهر أبصارهم، ومجرد سماع ألفاظ التفخيم في وصفه وحكايات قوته وصولته يزيغ أفكارهم، فيرون ويفكرون أن الدواء في الداء، فينصاعون بين يدي الاستبداد انصياع الغنم بين أيدي الذئاب حيث هي تجري على قدميها جاهدة إلى مقر حتفها. ولهذا كان الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة للعامة فضلا عن الأجسام فيفسدها كما يريد، ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى، فيكون مثلهم في انقيادهم الأعمى للاستبداد ومقاومتهم للرشد والإرشاد، مثل تلك الهوام التي تترامى على النار، وكم هي تغالب من يريد حجزها على الهلاك. ولا غرابة في تأثير ضعف الأجسام على الضعف في العقول، فإن في المرضى وخفة عقولهم، وذوي العاهات ونقص إدراكهم، شاهدا بينا كافيا يقاس عليه نقص عقول الأسراء البؤساء بالنسبة إلى الأحرار السعداء، كما يظهر الحال أيضا بأقل فرق بين الفئتين من الفرق البين في قوة الأجسام وغزارة الدم واستحكام الصحة وجمال الهيئات. ومما يستريب المطالع اللبيب الذي لم يتعب فكره في درس طبيعة الاستبداد، من أن الاستبداد المشئوم كيف يقوم على قلب الحقائق، مع أنه إذا دقق النظر يتجلى له أن الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان. يرى أنه كم مكن بعض القياصرة والملوك الأولين من التلاعب بالأديان تأييدا لاستبدادهم فاتبعهم الناس. ويرى أن الناس وضعوا الحكومات لأجل خدمتهم، والاستبداد قلب الموضوع، فجعل الرعية خادمة للرعاة فقبلوا وقنعوا. ويرى أن الاستبداد استخدم قوة الشعب، وهي هي قوة الحكومة، على مصالحهم لا لمصالحهم فيرتضوا ويرضخوا. ويرى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس الاستبداد في تسميته النصح فضولا، والغيرة عداوةً، والشهامة عتوا، والحمية حماقةً، والرحمة مرضا، كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذارة دماثة. ولا غرابة في تحكم الاستبداد على الحقائق في أفكار البسطاء، إنما الغريب إغفاله كثيرا من العقلاء، ومنهم جمهور المؤرخين الذين يسمون الفاتحين الغالبين بالرجال العظام، وينظرون إليهم نظر الإجلال والاحترام لمجرد أنهم كانوا أكثروا في قتل الإنسان، وأسرفوا في تخريب العمران. ومن هذا القبيل في الغرابة إعلاء المؤرخين قدر من جاروا المستبدين، وحازوا القبول والوجاهة عند الظالمين. وكذلك افتخار الأخلاف بأسلافهم المجرمين الذين كانوا من هؤلاء الأعوان الأشرار. وقد يظن بعض الناس أن للاستبداد حسنات مفقودة في الإدارة الحرة، فيقولون مثلا: الاستبداد يلين الطباع ويلطفها، والحق أن ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة. ويقولون الاستبداد يعلم الصغير الجاهل حسن الطاعة والانقياد للكبير الخبير، والحق أن هذا فيه عن خوف وجبانة لا عن اختيار وإذعان. ويقولون هو يربي النفوس على الاعتدال والوقوف عند الحدود، والحق أن ليس هناك غير انكماش وتقهقر. ويقولون الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحق أنه عن فقر وعجز لا عن عفة أو دين. ويقولون هو يقلل التعديات والجرائم، والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقل تعديدها لا عدادها. ••• الأخلاق أثمار بذرها الوراثة، وتربتها التربية، وسقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة، بناء عليه تفعل السياسة في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر. نعم: الأقوام كالآجام، إن تركت مهملة تزاحمت أشجارها وأفلاذها، وسقم أكثرها، وتغلب قويها على ضعيفها فأهلكه، وهذا مثل القبائل المتوحشة. وإن صادفت بستانيا يهمه بقاؤها وزهوها فدبرها حسبما تطلبه طباعها، قويت وأينعت وحسنت ثمارها، وهذا مثل الحكومة العادلة. وإذا بليت ببستاني جدير بأن يسمى حطابا لا يعنيه إلا عاجل الاكتساب، أفسدها وخربها، وهذا مثل الحكومة المستبدة. ومتى كان الحطاب غريبا لم يخلق من تراب تلك الديار، وليس له فيها فخار، ولا يلحقه منها عار، إنما همه الحصول على الفائدة العاجلة ولو باقتلاع الأصول. فهناك الطامة وهناك البوار. فبناء على هذا المثال يكون فعل الاستبداد في أخلاق الأمم فعل ذلك الحطاب الذي لا يرجى منه غير الإفساد. لا تكون الأخلاق أخلاقا ما لم تكن ملكة مطردة على قانون فطري تقتضيه أولا وظيفة الإنسان نحو نفسه، وثانيا وظيفته نحو عائلته، وثالثا وظيفته نحو قومه، ورابعا وظيفته نحو الإنسانية، وهذا القانون هو ما يسمى عند الناس بالناموس. ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد، ويعيش كالريش يهب حيث يهب الريح، لا نظام ولا إرادة، وما هي الإرادة؟ هي أم الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيما لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة. فالأسير إذن دون الحيوان لأنه يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه. ولهذا قال الفقهاء: لا نية للرقيق في كثير من أحواله، إنما هو تابع لنية مولاه. وقد يعذر الأسير على فساد أخلاقه، لأن فاقد الخيار غير مؤاخذ عقلا وشرعا. أسير الاستبداد لا نظام في حياته، فلا نظام في أخلاقه، قد يصبح غنيا فيضحى شجاعا كريما، وقد يمسي فقيرا فيبيت جبان خسيسا، وهكذا كل شئونه تشبه الفوضى لا ترتيب فيها، فهو يتبعها بلا وجهة. أليس الأسير قد يبغي فيُزجر أو لا يزجر، ويُبغى عليه فيُنصر أو لا ينصر، ويحسن فيكافأ أو يرهق، ويسيء كثيرا فيعفى وقليلا فيشنق، ويجوع يوما فيضوى، ويخصب يوما فيتخم، يريد أشياء فيمنع، ويأبى شيئا فيرغم، وهكذا يعيش كما تقتضيه الصدف أن يعيش، ومن كانت هذه حاله كيف يكون له خلاق وإن وجد ابتداء يتعذر استمراره عليه. ولهذا لا تُجوز الحكمة الحكم على الأسراء بخير أو شر. أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق ولبئس السيئتان، وأنه يعين الأشرار على إجراء غي نفوسهم آمنين من كل تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شر وعقبى ذكر الفاجر بما فيه. ولهذا شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة كقولهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقولهم البلاء موكول بالمنطق. وقد تغالى وعاظهم في سد أفواههم حتى جعلوا لهم أمثال هذه الأقوال من الحكم النبوية، وكم هجوا لهم الهجو والغيبة بلا قيد، فهم يقرءون: لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ويغفلون بقية الآية وهي: إِلاَّ مَن ظُلِمَ. أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ، أي بحرص الأفراد على حراسة نظام الاجتماع، وهذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد الاستبداد لغير ذوي المنعة من الغيورين وقليلٌ ما هم، وقليلا ما يفعلون، وقليلا ما يفيد نهيهم، لأنه لا يمكنهم توجيهه لغير المستضعفين الذين لا يملكون ضررا ولا نفعا، بل ولا يملكون من أنفسهم شيئا، ولأنه ينحصر موضوع نهيهم فيما لا تخفى قباحته على أحد من الرذائل النفسية الشخصية فقط، ومع ذلك فالجسور لا يرى بدا من الاستثناء المخل للقواعد العامة كقوله: السرقة قبيحة إلا إذا كانت استردادا منها، والكذب حرام إلا للمظلوم. والموظفون في عهد الاستبداد للوعظ والإرشاد يكونون مطلقا، ولا أقول غالبا، من المنافقين الذين نالوا الوظيفة بالتملق، وما أبعد هؤلاء عن التأثير، لأن النصح الذي لا إخلاص فيه هو بذر عقيم لا ينبت، وإن نبت كان رياء كأصله، ثم إن النصح لا يفيد شيئا إذا لم يصادف أذنا تتطلب سماعه، لأن النصيحة وإن كانت عن إخلاص فهي لا تتجاوز حكم البذر الحي: إن ألقي في أرض صالحة نبت، وإن ألقي في أرض قاحلة مات. أما النهي عن المنكرات في الإدارة الحرة، فيمكن لكل غيور على نظام قومه أن يقوم به بأمان وإخلاص، وأن يوجه سهام قوارصه إلى الضعفاء والأقوياء سواء، فلا يخص بها الفقير المجروح الفؤاد، بل تستهدف أيضا ذوي الشوكة والعناد. وأن يخوض في كل واد حتى في مواضيع تخفيف الظلم ومؤاخذة الحكام، وهذا هو النصح الإنكاري الذي يعدي ويجدي والذي أطلق عليه النبي عليه السلام اسم (الدين) تعظيما لشأنه فقال: «الدين النصيحة». ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمّل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد، لأنه لا مانع للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد، يخنقون بها عدوتهم الطبيعية أي الحرية. وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بقوله الكريم: وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ. ثم إن التدقيق يفيد أن الأقسام الثلاثة تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض، فيصير مجموعها تحت تأثير الألفة المديدة، بحيث كل خصلة منها ترسخ أو تتزلزل، حسبما يصادفها من استمرار الألفة أو انقطاعها، فالقاتل مثلا لا يستنكر شنيعته في المرة الثانية كما استقبحها من نفسه في الأولى، وهكذا يخف الجرم في وهمه، حتى يصل إلى درجة التلذذ بالقتل كأنه حق طبيعي له، كما هي حالة الجبارين وغالب السياسيين، الذين لا ترتج في أفئدتهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفرادا أو أمما لغاياتهم السياسية، إهراقا بالسيف أو إزهاقا بالقلم، ولا فرق بين القتل بقطع الأوداج وبين الإماتة بإيراث الشقاء غير التسريع والإبطاء. أسير الاستبداد العريق فيه يرث شر الخصال، ويتربى على أشرها، ولا بد أن يصحبه بعضها مدى العمر. بناء عليه، ما أبعده عن خصال الكمال، ويكفيه مفسدة لكل الخصال الحسنة الطبيعية والشرعية والاعتيادية تلَّبسهُ بالرياء اضطرارا حتى يألفه ويصير ملكة فيه، فيفقد بسببه ثقة نفسه بنفسه لأنه لا يجد خلقا مستقرا فيه، فلا يمكنه مثلا أن يجزم بأمانته، أو يضمن ثباته على أمر من الأمور فيعيش سيئ الظن في حق ذاته مترددا في أعماله، لوَّاما نفسه على إهماله شئونه، شاعرا بفتور همته ونقص مروءته، ويبقى طول عمره جاهلًا مورد هذا الخلل، فيتهم الخالق، والخالق جل شأنه لم ينقصه شيئا. ويتهم تارةً دينه، وتارةً تربيته، وتارةً زمانه، وتارةً قومه، والحقيقة بعيدة عن كل ذلك وما الحقيقة غير أنه خلق حرًّا فاسر. أجمع الأخلاقيون على أن المتلبس بشائبة من أصول القبائح الخلقية لا يمكنه أن يقطع بسلامة غيره منها، وهذا معنى: «إذا ساءت فعال المرء ساءت ظنونه». فالمرائي مثلا ليس من شأنه أن يظن البراءة في غيره من شائبة الرياء، إلا إذا بعد تشابه النشأة بينهما بعدًا كبيرًا، كأن يكون بينهما مغايرة في الجنس أو الدين أو تفاوت مهم في المنزلة كصعلوك وأمير كبير. ومثال ذلك الشرقي الخائن، يأمن الإفرنجي في معاملته ويثق بوزنه وحسابه ولا يأمن ويثق بابن جلدته. وكذلك الإفرنجي الخائن قد يأمن الشرقي ولا يأمن مطلقا ابن جنسه. وهذا الحكم صادق على عكس القضية أيضا، أي أن الأمين يظن الناس أمناء خصوصا أشباهه في النشأة، وهذا معنى «الكريم يُخدع»، وكم يذهل الأمين في نفسه عن اتباع حكمة الحزم في إساءة الظن في مواقعه اللازمة. إذا علمنا أن من طبيعة الاستبداد ألفة الناس بعض الأخلاق الرديئة، وأن منها ما يضعف الثقة بالنفس، علمنا سبب قلة أهل العمل وأهل العزائم في الأسراء، وعلمنا أيضا حكمة فقد الأسراء ثقتهم بعضهم ببعض. فينتج من ذلك أن الأسراء محرومون طبعا من ثمرة الاشتراك في أعمال الحياة، يعيشون مساكين بائسين متواكلين متخاذلين متقاعسين متفاشلين، والعاقل الحكيم لا يلومهم بل يشفق عليهم ويلتمس لهم مخرجا ويتبع أثر أحكم الحكماء القائل: «رب ارحم قومي فإنهم لا يعلمون»، «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». وهنا أستوقف المطالع وأستلفته إلى التأمل في.. ما هي ثمرة الاشتراك التي يحرمها الأسراء؟ فأذكره بأن الاشتراك هو أعظم سر في الكائنات، به قيام كل شيء ما عدا الله وحده، به قيام الأجرام السماوية، به قيام كل حياة، به قيام المواليد، به قيام الأجناس والأنواع، به قيام الأمم والقبائل، به قيام العائلات، به تعاون الأعضاء. نعم، الاشتراك فيه سر تضاعف القوة بنسبة ناموس التربيع، فيه سر الاستمرار على الأعمال التي لا تفي بها أعمار الأفراد. نعم، الاشتراك هو السر كل السر في نجاح الأمم المتمدنة، به أكملوا ناموس حياتهم القومية، به ضبطوا نظام حكوماتهم، به قاموا بعظائم الأمور، به نالوا كلّ ما يغبطهم عليه أسراء الاستبداد الذين منهم العارفون بقدر الاشتراك ويتشوقون إليه، ولكن كل منهم يبطن لغبن شركائه باتكاله عليهم عملا، واستبداده عليهم رأيا، حتى صار من أمثالهم قولهم: «ما من متفقين إلا وأحدهما مغلوب للآخر». ورب قائل يقول: إن سر الاشتراك ليس بالأمر الخفي، وقد طالما كتب فيه الكتاب حتى ملته الأسماع، ومع ذلك لم يندفع للقيام به في الشرق غير اليابانيين والبوير فما السبب؟ فأجيبه بأن الكتاب كتبوا وأكثروا وأحسنوا فيما فصلوا وصوروا، ولكن قاتل الله الاستبداد وشؤمه، جعل الكتاب يحصرون أقوالهم في الدعوة إلى الاشتراك وما بمعناه من التعاون والاتحاد والتحابب والاتفاق، ومنعهم من التعرض لذكر أسباب التفرق والانحلال كليا، أو اضطرهم إلى الاقتصار على بيان الأسباب الأخيرة فقط. فمن قائل مثلا: الشرق مريض وسببه الجهل، ومن قائل: الجهل بلاء وسببه قلة المدارس، ومن قائل: قلة المدارس عار وسببه عدم التعاون على إنشائها من قبل الأفراد أو من قبل ذوي الشأن. وهذا أعمق ما يخطه قلم الكاتب الشرقي كأنه وصل إلى السبب المانع الطبيعي أو الاختياري. والحقيقة أن هناك سلسلة أسباب أخرى حلقتها الأولى الاستبداد. وكاتب آخر يقول: الشرق مريض وسببه فقد التمسك بالدين، ثم يقف، مع أنه لو تتبع الأسباب لبلغ إلى الحكم بأن التهاون في الدين أولا وآخرا ناشئ عن الاستبداد. وآخر يقول: إن السبب فساد الأخلاق، وغيره يرى أنه فقد التربية، وسواه ظن أنه الكسل، والحقيقة أن المرجع الأول في الكل هو الاستبداد، الذي يمنع حتى أولئك الباحثين عن التصريح باسمه المهيب. ••• قد اتفق الحكماء الذين أكرمهم الله تعالى بوظيفة الأخذ بيد الأمم في بحثهم عن المهلكات والمنجيات، على أن فساد الأخلاق يخرج الأمم عن أن تكون قابلة للخطاب، وأن معاناة إصلاح الأخلاق من أصعب الأمور وأحوجها إلى الحكمة البالغة والعزم القوي، وذكروا أن فساد الأخلاق يعم المستبد وأعوانه وعماله، ثم يدخل بالعدوى إلى كل البيوت، لاسيما بيوت الطبقات العليا التي تتمثل بها السفلى. وهكذا يغشو الفساد وتمسي الأمة يبكيها المحب ويشمت بها العدو، وتبيت وداؤها عياء يتعاصى على الدواء. وقد سلك الأنبياء عليهم السلام، في إنقاذ الأمم من فساد الأخلاق، مسلك الابتداء أولا بفك العقول من تعظيم غير الله والإذعان لسواه. وذلك بتقوية حسن الإيمان المفطور عليه وجدان كل إنسان. ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته، أي حريته في أفكاره، واختياره في أعماله، وبذلك هدموا حصون الاستبداد وسد منبع الفساد. ثم بعد إطلاق زمام العقول، صاروا ينظرون إلى الإنسان بأنه مكلف بقانون الإنسانية ومطالب بحسن الأخلاق، فيعلمونه ذلك بأساليب التعليم المقنع وبث التربية التهذيبية. والحكماء السياسيون الأقدمون، اتبعوا الأنبياء عليهم السلام في سلوك هذا الطريق وهذا الترتيب، أي بالابتداء من نقطة دينية فطرية تؤدي إلى تحرير الضمائر، ثم باتباع طريق التربية والتهذيب بدون فتور ولا انقطاع. أما المتأخرون من قادة العقول في الغرب، فمنهم فئة سلكوا طريقة الخروج بأممهم من حظيرة الدين وآدابه النفسية، إلى فضاء الإطلاق وتربية الطبيعة، زاعمين أن الفطرة في الإنسان أهدى به سبيلا، وحاجته إلى النظام تغنيه عن إعانة الأديان، التي هي كالمخدرات سموم تعطل الحس بالهموم، ثم تذهب بالحياة فيكون ضررها أكبر من نفعها. وقد ساعدهم على سلوك هذا المسلك، أنهم وجدوا أممهم قد فشا فيها نور العلم، ذلك العلم الذي كان منحصرا في خدمة الدين عند المصريين والآشوريين، ومحتكرا في أبناء الأشراف عند الغرناطيين والرومان، ومخصصا في أعداد من الشبان المنتخبين عند الهنديين واليونان، حتى جاء العرب بعد الإسلام وأطلقوا حرية العلم، وأباحوا تناوله لكل متعلم، فانتقل إلى أوروبا حرا على رغم رجال الدين، فتنورت به عقول الأمم على درجات، وفي نسبتها ترقت الأمم في النعيم، وانتشرت وتخالطت، وصار المتأخر منها يغبط المتقدم ويتنغص من حالته، ويتطلب اللحاق ويبحث عن وسائله. فنشأت من ذلك حركة قوية في الأفكار، حركة معرفة الخير والغيرة على نواله، حركة معرفة الشر والأنفة من الصبر عليه، حركة السير إلى الأمام رغم كل معارض. اغتنم زعماء الحرية في الغرب قوة هذه الحركة وأضافوا إليها قوات أدبية شتى، كاستبدالهم ثقالة وقار الدين بزهوة عروس الحرية، حتى إنهم لم يبالوا بتمثيل الحرية بحسناء خليعة تختلب النفوس. وكاستبدالهم رابطة الاشتراك في الطاعة للمستبدين برابطة الاشتراك في الشئون العمومية، ذلك الاشتراك الذي يتولد منه حب الوطن. وهكذا جعلوا قوة حركة الأفكار تيارا سلطوه على رءوس الرءوس من أهل السياسة والدين. ثم إن هؤلاء الزعماء استباحوا القساوة أيضا، فأخذوا من مهجورات دينهم قاعدة (الغاية تبرر الواسطة)، كجواز السرقة إذا كانت الغاية منها صرف المال في سبيل الخير، وقاعدة (تثقيل الذمة يبيح الفعل القبيح) كشهادة الزور على ذمة الكاهن التي يتحمل عنه خطيئتها، ودفعوا الناس بهما إلى ارتكاب الجرائم الفظيعة التي تقشعر منها الإنسانية، التي لا يستبيحها الحكيم الشرقي لما بين أبناء الغرب وأبناء الشرق من التباين في الغرائز والأخلاق. الغربي: مادي الحياة، قوي النفس، شديد المعاملة، حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام، كأنه لم يبق عنده شيء من المبادئ العالية والعواطف الشريفة التي نقلتها له مسيحية الشرق. فالجرماني مثلا: جاف الطبع، يرى أن العضو الضعيف من البشر يستحق الموت، ويرى كل فضيلة في القوة، وكل القوة في المال، فهو يحب العلم، ولكن لأجل المال، ويحب المجد ولكن لأجل المال. وهذا اللاتيني مطبوع على العجب والطيش، يرى العقل في الإطلاق، والحياة في خلع الحياء، والشرف في الترف، والكياسة في الكسب، والعز في الغلبة، واللذة في المائدة والفراش. أما أهل الشرق فهم أدبيون، ويغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحب، والإصغاء للوجدان، والميل للرحمة ولو في غير موقعها، واللطف ولو مع الخصم. ويرون العز في الفتوة والمروءة، والغنى في القناعة والفضيلة، والراحة في الأنس والسكينة، واللذة في الكرم والتحبب، وهم يغضبون ولكن للدين فقط، ويغارون ولكن على العرض فقط. ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طريق واحدة، فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي، وإن تكلف تقليده في أمر فلا يحسن التقليد، وإن أحسنه فلا يثبت، وإن ثبت فلا يعرف استثماره، حتى لو سقطت الثمرة في كفه تمنى لو قفزت إلى فمه!… فالشرقي مثلا يهتم في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثم لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانية، فيعيد الكرة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية. وكأولئك الباطنة في الإسلام: فتكوا بمئات أمراء على غير طائل، كأنهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية: «لا يلدغ المرء من جحر مرتين»، ولا بالحكمة القرآنية: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها. وهكذا بين الشرقيين والغربيين فروق كثيرة، قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقا. مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يمنون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرمون على من شاءوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكا لجزء مشاع من وطنه، والشرقي يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكا لأميره! الغربي له على أميره حقوق وليس عليه حقوق، والشرقي عليه لأميره حقوق وليس له حقوق! الغربيون يضعون قانونا لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم! الغربيون قضاؤهم وقدرهم من الله، والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتي المستعبدين! الشرقي سريع التصديق، والغربي لا ينفي ولا يثبت حتى يرى ويلمس. الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأن شرفه كله مستودع فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلاله! الشرقي حريص على الدين والرياء فيه، والغربي حريص على القوة والعز والمزيد فيهما! والخلاصة أن الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والجد! الحكماء المتأخرون الغربيون ساعدتهم ظروف الزمان والمكان، وخصوصية الأحوال، لاختصار الطريق فسلكوه، واستباحوا ما استباحوا، حتى إنهم استباحوا في التمهيد السياسي تشجيع أعوان المستبد على تشديد وطأة الظلم والاعتساف بقصد تعميم الحقد عليه، وبمثل هذه التدابير القاسية نالوا المراد أو بعضه من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنسانا. ••• وقد سبق هؤلاء الغلاة فئة اتبعت أثر النبيين، ولم تحفل بطول الطريق وتعبه، فنجحت ورسخت، وأعني بتلك الفئة أولئك الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد، ولا تمسكوا بمعاداة كل دين كمؤسسي جمهورية الفرنسيس، بل رتقوا فتوق الدهر في دينهم بما نقحوا وهذبوا وسهلوا وقربوا، حتى جددوه، وجعلوه صالحا لتجديد خليق أخلاق الأمة. وما أحوج الشرقيين أجمعين من بوذيين ومسلمين ومسيحيين وإسرائيليين وغيرهم، إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء المرائين الأغبياء، والرؤساء القساة الجهلاء. فيجددون النظر في الدين. نظر من لا يحفل بغير الحق الصريح، نظر من لا يضيع النتائج بتشويش المقدمات، نظر من يقصد إظهار الحقيقة لا إظهار الفصاحة، نظر من يريد وجه ربه لا استمالة الناس إليه، وبذلك يعيدون النواقص المعطلة في الدين، ويهذبونه من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادة على كل دين يتقادم عهده، فيحتاج إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين البريء من حيث تمليك الإرادة ورفع البلادة من كل ما يشين، المخفف شقاء الاستبداد والاستعباد، المبصر بطرائق التعليم والتعلم الصحيحين، المهيئ قيام التربية الحسنة واستقرار الأخلاق المنتظمة مما به يصير الإنسان إنسانا، وبه لا بالكفر يعيش الناس إخوانا. والأمر الغريب، أن كل الأمم المنحطة من جميع الأديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها، ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكا مكينا، ويريدون بالدين العبادة، ولنعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئا، لكنه لا يفيد أبدا لأنه قول لا يمكن أن يكون وراءه فعل، وذلك أن الدين بذر جيد لا شبهة فيه، فإذا صادف مغرسا طيبا نبت ونما، وإن صادف أرضا قاحلة مات وفات، أو أرضا مغراقا هاف ولم يثمر. وما هي أرض الدين؟ أرض الدين هي تلك الأمة التي أعمى الاستبداد بصرها وبصيرتها وأفسد أخلاقها ودينها، حتى صارت لا تعرف للدين معنى غير العبادة والنسك اللذين زيادتهما عن حدهما المشروع أضر على الأمة من نقصها كما هو مشاهد في المتنسكين. نعم، الدين يفيد الترقي الاجتماعي إذا صادف أخلاقا فطرية لم تفسد، فينهض بها كما نهضت الإسلامية بالعرب، تلك النهضة التي نتطلبها منذ ألف عام عبثا. وقد علمنا هذا الدهر الطويل مع الأسف، أن أكثر الناس لا يحفلون بالدين إلا إذا وافق أغراضهم، أو لهوًا ورياءً، وعلمنا أن الناس عبيد منافعهم وعبيد الزمان، وأن العقل لا يفيد العزم عندهم، إنما العزم عندهم يتولد من الضرورة أو يحصل بالسائق المجبر. ولا يستحي الناس من أن يلزموا أنفسهم باليمين أو النذر. بناء عليه، ما أجدر بالأمم المنحطة أن تلتمس دواءها من طريق إحياء العلم وإحياء الهمة مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه بمثل: إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، لا أن يتكلوا على أن الصلاة تمنع الناس عنهما بطبعها.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/7/
الاستبداد والتربية
خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعداد للفساد، فأبواه يصلحانه وأبواه يفسدانه. أي أن التربية تربو باستعداده جسما ونفسا وعقلا إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقد سبق أن الاستبداد المشئوم يؤثر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم، بناء عليه تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكل ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، وهل يتم بناء وراءه هادم؟ الإنسان لا حدّ لغايتيه رقيا وانحطاطا. وهذا الإنسان الذي حارت العقول فيه، الذي تحمّل أمانة تربية النفس، وقد أبتها العوالم، فأتم خالقه استعداده ثم أوكله لخيرته. فهو إن يشأ الكمال يبلغ فيه إلى ما فوق مرتبة الملائكة، وإن شاء تلبس بالرذائل حتى يكون أحط من الشياطين، على أن الإنسان أقرب للشر منه للخير. وكفى أن الله ما ذكر الإنسان في القرآن، إلا وقرن اسمه بوصف قبيح كظلوم وغرور وكفار وجبار وجهول وأثيم. ما ذكر الله تعالى الإنسان في القرآن إلا وهجاه فقال: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً، خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ما وجد من مخلوقات الله من نازع الله في عظمته، والمستبدون من الإنسان ينازعونه فيها، والمتناهون في الرذالة قد يقبحون عبثا لغير حاجة في النفس حتى وقد يتعمدون الإساءة لأنفسهم. الإنسان في نشأته كالغصن الرطب فهو مستقيم لدن بطبعه، ولكنها أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شب يبس وبقي على أمياله ما دام حيا. بل تبقى روحه إلى أبد الآبدين في نعيم السرور بإيفائه حق وظيفة الحياة أو في جحيم الندم على تفريطه. وربما كان لا غرابة في تشبيه الإنسان بعد الموت بالمرء الفرح الفخور إذا نام ولذت له الأحلام، أو بالمجرم الجاني إذا نام فغشيته قوارص الوجدان بهواجس كلها ملام وآلام. التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين. وجعلت الدين فرعًا لا أصلا، لأن الدين علم لا يفيد العمل إذا لم يكن مقرونًا بالتمرين. وهذا هو سبب اختلاف الأخلاف من علماء الدين عند الإسلام عن أمثالهم من البراهمة والنصارى، وهو سبب إقبال المسلمين في القرن الخامس وفيما بعده، على قبول أصول الطرائق التي كانت لبًّا محضًا لما كانت تعليمًا وتمرينًا أي تربية للمريدين، ثم خالطها القشر، ثم صارت قشرًا محضا، ثم صار أكثرها لهوا أو كفرا. ملكة التربية بعد حصولها إن كانت شرا تضافرت مع النفس ووليها الشيطان الخناس فرسخت، وإن كانت خيرا تبقى مقلقلة كالسفينة في بحر الأهواء، لا يرسو بها إلا فرعها الديني في السر والعلانية، أو الوازع السياسي عند يقين العقاب. والاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه فلا يمسها لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعا لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضا مع ربه، ومع أبيه وأمه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه. التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين، هي وظيفة الأم أو الحاضنة، ثم تضاف إليها تربية النفس إلى السابعة، وهي وظيفة الأبوين والعائلة معا، ثم تضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ، وهي وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تأتي تربية القدرة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج، وهي وظيفة الصدفة، ثم تأتي تربية المقارنة، وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق. ولا بد أن تصحب التربية من بعد البلوغ، تربية الظروف المحيطة، وتربية الهيئة الاجتماعية، وتربية القانون أو السير السياسي، وتربية الإنسان نفسه. ••• وهكذا الأمة تحرص على أن يعيش ابنها راضيًا بنصيبه من حياته لا يفتكر قط كيف تكون بعده حالة صبية ضعاف يتركهم وراءه، بل يموت مطمئنًا راضيًا مرضيًّا آخر دعائه: فلتحيَ الأمة فلتحيَ الهمة. أما المعيشة الفوضى في الإدارات المستبدة فهي غنية عن التربية، لأنها محض نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والأحراش، يسطو عليها الحَرق والغرق. وتحطمها العواصف والأيدي القواصف، ويتصرف في فسائلها وفروعها الفأس الأعمى، فتعيش ما شاءت رحمة الحطابين أن تعيش، والخيار للصدفة تعوج أو تستقيم، تثمر أو تعقم. يعيش الإنسان في ظل العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، إن طعم تلذذ، وإن تلهى تروح وتريض، لأنه هكذا رأى أبويه وأقرباءه، وهكذا يرى قومه الذين يعيش بينهم. يراهم رجالا ونساءً، أغنياء وفقراء، ملوكًا وصعاليك، كلهم دائبين على الأعمال يفتخر منهم كاسب الدينار بكده وجده، على مالك المليار إرثًا عن أبيه وجده. نعم يعيش العامل ناعم البال يسره النجاح ولا تقبضه الخيبة، إنما ينتقل من عمل إلى غيره، ومن فكر إلى آخر، فيكون متلذذًا بآماله إن لم يسارعه السعد في أعماله، وكيفما كان يبلغ العذر عند نفسه والناس بمجرد إيفائه وظيفة الحياة أي العمل. ويكون فرحًا فخورًا نجح أو لم ينجح، لأنه بريء من عار العجز والبطالة. أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملا خامدًا ضائع القصد، حائرًا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب. ويخطئ والله من يظن أن أكثر الأسراء لاسيما منهم الفقراء لا يشعرون بآلام الأسر. مستدلا بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلى إزالته، والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر الآلام ولكنهم لا يدركون ما هو سببها ومن أين جاءتهم. فيرى أحدهم نفسه منقبضًا عن العمل، لأنه غير أمين على اختصاصه بالثمرة. وربما ظن السلب حقًّا طبيعيًّا للأقوياء فيتمنى أن لو كان منهم. ثم يعمل تارة ولكن بدون نشاط ولا إتقان فيفشل ضرورة، ولا يدري أيضًا ما السبب، فيغضب على ما يسميه سعدًا أو حظًّا أو طالعًا أو قدرًا. والمسكين من أين له أن يعرف أن النشاط والإتقان لا يتأتيان إلا مع لذة انتظار النجاح في العمل، تلك اللذة التي قدر الحكماء أنها اللذة الكبرى، لاستمرار زمانها من حين العزم إلى تمام العمل، والأسير لا اطمئنان فيه على الاستمرار، ولا تشجيع له على الصبر والجلد. الأسير المعذب المنتسب إلى دين يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، فيعدها بجنان ذات أفنان ونعيم مقيم أعده له الرحمن، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وأنه ربما كان خاسر الصفقتين، بل ذلك هو الكائن غالبًا. ولبسطاء الإسلام مسليات أظنها خاصة بهم يعطفون مصائبهم عليها وهي نحو قولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبدًا ابتلاه، هذا شأن آخر الزمان، حسب المرء لقيمات يقمن صلبه. ويتناسون حديث «إن الله يكره العبد البطال» والحديث المفيد معنى «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها»، ويتغافلون عن النص القاطع المؤجل قيام الساعة إلى ما بعد استكمال الأرض زخرفتها وزينتها. وأين ذلك بعد؟ وكل هذه المسليات المثبطات تهون عند ذلك السم القاتل، الذي يحول الأذهان عن التماس معرفة سبب الشقاء، فيرفع المسئولية عن المستبدين ويلقيها على عاتق القضاء والقدر، بل على عاتق الأسراء المساكين أنفسهم. وأعني بهذا السم سوء فهم العوام، وبله الخواص، لما ورد في التوراة من نحو: «اخضعوا للسلطان ولا سلطة إلا من الله» و«الحاكم لا يتقلد السيف جزافًا، إنه مقام للانتقام من أهل الشر»: ولما ورد في الرسائل من نحو: «فلتخضع كل نسمة للسلطة المقامة من الله»، وقد صاغ وعاظ المسلمين ومحدثوهم من ذلك قولهم: «السلطان ظل الله في الأرض». و «الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه». و«الملوك ملهمون». هذا وكل ما ورد في هذا المعنى إن صح فهو مقيد بالعدالة أو محتمل للتأويل بما يعقل، وبما ينطبق على حكم الآية الكريمة التي فيها فصل الخطاب وهي: أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. وآية: فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ. ••• التربية علم وعمل. وليس من شأن الأمم المملوكة شئونها، أن يوجد فيها من يعلم التربية ولا من يعلمها. حتى إن الباحث لا يرى عند الأسراء علمًا في التربية مدفونًا في الكتب فضلا عن الأذهان. أما العمل فكيف يتصور وجوده بلا سبق عزم، وهو بلا سبق يقين، وهو بلا سبق علم. وقد ورد في الأثر «النية سابقة العمل». وورد في الحديث: «إنما الأعمال بالنيات». بناء عليه ما أبعد الناس المغصوبة إرادتهم، المغلولة أيديهم، عن توجيه الفكر إلى مقصد مفيد كالتربية، أو توجيه الجسم إلى عمل نافع كتمرين الوجه على الحياء والقلب على الشفقة. نعم ما أبعد الأسراء عن الاستعداد لقبول التربية، وهي قصر النظر على المحاسن والعبر، وقصر السمع على الفوائد والحكم، وتعويد اللسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل، ورعاية الترتيب في الشئون، ورعاية التوفير في الوقت والمال. والاندفاع بالكلية لحفظ الشرف، لحفظ الحقوق، ولحماية الدين، لحماية الناموس، ولحب الوطن، لحب العائلة، ولإعانة العلم، لإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، لاحتقار الحياة. إلى غير ذلك مما لا ينبت إلا في أرض العدل، تحت سماء الحرية، في رياض التربيتين العائلية والقومية. الاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتحيل والخداع والنفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحس وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أن الاستبداد المشئوم، هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. بناء عليه يرى الآباء أن تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بد أن يذهب عبثا تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم، أو تربية غيرهم لأبنائهم سدى. ثم إن عبيد السلطة التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم، ولا هم آمنون على أنهم يربون أولادهم لهم. بل هم يربون أنعاما للمستبدين، وأعوانًا لهم عليهم. وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق. فالتوالد من حيث هو زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمق مضاعف! وقد قال شاعر: وغالب الأسراء لا يدفعهم للزواج قصد التوالد، إنما يدفعهم إليه الجهل المظلم وإنهم حتى الأغنياء منهم محرومون من كل الملذات الحقيقية: كلذة العلم وتعليمه، ولذة المجد والحماية، ولذة الإيثار والبذل، ولذة إحراز مقام في القلوب، ولذة نفوذ الرأي الصائب، ولذة كبر النفس عن السفاسف، إلى غير ذلك من الملذات الروحية. العِرض، زمن الاستبداد، كسائر الحقوق غير مصون، بل هو معرض لهتك الفساق من المستبدين والأشرار من أعوانهم، فإنهم كما أخبر القرآن عن الفراعنة، يأسرون الأولاد ويستحيون النساء، خصوصًا في الحواضر الصغيرة والقرى المستضعف أهلها. ومن الأمور المشاهدة أن الأمم التي تقع تحت أسر أمة تغايرها في السيماء، لا يمضي عليها أجيال إلا وتغشو فيها سيماء الآسرين: كسواد العيون في الإسبانيول، وبياض البشرة في الأفريقيين. وعدم الاطمئنان على العرض، يضعف الحب الذي لا يتم إلا بالاختصاص، ويضعف لصقة الأولاد بأزواج أمهاتهم فتضعف الغيرة على تحمل مشاق التربية، تلك الغيرة التي لأجلها شرع الله النكاح وحرم السفاح. للسعة والفقر أيضًا دخل كبير في تسهيل التربية، وأين الأسراء من السعة كما أن لانتظام المعيشة ولو مع الفقر علاقة قوية في التربية، ومعيشة الأسراء أغنياء كانوا أو معدمين، كلها خلل في خلل، وضيق في ضيق، وذلك يجعل الأسير هين النفس، وهذا أول دركات الانحطاط، ويرى ذاته لا يستحق المزيد في النعيم مطمعا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، وهذا ثاني الدركات، ويرى استعداده قاصرًا عن الترقي في العلم، وهذا ثالثها، ويرى حياته على بساطتها لا تقوى إلا بمعاونة غيره له، وهذا رابعها، وهلم جرا! بناء عليه ما أبعد الأسراء عن النشاط للتربية، ثم لماذا يتحملون مشاق التربية وهم إن نوّروا أولادهم بالعلم جنوا عليهم بتقوية إحساسهم، فيزيدونهم شقاءً، ويزودونهم بلاءً، ولهذا لا غرو أن يختار الأسراء الذين فيهم بقية من الإدراك، ترك أولادهم هملا تجرفهم البلاهة إلى حيث تشاء. وإذا افتكرنا كيف ينشأ الأسير في البيت الفقير وكيف يتربى، نجد أنه يلقح به وفي الغالب أبواه متناكدان متشاكسان، ثم إذا تحرك جنينا حرك شراسة أمه فشتمته، أو زاد آلام حياتها فضربته، فإذا ما نما ضيقت عليه بطنها لألفتها الانحناء خمولا والتصرر صَغارًا، والتقلص لضيق فراش الفقر، ومتى ولدته ضغطت عليه بالقماط اقتصادًا أو جهلا، فإذا تألم وبكى سدت فمه بثديها، أو نفسه خضًّا أو بدوار السرير، أو سقته مخدرًا عجزًا عن نفقة الطبيب، فإذا ما فطم، يأتيه الغذاء الفاسد يضيق معدته ويفسد مزاجه، فإن كان قوي البنية طويل العمر وترعرع، يُمنع من رياضة اللعب لضيق البيت، فإن سأل واستفهم ماذا وما هذا ليتعلم، يزجر ويلكم لضيق خلق أبويه، وإن جالسهما ليألف المعاشرة وينتفي عنه التوحش، يبعدانه كي لا يقف على أسرارهما فيسترقها منه الجيران الخلطاء، فتُنمى إلى أعوان الظالمين وما أكثرهم، فإذا قويت رجلاه يُدفع به إلى خارج الباب، إلى مدرسة الإلفة على القذارة، وتعلم صيغ الشتائم والسباب، فإن عاش ونشأ وضع في مَكتب أو عند ذي صنعة، فيكون أكبر القصد ربطه عن السراح والمراح. فإذا بلغ الشباب، ربطه أولياؤه على وتد الزواج كي لا يفر من مشاكلتهم في شقاء الحياة، ليجني هو على نسله كما جنى عليه أبواه، ثم هو يتولى التضييق على نفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف، ويتولى المستبدون التضييق على عقله ولسانه وعمله وأمله. وهكذا يعيش الأسير من حين يكون نسمة في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتبة هم ووادي غم، يودع سقمًا ويستقبل سقمًا إلى أن يفوز بنعمة الموت مضيعًا دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوفًا عليه. وما أظلم من يؤاخذ الأسراء على عدم اعتنائهم بلوازم الحياة. فالنظافة مثلا: لماذا يهتم بها الأسير؟ هل لأجل صحته وهو في مرض مستمر، أم لأجل لذته وهو المتألم كيفما تقلب جسمه أو نظره؟ أم لأجل ذوق من يجالس أو يؤاكل، وهو من عفت نفسه صحبة الحياة. ولا يظنن المطالع أن حالة أغنياء الأسراء هي أقل شرًّا من هذا، كلا، بل هم أشقى وأقل عافية وأقصر عمرًا من هذا، إذا نقصتهم بعض المنغصات، تزيد فيهم مشاق التظاهر بالراحة والرفاه والعزة والمنعة، تظاهرًا إن صح قليله فكثيره الكاذب، حمل ثقيل على عواتقهم كالسكران يتصاحى فيبتلى بالصداع، أو كالعاهرة البائسة تتضاحك لترضي الزاني. حياة الأسير تشبه حياة النائم المزعوج بالأحلام، فهي حياة لا روح فيها، حياة وظيفتها تمثيل مندرسات الجسم فقط، ولا علاقة لها بحفظ المزايا البشرية، وبناء على هذا، كان فاقد الحرية لا أنانية له لأنه ميت بالنسبة لنفسه، حي بالنسبة لغيره، كأنه لا شيء في ذاته، إنما هو شيء بالإضافة. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة وهي الفناء في المستبدين، حق له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلا عن وظيفة اجتماعية. ولولا أن ليس في الكون شيء غير تابع لنظام حتى الجماد، حتى فلتات الطبيعة والصدف التي هي مسببات لأسباب نادرة، لحكمنا بأن معيشة الأسراء هي محض فوضى، لا شبه فوضى. على أن التدقيق العميق، يفيدنا بأن للأسراء، قوانين غريبة في مقاومة الفناء يصعب ضبطها وتعريفها، إنما الأسير يرضعها مع لبن أمه ويتربى عليها، وقد يبدع فيها بسائق الحاجة، ويكون منهم الحاذق فيها علمًا، الماهر في تطبيقها عملا، هو الموفق في ميدان حرب الحياة مع الذل كالهنود واليهود. والعاجز عنها، إما جاهل هذا القانون أو العاجز فطرة عن أتباعه كالعرب مثلا، فلا يخرج عن كونه كرة يلعب بها صبيان الاستبداد، تارة يضربون بها الأرض أو الحيطان، وأخرى تتناولها أرجلهم بالصفعات، وهذا إذا كان عجز الأسير عن جهل، وأما إذا كان عجزه كما يقال عن عرق هاشمي، أي عن شيء من كرامة نفس أو قوة إحساس أو جسارة جنان، فيكون كالحجارة تتكسر ولا تلين. قوانين حياة الأسير هي مقتضيات الشئون المحيطة به، التي تضطره لأن يطبق إحساساته عليها ويدبر نفسه على موجبها، وذلك نحو مقابلة التجبر عليه بالتذلل والتصاغر، وتعديل الشدة عليه بالتلاين والمطاوعة وإعطاء المطلوب منه بعد قليل من التمنع ولو أن المطلوب هو ابنه لمجزرة الجندية أو بنته لفراش شيخ شرير، والمطالبة في الحقوق بصفة استعطاف كأنه طالب صدقة، وكسب المعاش مع شكاية الحاجة، وحفظ المال بإخفائه عن الأعيان، والتعامي عن زلات المستبدين، والتصامم عن سماع ما يهان به، والتظاهر بفقد الحس أو تعطيله بالمخدرات القوية كالأفيون والحشيش، وتعطيل العقل بالتباله وستر العلم بالتجاهل، والارتداء بالتدين والرياء، وتعويد اللسان على الزلاقة في عبائر التصاغر والتملق، وعزو كل خير إلى فضل المستبدين حتى إذا كان الخير طبيعيًّا نحو مطر السماء، فعزوه إلى يمن الحكام أو دعاء الكهان. ويسند كل شر ولو من نوع التسلط على الأعراض، إلى الاستحقاق من جانب الله. إلى غير ذلك من أحكام ذلك القانون، الذي رءوس مسائله فقط تمل القارئ فضلا عن تفصيلاتها. إن أخوف ما يخافه الأسير هو أن يظهر عليه أثر نعمة الله في الجسم أو المال، فتصيبه عين الجواسيس (وهذا أصل عقيدة إصابة العين)!، أو أن يظهر له شأن في علم أو جاه أو نعمة مهمة، فيسعى به حاسدوه إلى المستبد (وهذا أصل شر الحسد الذي يتعوذ منه)!، وقد يتحيل الأسير على حفظ ماله الذي لا يمكنه إخفاؤه كالزوجة الجميلة، أو الدابة الثمينة، أو الدار الكبيرة، فيحميها بإسناد الشؤم، (وهذا أصل التشاؤم بالأقدام والنواصي والأعتاب). ومن غريب الأحوال أن الأسراء يبغضون المستبد، ولا يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في الإنسان إذا غضب، فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلمًا: فيعادون من بينهم فئة مستضعفة، أو الغرباء، أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك. ومثلهم في ذلك مثل الكلاب الأهلية، إذا أريد منها الحراسة والشراسة فأصحابها يربطونها نهارًا ويطلقونها ليلا فتصير شرسة عقورا، وبهذا التعليل تعلل جسارة الأسراء أحيانًا في محارباتهم، لا أنها جسارة عن شجاعة. وأحيانًا تكون جسارة الأسراء عن التناهي في الجبانة أمام المستبد، الذي يسوقهم إلى الموت فيطيعونه انذعارًا كما تطيع الغنمة الذئب فتهرول بين يديه إلى حيث يأكلها. ••• وقد اتضح مما تقدم أن التربية غير مقصودة ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة، وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لا تزكية النفوس. وقد أجمع علماء الاجتماع والأخلاق والتربية على أن الإقناع خير من الترغيب فضلا عن الترهيب، وأن التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم، أفضل من التعليم مع الوقار، وأن التعليم عن رغبة في التكمل أرسخ من العلم الحاصل طمعًا في المكافأة، أو غيرةً من الأقران. وعلى هذه القاعدة بنوا قولهم: إن المدارس تقلل الجنايات لا السجون، وقولهم: إن القصاص والمعاقبة قلما يفيدان في زجر النفس كما قال الحكيم العربي: ومن يتأمل جيدًا في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ ملاحظًا أن معنى القصاص لغة هو التساوي مطلقًا لا مقصورًا على المعاقبة بالمثل في الجنايات فقط، ويدقق النظر في القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية، ويتبع مسالك الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام، يرى أن الاعتناء في طريق الهداية فيها منصرف إلى الإقناع، ثم إلى الأطماع عاجلا أو آجلا، ثم إلى الترهيب الآجل غالبًا ومع ترك أبواب تدلي إلى النجاة. ثم إن التربية التي هي ضالّة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى، التي هي المسألة الاجتماعية حيث الإنسان يكون إنسانًا بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتبة على إعداد العقل للتمييز، ثم على حسن التفهيم والإقناع، ثم على تقوية الهمة والعزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال، وأن تكون تربية العقل مصحوبة بتربية الجسم، لأنهما متصاحبان صحة واعتلالا، فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمل المشاق، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة. وأن تكون تلكما التربيتان مصحوبتين أيضًا بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. فإذا كان لا مطمع في التربية العامة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولا وراء إزالة المانع الضاغط على العقول، ثم بعد ذلك يعتنوا بالتربية حيث يمكنهم حينئذ أن ينالوها على توالي البطون والله الموفق.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/8/
الاستبداد والترقي
الحركة سنّة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص وهبوط. فالترقي هو الحركة الحيوية أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال أو الاستحالة أو الانقلاب. وهذه السنة كما هي عاملة في المادة وأعراضها، عاملة أيضًا في الكيفيات ومركباتها، والقول الشارح لذلك آية: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وحديث: «ما تم أمر إلا وبدا نقصه» وقولهم: «التاريخ يعيد نفسه». وحكمهم بأن الحياة والموت حقان طبيعيان. وهذه الحركة الجسمية والنفسية والعقلية لا تقتضي السير إلى النهاية شخوصًا أو هبوطًا، بل هي أشبه بميزان الحرارة كل ساعة في شأن، والعبرة في الحكم للوجهة الغالبة، فإذا رأينا في أمة آثار حركة الترقي هي الغالبة على أفرادها، حكمهنا لها بالحياة، ومتى رأينا عكس ذلك قضينا عليها بالموت. الأمة هي مجموعة أفراد يجمعها نسب أو وطن أو لغة أو دين، كما أن البناء مجموع أنقاض، فحسبما تكون الأنقاض جنسًا وجمالا وقوةً يكون البناء، فإذا ترقت أو انحطت أفراد الأمة، ترقت أو انحطت هيئتها الاجتماعية، حتى إن حالة الفرد الواحد من الأمة تؤثر في مجموع تلك الأمة. كما إذا لو اختلت حجرة من حصن يختل مجموعه وإن كان لا يشعر بذلك، كما لو وقفت بعوضة على طرف سفينة عظيمة أثقلتها وأمالتها حقيقة وإن لم يدرك ذلك بالمشاعر. وبعض السياسيين بنى على هذه القاعدة أنه يكفي الأمة رقيًّا أن يجتهد كل فرد منها في ترقية نفسه بدون أن يفتكر في ترقي مجموع الأمة. الترقي الحيوي الذي يتدرج فيه الإنسان بفطرته وهمته هو أولا: الترقي في الجسم صحة وتلذذًا، ثانيًا: الترقي في القوة بالعلم والمال، ثالثًا: الترقي في النفس بالخصال والمفاخر، رابعًا: الترقي بالعائلة استئناسًا وتعاونًا، خامسًا: الترقي بالعشيرة تناصرًا عند الطوارئ، سادسًا: الترقي بالإنسانية وهذا منتهى الترقي. وهناك نوع آخر من الترقي يتعلق بالروح وبالكمال، وهو أن الإنسان يحمل نفسًا ملهمة بأن لها وراء حياتها هذه حياة أخرى تترقى إليها على سلم العدل والرحمة والحسنات. فأهل الأديان، ما عدا أهل التوراة، يؤمنون بالبعث أو التناسخ، فيأتون بالعدل والرحمة رجاء المكافأة أو خوف المجازاة، وهم من قبيل الطبيعيين يعتبرون أنفسهم مدينين للإنسانية بحفظها تاريخ الحياة الطبيعية، فيلتزمون خدمتها اهتمامًا بحياتهم التاريخية بحسن الذكر أو قبحه. وهذه الترقيات، على أنواعها الستة، لا يزال الإنسان يسعى وراءها ما لم يعترضه مانع غالب يسلب إرادته، وهذا المانع إما هو القدر المحتوم، المسمى عند البعض بالعجز الطبيعي، أو هو الاستبداد المشئوم. على أن القدر قد يصدم سير الترقي لمحة ثم يطلقه فيكُر راقيًا. وأما الاستبداد فإنه يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط، من التقدم إلى التأخر، من النماء إلى الفناء، ويلازم الأمة ملازمة الغريم الشحيح، ويفعل فيها دهرًا طويلا أفعاله التي تقدم وصف بعضها في الأبحاث السابقة، أفعاله التي تبلغ بالأمة حطة العجماوات فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية فقط، بل قد تبيح حياتها هذه الدنيئة أيضًا للاستبداد إباحة ظاهرة أو خفية. ولا عار على الإنسان أن يختار الموت على الذل، وهذه سباع الطير والوحوش إذا أسرت كبيرة قد تأبى الغذاء حتى تموت. وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمته بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أُطلق سراحها. وعندئذ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها. وتوصف حركة الترقي والانحطاط في الشئون الحيوية للإنسان أنها من نوع الحركة الدودية، التي تحصل بالاندفاع والانقباض، وذلك أن الإنسان يولد وهو أعجز حراكًا ودراكًا من كل حيوان، ثم يأخذ في السير تدفعه «الرغائب» النفسية والعقلية وتقبضه «الموانع» الطبيعية والمزاحمة. وهذا سرُّ أن الإنسان ينتابه الخير والشر. وهو سرُّ ما ورد في القرآن الكريم من ابتلاء الله الناس بالخير وبالشر. وهو معنى ما ورد في الأثر من أن الخير مربوط بذيل الشر، والشر مربوط بذيل الخير، وهو المراد من أقوال الحكماء نحو: على قدر النعمة تكون النقمة، على قدر الهمم تأتي العزائم، بين السعادة والشقاء حرب سجال، العاقل من يستفيد من مصيبته والكيس من يستفيد من مصيبته ومصيبة غيره، والحكيم من يبتهج بالمصائب ليقطف منها الفوائد، ما كان في الحياة لذة لو لم يتخللها آلام. فإذا تقرر هذا فليعلم أيضًا أن سبيل الإنسان هو إلى الرقي، ما دام جناحا الاندفاع والانقباض فيه متوازيين كتوازن الإيجابية أو السلبية في الكهربائية، وسبيله القهقرى إن غلبته الطبيعة أو المزاحمة. ثم إن الاندفاع إذا غلب فيه العقل النفس، كانت الوجهة إلى الحكمة، وإن غلبت النفس العقل، كانت الوجهة إلى الزيغ. أما الانقباض فالمعتدل منه هو السائق للعمل، والقوي منه مهلك مسكن للحركة، والاستبداد المشئوم الذي نبحث فيه هو قابض ضاغط مسكن والمبتلون به هم المساكين، نعم، أسراء الاستبداد أحق بوصف المساكين من عجزة الفقراء. ولو ملك الفقهاء حرية النظر لخرجوا من الاختلاف في تعريف المساكين الذين جعل لهم الله نصيبًا من الزكاة فقالوا: هم عبيد الاستبداد، ولجعلوا كفارات فك الرقاب تشمل هذا الرق الأكبر. أسراء الاستبداد حتى الأغنياء منهم كلهم مساكين لا حراك فيهم، يعيشون منحطين في الإدراك، منحطين في الإحساس، منحطين في الأخلاق. وما أظلم توجيه اللوم إليهم بغير لسان الرأفة والإرشاد، وقد أبدع من شبه حالتهم بدود تحت صخرة، فما أليق باللائمين أن يكونوا مشفقين يسعون في رفع الصخرة ولو حتًّا بالأظافر ذرة بعد ذرة. قد أجمع الحكماء على أن أهم ما يجب عمله على الآخذين بيد الأمم، الذين فيهم نسمة مروءة وشرارة حمية، الذين يعرفون ما هي وظيفتهم بإزاء الإنسانية الملتمسين لإخوانهم العافية، أن يسعوا في رفع الضغط عن العقول لينطلق سبيلها في النمو فتمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف، شأن الطبيب في اعتنائه أولا بقوة جسم المريض، وأن يكون الإرشاد متناسبًا مع الغفلة خفةً وقوة: كالساهي ينبهه الصوت الخفيف، والنائم يحتاج إلى صوت أقوى، والغافل يلزمه صياح وزجر. فالأشخاص من هذا النوع الأخير، يقتضي لإيقاظهم الآن بعد أن ناموا أجيالا طويلة، أن يسقيهم النطاسي البارع مرًّا من الزواجر والقوارص علّهم يفيقون، وإلا فهم لا يفيقون، حتى يأتي القضاء من السماء: فتبرق السيوف وترعد المدافع وتمطر البنادق، فحينئذ يصحون ولكن صحوة الموت! بعض الاجتماعيين في الغرب يرون أن الدين يؤثر على الترقي الإفرادي ثم الاجتماعي، تأثيرًا معطلا كفعل الأفيون في الحس، أو حاجبًا كالغيم يغشى نور الشمس. وهناك بعض الغلاة يقولون: الدين والعقل ضدان متزاحمان في الرءوس، وإن أول نقطة من الترقي تبتدئ عند آخر نقطة من الدين. وإن أصدق ما يُستدل به على مرتبة الرقي والانحطاط في الأفراد أو في الأمم الغابرة والحاضرة، هو مقياس الارتباط بالدين قوة وضعفًا. هذه الآراء كلها صحيحة لا مجال للرد عليها، ولكن بالنظر إلى الأديان الخرافية أساسًا أو التي لم تقف عند حد الحكمة، كالدين المبني على تكليف العقل بتصور أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد. لأن مجرد الإذعان لما لا يعقل برهان على فساد بعض مراكز العقل، ولهذا أصبح العالم المتمدن يعدّ الانتساب إلى هذه العقيدة من العار لأنه شعار الحمق. أما الأديان المبنية على العقل المحض كالإسلام الموصوف بدين الفطرة، ولا أعني بالإسلام ما يدين به أكثر المسلمين الآن، إنما أريد بالإسلام: دين القرآن، أي الدين الذي يقوى على فهمه من القرآن كل إنسان غير مقيد الفكر بتفصّح زيد أو تحكم عمرو. فلا شك في أن الدين إذا كان مبنيًّا على العقل، يكون أفضل صارف للفكر عن الوقوع في مصائد المخرفين، وأنفع وازع يضبط النفس من الشطط، وأقوى مؤثر لتهذيب الأخلاق، وأكبر معين على تحمل مشاق الحياة، وأعظم منشط على الأعمال المهمة الخطرة. وأجل مثبت على المبادئ الشريفة، وفي النتيجة يكون أصح مقياس يستدل به على الأحوال النفسية في الأمم والأفراد رقيًّا وانحطاطًا. هذا القرآن الكريم إذا أخذناه وقرأناه بالتروي في معاني ألفاظه العربية وأسلوبه تركيبه القرشي، مع تفهم أسباب نزول آياته وما أشارت إليه، ومع التبصر في مقاصده الدقيقة وتشريعه السامي، ومع أخذ بعض التوضيحات من السنة العملية النبوية أو الإجماع إن وجدا، وقلّما يوجدان، فحينئذ لا نرى فيه من أوله إلى آخره غير حكم يتلقاها العقل بالإجلال والإعظام، إلى درجة انقياد العقل طوعًا أو كرهًا للإيمان إجمالا بأن تلك الحكم حكم عزيزة إلهية، وأن الذي أنزلها الله على قلبه هو أفضل من أرسله الله مرشدًا لعباده. وتوضيح ذلك: أن الناظر في القرآن حق النظر يرى أنه لا يكلف الإنسان قط بالإذعان لشيء فوق العقل، بل يحذره وينهاه من الإيمان إتباعًا لرأي الغير أو تقليدًا للآباء. ويراه طافحًا بالتنبيه إلى إعمال الإنسان فكره ونظره في هذه الكائنات وعظيم انتظامها، ثم الاستدلال بذلك إلى أن لهذه الكائنات صانعًا أبدعها من العدم، ثم الانتقال إلى معرفة الصفات التي يستلزم العقل أن يكون هذا الصانع متصفًا بها، أو منزهًا عنها، ثم يرى القرآن يعلم الإنسان بعض أعمال وأحكام وأوامر ونواهي كلها لا تبلغ المائة عددًا، وكلها بسيطة معقولة، إلا قليلا من الأمور التعبدية التي شرعت لتكون شعارًا يعرف به المسلم أخاه، أو يستطلع من خلال قيامه بها أو تهاونه فيها أخلاقه، فيستدل مثلا بالتكاسل عن الصلاة على فقد النشاط، وبترك الصوم على عدم الصبر، وبالسكر على غلبة النفس العقل ونحو ذلك. وكفى بالإسلامية رقيًّا في التشريع، رقيها بالبشر إلى منزل حصرها أسارة الإنسان في جهة شريفة واحدة وهي (الله)، وعتقها عقل البشر عن توهم وجود قوة ما في غير الله من شأنها أن تأتي للإنسان بخير ما أو تدفع عنه شرًّا ما. فالإسلامية تجعل الإنسان لا يرجو ولا يهاب من رسول أو نبي أو ملك أو فلك، أو ولي أو جني، أو ساحر أو كاهن، أو شيطان أو سلطان. وأعظم بهذا التعليم الذي يرمي الإنسان به عن عاتقه جبالا من الخوف والأوهام والخيالات، جبالا اعتقلها منذ كان يسرح مع الغيلان، أو ورثها من أبيه آدم الذي طغاه شيطان النفس. أوليس العتيق من الأوهام يصبح صحيح العقل، قوي الإرادة، ثابت العزيمة، قائده الحكمة، سائقه الوجدان، فيعيش حرًّا فرحًا صبورًا فخورًا. لا يبالي حتى بالموت لعلمه بالسعادة التي يستقبلها، التي يمثلها له القرآن بالجنان فيها الروح والريحان، والحور والغلمان، فيها كلُّ ما تشتهي النفس وتقرُّ به العينان. وأظن أن هؤلاء المنكرين فائدة الدين، ما أنكروا ذلك إلا من عدم اطلاعهم على دين صحيح مع يأسهم من إصلاح ما لديهم، عجزًا عن مقاومة أنصار الفساد. وإذا نظرنا في أن هؤلاء أنفسهم هم في آنٍ واحد يشددون النكير على الدين من جهة قائلين إن ضرره أكبر من نفعه، ويهيجون من جهة أخرى مؤثرات أدبية وهمية محضًا يرون أنه لا بد منها في بناء الأمم، وذلك مثل حب الوطن وخيانته، وحب الإنسانية والإساءة إليها، والسمعة الحسنة وعكسها، والذكر التاريخي بالخير أو الشر ونحو ذلك مما هو لا شيء في ذاته، ولا شيء أيضًا بالنسبة إلى تأثير طاعة الله والخوف منه، لأن (الله) حقيقة لا ريب فيها، بل ولا خلاف إلا في الأسماء بين (الله) وبين (مادة) أو (طبيعة). ولولا أن الماديين والطبيعيين يأبون الاسترسال في البحث في صفات ما يسمونه مادة أو طبيعة، لالتقوا ولا شك مع الإسلام في نقطة واحدة فارتفع الخلاف العلمي وأسلم الكل لله. ••• وعلى ذكر اللوم الإرشادي لاح لي أن أصور الرقي والانحطاط في النفس، وكيف ينبغي للإنسان العاقل أن يعاني إيقاظ قومه، وكيف يرشدهم إلى أنهم خلقوا لغير ما هم عليه من الصبر على الذل والسفالة، فيذكّرهم ويحرك قلوبهم ويناجيهم وينذرهم بنحو الخطابات الآتية: «يا قوم، ينازعني والله الشعور، هل موقفي هذا في جمعٍ حيٍّ فأحييه بالسلام، أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة؟ يا هؤلاء، لستم بأحياء عاملين، ولا أموات مستريحين، بل أنتم بين بين: في برزخ يسمى التنبت، ويصح تشبيهه بالنوم! يا رباه: إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون، بل هم موتى لأنهم لا يشعرون». «يا قوم، هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون؟ وما هذا التأخر وقد سبقتكم الأقوام ألوف مراحل، حتى صار كما صار بعد ورائكم أمامًا! أفلا تتبعون؟ وما هذا الانخفاض والناس في أوج الرفعة، أفلا تغارون؟ أناشدكم الله، هل طابت لكم طول غيبة الصواب عنكم؟ أم أنتم كأهل ذلك الكهف ناموا ألف عام ثم قاموا، وإذا بالدنيا غير الدنيا والناس غير الناس فأخذتهم الدهشة والتزموا السكون». «يا قوم، وقاكم الله من الشرّ، أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص على كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر: تشكون حاضركم وتسخطون عليه، ومن لي أن تدركوا أن حاضركم نتيجة ماضيكم، ومع ذلك أراكم تقلدون أجدادكم في الوساوس والخرافات والأمور السافلات فقط، ولا تقلدونهم في محامدهم! أين الدين؟ أين التربية؟ أين الإحساس؟ أين الغيرة؟ أين الجسارة؟ أين الثبات؟ أين الرابطة؟ أين المنعة؟ أين الشهامة؟ أين النخوة؟ أين الفضيلة؟ أين المواساة؟ هل تسمعون أم أنتم صمّ لاهون؟». «يا قوم، عافاكم الله، إلى متى هذا النوم؟ وإلى متى هذا التقلب على فراش البأس ووسادة اليأس؟ أنتم مفتحة عيونكم ولكنكم نيام، لكم أبصار ولكنكم لا تنظرون، وهكذا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور! لكم سمع ولسان ولكنكم صم بكم، ولكم شبيه الحس ولكنكم لا تشعرون به ما هي اللذائذ حقًا وما هي الآلام، ولكم رءوس كبيرة ولكنها مشغولة بمزعجات الأوهام والأحلام، ولكم نفوس حقها أن تكون عزيزة ولكن أنتم لا تعرفون لها قدرًا ومقامًا». «يا قوم، أعيذكم بالله من فساد الرأي، وضياع الحزم، وفقد الثقة بالنفس، وترك الإرادة للغير، فهل ترون أثرًا للرشد في أن يوكل الإنسان عنه وكيلا ويطلق له التصرف في ماله وأهله، والتحكم في حياته وشرفه والتأثير على دينه وفكره، مع تسليف هذا الوكيل العفو عن كل عبث وخيانة وإسراف وإتلاف؟ أم ترون أن هذا النوع من الجنّة به يظلم الإنسان نفسه، هل خلق الله لكم عقلا لتفهموا به كل شيء، أم لتهملوه كأنه لا شيء؟ إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ». «يا قوم، شفاكم الله، قد ينفع اليوم الإنذار واللوم، وأما غدًا إذا حل القضاء، فلا يبقى لكم غير الندب والبكاء. فإلى متى هذا التخادع والتخاذل، وإلى متى هذا التواني والتدابر، وإلى متى هذا الإهمال؟ هل طاب لكم النوم على الوسادة اللينة، وسادة الخمول، أم طاب لكم السكون وتودون لو تسكنون القبور، أم عاهدتم أنفسكم أن تصلوا غفلة الحياة بالممات، فلا تفيقوا من السبات قبل صباح يوم النشور، يوم تعلو السيوف رقابكم وتصمي المدافع آذانكم فتمسون الأذلاء حقًا وحق لكم أن تذلوا؟». «يا قوم، رحمكم الله، ما هذا الحرص على حياة تعيسة دنيئة لا تملكونها ساعة، ما هذا الحرص على الراحة الموهومة وحياتكم كلها تعب ونصب؟ هل لكم في هذا الصبر فخر أو لكم عليه أجر؟ كلا والله ساء ما تتوهمون، ليس لكم إلا القهر في الحياة، وقبيح الذكر بعد الممات، لأنكم ما أفدتم الوجود شيئًا، بل أتلفتم ما ورثتم عن السلف وصرتم بئس الواسطة للخلف. ألستم يا ناس مديونين للأسلاف بكل ما أنتم فيه من الترقي عن إنسان الغابات؟ فإذا لم تكونوا أهلا للمزيد فكونوا أهلا للحفظ، وهذه العجماوات تنقل رقيها لنسلها بأمانة». «يا قوم، حماكم الله، قد جاءكم المستمتعون من كل حدب ينسلون، فإن وجدوكم أيقاظًا عاملوكم كما يتعامل الجيران ويتجامل الأقران، وإن وجدوكم رقودًا لا تشعرون سلبوا أموالكم، وزاحموكم على أرضكم، وتحيّلوا على تذليلكم، وأوثقوا ربطكم واتخذوكم أنعامًا، وعندئذ لو أردتم حراكًا لا تقوون، بل تجدون القيود مشدودة والأبواب مسدودة لا نجاة ولا مخرج». «يا قوم، هون الله مصابكم، تشكون من الجهل ولا تنقفون على التعليم نصف ما تصرفون على التدخين، تشكون من الحكام، وهم اليوم منكم، فلا تسعون في إصلاحهم. تشكون فقد الرابطة، ولكم روابط من وجوه لا تفكرون في إحكامها. تشكون الفقر ولا سبب له غير الكسل. هل ترجون الصلاح وأنتم يخادع بعضكم بعضًا؟ ولا تخدعون إلا أنفسكم. ترضون بأدنى المعيشة عجزًا تسمونه قناعة، وتهملون شئونكم تهاونًا تسمونه توكلا. تموهون عن جهلكم الأسباب بقضاء الله وتدفعون عار المسببات بعطفها على القدر، ألا والله ما هذا شأن البشر!». «يا قوم، سامحكم الله، لا تظلموا الأقدار وخافوا غيرة المنعم الجبار. ألم يخلقكم أكفاء أحرارًا طلقاء لا يثقلكم غير النور والنسيم، فأبيتم إلا أن تحملوا على عواتقكم ظلم الضعفاء وقهر الأقوياء! لو شاء كبيركم أن يحمّل صغيركم كرة الأرض لحنى له ظهره، ولو شاء أن يركبه لطأطأ له رأسه. ماذا استفدتم من هذا الخضوع والخشوع لغير الله؟ وماذا ترجون من تقبيل الأذيال والأعتاب وخفض الصوت ونكس الرأس. أليس منشأ هذا الصغار كله هو ضعف ثقتكم بأنفسكم، كأنكم عاجزون عن تحصيل ما تقوم به الحياة، وحسب الحياة لُقيمات من نبات يقمن ضلع ابن آدم، وقد بذلها الخلاق لأضعف الحيوان، هذه الوحوش تجد فرائسها أينما حلت، وهذه الهوام لا تفقد قوتها، فما بال الرجل منكم يضع نفسه مقام الطفل الذي لا ينال من الكبير مراده إلا بالتذلل والبكاء، أو موضع الشيخ الفاني الذي لا ينال حاجته إلا بالتملق والدعاء؟». «يا قوم، رفع الله عنكم المكروه، ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربكم أكفاء في البنية، أكفاء في القوة، أكفاء في الطبيعة، أكفاء في الحاجات، لا يفضل بعضكم بعضًا إلا بالفضيلة، لا ربوبية بينكم ولا عبودية. والله ليس بين صغيركم وكبيركم غير برزخ من الوهم. ولو درى الصغير بوهمه، العاجز بوهمه، ما في نفس الكبير المتأله من الخوف منه لزال الإشكال وقضي الأمر الذي فيه تشقون. يا أعزاء الخلقة جهلاء المقام، كان الناس في دور الهمجية، فكان دهاتهم بينهم آلهة وأنبياء، ثم ترقى الناس فهبط هؤلاء لمقام الجبابرة والأولياء. ثم زاد الرقي فانحط أولئك إلى مرتبة الحكام والحكماء، حتى صار الناس ناسًا فزال العماء وانكشف الغطاء وبان أن الكل أكفاء. فأناشدكم الله في أي الأدوار أنتم؟ ألا تفكرون؟». «يا قوم، جعلكم الله من المهتدين، كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعًا لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعمين ولو بلقمة مغموسة بدم الإخوان. وأجدادكم ينامون الآن في قبورهم مستوين أعزاء، وأنتم أحياء معوجة رقابكم أذلاء! البهائم تودّ لو تنتصب قاماتها وأنتم من كثرة الخضوع كادت تصير أيديكم قوائم. النبات يطلب العلو وأنتم تطلبون الانخفاض. لفظتكم الأرض لتكونوا على ظهرها وأنتم حريصون على أن تنغرسوا في جوفها، فإن كانت بطن الأرض بغيتكم، فاصبروا قليلا لتناموا فيها طويلا». «يا قوم، ألهمكم الله الرشد، متى تستقيم قاماتكم وترفع من الأرض إلى السماء أنظاركم، وتميل إلى التعالي نفوسكم؟ فيشعر أحدكم بوجوده في الوجود فيعرف معنى الأنانية ليستقل بذاته في ذاته، ويملك إرادته واختياره ويثق بنفسه وربه، لا يتكل على أحد من خلق الله اتكال الناقص في الخلق على الكامل فيه، أو اتكال الغاصب على مال الغافل أو الكَلِّ على سعي العامل، بل يرى أحدكم نفسه إنسانًا كريمًا يعتمد على المبادلة والتعاوض فيسلف ثم يستوفي، ويستدين على أن يفي، بل ينظر في نفسه أنه هو الأمة وحده. وما أجدر بأحدكم أن يعمل لدنياه بنفسه لنفسه، فلا يتكل على غيره، كما يعمل الإنسان ليعبد الله بشخصه لا ينيب عنه غيره. فإذا فعلتم ذلك أظهر الله بينكم ثمرة التضامن بلا اشتراط، والتقاضي بلا محاشرة، فتصيرون بنعمة الله إخوانا». «يا قوم، أبعد الله عنكم المصائب وبصركم بالعواقب. إن كانت المظالم غلت أيديكم، وضيقت أنفاسكم، حتى صغرت نفوسكم، وهانت عليكم هذه الحياة، وأصبحت لا تساوي عندكم الجد والجهد وأمسيتم لا تبالون أتعيشون أم تموتون، فهلا أخبرتموني لماذا تحكّمون فيكم الظالمين حتى في الموت؟ أليس لكم من الخيار أن تموتوا كما تشاءون، لا كما يشاء الظالمون؟ هل سلب الاستبداد إرادتكم حتى في الموت؟ كلا والله، إن أنا أحببت الموت أموت كما أحب، لئيمًا أو كريمًا، حتفًا أو شهيدًا، فإن كان الموت ولا بد، فلماذا الجبانة؟ وإن أردت الموت، فليكن اليوم قبل الغد، وليكن بيدي لا بيد عمرو. أليس: «يا قوم، أناشدكم الله، ألا أقول حقًّا إذا قلت إنكم لا تحبون الموت، بل تنفرون منه ولكنكم تجهلون الطريق فتهربون من الموت إلى الموت، ولو اهتديتم إلى السبيل لعلمتم أن الهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، ولعرفتم أن الخوف من التعب تعب، والإقدام على التعب راحة، ولفطنتم إلى أن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم الأحمر المسفوح، والأسارة هي شجرة الزقوم، وسقياها أنهر من الدم الأبيض أي الدموع، ولو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين». ••• «يا قوم، وأعني منكم المسلمين، … أيها المسلمون: إني نشأت وشبت أنا أفكر في شأننا الاجتماعي عسى أهتدي لتشخيص دائنا فكنت أتقصى السبب بعد السبب، حتى إذا وقعت على ما أظنه عامًّا، أقول لعل هذا هو جرثومة الداء، فأتعمق فيه تمحيصًا وأحلله تحليلا، فينكشف التحقيق عن أن ما قام في الفكر هو سبب من جملة الأسباب، أو هو سبب فرعي لا أصلي، فأخيب وأعود إلى البحث والتنقيب. وطالما أمسيت وأصبحت أجهد الفكر في الاستقصاء، وكثيرًا ما سعيت وسافرت لأستطلع آراء ذوي الآراء، عسى أهتدي إلى ما يشفي صدري من آلام بحث أتعبني به ربي. وآخر ما استقرت عليه سفينة فكري هو: إن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنّا جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البدع والتشديد، دين الإجهاد. وقد دب فينا هذا المرض منذ ألف عام فتمكن فينا وأثر في كل شئوننا، حتى بلغ فينا استحكام الخلل في الفكر، والعمل أننا لا نرى في الخالق جل شأنه نظامًا فيما اتصف، نظامًا فيما قضى، نظامًا فيما أمر، ولا نطالب أنفسنا فضلا عن آمرنا أو مأمورنا بنظام وترتيب واطراد ومثابرة. وهكذا أصبحنا واعتقادنا مشوش، وفكرنا مشوش، وسياستنا مشوشة، ومعيشتنا مشوشة. فأين منا والحالة هذه الحياة الفكرية، الحياة العملية، الحياة العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة السياسية؟». «يا قوم، قد ضيع دينكم ودنياكم ساستكم الأولون وعلماؤكم المنافقون، وإني أرشدكم إلى عمل إفرادي لا حرج فيه علمًا ولا عملا: أليس بين جنبي كل فرد منكم وجدان يميز الخير من الشر والمعروف من المنكر ولو تمييزًا إجماليًّا؟ أما بلغكم قول معلم الخير نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»، وقوله: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». «وأنتم تعلمون إجماع أئمة مذاهبكم كلها على أن أنكر المنكرات بعد الكفر هو الظلم الذي فشا فيكم، ثم قتل النفس، ثم وثم …. وقد أوضح العلماء أن تغيير المنكر بالقلب هو بغض المتلبس به بغضًا في الله. بناء عليه فمن يعامل الظالم أو الفاسق غير مضطر، أو يجامله ولو بالسلام، يكون قد خسر أضعف الإيمان، وما بعد الأضعف إلا العدم أي فقد الإيمان والعياذ بالله». «ولا أظنكم تجهلون أن كلمة الشهادة، والصوم والصلاة، والحج والزكاة، كلها لا تغني شيئًا مع فقد الإيمان، إنما يكون القيام حينئذ بهذه الشعائر، قيامًا بعادات وتقليدات وهوسات تضيع بها الأموال والأوقات». «بناء عليه فالدين يكلفكم إن كنتم مسلمين، والحكمة تلزمكم إن كنتم عاقلين: أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر جهدكم، ولا أقل في هذا الباب من إبطانكم البغضاء للظالمين والفاسقين، وأظنكم إذا تأملتم قليلا ترون هذا الدواء السهل المقدور لكل إنسان منكم، يكفي لإنقاذكم مما تشكون. والقيام بهذا الواجب متعين على كل فرد منكم بنفسه، ولو أهمله كافة المسلمين. ولو أن أجدادكم الأولين قاموا به لما وصلتم إلى ما أنتم عليه من الهوان. فهذا دينكم، والدين ما يدين به الفرد لا ما يدين به الجمع، والدين يقين وعمل، لا علم وحفظ في الأذهان. أليس من قواعد دينكم فرض الكفاية وهو أن يعمل المسلم ما عليه غير منتظر غيره؟». «فأناشدكم الله يا مسلمين، أن لا يغركم دين لا تعملون به وإن كان خير دين، ولا تغرنكم أنفسكم بأنكم أمة خير أو خير أمة، وأنتم أنتم المتواكلون المقتصرون على شعار: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ونِعْمَ الشعار شعار المؤمنين، ولكن أين هم؟ إني لا أرى أمامي أمة تعرف حقًا معنى لا إله إلا الله، بل أرى أمة خبلتها عبادة الظالمين!». ••• «أدعوكم وأخص منكم النجباء للتبصر والتبصير فيما إليه المصير، أليس مطلق العربي أخف استحقارًا لأخيه من الغربي؟ هذا الغربي قد أصبح ماديًّا لا دين له غير الكسب، فما تظاهره مع بعضنا بالإخاء الديني إلا مخادعة وكذبًا. هؤلاء الفرنسيس يطاردون أهل الدين، ويعملون على أنهم يتناسونه، بناء عليه لا تكون دعواهم الدين في الشرق، إلا كما يغرد الصياد وراء الأشباك؟! لو كان للدين تأثير عند الغربي لما كانت البغضاء بين اللاتين والسكسون، بل بين الطليان والفرنسيس، ولما كانت بين الألمان والفرنسيس الغربيين. الغربي أرقى من الشرقي علمًا وثروة ومنعة، فله على الشرقيين إذا واطنهم السيادة الطبيعية. أما الشرقيون فيما بينهم، فمتقاربون لا يتغابنون. الغربي يعرف كيف يسوس، وكيف يتمتع، وكيف يأسر، وكيف يستأثر. فمتى رأى فيكم استعدادًا واندفاعًا لمجاراته أو سبقه، ضغط على عقولكم لتبقوا وراءه شوطًا كبيرًا كما يفعل الروس مع البولونيين واليهود والتاتار، وكذلك شأن كل المستعمرين. الغربي مهما مكث في الشرق لا يخرج عن أنه تاجر مستمتع، فيأخذ فسائل الشرق ليغرسها في بلده التي لا يفتأ يفتخر برياضها ويحنّ إلى أرباضها. قد مضى على الهولانديين في الهند وجزائرها، وعلى الروس في قازان، مثل ما أقمنا في الأندلس، ولكن ما خدموا العلم والعمران بعشر ما خدمناهما، ودخل الفرنساويون الجزائر منذ سبعين عامًا، ولم يسمحوا بعد لأهلها بجريدة واحدة تقرأ. نرى الإنكليزي في بلادنا يفضل قديد بلاده، وسمك بحاره، على طري لحمنا وسمكنا. فهلا والحالة هذه تتبصرون يا أولي الألباب؟». ••• «وأنت أيها الشرق الفخيم رعاك الله. ماذا دهاك؟ ماذا أقعدك عن مسراك، أليست أرضك تلك الأرض ذات الجنان والأفنان، ومنبت العلم والعرفان. وسماؤك تلك السماء مصدر الأنوار، ومهبط الحكمة والأديان. وهواؤك ذاك النسيم العدل، لا العواصف والضباب. وماؤك ذاك العذب الغدق، لا الكدر ولا الأجاج؟». «رعاك الله يا شرق، ماذا أصابك فأخلّ نظامك، والدهر ذاك الدهر ما غير وضعك ولا بدل شرعه فيك؟ ألم تزل مناطقك هي المعتدلة، وبنوك هم الفائقون فطرةً وعددًا؟ أليس نظام الله فيك على عهده الأول ورابطة الأديان في بنيك محكمة قويمة، مؤسسة على عبادة الصانع الوازع. أليست معرفة المنعم حقيقة راهنة أشرقت فيك شمسها، أيدت بها عز النفس، وأحكمت بها حب الوطن وحب الجنس؟». «رعاك الله يا شرق، ماذا عراك وسكَّن منك الحراك؟ ألم تزل أرضك واسعة خصبة، ومعادنك وافية غنية، وحيوانك رابيًا متناسلا، وعمرانك قائمًا متواصلا، وبنوك على ما ربيتهم أقرب للخير من الشر؟ أليس عندهم الحلم المسمى عند غيرهم ضعفًا في القلب، وعندهم الحياء المسمى بالجبانة، وعندهم الكرم المسمى بالإتلاف، وعندهم القناعة المسماة بالعجز، وعندهم العفة المسماة بالبلاهة، وعندهم المجاملة المسماة بالذل؟ نعم، ما هم بالسالمين من الظلم، ولكن فيما بينهم، ولا من الخداع، ولكن لا يفتخرون به، ولا من الإضرار، ولكن مع الخوف من الله». «رعاك الله يا شرق، لا نرى من غير الدهر فيك ما يستوجب هذا الشقاء لبنيك، ويستلزم ذلهم لبني أخيك. فلماذا قد أصبحت إذا انقطع عنك مدد أخيك بمصنوعاته، يبقى أبناؤك عراة حفاة في ظلام، بل يمنيهم فقد الحديد بالرجوع إلى العصر النحاسي بل الحجري الموصوف بعصر التعفين؟». «رعاك الله يا شرق، بل رعى الله أخاك الغرب، العائل بنفسه والعائل فيك، وقاتل الله الاستبداد، بل لعن الله الاستبداد، المانع من الترقي في الحياة، المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات. ألا بعدًا للظالمين». «رعاك الله يا غرب وحياك وبيّاك، قد عرفت لأخيك سابق فضله عليك، فوفيت وكفيت وأحسنت الوصاية وهديت، وقد اشتد ساعد بعض أولاد أخيك فهلا ينتدب بعض شيوخ أحرارك لإعانة أنجاب أخيك على هدم ذاك السور، سور الشؤم والشرور، ليخرجوا بإخوانهم إلى أرض الحياة، أرض الأنبياء الهداة، فيشكرون فضلك والدهر مكافأة». «غرب، لا يحفظ لك الدين غير الشرق إن دامت حياته بحريته، وفقد الدين يهددك بالخراب القريب. فماذا أعددت للفوضويين إذا صاروا جيشًا جرارًا؟ وماذا أعددت لديارك الحبلى بالثورة الاجتماعية؟ هل تعد المواد المتفرقعة، وقد جاوزت أنواعها الألف، أم تعد الغازات الخانقة وقد سهل استحضارها على الصبيان؟». «يا قوم، وأريد بكم شباب اليوم رجال الغد، شباب الفكر رجال الجد، أعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان، وأعيذكم من الجهل، جهل أن الدينونة لله، وهو سبحانه وليّ السرائر والضمائر، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة». «أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم إلا في ألسنتهم، المعطل عملهم إلا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لأنهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها أنهم آباؤكم!». «قد علمتم يا نجباء من طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد جملا كافية للتأمل والتدبر، فاعتبروا بنا واسألوا الله العافية. نحن ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا. ألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألفنا الانقياد ولو إلى المهالك. ألفنا أن نعتبر التصاغر أدبًا، والتذلل لطفًا، والتملق فصاحةً، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعًا، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غرورًا، والبحث عن العموميات فضولا، ومد النظر إلى الغد أملا طويلا، والإقدام تهورًا، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفرًا، وحب الوطن جنونًا. أما أنتم، حماكم الله من السوء، فنرجو لكم أن تنشئوا على غير ذلك، أن تنشئوا على التمسك بأصول الدين، دون أوهام المتفننين، فتعرفوا قدر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها، وتعرفوا قدر أرواحكم وأنها خالدة تثاب وتجزي، وتتبعوا سنن النبيين فلا تخافون غير الصانع الوازع العظيم. ونرجو لكم أن تبنوا قصور فخاركم على معالي الهمم ومكارم الشيم، لا على عظام نخرة. وأن تعلموا أنكم خُلقتم أحرارًا لتموتوا كرامًا، فاجهدوا أن تحيوا ذلكما اليومين حياة رضية، يتسنى فيها لكل منكم أن يكون سلطانًا مستقلا في شئونه، لا يحكمه غير الحق، ومدينًا وفيًّا لقومه لا يضن عليهم بعين أو عون، وولدًا بارًا لوطنه، لا يبخل عليه بجزء من فكره ووقته وماله، ومحبًّا للإنسانية يعمل على أن خير الناس أنفعهم للناس، يعلم أن الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط، والسعادة هي الأمل، ووباء الأمل التردد، ويفقه أن القضاء والقدر هما عند الله ما يعلمه ويمضيه، وهما عند الناس السعي والعمل، ويوقن أن كل أثر على ظهر الأرض هو من عمل إخوانه البشر، وكل عمل عظيم قد ابتدأ به فرد ثم تعاوره غيره إلى أن كمل، فلا يتخيل الإنسان في نفسه عجزًا، ولا يتوقع إلا خيرًا، وخير الخير للإنسان أن يعيش حرًا مقدامًا أو يموت». «وكأني بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق والغرب، فأجيب بأنا كنا أرقى من الغرب علمًا فنظامًا فقوة، فكنا له أسيادًا! ثم جاء حين من الدهر لحق بنا الغرب فصارت مزاحمة الحياة بيننا سجالا، إن فقناه شجاعة فاقنا عددًا، وإن فقناه ثروة فاقنا باجتماع كلمته. ثم جاء الزمن الأخير ترقى فيه الغرب علمًا فنظامًا فقوة. وانضم إلى ذلك أولا: قوة اجتماعه شعوبًا كبيرة. ثانيًا: قوة البارود حيث أبطل الشجاعة وجعل العبرة للعدد. ثالثًا: قوة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك. رابعًا: قوة الفحم الذي أهدته له الطبيعة. خامسًا: قوة النشاط بكسره قيود الاستبداد. سادسًا: قوة الأمن على عقد الشركات المالية الكبيرة. فاجتمعت هذه القوات فيه وليس عند الشرق ما يقابلها غير الافتخار بالأسلاف وذلك حجة عليه، والغرور بالدين خلافًا للدين، فالمسلمون يقابلون تلك القوات بما يقال عند اليأس وهو: (حسبنا الله ونعم الوكيل). ويخالفون أمر القرآن لهم بأن يعدوا ما استطاعوا من قوة، لا ما استطاعوا من صلاة وصوم. وكأني بسائلكم يقول: هل بعد اجتماع هذه القوات في الغرب واستيلائه على أكثر الشرق من سبيل لنجاة البقية؟ فأجيب قاطعًا غير متردد: إن الأمر مقدور ولعله ميسور. ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد. وأن يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات وهي: ديني ما أظهر ولا أخفي. أكون حيث يكون الحق ولا أبالي. أنا حر وسأموت حرًّا. أنا مستقل لا أتكل على غير نفسي وعقلي. أنا إنسان الجد والاستقبال لا إنسان الماضي والحكايات. نفسي ومنفعتي قبل كل شيء. الحياة كلها تعب لذيذ. الوقت غال عزيز. الشرف في العلم فقط. أخاف الله لا سواه. «وأنت أيها الوطن المحبوب، أنت العزيز على النفوس، المقدس في القلوب، إليك تحن الأشباح وعليك تئن الأرواح … أيها الوطن الباكي ضعافه: عليك تبكي العيون وفيك يحلو المنون. إلى متى يعبث خلالك اللئام الطغام؟ يظلمون بنيك ويذلون ذويك. يطاردون أنجالك الأنجاب ويمسكون على المساكين الطرق والأبواب، يخربون العمران ويقفرون الديار؟ أيها الوطن العزيز، هل ضاقت رحابك عن أولادك، أم ضاقت أحضانك عن أفلاذك؟ … كلا، إنما فقدت الأباة، فقدت الحماة، فقدت الأحرار. أيها الوطن الملتهب فؤاده: أما رويت من سقيا الدموع والدماء؟ ولكن دموع بناتك الثاكلات ودماء أبنائك الأبرياء، لا دموع النادمين ولا دماء الظالمين. ألا فأشرب هنيئًا ولا تأسف على البله الخاملين، ولا تحزن، فما هم كرائمَ وكرامًا، لسن هن كرائمَ باكيات محمسات، وليسوا هم كرامًا أعزة شهداء، إنما هم، غفر الله لهم، من علمت، قلَّ فيهم الحر الغيور، قل فيهم من يقول: أنا لا أخاف الظالمين. أيها الوطن الحنون: كوّن الله عناصر أجسامنا منك، وجعل الأمهات حواضن، ورزقنا الغذاء منك، وجعل المرضعات مجهزات، نعم، خلقنا الله منك، فحق لك أن تحب أجزاءك وأن تحن على أفلاذك. كما يحق لك في شرع الطبيعة أن لا تحب الأجنبي الذي يأبى طبعه حبك، الذي يؤذيك ولا يواليك، ويزاحم بنيك عليك ويشاركهم فيك، وينقل إلى أرضه ما في جوفك من نفيس العناصر وكنوز المعادن فيفقرك ليغني وطنه، ولا لوم عليه بل بارك الله فيه!». «يا قوم، جعلكم الله خيرة اليوم وعدة الغد، هذا خطابي إليكم فيما هو الترقي وما هو الانحطاط، فإن وعيتم ولو شذرات، فيا بشراي والسلام عليكم، وإلا فيا ضياع الأنفاس، وعلى الرفاة السلام». الاستبداد الذي يبلغ في الانحطاط بالأمة إلى غاية أن تموت ويموت هو معها، كثير الشواهد في قديم الزمان وحديثه، أما بلوغ الترقي بالأمم إلى المرتبة القصوى السامية التي تليق بالإنسانية، فهذا لم يسمح الزمان حتى الآن بأمة تصلح مثالا له، لأنه إلى الآن لم توجد أمة حكمت نفسها برأيها العام حكمًا لا يشوبه نوع من الاستبداد ولو باسم الوقار والاحترام، أو بنوع من الإغفال ولو ببذر الشقاق الديني أو الجنسي بين الناس. فكأن الحكمة الإلهية، لم تزل ترى البشر غير متأهلين لنوال سعادة الأخوة العمومية بالتحابب بين الأفراد، والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات. نعم، وجد للترقي القريب من الكمال بعض أمثال قليلة في القرون الغابرة، كالجمهورية الثانية للرومان، وكعهد الخلفاء الراشدين، وكالأزمنة المتقطعة في عهد بعض الملوك المنظمين لا الفاتحين مثل أنوشروان وعبد الملك الأموي ونور الدين الشهيد وبطرس الكبير. وكبعض الجمهوريات الصغيرة والممالك الموفقة لأحكام التقييد الموجودة في هذا الزمان. وإني أقتصر على وصف منتهى الترقي الذي وصلت إليه تلك الأمم وصفًا إجماليًّا، وأترك للمطالع أن يوازن بينها ويقيس عليها درجات سائر الأمم. وربما يستريب في ذلك المطالع المولود في أرض الاستبداد، الذي لم يدرس أحوال الأمم في الوجود، ولا عتب عليه فإنه كالمولود أعمى لا يدرك للمناظر البهية معنى. قد بلغ الترقي في الاستقلال الشخصي في ظلال الحكومات العادلة، لأن يعيش الإنسان المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان. حتى إن كل فرد يعيش كأنه خالد بقومه ووطنه، وكأنه أمين على كل مطلب، فلا هو يكلف الحكومة شططًا ولا هي تهمله استحقارًا: أمين على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن محافظته بكل قوتها في حضره وسفره بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه، فهي تحيط بإحاطة الهواء، لا إحاطة السور يلطمه كيفما التفت أو سار. أمين على الملذات الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة في الشئون العامة، المتعلقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية حتى يرى أن الطرقات المسهلة والتزيينات البلدية، والمتنزهات، والمنتديات، والمدارس، والمجامع ونحو ذلك، قد وُجدت كلها لأجل ملذاته، ويعتبر مشاركة النخاس له فيها لأجل إحسانه، فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادة. أمين على الحرية، كأنه خلق وحده على سطح هذه الأرض، فلا يعارضه معارض فيما يخص شخصه من دين وفكر وعمل وأمل. أمين على النفوذ، كأنه سلطان عزيز فلا ممانع له ولا معاكس في تنفيذ مقاصده النافعة في الأمة التي هو منها. أمين على المزية، كأنه في أمة يساوي جميع أفرادها منزلة وشرفًا وقوة، فلا يفضل هو على أحد ولا يفضل أحد عليه، إلا بمزية سلطان الفضيلة فقط. أمين على العدل، كأنه هو القابض على ميزان الحقوق فلا يخاف تطفيفًا، وهو المثمن فلا يحذر بخسًا، وهو المطمئن على أنه إذا استحق أن يكون ملكًا صار ملكًا، وإذا جنى جناية نال جزاءه لا محالة. أمين على المال والملك، كأن ما أحرزه بوجهه المشروع قليلا كان أو كثيرًا، قد خلقه الله لأجله فلا يخاف عليه، كما أنه تقلع عينه إن نظر إلى مال غيره. أمين على الشرف بضمان القانون، بنصرة الأمة، ببذل الدم، فلا يرى تحقيرًا إلا لدى وجدانه، ولا يعرف طعمًا لمرارة الذل والهوان. أما الأسير، ولا أحزن المطالع بوصف حالته، فأكتفي بالقول إنه لا يملك ولا نفسه، وغير أمين حتى على عظامه في رمسه، إذا وقع نظره على المستبد أو أحد من جماعته على كثرتهم يتعوذ بالله، وإذا مر من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع وهو يكرر قوله: «حمايتك يا رب إن هذه الدار، بئس الدار، هي كالمجزرة كل من فيها إما ذابح أو مذبوح. إن هذه الدار كالكنيف لا يدخله إلا المضطر». ••• وقد يبلغ الترقي في الاستقلال الشخصي مع التركيب بالعائلة والعشيرة، أن يعيش الإنسان معتبرًا نفسه من وجه غنيًّا عن العالمين، ومن وجه عضوًا حقيقًا من جسم حي هو العائلة ثم الأمة، ثم البشر. ويُنظر إلى انقسام البشر إلى أمم، ثم إلى عائلات، ثم إلى أفراد، هو من قبيل انقسام الممالك إلى مدن وهي إلى بيوت وهي إلى مرافق، وكما أنه لا بد لكل مرفق من وظيفة معينة يصلح لها وإلا كان بناؤه عبثًا يستحق الهدم، كذلك أفراد الإنسان لا بد أن يُعد كل منهم نفسه لوظيفة في قيام حياة عائلته أولا، ثم حياة قومه ثانيًا. ولهذا يكون العضو الذي لا يصلح لوظيفة، أو لا يقوم بما يصلح له، حقيرًا مهانًا. وكل من يريد أن يعيش كلا على غيره، لا عن عجز طبيعي، يستحق الموت لا الشفقة، لأنه كالدرن في الجسم أو كالزائد من الظفر يستحقان الإخراج والقطع، ولهذا المعنى حرمت الشرائع السماوية الملاهي التي ليس فيها ترويض، والسكر المعطل عن العمل عقلا وجسمًا، والمقامرة والربا لأنهما ليسا من نوع العمل والتبادل فيه. وقد فضل الله الكناس على الحجام وصانع الخبز على ناظر الشعر لأن صنعتهما أنفع للجمهور. وقد يبلغ ترقي التركيب في الأمم إلى درجة أن يصير كل فرد من الأمة مالكًا لنفسه تمامًا، ومملوكًا لقومه تمامًا. فالأمة التي يكون كل فرد منها مستعدًا لافتدائها بروحه وبماله، تصير تلك الأمة بحجة هذا الاستعداد في الأفراد، غنية عن أرواحهم وأموالهم. ••• الترقي في القوة بالعلم والمال يتميز على باقي أنواع الترقيات السالفة البيان تميز الرأس على باقي أعضاء الجسم، فكما أن الرأس بإحرازه مركزية العقل، ومركزية أكثر الحواس، تميز على باقي الأعضاء واستخدامها في حاجاته. فكذلك الحكومات المنتظمة يترقى أفرادها ومجموعها في العلم والثروة، فيكون لهم سلطان طبيعي على الأفراد أو الأمم التي انحط بها الاستبداد المشئوم إلى حضيض الجهل والفقر. بقي علينا بحث الترقي في الكمالات بالخصال والأثرة، وبحث الترقي الذي يتعلق بالروح أي بما وراء هذه الحياة، ويرقى إليه الإنسان على سلم الرحمة والحسنات، فهذه أبحاث طويلة الذيل ومنابعها حكميات الكتب السماوية، ومدونات الأخلاق، وتراجم مشاهير الأمم. وأكتفي بالقول في هذا النوع، إنه يبلغ بالإنسان مرتبة أن لا يرى لحياته أهمية إلا بعد درجات، فيهمه أولا: حياة أمته، ثم امتلاك حريته، ثم أمنه على شرفه، ثم محافظته على عائلته، ثم وقايته حياته، ثم ماله، ثم وثم، وقد تشمل إحساساته عالم الإنسانية كله، كأن قومه البشر لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده، ومسكنه حيث يجد راحته، لا يتقيد بجدران بيت مخصوص يستتر فيه ويفتخر به كما هو شأن الأسراء. وقد يترفع الإنسان عن الإمارة لما فيها من معنى الكبر، وعن التجارة لما فيها من التمويه والتبذل، فيرى الشرف في المحراث، ثم المطرقة، ثم القلم، ويرى اللذة في التجديد والاختراع، لا في المحافظة على العتيق، كأن له وظيفة في ترقي مجموع البشر. وخلاصة القول إن الأمم التي يسعدها جدها لتبديد استبدادها، تنال من الشرف الحسي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أسراء الاستبداد. فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمتها، مكتفية في نفقاتها بنماء فوائد بنك الحكومة. وهذه سويسرة يصادفها كثيرًا أن لا يوجد في سجونها محبوس واحد. وهذه أمريكا أثرت حتى كادت تخرج الفضة من مقام النقد إلى مقام المتاع. وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من أوروبا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها وطبع تراجم مؤلفاتها. وقد تنال أيضًا تلك الأمم حظًّا من الملذات الحقيقية، التي لا تخطر على فكر الأسراء، كلذة العلم وتعليمه، ولذة المجد والحماية، ولذة الإثراء والبذل، ولذة إحراز الاحترام في القلوب، ولذة نفوذ الرأي الصائب، ولذة الحب الطاهر، إلى غير هذه الملذات الروحية. وأما الأسراء والجهلاء فملذاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في المطاعم والمشارب واستفراغ الشهوة. كأن أجسامهم ظروف تملأ وتفرغ، أو هي دمامل تولد الصديد وتدفعه. وأنفع ما بلغه الترقي في البشر، هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة ببنائهم سدًّا متينًا في وجه الاستبداد، والاستبداد جرثومة كل فساد، ويجعلهم ألا قوة ولا نفوذ فوق قوة الشرع، والشرع هو حبل الله المتين. ويجعلهم قوة التشريع في يد الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلال. وبجعلهم المحاكم تحاكم السلطان والصعلوك على السواء، فتحاكي في عدالتها المحكمة الكبرى الإلهية. وبجعلهم العمال لا سبيل لهم على تعدي حدود وظائفهم، كأنهم ملائكة لا يعصون أمرًا، وبجعلهم الأمة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها، لا تغفل طرفة عين، كما أن الله عز وجل لا يغفل عما يفعل الظالمون. هذا مبلغ الترقي الذي وصلت إليه الأمم منذ عرف التاريخ، على أنه لم يقم دليل إلى الآن على ترقي البشر في السعادة الحيوية عما كانوا عليه في العصور الخالية حتى الحجرية، حتى منذ كانوا عراة يسرحون أسرابًا، والآثار المشهودة لا تدل على أكثر من ترقي العلم والعمران وهما آلتان كما يصلحان للإسعاد، يصلحان للإشقاء، وترقيهما هو من سنة الكون التي أرادها الله تعالى لهذه الأرض وبنيها، ووصف لنا ما سيبلغ إليه ترقي زينتها واقتدار أهلها بقوله عز شأنه: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ. وهذا يدل على أن الدنيا وبنيها لم يزالا في مقتبل الترقي، ولا يعارض هذا أن ما مضى من عمرهما هو أكثر مما بقي حسبما أخبرت به الكتب السماوية، لأن العمر شيء، والترقي شيء آخر.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/30272530/
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
عاش عبد الرحمن الكواكبي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فترة عانت الأمم العربية فيها الكثير من الضعف والهوان، فهمَّ المستعمِر بها يغتصب أراضيها، ويستنزف مواردها، وقد شخص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» سبب هذا الداء الذي رآه يتمثل في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، و استبداد النفس على العقل، فهو يقول: إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل، و يرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد، فيجد أن الشورى الدستورية هي دواؤه.
https://www.hindawi.org/books/30272530/9/
الاستبداد والتخلص منه
ليس لنا مدرسة أعظم من التاريخ الطبيعي، ولا برهان أقوى من الاستقراء، ومن تتبعهما يرى أن الإنسان عاش دهرًا طويلا في حالة طبيعية تسمى «دور الافتراس»، فكان يتجول حول المياه أسرابًا، تجمعه حاجة الحضانة صغيرًا، أقصد الاستئناس كبيرًا، ويعتمد في رزقه على النبات الطبيعي وافتراس ضعاف الحيوان في البر والبحر، وتسوسه الإرادة فقط، ويقوده مَنْ بنيتُه أقوى إلى حيث يكثر الرزق. ثم ترقى الكثير من الإنسان إلى الحالة البدوية التي تسمى «دور الاقتناء»: فكان عشائر وقبائل، يعتمد في رزقه على ادخار الفرائس إلى حين الحاجة، فصارت تجمعه حاجة التحفظ على المال والأنعام، وحماية المستودعات والمراعي والمياه من المزاحمين، ثم انتقل، ولا يقال ترقى، قسم كبير من الإنسان إلى المعيشة الحضرية: فسكن القرى يستنبت الأرض الخصبة في معاشه، فأخصب ولكن في الشقاء، ولعله استحق ذلك بفعله لأنه تعدى قانون الخالق، فإنه خلقه حرًّا جوالا يسير في الأرض ينظر آلاء الله، فسكن، وسكن إلى الجهل وإلى الذل، وخلق الله الأرض مباحة، فاستأثر بها، فسلط الله عليه من يغصبها منه ويأسره. وهذا القسم يعيش بلا جامعة، تحكمه أهواء أهل المدن، وقانونه: أن يكون ظالمًا أو مظلومًا. ثم ترقى قسم من الإنسان إلى التصرف إما في المادة وهم الصناع، وإما في النظريات وهم أهل المعارف والعلوم. وهؤلاء المتصرفون هم سكان المدن الذين هم وإن سجنوا أجسامهم بين الجدران، لكنهم أطلقوا عقولهم في الأكوان، وهم قد توسعوا في الرزق كما توسعوا في الحاجات، ولكن أكثرهم لم يهتدوا حتى الآن للطريق المثلى في سياسة الجمعيات الكبيرة. وهذا هو سبب تنوع أشكال الحكومات وعدم استقرار أمة على شكل مُرْضٍ عام. إنما كل الأمم في تقلبات سياسية على سبيل التجريب، وبحسب تغلب أحزاب الاجتهاد أو رجال الاستبداد. وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين، والميدان الذي قل في البشر من لا يجول فيه على فيل من الفكر، أو على جمل من الجهل، أو على فرس من الفراسة، أو على حمار من الحمق، حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار، الممتطي في التدقيق مراكب البخار. فقرر بعض قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين، فصارت تعد من المقررات الإجماعية عند الأمم المترقية، ولا يعارض ذلك كون هذه الأمم لم تزل أيضًا منقسمة إلى أحزاب سياسية يختلفون شيعًا، لأن اختلافهم هو في وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على أحوالهم الخصوصية. وهذه القواعد التي قد صارت قضايا بديهية في الغرب، لم تزل مجهولة، أو غريبة، أو منفورًا منها في الشرق، لأنها عند الأكثرين منهم لم تطرق سمعهم، وعند البعض لم تنل التفاتهم وتدقيقهم، وعند آخرين لم تحز قبولا، لأنهم ذوو غرض، أو مسروقة قلوبهم، أو في قلوبهم مرض. وإني أطرح لتدقيق المطالعين رءوس مسائل بعض المباحث التي تتعلق بها الحياة السياسية. وقبل ذلك أذكرهم بأنه قد سبق في تعريف الاستبداد بأنه: «هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم». كما أستلفت نظرهم إلى أنه لا يوثق بوعد من يتولى السلطة أيًّا كان، ولا بعهده ويمينه على مراعاة الدين، والتقوى، والحق، والشرف، والعدالة، ومقتضيات المصلحة العامة، وأمثال ذلك من القضايا الكلية المبهمة التي تدور على لسان كل بر وفاجر. وما هي في الحقيقة إلا كلام مبهم فارغ، لأن المجرم لا يعدم تأويلا، ولأن من طبيعة القوة الاعتساف، ولأن القوة لا تقابل إلا بالقوة. ثم فلنرجع للمباحث التي أريد طرحها لتدقيق المطالعين وهي: مبحث ما هي الأمة أي الشعب: هل هي ركام مخلوقات نامية، أو جمعية عبيد لمالك متغلب وظيفتهم الطاعة والانقياد ولو كرهًا، أم هي جمع بينهم روابط دين أو جنس أو لغة، ووطن، وحقوق مشتركة، وجامعة سياسية اختيارية، لكل فرد حق إشهار رأيه فيها توفيقًا للقاعدة الإسلامية التي هي أسمى وأبلغ قاعدة سياسية وهي: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»؟ مبحث ما هي الحكومة: هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع، يتصرف في رقابهم، ويتمتع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء، أم هي وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شئونها المشتركة العمومية؟ مبحث ما هي الحقوق العمومية: هل هي حقوق آحاد الملوك، ولكنها تضاف للأمم مجازًا، أم بالعكس هي حقوق جموع الأمم، وتضاف للملوك مجازًا، ولهم عليها ولاية الأمانة والنظارة على مثل الأراضي والمعادن، والأنهر والسواحل، والقلاع والمعابد، والأساطيل والمعدات، وولاية الحدود، والحراسة على مثل الأمن العام، والعدل والنظام، وحفظ وصيانة الدين والآداب، والقوانين والمعاهدات، والاتجار، إلى غير ذلك مما يحق لكل فرد من الأمة أن يتمتع به وأن يطمئن عليه؟ مبحث التساوي في الحقوق: هل للحكومة التصرف في الحقوق العامة المادية والأدبية كما تشاء بذلا وحرمانًا، أم تكون الحقوق محفوظة للجميع على التساوي والشيوع، وتكون المغانم والمغارم العمومية موزعة على الفصائل والبلدان والصنوف والأديان بنسبة عادلة، ويكون الأفراد متساوين في حق الاستنصاف؟ مبحث الحقوق الشخصية: هل الحكومة تملك السيطرة على الأعمال والأفكار، أم أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقًا، وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي، لأنهم أدرى بمنافعهم الشخصية، والحكومة لا تتداخل إلا في الشئون العمومية؟ مبحث نوعية الحكومة: هل الأصلح هي الملكية المطلقة من كل زمام، أم الملكية المقيدة، وما هي القيود؟ أم الرئاسة الانتخابية الدائمة مع الحياة أو المؤقتة إلى أجل؟ وهل تُنال الحاكمية بالوراثة، أو العهد، أو الغلبة؟ وهل يكون ذلك كما تشاء الصدفة، أم مع وجود شرائط الكفاءة، وما هي تلك الشرائط، وكيف يصير تحقيق وجودها، وكيف يراقب استمرارها، وكيف تستمر المراقبة عليها؟ مبحث ما هي وظائف الحكومة: هل هي إدارة شئون الأمة حسب الرأي والاجتهاد، أم تكون مقيدة بقانون موافق لرغائب الأمة وإن خالف الأصلح. وإذا اختلفت الحكومة مع الأمة في اعتبار الصالح والمضر فهل على الحكومة أن تعتزل الوظيفة؟ مبحث حقوق الحاكمية: هل للحكومة أن تخصص بنفسها لنفسها ما تشاء من مراتب العظمة، ورواتب المال، وتحابي من تريد بما تشاء من حقوق الأمة وأموالها؟ أم يكون التصرف في ذلك كله إعطاءً وتحديدًا ومنعًا منوطًا بالأمة. مبحث طاعة الأمة للحكومة: هل الإرادة للأمة، وعلى الحكومة العمل، أم الإرادة للحكومة، وعلى الأمة الطاعة، وهل للحكومة تكليف الأمة طاعة عمياء بلا فهم ولا اقتناع، أم عليها الاعتناء بوسائل التفهيم والإذعان لتتأتى الطاعة بإخلاص وأمانة؟ مبحث توزيع التكليفات: هل يكون وضع الضرائب مفوضًا لرأي الحكومة، أم الأمة تقرر النفقات اللازمة وتعين موارد المال، وترتب طرائق جبايته وحفظه؟ مبحث إعداد المنعة: هل يكون إعداد القوة بالتجنيد والتسليح استعدادًا للدفاع مفوضًا لإرادة الحكومة إهمالا، أو إقلالا، أو إكثارًا، أو استعمالا على قهر الأمة، أم يلزم أن يكون ذلك برأي الأمة وتحت أمرها، بحيث تكون القوة منفذة رغبة الأمة لا رغبة الحكومة؟ مبحث المراقبة على الحكومة: هل تكون الحكومة لا تُسأل عما تفعل، أم يكون للأمة حق السيطرة عليها لأن الشأن شأنها، فلها أن تنيب عنها وكلاء لهم حق الاطلاع على كل شيء، وتوجيه المسئولية على أي كان، ويكون أهم وظائف النواب حفظ الحقوق الأساسية المقررة للأمة على الحكومة؟ مبحث حفظ الأمن العام: هل يكون الشخص مكلفًا بحراسة نفسه ومتعلقاته، أم تكون الحكومة مكلفة بحراسته مقيمًا ومسافرًا حتى من بعض طوارئ الطبيعة بالحيلولة لا بالمجازاة والتعويض؟ مبحث حفظ السلطة في القانون: هل يكون للحكومة إيقاع عمل إكراهي على الأفراد برأيها أي بدون الوسائط القانونية، أم تكون السلطة منحصرة في القانون، إلا في ظروف مخصوصة وموقتة؟ مبحث تأمين العدالة القضائية: هل يكون العدل ما تراه الحكومة، أم ما يراه القضاة المصون وجدانهم من كل مؤثر غير الشرع والحق، ومن كل ضغط حتى ضغط الرأي العام؟ مبحث حفظ الدين والآداب: هل يكون للحكومة ولو القضائية سلطة وسيطرة على العقائد والضمائر، أم تقتصر وظيفتها في حفظ الجامعات الكبرى كالدين، والجنسية، واللغة، والعادات، والآداب العمومية، على استعمال الحكمة ما أغنت عن الزواجر، ولا تتداخل الحكومة في أمر الدين ما لم تُنتهك حرمته، وهل السياسة الإسلامية سياسة دينية، أم كان ذلك في مبدأ ظهور الإسلام، كالإدارة العرفية عقب الفتح؟ مبحث تعيين الأعمال بقوانين: هل يكون في الحكومة، من الحاكم إلى البوليس، من يُطلق له عنان التصرف برأيه وخبرته، أم يلزم تعيين الوظائف، كلياتها وجزئياتها، بقوانين صريحة واضحة، لا تسوغ مخالفتها ولو لمصلحة مهمة، إلا في حالات الخطر الكبير؟ مبحث كيف توضع القوانين: هل يكون وضعها منوطًا برأي الحاكم الأكبر، أو رأي جماعة ينتخبهم لذلك، أم يضع القوانين جمع منتخب من قبل الكافة ليكونوا عارفين حتمًا بحاجات قومهم وما يلائم طبائعهم ومواقعهم وصوالحهم، ويكون حكمه عامًّا أو مختلفًا على حسب تخالف العناصر والطبائع وتغير الموجبات والأزمان؟ مبحث ما هو القانون وقوته: هل القانون هو أحكام يحتج بها القوي على الضعيف، أم هو أحكام منتزعة من روابط الناس بعضهم ببعض، وملاحظ فيها طبائع أكثرية الأفراد، ومن نصوص خالية من الإبهام والتعقيد وحكمها شامل كل الطبقات، ولها سلطان نافذ قاهر مصون من مؤثرات الأغراض، والشفاعة، والشفقة، وبذلك يكون القانون هو القانون الطبيعي للأمة فيكون محترمًا عند الكافة، مضمون الحماية من قبل كل أفراد الأمة؟ مبحث توزيع الأعمال والوظائف: هل يكون الحظ في ذلك مخصوصًا بأقارب الحاكم وعشيرته ومقربيه، أم توزع كتوزيع الحقوق العامة على كافة القبائل والفصائل، ولو مناوبة مع ملاحظات الأهمية والعدد، بحيث يكون رجال الحكومة أنموذجًا من الأمة، أو هم الأمة مصغرة، وعلى الحكومة إيجاد الكفاءة والإعداد ولو بالتعليم الإجباري؟ مبحث التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم: مبحث الترقي في العلوم والمعارف: هل يترك للحكومة صلاحية الضغط على العقول كي لا يقوى نفوذ الأمة عليها، أم تحمل على توسيع المعارف بجعل التعليم الابتدائي عموميًّا بالتشويق أو الإجبار، ويجعل الكمالي منه سهلا للمتناول، وجعل التعليم والتعلم حرًّا مطلقًا؟ مبحث التوسيع في الزراعة والصنائع والتجارة: هل يترك ذلك للنشاط المفقود في الأمة، أم أن تلزم الحكومة بالاجتهاد في تسهيل مضاهاة الأمم السائرة، لاسيما المزاحمة والمجاورة، كيلا تهلك الأمة بالحاجة لغيرها أو تضعف بالفقر؟ مبحث السعي في العمران: هل يترك ذلك لإهمال الحكومة المميت لعزة نفس السكان، أو لانهماكهما فيه إسرافًا وتبذيرًا، أم تحمل على إتباع الاعتدال المتناسب مع الثروة العمومية؟ مبحث السعي في رفع الاستبداد: هل يُنتظر ذلك من الحكومة ذاتها، أم نوال الحرية ورفع الاستبداد رفعًا لا يترك مجالا لعودته من وظيفة عقلاء الأمة وسراتها!؟ ••• هذه خمسة وعشرون مبحثًا، كل منها يحتاج إلى تدقيق عميق، وتفصيل طويل، وتطبيق على الأحوال والمقتضيات الخصوصية. وقد ذكرت هذه المباحث تذكرة للكتاب ذوي الألباب وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها بترتيب، إتباعًا لحكمه إتيان البيوت من أبوابها. وإني أقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط، أعني مبحث السعي في رفع الاستبداد فأقول: الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية. الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما يقاوم باللين والتدرج. يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد. هذه قواعد رفع الاستبداد وهي قواعد تبعد آمال الأسراء، وتسر المستبدين، لأن ظاهرها يؤمنهم على استبدادهم. ولهذا أذكّر المستبدين بما أنذرهم به الفياري المشهور حيث قال: «لا يفرحن المستبد بعظيم قوته ومزيد احتياطه فكم من جبار عنيد جَنْدَلُهُ مظلوم صغير»، وإني أقول: كم من جبار قهار أخذه الله عزيز منتقم. مبنى قاعدة كون الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية هو: أن الأمة إذا ضربت عليها الذلة والمسكنة وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمة سافلة الطباع حسبما سبق تفصيله في الأبحاث السالفة، حتى إنها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسن أو أساء على حد سواء، وقد تنقم على المستبد نادرًا ولكن طلبًا للانتقام من شخصه لا طلبًا للخلاص من الاستبداد. فلا تستفيد شيئًا إنما تستبدل مرضًا بمرض كمغص بصداع. وقد تقاوم المستبد بسوق مستبد آخر تتوسم فيه أنه أقوى شوكة من المستبد الأول، فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد فلا تستفيد أيضًا شيئًا، إنما تستبدل مرضًا مزمنًا بمرض حدّ، وربما تنال الحرية عفوًا فكذلك لا تستفيد منها شيئًا لأنها لا تعرف طعمها فلا تهتم بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبداد مشوش أشد وطأة كالمريض إذا انتكس. ولهذا قرر الحكماء أن الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأما التي تحصل على أثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئًا، لأن الثورة غالبًا تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولا. فإذا وُجد في الأمة الميتة من تدفعه شهامته للأخذ بيدها والنهوض بها فعليه أولا: أن يبث فيها الحياة وهي العلم، أي علمها بأن حالتها سيئة وإنما بالإمكان تبديلها بخير منها، فإذا هي علمت يبتدئ فيها الشعور بآلام الاستبداد. ثم يترقى هذا الشعور بطبعه من الآحاد إلى العشرات، إلى إلى …، حتى يشمل أكثر الأمة وينتهي بالتحمس ويبلغ بلسان حالها إلى منزلة قول الحكيم المعري: وهكذا ينقذف فكر الأمة في وادٍ ظاهر الحكمة يسير كالسيل، لا يرجع حتى يبلغ منتهاه. ثم إن الأمم الميتة لا يندر فيها ذوو الشهامة، إنما الأسف أن يندر فيها من يهتدي في أول نشأته إلى الطريق الذي به يحصل على المكانة التي تمكنه في مستقبله من نفوذ رأيه في قومه. وإني أنبه فكر الناشئة العزيزة أن من يرى منهم في نفسه استعدادًا للمجد الحقيقي فليحرص على الوصايا الآتية البيان: أن يجهد في ترقية معارفه مطلقًا لاسيما في العلوم النافعة الاجتماعية كالحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية، وتاريخ قومه الجغرافي والطبيعي والسياسي، والإدارة الداخلية، والإدارة الحربية، فيكتسب من أصول وفروع هذه الفنون ما يمكنه إحرازه بالتلقي، وإن تعذر فبالمطالعة مع التدقيق. أن يتقن أحد العلوم التي تكسبه في قومه موقعًا محترمًا وعلميًّا مخصوصًا كعلم الدين والحقوق أو الإنشاء أو الطب. أن يحافظ على آداب وعادات قومه غاية المحافظة ولو أن فيها بعض أشياء سخيفة. أن يقلل اختلاطه مع الناس حتى مع رفقائه في المدرسة وذلك حفظًا للوقار وتحفظًا من الارتباط القوي مع أحد كيلا يسقط تبعًا لسقوط صاحب له. أن يتجنب كليًّا مصاحبة الممقوت عند الناس لاسيما الحكام ولو كان ذلك المقت بغير حق. أن يجهد ما أمكنه في كتم مزيته العلمية على الذين هم دونه في ذلك العلم لأجل أن يأمن غوائل حسدهم، إنما عليه أن يظهر مزيته لبعض من هم فوقه بدرجات كثيرة. أن يتخير له بعض من ينتمي إليه من الطبقة العليا، بشرط: أن لا يكثر التردد عليه، ولا يشاركه في شئونه، ولا يظهر له الحاجة، ويتكتم في نسبته إليه. أن يحرص على الإقلال من بيان آرائه وإلا يؤخذ عليه تبعة رأي يراه أو خبر يرويه. أن يحرص على أن يُعرف بحسن الأخلاق لاسيما الصدق والأمانة والثبات على المبادئ. أن يظهر الشفقة على الضعفاء والغيرة على الدين والعلاقة بالوطن. أن يتباعد ما أمكنه من مقاربة المستبد وأعوانه إلا بمقدار ما يأمن به فظائع شرهم إذا كان معرضًا لذلك. فمن يبلغ سن الثلاثين فما فوق حائزًا على الصفات المذكورة، يكون قد أعد نفسه على أكمل وجه لإحراز ثقة قومه عندما يريد في برهة قليلة، وبهذه الثقة يفعل ما لا تقوى عليه الجيوش والكنوز. وما ينقصه من هذه الصفات يُنقص من مكانته، ولكن قد يستغني بمزيد كمال بعضها عن فقدان بعضها الآخر أو نقصه. كما أن الصفات الأخلاقية قد تكفي في بعض الظروف عن الصفات العلمية كلها ولا عكس. وإذا كان المتصدي للإرشاد السياسي فاقد الثقة فقدانًا أصليًّا أو طارئًا، يمكنه أن يستعمل غيره ممن تنقصه الجسارة والهمة والصفات العلمية. والخلاصة أن الراغب في نهضة قومه، عليه أن يهيئ نفسه ويزن استعداده ثم يعزم متوكلا على الله في خلق النجاح. ومبنى قاعدة أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة، إنما يقاوم بالحكمة والتدريج هو: أن الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ثم إن اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه، لا يتأتى إلا في زمن طويل، لأن العوام مهما ترقوا في الإدراك لا يسمحون باستبدال القشعريرة بالعافية إلا بعد التروي المديد، وربما كانوا معذورين في عدم الوثوق والمسارعة لأنهم ألفوا أن لا يتوقعوا من الرؤساء والدعاة إلا الغش والخداع غالبًا. ولهذا كثيرًا ما يحب الأسراء المستبد الأعظم إذا كان يقهر معهم بالسوية الرؤساء والأشراف، وكثيرًا ما ينتقم الأسراء من الأعوان فقط ولا يمسون المستبد بسوء، لأنهم يرون ظالمهم مباشرة هم الأعوان دون المستبد، وكم أحرقوا من عاصمة لأجل محض التشفي بإضرار أولئك الأعوان. ثم إن الاستبداد محفوف بأنواع القوات التي فيها قوة الإرهاب بالعظمة وقوة الجند، لاسيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة، وقوة رجال الدين، وقوة أهل الثروات وقوة الأنصار من الأجانب، فهذه القوات تجعل الاستبداد كالسيف لا يقابل بعصا الفكر العام الذي هو في أول نشأته يكون أشبه بغوغاء، ومن طبع الفكر العام أنه إذا فار في سنة يغور في سنة، وإذا فار في يوم يغور في يوم، بناء عليه يلزم لمقاومة تلك القوات الهائلة مقابلتها بما يفعله الثبات والعناد المصحوبان بالحزم والإقدام. الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف: كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدًا، نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًّا، فإذا كان في الأمة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سكنت ثورتها نوعًا وقضت وظيفتها في حد المنافقين، حينئذ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة. عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد على مظلوم يريد الانتقام لناموسه. عقب حرب يخرج منها المستبد مغلوبًا، ولا يتمكن من إلصاق عار الغلب بخيانة القواد. عقب تظاهر المستبد بإهانة الدين إهانة مصحوبة باستهزاء يستلزم حدة العوام. عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير لا يتيسر إعطاؤه حتى على أواسط الناس. في حالة مجاعة أو مصيبة عامة لا يرى الناس فيها مواساة ظاهرة من المستبد. عقب عمل للمستبد يستفز الغضب الفوري، كتعرضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز في الشرق، وتحقيره القانون أو الشرف الموروث في الغرب. عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من النساء في الاستجارة والاستنصار. عقب ظهور موالاة شديدة من المستبد لمن تعتبره الأمة عدوًّا لشرفها. إلى غير ذلك من الأمور المماثلة لهذه الأحوال التي عندها يموج الناس في الشوارع والساحات، وتملأ أصواتهم الفضاء، وترتفع فتبلغ عنان السماء، ينادون: الحق الحق، الانتصار للحق، الموت أو بلوغ الحق. المستبد مهما كان غبيًّا لا تخفي عليه تلك المزالق، ومهما كان عتيًّا لا يغفل عن اتقائها، كما أن هذه الأمور يعرفها أعوانه ووزراؤه. فإذا وجد منهم بعض يريدون له التهلكة يهورونه على الوقوع في إحداها، ويلصقونها به خلافًا لعادتهم في إبعادها عنه بالتمويه على الناس. ولهذا يقال إن رئيس وزراء المستبد أو رئيس قواده، أو رئيس الدين عنده، هم أقدر الناس على الإيقاع به، وهو يداريهم تحذرًا من ذلك، وإذا أراد إسقاط أحدهم فلا يوقعه إلا بغتة. لمثيري الخواطر على الاستبداد طرائق شتى يسلكونها بالسر والبطء، يستقرون تحت ستار الدين، فيستنبتون غابة الثورة من بذرة أو بذورات يسقونها بدموعهم في الخلوات. وكم يلهون المستبد بسوقه إلى الاشتغال بالفسوق والشهوات، وكم يغرّرونه برضاء الأمة عنه، ويجسّرونه على مزيد التشديد، وكم يحملونه على إساءة التدبير، ويكتمونه الرشد، وكم يشوشون فكره بإرباكه مع جيرانه وأقرانه. يفعلون ذلك وأمثاله لأجل غاية واحدة، هي إبعاده عن الانتباه إلى سد الطريق التي فيها يسلكون. أما أعوانه، فلا وسيلة لإغفالهم عن إيقاظه غير تحريك أطماعهم المالية مع تركهم ينهبون ما شاءوا أن ينهبوا. ومبنى قاعدة أنه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد هو: أن معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئًا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقًا، بل لا بد من تعيين المطلب والخطة تعيينًا واضحًا موافقًا لرأي الكل، أو لرأي الأكثرية التي هي فوق الثلاثة أرباع عددًا أو قوة بأس وإلا فلا يتم الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعًا يكون الإقدام ناقصًا نوعًا، وإذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم فهؤلاء ينضمون إلى المستبد فتكون فتنة شعواء، وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط، تكون حينئذ الغلبة في جانب المستبد مطلقًا. والمراد أن من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أن يستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهين الذي تكفيه فكرة ساعات، أو فطنة آحاد، وليس هو بأسهل من ترتيب المقاومة والمغالبة. وهذا الاستعداد الفكري النظري لا يجوز أن يكون مقصورًا على الخواص، بل لا بد من تعميمه وعلى حسب الإمكان ليكون بعيدًا عن الغايات ومعضودًا بقبول الرأي العام. ••• وخلاصة البحث أنه يلزم أولا تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين بل عشرات السنين حتى ينضج تمامًا، وحتى يحصل ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمني في الطبقات السفلى. والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذر الشديد والتنكيل بالمجاهدين، فيكثر الضجيج، فيزيغ المستبد ويتكالب، فحينئذ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البلاد، وتجدد الأسر على العباد بقليل من التعب، فتدخل الأمة في دور آخر من الرق المنحوس، وهذا نصيب أكثر الأمم الشرقية في القرون الأخيرة، وإما أن يساعد الحظ بعدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمة قد تأهلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها، وفي هذه الحال يمكن لعقلاء الأمة أن يكلفوا المستبد ذاته لترك أصول الاستبداد، وإتباع القانون الأساسي الذي تطلبه الأمة. والمستبد الخائر القوى لا يسعه عند ذلك إلا الإجابة طوعًا، وهذا أفضل ما يصادف. وإن أصر المستبد على القوة، قضوا بالزوال على دولته، وأصبح كل منهم راعيًا، وكل منهم مسئول عن رعيته، وأضحوا آمنين، لا يطمع فيهم طامع، ولا يُغلبون عن قلة، كما هو شأن كل الأمم التي تحيا حياة كاملة حقيقية بناء عليه فليتبصر العقلاء، وليتق الله المغرورون، وليُعلم أن الأمر صعب، ولكن تصور الصعوبة لا يستلزم القنوط، بل يثير همة الرجل الأشم. ونتيجة البحث، أن الله جلت حكمته قد جعل الأمم مسئولة عن أعمال من تحكمه عليها. وهذا حق. فإذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمة رشدها، وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزها، وهذا عدل. وهكذا لا يظلم ربك أحدًا، إنما هو الإنسان يظلم نفسه، كما لا يذل الله قط أمة عن قلة، إنما هو الجهل يسبب كل علة. وإني أختم كتابي هذا بخاتمة بشرى، وذلك أن بواسق العلم وما بلغ إليه، تدل على أن يوم الله قريب. ذلك اليوم الذي يقل فيه التفاوت في العلم وما يفيده من القوة، وعندئذ تتكافأ القوات بين البشر، فتنحل السلطة، ويرتفع التغالب، فيسود بين الناس العدل والتوادد، فيعيشون بشرًا لا شعوبًا، وشركات لا دولا. وحينئذ يعلمون ما معنى الحياة الطبية: هل هي حياة الجسم وحصر الهمة في خدمته، أم هي حياة الروح وغذاؤها الفضيلة؟ ويومئذ يتسنى للإنسان أن يعيش كأنه عالم مستقل خالد، كأنه نجم مختص في شأنه، مشترك في النظام، كأنه ملك وظيفته تنفيذ أوامر الرحمن الملهمة للوجدان.
عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م. عبد الرحمن الكواكبي: أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي. وُلد «عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي» عام ١٨٥٥م، ويرجع نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. تُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، فتكفلت به خالته وأدخلته المدارس الأهلية الابتدائية. تعلم التركية والفارسية إلى جانب لغته العربية، بالإضافة إلى دراسته العلوم الشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، ونال الإجازات من علمائها كما دَرَّس فيها. ولم تقتصر دراسة الكواكبي على اللغة والعلوم الشرعية، بل امتدت لتشمل الرياضة والطبيعة والمنطق والسياسة، إضافةً إلى بعض الفنون الأخرى. عندما بلغ عبد الرحمن الكواكبي الثانية والعشرين من عمره، الْتحق كمحرر بجريدة «الفرات»، وكانت جريدة رسمية تصدر بحلب، ولكن إيمانه بالحرية وروح المقاومة لديه دفعته لأن يؤسس هو وزميله السيد هشام العطار أول جريدة رسمية عربية خالصة وهي جريدة «الشهباء»، ولم تستمر سوى خمسة عشر عددًا؛ حيث أغلقتها السلطات العثمانية بسبب المقالات النقدية اللاذعة الموجهة ضدها، والتي كانت تحيي الضمائر وتشحذ الهمم. وقد اشتغل الكواكبي بالعديد من الوظائف الرسمية، فكان كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف، ثم مُحرِّرًا للمقالات، ثم صار بعد ذلك مأمور الإجراءات (رئيس قسم المحضرين)، كما كان عضوًا فخريًّا بلجنة القومسيون. وكذلك كان يشغل منصب عضو محكمة التجارة بولاية حلب، بالإضافة إلى توليه منصب رئيس البلدية. سافر الكواكبي إلى الهند والصين، وسواحل شرق آسيا وسواحل أفريقيا، كما سافر إلى مصر حيث لم تكن تحت السيطرة المباشرة للسلطان العثماني عبد الحميد، وذاع صيته هناك، وتتلمذ على يديه الكثيرون، وكان واحدًا من أشهر العلماء. وقد أمضى الكواكبي سنين حياته مُصْلِحًا وداعيةً إلى النهوض والتقدم بالأمة العربية ومقاومة الاستبداد العثماني، وهو الأمر الذي ضاق به السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ذرعًا، فاستأجر بعض العملاء الذين دسوا للكواكبي السم في فنجان القهوة، ليفارق بعدها الحياة، وذلك في عام ١٩٠٢م.
https://www.hindawi.org/books/86085948/
أصدقاء الربيع
كامل كيلاني
في أصيل يوم من أيام شهر «مارس» هب نسيم دافئ يبشر بمقدم الربيع؛ ملك فصول السنة، ويؤذن بانقضاء فصل الشتاء. وقد استقبلت الكائنات كلها هذا الفصل البهيج فرحة متهللة، ودبت حرارة الشمس فأنعشت النفوس، وأخذت الأرض زينتها فأنبتت من كل زوج بهيج.
https://www.hindawi.org/books/86085948/1/
الفصل الأول
فِي أَصِيلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ شَهْرِ «مارِسَ» هَبَّ نَسِيمٌ دَافِئٌ يُبَشِّرُ بِمقْدَمِ الرَّبِيعِ: مَلِكِ فُصولِ السَّنةِ، ويُؤْذِنُ بانقضاءِ فصلِ الشتاء. وَقدِ اسْتَقبَلَتِ الكائناتُ كُلُّها هذا الْفَصْلَ الْبَهِيجَ فَرْحانةً مُتهلِّلةً، وَدَبَّتْ حَرارَةُ الشَّمْسِ فَأَنْعَشَتِ النُّفُوسَ، وَأَخَذَتِ الْأَرْضُ زِينَتَها فَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ أَطَلَّ صاحِبُنا النَّشِيطُ: «أَبُوْ بُرَيْصٍ» مِنْ حُفْرَتِه — وَكانَتْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنَ الطَّرِيقِ — وَحاوَلَ أَنْ يَتَنَسَّمَ الهَواءَ (يَشُمَّهُ) بَعْدَ أَنْ حُرِمَهُ زَمَنًا طَويلًا. وَما أَخْرَجَ أَنْفَهُ مِنْ حُفْرَتِه حتَّى بَهَرَ عَيْنَيْهِ شُعاعُ الشَّمْسِ (غَلَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ نُورَهُما فَكادَ يُعْمِيهما) فَلَمْ تَقْوَيا عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِ، لِاعْتِيَادِهما ظَلامَ الْحُفْرَةِ أَشْهُرًا عِدَّةً، فَأَسْرَعَ «أَبُو بُرَيْصٍ» عَائِدًا إِلَى جُحْرِهِ الْمُظْلِمِ. وَكانَ «أَبُو بُرَيْصٍ» قَدْ نامَ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ — الَّتي اتَّخَذَها دارًا لَهُ — خَمْسَةَ أَشْهُرٍ كَامِلةً، وَلَمْ تَرَ عَيْناهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ فِي أَثْناءِ هذِهِ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ؛ فَلَيْسَ في قُدْرَتهِ — الآنَ — أنْ يُواجِهَ شُعاعَها السَّاطِعَ، دَفْعَةً واحِدَةً. أَرَاكُمْ تَسْأَلُونَ، وَقَدْ عَرَتْكُمْ (أَلَمَّتْ بِكُمْ، وَعَرَضَتْ لَكُمْ) دَهْشَةٌ. تُرَى: ما هو «أَبُو بُرَيْصٍ»؟ وَلَوْ أَمْعَنْتُمُ الْفِكْرَ قَلِيلًا لَعَلِمْتُمْ حَقِيقَتهُ. وَإنِّي ذاكِرٌ لَكُمْ بَعْضَ أَوْصافِهِ، لتَتَعَرَّفوهُ بِلا عَناءٍ. أمَّا لَوْنهُ فَهوَ رَمادِيٌّ، وَأمَّا ذَنَبهُ فَطَوِيلٌ نَحِيفٌ. وَلَهُ — إِلَى هذا — عَيْنانِ حادَّتا الْبَصَرِ، وأرْجُلٌ أَرْبَعٌ غايَةٌ في الْقِصَرِ، وجِسْمٌ تُغَطِّيهِ الْقُشُورُ. وَهُوَ يَأْوِي إِلَى جُحْرٍ ضَيِّقٍ، في حائِطٍ قَدِيمٍ مُتَهَدِّمٍ، أَوْ حُفْرَةٍ مَهْجُورَةٍ، حَيْثُ يَتَّخِذُ مِنْها بَيْتًا يَسْكنُهُ. أظنُّكُمْ قَدْ عَرَفْتُم حَقِيقَةَ «أبي بُرَيْصٍ» الآنَ! ألَيْسَ كَذلِكُمْ؟ نَعَمْ: فإِنَّ «أبا بُرَيْصٍ» هُوَ الْبُرْصُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ وَتَرَوْنَهُ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْنِ فاحِصَتَيْنِ (باحِثَتَيْنِ) يَعْرُوهُما (يُصِيبُهُما) دَهَشٌ وَحَيْرَةٌ، وَهُوَ يُطِلُّ عَلَيْكُمْ مِنْ سَقْفِ الْحُجْرَةِ أَوْ حائِطِها. وما اسْتَقَرَّ «أبُو بُرَيْصٍ» في جُحْرِهِ الْمُظْلِمِ زَمَنًا يَسِيرًا، حتَّى عاوَدَهُ نَشاطُهُ؛ فَنَظَرَ إِلَى رِفَاقهِ: الْبِرَصَةِ، فرآها لا تَزالُ نائِمَةً مُنْذُ الْخَرِيفِ؛ فَضَحِكَ مِنْها ساخِرًا، وقال: «ها ها ها! يا لَها من مُتَكاسِلَةٍ نَؤُومٍ (كَثِيرةِ النَّوْمِ)! إِنَّها لا تَزالُ رَاقِدَةً مُنْذُ الْخَرِيفِ، وَأَفْواهُها مَفْتُوْحَةٌ … هيه! أمَا آنَ لَها أنْ تَسْتَيْقِظَ مِنْ سُباتِها (نَوْمِها)، لِتَسْتَقْبِلَ الرَّبِيعَ الْبَهيجَ!» ثُمَّ اسْتَأْنَفَ «أبُو بُرَيْصٍ» كلامهُ (عادَ إِلَى حَدِيثهِ)، وَهُوَ يَبْتَعِدُ عنْ رِفَاقِه (أَصْحابِه)، وَيَعْجَبُ منْ تَكاسُلِها، وَيَقُولُ: «إِنَّهَا غَارِقَةٌ في نَوْمِها، فَهيَ صُمٌّ لا تَسْمَعُ، وَكَأَنَّني — إِذْ أُنَادِيها — أُنَادِي حِجارةً، فَوَدَاعًا، أَيَّتُها الرِّفاقُ!» ثُمَّ خَرَجَ «أبُو بُرَيْصٍ» مِنْ جُحْرِهِ، لِيَنْعَمَ بِحَرارَةِ الشَّمْسِ تَارِكًا رُفْقَتَهُ (أصْحَابَهُ) مُسْتَسْلِمَةً إلى النَّوْم، وَأَنْشَبَ مَخَالِبَه (عَلَّقَ أَظفارَهُ) الصَّغِيرَةَ في حائِطٍ قَرِيبٍ مِنْ جُحْرِهِ، وَاسْتقبلَ الرَّبيعَ فرْحانَ مُبْتَهِجًا. وَما اسْتَقَرَّ في مَكانِه لَحظَةً حتَّى تَمَلَّكَهُ السُّرُوْرُ، فَبَرِقَتْ عَيْنَاهُ السَّوْداوانِ، واضْطَرَبَ ذَيْلُه الطَّوِيلُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ؛ لِأَنَّهُ رَأَى فُرْصَةً سانِحَةً لِتَحْقِيقِ مَأْرَبِهِ (رَغْبَتِه). أَتَعْرِفُونَ سرَّ هذا الْفَرَحِ؟ إِنَّي مُخْبِرُكُمْ بِه: لَقَدْ سَمِعَ «أبو بُرَيْصٍ» حَرَكَةً خَفِيفَةً طالَما أُعْجِبَ سَمْعُهُ بِطَنِينِها (صَوْتِها)؛ فابتهجَ وظَهرَ نَشاطُهُ، وَتَرَبَّصَ (انْتظرَ وَتَرقَّبَ) لانْتهازِ تِلكَ الْفُرصَةِ السَّانِحَةِ، وَأرْهفَ سَمْعَهُ (أصْغَى وَتسمَّعَ)، حتَّى يَتَبَيَّنَ صاحِبَ الصَّوْتِ. ورَأَى «أبُو بُرَيْصٍ» ذُبابةً زَرْقاءَ، تَطيرُ مِنْ حَوْلِهِ، وتَطِنُّ بالْقُرْبِ مِنهُ: «زِي … زي …»؛ فاشْتغلَ بِصَيْدِها عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وترصَّدَ لها حتَّى لا تُفْلِتَ منهُ، وحدَّق بَصَرَهُ فِيها. ولوْ رأيْتَهُ حينَئِذٍ لرأيتَ مَنْظَرًا عَجَبًا؛ فَقدْ كان يُخرجُ لِسانَه ويَلْحَسُ شَفَتَيْهِ، مُتَحَفِّزًا لِاقْتِنَاصِ فَرِيسَتِهِ فِي شَرَهٍ (حِرْصٍ شَدِيدٍ) لا مَثيلَ لهُ. ثُمَّ أعادَتِ الْحَشَرَةُ طَنِينَها: «زِي … زِي …»، وطارَتْ إِلَى حَجَرٍ نَاتِئٍ (مُرْتَفِعٍ خارِجٍ) فِي طَرَفِ الْحَائِطِ. فَغَضِبَ «أبُو بُرَيْصٍ» مِنْ فِرَارِها (هَرَبِها)، وَحَزَنَهُ أَنَّها لا تَكادُ تَسْتَقِرُّ في أيِّ مَكانٍ تَحُلُّ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ دَقِيقَتَيْنِ. وَلَمْ تَمْضِ لَحْظَةٌ أُخْرَى، حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنْ «أبِي بُرَيْصٍ»، وحامَتْ (دَارَتْ) حَوْلَ طَائِفَةٍ مِنَ الْحَشَائِشِ، وَلَمْ تَفْطِنِ الْحَمْقاءُ إلى عَيْنَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ تَرْقُبَانِها، وَتَتَرَبَّصَانِ لَها. فَقالَ صاحِبُنا وهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: «لَقَدْ حَانَتِ الْفُرْصَةُ، وإنِّي — إنْ أَضَعْتُها — لَأَكونَنَّ مِثالًا لِلْحَماقَةِ وَالْكَسَلِ!» ثمَّ اسْتَعَدَّ «أبُو بُرَيْصٍ» وَتَهَيَّأَ لِاقْتِناصِها — فِي حَذَرٍ وانْتباهٍ — وقالَ: «واحد … اثنان …» ثُمَّ هَبَّ (نَهَضَ وَقَفَزَ) فِي الثَّالِثَةِ هَبَّةً واحِدةً، فَأَصابَ طِلْبَتَهُ (حَاجَتَهُ)، وظَفِرَ بِصَيْدِهِ السَّمينِ. وامْتَلأَتْ نَفْسُ «أبِي بُرَيْصٍ» غِبْطَةً وسُرُورًا لِنَجَاحِهِ وَظَفَرِهِ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ، والْتَمَعَتْ عَيْناهُ، وَاهْتَزَّ ذَيْلُهُ فَرَحًا وابْتِهاجًا. ثُمَّ قالَ ولِسانُهُ يَخْتَلِجُ (يَتَحَرَّكُ ويَرْتَعِشُ) مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ: «مَا أَلَذَّهُ طَعامًا، وَما أَشْهاهُ غِذاءً! فَلْنَتَلَمَّسْ وَاحِدَةً أُخْرَى.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/86085948/
أصدقاء الربيع
كامل كيلاني
في أصيل يوم من أيام شهر «مارس» هب نسيم دافئ يبشر بمقدم الربيع؛ ملك فصول السنة، ويؤذن بانقضاء فصل الشتاء. وقد استقبلت الكائنات كلها هذا الفصل البهيج فرحة متهللة، ودبت حرارة الشمس فأنعشت النفوس، وأخذت الأرض زينتها فأنبتت من كل زوج بهيج.
https://www.hindawi.org/books/86085948/2/
الفصل الثاني
وبَعدَ أيَّامٍ قَليلةٍ استَيْقَظَتِ الْبِرَصَةُ مِنْ سُباتِها (نَوْمِها) الْعميقِ، وَذَهَبَتْ طَائِفةٌ مِنْها — معَ صَديقِها «أبي بُرَيْصٍ» النَّشيطِ — لِتَنعمَ بِحَرارةِ الشَّمْسِ، وَانْتَشَرَتْ عَلَى الْحائطِ الْقدِيمِ تَسْتقبِلُ الرَّبيعَ مُبْتهِجةً. وكانتْ تلك الطَّائفةُ تتألَّفُ من: آباءٍ بَدِينَةٍ (سَمينةٍ) مُمتلئةٍ، وأُمَّاتٍ نحيفةِ الْجِسمِ جَميلةِ المنظَر (أُمَّهات. والأُمَّاتُ لِلْحيوانِ كالأُمَّهات لِلإِنْسان)، وجَمْهرةٍ (جَماعةٍ) من الْأَبْناءِ يَتجَلَّى فيها النَّشاطُ والطَّيْشُ. وكان «أبُو بُرَيْصٍ» النَّشيطُ جالِسًا عَلَى حَجَرٍ — بِالْقُرْبِ مِنْ رِفَاقِهِ — وَقَدْ شَغَلَهُ الْتَّفْكيرُ عنها فَلمْ يَتَحَرَّكْ مِنْ مَكانِه. فَاقتَرَبَ مِنهُ أحدُ أصْحابِه، وسأَلهُ قائلًا: «هِيهِ يا صاحِ! ما بالُكَ مُستَسْلِمًا لِلتَّفكيرِ، مُبتَعِدًا عن رِفاقِكَ؟» فَدَهِشَ «أبو بُرَيْصٍ» لِهذهِ المُفَاجأَةِ، وَقَفَزَ مِنَ الذُّعْرِ (نَطَّ مِن الْخَوْفِ)، ثُمَّ قالَ لِصاحبَتِه: «لَقدْ أَسَأْتِ إِلَيَّ — يا «أُمَّ سَلْمى» — وقَطعْتِ عَلَيَّ تَفْكيري في صَديقتيَ الْقَديمةِ: دابَّةِ النَّهْرِ!» فقالتْ لهُ «أُمُّ سَلْمى»: «ماذا تقُولُ؟ «دابَّةُ النَّهْرِ»! مَنْ هيَ؟ فَإِنِّي لا أكادُ أَذْكُرُها!» فقالَ لها «أبو بُرَيْصٍ»: «كلَّا يا صاحبتِي، بلْ أَنْتَ تَعْرِفينها ولا تَجْهلينهَا. وما أَظُنُّكِ قدْ نَسِيتِ الضِّفدِعةَ الْخَضْراءَ الْجَميلةَ الَّتي كانتْ تَتحدَّثُ إِلَيَّ في الصَّيفِ المَاضِي، وقدْ كُنَّا ندعُوها: «دَابَّةَ النَّهْرِ». ما كان أَجْملَ عينَيْها، وأبْدَعَ مَنظَرَها، وأشْهى حديثَها …! لقدْ نَعِمْنا بِلقائِها زَمَنًا، ثُمَّ تَفرَّقْنا في الْخَريفِ؛ فَذَهبَتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» إلى حُفرتِها — في أَسفلِ هذا الْحَائِطِ — هرَبًا منَ البَرْدِ. وَإِنِّي لَأُسائِلُ نَفْسي: كيفَ حالُ هذه الصَّديقةِ الْعزيزةِ؟ وماذا آل إليهِ أمْرُها؟ فَهلْ تَتفضَّلينَ يا «أُمَّ سلْمى» فتُنادِيها، فإِنِّي لِلِقائِها لَعَلَى شَوْقٍ شَديدٍ.» فصاحتْ «أُمُ سلْمى»، وَصَرَخَ «أبو بُرَيْصٍ» — في نَفَسٍ واحدٍ — يُنادِيانِ صاحبتَهما: «دابَّةَ النَّهْرِ». ولكنَّ «دابَّةَ النَّهْرِ» لَمْ تُجِبْ نِداءَهُما، وقدْ دَعَواها بأَعْلَى صَوْتيْهِما مَرَّاتٍ عِدَّةً. فَعادَ «أبو بُرَيْصٍ» إلى مَخْبَئِهِ مَحزُونًا مُتأَلِّمًا، يُفكِّرُ في مَصيرِ صاحبتِه العزيزةِ، ويَخْشَى عَليْها أَحْداثَ الزَّمَنِ وخُطُوبَهُ (نَوائِبَهُ وَمَصائبَهُ). ومَرَّ على هذا الْحادِثِ أُسبوعانِ كامِلانِ، فَدَبَّتِ الْخُضْرَةُ في الشَّجَراتِ الَّتي تَكْتنِفُ جُحْرَ الأبارصِ (تُحيطُ بهِ). واجْتمعتِ الْحَشراتُ أَسْرابًا (جَماعاتٍ)؛ فَغَصَّ بها (ضاقَ) الْفضاءُ على رُحْبِه، وَامْتلأَ الْجَوُّ بطنِينها وأهازيجِها (أغانيها) الْمَرِحَةِ. ولكنَّ «أبا بُرَيْصٍ» كان في شُغْلٍ شاغِلٍ — عَنْ ذلكَ الْعالَمِ الْبَهِيجِ — بِالتَّفْكِيرِ فِي مَصِيرِ صاحِبَتِه: «دابَّةِ النَّهْرِ». فقدْ شَغلَهُ الأَلَمُ لِفِرَاقِ تلكَ الضِّفدِعةِ الصَّغيرةِ الْخَضْراءِ وأُدْخِلَ في رُوعِهِ (قلْبِهِ) أنَّها لَقِيَتْ حَتْفَها (هلاكَها). وإنَّهُ لَغارِقٌ في تأَمُّلهِ — ذاتَ يوْمٍ — إِذْ رَأَى نَمْلَةً تَسْقُطُ في الْماءِ. واستَرْعَى بَصَرَهُ ما رآهُ على سَطْحِ الْماءِ مِنْ فَقاقيِع الْهواءِ الْمُتَصاعِدَةِ إِليْهِ. ولَمْ يَكَدْ يُنْعِمُ النَّظَرَ (يُدَقِّقُهُ) في مَصيرِ تلكَ النَّملةِ التَّاعِسةِ، حتَّى رَأَى فمًا عَريضًا يَظْهَرُ على سَطْحِ الْماءِ. فصاح «أبو بُرَيْصٍ»، وقدْ فاضَ قلْبُهُ سُرُورًا: «يا للسَّعادةِ! لقدْ ظَفِرْتُ بِصَديقتِي العزيزةِ: «دابَّةِ النَّهْرِ»، وقدْ عَرَفتُ جِلْبابَها الْأَخْضَرَ الَّذِي يَزْدانُ (يَتحلَّى) بتلكَ النُّقطِ السُّودِ. آهِ … لقدْ ظَهرَتْ عَيناها الْكبِيرَتَانِ، وظَهَرَتْ تلكَ الدَّائِرَةُ الذَّهَبيَّةُ الَّتي تُحيطُ بِهِمَا. إليَّ يَا «دابَّةَ النَّهْرِ»! تَعالَيْ، أَيَّتُها الْحَبِيبَةُ. عَجِيبٌ … إنها لا تُجِيبُ! فلْأَرْفَعْ صَوْتي لعَلَّها تَسْمَعُنِي … عِمِي صَباحًا يا «دابَّةَ النَّهْرِ»، ولْيَكُنْ نَهَارُكِ طَيِّبًا!» فَسَمِعَ «أبو بُرَيْصٍ» صَوْتًا أجَشَّ (غَليظًا)، هُو نَقيقُ صَاحِبَتِه. وقدْ أجابَهُ في بُحَّةٍ (غِلَظٍ وخُشُونَةٍ) طاَلما أَلِفَ سَماعَها منْها. «مَنْ ذا الَّذِي يُناديني؟» فقالَ لَها وقَدِ اشْتدَّ فَرَحُه: «هلُمِّ يا «دابَّةَ النَّهْرِ»! إِليَّ يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ»! فأَنا صَديقُكِ الْقَدِيمُ «أبو بُرَيْصٍ» الصَّغيرُ الرَّماديُّ اللَّوْنِ.» فأَجابتْهُ «دابَّةُ النَّهْرِ»: «آه … أَأَنتَ صَاحِبِي الْعَزِيزُ: «أبو بُرَيْصٍ»؟ مَعْذِرَةً يا صَدِيقِي؛ فإِنَّني لَمْ أَسْتَطِعْ رُؤْيتَكَ — أَوَّلَ وَهْلةٍ (أوَّلَ شَيْءٍ أراهُ) — لِأَنَّني لا أزالُ عَاجِزَةً عَنِ التَّحْديقِ في الضَّوْءِ، وقدْ بهرَني نُورُ النَّهارِ، بَعدَ أنْ طالَ مُكْثي في ظَلام الْقاعِ. والآنَ أَحْمَدُ الله على لِقائِكَ؛ فقدْ طالَ شَوْقي إليكَ. فَخَبِّرْني: كيْفَ قَضَيْتَ فَصْلَ الشِّتاءِ، يا أبا بُرَيْصٍ؟» فقالَ لَها: «لَقَدْ قَضَيْتُهُ نَائِمًا مَعَ رِفَاقي. فَكَيْفَ قَضَيْتِهِ أنْتِ، يا أُمَّ هُبَيْرَةَ؟» فَقالتْ لَهُ: «لم يُصِبْنِي مَكْرُوهٌ؛ فَقَدْ غَمَسْتُ رَأْسِي في الطِّينِ — كَما فَعل رِفاقِي فِي الْخَريفِ الْماضِي — وأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ. ثُمَّ … ثُمَّ ماذا حَصَلَ؟ هذا ما لا أَذكُرُهُ. لَقدْ نَسِيتُ كُلَّ ما حَدَثَ لي بَعْدَ ذلِكَ. لَعَلَّ أَجْسامَنا قَدْ جَمَدَتْ — حِينَ اشْتَدَّتْ وَطْأَةُ البَرْدِ — وَأَصْبَحَتْ كالْأَحْجارِ الصُّلْبَةِ؛ فَقدْ طالما سَمِعْتُ مِنْ جَدَّاتي أَنَّ ذلِكَ يَحْدُثُ لنا في كُلِّ شِتاءٍ.» فَقالَ لَها «أَبو بُرَيْصٍ»، وَقدْ داناها (اقْتَرَبَ مِنْها)، وَوَقَفَ أمامَها مَزْهُوًّا فَخُوَرًا: «أَنْعِمي النَّظَر في شَكْلِي، لَعَلَّكِ تَكْشِفِينَ عَمَّا جَدَّ مِنْ أَنْبائِي (أَخْبارِي). أَعِيدِي فِيَّ نَظْرةَ فاحِصٍ مُدَقِّقٍ. أَجِيليِ بَصَرَكِ. أَلَا تَرَيْنَ شَيْئًا جَديدًا؟» فَقالتْ لَهُ «دابَّةُ النَّهْرِ»: «كَلَّا، لا أَرَى شَيْئًا جَديدًا، يا صاحِ!» فَقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «أَلا تَرَيْنَ الثَّوْبَ الَّذِي ألبَسُه في هذا العامِ؟ ألا تُبْصِرينَ جِدَّتَه؟» فَقالتْ لَهُ: «يا لَلْعَجَبِ أَأَنْتَ لَبسْتَ ثَوْبًا جَديدًا؟» فَقالَ «أبُو بُرَيْصٍ»: «نَعَمْ يا صَديقَتِي الْعَزِيزَةَ، فَقَدْ رَأَيتُ ثَوْبِيَ القَدِيمَ يَخْلُقُ وَيَرِثُّ، وَلمْ نَفْتَرِقْ — قُبَيْلَ انتِهاءِ الْفَصْلِ الماضِي — حَتَّى بَلِيَ ذَلِكِ الثَّوْبُ، وَبَدَتْ فِيهِ شُقُوقٌ كَثيرَةٌ، فَضَجِرْتُ بِهِ (ضاقتْ نَفْسِي مِنْهُ وكَرِهَتْهُ)، وَاضْطُرِرْتُ إِلى تَرْكِه؛ فَحَكَكْتُ جَسَدي بِحَجَرٍ شَدِيدٍ صَلْدٍ؛ فَتَهَرَّأَ الرِّداءُ الخَلَقُ (تَقطَّع الثَّوْبُ الْبالِي) وَتمَزَّقَ، واستَبْدَلْتُ به — حينئذٍ — ثَوْبي الجَدِيدَ الذي تَرَيْنَهُ الآنَ. وقدِ ارتَدَيْتُهُ طُولَ فَصْلِ الشِّتَاءِ.» فَقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «تَقَبَّلْ — يا «أبا بُرَيْصٍ» — تَهنِئاتي بهذا الثَّوبِ الأنِيقِ الَّذِي ارتَدَيْتَهُ. ولكنْ … خبِّرْني، يا صاحِ: كيْفَ حالُ عَشِيرَتِكَ وأَهلِكَ؛ فقدْ شَغَلَني حَديثُكَ الْمُمتِعُ عَنْ سُؤَالِكَ عن أَنباءِ أُسرتِك؟ كَيف تَجِدُ أَباكَ وإِخْوتَكَ وأَخَوَاتِكَ؟» فقالَ لَها: «كُلُّهمْ بِخَيرٍ، ما عدا أَخي المِسْكِينَ: «أَبا سَلمى» التَّاعِسَ الحَزِينَ!» فَقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «وَكَيفَ تَكْتُمُ عنِّي هذا النَّبَأَ الخَطِيرَ؟ كَيفَ يَمْرَضُ أخوكَ فلا تُخْبِرُني أنهُ مريضٌ؟» فَقالَ «أَبو بُرَيْصٍ»: «صَدَقتِ — يا عَزِيزَتِي — فقَدْ نَسِيتُ أن أُخْبِرَكَ أن «أَبا سَلمى» يُعانِي أَلَمًا مُبَرِّحًا (مُتْعِبًا مُؤْذِيًا)، مُنذُ وَقعَ لهُ ذلكَ الحادِثُ الجَلَلُ (العظيمُ). وَلكلِّ مَخْلوقٍ حَظُّهُ مِنَ السَّعَادَةِ والشَّقاءِ جَمِيعًا.» فَقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»، وَقدْ تَمَلَّكَها الذُّعْرُ (الخَوْف): «تُرَى: أيُّ حادثٍ منْ أَحْداثِ الدَّهْر قد أَلَمَّ بـ«أَبي سَلمى» الظَّريفِ الطَّيِّبِ القَلْبِ؟» فَقالَ «أبُو بُرَيْصٍ»: «لَقَدْ أَلَمَّ به حادثٌ خَطيرٌ في الخَريفِ المَاضِي … أَلَا تَذكُرينَ يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ» — ذلكَ الطِّفْلَ الَّذِي كان يَمُرُّ بدارِنا كُلَّ يَوْمٍ؟» فَقالتْ لهُ: «أتَعْنِي ذَلِكَ الفَتَى الصَّغِيرَ الَّذِي يُنادِيه رِفَاقُه بِاسْمِ «كَمَالٍ»، وَيُلَقِّبونَه (يُنادُونه) بَلَقَبِ «طَارِقٍ»؟ إِنْ كُنتَ تَعْنِيهِ، فَإِنِّي أذكُرُهُ، فقد طالَما صَفَّرَ وَغنَّى — بالقُرْبِ منَّا — صَفيرًا مُستَعذَبًا، وغِناءً مُطرِبًا.» فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «هوَ بعَيْنِهِ يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ». وَهوَ طفْلٌ ظَريفٌ، لا عَيْبَ فيهِ إِلَّا أنهُ كَانَ يَلْهُو — أَحْيانًا — بقَذْفِ الأحْجارِ. وما أَظنُّه يقْصِدُ بذلِكِ إِلى الإضْرارِ بكائنٍ كانَ؛ فهُوَ — فِيمَا أَعلمُ — طَيِّبُ القَلْبِ. وَلكنْ: آهٍ من هؤُلاءِ الصِّبْيَةِ! وَواهٍ مِنْ ذَلِكِ الحَصَى الَّذِي يَقْذِفونَنَا بِهِ يَمْنةً وَيَسْرةً، دُونَ أن يَعْرِفوا مَدَى ما يُلْحِقونهُ بنا — مَعشرَ الحَشَراتِ والدَّوابِّ — مِنْ أَذًى!» فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «خبِّرْني: ماذا حَدثَ لِأَخِيكَ؟» فَقالَ «أَبوْ بُرَيْصٍ»: «لقدْ كانَ «أبو سَلْمى» جاثِمًا (قاعِدًا) — في هذا المَكانِ — في الخَريفِ المَاضِي، يَتلَمَّسُ الدِّفءَ في حَرارةِ الشَّمسِ. وَإنهُ لَغارِقٌ في أَحْلامهِ اللَّذيذةِ، إِذْ رَماهُ «كَمَالٌ» بِحَجَرٍ صَغِيرٍ كَانَ يَلْهُو بهِ، فصاحَ «أبو سَلْمي» مُتَوَجِّعًا مِمَّا أصابَهُ، فأَسْرَعْتُ إلى نَجْدةِ شَقِيقِي، فرأَيْتُهُ يتقَلَّبُ عَلَى الْأرْضِ — ظَهْرًا لِبَطْنٍ — وَيَتَوَجَّعُ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ. واجتَمَعَتْ أُسْرَتُنا حَوْلَهُ تُؤَسِّيهِ، وَتُسَرِّي عنْهُ، وَهوَ يَبْكِي وَيَشْهَقُ — وما أَجْدَرَهُ بِذَلِكِ — فقدْ كادَ الحَجَرُ يَقتُلُه. مَثَّليِ لِنفسِكِ (تصَوَّرِي) مِقْدَارَ ما يُعانِيهِ «أَبو سَلْمى»، بعدَ أن قَطَعَ الحَجَرُ ذَنَبَهُ، وَكادَ يُودِي بِه (يُهْلِكُه)، وَيَقْضِي عَلَى حَيَاتِهِ!» فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «يا لَشَقائكَ، يا «أَبا سَلمى»! أَعْزِزْ عَلَيَّ ما كابَدْتَ من أَلمٍ! ما أَشدَّ حُزني لمُصابِكَ! فَقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «لقدْ ظلَّ يُعاني الآلامَ زَمَنًا طَوِيلًا، وَكَانَ أَبَوايَ يَجيئانِهِ بالطَّعامِ لِعجْزِهِ عنِ الحَرَكةِ. وما زالَ إِلى اليَوْمِ مَحْزونًا، شارِدَ الفِكْرِ. وَقدْ آثَرَ العُزْلَةَ والوَحْدَةَ، فَما يَكادُ يَبْرَحُ (قَلَّما يَتركُ) رُكْنَ الْحائطِ.» فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهرِ»، في لَهْجَةِ المُشْفِقَةِ الحانيَةِ: «لا بُدَّ لي أنْ أعُودَهُ (أَزُورَهُ) في بيْتِه، وَمَعي هَدِيَّةٌ فاخِرَةٌ. لقدِ اعْتَزَمْتُ أن أُهْدِيَ إليْهِ أَوَّلَ عَنْكَبٍ أو عَنْكَبةٍ أصْطادُ؛ لعلَّهُ يَرَى فِي هَذَا الطَّعَامِ شَيْئًا مِنَ السَّلْوَى (النِّسيانِ) والعَزاءِ (الصبرِ).»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/86085948/
أصدقاء الربيع
كامل كيلاني
في أصيل يوم من أيام شهر «مارس» هب نسيم دافئ يبشر بمقدم الربيع؛ ملك فصول السنة، ويؤذن بانقضاء فصل الشتاء. وقد استقبلت الكائنات كلها هذا الفصل البهيج فرحة متهللة، ودبت حرارة الشمس فأنعشت النفوس، وأخذت الأرض زينتها فأنبتت من كل زوج بهيج.
https://www.hindawi.org/books/86085948/3/
الفصل الثالث
مالَتِ الشَّمْسُ لِلغُرُوبِ، والصَّدِيقَانِ لا يَزالانِ يَتحدَّثانِ أَحاديثَ شَتَّى. وإنَّهما لَكَذَلِكَ إذِ الْتَفَتَ «أبو بُرَيْصٍ» فَجْأَةً إلى صاحبَتهِ، وقال: «هذا ابنُ عمِّكِ قادِمًا علَيْنا، يا «أُمَّ هُبَيْرَةَ». وهوَ آيةٌ مِن آياتِ القُبْحِ والدَّمَامَةِ، وقدْ نَسِيتُ اسْمَه؛ فهلْ تَذْكُرينَه لِي مُتَفضِّلَةً؟» فالْتَفتتْ «دابَّةُ النَّهرِ» إلَى القادِمِ، وحَيَّتْهُ قائِلةً: «عِمْ مَساءً يا ابنَ عَمِّي «النَّقَّاقُ»، ولْيَطِبْ لَيلُكَ! كَيفَ تَجِدُكَ يا أَبا مَعبَدٍ؟» فقالَ لَها «النقَّاقُ»: «بخَيْرٍ — يا ابْنةَ العَمِّ — مادُمْتِ أَنتِ بِخَيْرٍ.» فاسْتَأْنَفتْ «دابَّةُ النَّهرِ» قائِلةً: «ما لِي أَراكَ تُسْرِعُ فِي خُطَاكَ، يا «أبا مَعْبدٍ»؟ أَلا تَستَرِيحُ مَعنا قَليلًا؛ لِتَشْرَكَنا في أَسْمارِنا وأَحَادِيثِنا المُعْجِبَةِ، وتتَعرَّفَ بِصَدِيقِي العَزِيزِ «أَبِي بُرَيْصٍ»؛ فهوَ يُحِبُّ أن يَراكَ وَيأْنسَ بكَ؟» فقالَ لها «النقَّاقُ»: «مَعذِرةً — يا ابْنةَ العَمِّ — فلَسْتُ أَستطِيعُ البَقاءَ مَعَكُما؛ لِأَنَّني في حاجةٍ إلَى زِيارةِ حَديقةِ الكُرُنْبِ، قبْلَ أن يَضيعَ الوَقْتُ. فوَداعًا!» فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «إِنَّ ابنَ عمِّكِ «النقَّاقَ» يَجْمعُ إلَى دَمامَةِ المَنظرِ (قُبْحِ الهَيْئَةِ) قِلَّةَ الذَّوْقِ، فهلْ أَنْتِ واثِقةٌ أَنهُ ابنُ عمِّكِ حقًّا؟» فقالتْ «دَابَّةُ النَّهرِ»: «لَيْسَ في هذا أقلُّ شَكٍّ. ولَوْ أَنْعَمْتَ النَّظَرَ، لَرَأَيتَنا مُتَشابِهَيْنِ في أَشْياءَ كَثيرَةٍ، وإنْ كانَ مَوْطِنُه البَرَّ، ومَوطنِي البَرَّ والبَحْرَ معًا عَلَى أَنَّ له مِثلي …» فقاطَعها «أبو بُرَيْصٍ»: «كَيفَ يَكُونُ «النقَّاقُ» ابنَ عمِّكِ، وهوَ بَطِيءُ الخُطَى، يَمشي مُتَثاقِلًا، ولا يَقدِرُ عَلَى القَفْزِ كما تَقفِزِينَ؟ وكَيفَ تَزْعُمِينَ أنَّه يُشْبِهُكِ، وأَنتِ جمِيلَةُ المَنظَرِ، حَسَنةُ التَّكْوينِ، رَقِيقَةُ الْجِلدِ، لَمَّاعَةُ البَشْرَةِ؛ عَلَى حِينِ أرَى جِسمَ «النقَّاقِ» مُشَوَّهًا، تُغطِّيه بُثُورٌ (خُرَّاجاتٌ صَغيرةٌ ودَمامِيلُ) كريهةٌ بَشِعةٌ؟» فقالتْ لهُ: «لَسْت أُنْكِرُ علَيكَ أنهُ يَبْدُو — لِمَنْ يَراهُ — قَبِيحَ الْمَنظرِ دَمِيمَ الْخِلْقَةِ. ولكِنْ: أيُّ ذَنْبٍ لهُ فِي ذَلِكَ؟ أتُراه كان قادِرًا عَلَى تَجْمِيلِ صُورتِه فلَمْ يَفْعَلْ؟ كَلَّا — يا «أبا بُرَيْصٍ» — فإِنَّ مِن كمالِ عَقْلِكَ وأَصَالَةِ رَأْيِكَ أَلَّا تَغْتَرَّ بالظَّواهرِ؛ فهِيَ لا تَدُلُّ علَى حقِيقَةِ النفْسِ المُحَجَّبَةِ عنَّا (الْمَسْتُورةِ المُخبَّأَةِ). إِنَّ «النَّقاقَ» — لَوْ عَلِمْتَ — مِن كِرامِ الضَّفادِع، وهوَ طَيِّبُ القَلبِ مَحْمُودُ الأَثَرِ. وما أجْدَرَ النَّاسَ أنْ يُحِبُّوه؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ وَقْفٌ علَى مُحارَبةِ الْحَشَراتِ الضَّارَّةِ الَّتي تُتْلِفُ الْحَرْثَ (الزَّرْعَ)، وتُفْسِدُ البُقُولَ والْخُضَرَ. ولكنَّ النَّاسَ — لسُوءِ حَظِّه — لا يُنْصِفُونَهُ، ولا يَقْدُرونَ هذا الصَّنِيعَ (لا يَشْكرونَ لهُ هذا الْجَميلَ). فكَيفَ لا أُحِبُّ هذا التَّاعِسَ المَظْلومَ؟» فقال «أبو بُرَيْصٍ»: «لَقدْ حَبَّبَتْهُ إلَى نَفْسي تِلكَ المآثرُ (المفاخِرُ) الَّتي قَصَصْتِها علَيَّ؛ فما أكْرمَه دابَّةً! وما أبَرَّهُ مُصْلِحًا». ثُمَّ استَأْنَفَ «أبو بُرَيْصٍ» قائلًا: «لَقدْ جَنَّ اللَّيلُ (أظْلَمَ)، ولا بُدَّ لي مِنَ العَوْدةِ إلَى دارِي. وأنا علَى ثِقةٍ أنَّ أُسْرَتي ستَلْقَانِي غَاضِبَةً؛ لأنَّنِي تَأَخَّرْتُ — فِي هَذَا اليَوْمِ — عَنِ العَوْدَةِ حَتَّى هَذِهِ السَّاعةِ. فَوَداعًا أيَّتُها الرَّفِيقَةُ العَزيزةُ!» فَقالتْ لهُ: «إلَى اللِّقاءِ القَريبِ، يا أبا بُرَيْصٍ.» وكانَ «أبو بُرَيْصٍ» يَنامُ علَى صَوْتِ الضَّفادِعِ — كلَّ لَيْلَةٍ — ويُطْرَبُ لأَناشِيدِها الجميلَةِ، ونَقِيقِها الَّذِي طَالَما ألِفَ الاستِماعَ إلَيْهِ. وبعْدَ أسابيعَ عِدَّةٍ، أمَطَرَتِ السَّمَاءُ — فَجْأَةً — فِي وَقتِ الصَّباحِ، ثُمَّ هَطَلَتْ (تَتابعَ مَطرُها)، وانْهمَر المَطرُ (سالَ غَزيرًا كَثيرًا). حتَّى إذا كادَ النَّهارُ يَنتَصِفُ، بَدَّدتْ أضْواءُ الشَّمسِ ما تَراكَمَ مِنَ السُّحُبِ الكَثيفَةِ. وكَانَ «أبو بُرَيْصٍ» — في أثْناءِ هُطُولِ الْأَمطارِ — مُلازِمًا جُحْرَه في نَفَرٍ — (جَماعةٍ) مِن أُسْرَتِه، وهُم: «بُرَيْصٌ» و«أَبْرَصُ» و«سامُّ أبرصَ»، وَغَيْرُهم مِن الْأَبارِصِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/86085948/
أصدقاء الربيع
كامل كيلاني
في أصيل يوم من أيام شهر «مارس» هب نسيم دافئ يبشر بمقدم الربيع؛ ملك فصول السنة، ويؤذن بانقضاء فصل الشتاء. وقد استقبلت الكائنات كلها هذا الفصل البهيج فرحة متهللة، ودبت حرارة الشمس فأنعشت النفوس، وأخذت الأرض زينتها فأنبتت من كل زوج بهيج.
https://www.hindawi.org/books/86085948/4/
الفصل الرابع
فَلمَّا تَقَشَّعتِ السُّحُبُ وانْجَلَتِ الْغُيُومُ عنِ السَّماءِ، زال عَنهُ ما أَلَمَّ بهِ منَ الضَّجَرِ لِطُولِ احْتِباسهِ، وهَمَّ بالْخُرُوجِ منْ جُحْرِه؛ فرأَى أمامَهُ صاحبتَهُ «أُمَّ هُبيْرةَ»، فَقَالَ لَهَا: «آهِ … لقدْ كُنتُ أُفكِّرُ في لِقائِكِ الآن. وإنَّما منَعني مِنَ الذَّهَابِ إِليْكِ ما كابَدْتُهُ — فِي هَذَا الصَّباحِ — مِنَ الضَّجَرِ والأَلَمِ؛ فقدْ نَزَلَ الْمَطرُ مِدْرارًا، فلمْ أَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ منْ جُحْري. آهِ! مَا كَانَ أَسْمَجَهُ صَبَاحًا!» فقالتْ «دابَّةُ النَّهْرِ»: «شَدَّ ما أخْطَأْتَ في حُكْمِكَ — يا «أبا بُرَيْصٍ» — فقدْ كان أجْملَ صَباحٍ عِندَنا — مَعشرَ الضَّفادِعِ — ولقدْ مَنَّ اللهُ عَلَيَّ بهذا الْمطَرِ — لِحُسْنِ حَظِّي — وأنا أحْوَجُ ما أكُونُ إليْه. وما أدْرِي: كَيْفَ كُنتُ أَصنَعُ لو ظلَّتْ حَرارةُ الشَّمْسِ مُرْتفِعةً، كما كانتْ في الْأَيَّامِ السَّابقةِ؟» ثُمَّ استأْنَفتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» قائلةً: «ولكنَّ اللهَ — سُبحانهُ — قدْ أغاثني بهذا الْمطرِ، وأنْقذَ الْقُرَّ — أعْني: بُوَيْضاتي — منَ التَّلَفِ.» فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «بُوَيْضاتِكِ؟ متَى كان ذلكِ؟ كيفَ لَمْ تُخْبريني؟ يا لَكِ منْ صَديقةٍ عجيبةٍ! أَعَنْ مِثْلِي تُخْفِينَ هذا السِّرَّ؟» فقالتْ لهُ: «كلَّا … لمْ أُخْفِ سِرِّي عَنْكَ. ها هِي ذِي بُوَيْضاتي في قاعِ الْبِرْكةِ الصَّغيرةِ. انْظُرْ هَذِهِ الصُّرَّةَ الصَّفْرَاءَ وَمَا فِيهَا مِنْ نُقَطٍ سُودٍ صَغِيرةٍ. أجِلْ فيها بَصَرَكَ، وأَدِرْ نظَرَكَ، واعلَمْ أنَّ كلَّ نُقْطَةٍ — منْ هَذِهِ النُّقَطِ — هِيَ بُويْضَةٌ منْ بُوَيْضاتي الَّتي حدَّثتُكَ بها الآن.» فقالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «وما بالُكِ تُلْقينَ بها في الْماءِ، أَيَّتُها التَّاعِسةُ؟ إنَّكِ — إِذْ تَفْعَلينَ ذلكَ — تُعَرِّضينَها لِلتَّلَفِ!» فَقَالَتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» مُتَأَلِّمةً مُتَملْمِلةً: «لمْ أخْتَرِعْ ذلكَ اخْتِرَاعًا، ولَسْتُ فيهِ بِدْعًا (لَسْتُ أوَّلَ مَنْ فَعَلَ هذا). ولَمْ يَدُرْ بِخَلَدِي (لَمْ يَمُرَّ بِخَاطِري) أنَّني أُعَرِّضُ ذَرارِيَّ — وهِيَ قِطَعٌ مِنِّي — للْخَطَرِ حينَ أُلْقِي بها في الْماء … فإِنِّي رأيتُ الضَّفادِعَ — كُلَّها — لا تَبيضُ إلَّا في الْمَاءِ … وقدْ فَعلْتُ مثْلَ فِعْلِها، ولَمْ أَشِذَّ عنْ هذا العُرْفِ الشَّائعِ بينَ «بناتِ نَقْ نَقْ» جَميعًا.» وَمرَّ عَلَى هذا الحِوارِ ثَمَانِيةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ ذَهَبَ «أبو بُرَيْصٍ» إلَى صَدِيقَتِه «دَابَّةِ النَّهْرِ» ليَزُورَها؛ فأَلْفَاها جَاثِمةً فِي المَاءِ — بِلا حَراكٍ — وَقدِ امتَدَّتْ يَدَاها إلَى خَلْفِها، وظَهرَتْ عَلَى سِيمَاها (هَيْئتِها) أَمَارَاتُ الفَرَحِ والغِبْطةِ. ولمَّا رأتْ صَديقَها صَاحَتْ مُتَهلِّلةً فَرِحةً: «هَلُمَّ، يا «أبا بُرَيْصٍ». تَعالَ فانظُرْ صِغاري خارجاتٍ منَ البَيْضِ الَّذِي رَأيتَه مُنذُ أيامٍ. آه! يا لَسَعَادَتِي وَهنَائِي!» فَقَالَ «أبو بُرَيْصٍ»: «كيْفَ تَزْعُمِينَ أنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ الغَرِيبَةَ الشَّكلِ هِيَ صِغَارُكِ؟ كلَّا يَا عَزِيزَتِي! كلَّا. مَا أَنْتِ بِمُصَدَّقةٍ! ذَلِكِ مُحَالٌ، يَا دَابَّةَ النَّهْرِ.» فَقَالَتْ لهُ مُرْتَاعَةً (خَائِفةً): «لَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّهُمْ أوْلادِي، أَلَا تَرَى هَذِهِ الصِّغارَ خَارِجةً مِنْ بُوَيْضَاتِي؟ أَلَا ترَى جَمَالَ مَنْظَرِها، وحُسْنَ شَكْلِها؟» فَقَالَ لَهَا «أبو بُرَيْصٍ» وَهُو يَهتَزُّ ضَاحِكًا: «أَيُّ جَمَالٍ تَرَيْنَهُ فِي هَذِهِ الرُّءُوسِ الضَّخْمَةِ؟ لعَلَّكِ تَمْزَحينَ! ما أظُنُّكِ جادَّةً في قَوْلِكِ، أَيَّتها الصَّديقَةُ العَزيزةُ؟ ألَا تَنظُرِين إِلى أَذْنابها؟ فكَيْف تَجْلسُ هذه الأوْلادُ عَلَى الْحشائِشِ كَما تَجْلسينَ؟ ومتَى كانَ للضَّفادعِ أذنابٌ، أيَّتُها العزيزةُ البَلهاءُ؟» فاشتَدَّتْ حَيْرَتُها، وَلمْ تَعْرِفْ كَيْفَ تُجِيبُ صاحِبَها. وَساوَرَها الرَّيْبُ (أسرَعَ إِليْها الشَّكُّ)؛ فلَمْ تَجْزِمْ بشَيْءٍ. وإنَّما اسْتَوْلَى عَلَيْها الحُزْنُ؛ لِأَنها رأتْ تِلكَ الدَّوابَّ الرَّمادِيَّةَ اللَّوْنِ لَيسَ لها أيْدٍ تَسْبَحُ (تعُومُ) بها في الماءِ، وعَجِبَتْ من أَذنابِهِنَّ عجَبًا شديدًا. وَحانتْ من «أبي بُرَيْصٍ» التِفاتةٌ، فصاحَ مَدهوشًا: «انظُرِي — يا صَديقَتي — هاكِ مَوْلُودًا يَأْكُلُ مِنَ النَّباتِ الَّذِي في قاعِ الماءِ! فَخَبِّريني بِربِّكِ: هلْ رأيْتِ — طُولَ عُمرِكِ — ضِفْدِعًا يَأْكُلُ النَّباتَ؟» فَقالَتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» وقدْ كادَ البُكاءُ يَعْقِدُ لِسانَها: «مهْما يَكُنْ منْ أَمرٍ، فَإنِّي علَى يَقينٍ أَنَّ هذهِ الدَّوابَّ قدْ خَرجَتْ من بويْضاتِي!» فَقالَ «أَبو بُرَيْصٍ»: «هِيهِ يا «دابَّة النّهْرِ». لقدْ عرَفْتُ حَقِيقَةَ أَمْرِ هذِه الدَّوابِّ الصَّغيرةِ، وقَدْ أيقَنْتُ الآنَ أنَّهَا: سَمكٌ.» فودَّعَتْه «دابَّةُ النَّهْرِ»، وقالَتْ وهيَ مَحْزُونةٌ مُتألِّمةٌ: «لقدْ جَهِلْتُ — مَعَ حِرْصي عَلَى المعْرفَةِ — فما أَدرِي شَيْئًا!» وفي يوْمٍ منْ أيَّامِ «أُغُسطُسَ» الْحارَّةِ، تَمَدَّدَتْ جَمهرَةٌ منَ الْأبارِصِ عَلَى الْحَائِط، واسْتقْبَلَتْ أشِعَّةَ الشَّمْسِ، واسْتَسْلَمَتْ للدِّفْءِ والرَّاحَةِ، وكانَ من عادَتِها أنْ تَقْضِيَ وقتَ الهَضْمِ فِي مثْلِ هَذَا الْمكانِ، مُخْلِدَةً (مُرْتكِنةً مُسْتَسْلِمةً) إلى الرَّاحةِ في تلْكَ الْجِهةِ المُشْمِسَةِ الْحَبيبةِ إلى نُفوسِها. وإنَّها لكَذلِكَ، إذْ أقْبَلتْ عليْها «دابَّةُ النَّهْرِ» بَعدَ أنْ صَعِدَتْ إلى سَطْحِ الْماء، وصاحتْ تُنادِي«أبا بُرَيْصٍ» بأَعْلى صَوْتِها — وقدِ اسْتَوْلَى عليْها الْفَرَحُ — قائلةً: «إلَيَّ يا صَدِيقِي العَزِيزَ. هلُمَّ لِأَزُفَّ إليْكَ بُشْرَى منَ البُشْرَياتِ السَّارَّةِ الَّتي تَمْلَأُ قلْبَك غِبْطَةً وتُسْكِنُ البَهْجةَ خَلَدَكَ (نَفْسَكَ)!» فأَقْبلَ عليْها «أبو بُرَيْصٍ» مُسْتَفْسِرًا عنْ جَلِيَّةِ الْخَبَرِ (حَقِيقَتِه)؛ فابتدَرَتْ (أَسْرَعتْ) قائلةً: «لقدْ أيْقنتُ — اليومَ — أنَّ تلكَ الدَّوابَّ الَّتي شكَّكْتَني في حَقِيقَتِها — مُنذُ أَيَّامٍ — لَيستْ إلّا أوْلادِي. وقدْ زالَ اللَّبْسُ والشَّكُّ، وتأَكَّدَ لِي ذَلِكَ منْ كلامِ عَمِّي حِينَ رَآهَا. وَهَا أنَا ذِي أدْعُوكَ لزِيارَتِها، ولَيسَ الْخَبَرُ كَالعِيانِ.» فَسارَ مَعها «أبُو بُرَيْصٍ» حتَّى وَصلا إلَى شَاطِئِ البِرْكَةِ، فَرأى ما أدْهَشَهُ وحيَّرَه. أتعْرِفُونَ ماذا رأى؟ لقدْ أبْصرَ «بَناتِ هُبيرةَ»: تلكَ الدَّوابَّ الرَّمادِيَّةَ اللَّوْنِ، قدْ نبتَتِ الْأَيْدِي في أجْسادِها، وقَصُرَتْ أذْنابُها، فاشْتدَّ عَجبُهُ، والْتفَتَ إلى «دابَّةِ النَّهْرِ» يَسْأَلُها الصَّفْحَ قائلًا: «لقدْ أخْطَأْتُ حينَ شَكَّكْتُكِ في أمْرِ هذهِ الدَّوابِّ؛ فاسْمَحِي لي أنْ أَزُفَّ إليْكِ تَهْنئاتي الْخَالِصَةَ بأطْفالِكِ الصَّغيراتِ.» فقالتْ «دابَّةُ النَّهْرِ» مَزْهُوَّةً فَخُورَةً: «أشكُرُ لكَ إخْلاصَك ووَلاءَك. وقدْ حَمِدْتُ اللهَ — سُبْحانَه — عَلى أنّهُ لَمْ يفجَعْني في أَمَلِي. وقدْ أخْبَرَني عَمِّي — حينَ سألْتُهُ — أن هذهِ الْبناتِ الصَّغيرةَ — حينَ تَنْتهِي منْ فَتْرَةِ الطُّفولةِ — تَصْغُر رُءوسُها شيْئًا فَشيْئًا، حتَّى تتَناسَبَ هيَ وأجْسادُها. ثُمَّ تُصْبِحُ — بعدَ ذلكَ — ضفادِعَ تامَّةَ التَّكْوينِ مِثْلَنا، جَميلةَ الشَّكلِ، مُخْضَرَّةَ الَّلوْنِ، حَسَنةَ التَّقْسيمِ والتَّقْوِيمِ.» ثُمَّ سَمِعَ الصدِيقانِ صَوتًا ضعيفًا ينادِي ويُغَوِّثُ (يَستَغيث) طالبًا النَّجْدةَ. فالتَفَتا يَتعَرَّفان مَصْدرَ الصَّوْتِ. وما أَدْرَكا جَلِيَّةَ الأمْرِ (حقيقَتَه)، حتى هالهُما ورَوَّعهما (خَوفَّهما ورعَّبهما) ما حَدَثَ. فقدْ رَأيا طِفلًا مِن أطفالِ «دابَّةِ النَّهرِ» اسمُه: «العُلْجُومُ»، دفَعه الطَّيشُ والغُرورُ إلَى الخُروجِ مِنَ البِرْكَةِ إلى الشاطِئ. ولم يَكَدْ يَفعلُ حتى اشْتبَك في الحشائشِ، ولم يَقْدِرْ عَلَى العَوْدةِ مِن حَيثُ أتَى. وارتَمَى ذلك الطِّفلُ علَى ظَهرِه، وَسَرَتِ الرِّعْدةُ والرِّعشةُ فِي جِسمِه الصَّغيرِ. فسألَ «أبو بُرَيْصٍ» صَديقَته مُتَعجِّبًا: «ماذا أصابَ التاعِسَ المِسكينَ؟ لقدْ يُخَيَّلُ إلى رائيهِ أنه يَخْتَنِقُ ويُوشِكُ أنْ يَفقِدَ الحَياةَ.» فقالتْ «دابَّةُ النَّهرِ»: «صَدَقتَ — يا صاحِ — فقدْ أخَبَرَني عمِّي أن أطفالَنا تَتَنَفَّسُ فِي المَاءِ كَمَا يَتَنَفَّسُ السَّمَكُ. ولقد أخطَرَ هذا الطَّائِشُ نَفسَه (أدْخلَها في الخَطرِ، وعرَّضَها لِلهَلاكِ) حين خرَج إلى الشاطِئِ. وها هوَ ذا يخْتنِقُ — كما تَرَى — فكَيْفَ أصنَعُ؟» ثمَّ عَنَّتْ (عَرَضتْ) لها فِكْرةٌ مُوَفَّقةٌ سَدِيدةٌ؛ فأسْرَعتْ إلى طِفْلِهَا، ودَفَعتْه بِفمِها قَليلًا، ثمَّ قَذَفتْ به إلى الماء. فلَبِثَ المِسكينُ طافِيًا علَى وَجْهِ الماء بِلا حَرَاكٍ، وقدْ يَئِسَ مِنْ حَياتِه كُلُّ مَن رآه. ولكنَّ إخوَتَه وأصدقاءَه أسرَعُوا إلَيْه، وظَلُّوا يَسَبحُون (يَعومُون) حَوْل «العُلْجومِ»، وَينظُرون إليْه بِعُيونٍ مِلْؤُها الجَزَعُ والْأَسَفُ. فقالَتْ «أُمُّ هُبَيْرةَ» في حُنُوٍّ وإشْفاقٍ: «لقدْ ماتَ وَلَدِيَ العَزِيزُ. فَوا حَزَنا عَليْه!» فَصَاحَ «أبو بُرَيْصٍ» فَجْأَةً: «كَلَّا. لمْ يَمُتْ، ولا يَزالُ في الْأَمَلِ فُسْحةٌ — يا صَديقَتي — فإِنِّي أرَى جِسمَه يَتَحرَّكُ. ها هوَ ذا يُحَرِّكُ إحْدَى يدَيْه.» فَدَبَّ الْأَمَلُ في نُفوسِ الحاضِرين، حين رأوْا ذلِكَ الضِّفْدِعَ الصَّغيرَ يَعودُ إلى الحَياةِ شيْئًا فشيْئًا. ولَمْ يَلْبَثْ أنِ اسْتعادَ ذاكِرَتَه، وسألَ مَن حَوْلَهُ: «تُرَى أيْنَ أنا؟ وماذا أَصَابَنِي؟ آهٍ! لقدْ ذَكرْتُ الآنَ كلَّ شَيْءٍ، وعرَفْتُ خَطَرَ ما أقْدَمْتُ عليه حينَ قفَزْتُ منَ الْماءِ إلى كُوْمَةِ الْحَشائشِ. وإنَّما حَفَزَني إلى ذلك شَوْقي إلى رُؤْيَةِ هذا السَّيِّدِ الطَّوِيلِ الْأَنْفِ، الَّذِي يَتحدَّثُ — أكْثَرَ الْوَقْتِ — مَعَ أُمِّيَ الْحَنُونِ. ولَنْ أُجازِفَ مَرَّةً أُخْرَى، حَسْبي أنْ كُتِبَتْ لِيَ السَّلامةُ بَعدَ الْيَأْسِ!» ثمَّ هَتفَ الضِّفْدِعُ قائلًا: «شُكْرًا لِلماءِ!» فردَّدَتْ إِخْوَتُهُ هُتافَهُ، فَرِحةً مُستبشِرَةً. ثمَّ عاوَدهُ المَرَحُ، وَشارَكَهُ في مَرَحِه أخَواتُهُ: الشِّرْغُ، والشُّرْنوغُ، وأَبو هُبَيْرةَ، ودابَّةُ الماء، والقُرَّةُ، والعُدْمُولُ، والهاجَةُ، والهُوَيْجَةُ. وَغَاصُوا مَعهُ إِلى قاعِ الماء مَسرورينَ بِنَجاتهِ من هَلاكٍ مُحَقَّقٍ. وَلمْ يُوفِ الصَّيْفُ عَلَى نِهَايتِهِ حتَّى كَبِرَتْ أَطفَالُ «دابَّةِ النَّهرِ» واسْتَخَفَّتْ أذْنَابُها الطَّوِيلة، وسَمِنتْ أجْسادُها النَّحيلةُ. وكانتْ» بناتُ هُبَيْرَةَ» — في تِلك الْأَثناء — تُقْبِلُ على الطَّعامِ في شَرَهٍ عَجيبٍ. وقد نشَأَتْ لكُلِّ ضِفْدِعٍ مِنهُنَّ يَدانِ قصيرَتانِ، وَرِجْلانِ طَوِيلَتانِ. وقدْ عَراهُنَّ (أَلَمَّ بِهنَّ) الخَوْفُ حينَ خرَجْنَ منَ الماء — لِلْمَرَّة الْأُولى — ولكنَّ أُمَّهُنَّ شَجَّعتْهُنَّ على اتِّباعِها؛ حتَّى إذا وَصَلْنَ إلى الحَشَائشِ، ظَلَلْنَ يُمَرِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ على القَفْزِ والنَّطِّ. وَقد أَوْصَتْ «أُمُّ هُبَيْرةَ» بناتِها أَن يَقْتَصِدْنَ في قَفْزِهِنَّ؛ حتَّى لا يَدْفعَهُنَّ الطَّيْشُ والحَماقةُ إلى الهَلاكِ. وَقدِ اجتمَعَتِ الضَّفادِعُ الكبِيرَةُ أَسْرابًا (جَماعاتٍ)؛ لتَشهَدَ ذلكَ التَّمْرِينَ، وَأُعْجِبَتْ بِما أظْهرَتْهُ تِلكَ الصَّغيراتُ منَ الحِذْقِ والبَراعةِ والذَّكاءِ. على أنَّ إحْدى هذه الضَّفادِعِ، واسْمُها «القُرَّةُ»، قَفَزَتْ — بِلَا تَبَصُّرٍ — قَفْزَةً عاليَةً؛ فَهوَتْ على أَنْفِها، فَتَهشَّمَ وتَحَطَّمَ. وما زالَتْ «دابَّةُ النهرِ» تُعَلِّمُ ذَرارِيَّها (أَوْلادَها): كيْفَ تَبْتَلِعُ الحَشَرَاتِ والخَنافِسَ التي تُصادِفُها في طريقِها، وَكيْفَ تَصْطادُ أَسْرابَ الذُّباب (جَماعاتِهِ) الرَّاقِصَةَ حَوْلَ الغَدِيرِ، وهوَ أشْهى طَعامٍ تَرْتاحُ إلَيهِ الضَّفادِعُ. وما تَذَوَّقَتْهُ صِغارُهَا حَتى آثَرَتْهُ (اخْتارَتْهُ وَفَضَّلَتْه) على كلِّ شَيْءٍ ولمْ تَرْضَ بِه بَدِيلًا. وَاعْتزَمَتْ «أُمُّ هُبَيْرَةَ» أن تُعَلِّمَ صِغارَها: كيْفَ تَنِقُّ (كيف تَصِيح)، وَكيْفَ تُنَقْنِقُ (كيْفَ تُصَوِّتُ صَوْتًا يَفْصِلُ بَيْنَهُ مَدٌّ وتَرْجِيعٌ)، وَكيْفَ تُنْشِدُ أَجْمَلَ الْأَناشِيدِ، وَتُغَنِّي أحْسنَ الْأَغانِيِّ الْمُسْتفِيضَةِ الشُّهْرَةِ بَيْنَ الضَّفادِعِ؟ وَكانَ صَوْتُها أَبَحَّ (فيهِ بُحَّةٌ وخُشُونَهُ وَغِلَظٌ) شَأْنُ أُمَّاتِ الضَّفادِعِ دائمًا؛ فلَمْ تَرَ بُدًّا مِنْ أَنْ تُوصِيَ شَيْخَ الضَّفَادِعِ أنْ يُلَقِّنَهُنَّ المُوسيقَى بِصَوْتِهِ الْجمِيلِ. وَكانتْ هذه الْأَبْناءُ تُقبلُ على دُروسِها في جِدٍّ واجْتهادٍ وَحَماسةٍ، فَإذا انْتَهتْ منْ حِفْظِ التَّمريناتِ الْمُوسيقِيَّةِ، انْتَقَلتْ إِلى التَّدَرُّبِ على إلْقاء الأغاني الشَّعْبِيَّةِ الذَّائعَةِ بَيْنَ الضَّفادِعِ. وكانتِ الضَّفادِي (الضَّفادعُ) تُنَظِّمُ صُفوفَها عَلَى شاطِئِ الغَدِيرِ، حَيْثُ تَقِْضي السَّاعاتِ الطِّوالَ، وَهيَ لا تَكِلُّ ولا تَنِي (لا تَضعُفُ هِمَّتُها ولا يَفْتُرُ عَزْمُها) عنْ موَاصَلةِ النَّقيقِ. ومَتى تَأَلَّقَتْ (أضاءَتْ ولمَعتْ) كواكِبُ السماءِ، رَأَيتَ صِغارَ الضفادعِ جاثماتٍ (مُقِيماتٍ) عَلَى أَوْراقِ «النِّيلُوفَرِ»، حَيثُ تَقُصُّ علَى العالَمِ أَحْلامَ سَعادتِها. ولا تزالُ تُحَيِّي مصابيحَ السَّماء (نُجومَها) بِأناشيدِها حتى تَسْتسلِمَ إلى رُقادِها الهَنِيِّ في أمْنٍ وسَلامٍ. وهكذا عاشَتْ «دابَّةُ النهْرِ» هانِئَةً وَسْطَ أُسرَتِها الْجَميلةِ، وعاشَ — إلَى جانبِها — صديقُها الوَفِىُّ المُخْلِصُ: «أبو بُرَيْصٍ»، يُقاسِمُها السَّعادةَ والهنَاءَ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/86837528/
شمشون الجبار
كامل كيلاني
تحكي عن قوه شمشون وغيرة السلطان منه وكيف أقنع دليلة بالقضاء على شمشون.
https://www.hindawi.org/books/86837528/1/
شمشون الجبار
«شَمْشُونُ» رَجُلٌ قَوِيٌّ شُجاعٌ. «شَمْشُونُ» تَخافُ مِنْهُ الرِّجالُ والسِّباعُ. ثَوْرٌ مُتَوَحِّشٌ هَجَمَ عَلَى النَّاسِ. النَّاسُ خافُوا مِنَ الثَّوْرِ، هَرَبُوا. «شَمْشُونُ» لَوَى رَقَبَةَ الثَّوْرِ، غَلَبَهُ. «شَمْشُونُ» أَقْوَى مِنَ الثَّوْرِ الْمُتَوَحِّشِ. نِمْرٌ مُفْتَرِسٌ جَاءَ مِنَ الْغابَةِ. النِّمْرُ نَطَّ عَلَى كَتِفِ «شَمْشُونَ». جاءَ يَصْطادُ، صادَهُ «شَمْشُونُ». اَلْكَرْكَدَّنُ أَبُو قَرْنٍ جاءَ مِنَ الْغابَةِ. «شَمْشُونُ» نَطَّ عَلَى ظَهْرِ الْكَرْكَدنِ. «شَمْشُونُ» لَوَى رَقَبَةَ الْكَرْكَدَّنِ، وَقَّعَهُ. «دَلِيلَةُ» صَاحِبَةُ «شَمْشُونَ»، «جَمِيلَةُ» أُخْتُها. «جَمِيلَةُ» دَخَلَتِ الْغابَةَ، سَمِعَتْ صَوْتَ الْأَسَدِ. «جَمِيلَةُ» طَلَعَتْ فَوْقَ شَجَرَةٍ عالِيَةٍ. «شَمْشُونُ» سَمِعَ صَوْتَ الْأَسَدِ، خافَ عَلَى «جَمِيلَةَ». «شَمْشُونُ» هَجَمَ عَلَى الْأَسَدِ، مَسَكَهُ. «جَمِيلَةُ» انْبَسَطَتْ لَمَّا شافَتْ «شَمْشُونَ». «جَمِيلَةُ» فَرِحَتْ بِنَجاتِها مِنَ الْأَسَدِ. «جَمِيلَةُ» رَكِبَتِ الْأَسَدَ، وَهِيَ فَرْحانَةٌ. رَجَعَتْ إِلَى الْبَيْتِ، حَكَتْ لِأُخْتِها «دَلِيلَةَ». «دَلِيلَةُ» شَكَرَتْ «شَمْشُونَ» عَلَى مَعْرُوفِهِ. «جَمِيلَةُ» قالَتْ: «لا نَنْسَى جَمِيلَ «شَمْشُونَ».» «شَمْشُونُ» قالَ: «عَمِلْتُ الْواجِبَ عَلَيَّ.» ••• السُّلْطانُ يَكْرَهُ «شَمْشُونَ»، يَحْسُدُهُ. السُّلْطَانُ يُرِيدُ التَّخَلُّصَ مِنْ «شَمْشُونَ». الْوَزِيرُ قالَ: «بِالْحِيلَةِ نَغْلِبُ «شَمْشُونَ». «دَلِيلَةُ» الْمَكَّارَةُ نَسْتَعِينُ بِها عَلَى «شَمْشُونَ». حِيلَةُ الْمَكَّارِ، تَغْلِبُ قُوَّةَ الْجَبَّارِ.» السُّلْطانُ قالَ لِلْوَزِيرِ: «هَاتِ لِي «دَلِيلَةَ».» «دَلِيلَةُ» جاءَتْ إِلَى السُّلْطانِ، راكِبَةً نَعَامَةً. السُّلْطانُ قالَ «لِدَلِيلَةَ»: «حَمْدُ اللهِ عَلَى السَّلامَةِ. هاتِي لِي «شَمْشُونَ» بِأَيِّ وَسِيلَةٍ. الْقُوَّةُ لا يَغْلِبُها إِلاَّ الْحِيلَةُ. قُوَّةُ «شَمْشُونَ» تَغْلِبُها حِيلَةُ «دَلِيلَةَ».» «دَلِيلَةُ» قالَتْ: «كَلامُكَ مَعْقُولٌ، رَأْيُكَ مَقْبُولٌ.» «دَلِيلَةُ» رَبَطَتْ «شَمْشُونَ» بِحَبْلٍ، وَهُوَ نائِمٌ. «شَمْشُونُ» صَحِيَ مِنْ نَوْمِهِ، وَهُوَ مَرْبُوطٌ. «شَمْشُونُ» فَتَحَ ذِراعَهُ، قَطَعَ الْحَبْلَ. «شَمْشُونُ» بَصَّ «لِدَلِيلَةَ»، وَهُوَ مُتَعَجِّبٌ. «دَلِيلَةُ» قالَتْ: «أَنا فَرْحانَةٌ بِكَ. امْتَحَنْتُ قُوَّتَكَ، لَقِيتُكَ أَقْوَى مِنَ الْحَبْلِ.» «دَلِيلَةُ» قالَتْ لِلْحَدَّادِ: «اعْمَلْ لِي سِلْسِلَةَ حَدِيدٍ.» الْحَدَّادُ عَمِلَ سِلْسِلَةً جامِدَةً لا تَنْكَسِرُ. «دَلِيلَةُ» صَبَرَتْ عَلَى «شَمْشُونَ» حَتَّى نامَ. «دَلِيلَةُ» رَبَطَتْ «شَمْشُونَ» بِالسِّلْسِلَةِ الْحَدِيدِ. «دَلِيلَةُ» قالَتْ: «أَنا غَلَبْتُ «شَمْشُونَ». «شَمْشُونُ» لا يَقْوَى عَلَى كَسْرِ الْحَدِيدِ.» «شَمْشُونُ» صَحِيَ مِنْ نَوْمِهِ ساعَةَ الصُّبْحِ. فَتَحَ ذِراعَهُ، كَسَرَ السِّلْسِلَةَ الْحَدِيدَ. «شَمْشُونُ» سَأَلَ «دَلِيلَةَ»: «أَنْتِ قَيَّدْتِنِي بِالسِّلْسِلَةِ؟» «دَلِيلَةُ» قالَتْ: «أَرَدْتُ أَنْ أَعْرِفَ قُوَّتَكَ. كَتَّفْتُكَ بِالْحَبْلِ قَطَعْتَهُ، قَيَّدْتُكَ بِالْحَدِيدِ كَسَرْتَهُ. أَنْتَ أَجْمَدُ مِنَ الْحِبالِ والْحَدِيدِ يا «شَمْشُونُ».» «شَمْشُونُ» وَ«دَلِيلَةُ» فِي مَرْكَبَةٍ يَجُرُّها ثَوْرانِ. «دَلِيلَةُ» فَرْحانَةٌ، وَ«شَمْشُونُ» فَرْحانٌ. «دَلِيلَةُ» قالَتْ «لِشَمْشُونَ»، وَهُما راجِعانِ: «أَنْتَ يا «شَمْشُونُ» أَقْوَى مِنَ الْأُسُودِ والثِّيرانِ! أَنْتَ أَقْوَى الْأَقْوِياءِ، أَنْتَ أَشْجَعُ الشُّجْعانِ! مِنْ أَيْنَ جاءَتْكَ الْقُوَّةُ يا فارِسَ الزَّمانِ؟» «شَمْشُونُ» انْخَدَعَ بِكَلامِ «دَلِيلَةَ» الْمَكَّارَةِ. «شَمْشُونُ» قالَ: «شَعْرِي سَبَبُ قُوَّتِي، سِرُّ شَجاعَتِي. شَعْرُ «شَمْشُونَ» أَقْوَى مِنْ «شَمْشُونَ». «شَمْشُونُ» مِنْ غَيْرِ شَعْرِهِ أَضْعَفُ إِنْسانٍ.» «دَلِيلَةُ» اسْتَأْنَتْ، حَتَّى نامَ «شَمْشُونُ». «دَلِيلَةُ» قَيَّدَتْ «شَمْشُونَ» بِشَعْرِهِ، وَهُوَ نائِمٌ. «شَمْشُونُ» صَحِيَ، وَهُوَ مُكَتَّفٌ بِشَعْرِهِ. «شَمْشُونُ» عَرَفَ أَنَّ «دَلِيلَةَ» غَدَرَتْ بِهِ. «شَمْشُونَ» لا يَقْدِرُ أَنْ يَفُكَّ نَفْسَهُ. «دَلِيلَةُ» فَرِحَتْ، لَمَّا تَغَلَّبتْ عَلَى «شَمْشُونَ». «دَلِيلَةُ» أَخْبَرَتِ السُّلْطانَ أَنَّها قَيَّدَتْ «شَمْشُونَ». السُّلْطانُ فَرِحَ، أَمَرَ بِحَبْسِ «شَمْشُونَ». «جَمِيلَةُ» عَرَفَتْ ما عَمِلَتْهُ أُخْتُها «دَلِيلَةُ». «جَمِيلَةُ» لا تَنْسَى مَعْرُوفَ «شَمْشُونَ» مَعَها. «شَمْشُونُ» خَلَّصَ «جَمِيلَةَ» مِنَ الْأَسَدِ. «جَمِيلَةُ» قالَتْ: «أَنا أُخَلِّصُ «شَمْشُونَ» مِنَ الْحَبْسِ.» «جَمِيلَةُ» أَسْرَعَتْ إِلَيْهِ بِاللَّيْلِ، والسَّجَّانُ نائِمٌ. «جَمِيلَةُ» حَلَّتْ شَعْرَ «شَمْشُونَ». «شَمْشُونُ» خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ إِلَى قَصْرِ السُّلْطانِ. سَمِعَ كَلامَ «دَلِيلَةَ» والْوَزِيرِ مَعَ السُّلْطانِ. السُّلْطانُ قالَ: «نَقْتُلُ «شَمْشُونَ»، وَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ.» الْوَزِيرُ قالَ: «نُعَلِّقُهُ بَدَلَ الثَّوْرِ فِي الطَّاحُونِ.» «دَلِيلَةُ» قالَتْ: «قُصُّوا شَعْرَهُ، تَأْمَنُوا شَرَّهُ.» السُّلْطانُ قالَ: «رَأْيُ «دَلِيلَةَ» أَحْسَنُ رَأْيٍ.» «شَمْشُونُ» خَدَعَتْهُ الْحِيلَةُ. غَلَبَهُ مَكْرُ «دَلِيلَةَ». سِرُّ قُوَّتِهِ فِي شَعْرِهِ، لِماذا باحَ بِسِرِّهِ؟ شافَ أَعْداءَهُ ناوِينَ الشَّرَّ لَهُ. اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، أَرادَ الِانْتِقامَ. الْعاقِلُ لا يَجْعَلُ الْغَضَبَ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ. «شَمْشُونُ» قَوِيٌّ بِشَعْرِهِ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ بِعَقْلِهِ. السُّلْطانُ والْوَزِيرُ وَ«دَلِيلَةُ» خائِفُونَ، أَمامَ «شَمْشُونَ». كُلُّهُمْ لا يَتَحَرَّكُونَ، لا يَنْطِقُونَ. اشْتَدَّ غَيْظُهُ مِنْهُمْ، أَصابَهُ جُنُونٌ. مِسْكِينٌ «شَمْشُونُ»، مَساكِينُ أَعْداءُ «شَمْشُونَ». زَحْزَحَ أَعْمِدَةَ الْقَصْرِ بِيَدَيْهِ، هَدَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ. ماتَ أَعْداءُ «شَمْشُونَ»، وَماتَ مَعَهُمْ «شَمْشُونُ».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/73824096/
شَهْرَزَادُ بِنْتُ الْوَزِيرِ
كامل كيلاني
تدور أحداث القصة حول ملك عادل منصف يحمي رعيته، ولكنه يتفاجأ بخيانة زوجته فيقرر الانتقام منها، ولشدة صدمته عاش في الأوهام وقرر الانتقام من كل بني جنسها من النساء، إلى أن يلتقي بشهرزاد بنت الوزير التي أسرته بسعة اطلاعها وحسن حديثها فتغير الملك من حال إلى حال.
https://www.hindawi.org/books/73824096/1/
شَهْرَزَادُ بِنْتُ الْوَزِيرِ
كانَ الْمَلِكُ «شَهْرَيَارُ» أَعْظَمَ مُلُوكِ عَصْرِهِ شَأْنًا، وَأَعَزَّهُمْ سُلْطانًا. وَقَدْ حَكَمَ شَعْبَهَ — فِي أَوَّلِ عَهْدِهِ — حُكْمًا أَسَاسُهُ الْعَدْلُ؛ فَأَمَّنَ الْخَائِفَ، وَانْتَصَفَ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، وَسَهِرَ عَلَى رَاحَةِ الشَّعْبِ، وَشَجَّعَ الْعِلْمَ والْعُلَماءَ، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي إِسْعَادِ شَعْبِهِ؛ حَتَّى أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقَبَ: «حَارِس الْعَدالَةِ». أَمَّا زَوْجَتُهُ «بَهْرَمَةُ»، فَكانَتْ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ تَجْمَعُ بَيْنَ الْغَدْرِ وَالْخِداعِ، وَلُؤْمِ الطِّبَاعِ. وَلَمْ يَكُنْ يَعْدِلُ جَمالَ هَيْئَتِها، وَحُسْنَ صُورَتِها، إِلَّا قَبُحُ سَرِيرَتِها (خُبْثُ نِيَّتِها)، وَسُوءُ سِيرَتِها. وَقَدْ سُمِّيَتْ «بَهْرَمَةَ»، وَمَعْناها: «زَهْرَةُ الْوَرْدِ»، أَوْ «جَمَالُ الزَّهْرِ». وَلَوْ أَنْصَفُوا لَسَمَّوْها: «شَوْكَ الْوَرْدِ» أَوْ «زَهْرَةَ الشَّرِّ». فَقَدْ أَبَى عَلَيْها لُؤْمُ طَبْعِها، إِلَّا أَنْ تَغْدِرَ بِزَوْجِها. وَلَمْ يَكَدْ «شَهْرِيارُ» يَتَعَرَّفُ حَقِيقَتَها، وَيَطَّلِعُ عَلَى سِرِّها، حَتَّى أَذْهَلَتْهُ الْمُفَاجَأَةُ؛ فَتَمَلَّكَهُ الْغَيْظُ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْحُزْنُ، حَتَّى كَادَا يُسْلِمَانِهِ إِلَى الْجُنُونِ. فَانْقَلَبَ شَخْصًا آخَرَ، عَلَى الضِّدِّ مِمَّا كانَ، وَتَحَوَّلَتْ وَدَاعَتُهُ شَراسَةً، وَحِكْمَتُهُ جَهْلًا، وَحِلْمُهُ طَيْشًا، وَعَدْلُهُ ظُلْمًا، وَرَحْمَتُهُ قَسَاوَةً، وَذَكَاؤُهُ غَباوَةً. وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْوَهْمُ، فَخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّ النِّسَاءَ كُلَّهُنَّ، مِثْلُ «بَهْرَمَةَ»: غَادِرَاتٌ، لَا عَهْدَ لَهُنَّ، وَلا وَفاءَ. وَنَسِيَ أَنَّ طَبائِعَ النَّاسِ — رِجالًا وَنِسَاءً — تَخْتَلِفُ: فَمِنْهُمُ الطَّيِّبُ وَالْخَبِيثُ، وَالْوَفِيُّ وَالْغَادِرُ، وَالْأَمِينُ وَالْخَائِنُ، وَالْخَيِّرُ وَالشِّرِّيرُ، وَالرَّحِيمُ وَالْقاسِي. فَلَمْ يَكْتَفِ «شَهْرِيارُ» بِقَتْلِ «بَهْرَمَةَ»، بَلْ عَزَمَ عَلَى الِانْتِقامِ مِنْ بَناتِ جِنْسِها وَمُؤَاخَذَتِهِنَّ بِذَنْبِهَا، فَأَمَرَ وَزِيرَهُ «آزَادَ» أَنْ يَخْتارَ لَهُ — كُلَّ يَوْمٍ — فَتاةً مِنْ حِسانِ الْمَدِيْنَةِ، يَتَزَوَّجُهَا لَيْلَةً: لَيْلَةً وَاحِدَةً لا تُثَنَّى. فَإِذا طَلَعَ الصُّبْحُ أَمَرَ «آزادَ» بِقَتْلِها؛ لِيَنْجُوَ مِنْ غَدْرِها، وَيَأْمَنَ مِنْ مَكْرِها. وَقَدْ أَصْبَحَ لَهُ ذَلِكَ الْقانُوْنُ الْجَائِرُ شَرِيعَةً لَا يَحِيدُ عَنْها، وَلا يَتَسَمَّحُ فِي مُخَالَفَتِهَا. فَلا غَرْوَ إِذا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَهْلِينَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، وَتَمَلَّكَهُمُ الرُّعْبُ وَالْهَلَعُ. وَلَا عَجَبَ إِذا أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقَبَ: «غُولِ النِّسَاءِ»، بَعْدَ أَنْ كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ لَقَبَ: «حَارِسِ الْعَدالَةِ.» وَرَجَعَ الْوَزِيرُ «آزادُ» إِلَىَ بَيْتِهِ — ذَاتَ لَيْلَةٍ — مَحْزُونًا مَهْمُوْمًا، لَا يَدْرِي كَيْفَ يَصْنَعُ مَعَ ذَلِكَ الظَّالِمِ الْمَخْبُولِ. وَكانَ لِـ«آزادَ» بِنْتانِ جَمِيلَتانِ، كِلْتاهُما مَعْرُوفَةٌ بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَكَرِيِمِ الْخِصَالِ. اسْمُ الْكُبْرَى: «شَهْرَزادُ»، وَاسْمُ الصُّغْرَى: «دِينارَزَادُ». وَكَانَتْ «شَهْرَزادُ» تَجْمَعُ بَيْنَ الشَّجَاعَةِ وَالْأَلْمَعِيَّةِ وَحُبِّ الْخَيْرِ. وَقَدْ طَهَّرَ اللهُ قَلْبَها مِنَ الْأَنَانِيَّةِ، وَمَيَّزَها — فِيْما مَيَّزَها مِنْ شَرِيْفِ الْخِلالِ — بِالْإِيثارِ، فَلَمْ تُقَصِّرْ فِي مُعَاوَنَةِ الْبائِسِيِنَ، وَدَفْعِ الْأَذَى عَنِ الْمَظْلُومِينَ. وَكَانَتْ — إِلَى ذَلِكَ — مَشْغُوفَةً بِالْقِرَاءَةِ وَالدَّرْسِ، دَائِبَةَ الِاطِّلاعِ عَلَى كُتُبِ التَّارِيخِ وَالْأَدَبِ، دَائِمَة الْبَحْثِ وَالتَّنْقِيبِ فِي سِيَرِ الْمَاضِينَ، وَأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ، فَلَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُها مِنْ نَفَائِسِ الْكُتُبِ، إِلَّا جَلَبَتْهُ إِلَى قَصْرِها، وَحَفِظَتْ رَوَائِعَهُ فِي صَدْرِها. فَلَمَّا رَأَتْ أَبَاها مُسْتَسلِمًا لِهَواجِسِهِ وَأَشْجَانِهِ، مُسْتَغْرِقًا فِي هُمُومِهِ وَأَحْزَانِهِ، اقْتَرَبَتْ مِنْهُ مُستَعْطِفَةً، وَسَأَلَتْهُ مُتَلَطِّفةً، لِتَعْرِف ما حَزَنَهُ وَغَمَّهُ، وَأَقْلَقَ بَالَهُ وَأَهَمَّهُ. فَرَوَى الْوَزِيرُ لِبِنْتِهِ قِصَّةَ «شَهْرِيارَ» وَكَيْفَ ساءَ طَبْعُهُ، وَتَغَيَّرَتْ حَالُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ إِلَى الْقَسْوَةِ؛ فَراحَ يَفْجَعُ النَّاسَ فِي بَنَاتِهِنَّ، وَيَقْتُلُ زَوْجَاتِهِ فِي كُلِّ صَباحٍ، فَلا تَكَادُ تُشْرِقُ شَمْسُ يَوْمِهِ، حَتَّى تَغْرُبَ مَعَها شَمْسُ حَيَاةِ زَوْجَتِهِ، دُونَ أَنْ تَأْخُذَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ رَحْمَةٌ وَلا شَفَقَةٌ. فَسَأَلَتْهُ «شَهْرَزادُ» مُتَعَجِّبَةً: كَيْفَ يَكُونُ هذا؟ وَمَا فَائِدَةُ الْعَقْلِ إِذا لَمْ يُنْقِذْ بَنِي الْإِنْسانِ، وَيُخَلِّصْهُمْ مِنْ صُنُوْفِ الضَّيْمِ وَالْهَوَانِ؟ أَلَيْسَ فِي الدَّوْلَةِ كُلِّها حَكِيمٌ شُجاعٌ يَبْذُلُ لَهُ النَّصْحَ، لَعَلَّهُ يَكُفُّ عَنْ هَذَيانِهِ، وَيُقْلِعُ عَنْ طُغْيَانِهِ؟ فَقالَ «آزادُ»: «لَيْسَ فِي الدُّنْيا كُلِّها مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى نُصْحِ هذا الثَّائِرِ الْمَخْبُولِ.» فَقالَتْ «شَهْرَزادُ»: «إِذا اجْتَمَعَ الرَّأْيُ وَالشَّجَاعَةُ لِكَائِنٍ كَانَ، تَيَسَّرَ لَهُ الصَّعْبُ وَهانَ.» فَقالَ لَها مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ لَقَدْ عَجَزَ حُكَمَاءُ الدَّوْلَةِ ومُفَكِّرُوها عَنْ مُعَالَجَةِ أَمْرِهِ!» فَقالَتْ «شَهْرَزادُ»: «لَوْ أَذِنْتَ لِي — يا أَبِي — فِي لِقَائِهِ، لَعَرَفْتُ كَيْفَ أَرْجِعُه إِلَى الصَّوَابِ، وَأَسْتَعِيدُ مَا فَقَدَهُ مِن الثِّقَةِ بِبَناتِ جِنسِي، وَأَكُفُّ عَنْهُنَّ شَرَّهُ وَأَذاهُ طُولَ الْحَياةِ.» فَصَرَخَ الْوَزِيرُ مُفْزَّعًا مِنْ شَنَاعَةِ مَا سَمِعَ، وَقالَ: «أَيَّ هَذَيانٍ تَنْطِقِينَ؟ وَبِأَيِّ عَقْلٍ تُفَكِّرينَ؟ وَعَلَى أَيِّ هَوْلٍ تُقْدِمِينَ؟ لَقَدْ كُنْتِ — حَتَّى قُبَيْلَ هذِهِ اللَّحْظَةِ — مِثالَ التَّعَقُّلِ وَالْحِكْمَةِ. فَما بَالُ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ تَسْتَوْلِيانِ عَلَيْكِ، وتُطَوِّحَانِ بِكِ فِي مَطاوِحِ الْهَلاكِ؟» فَقالَتْ لَهُ مُتَوَدِّدَةً بَاسِمَةً: «أَتُرَى — يَا أَبَتاهُ — أَنَّ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْغَفْلَةِ أَنْ يَبْذُلَ الْقادِرُ جُهْدَهُ فِي مُسَاعَدَةِ الْعَاجِزِ؟ أَلَيْس مِنْ وَاجِبِ السَّابِحِ الْمَاهِرِ أَنْ يُنْقِذَ الْمِشْرِفَ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَوْ عَرَّضَ حَيَاتَهُ لِلتَّلَفِ؟ أَلَيْسَ مِنْ وَاجِبِ الطَّبِيبِ أَنْ يُكَافِحَ الطَّاعُونَ وَالْوَبَأَ، دُونَ أَنْ يَثْنِيَهُ (يَرْجِعَهُ) عَنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنَ الْمَخَاطِرِ؟ أَلَيْسَ مِنْ وَاجِبِ الْجُنْدِيِّ أَنْ يُجَابِهَ (يُوَاجِهَ) الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ بِلادِهِ؟ فَما بَالِي أَحْرِصُ عَلَى الْحَيَاةِ؟ وَكَيْفَ أُحْجِمُ عَنْ دَفْعِ الْأَذَى عَنْ بَنَاتِ جِنْسِي، وَأَنا قادِرَةٌ عَلَى إِنْقاذِهِنَّ؟ أَلَمْ تَقُلْ لِي مِنْ قَبْلُ: «إِنَّ اللهَ فِي عَوْنِ الْإِنْسانِ، ما دامَ الْإِنْسَانُ فِي عَوْنِ غَيْرِهِ؟» فَقَالَ لَها الْوَزِيرُ: «ما أَبْلَغَ حُجَّتَكِ، وَأَعْظَمَ شَجاعَتَكِ! وَلكِنَّ أَخْوَفَ ما أَخَافُهُ عَلَيْكِ، أَنْ يُصِيبَكِ ما أَصابَ الْحِمَارَ حِينَ تَصَدَّى لِإِنْقاذِ صَاحِبِهِ الثَّوْرِ، فَجُوزِيَ عَلَى صَنِيعِهِ شَرَّ الْجَزَاءِ.» فَقَالَتْ لَهُ مُتَعَجِّبَةً: «ما سَمِعْتُ بِهذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَبْلُ! وَما أَشْوَقَنِي إِلَى سَماعِها!» فَقَالَ «آزادُ»: «عَاشَ فِي قَدِيِمِ الزَّمانِ تَاجِرٌ مِنْ أَغْنِيَاءِ الرِّيفِ، اسْمُهُ: «عَمَّارٌ»، عَلَّمَهُ صَاحِبٌ لَهُ مِنَ الْجِنِّ لُغَةَ الْحَيَوَانِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ يَكْتُمَ سِرَّهُ فَلا يَبُوحَ بِهِ لِكَائِنٍ كانَ، وَأَنْذَرَهُ بِالْهَلاكِ إِذَا خَالَفَ ما عاهَدَهُ عَلَيْهِ.» وَمَرَّ «عَمَّارٌ» — ذاتَ يَوْمٍ — فِي دَسْكَرَتِهِ، عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ حِمَارٍ وَثَوْرٍ. فَسَمِعَ الثَّوْرَ يَقُولُ لِلْحِمَارِ شَاكِيًا مُتَأَلِّمًا: «ما أَهْنَأَ بَالَكَ يَا عَزِيزِي، وَأَسْعَدَ عَيْشَكَ، وَأَقَلَّ تَعَبَكَ! لَقَدِ اجْتَمَعَ لَكَ كُلُّ ما شِئْتَ مِنْ أَسْبابِ الرَّاحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. فَعِنْدكَ خادِمٌ يَرْعاكَ لَيْلَ نَهارَ، وَلَا يُقَصِّرُ فِي نَظَافَتِكَ وَخِدْمَتِكَ وَجَلْبِ مَا تُحِبُّ؛ مِنْ ماءٍ عَذْبٍ، وَطَعامٍ سائِغٍ. لا يُقَدَّمُ لَكَ الشَّعِيرُ وَالْفُولُ وَالتِّبْنُ إِلَّا مُغَرْبَلًا مُنَقًّى. وَلَيْسَ لَكَ مِنْ عَمَلٍ تُؤَدِّيهِ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ تَحْمِلَ التَّاجِرَ إِذَا أَرادَ النُّزْهَةَ. أَمَّا أَنا، فَأَلْقَى مِنْ جالِباتِ التَّعاسَةِ وَمُنَغِّصاتِ الشَّقَاءِ، عَكْسَ ما تَلْقَاهُ أَنْتَ مِنْ جَالِباتِ الطُّمَأْنِينَةِ وَأَسْبابِ الْهَناءِ. شَدَّ مَا اخْتَلَفَ الْقِسْمُ! وَشَتَّانَ بَيْنَ حَالَيْنا! فَأَنْتَ تَنامُ وَتَصْحُو كَما تَشاءُ! أَمَّا أَنا فَلا يَكادُ الْفَجْرُ يَطْلُعُ حَتَّى يُوْقِظَنِي الزَّارِعُ لِجَرِّ المِحْراثِ، وَإِدارَةِ السَّاقِيَةِ أَوِ الطَّاحُونَةِ، وَما إِلَى ذَلِكَ مِنْ مُرْهِقِ الْأَعْمالِ. فَإِذا انْقَضَى الْيَوْمُ رَجَعَتُ إِلَى الْإِصْطَبْلِ، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ الْغِذَاءِ مَا يَكْفِيْنِي. وَغِذَائِي — عَلَى قِلَّتِهِ — غَيرُ مَعْنِيٍّ بِنَظافَتِهِ؛ لَا يُغَرْبِلُهُ أَحَدٌ، وَلَا يُنَقِّيهِ مِمَّا عَلِقَ بِهِ مِنَ التُّرابِ وَالْمَدَرِ (قِطَعِ الطِّينِ اليَابِسِ).» وَسَكَتَ «آزادُ» قَلِيلًا. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى «شَهْرَزادَ» مُسْتَأْنِفًا حَدِيثَهُ، قالَ: «وَهنا تَأَلَّمَ الْحِمارُ لِصَاحِبِهِ — كَمَا تَأَلَّمْتِ أَنْتِ لصَوَاحِبِكِ — وَقالَ لِلثَّوْرِ مَحْزُوْنًا: «شَدَّ ما حَزَنَتْنِي شَكْواكَ، وَإِنْ كُنْتُ لا أُعْفِيكَ مِنَ اللَّوْمِ، عَلَى رِضَائِكَ بِالْهَوانِ وَالضَّيْمِ، بِرَغْمِ ما وَهَبَ اللهُ لَكَ مِنْ بَسْطَةٍ فِي جِسْمِكَ، وَوَفْرَةٍ فِي قُوَّتِكَ. وَلَوْ شِئْتَ الرَّاحَةَ لَما عَزَّتْ عَلَيْكَ، وَلَنْ تُعْوِزَكَ الْحِيلَةُ إِذا أَرَدْتَ الْخَلاصَ. وَماذا عَلَيْكَ إِذا دَعَوْكَ إِلَى جَرِّ الْمِحْراثِ، فَتَصَنَّعْتَ الْمَرَضَ، وَتَظاهَرْتَ بِالضَّعْفِ، فَأَلْقَيْتَ بِجِسْمِكَ عَلَى الْأَرْضِ، كَأَنَّكَ خَائِرُ الْقُوَى، لا قُدْرَةَ لَكَ عَلَى الْعَمَلِ؟ وَماذا يَضِيرُكَ إِذا تَظاهَرْتَ بِالْجُنُونِ، وَرُحْتُ تَقْفِزُ ثَائِرًا، ضَارِبًا الْأَرْضَ بِأَرْجُلِكَ؟ وَهَيْهاتَ أَنْ يُرْغِمُوكَ عَلَى الْعَمَلِ، فِي كِلْتَا الْحالَيْنِ، مَهْما يَبْذُلُوا مِنْ جُهُودٍ». فَشَكَرَ الثَّوْرُ لِلْحِمَارِ نَصِيحَتَهُ. وَعاد «عَمَّارٌ» إِلَى دَارِهِ مُتَعَجِّبًا مِمَّا سَمِعَ. ثُمَّ جاءَ الزَّارِعُ فِي صَباحِ الْيَوْمِ التَّالِي، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بِعَجْزِ الثَّوْرِ عَنِ الْعَمَلِ لِمَرَضِهِ، فَأَدْرَكَ التَّاجِرُ أَنْ الثَّوْرِ قَدِ اسْتمَعَ إِلَى نُصْحِ الْحِمَارِ. فَأَمَرَ الزَّارِعَ أَنْ يَحُلَّ الْحِمارَ مَكانَ صَاحِبِهِ فِي حَرْثِ الْأَرْضِ. فَكانَ أَشْأَمَ يَوْمٍ لَقِيَهُ الْحِمارُ فِي حَياتِهِ. وَلَمْ يَكَدِ النَّهَارُ يَنْقَضِي، حَتَّى عادَ الْحِمارُ الْمِسْكِينُ إِلَى زَرِيبَتِهِ، خَائِرَ الْعَزْمِ، مُحَطَّمَ الْأَعْصابِ، يَحْسَبُهُ مَنْ رَآهُ نِصْفَ مَيِّتٍ، أَوْ نِصْفَ حَيٍّ. وَلَمْ يَكَدِ الْحِمارُ يَعُودُ إِلَى الْإِصْطَبْلِ، حَتَّى سَأَلَ الثَّوْرَ: «كَيْفَ أَنْتَ الْيَوْمَ؟» فَأَجابَهُ رَاضِيًا مَسْرُورًا: «لَقَدْ أَرَحْتَنِي مِنْ الْعَمَلِ طُولَ الْيَوْمِ، فَمَا أَدْرِي كَيْفَ أَشْكُرُكَ عَلَى نَصِيحَتِكَ الْبارِعَةِ؟» فَسَأَلَهُ الْحِمارِ وَقَدْ تَمَلَّكَهُ الْحُزْنُ، وَاشْتَدَّ بِهِ الضِّيقُ: «فَماذا أَنْتَ صَانِعٌ غَدًا؟» فَقالَ الثَّوْرُ: «لَقَدْ رَأَيْتُ — فِي نَصِيحَتِكَ الثَّمِينَةِ — خَيْرَ وَسِيلَةٍ لِهَناءَتِي وَراحَتِي. وَلَنْ أُخالِفَ لَكَ رَأْيًا بَعْدَ الْيَوْمِ.» فَقالَ الْحِمارُ: «إِنَّ مَحَبَّتِي لَكَ تَحْتِمُ عَلَيَّ أَنْ أُبَصِّرَكَ بِمَواطِنِ الْأَخْطارِ، قَبْلَ أَنْ تَتَعَرَّضَ لَها، فَقَدْ آذَيْتُكَ مِنْ حَيْثُ أَرَدْتُ أَنْ أَنْفَعَكَ!» فَسَأَلَهُ الثَّوْرُ مُتَعَجِّبًا: «كَيْفَ تَقُولُ آذَيْتَنِي؟ لَقَدْ أَرَحْتَنِي وَأَسْعَدْتَنِي!» فَقالَ الْحِمَارُ: «لَقَدْ سَمِعْتُ مَالِكنَا التَّاجِرَ، يَقُولُ لِحَارِسِنا الزَّارِعِ: «إِذا لَمْ يُشْفَ الثَّوْرُ مِنْ مَرَضِهِ غَدًا، فَاسْتَدْعِ لَهُ الْجَزَّارَ لِيَذْبَحَهُ، لِنَنْتَفِعَ بِلَحْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ فَيَمُوتَ.» فَارْتَعَبَ الثَّوْرُ مِمَّا سَمِعَ، وَأَقْبَلَ عَلَى صَاحِبِهِ يَلْتَمِسُ مِنْهُ النَّصِيْحَةَ لِلْخُرُوجِ مِنْ هَذَا الْمَأْزِقِ. فَقالَ الْحِمارُ: «الرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تَعُودَ إِلَى سَابِقِ عَهْدِكَ، فَتُقْبِلَ عَلَى الطَّعَامِ بِشَهِيَّةٍ، وَتْنشَطَ إِلَى عَمَلِكَ فِي صَباحِ الْغَدِ؛ حَتَّى تَأْمَنَ سِكِّينَةَ الْجَزَّارِ.» فَشَكَرَ الثَّوْرُ لِلْحِمَارِ نَصِيحَتَهُ، وَلَمْ يَتَرَدَّدْ فِي قَبُولِهَا. وَسَمِعَ «عَمَّارٌ» حِوَارَهُما — وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ زَوْجَتِهِ «نَوَارَ»، فَلَمْ يَتَمالَكْ أَنِ اسْتَغْرَقَ فِي الضَّحِكِ، مُتَعَجِّبًا مِنْ حِيلَةِ الْحِمارِ، وَغَفْلَةِ الثَّوْرِ. فَسَأَلَتْهُ «نَوَارُ»: «مِمَّ تَضْحَكُ يا عَمَّارُ؟» فَقالَ لَها: «ذَكَرْتُ شَيْئًا فَضَحِكْتُ.» فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي السُؤَالِ، لِيُخْبِرَها بِجَلِيَّةِ الْأَمْرِ. فَقالَ لَها: «إِنَّهُ سِرٌّ اسْتَوْدَعَنِيهِ صاحِبٌ لِي قَدِيمٌ مِن الْجِنِّ، لا يَسَعُنِي مُخالَفَتُهُ. وَقَدْ أَنْذَرَنِي بِالْهَلاكِ الْعَاجِلِ إِذا بُحْتُ بِسِرِّهِ لِأَيِّ إِنْسانٍ، أَوْ أَطْلَعْتُ عَلَيْهِ كَائِنًا كَانَ.» وَهُنَا الْتَفَتَ «آزادُ» إِلَى فَتَاتِهِ «شَهْرَزادَ»، وَهُوَ يَقُولُ: «كَانَتْ «نَوارُ» مُتَشَبِّثَةً بِرَأْيِهِا. وَلَمْ تَكُنْ أَقَلَّ مِنْكِ إِصْرارًا وَعِنادًا، فَأَبَتْ إِلّا أَنْ تُرْغِمْ «عَمَّارًا» عَلَى الْإِفْضاءِ لَها بِسِرِّهِ، مُهما تَكُنِ الْعَواقِبُ. وَاسْتَدْعَى الزَّوْجَانِ أَقارِبِهُما الْأَدْنَيْنَ، واحْتَكَما إِلَيْهِمْ، فَأَجْمَعُوا عَلَى خَطَأِ «نَوارَ». فَلَمْ تُذْعِنُ لِحُكْمِهِمْ، وَتَرَكَتْهُمْ مُغْضَبَةً حانِقَةً، وَأَقْفَلَتْ بَابَ حُجْرَتِهَا عَلَيْها. وَخَرَجَ «عَمَّار» إِلَى دَسْكَرَتِهِ، لَيُرَفِّهَ عَنْ نَفْسِهِ. وَكانَ فِي فِنائِها دِيكٌ وَخَمْسُونَ دَجاجَةً. وَكانَ يَجْلِسُ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْها كَلْبُهُ الْأَمِينُ، فَرَأَى الدِّيكَ يَنْقُرُ إِحْدَى دَجاجاتِهِ، ثَائِرًا مُغْتَاظًا. وَسَمِعَ الْكَلْبَ يَنْهَاهُ عَنْ قَسْوَتِهِ، وَيَلُومُهُ عَلَى شَرَاسَتِهِ قَائِلا: «ما أجْدَرَكَ أَنْ تَقْتَدِيَ بِأَخْلاقِ مَالِكِنا «عَمَّارٍ» الَّذِي يَتَرَفَّقُ بِنا، وَلا يَقْسُو عَلَيْنا، وَلَوْ أَسَأْنا.» فَلا يَكادُ الدِّيكُ يَسْتَمِعُ إِلَى نَصِيحَةِ الْكَلْبِ حَتَّى يَسْخَرَ مِنْهُ قَائِلًا: أَتُرِيدُنِي عَلَى أَنْ أَقْتَدِي ﺑ«عَمَّارٍ» فِي لِينِهِ وَضَعْفِهِ! أَيْنَ عَجْزُهُ مِنْ قُوَّتِي، وَاسْتِكانَتُهُ مِنْ جُرْأَتِي؟ إِنَّنِي أَسُوسُ — بِحَزْمِي — خَمْسِينَ دَجَاجَةً، لَا تَجْرُؤُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ عَلَى عِصْيَانِي. أَمَّا «عَمَّارٌ» فَيَعْجَزُ عَنْ سِيَاسَةِ «نَوارَ» وَحْدَها، وَيَقِفُ حَائِرًا مَكْتُوَفَ الْيَدَيْنِ أَمامَ حَمَاقَتِها وَعِنادِهَا، وَلا يُبَالِي أَنْ يَهْلِكَ فِي سَبِيلِ إِرْضاءِ فُضُولِها. وَلَوْ أَنَّنِي كُنْتُ مَكانَهُ، لَعَرَفْتُ كَيْفَ أُقَوِّمُ اعْوِجاجَها!» فَقالَ الْكَلْبُ: «وَماذا كُنْتَ تَصْنَعُ يا عَزِيزِي الدِّيك؟» فَقالَ الدِّيكُ: «كُنْتُ أُلْقِي عَلَيْها دَرْسًا قَاسِيًا لا تَنْسَاهُ، وَلا تُمْحَى مِنْ قَلْبِها ذِكْراه!» فَقالَ الْكَلْبُ: «فَماذا كُنْتَ صَانِعًا؟» فَقالَ الدِّيكُ: «كُنْتُ أَهْرِيها (أَضْرِبُها بِالْهِراوَةِ، وَهِيَ الْعَصا الْغَلِيظَةُ)، حَتَّى تَثُوبَ إِلَى رُشْدِها، وَتَكُفَّ عَنْ عِنادِها، وَلا تَعُودَ — بَعْدَ ذَلِكَ — إِلَى مِثْلِها.» فَقالَ الْكَلْبُ: «بِئْسَ ما رَأَيْتَ يَا صاحِبِي، إِذْ تُداوِي الْخَطَأَ بِخَطَأ مِثْلِهِ، وَتَدْفَعُ الْسَّيِّئَةَ بِسَيِّئَةٍ مِثْلهَا! إِنَّمَا يُداوَى الْخَطَأُ بِالصَّوَابِ، وَتُدْفَعُ الْإِسَاءَةُ بِالْإِحْسانِ. وَلَنْ يُعْوِزَ «عَمَّارًا» — وَهُوَ رَاجِحُ الْعَقْلِ، بِارِعُ الحِيلَةِ — أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذا الْمَأْزِقِ، دُوْنَ أَنْ يُعَرِّضَ حَيَاتِهِ لِلتَّلَفِ، أَوْ يُسِيءَ إِلَى زَوْجَتِهِ.» لَمْ يَكَدْ «عَمَّارٌ» يَسْتَمِعُ إِلَى هذا الْحِوارِ، حَتَّى لَاحَتْ لَهُ بِارِقَةٌ فِي الْخَلاصِ مِنْ وَرْطَتِهِ. فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ، فَحَيَّا «نَوارَ» وَهُوَ مُطْرِقٌ عَابِسٌ، كَأَنَّما يُفَكِّرُ فِي خَطَرٍ دَاهِمٍ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى «نَوارَ»، وَهُوَ يَقُولُ فِي لَهْجَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الْحَيْرَةِ وَالْأَسَفِ، وَتَبْعَثُ الرُّعْبَ فِي الْقُلُوبِ: «هَلُمِّي يا «نَوارَ»، لِأُطْلِعَكِ عَلَى السِّرِّ الْخَطِيرِ الَّذِي اسْتَوْدَعَنِيهِ الْجِنِّيُّ، وَنَهانِي عَنْ إِذَاعَتِهِ. هَلُمِّي وَلا تُبْطِئِي فِي إِعْدَادِ الْكَفَنِ، قَبْلَ بَدْءِ الْحَدِيْثِ؛ فَلَنْ أَلْفِظَ آَخِرَ حَرْفٍ مِنْهُ حَتَّى أَلْفِظَ آخِرَ نَفَسٍ مِنْ أَنْفاسِ الْحَياةِ مَعَهُ.» فَلَمَّا رَأَتْهُ جَادًّا فِي طَلَبِ الْكَفَنِ سَرَتِ الرِّعْدَةُ فِي جِسْمِها، وَسَأَلَتْهُ مُضْطَرِبَةً: «وَمَنِ الَّذِي يَقْتُلُكَ؟» فَقالَ: «وَهَلْ يَقْتُلُنِي غَيْرُ الْجِنِّيِّ الَّذِي اسْتَوْدَعَنِي سِرَّهُ؟» فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ «نوار» تُسَائِلُهُ مُتَحَيِّرَةً: «كَيْفَ؟ … وَهَلْ يَحْضُرُ الْجِنِّيُّ إِلَيْنا؟ وَلِماذا؟» فَأَجابَها «عَمَّارٌ»، وَقَدْ جازَتْ عَلَيْها حِيلَتُهُ: «إِنَّما يَقْتُلُنِي الْجِنِّيُّ جَزاءَ مُخَالَفَتِي عَهْدَهُ!» وَلا تَسْأَلِي عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَيْها مِنَ الْفَزَعِ حِينَ تَمَثَّلَتِ الْجِنِّيَّ قَادِمًا، وَهُوَ يَهُمُّ بِقَتْلِ زَوْجِها أَمامَها، ثُمَّ لا يَلْبَثُ أَنْ يَقْتُلَها هِيَ أَيْضًا. فَأَقْبَلَتْ «نَوارَ» عَلَى زَوْجِها «عَمَّارٍ» نَادِمَةً مُتَحَسِّرَةً، تَائِبَةً مِنْ ذَنْبِها مُسْتَغْفِرَةً، مُتَوَسِّلَةً إِلَيْهِ أَنْ يَحْتَفِظَ بُسرِّ الْجِنِّيَّ، فَلا يَبُوحَ بِهِ لِأَحَدٍ. وَلَمْ يَكَدْ «آزادُ» يَنْتَهِي مِنْ قِصَّتِهِ، حَتَّى الْتَفَتَ إِلَى «شَهْرَزادَ» قَائِلًا: «لَقَدْ بَحَثْتُ عَنْ حِيلَةٍ أُخَوِّفُكِ بِها، كَما احْتَالَ «عَمَّارٌ» عَلَى زَوْجَتِهِ، فَلَمْ أَهْتَدِ إِلَى شَيْءٍ. فَما أَنْتِ مِمَّنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْأَوْهامُ، كَمَا جازَتْ عَلَى تِلْكِ الْمَرْأَةِ الْغَافِلَةِ نَوارَ.» فَقَالَتْ «شَهْرَزادُ»: «قَرَّ عَيْنًا يا أَبَتاهُ، فَلَنْ يُصِيبَنِي مَكْرُوهٌ إِنْ شاءَ اللهُ. وَلَنْ أَكُونَ كَالْحِمارِ الَّذِي أَشْقَى نَفْسَهُ، وَعَجَزَ عَنْ إِنْقاذِ صَاحِبِهِ؛ وَلا مِثْلَ «نَوارَ» الَّتِي أَقْحَمَتْ نَفْسَها فِيما لا يَعْنِيها. إِنَّما أَكُونُ كَالْغَزالَةِ الَّتِي خَلَّصَتْ — بِحِيلَتِها — بَناتِ جِنْسِها، مِنَ الْأَسَدِ، وَأَنْقَذَتْهُنَّ مِنَ الْهَلاكِ.» فَسَأَلَهَا «آزادُ»: «وَكَيْفَ كانَ ذَلِكِ؟» فَقالَتْ «شَهْرَزادُ»: «عَاشَ فِي قَدِيمِ الزَّمانِ جَماعَةٌ مِنَ الْغِزْلانِ، فِي رَاحَةٍ وَأَمْنٍ وَاطْمِئْنَان. ثُمَّ وَفَدَ عَلَيْهِنَّ أَسَدٌ، فَأَشْقَاهُنَّ، وَنَغَّصَ عَيْشَهُنَّ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُنَّ عَلَى أَنْ يَتَوَجَّهْنَ إِلَيْهِ بِاقْتِراحٍ، إِذَا رَضِيَ بِهِ أَمَّنَهُنَّ. وَكُنَّ قَدْ أَجْمَعْنَ عَلَى أَنْ يَقْتَرِعْنَ — كُلَّ يَوْمٍ — فِيما بَيْنَهُنَّ، ثُمَّ يَبْعَثْنَ بِمَنْ تَقَعُ عَلَيْها الْقُرْعَةُ — فِي صُحْبَةِ رَسُولِ مِنْهُنَّ — لِتَكُونَ طَعامَ الْأَسَدِ طُولَ يَوْمِهِ. فَابْتَهَجَ الْأَسَدُ لِاقْتِراحِهِنَ … وَدَاوَمْنَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا. ثُمَّ وَفَدَتْ عَلَيْهِنَّ — مِنْ بَعْضِ الْوِدْيانِ الْقَرِيبَةِ — غَزالَةٌ ذَكِيَّةٌ. وَلَمَّا عَلِمَتْ قِصَّتَهُنَّ مَعَ الْأَسَدِ سَخِرَتْ مِنْهُنَّ، مُتَعَجِّبَةً مِنْ عَجْزِهِنَّ، وَسُوءِ رَأْيِهِنَّ. وَقالَتْ لَهُنَّ فِيما قَالَتْ: «لَقَدِ اسْتَوْلَى الْخَوْفُ عَلَى قُلُوبِكُنَّ، فَهَرَبْتُنَّ إِلَى الْمَوْتِ، خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ.» فَقُلْنَ لَها: «فَكَيْفَ نَتَّقِي بَطْشَ الْأَسَدِ، وَأَيُّ حِيلَةٍ تُشِيرِينَ بِها عَلَيْنا يَا أُخْتَنا الْغَزالَة، لِنَسْتَجْلِبَ رِضَاهُ، أَوْ نَكُفَّ عَنَّا أَذاهُ؟» فَقَالَتْ لَهُنَّ: «لا تَبْعَثْنَ إِلَيْهِ غَدًا بِأَحَدٍ غَيْرِي؛ لَعَلِّي أَبْلُغُ بِحِيلَتِي ما لا يَبْلُغُهُ الْأَسَدُ بِقُوَّتِهِ.» فَلَمَّا جاءَ الْغَدُ ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْغَزَالَةُ وَحْدَها مُتَباطِئَةً، فَلَمْ تَصِلْ إِلَى عَرِينِهِ (بَيْتِهِ) إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْلَّكَهُ الْغَضَبُ، وَلَوَّعَهُ الْجُوعُ. وَلَمْ يَكَدِ الْأَسَدُ يَرَاها حَتَّى سَأَلَها: «لِماذا تَأَخَّرْتِ عَنْ مَوْعِدِ الْغَداءِ؟» فَقالَتْ لَهُ: «لَقَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ — يَا مَوْلَاي — ما لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسْبانِ؛ فَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ صَوَاحِبِي بِغَزالَة مَعِي لِتَأْكُلَها. وَلَمْ أَكَدْ أَبْلُغُ مُنْتَصَفَ الطَّرِيقِ، حَتَّى لَقِيَنِي أَسَدٌ فِي مِثْلِ سَطْوَتِكَ وَقُوَّتِكَ. وَحَاوَلَ أَنْ يَغْتَصِبَ الْغَزَالَةَ مِنِّي، فَحَذَّرْتُهُ بَطْشَكَ وَانْتِقامَكَ، فَشَتمَنِي وَشَتَمَكَ، وَكَادَ يَفْتِكُ بِي، فَهَرَبْتُ إِلَيْكَ، مُسْتَنْجِدَةً بِكَ.» فَانْخَدَعَ الْأَسَدُ بِحِيلَتِهَا، وَسَأَلَهَا: «أَيْنَ مَكانُ هذا الْغَاصِبِ السَّفِيهِ؟» فَمَشَتِ الْغَزَالَةُ وَالْأَسَدُ يَتْبَعُها، حَتَّى بَلَغا عَيْنَ مَاءٍ عَمِيقَةً صَافِيَةً. وَنَظَرَ الْأَسَدُ فَرَأَى خَيَالَهُ وَخَيَالَها فِي الْماءِ، فَأَيْقَنَ صِدْقَ مَا حَدَّثَتْهُ بِهِ. وَقَفَزَ عَلَى ظِلِّهِ غَاضِبًا لِيَفْتِكَ بِصَاحِبِهِ، فَغَرِقَ فِي الْحالِ. وَنَجَتِ الْغَزَالَةُ وَصَوَاحِبُهَا، بِفَضْلِ رَجَاحَةِ عَقْلِها، وَبَرَاعَةِ حِيلَتِها. وَلَنْ يَكُوْنَ «شَهْرِيارُ» أَقْوَى صَوْلَةً مِنَ الْأَسَدِ، وَلا «شَهْرَزادُ» أَقَلَّ شَجاعَةً مِنَ الْغَزَالَةِ. وَإِذا كَانَتِ الْغَزالَةُ قَدِ اسْتَطاعَتْ أَنْ تُغْرِقَ — بِحِيلَتِها — غُولَ الْوُحُوشِ فِي الْماءِ، فَإِنِّي قَادِرَةٌ إِنْ شاءَ اللهُ عَلَى إِغْراقِ غُولِ النِّساء فِي عُبابٍ (سَيْلٍ) مِنَ السِّحْرِ، يَمْلَأُ قَلْبَهُ رَحْمَةً وَحَنَانًا، وَيُبَدِّلُهُ بِقَسْوَتِهِ وَبَطْشِهِ أَمْنًا لصَواحِبي وَاطْمِئْنَانًا. وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى فِطْنَتِكَ — يَا أَبَتِ — أَنَّ ما يُبْدِيهِ «شَهْرِيارُ» مِنْ قَسْوَةٍ وَعُنْفٍ، لَيْسَ مَرْجِعُهُ إِلَى طَبْعٍ لَئِيمٍ، بَلْ هِيَ لُوثَةٌ مِنَ الْخَبالِ الْعَارِضِ فَاجَأَتْهُ، حِينَ غَدَرَتْ بِهِ زَوْجَتُهُ وَخَانَتْهُ. وَلَوْ أَنَّهُ لَقِيَ نَاصِحًا أَمِينًا، شُجَاعًا حَكِيمًا، يَضْرِبُ لَهُ بِارِعَ الْأَمْثالِ، لَنَفَعَهُ بِنُصْحِهِ وَهِدَايَتِهِ. وَلَعَلَّهُ لَوْ عَثَرَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَفِيَّةِ الرَّاشِدَةِ لَسَكَنِ إِلَيْها، وَأَنِسَ بِها، وَعادَ سِيرَتَهُ الْأُولَى مِنْ رَحْمَةٍ وَإِحْسانٍ، وَعَدْلٍ وحَنَانٍ. وَلَنْ تَعْجِزَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَالْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ، عَنْ شِفاءِ مَرِيضِ النَّفْسِ مِنْ دَائِهِ، إِذَا وَفَّقَنِي اللهُ إِلَى تَصْوِيرِهِما لَهُ، فِي أُسْلُوبٍ قَصَصِيٍّ مُمْتِعٍ جَذَّابٍ، وَعَرْضِهِما عَلَيْهِ فِي مَعْرِضٍ بَارِعٍ أَخَّاذٍ.» وَما زالَتْ «شَهْرَزادُ» تُحاوِرُ أَباها، حَتَّى أَقْنَعتْهُ بِسَدادِ حُجَّتِها، وَصِحَّةِ رَأْيِهَا. فَذَهَبَ «آزادُ» إِلَى مَلِيِكِهِ وَرَفَعَ إِلَيْهِ رَغْبَةَ بِنْتِهِ «شَهْرَزادَ» فِي تَزَوُّجِهِ. وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الْمَلِكِ مِمَّا سَمِعَ؛ فَقَدِ الْتَفَتَ إِلَى وَزِيرِهِ مُتَحَيِّرًا، وَقالَ: «أَلَسْتَ عَارِفًا بِمَصِيرِ ابْنَتِكَ بَعْدَ الزَّوَاجِ؟ أَلا تَعْلَمُ أَنَّنِي آمِرُكَ بِقَتْلِها غَدًا، كَما أَمَرْتُكَ بِقَتْلِ غَيْرِها مِنْ قَبْلُ؟» وَدَارَ بَيْنَهُما حِوَارٌ طَوِيلٌ، انْتَهَى بِقَبُولِ الْمَلِكِ زَواجَها، بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَ أَباها بِإِهْلاكِها، كَما أَهْلَكَ مَنْ سَبَقْنَها. أَمَّا «شَهْرَزادُ» فَقَدْ فَرِحَتْ بِتَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِها، وَلَمْ تُضِعْ وَقْتَهَا؛ فَنَادَتْ «دِينارَزادَ» أُخْتَها، وَقَالَتْ لَها: «إِنِّي مُقْدِمَةٌ — يا أُخْتاهُ — عَلَى أَمْرٍ جَسِيمٍ، لِتَحْقِيقِ غَايَةٍ نَبِيلَةٍ. وَسَيَكُونُ لِي — فِي بَرَاعَتِكِ — مَخْلَصٌ مِنْ هذا الْمَأْزِقِ وَنَجاةٌ.» ثُمَّ أَفْضَتْ إِلَيْها بِدِخْلَتِها، وَأَطْلَعَتْها عَلَى تَفْصِيلِ خُطَّتِها. وَلَمْ يَكَدْ «شَهْرِيارُ» يَرَاهَا حَتَّى بَهَرَهُ جَمَالُهَا وَثَباتُها. وَلَمْ يَكَدْ يَتَحَدَّثُ إِلَيْها حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ رَجَاحَةُ عَقْلِها، وَأَصَالَة رَأْيِها، فَهَشَّ لَها وَبَشَّ. فَانْتَهَزَتِ الْفُرْصَةَ، وَقَالَتْ لَهُ: «ما أَسْعَدَنِي بِما ظَفِرْتُ بِهِ مِنْ شَرَفٍ لا يُدَانِيهِ شَرَفٌ، إِذْ أَتاحَ لِيَ الْحَظُّ السَّعِيدُ أَنْ أَمْثُلَ فِي حَضْرَةِ مَلِكِ الْمُلُوكِ! وَلَيْسَ لِي — بَعْدَ أَنْ ظَفِرْتُ بِهذا الشَّرَفِ — إِلِّا أُمْنِيَّةٌ، ما أَظُنُّ مَلِيكِي الْعَظِيمَ يَضِنُّ عَلَيَّ بِتَحْقِيقِها.» فَسَأَلَها عَمَّا تُرِيدُ، فَقَالَتْ لَهُ مُتَوَدِّدَةً: «إِنَّ لِي أُخْتًا لا أُطِيقُ فِرَاقَها. فَهَلْ يَأْذَنُ الْمَلِيكُ فِي إِحْضارِها إِلَى قَصْرِهِ لِأَنْعَمَ بِرُؤْيَتِها وَالْحَدِيثِ إِلَيْها فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ عُمْرِي؟» فَلَمْ يَتَرَدَّدِ الْمَلِكُ فِي إِجَابَةِ مُلْتَمَسِها الْهَيِّنِ الْيَسِيرِ. وَكانَتْ «شَهْرَزادُ» — كَما قُلْتُ لَكَ — قَدْ رَسَمَتْ لِأُخْتِهَا: «دِينارَزادَ» طَرِيقَ النَّجاةِ مِنْ بَطْشِ صَاحِبِها، فَأَوْصَتْها — فِيما أَوْصَتْها بِهِ — أَنْ تُوقِظَها مِنَ النَّوْمِ قُبَيْلَ الْفَجْرِ، تَسْأَلُهَا أَنْ تَقُصَّ عَلَيْها شَيْئًا مِنْ قِصَصِها الْمُمْتِعَةِ، لِتَنْعَمَ بِحَدِيثِها، فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ حَياتِها. وَلَمَّا أَشْرَفَ اللَّيْلُ عَلَى نِهايَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَّا سَاعَةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْقَظَتْ «دِينارَزادُ» أُخْتَها «شَهْرَزادَ»، وَهِي تَقُولُ: «إِذا لَمْ تَكُنْ أُخْتِي الْعَزِيزَةُ نَائِمَةً رَجَوْتُها أَنْ تَقَصَّ عَلَيَّ رَائِعَةً مِنْ قَصَصِها الشَّائِقِ الْمُبْدِعِ، الْحَبِيبِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ، قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَنِي إِلَى غَيْرِ عَوْدَةٍ، وَأُحْرَمَ — إِلَى الْأَبَدِ — سَماعَ صَوْتِها الْحَنُون.» فَأَجابَتْها «شَهْرَزادُ»: «ما أَسْعَدَنِي بِتَلْبِيَةِ رَجائِكِ — يا أُخْتَاهُ — إِذا أَذِنَ لَنا فِي ذَلِكِ مَلِيكُنا الْعَظِيمُ.» فَلَمْ يَتَرَدَّدْ «شَهْرِيارُ» فِي إِجَابَةِ مُلْتَمَسِها. فَانْتَهَزَتْ هذِهِ الْفُرْصَةَ الْمُوَاتِيَةَ، فَرَاحَتْ تَقُصُ عَلَيْهِ أَمْتَعَ قَصَصِ الْحَياةِ. وَأَدْرَكَ «شَهْرَزادَ» الصَّباحُ، وَلَمْ تَكُنْ قَدْ أَتَمَّتْ قِصَّتهَا الْجَذَّابَةَ؛ فَاضْطُرَّ الْمَلِكُ أَنْ يُؤَجِّلَ قَتْلَهَا إِلَى اللَّيْلَةِ الْقادِمَةِ، حَتَّى يَسْتمِعَ إِلَى خِتامِ الْقِصَّةِ وَيَتَعَرَّفَ نِهايَتهَا. وَفِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ صَنَعَتْ «شَهْرَزادُ» ما صَنَعَتْهُ فِي لَيْلَتِها الْماضِيَةِ. وَهكَذا كانَتْ «شَهْرَزادُ» تَعْمِدُ — كُلَّ لَيْلَةٍ — إِلَى قَطْعِ حَدِيثِها فِي مَوَاقِفَ جَذَّابَةٍ مِنْ قِصَصِها، لِتُرْغِمَهُ عَلَى الْإِبْقاءِ عَلَى حَياتِها إِلَى لَيْلَةٍ قَادِمَةٍ، رَيْثَما تُتِمُّ الْقِصَّةَ. وَما زالَتْ تَنْقُلُ الْمَلِكَ مِنْ فِتْنَةٍ إِلَى فِتْنَةٍ، وَمِنْ إِبْدَاعٍ إِلَى إِبْدَاعٍ، فِي أُسْلُوبٍ قَصَصِيٍّ رَائِعٍ جَذَّابٍ، حَتَّى انْقَضَى عَلَى زَواجِهِما أَلْفُ لَيْلَةٍ وَلَيْلَةٌ. وَكَانَتْ قَدْ أَنْجَبَتْ مِنْهُ فِي أَثْنَائِها وَلَدَيْنِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى إِعْجابِهِ وَثِقَتِهِ؛ بِما آتاها اللهُ مِنْ أَصَالَةِ حِكْمَةٍ، وَرَجاحَةِ عَقْلٍ، وَصِدْقِ وَفاءٍ. فَلَمْ يُطِقْ فِراقَها، وَعاشَ مَعَها أَسْعَدَ عِيشَةٍ. وَكانَتْ هذِهِ الْحِيلَةُ الْبارِعَةُ سَبَبًا فِي خَلاصِها وَخَلاصِ بَناتِ جِنْسِها مِنَ الْهَلاكِ. وَهكَذا تَمَّ لَها التَّوْفِيقُ، فَحَسَّنَتْ رَأْيَهُ فِي النِّساءِ، بِمِقْدَار ما قَبَّحَتْ «بَهْرَمَةُ» رَأْيَهُ فِيهِنَّ. وَعادَ «شَهْرِيارُ» إِلَى عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَرِفْقِهِ وَحَنانِهِ؛ فَأَحَبَّهُ شَعْبُهُ، وَافْتَتَنَ بِهِ، وَلَهِجَ بِشُكْرِهِ. وَقَدِ اشْتَدَّ إِعْجابُهُ بِزَوْجَتِهِ، وَإِكْبارُهُ لَها، فَكافَأَها بِتَزْوِيجِ أُخْتِها «دِينارَزادَ» بِأَخِيهِ «شاهْ زَمان»: مَلِكِ «سَمَرْقَنْدَ». وَهكَذا عَرَفَتْ «حَبِيبَةُ الشَّعْبِ» كَيْفَ تَجْلِبُ السَّعَادَة لَها ولِأُخْتِها وَأَبِيها، وَبَناتِ جِنْسِها وَذَوِيها، بَعْدَ أَنْ فَتَنَتْ زَوْجَها بِما أَوْدَعَتْهُ مِنْ قَصَصٍ ساحِرٍ، وَحَدِيثٍ بَاهِرٍ، أَسْلَمَهُ إِلَى عَالَمِ السَّعادَةِ وَالْهَناءِ، وَالْبَهْجَةِ وَالْبَهاءِ، لا كَما أَسْلَمَتِ الْغَزَالَةُ صاحِبَها الْأَسَدَ إِلَى عَالَمِ الْمَوْتِ وَالْفَناءِ، بَعْدَ أَنْ قَذَفَتْ بِهِ إِلَى قَرارِ الْماءِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/14253527/
سِـمْسِـمَة
كامل كيلاني
تحكي عن مغامرات عقلة الإصبع مع السلطان والفأر الأبيض.
https://www.hindawi.org/books/14253527/1/
سِـمْسِـمَة
«صَالِحٌ» رَجُلٌ زَارِعٌ مُكَافِحٌ. كانَ الرَّجُلُ يَعِيشُ — مُنْذُ آلَافٍ من السِّنِينَ — مَعَ زَوْجَتِهِ الْوَفِيَّةِ، تُعَاوِنُهُ عَلَى تَكَالِيفِ الْحَيَاةِ. فِي صَبَاحِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ جَاءَ إِلَى بَيْتِ الزَّارِعِ شَيْخٌ كَبِيرُ السِّنِّ. وَوَقَفَ الشَّيْخُ كَبِيرُ السِّنِّ أَمَامَ بَابِ الْبَيْتِ يَطْرُقُهُ بِيَدِهِ. الزَّارِعُ سَمِعَ الطَّرْقَ عَلَى الْبَابِ، فَأَسْرَعَ خُطَاهُ يَفْتَحُ، فَاسْتَأْذَنَهُ الشَّيْخُ فِي أَن يَسْتَرِيحَ قَلِيلًا عِنْدَهُ. أَحْضَرَ الزَّارِعُ لِلشَّيْخِ كُرْسِيًّا. قَدَّمَتْ «رَاضِيَةُ» زَوْجَةُ الزَّارِعِ لِلضَّيْفِ الْعَجُوزِ طَاسًا مَمْلُوءًا بِاللَّبَنِ وَكِسْرَةً مِنَ الْخُبْزِ، وَقِطْعَةَ جُبْنٍ. أَكَلَ الضَّيْفُ وَشَرِبَ، فَشَبِعَ وَارْتَوَى. سَأَلَهَا الضَّيْفُ: «مَاذَا تَتَمَنَّيَانِ؟» الزَّوْجَانِ قَالَا: «يُسْعِدُنَا أَنْ يَكُوْنَ لَنَا وَلَدٌ، وَلَوْ جَاءَ هذَا الْوَلَدُ فِي حَجْمِ إِصْبَعِ الْإِبْهَامِ، أَصْغَرِ أَصَابِعِ الْيَدِ.» الشَّيْخُ شَكَرَ لِلزَّارِعِ وَزَوْجَتِهِ إِكْرامَهُمَا لَهُ. دَعَا الله لَهُمَا أَنْ يُحَقِّقَ أُمْنِيَّتَهُمَا. بَعْدَ عَامٍ رُزِقَ الزَّوْجَانِ بِطِفْلٍ صَغِيرٍ، لَا يَزِيدُ طُولُهُ عَلَى إِصْبَعِ الْإِبْهَامِ. الْأَبَوَانِ أَسْمَيَا ابْنَهُمَا الصَّغِيرَ «سِمْسِمَةَ»، لضَآلَةِ حَجْمِهِ، وَصِغَرِ جِسْمِهِ. ذَاتَ يَوْمٍ طَلَبَ «صَالِحٌ» مِنْ زَوْجَتِهِ «رَاضِيَةَ» أَنْ تُعِدَّ لَهُ فَطِيرَةً كَبِيرَةً. «رَاضِيَةُ» وَعَدَتْ زَوْجَهَا «صَالِحًا» بِإِجابَةِ طَلَبِهِ، وَقَامَتْ بِإِحْضَارِ الدَّقِيقِ وَعَجَنَتْهُ. «سِمْسِمَةُ» أَرادَ أَنْ يُساعِدَ أُمَّهُ فِي عَجْنِ الدَّقِيقِ: تَسَلَّقَ الْإِناءَ، وَوَقَعَ فِي الْعَجِينِ. أُمُّ «سِمْسِمَة» كَانَتْ وَقْتَئِذٍ مَشْغُولَةً، فَلَمْ تَفْطنْ إِلَى وُقُوعِ وَلَدِهَا فِي الْإِنَاءِ. أُمُّ «سِمْسِمَةَ» وَضَعَتْ إِنَاءَ الْعَجِينِ فَوْقَ النَّارِ، كَيْ تَخْبِزَ الْفَطِيرَةَ. بَعْدَ قَلِيلٍ أَحَسَّ «سِمْسِمَةُ» بِالسُّخُونَةِ، وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ، وَحَوْلَهُ الْعَجِينُ. «سِمْسِمَةُ» انْزَعَجَ، وَخَافَ أَنْ يَحْتَرِقَ. «سِمْسِمَةُ» ظَلَّ يُكَافِحُ لِلْخَلَاصِ. «رَاضِيَةُ» أُمُّ «سِمْسِمَة» رَأَتِ الْعَجِينَ يَتَحَرَّكُ فِي الْإِنَاءِ. أُمُّ «سِمْسِمَةَ» خَافَتْ. أُمُّ «سِمْسِمَةَ» لَمْ تَجِدْ حِيلَةً إِلَّا أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ الْعَجِيبِ. «رَاضِيَةُ» أُمُّ «سِمْسِمَةَ» شَافَتْ حَدَّادًا يَحْمِلُ أَدَوَاتِهِ، يَمُرُّ بِالْقُرْبِ مِنْ بَيْتِهَا. أُمُّ «سِمْسِمَةَ» أَسْرَعَتْ تُنَادِي الْحَدَّادَ. أُمُّ «سِمْسِمَةَ» أَعْطَتِ الْإِنَاءَ لِلْحَدَّادِ. الْحَدَّادُ فَرِحَ بِمَا أَخَذَ دُونَ ثَمَنٍ. مَنَّى نَفْسَهُ بِأَكْلِ فَطَيرَةٍ لَذِيذَةٍ. الْحَدَّادُ حَمَلَ الْإِنَاءَ، وَسَارَ فِي طَرِيقِهِ. الْحَدَّادُ سَمِعَ صَوْتًا ضَعِيفًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. الْحَدَّادُ تَلَفَّتَ حَوْلَهُ، لِيَعْرِفَ مَصْدَرَ الصَّوْتِ. كانَ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ صَوْتَ «سِمْسِمَةَ». الْحَدَّادُ أَيْقَنَ أَنَّ الصَّوْتَ مِنْ دَاخِلِ الْإِناءِ. اشْتَدَّ خَوْفُ الْحَدَّادِ، فَقَذَفَ بِالْإِنَاءِ بَعِيدًا. انْدَلَقَ مَا فِي الْإِنَاءِ عَلَى الْأَرْضِ. «سِمْسِمَةُ» خَرَجَ، وَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ سَالِمًا. حَكَى لِوَالِدِهِ وَوَالِدَتِهِ مَا حَدَثَ. الْوَالِدَانِ حَمِدَا الله عَلَى سَلَامَةِ «سِمْسِمَةَ». «سِمْسِمَةُ» طَلَبَ مِنْ أَبِيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ. «صَالِحٌ» اسْتَجابَ لِرَغْبَةِ وَلَدِهِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى حَقْلِ الزِّرَاعَةِ، لِيُسَاعِدَهُ فِي جَرِّ الْمِحْراثِ. «سِمْسِمَةُ» كانَ سَعِيدًا بِصُحْبَةِ أَبِيهِ. غُرابٌ كانَ يُرَفْرِفُ بِجَنَاحَيْهِ فَوْقَ الْحَقْلِ. رَأَى «سِمْسِمَةَ» صَغِيرَ الْحَجْمِ، فَالْتَقَطَهُ. الْغُرابُ طَارَ فَوْقَ سَطْحِ الْبَحْرِ. «سِمْسِمَةُ» كانَ فِي فَمِ الْغُرابِ. «سِمْسِمَةُ» سَقَطَ مِنْ فَمِ الْغُرابِ، بِالْقُرْبِ مِنْ قَلْعَةٍ كَبِيرَةٍ عَلَى الشَّاطِئِ. حَارِسُ القَلْعَةِ كانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى سَطْحِهَا الْعَالِي يَغُطُّ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ. «سِمْسِمَةُ» فَرِحَ بِنَجَاتِهِ مِنْ فَمِ الْغُرابِ. «سِمْسِمَةُ» أَرادَ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَى الْحَارِسِ. «سِمْسِمَةُ» اقْتَرَبَ مِنْ كُمِّ الْحارِسِ، مُحَاوِلًا أَنْ يُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ بِلُطْفٍ. حَارِسُ الْقَلْعَةِ أَحَسَّ بِحَرَكَةٍ غَرِيبَةٍ! حَارِسُ الْقَلْعَةِ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ مَذْعُورًا! حَارِسُ الْقَلْعَةِ قَفَزَ قَفْزَةً هَائِلَةً، فَطَوَّحَ ﺑ«سِمْسِمَةَ» إِلَى الْبَحْرِ. «سِمْسِمَةُ» ظَلَّ يُغَالِبُ أَمْواجَ الْبَحْرِ. سَمَكَةٌ كَبِيرَةٌ كَانَتْ تَعُومُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ. السَّمَكَةُ رَأَتْ «سِمْسِمَةَ» الصَّغِيرَ يَعُومُ. السَّمَكَةُ طَمِعَتْ فِيهِ، وَابْتَلَعَتْهُ فِي الْحالِ. أَحَدُ الصَّيَّادِينَ أَلْقَى شَبَكَتَهُ فِي الْبَحْرِ. الصَّيَّادُ أَحَسَّ بِأَنَّ الشَّبَكَةَ ثَقِيلَةٌ. الصَّيَّادُ فَرِحَ بِصَيْدِهِ، جَذَبَ الشَّبَكَةَ بِقُوَّةٍ. الشَّبَكَةُ صَادَتِ السَّمَكَةَ، وَمَعَها «سِمْسِمَةُ». الصَّيَّادُ ابْتَهَجَ بِالسَّمَكَةِ الْكَبِيرَةِ الْحَجْمِ. الصَّيَّادُ حَمَلَهَا إِلَى قَصْرِ السُّلْطَانِ. الصَّيَّادُ قَالَ فِي نَفْسِهِ: «لَا شَكَّ أَنِّي سَأَنَالُ جَائِزَةً سَخِيَّةً عَلَى هذَا الصَّيْدِ الثَّمِينِ.» طَبَّاخُ السُّلْطَانِ تَلَقَى مِنَ الصَّيَّادِ السَّمَكَةَ الْكَبِيرَةَ، وَكافَأَهُ عَلَيْهَا مُكافَأَةً طَيِّبَةً. الطَّبَّاخُ شَمَّ السَّمَكَةَ، فَوَجَدَهَا طَازَجَةً. الطَّبَّاخُ تَهَيَّأَ لِشَقِّ بَطْنِ السَّمَكَةِ. الطَّبَّاخُ شَقَّ بَطْنَ السَّمَكَةِ. «سِمْسِمَةُ» أَطَلَّ مِنْ بَطْنِ السَّمَكَةِ. الطَّبَّاخُ فَزِعَ عِنْدَمَا رَأَى «سِمْسِمَةُ». الطَّبَّاخُ هَرَبَ مِنَ الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ. «سِمْسِمَةُ» نادَى الطَّبَّاخَ قَائِلًا: «ما بالُكَ تَخافُ مِنِّي، وَأَنا إِنْسَانٌ مِثْلُكَ؟ اذْهَبْ بِي إِلَى سَيَّدِ الْبَيْتِ، لِأَرْوِيَ قِصَّتي.» الطَّبَّاخُ حَمَلَ «سِمْسِمَةَ» إِلَى السُّلْطَانِ. السُّلْطَانُ عَجِبَ مِنْ صِغَرِ «سِمْسِمَةَ». السُّلْطَانُ سَأَلَهُ عَن اسْمِهِ وَقِصَّةِ حَيَاتِهِ. «سِمْسِمَةُ» حَكَى كُلَّ مَا جَرَى لَهُ. السُّلْطَانُ فَرِحَ بِذَكَاءِ «سِمْسِمَةَ». السُّلْطَانُ كانَ يُرَبِّي فِيرَانًا بَيْضَاءَ أنِيسَةً. «سِمْسِمَةُ» كانَ يَلْعَبُ مَعَ الْفِيرَانِ الْبِيضِ. السُّلْطَانُ أَهْدَى إِلَى «سِمْسِمَةَ» فَأْرًا أَبْيَضَ، لِيَرْكَبَهُ فِي نُزْهَتِهِ، وَيَتَسَلَّى بِصُحْبَتِهِ. «سِمْسِمَةُ» فَرِحَ كَثِيرًا بِالْفَأْرِ الْأَبْيَضِ. «سِمْسِمَةُ» كانَ يَصْحَبُ الْفَأْرَ لِلنُّزْهَةِ، وَهُوَ مَسْرُورٌ بِمُرَافَقَةِ صَدِيقِهِ الْعَزِيزِ. «سِمْسِمَةُ» وَالْفَأْرُ عَاشَا سَعِيدَيْنِ زَمَنًا. «سِمْسِمَةُ» اشْتَاقَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى وَالِدَيْهِ. «سِمْسِمَةُ» طَلَبَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ الْفَأْرَ الْأَبْيَضَ، فَوَافَقَهُ السُّلْطانُ. الْفَأْرُ الْأَبْيَضُ حَمَلَهُ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهِ. الْوَالِدَانِ فَرِحَا بِعَوْدَةِ «سِمْسِمَةَ». الْوالِدانِ أَكْرَمَا الْفَأْرَ الْأَبْيَضَ صَدِيقَ ابْنِهِمَا. «سِمْسِمَةُ» ظَلَّ طُولَ عُمْرِه حَريصًا عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى لا يُصِيبهُ مَكْرُوهٌ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/0/
الإهداء
في بعض الأحيان أكون جالسا إلى مكتبى قبل طلوع الشمس، وأمامى الآلة الكاتبة أدق عليها وأرمى بورقة إثر ورقة، وإلى جانبى فنجان القهوة أرشف منه وأذهل عنه، فأحس راحتيك الصغيرتين على كتفى فأُدير وجهى إليك، وأرفع عينى لأصبح على بستان وجهك، وأستمد من ابتسامة عينيك النجلاوين، وافترار ثغرك النضيد ما أفتقر إليه من الجلد والشجاعة، وأدفع يدى فأطوقك بذراعى، وأضمك إلى صدرى، وألثم خدك الصابح، وأمسح على شعرك الأثيث المرسل على ظهرك وجانب محياك الوضىء، وأتملى بحسنك وأنشر فى كهف صدرى المظلم نور البشر والطلاقة، فتدفعين ذراعك الغضة وتتناولين ببنانك الدقيقة ورقة مما كتبت، وترفعينها أمام عينيك، وتزوين ما بينهما، وتتخذين هيئة الجد الصارم، وتفيضين على نفسك السمحة العطوف، وأنت مضطجعة على ذراعى، سمتا وأبهة يغريان بالابتسام، وأنا أنظر إليك وفى قلبى سكينة، وجوًى من قربك معطر بمثل أنفاس الروضة الآنف فى البكرة الندية. وألمح شفتيك الرقيقتين تختلجان وعينيك تلمعان، فتطيب نفسى بسرورك الصامت، ثم أسمع ضحكتك الفضية، وأراك تُغطّين وجهك الحلو بالورقة فيستطيرنى الفرح ويستخفنى الجذل، ولكنى أتظاهر بالخوف على الورقة التى لا قيمة لها أن يمزقها أنفك الجميل فترمين رأسك على ذراعي وينسدل شعرك الذهبى المتموج كالستار، وتصافح سمعى من ضحكاتك العذبة موجات لينة. ثم تعتدلين على ساقى، وتدفعين ذراعيك فتطوقين بهما عنقى، وتجذبين وجهى إليك، ولكنك تشفقين على رقة شفتيك من خشونة خدى فتلثمين أذنى الطويلة — وتعضينها أيضا — فأصرخ، فتثبين إلى قدميك خفيفة مرحة، وتخرجين بعد أنْ خلفتِ فى صدرى انشراحا، وفى قلبى رضى، وفى روحى خفة، وفى نفسى شفوفا، وفى عقلى قوة، وفى أملى بسطة واتساعا، وفى خيالي نشاطا، فأضطجع مرتاحا وأغمض عينى القريرة بحبك ثم أفتحها على: أى والله، لولا الإغراق ما كان الحرمان. وهل هو إلا الشعور به من الإسراف فى الرغبة واللجاجة فى الطلب؟ بل أفتح العين على جثة صغيرة حملتها بيدى هاتين إلى قبرها، وأنزلتها فيه، ووسدتها التراب بعد أن سويته لها بكفى، ورفعت من بينه الحصى الدقاق ثم انكفأت إلى بيتى جامد العين وعلى شفتى ابتسامة متكلفة وفى فمى يدور قول ابن الرومى: وتدخل على زوجتى لتحيينى تحية الصباح، فأتلقاها بالبشر والبشاشة، وأهم بأن أحدثها بما كبر فى وهمى قبل لحظة، ولكنى أزجر نفسى وأردها عن التعزى باللغط. ولو أنى شرعت أحدثها بشىء من ذلك لما فرغت، فما أخلو بنفسى قط إلا رأيتنى أستطيب أن أتخيل فتاتى على كل صورة وكل هيئة وفى كل حالة من حالات الطيش والحكمة، والغضب والسرور، والسخط والرضى، والضحك والبكاء، والعشق والسلوان والنفور والإقبال، والحركة والسكون، واللعب، والنط، والقفز، والسباحة … ويحلو لى أن أنشئ بينى وبينها أحاديث فى كل موضوع من جد وهزل، ويسرنى أن أسمع نكتها، وأرانى أستملح فكاهتها — وأنتحلها فيما أكتب — وأضحك أحيانا بصوت عال، بل أقهقه غير محتشم، فإذا تعجب لى داخل متطفل علىَّ فى هذه الخلوة المحببة إلى نفسى رفعت له وجها كالدرهم المسيح، وهربت بالتباله من الجواب الذى يطلبه بعينه أو لسانه، وتركته يظن بعقلى ما يشاء. وماذا أقول له؟ فى وسعى أن أكذب، فما لباب الكذب مفتاح، ولكن الكذب ينغص علىَّ المتعة التى استفدتها من الحوار الذى كان يدور بينى وبين «حياة». ••• وأنت يا «حياة» الجديدة بديل من «حياة» التى فقدتها، لا.. لست بديلاً، ولا أنت عوض عنها، ولا أحسبك يرضيك أن تكونى عوضا عما لا يؤاتى. وتلك قد ربيتها صغيرة ودللتها وهى رضيعة بيدى هاتين اللتين أتناول بهما خديك، ولاعبتها وأركبتها ظهرى، وقطعت بها فراسخ طويلة فى الغرفة الضيقة، وسقيتها الماء ورأيتها تمص ثدى أمها وهى ذاهلة عن الدنيا وما فيها — وما هو كائن وما عسى أن يكون — ونحن ننظر إليها مسرورين مستغربين مفتونين بهيئتها، وهى مقبلة على الثدى، ويدها الدقيقة على الثندوة، وأصابعها تتحرك فى لطف وعلى مهل، مستظرفين شفتها المثنية على سواد الثدى حول الحلمة وهى مكبة على الرضاعة. ولكن فيك مشابه منها. وأنا أغالط نفسى وأزعم أنها لو كتب لها البقاء لما عدتك. ولست تجلسين على ساقي فى الصباح الباكر — كما تفعل تلك فيما أتخيل — ولكنك تقرأين ما أكتب — بعد أن ينشر — وأراك يسرك أن تسكنى إلى، سكون الطائر إلى وكره. وهل هذا كل شىء؟ لا آدرى.. وأظن — بل أنا واثق — أنك تفهمين ما أعنى حين أقول إنك فصل من كتاب حياة. وهل أحتاج أن أقول أن اسمكما ليس «حياة».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/1/
التدريب الأول
«ألا تنوى أن تعلمنى قيادة السيارة»؟ قلت: «إنى أنوى أن أعلمك أشياء كثيرة.. فى أوانها». قالت: «مثل..»؟ وأمالت رأسها الصغير وألقت إلىَّ ابتسامة — أعوذ بالله من سحرها. فبلعت ريقى، وقلت: «أوووه.. أشياء كثيرة كما قلت: مثل الرقة واللطف واللين وحسن المواتاة … أشياء كثيرة». قالت وعلى فمها — وفى عينيها — ابتسامة المتسامح: «ألا ترانى لطيفة؟..». قلت: «عفوا.. إنما أعنى أن هذه المسائل نسبية، فقد تكونين فى الواقع ألطف فتاة تزين هذه الكرة الأرضية بوجودها.. وقد أكون أنا لا أحس ذلك ولا أعرفه، لبلادة فيّ أو.. جهل.. أو..». فأشارت بكفها وقالت: «يكفى.. سأحاول أن أكون لطيفة معك، فكن لطيفا وقل لى متى يكون الدرس الأول؟». قلت: «الآن.. تعالى.. ضعى هذا المعطف على كتفيك». فأولتنى ظهرها لأضع عليه المعطف، وكانت تنظر إلى وأنا أفعل ذلك ببطء. وانحدرنا إلى الطريق وركبنا، فقالت وأنا أهم بالمسير: «ألا تلبس المعطف؟ إن الجو بارد». فهززت رأسى وقلت: «كلا.. سأتصبب عرقا بعد دقائق — بل ثوان — من ابتداء الدرس الأول، ولكنك تعرفيننى.. لا أهرب من الواجبات مهما كلفتنى». وقالت: «هل هذا واجب شاق»؟ قلت: «سترين»… ولم أزد. ووقفنا فى مكان خلوى رحيب لا خوف فيه من أن ندوس طفلا أو نصطدم بشىء، فقلت لها بلهجة الجد: «اسمعى من فضلك.. الآن يبدأ الدرس، التدريب الأول.. فاذكرى دائما أن هذا درس وليس بلعب.. اسمعى الكلام وافهميه واعملى به ولا تحوجينى إلى شد شعرك أو قرص أذنك أو خدك». وكانت تبتسم حينما شرعت أتكلم، فلما رأتنى جادا لا أضحك ولا يبدو علىَّ أنى أمزح، صارت الابتسامة كنور القمر المرتعش على صفحة الغدير الصافى، فرق لها قلبى، ولكنى تحاملت على نفسى وغالبتها وحدثتها — أعنى نفسى — بأن كل شىء خليق أن يفسد إذا لم أظهر الجد. وقالت بضعف: «إنى مصغية». قلت: «هذا حسن.. ابتداء طيب.. والآن، ادنى منى.. التصقى بى». قالت: «لماذا»؟ قلت: «لتتناولى العجلة وتتدربى على إدارتها بالضبط والإحكام الواجبين». فحاولت أن تتناولها من غير أن تلقى بجسمها على صدرى، وكان هذا متعذرا. وأدركت أنها مترددة، فقلت: «بالطبع ستزهق روحى وتتقصف أضلاعى وتحتبس أنفاسى.. ولكن هذا لا مفر من احتماله». قالت: «صحيح»؟ فخفت أن تدفعها الرقة والإشفاق علىّ، إلى إيثار العدول فقلت: «إنّ فى قولى هذا بعض المبالغة ولا شك، ولكنى أعنى أنه إذا كان لأحد منا أن يتردد أو يخشى شيئا.. فإنى أنا الخليق بذلك». فظنت أنى غضبت أو أنّ ترددها جرح إحساسى وآلمنى، فقالت: «إنّى آسفة». فابتسمت لها صافحا عنها.. وقلت: «تفضلى..» وتناولت كفيها فوضعتهما على العجلة وأنا أسأل الله أن يلهمنى القوة ويرزقنى القدرة على مقاومة هذا الإغراء. وصار كتفها على صدرى، وشعرها على وجهى، وأرجُه فى أنفى، وصفحة خدها الغض المشرق تحت عينى.. فلو مططت بوزى قليلا للمسته شفتاى. وسرنا خطوات ترنحت فيها السيارة كأنها سكرى، وأحسب أن لها — أعنى للسيارة — عذرها.. فما لمست عجلتها كف كهذه، رخصة بضة دقيقة.. وكنت أنظر إليها، فأشعر أنى أوشك أن أرتد إلى عصور الاستيحاش، وأحس أنى أريد أن آكلها لفرط حلاوتها، ولم أكن أحس — وهى على صدرى — أن فى بدنها عظاما من فرط الرقة والطراوة. وكان شعرها يدير رأسى ويسكرنى بعطره الطبيعى. وكانت يدى اليمنى على كتفها، فكنت بجهد أردها عن ضمها إلىّ. وقلت لها — وقد وقفنا قليلا لنستريح، فقد كانت جلستها متعبة: «لن تستطيعى أن تختفى عنى بعد اليوم كما فعلتِ من قبل» قالت: «كيف؟ ماذا تعنى»؟ قلت: «لا أظنك تعرفين ما أعنى، فمن حقك أن تسألى وتعجبى.. لقد انتقلت فجأة من بيتك فأصبحت يوما فإذا أنت غير موجودة حيث ألفت أن أراك.. لا أدرى كيف تسنى لك أن تنتقلى من بيت إلى بيت من غير أن أشعر بذلك ونحن جاران متقابلان.. ولكنك نجحت.. غافلتنى واختفيت». فقالت: «على فكرة.. كيف اهتديت إلى البيت الجديد»؟ قلت: «أوه.. هذه حكاية طويلة.. رأيت أخاك فتبعته من حيث لا يشعر.. لو كنت شممت شعرك كما شممته اليوم.. لما احتجت إلى أخيك أو غيره». فضحكت وقالت: «لم أكن أحسب أنك..» وأمسكت. فقلت: «قوليها.. ولا تخشى أن تسيئى إلىّ. نعم، إن فى بعض خصائص الكلاب.. ومن يدرى، لعل الله كان يريد فى أول الأمر أن يخلق من طينتى كلبا ثم بدا له أن هذه الطينة لا تليق بكلب فصنع منها هذا الإنسان الذى يجلس إلى جانبك. ومن هنا بقيت لى حاسة الشم فى الكلاب، ولكن قوتها فى شىء واحد.. ما شممت شعرا إلا بقيت رائحته فى أنفى.. ولو أنك وقفت بين عشرين فتاة وعصبت لى عيناى لاستطعت أن أهتدى إليك وأخرجك من بينهن بأنفى.. بمجرد شم الشعور». فدهشت وقالت: «هل تتكلم جادا؟» قلت: «فى وسعك أن تجربى. هاتى عشرين فتاة.. وأرسلى لهن شعورهن وقفى بينهن وضعى على عينى ما شئت.. ودعينى أشمكن. نعم، فىّ من الكلب هذا.. وليت لى منه مزاياه الأخرى.. بل ليتنى كنت كلبك على الخصوص». فضحكت وقالت: «ولماذا؟ لا تخف أن تتكلم فإن حديثك لذيذ». قلت: «أشكرك.. لو كنت كلبك لكان من حقى المعترف به مثلا أن أقعد بين يديك فى حيث تكونين. لا أُحرم ذلك ولا يستطيع أحد أن يقصينى عنك، ولو حاول أحد ذلك لعضضته ومزقت ثيابه ولحمه ولأدبته.. نعم.. ولكان من حقى أن أضع رجلى على.. على.. فى حجرك.. وألحس لك وجهك كلما شئت ذلك وأشتهيته.. معذرة فإن الكلب لا يحسن التقبيل.. وهذا هو البديل عنده من القبل.. ولو كنت كلبك يا فتاتى الجميلة لكنت حارسك الأمين، وفارسك الذى لا يقصر ولا يغفل ولا يسهو.. ولو كنت كلبك لكان من حقى على الأرجح — فإنك رقيقة القلب — أن أنام على سريرك..». فصرخت ووضعت راحتها على فمى فضحكت، وقلت: «لا تخافى فإنى لم أصر كلبا مع الأسف.. أبى الحظ هذه النعمة على المسكين الذى هو أنا». واستأنفنا الدرس وعدنا إلى التدريب، وأقبلنا على ذلك بعزم لا يفتر وإرادة لا تلين أو تضعف، ثم وقفنا وأراحت يديها وتنهدت وقالت: «تعبت». قلت: «إنى آسف.. استريحى». فسألتنى: «هل تعبت أنت أيضا»؟ قلت: «كلا.. إنما تعبت من التفكير». قالت: «فى أى شىء كنت تفكر»؟ قلت: «هل تصدقيننى إذا أخبرتك»؟ قالت: «لم لا أصدق؟ هل هو شىء غريب جدا»؟ قلت: «نعم.. جدا.. لقد كنت — وأنت على صدرى — أشتهى أن أمرغ نفسى فى هذه الرمال وأن أعوى كالكلب». فضحكت حتى ترقرق الدمع فى عينيها، وقالت بعد أن وجدت لسانها: «ولكن لماذا؟.. إن هذا شىء غريب». قلت: «لا غرابة على الإطلاق.. ألم أقل لك: إن فىّ من الكلب خصائص.. اشتهيت أن أفعل ذلك عسى أن تصنعى معى ما كان يمكن أن تصنعى مع كلبك.. تحمليننى بين يديك.. عل ذراعيك.. وتدنين فمك الدقيق من وجهى وتقبّليننى فألاعبك وأضع يدى على كتفك وأنظر فى عينيك وأمسح خدى بخدك.. على فكرة.. وقبل أن أنسى». فتركت الضحك، وأقبلت علىَّ تسألنى: «نعم..». قلت: «هل تستطيعين أن تخبرينى أو تبينى لى كيف يسعك أن تأكلى»؟ فاستغربت، وقالت: «لست أفهم.. لماذا تظن أنى لا أستطيع أن آكل»؟ قلت، وأنا أضحك: «هل تسمين هذا فما؟ أنه أدق من أن يتسع لأصغر لقمة.. يصلح أن يكون قرنفلة أو ما يشبه ذلك». فقاطعتنى، وقالت: «والآن اسكت قليلا.. لقد دار رأسى.. لماذا تتكلم هكذا»؟ فهممت بأن أقول شيئا ولكنها أراحت كفها على شفتى فلثمتها، فابتسمت وقالت: «لقد كنت أفكر فى جزاء لما علمتنى وقلت لى لتملأنى غرورا.. ولكنك أفسدت كل شىء.. أخذت جزاءك بنفسك». قلت: «لا.. لا.. لا.. نمسح القبلة». قالت: «كيف يمكن»؟ قلت: «هكذا.. بشفتى». فأطرقت قليلا، ثم رفعت رأسها وقالت: «لو سألتك عما تحب أن يكون جزاؤك منى، ماذا كنت عسى أن تطلب؟ أفهم أن هذه مسألة نظرية بحت». قلت: «الجواب حاضر.. وما أظن بك ألا أنك تعرفينه.. وهل هو ألا أن تعدّينى كلبا لك»؟ قالت: «هذا سهل». فصحت مسرورا وأنا لا أكاد أصدق: «إيه»؟! قالت: «لا تتعجل.. على مهلك.. لا تنس أن كلامنا كله نظرى». فارتددت وتنهدت أسفا محزونا، فقالت وهى تربت لى على كتفى: «لا تحزن يا كلبى العزيز.. أنت كلبى.. ألم تقل ذلك»؟ قلت: «نعم.. ولكن الكلب له مزايا.. لا تنسى ذلك». قالت: «يحسن أن تتدرب عليها التدريب الأول..». فقاطعتها وصحت بها: «لا.. لا.. إنى طول عمرى كلب متدرب من زمان.. كلب عتيق.. والله». وضحكنا … وافترقنا على موعد للتدريب الثانى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/2/
الدكان
وقفت «جليلة» لا تدرى ماذا تصنع، فقد انغزرت إحدى العجلتين الخلفيتين فى الرمل وأبت أن تخرج منه.. وعجز المحرك عن جذبها، بل كانت العجلة تزداد غوصا كلما حاولت نزعها. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب ولم يبد أحد فى الأفق، وكان الكشك الذى وقفت عنده منذ لحظة تشرب «الكازوزة» يبعد مسافة كيلو ونصف أو اثنين، فليتها ما جاوزته إلى هذا المكان القفر.. ولكنها أرادت أن ترى الطيارة الشراعية من مكان قريب والأرض بعد «الكشك» غير ممهدة. ولكن عناء السير فيها محتمل ولا خوف من الغوص. وقد طوفت من قبل فى أرجاء هذا الفضاء الرحيب. فهى تعرف صلابة الأرض ولا تخشى رخاوتها، غير أن الحظ خانها فى هذه المرة.. فما كادت تقف بالسيارة وتنأى عنها قليلا ثم ترجع، حتى ألفت العجلة قد غاب نصفها فى الرمال الخائنة. وكان تلاميذ الطيران الشراعى بعيدين عنها بعد «الكشك»، فهل تترك السيارة وتعود أدراجها إلى الكشك تلتمس من صاحبه المعونة، وتسأله أن يدعو إلى نجدتها بعض خفرائه؟.. لم يبق من هذا مفر على ما يظهر، وإلا صار خطبها أدهى بعد الغروب. وصح عزمها على ذلك، فأقبلت على السيارة تريد أن تأخذ منها حقيبتها وقبعتها وإذا بصوت يقول لها: «اسمحى لى..». فالتفتت مذعورة.. فما سمعت وقع قدميه وهو مقبل عليها ولا رأته، وإن كانت قد دارت بعينها فى المكان ونفضته قبل أن تنوى الرجوع إلى «الكشك». ولم يسألها الرجل شيئا ولم ينظر إليها بل انطرح على الرمل بثيابه الأنيقة بعد أن ألقى طربوشه فى السيارة، وراح يجرف الرمل بيده من خلف العجلة وقدامها.. ولما فرغ من ذلك ووسع للعجلة نهض ومشى مطرقا ينظر إلى الأرض كأنما يبحث عن شىء، ثم انحنى وتناول حجرا كبيرا ولوحا من «الصاج» وعاد بهما فوضع الحجر خلف العجلة واللوح أمامها وتحتها، ليكون دورانها عليه لا على الرمل. ثم نهض مرة أخرى، وقال: «أظن هذا يكفى.. فلنجرب على كل حال». فقالت: «أشكرك.. لا أدرى ماذا كنت أصنع لو لم تنجدنى»؟ فأشار بيده، وقال: «أجلى الشكر حتى أستحقه.. إن العجلة المسكينة لا تزال غائصة، فلننقذها أولا». ومضى إلى آخر السيارة، وقال: «أديرى المحرك وسيرى بها، وسأدفعها من الخلف». ففعلت وخرجت السيارة ثم وقفت على مسافة أمتار، ونزلت منها جليلة متهللة الوجه فصاح بها: «لماذا وقفت.. هل حدث شىء»؟ قالت: «لا.. إنما جئت لأشكرك». ففرك يديه ومد يمناه إليها، وقال: «آه صحيح.. صار الشكر الآن واجبا. أليس كذلك»؟ فضحكت وسرها منه أنه لا يبدو عليه أنه يريد شكرا، وأنه كان ينتظر منها أن تمضى عنه بلا كلام. وقالت، وهى تبتسم له فى عينيه: «ألا تريد أن أشكرك»؟ فقال وهو ينفض الرمل عن ثيابه: «كلا.. إنه دين قديم أؤديه.. بعضه على الأقل». فغاضت الابتسامة، وقالت مستغربة: «دين؟ لى أنا؟ ولكنى لا أذكر أنى أعرفك.. لا مؤاخذة». قال: «صدقينى حين أقول لك: إنه يسرنى أن أراك ناسية.. إنها ذكرى خليقة ألا تثير فى نفسك إلا الامتعاض والنفور بل المقت.. فالحمد لله». فدنت منه مقدار خطوة، وقالت: «ولكن أرجو أن تريحنى.. هل تعرفنى»؟ قال: «أعرفك؟ أظن ذلك.. وإن كنت لا أكتمك أنى نسيت اسمك. انتظرى.. ورفع كفه الكبيرة الغليظة إلى جبينه.. اسمك يا ستى.. غريب أن تبقى الصورة كل هذه الأعوام ويذهب الاسم.. أوه.. جما.. جميلة.. وجدته.. وجدته.. جليلة.. أليس كذلك»؟ فصاحت: «نعم.. نعم.. ولكنى آسفة لأنى لا أذكرك أبدا.. لا صورتك، ولا اسمك». فقال بابتسام: «انهما جديران منك بالنسيان». فألحت عليه أن يذكر لها اسمه، فقال: «هذا لغز سأترك لك حله وأنت عائدة». فابتسمت، وقالت: «ألا تخشى أن أشغل به عن الطريق وما فيه فتحدث لى حادثة»؟ فقال: «صحيح.. صحيح.. إذن لم يبق لى مفر من التضحية. سأخسر ما صرت جديرا به من الشكر، وأسترد سخطك القديم». فسألته وهى تضحك: «هل كنت فظيعا إلى هذا الحد» فقال: «ستعرفين مبلغ فظاعتى حين تعرفين اسمى.. مراد البارونى». فأطرقت، وقالت على مهل: «مراد.. البارونى.. (وهزت رأسها) كلا.. إن ذاكرتى لا يختلج فيها شىء.. آسفة». فقال، وهو يضحك: «أما أنا فإن ذكراك يقشعر لها بدنى، فما أستطيع أن أنسى أنك صببت على ماء قربتين من الماء فى الشتاء. سلطت على خرطوم الحديقة وأطلقت على ماءه.. أهذه ذكرى تنسى؟. ألست معذورا إذا ظللت متذكرا»؟ فدنت منه، وقالت بصوت خافت كالهمس: «مراد؟ صحيح..». فقال: «وكنت ظالمة لى..». فقالت: «كلا.. لقد تذكرت الآن، فقد وضعت لى دودة ميتة فى قفاى.. الحق أنك كنت فظيعا». فأشار بيده إشارة المستنكر: «لا.. لا.. هذا كان سوء تفاهم.. أعنى أنى كنت فرغت من اللعب بالدودة، وظننت أنك قد يسرك أن تأخذيها لتلعبى بها.. ولكنى أخطأت فوضعتها لك فى قفاك بدلا من يدك، بل كان الخطأ منك لا منى.. فقد جعلت تجرين خائفة وأنا أجرى وراءك، فلم يسعنى ألا أن أتركها حيث تيسّر لى.. فالذنب ذنبك يا جليلة». فقالت جليلة، وهى تضحك: «أتذكر كيف كنت تصيح بأعلى صوتك كلما رأيتنى.. وكيف كنت تجرى ورائى وتدبدب برجليك كلما أدركتنى فتزيدنى رعبا»؟ فقال: «نعم أذكر ذلك.. أذكر كل شىء.. إنه كل ما بقى لى منك.. لقد كنت أصيح وأدبدب لأخفى عنك حبي لك». فقالت: «غريب.. أكنت تحبنى؟ لقد كان نجاحك تاما إذن فى إخفاء هذا الحب». ونظرت إلى وجهه الذى لوحته الشمس وشعره الذى ظهر فيه الشيب هنا وههنا، وأخذت الصورة القديمة تسترد ألوانها وتبرز معالمها شيئا فشيئا، ثم قالت: «لقد كبرت جدا.. طولا وعرضا.. وتغيرت أيضا. من الذى يراك الآن فيذكر ذلك الطفل الشقى الذى كان يسوّد عيشى ويُرعبنى كلما ظهر فجأة من وراء شجرة.. أو من تحت الأرض — فيما كان يخيل إلى ماذا صنعت بنفسك كل هذه السنين»؟ فقال: «أوه.. ماذا يصنع الناس بنفوسهم؟ يكبرون ويقعون على عمل يشتغلون به. أنا أيضا وجدت لى عملا.. فى تجارة رابحة والحمد لله.. وأنت»؟ قالت: «أوه.. كبرت مثلك». فقاطعها وقال: «كلا.. إنك لم تتغيرى.. لو كان هنا دود لما خطر لى وأنا أنظر إليك إلا أننا ما زلنا طفلين، ولهممت بأن أضع لك واحدة فى قفاك». فضحكت وقالت: «لقد صرت مهذبا جدا.. لم يبق شىء من ذلك الطفل اللعين.. غريب أن نلتقى هنا هكذا بعد كل هذه السنين.. ماذا كنت تصنع؟ أعنى هنا». قال: «أتمشى.. للرياضة». فتنبهت، وقالت: «إذن لا أقل من أن أحملك معى فى السيارة». وقال وهو يركب معها مسرورا: «ما قولك.. نحتفل بهذا اللقاء الذى لم يكن لى ولا لك فيه حساب، بالعشاء نتناوله فى محل الحاتى.. هه»؟ فابتسمت لنفسها فى مرآة السيارة وأصلحت شعرها الذى عبث به النسيم، ثم التفتت إليه وهزت رأسها أن نعم.. ثم انطلقت تخطف بسيارتها الأرض. ولم يكن في جليلة خفة أو طيش، ولكنها كانت فتاة وحيدة مدللة.. ورثت عن أبيها قسوة القلب واستقلال الطبع، وعن أمها سرعة الاستجابة لدواعي الخير. وقد مات أبوها قبل سنوات، فلم يبق لأمها سواها ولم تهمل تربيتها.. ولكنها كان ينقصها حزم زوجها وحكمته، فألقت لها الحبل على الغارب وهى تحسب أنها لا تعدو ما كان يصنع أبوها. على أن الفتاة لم يكن فيها سوء ولم تثمر الحرية شرا، وإنما أكدت استقلالها وأورثتها تمردا صريحا على كل قيد من القيود التي يفرضها العُرف حتى على الفتاة الحديثة. وكانت أمها وبعض أهلها يشق عليهم ذلك أحيانا، فتقول لهم إنى لا أفعل سوءا، ولا أسىء أدبى، ولا أتوقح على أحد، ولا قيمة لخروجى وحدى، أو مرافقة أصحابى وصواحبى إلى السينما أو غيرها.. فكانت أمها تسكت ولا تقول شيئا لعلمها أن الكلام لا خير فيه. ولم تكن جليلة بارعة الحسن، ولكن صوتها كانت له حلاوة التغريد.. وكانت نظرتها الحالمة تفعل فعلين يبدوان متناقضين: تنعش القلب وتفتر الجسم، فإذا أدامت إليك كرة الطرف — على عادتها إذا سرها منك عمل أو قول — شاع الرضى فى نفسك وفاضت بالسرور، ودار رأسك، وأحسست بالخدر فى أعصابك. وكانت أقرب إلى القِصر منها إلى الطول، وإلى الامتلاء منها إلى النحافة والهزال، وقد حمتها كثرة الحركة والولع بالمشى فى الهواء الطلق، وفطام النفس عن الأطعمة الدسمة الثقيلة، أن تصبح كأمها أكداسا من اللحم تلح على روحها. وكانت سمراء، ولكن سمرتها مشربة حمرة لا كدرة فيها ولا نمش. وكان شعرها جعدا وأثيثا.. وكانت تفرقه وترسله إلى الوراء وتعقصه وتأبى أن تقصه. كانت أنيقة بلا تكلف، ولم تكن رقيقة الحال أو مضطرة إلى حسن التدبير والاقتصاد. فقد ترك لها أبوها الحازم ثروة كافية، ولكنها كانت تؤثر أن تصنع ثيابها بيديها، فتجىء محبوكة التفصيل على قدها الجميل يبرز من تحتها ثدياها الناهدان الراسخان كالرمانتين الصغيرتين. وكانت مجدولة الساقين لا عظيمة العضلة ولا مضطربتها ولا عرقوب لها. وجمال الساق فى المرأة يشير بحسن القوام.. وكانت تكره الأحذية العالية الكعوب نفورا من بروز الفخدين. على أن هذا كله ما أكثر من يشاركنها فيه، ولو اقتصر الأمر على التكوين المادى لما كانت لها مزيه تنفرد بها، ولكن أنوثتها كانت قوية الجذب شديدة الإغراء.. فلولا استقلالها وشخصيتها لما استطاعت أن تنجو من المعاطب. ••• وقال مراد وهو عاكف على البيان الذى قدمه إليه الخادم: «معذرة، فإنى أتضور جوعا.. لم آكل فى نهارى شيئا. ماذا تريدين.. كباب.. لحم رأس.. حمام؟ إنى أرى الحاتى عنده كل ما يؤكل.. لا الكباب وحده.. ما قولك»؟ فآثرت الكباب، وقالت: «إن هذا فنّه الذى يمتاز به، فيحسن أن أقتصر عليه». وكانا جالسين فى آخر القاعة ووجهها هى إلى الباب ووجهه إلى الناس. وشغلا برهة بالأكل وذكريات الطفولة، فقال لها وهو يضطجع: «أتذكرين يوم تحديتك أن تتسلقى النخلة؟ (فهزت رأسها) لقد كنت لا تطيقين التحدى.. فهل أنت ما زلت كذلك»؟ فوضعت الشوكة على الطبق، ونظرت إليه وسألته: «ماذا تعنى»؟ قال بابتسام: «أعنى أن وراءك.. بعد مائدتين اثنتين.. رجلين أحدهما يحدق فى ظهرك، لا يخالجنى شك فى أنك تحسين وقع نظراته على جسمك.. إنها نظرة حامية.. كاوية.. انتظرى قليلا وسأدعو الخادم ليجيئنا بالقهوة، فأديرى وجهك حين يقبل وانظرى». ففعلت ثم اعتدلت فى جلستها وقد علا وجهها الاصفرار، فأكب مراد على بقية الفاكهة وتشاغل بها عما رأى فى وجهها من دلائل التغير. ولم تفت جليلة هذه الكياسة منه، ووقع من نفسها اتقاؤه الفضول.. فتماسكت وضبطت صوتها وهى تقول: «لقد تغيرت جدا.. من كان يظن أن ذلك الطفل الخبيث الذى كان يتعقبنى وينغص حياتى يصبح هذا الرجل الوديع الظريف الكيّس؟ أتعرف من هذا يا مراد الذى يكوينى بنظراته؟ إنه خطيبى زكى.. أفهمت الآن»؟ فقال بهدوء وبصوت متزن النبرات: «خطيبك زكى؟ هذه أخبار.. أظن أن من واجبى أن أقدم لك التهنئات». ولكنها أحست من نبرات صوته على الرغم من اتزانها أنّ هذا الخبر لم يسره، فقالت: «لا داعى للعجلة.. ثم إن الزواج مسألة عادية جدا على كل حال.. أو كما يمكن أن تقول أنت.. هو شر يصيب كل إنسان.. عاجلا أو آجلا.. متى يصيبك يا مراد»؟ فقال: «أنا؟.. لا أدرى.. صاحبك.. أعنى خطيبك لا يزال محملقا فى ظهرك. فهل تستطيعين أن تنهضى وتذهبى إليه وتقولى له بكل هدوء إن لك حقا فى أن تتناولى العشاء مع صديق قديم مثلى وضع فى طفولته دودة فى ظهرك وصببت عليه عشرين قربة من الماء فى الشتاء»؟ فقالت ببساطة: «إنى أحب زكى.. وأنت لا تعرفه.. بالطبع ليس فى كونى معك هنا ما ينبغى أن يسوءه، ولكنه لا يعرف أنك هذا الصديق القديم.. كل ما يعرفه أنه خطيبى.. وإنى — كما قال مرارا — طائشة.. مندفعة». قال مراد: «اشربى القهوة.. لا تفسدى على نفسك الليلة.. ستشرحين له كل شىء، فيعود حملا وديعا ويعتذر إليك من هذه النظرات الحامية». فشربت القهوة، ولكنها كانت ساهمة.. فقد كانت تحب «زكى» هذا، وكانت تكره الاضطرار إلى الشرح وتستثقل أن تحتاج حتى إلى ما يشبه الإعتذار. وقال مراد: «لقد قام الرجلان.. خطيبك وصاحبه». فقالت: «يحسن أن نقوم إذن.. فسيودع صاحبه ولا شك ويقف فى انتظارى.. أشكرك يا مراد.. نبهتنى إلى أنه خرج فلألحق به». وخرجا.. وودعها مراد بعد أن عرفت منه عنوانه، وعرف منها عنوانها، وألح عليها أن تتصل به إذا جد أمر من جراء لقائهما الليلة. ••• وقالت جليلة لزكى: «معى سيارتى، فلا حاجة إلى تاكسى». فدخل فى السيارة واضطجع.. ثم قال: «من هذا الرجل الذى كان معك؟». فقصت عليه وما وقع لها عند المطار، فقاطعها وقال: «كيف تكلمين رجلا غريبا؟ إن هذا كثير..». قالت: «ولكنه ليس غريبًا.. لقد نشأنا معا.. فى حى واحد». فنفخ وقال: «ولكنك لم تكونى تعرفين أنه هو صديق طفولتك». فقالت بلهجة المستغرب: «هل كنت تريد أن أتقبل معونته ولا أشكره على الأقل»؟ فترك هذا وقال: «ولماذا تخرجين إلى هذا المكان وحدك»؟ قالت: «لأنك مشغول عنى بأعمالك الكثيرة التى لا تدع لك وقتا لمرافقتى.. ومع ذلك أى بأس هناك»؟ قال: «بأس؟ بأس؟ هذا الذى حدث لك من غوص العجلة أليس بأسا»؟ قالت: «لا تكن متعنتا.. إن السيارات يمكن أن يحصل له أى شىء فى أى مكان فى الدنيا». فترك هذا أيضا وقال: «ولكن تأتين معه إلى الحاتى.. ماذا يقول الناس»؟ فقالت: «إذا كان الحاتى مكانا لا يليق أن يدخله الشريف..». فقاطعها بسرعة، وقال: «لست أقول هذا.. الأمر على العكس». قالت: «اذن انتهينا». فسكت، فما رأى حجة له تنهض. وساءه ذلك فقد كان شديد الاعتداد بنفسه، وكان عظيم الطموح واسع الأمل فى المنازل الملحوظة.. فلم يسره أن الفتاة التى سيتزوجها تقرع حجته بأقوى منها، وأحس أن فى هذا تنقصا له وغضا من مقامه وسقوطا لهيبته، ولكن الكلام خانه فآثر السكوت على مضض. وكان زكى — أو إذا أردت اسمه كله زكى الدين حمد — من أصل تركى أو شركسى — سيان — وكان يطمع أن يبلغ بماله الموروث حيث لم يستطع أن يبلغ بالكفاية الشخصية. وكان أمله الذى لا ينفك يحلم به فى اليقظة والمنام أن يصبح يوما من أعضاء البرلمان، ومن أجل هذا كان يتقرب إلى الزعماء السياسيين بوسائل شتى.. وكان يعنيه جدا أن يحسن رأيهم فيه وظنهم به … وكان يحرص على المركز المأمول، ويحيط نفسه سلفا بكل مظاهر الأبهة والسمت والوقار، وينظر إلى الأمر كله كأنه واقع. وينتظر من الناس أن يعدوه كذلك، بل أن يبالغوا ويروحوا يمدون بصرهم إلى المستقبل، وأن يخالوه كما يتخيل نفسه فيه وزيرا أو رئيس وزارة. وقال لجليلة — وهو يودعها على باب بيتها: «أرجو يا جليلة ألا تعرضينى لكلام الناس، واذكرى أن لى مركزا يجب أن أحافظ عليه». فسحبت يدها من يده وقد آلمها كلامه، وأحست أنّ سهما وقع فى قلبها. كانت حساسة وذكية. ولم يكن يخفى عليها أن ليس له مركز سوى ما يفيده الغنى. ولم تكن هى تحتاج منه إلى مال فإن مالها كثير. وكانت تدرك أن ما يسميه «مركزه» جانب ضعف فيه، ولكنها كانت تغض عن ذلك لحبها له، غير أنها لم تكن تتوقع أن يتهمها بأنها تسىء إلى هذا المركز — وإن كان موهوما — فضلا عما تنطوى عليه عبارته من التعريض بها، بعد أن شرحت له الأمر كله ولم تُخف عنه شيئا. وماذا تخفى وليس فى الأمر ما يستدعى الكتمان؟ وقالت له — وهى تهم بالدخول: «ليلتك سعيدة». فسألها: «متى نلتقى غدا»؟ فأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها، وألقت إليه ابتسامة ساخرة، وقالت: «غدا؟ لا.. إنى على موعد مع مراد..». ولم يكن ثم موعد ولا شبهه، وإنما قالت ما قالت مدفوعة إليه بضجرها وألمها. ودخلت.. وتركته واقفا وفمه مفتوح. ••• ولم تحاول أن تلتقى بمراد فى اليوم التالى، فقد كانت تدرك أن هذا لا يكون منها إلا خرقا وحماقة.. فلزمت بيتها إلى المساء، ثم خرجت فى سيارتها على عادتها وجالت بها جولة قصيرة، ثم ردت بعض الزيارات وعادت فلزمت غرفتها. وكان الألم لا يزال يحز فى نفسها، فساء نومها واضطرب. وذهب يوم وجاء يوم، ولكنها أحست ثقلا فى جسمها وفتورا.. فبقيت فى فراشها، وأوصت أمها أن تمنع أن يوقظها أحد — حتى ولا زكى — فشعرت الأم أنّ فى الأمر شيئا، ولكنها حدثت نفسها أنه خلاف لا يلبث أن يزول. وجاء زكى يسأل عن خطيبته، فعرفت الأم أنه لم يلقها منذ يومين.. فأظهرت تعجبها وزلت، فقالت إنها كانت تحسب أنها لم تخرج إلا للقائه. وزل زكى أيضا فقال لها إن جليلة تسلك مسلك الأطفال، وأن ذلك يسىء إلى مركزه، وأنه كلّمها فى ذلك فغضبت ولجت فيما نهاها عنه، فهو يرجوها — الأم — أن تكبحها قليلا.. فما يليق أن تترك هكذا — حبلها على غاربها. وعرفت جليلة هذا الذى دار بين أمها وبين خطيبها، فدهشت له.. ولكنها لم تغضب ولم تثر، بل كان من الغريب أنها أحست كأنما وضع لها فى مكان القلب قطعة من الثلج. وجاء العصر.. فركبت سيارتها وخرجت بها إلى مصر الجديدة. وكان كل همها أن تكون وحدها وأن تدور دورة فى الهواء الطلق وتمشى قليلا، عسى أن ينفعها ذلك.. فيعفيها من الشعور بالانقباض والفتور. وإنها لفى بعض الطريق، وإذا بها ترى مرادا يمشى بسرعة كأنما يريد أن يدرك موعدا.. فوقفت وأشارت إليه وقد أحست أن جسمها قد صار أخف مما كان.. فجاءها يعدو، فسألته: «إلى أين»؟ فلم يجب عن هذا السؤال ولم يلق إليها تحية، بل ركب وهو يقول: «أرانا نلتقى فى هذه الأيام.. حسن هذا.. أليس كذلك»؟ فأعداها ما فى وجهه من البشر، وقالت ضاحكة: «غريب هذا.. تمضى سنوات لا نلتقى فيها مرة واحدة، وفى أربعة أيام نلتقى مرتين». فقال: «لا تغلطى يا فتاتى.. ليست هذه مصادفة..». فنظرت إليه مستغربة، وسألته: «ليست مصادفة»؟ فقال وعلى فمه ابتسامته الوضيئة التى لا تفارقه: «كلا.. ليست مصادفة.. إنها إرادتى سلطتها عليك فجذبتك إلى حيث أنا.. نعم». فعاد إليها إشراق وجهها وأطمأنت، وقالت: «أوه.. آه.. إرادتك؟ طبعا..». فقال: «لا تمزحى.. إنى أتكلم جادا». فرمت إليه نظرة سريعة، فألفته لا يزال يبتسم.. فحولت وجهها إلى الطريق، وقالت: «هذا بديع.. تكلم، إنّ أذنى لك». قال: «نعم.. إرادتى.. لم أزل منذ عشر سنين أربى هذه الإرادة، فهل تستغربين أنها بلغت من القوة هذا الشأو؟ بالطبع لا، وأنت أول من ينبغى أن يكون من تلاميذى المؤمنين بى.. من حوارى. هه؟ وسأفتتح بك العهد الجديد». وبلغا آخر الطريق إلى المطار — من ورائه — فجلسا على سلم السيارة، وأخرج مراد سيجارة وذهب يدخن فى صمت.. فلما طال ذلك التفتت إليه وقالت: «إنك لا تسألنى ماذا حدث»؟ فلم يحول وجهه إليها وأدرك من كلامها أن شيئا لابد أن يكون قد حدث. ولم يشأ أن يتطفل عليها بالسؤال، فاكتفى بأن يقول: «إن أذنى لك.. أعرناك السمع». فقالت: «إنك قليل الفضول». قال: «لأنى مشغول عنه بما فى نفسى.. الدكان غاصة. لا تحتمل زيادة». قالت: «لغة التاجر، اسمع.. غضب زكى، أوه. غضب جدا.. لم يقل شيئا كثيرا، كل ما قاله إنى خفيفة طائشة، وأنى أسىء بسلوكى إلى مركزه». فانتفض مراد واقفا وقد تجهم وجهه ورمى السيجارة، ثم التفت إليها وقال بلهجة صارمة: «من يكون زكى هذا»؟ وكبح نفسه عن الاسترسال، ورد لسانه بجهد، وضبط أعصابه، وعاد إلى مكانه من السلم والتفت إليها وقال — وقد وسعه أن يبتسم مرة أخرى: «معذرة.. ليس لى حق.. قولى إنك صفحت عنى». فسرها منه أنه غضب لها، وفارت نفسه بالسخط على خطيبها من أجلها، فقالت له برقة: «أشكرك.. إننا صديقان قديمان». فقال لها — وهو ينهض مرة أخرى: «قومى نتمشى.. دعى السيارة، فلن يخطفها أحد». وقطعا مسافة وهما صامتان، ثم وقف والتفت إليها وقال: «اسمعى يا جليلة.. إنى أعتمد على ما تخولّنى صداقتى القديمة من الحق فى الصراحة … عشرون قربة من الماء تجعل لى هذا الحق، أريد أن أقول إنى تحاشيت فى مقابلتنا الأولى أن أكاشفك بما أضمر لك من الحب كل هذه السنين الطويلة، لأنك قلت عرضا أنك مخطوبة.. ولكن وجه المسألة تغير اليوم بعد أن سمعت منك ما قال هذا البغل». فقاطعته ضاحكة: «اذكر أنه خطيبى. لا يزال خطيبى. وإنى قلت لك إنى أحبه». فقال: «لم يعد هذا يعنينى.. لست أحاول أن أصرفك عنه.. كلا، ولكنه لم يبق لى بد من أن أقول إنى أحبك، وإنى أحبك مذ كنت طفلة، وكنت أعابثك وأكايدك وأصرخ فى وجهك. وكان هذا مظهر حبى الصبيانى.. أما الآن، فإن مظهره أنى مستعد أن أذهب إلى خطيبك هذا وأخنقه بيدى هاتين». فقالت ضاحكة: «لقد توهمت لحظة أنك صرت أرق». فقال: «كلا.. أنا كما كنت.. واسمعى ولا تقاطعى وإلا بحثت عن دودة ووضعتها لك فى قفاك.. إذا حدث يوما أن صار الدكان للإيجار فاخبرينى». فقالت: «لغة التاجر أيضا.. ولكنى سأستعيرها منك.. ثق أنك مفضل عندى على كل مستأجر لهذا الدكان إذا خلا يوما من الأيام.. لم يخطر لى أن هذا ماتنطوى عليه لى.. ومن التى تتصور أن وضع الديدان فى قفاها يكون علامة حب؟ ولكنك كنت دائما غريبا.. على كل حال، المسألة المهمة أن الدكان مزحوم. ليس خاليا.. رحت أستبضع فامتلأ.. صحيح أنه امتلأ بأشياء لا قيمة لها.. ولكنى لم أكن أعرف أن ما غص به عديم القيمة.. المهم أنه ممتلئ، وأظنك تدرك أنه ما دام مملوءا فلا مكان هناك لجديد.. يجب الصبر حتى أخليه مما فيه.. هذا يحتاج إلى وقت. ومن يدرى، ربما كان الإخلاء أصعب من الملء. ولكنك تفهم.. قل إنك تفهم وتعذر..». فقال ببساطة وهدوء: «لا بأس. لا بأس.. إن دكانى أيضا مزحوم. ولكنه مزحوم بالنفيس الغالى.. ولست أريد أن أخليه — لا أستطيع أن أخليه حتى لو أردت. وهيهات أن أريد أو أستطيع.. أنه مكتظ منذ خمس عشرة سنة، وسيظل مكتظا طول العمر. وقد عرفت أن مفتاحه معك.. فى يدك.. فادخلى حينما تشائين. وعسى أن تشائى.. عدينى أن تحتلى مكانك من الدكان بعد أن تفرغى من أمر دكانك.. وفى أثناء ذلك نبقى كما كنا دائما.. صديقين حميمين». ولم يسع جليلة الا أن تفكر فى أمر الرجلين — مراد الذى تعرفه منذ الطفولة، والذى كان يسود عيشها بعبثه — لأن هذا كان تعبيره الخاص عن حبه لها — وقد ظل بعد ذلك يحبها، ولكنه أحجم عن طلب يدها لرقة حاله بالقياس إليها. وقد صار تاجرا، ولكنه لم يُثْرِ لأنه لا يربح إلا الكفاية.. ومن هنا إحجامه إلى الآن عن خطوبتها كما حدثها. وقد زاد على ذلك أنه كان لا يتصور أن ترضى به فتاة مثلها، فكتم حبه وطواه فى صدره، وسأل الله المعونة على احتمال اليأس المخامر. وهو ظريف كيّس لبق دائم البشر واسع الإدراك رحيب الأفق حلو الفكاهة … وزكى الغنى الذى لا ينفك مهموما بمركزه المتخيل والذى لا يتقى فى سبيل الحرص عليه أن يجرح قلب فتاة ويتهمها بالخفة والطيش فى سلوكها، وبأن سيرتها توشك أن تسىء إلى مركزه الموهوم هذا. وقد أحبته.. هذا صحيح، ولكن عينها فتحت، فهى تراه الآن على حقيقته. وليس يسعها إلا أن تفكر فى حياتها معه كيف يكون، إذا كان كل ما يباليه فى الدنيا هو هذا المركز.. ولكنها خطيبته وقد قبلت أن تكون زوجته.. فما العمل الآن؟ وسألت نفسها: أى الرجلين أحب إليها؟ وحيرها الجواب.. فهل هذا الذى تشعر به لمراد حب؟ إن يكن هذا فهو هادئ جدا.. أما زكى فإن الدكان كما قالت لمراد مزحومة.. صحيح أنها مزحومة بما لا قيمة له — كما ظهر الآن — ولكنها مزحومة.. فهل تخلو يوما؟ هذه هى المسألة.. وإلى أن تخلو لا سبيل إلى شىء. ولو أن زكى ذهب إليها فى ذلك الوقت ولاطفها وضاحكها ومازحها واعتذر إليها — ولو كانت هى فى رأيه المخطئة — لعادت المياه إلى مجاريها كما يقولون، ولارتفعت قيمة ما فى الدكان وارتدت إليه نفاسته. ولكنه أراد أن يلقنها درسا، فأعرض أياما وجفاها وانقطع عن زيارتها، ولم يكفه ذلك.. بل أرسل إليها خادمة من عنده تبلغها تحياته وتسألها باسمه عن صحتها، وأوصاها أن تخلق مناسبة لتقول لها أن سيدها يكثر — فى هذه الأيام — من زيارة بيت خالته — وكانت لها بنت فى مثل سن جليلة — ليثير غيرتها وإشفاقها من أن يطير العصفور من يدها، فأفلح ولكن فى استثارة نقمتها عليه.. فقالت لنفسها إن رجلا يهينها ويعرّض بها ويرميها بأن سلوكها من شأنه أن يسىء إلى سمعته وأن يضر بمركزه، ثم لا يجعل هذا بينه وبينها بل يفضى به إلى أمها، ثم لا يكفيه هذا بل يجفوها ثم يغلو فى تعمد الإساءة إليها فيرسل إليها خادمة تبلغها أنه انصرف عنها إلى سواها.. مثل هذا الرجل خير له ولها أن ينقطع ما بينهما. ••• على أنها لم تتعجل — وإن كان عزمها قد صح على الفراق — فقد كانت شديدة الثقة بنفسها والاعتداد باستقلالها وإرادتها الحرة، فلم تر ما يدعو إلى العجلة بعد أن انتوت أن تفصم العروة. واستوى عندها أن يكون ذلك يوم انتهت إلى هذا العزم، وأن يكون بعده بأيام أو أسابيع. فقد كانت واثقة أنه ما من شىء يستطيع أن يحولها عنه. وصار عجبها أن الدكان خلا بسرعة مما كان يغص به. ولم تكن تلقى فى تلك الأيام مرادا، لأنها أرادت أن تختبر نفسها لتعرف ما تنطوى عليه له.. فأدهشها أنها تحس وحشة، وأنها تشتهى أن تكون معه، وأن تستعيد ما تشعر به فى مجلسه من سكينة النفس واطمئنان القلب والرضى الهادئ. وزاد شوقها إليه أنها كتمت الأمر كله عن أمها. ولو كان مراد إلى جانبها، لكان خليقا أن يفهم ويعذر ويعطف وأن يسرّى عنها بفكاهته التى لا تخونه، وأن يغذيها بقوته التى تجعله لا ينسى أن يضحك وهو يفجع فى أمله الذى عاش به سنين وسنين.. وتعجبت لسرعة استيلاء مراد على هواها، فما لقيته إلا مرتين بعد طول الانقطاع والغيبة. فهل هذا هو الحب الذى يقال عنه أنه يكون من أول نظرة.. أم تراها كانت تحبه منذ عرفته وهى لا تدرى، وكان حبها له راقدا كامنا ينتظر فرصة للظهور؟ لاشك أنها كانت تحبه، كذلك قالت لنفسها وهى راقدة على سريرها بعد الغذاء. نعم كان يقسو عليها ويركبها بالمزاح المتعب، وكان يختبئ لها وراء الأشجار ثم يفاجئها بصرخة ترعبها فيضحك ويقهقه. وكان يجرى وراءها حتى تنقطع أنفاسها وتقع من الإعياء.. فيحملها، ولكنه لا يرحمها، ولا يترفق بها.. بل يقرصها ويعضها، فتصرخ وتصيح وهو يضحك ولا يبالى.. ولم تستطع أن تنتقم منه إلا مرة واحدة حين أرسلت عليه خرطوم الماء فأغرقته، فجعل ينتفض من البرد. ولكنه كان يضحك مع ذلك ولم يسخط عليها.. ولم ينطق بكلمة تشى بالألم أو النقمة أو الغضب، بل احتمل ذلك. ولما رق له قلبها وأقبلت عليه بالاعتذار إليه وطلبت الصفح منه، لم ينس دعابته وعبثه ونبحها كما يفعل الكلب «وو.. وو..» ففزعت. فما كانت تتوقع شيئا من ذلك، ومضت عنه مغيظة محنقة معتقدة أنه شر صبى فى الحارة، وكان هو يقهقه وينطوى من شدة الضحك غير عابئ بالماء والبرد.. فتالله ما أقواه. ومع ذلك كانت لا تلعب إلا معه.. وإذا أقبل عليها غيره من الصبية نفرت. نعم، لا شك أنها كانت تؤثره، ولماذا لا تقول إنها كانت تحبه؟ صحيح أنها لم تكن تعرف الحب.. ولكنها تعرفه الآن، فقد صارت خبيرة مجربة.. فلماذا لا تسمى الشىء باسمه الصريح؟ وارتدت من الماضى إلى الحاضر، وذكرت كيف غاصت عجلتها فى الرمل ووقفت حائرة.. وإذا به يظهر كأنما شق الأرض وخرج منها — كما كان يفعل وهو صبى — وينطرح على الأرض بلا كلام أو سؤال، ولا يبالى ما يصيب ثيابه، ويجرف الرمل بيديه الكبيرتين ويحمل الحجارة.. يفعل كل ذلك ولا يرفع عينه إلىَّ.. ثم يعرفنى فيتلطف فى تذكيرى بنفسه. ويتظاهر بنسيان اسمى وهو منقوش ومحفور فى قلبه.. وتنازعه نفسه أن يُفضى إلىَّ بحبه، فيشير إليه من بعيد فى معرض الكلام على ذكريات الحداثة.. ويعرف أنى مخطوبة، فيفقد كل أمل. ولكنه يتجلد ويتكلف الابتسام ويمضى فى مؤانستى بحديثه، كأنما لم ينهد ولم يتقوض بنيانه.. وهل أنسى كيف ثار وانتفض حين رويت له ما أهاننى به زكى؟ فقد كانت وثبته تلك دليلا كافيا على عمق ما يجن لى من الحب.. ومع ذلك أبت له الكياسة والأدب إلا أن يكبح نفسه ويردها عن النيل من زكى مخافة أن أكره ذلك منه. وظلت تناجى نفسها على هذا النحو، ولا تكتحل عينها بغمض حتى كان العصر.. فقامت ولبست ثياب الخروج، واستقلتها سيارتها الصغيرة إلى دكان مراد، فأقبل عليها يرحب بها، فقالت: «أنت أولى من الغريب». فابتسم وقال: «آه.. أهو ذاك»؟ قالت: «نعم.. أريد شيئا من الحرير.. قطعا كثيرة. ألوانها شتى.. الوقت ضيق». فقال: «الوقت؟.. لست فاهما شيئا..». قالت: «ألا تعرف أن العروس تحتاج إلى ثياب كثيرة»؟ فامتقع لونه، ولكنه تجلد وقال: «متى، إن شاء الله؟ لست أطمع أن أُدعى، ولكنى أريد أن أحتفل بليلة الجلوة وبسرورك فيها.. وحدى». فسألته بخبث: «وحدك»؟ فقال: «نعم.. لن يكون معى سوى خواطرى». وأدار وجهه إلى الباب ليخنق زفرة يعلو بها صدره، ثم التفت إليها وقال: «متى يكون هذا»؟ فرفعت إليه وجها مشرقا، ونظرت إليه نظرتها الحالمة، وقالت: «متى تريد أن يكون»؟ فقطب، وقال: «إيه»؟ فأعادت سؤالها: «متى تريد أن يكون»؟ فحدق فى وجهها — فى عينيها — ثم صاح وقد فطن إلى ما تعنى، وانحنى عليها فرفعها بيديه عن الكرسى غير عابئ بالعمال والزبائن، وأهوى على فمها باللثمات ثم ردها إلى الكرسى، وصاح بأحد رجاله: «اذهب. اذهب. حالا. حالا». فوقف الرجل كالأبله لا يفهم ولا يدرى أين يريد منه أن يذهب، فصاح به: «هات المأذون.. ألا تعرف المأذون يا أبله؟ اذهب.. حالا..». فوقفت جليلة وأقبلت عليه تسأله: «ماذا تعنى؟ ماذا تريد أن تصنع»؟ فقال: «ماذا أعنى؟ يا له من سؤال.. نعقد العقد.. هنا.. حالا فى الدكان.. هذا ما أعنى.. رجالى وزبائنى شهودى.. شهود سعادتى.. لقد كان التجار فى الزمن السالف يجيئون برجال يقفون على أبواب الدكاكين ويدعون المارة أن يدخلوا ويزينون لهم البضاعة، وقد انقضى ذلك الزمن وحلت الإعلانات فى الصحف محل هؤلاء المنادين.. ولكنى اليوم سأقف بالباب وأدعو الناس.. كل الناس.. أن يدخلوا، لا ليشتروا، بل ليشاركونى فى سعادتى. لماذا لم يجئ المأذون؟ اذهب أنت وراءه واستعجله». وفرحت جليلة بهذا الجنون وخجلت أيضا.. أفرحها أن عقله استُطير من فرط الجذل، وأخجلها أن كل هؤلاء الناس من العمال والزبائن يرونها وأن عيونهم جميعا عليها، وأنهم جميعا يفحصونها ليعرفوا سر هذا السحر الذى ذهب بلب الرجل الذى ألفوا منه الرزانة والوقار والسكينة والظرف والعقل.. وأرادت أن تستمهله، فأبى.. فاقترحت أن يذهبا بالمأذون إلى البيت، فأبى أيضا، وقال: إن ناسا فى هذا الزمان يتزوجون فى الطيارة.. فماذا يمنع أن نتزوج فى الدكان؟ فقالت: إنه فرق ساعة، والمسافة إلى البيت لا تستغرق زمنا. فأبى أيضا، وقال إنه يخاف عليها أن تطير وتتسرب فى الهواء.. كلا، ولابد أن يكون العقد هنا. وراقها هذا الجنون وألهب خيالها فرضيت.. وتزوجا فى الدكان! وقالت له وهما خارجان: «نسيت أن أقول لك إنى وجدت أن الدكان لم يكن خاليا قط.. كان ما فيه مخزونا من أيام الصبى.. فلما أدرت عينى فيه عرفت، ولهذا جئت». فقبلها على باب الدكان … ولم يستح الرجل!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/3/
الكآبة
يقول بعض الأطباء بلهجة الجزم التى لا تردد فيها ولا تلعثم: إن حيوية الجسم الإنسانى تكون أدنى ما تكون بعد منتصف الليل. وفى تلك الساعة العصيبة، يعجز العقل عن تدبر الحاضر بسكينة ورضى، واستشفاف المستقبل بشجاعة، ورجع البصر فى الماضى بغير أسف. ولكن كل امرئ غير هؤلاء الأطباء يعرف أن ساعة الكآبة والهبوط لا وقت لها، وأنها قد تكون الأولى صباحا أو الثانية مساء. كما قد تكون فى العصر أو الغسق. فليس لها ثبات ولا أوان معروف، وأن ساعتها قد تكون ثوان أو دقائق. وقد تمتد وتطول، فينطوى فيها الليل والنهار جميعا والعمر أو خيره فى بعض الأحيان. ومهما يكن من ذاك، فإن المحقق — على كل حال — أن كاتبا مثلى لا يسعه إلا أن يشعر وهو يتأمل «سعيدا» بقصوره وعجزه، فإن مثل هذه الكآبة لا يستطيع أن يوفيها حقها سوى مجمع من أعلام البيان. وقد يسع «زولا» أن ينصفها، وعسى أن يكون «جوركى» قادرا على تناولها بقلمه، ولعل «دستويفسكى» كان أقدر من سواه على ذلك، ولكنها فوق طاقتى وحدى. وشر ما فيها أنك لو سألت «سعيدا» نفسه عنها، ما سببها أو داعيها، لما وسعه أن يعلله.. ولكان الأرجح أن يتعجب لها، فقد كان حسن الحال ميسّر الرزق. ولا نكران أنه كان يكد ويتعب فى سبيل الرزق.. ولكن كل إنسان يفعل ذلك، حتى أصحاب الضِّياع لا مفر لهم من العمل والسهر والتعهد والعناية بما يملكون، وإلا نضب المعين وجف المورد. وكان فوق ذلك ذا زوجة صالحة فيها رقة وجمال وأدب وحذق ولها عقل، وكفى بهذا نعمة. وكان فى تلك الساعة فى «قهوة» لها حديقة تشرح الصدر. والطريق أمامها واسع نظيف، واليوم يوم أحد، والغوانى يرحن ويجئن على الرصيف.. كل اثنتين أو ثلاث أو أربع معا، وهن فى حفل من الزينة. وأخلق بالمرء حين ينظر إلى وجوههن الصبيحة وقدودهن البارعة وخطرتهن الرشيقة، ويسمع أصواتهن البلبلية أن يشيع البشر فى نفسه! وكانت فى حديقة القهوة نافورة صغيرة، ترسل الماء خيوطا دقيقة تعلو ثم تتناثر على صورة المظلة. وقد اجتمع الماء والخضرة والوجه الحسن — بل الوجوه الحسان — فماذا يبغى سعيد فوق ذلك؟ أم ترى اجتماع ذلك كله هو سر الكآبة، من يدرى؟ وجاء ماسح الأحذية وقعد ومد يده بالصندوق إلى رجل سعيد بلا استئذان، فرفع هذا قدمه إلى الصندوق بحكم العادة لا بدافع الرغبة.. فقد كان الحذاء نظيفا لماعا. وقال الرجل بعد فترة صمت شغل فيها بغسل الحذاء بالماء والصابون: «من زمان ما جئت إلى هنا يا بك». ولم يكن سعيد «بيكا» ولا كان له أمل أو رغبة فى رتبة كهذه.. فإنه رجل عمل لا يحفل بالألقاب والرتب، ولكن كل امرئ «بك» عند ماسحى الأحذية وسائقى المركبات. ولم يزد سعيد فى جواب السؤال على «آه»، ثم أدار عينه فى الجالسين بهذه القهوة فألفى ناسا يشربون وآخرين يلعبون «الطاولة» وحولهم كثيرون ينظرون إليهم وهم وقوف. وأخذت عينه رجلا وامرأة جالسين تحت شجرة وأمامهما قدحان من «الزبيب» فقد كان هذا أحد الشهور التى لا «راء» فى حروفها — وهى مايو ويونيه ويوليه وأغسطس — والقاعدة المصرية أن شرب «الزبيب» يحلو ويطيب فى هذه الشهور الأربعة. فاشتهت نفسه قدحا من الزبيب.. وصفق فجاء الخادم، ولكنه تردد وخطر له أنه ليس معه من يشاربه. فنظر إلى الخادم الصبور، وسأله: «عندك إيه»؟ ولم تكن به حاجة إلى سؤال كهذا، ولكن الخادم ألف هذا من الزبائن، ووطن نفسه عليه، فقال بلا تململ: «قهوة، شربات، كازوزة، شاى..» وأمسك. ثم كأنما تذكر، فزاد «خشاف، ليمونادة».. ولم يأنس من سعيد قبولا، فقال: «ويسكى، كونياك..» فاستوقفه سعيد بإشارة، وسأله: «كونياك من أى صنف؟» فقال الخادم: «كمبا، كمبا عال، مارتل، كور فوازييه، انيسى..». فهز سعيد رأسه، وقال: «هات زبيب». ومضى الخادم، فقال ماسح الأحذية: «القهوة دى يا بك عال». فزاد صدر سعيد ضيقا ولم يجب، ودار بنفسه أن كل إنسان سعيد إلا هو. وأنكر أن يكون اسمه سعيدا، ورأى فى هذا الاسم تهكما من الأقدار. وخطرت فى هذه اللحظة فتاة أمامه وألقت نظرة سريعة على حديقة القهوة وهى تمر بها، فقال سعيد لنفسه إنه كان خليقا أن يشعر ببعض السعادة لو كانت معه فى هذه الساعة فتاة كهذه تؤنسه بحديثها. ومرت فتيات أخريات وراءها، فقال لنفسه: «ما أكثر الفتيات اللواتى يمشين وحدهن ولا رجال معهن»! وقال ماسح الأحذية: «شارع ظريف يا بك.. وخصوصا يوم الأحد..» وأشار بيده إشارة عامة يمكن أن تشمل المبانى ومركبات الترام. ورفع وجهه الأسمر إلى سعيد وابتسم له ابتسامة لا تخلو من معنى.. فعبس سعيد، ثم بدا له أن التعبيس لا موجب له، فابتسم متكلفا ورد عينه إلى الشارع ومن يمشين فيه. وقال الرجل: «بس سعادتك ما بتجيش». فاحمر وجه سعيد، فقد أدرك غرض الرجل. ولم يخفَ عليه ما يرمى إليه، وكان الزبيب قد جاء فصب عليه ماء، ورفع الكأس إلى فمه ورشف. وأقبلت إذ ذاك فتاة تعدو على الرصيف وكان جسمها لينا وثوبها محبوكا، فلم يسعه إلا أن ينظر إلى صدرها العارى، وخصرها الهضيم وتحته ردفاها يرتجان، وثناياها اللؤلؤية التى تفتر عنها شفتاها الحمراوان.. فرفع الكأس مرة أخرى وشرب وقال لنفسه: إنه مسكين مسكين ومحروم محروم. ثم ارتد يقول — لنفسه أيضا — إنه ليس مسكينا ولا محروما فإن له زوجة جميلة، وإن فى وسعه أن يُعجب ما يشاء بجمال النساء غيرها.. ثم يسكن بعد ذلك إلى زوجته، وأن حسبه من السعادة وفاءها وبرها وإخلاصها. ثم هز كتفيه — وإن كان وحده — وقال: «وما قيمة أن يعجب المرء بالجمال وما خير ذلك؟ وماذا يكون معنى هذا الإعجاب على مسافة أمتار؟ لكأنى أنظر إلى شريط سينما.. ولا فرق بين أن أرى الفتيات يخطرن على الرصيف أمامى، وأن أرى صور النساء فى شريط السينما. إنما تكون للإعجاب قيمة إذا جالس الرجل المرأة وحادثها ونعِم بوجودها وحديثها وأنِس بمحضرها على العموم. ولكن..» وهز رأسه مرة أخرى متحسرا. فقد كان فيه احتشام وحياء شديد. وكان من غريب أمره أنه يجتنب المجالس التى يختلط الرجال فيها بالنساء. وكان يدعى إلى سهرات من هذا القبيل عند من يعرف من الأجانب والمصريين، فيعتذر ثم يروح يقرع نفسه ويسخط عليها. وكان حياؤه أو شعوره الشديد بنفسه يوهمه أنه ليس مقبول الشكل أو ظريفا، ولا أنس لأحد به. وكان كثيرا ما ينظر إلى نفسه فى المرآة ويدور أمامها، ليرى كيف يبدو من كل ناحية.. فلا تعجبه الصورة التى تطالعه، فيمط بوزه ويقطب وينحط على أقرب كرسى ويروح يفكر فى سوء طالعه، حتى أورثه هذا اضطرابا فى الأعصاب. وصفق، فقال ماسح الأحذية: «حاجة يا بك»؟ فقال سعيد: «لا..» وتردد فقال: «ناد الجرسون». فوضع الرجل الفرشاة ونهض، ولما عاد جلس وهو يقول: «أنا خدامك يا بك.. تحت أمرك.. بس اؤمر. أتمنى خدمة.. والله يا بك». فدار رأس سعيد، وقال لنفسه: «لم يبق إلا هذا.. نعم لم يكن ينقصنى إلا أن أستعين بهذا الرجل.. مصيبة. مثلى يخطر له أن يستعين على سد الفراغ الهائل فى حياته الجافة برجل من هذا الطراز.. ومع ذلك، لم لا..؟ وماذا يستطيع مثله.. إنه لا يسعه شىء أعجز حتى أنا عنه، لأنه إذا كان يعرف أحدا فإنه لا يعرف ولا يمكن أن يعرف إلا الطبقة التى هى كالشمس لكل الناس.. أعوذ بالله.. لا.. ليس هذا ما أريد. ومع ذلك من يدرى.. ألا يمكن أن أختبره»؟ وجاء الجرسون ثم انصرف ليجىء بالكأس الثانية، فخطر لسعيد خاطر، والتفت إلى الرجل وقال: «اسمع: إنى أريد شقة صغيرة.. غرفتين فقط.. شقة أشتغل فيها. البيت ضجة وضوضاء.. شقة صغيرة هادئة.. فى حى محترم..». فأقبل الرجل على الحذاء يمسحه بهمة ونشاط، وقال: «كثير يا بك.. بس اؤمر». فقال سعيد: «طيب ابحث وابق قل لى». فقال الرجل: «حاضر.. من عينى». فرمى إليه قرشين، فتقبلهما الرجل مسرورا داعيا مؤكدا صحة عزمه على خدمته بإخلاص، ومضى عنه. وتناول سعيد الكاس وشرب وهو يحدث نفسه أن هذا جنون. وماذا يصنع بالشقة؟ أما إنّ أمره لغريب.. وهم بأن يدعو الرجل ويصرفه عن البحث، ولكنه عدل وقال إن الأمر بيدى أنا لا بيده، فلا داعى للعجلة. غير انه مع ذلك استثقل أن يدع الرجل يظن به الظنون. وعاد يقول لنفسه إنه رجل لا قيمة له ولا لظنونه، فليظن ما شاء.. ولكن حملته على نفسه لم تفتر. وكان الليل قد أظلم ولم تبدد سواده المصابيح.. وكان هو فى النور، فقدرته على رؤية الشارع محدودة.. فصارت الفتيات كالأشباح، واتسع المجال بذلك للخيال، فالدميمة منهن يحيلها الخيال فاتنة ساحرة. وساعدته الخمر على إتمام الصور، وجلاء غامضها، وعلاج عيوبها المرئية أو الموهومة. وكانت الخمر قد أنعشته قليلا، فكان ينظر ويفكر ويتخيل بشىء من الارتياح.. ولكنه مع ذلك أحس أنه عاجز عن احتمال كل هذا الجمال، وإن كان أكثره مما رسم خياله، فنادى الجرسون ونهض.. ولقيه ماسح الأحذية وهو على الرصيف، فسأله: «تجى بكره يا بك»؟ ولكن البك لم تعد له أذن تستطيع أن تحتمل الإصغاء إلى مثل هذا الرجل، فقال له: «رح.. رح» فألح الرجل ومشى إلى جانبه، يقول: «ليه يا بك.. أنا خدامك.. بس استنى طوّل بالك.. إن ما كنتش أخدمك خدمة..». فقاطعه سعيد ونهره.. ومضى عنه. والمثل يقول: «راحت السكرة وجاءت الفكرة» ولكن الفكرة تروح أحيانا مع الصحو وتجىء مع السكر.. أو على الأقل، هذا ما كان من أمر سعيد، فقد قال لنفسه إنه إذا كان من العجز بهذا القدر.. فأولى به أن يظل عاجزا وأن يعترف لنفسه بذلك ويوطنها عليه. ولم يكن هذا الخاطر مما يجلو الكآبة ويلطف الوحشة التى تحسها النفس، وأخلق بالاعتراف بضعف الحيلة وقلة الوسيلة وعدم الصلاح أن يزيد هبوط الروح! ولا عجب إذا كان سعيد قد عاد إلى بيته وهو يسأل نفسه لماذا شرب هذا الزبيب السخيف؟ ودخل على زوجته، وهو يقول لها: «اسمعى.. من الآن فصاعدا لا تدعينى أخرج ومعى فلوس.. بس الكفاية للانتقال.. فاهمة»؟ فظنت أن ما معه سرقه النشالون، فقال: «لا.. بس شربت زبيب.. جنون بالطبع.. الرجال مجانين». وارتمى على كرسى، وهو يقول: «قال زبيب.. كلام فارغ.. مسخرة وقلة حيا». وأتخذت كآبته صورة السخط على النفس، ولا نعرف كيف كانت أحلامه فى تلك الليلة.. فإنه لم يقصها على أحد، ولكن الأرجح أنها لم تخل من «الزبيب والكلام الفارغ»!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/4/
العقد الضائع
رجعنا من السويس على عجل — أختى وزوجها وأنا — وكنا نقضى فيها أياما، فقد تلقينا نبأ من خادمتنا القديمة الأمينة «فرحة» بأن عمدة قريتنا قادم.. وسينزل علينا ضيفا إجابة لدعوة قديمة نسيناها، فأسرعنا نحشو الحقائب حشوا بلا عناية، لنكون فى البيت قبل أن يصل. ومضى ابن عمى — زوج أختى — فجاء بالسيارة. وكنت قد هضت ساقى قبل ذلك بيوم، فلم يبق مفر من أن يسوق هو السيارة وإن كان لا يحسن ذلك.. ولم يتلق فيه إلا بضعة دروس قليلة. وكان الأحجى أن نستأجر رجلا لهذا، ولكنا كنا نحرص على ألا يكون معنا غريب يحول وجوده دون حريتنا فى الكلام والضحك واللهو أثناء الطريق وقد عزيت نفسى بأن طريق السويس سهل والحركة فيه قليلة، فلا داعى للخوف. وفى وسعه أن يخطئ كما يشاء.. فلن يضيره أو يضيرنا ذلك، وإن كان يخشى أن يضيع وقتنا. وجلست إلى جانبه، وجلست أختى على المقعد الخلفى، وطمأنتها بأنى وأنا معه سأكون السائق الحقيقى، وأنه لن يفعل إلا ما آمره. ولكنا لسوء الحظ، ألفينا الطريق غاصا بالسيارات.. فتعجبنا أولا، ثم تذكرنا أن هذا يوم الأحد، فلا عجب إذا كان الكثيرون قد أقبلوا على السويس ليقضوا اليوم فيه. وقطعنا بعض عشرات من الكيلومترات فى سلام — وفى ضحك أيضا — ثم بلغنا أول مرتقى فى طريقنا، فأشرت على ابن عمى بأن يضع ناقل السرعة فى المحل الثانى.. ففعل، فوقفت السيارة فى منتصف الانحدار. وكنا لا نزال فى مكاننا حين وقف المحرك للمرة العاشرة، فاقترحت عليه أن يكف عن العمل، وأن يضطجع ويشعل سيجارة. ولكنه هز رأسه وقال: «هل أرجع بها القهقرى، ثم أبدأ من جديد»؟ فقلت له: «كلا، إنى أفضل لسخافتى أن أواجه الموت». فقالت أختى: «هل نستطيع أن ندفعها يأيدينا حتى نبلغ ذروة هذا المرتفع؟..» قلت: «كلا.. إن زنتها لا تقل عن طنين». وقال ابن عمى؟ «لن أسألك عن السبب فى وقوفها كلما حاولت أن أحملها على السير، فإنى أعرف جوابك.. ولكنى أؤكد لك أنى أضع ناقل السرعة فى مكانه بأقصى ما يسع إنسانا من الترفق والبطء.. وإذا كنت تريد أن تعرف رأيى فهو أن السيارة قد أصابها تلف». قلت: «سيصيبها التلف على التحقيق، إذا ظللت تحاول أن تدير المحرك ثم توقفه.. فستنفد الكهرباء وتحتاج كلما أردت إدارة المحرك أن تنزل وتديره «بالمنفيلا». وقد ينفعك هذا، فيغريك بالتفكير قليلا». فصاح بى: «أتظن أنى لم أفكر؟ أتتوهم أنى لا أفكر الآن؟ إن رأسى يكاد ينفجر من فرط التفكير». فضحكت أختى، فصاح بها: «نعم اضحكى.. انظرى إلى الجانب المضحك.. ولم لا.. قد يطير عقلى، ولكن هل يجوز أن يمنعك هذا من الضحك»؟ ودأس برجله الزر يريد أن يدير المحرك.. ووقفت السيارة مرات أخرى لا أذكر عددها فاضطجع وأغمض عينيه وراح يقول: «لا فائدة.. لا فائدة.. قُضى الأمر، وأنا واثق أنه كتب علينا أن نبقى هنا إلى الأبد. ومن يدرى.. ربما كان فى الطريق مارد فى يده سيف مسلول.. والسيارة تراه وإن كنا نحن لا نبصره. ومن العبث أن يقاوم المرء القضاء والقدر. كلا.. لا تتكلموا.. فإنى أوثر أن أقضى نحبى فى سلام وبغير ضجة». وفى هذه اللحظة وقفت إلى جانبنا سيارة ونزل منها رجل لم نكد نبصره حتى أيقنا أنه إنجليزى، وحقق هو ظننا فقال لنا بلغته: «هل أستطيع أن أساعدكم»؟ فشرحت له الأمر وعرفته خطبنا، فابتسم وهم بكلام ولكن ابن عمى قال له: «امض عنا.. اذهب.. وحدك.. إن أمامنا ماردا وقد حذر السيارة من المضى ففهمت عنه.. كان صريحا فيما قاله لها، اذهب وأرجو لك السلامة». فابتسم الرجل ودعاه إلى النزول، واتخذ مكانه.. وصعد بنا إلى رأس التل، ولم يكتف بذلك بل ظل معنا — على مسافة منا.. وراءنا — حتى فرغنا من المرتفعات، وصار الطريق بعد ذلك سهلا منبسطا، فشكرناه ولكن أى شكر يمكن أن يفى بحسن صنيعه ومروءته؟ وكان مساء.. ثم كان صباح. ولم يكن النهار قد ارتفع ولا كانت الشمس قد علت، لما دخلت علىَّ «فرحة» توقظنى قبل موعدى المألوف بساعتين، وتخبرنى أن أختى تصيح علىّ وتدعونى إليها فى غرفتها. وقد عجبت، وحق لى أن أعجب.. فما أعرف موجبا لإزعاجى فى مثل هذه الساعة المبكرة — السابعة من فضلك — ومع أختى زوجها، فما حاجتها إلىَّ؟ وقد حاولت أن أهمل هذه الدعوة، ولكن «فرحة» أبت أن تمضى عنى وتدعنى أستأنف النوم.. فتمطيت وفركت عينى وتثاءبت وقلت لها: «ماذا هناك يا فرحة»؟ فقالت بلهجتها الهادئة المطمئنة وصوتها المتزن النبرات الذى لا أذكر أنه ارتفع عن هذه الطبقة مرة واحدة فى عشرين عاما قضتها معنا مذ كانت طفلة: «إن الأمر يستدعى وجودك». وفرحة عاقلة ذكية وحريصة دقيقة العبارة، قد رباها أبى مع أختى وعُنى بتعليمها أيضا، وجعل لها حصة فى الوقف الذى وقفه قبل وفاته. وكانت هذه مفاجأة سارة لنا، فقد أحببنا فرحة حب الأخت. وكانت هى — وما زالت — ربة البيت. ولسنا نعاملها معاملة الخدم وإنما نعدها واحدة منا لها علينا مثل الذى لنا عليها. وحسبك منها، أنها ما أخذت فى حياتها معنا أجرا على خدمة، وأنها بعد وفاة أبينا لم تحاسبنا قط على ريع حصتها وإن كنا نودعه البنك باسمها.. فإذا أرادت ثوبا أو خاتما أو غير ذلك طلبته منا، كما يمكن أن تطلبه أختى منى أو من زوجها. فإذا كانت تقول الآن أن الأمر يستدعى وجودى، فقد صار القيام لابد منه. ودخلت على أختى وورائى فرحة، فألفيتها مستلقية على السرير فى منامة قرمزية مزركشة ومعتمدة بكوعها على وسادة وثيرة مربعة محشوة بريش النعام وخدها على راحتها ويسراها على فخذها وبين أصبعيها سيجارة.. وكان منظرها فاتنا فإنها جميلة ممشوقة، وكانت هذه الرقدة تبرز خطوط جسمها الرشيق وبراعة الانحناءات فيه. وكان زوجها قاعدا فوق السجادة، فنظرت منها إليه وقلت: «لا عجب أن تدللها.. لست بإنسان إذا لم تفعل». فابتسمت مسرورة وأدنتنى منها وقبلتنى، وقالت: «اجلس هنا.. إلى جانبى على السرير.. وأنت يا فرحة.. قصى عليهم الحكاية» فأراحت فرحة أناملها على شباك السرير وأشارت بيدها الأخرى إلى منضدة صغيرة قريبة وقالت: «قبل أن أترك الغرفة وضعت بيدى عقدها — وأشارت إلى أختى — على هذه المنضدة، وفى الصباح دخلت عليها فلم أجده. وسألتها عنه فقالت إنه فى مكانه، فذهبت إلى البك — تعنى زوجها فإن فرحة مؤدبة — وسألته فجعل يضحك ويتحسس عنقه ويقول إنه ليس هنا.. هذه هى الحكاية». فقلت متمما لها كلامها: «فجئتم بشرلوك هولمز ليحل اللغز ويضع يده على اللص.. أشكر لكم هذه الثقة العظيمة». فقالت أختى، وهى تضحك: «العفو.. الواقع أن كل ما أذكره هو أنى قمت بالليل، وغبت عن الغرفة دقائق، ومررت فى عودتى بغرفة هذا الزوج الصالح.. ولكن شخيره كان عاليا فهربت». فنهض ابن عمى محتجا وقال وهو يتمشى: «شخيرى.. هل تريدين أن تقولى إنك أفردت لى غرفة من أجل شخيرى.. شخيرى.. ليتك ترين نفسك فى المرآه وأنت نائمة. إذن لرأيت كيف ترمين اللحاف وتضربين برجلك هنا وبيدك هناك، كالأطفال بلا أدنى فرق. لقد تزوجت طفلة حين تزوجتك.. تقول شخيرى.. مثل هذا الطعن القبيح على سيدها وتاج رأسها، هل يليق يا فرحة»؟ فابتسمت فرحة ولم تقل شيئا. وماذا عساها تقول، وشخيره يزعج الجيران حتى لقد جلا السكان عن هذا الحى، وخربت بيوت أصحاب العمائر فيه. … وانتهت ضجة الضحك أخيرا — ولكل شىء آخر — فقلت: «ماذا كان شرلوك هولمز خليقا أن يصنع فى مثل هذه الحالة»؟ فصاح بى ابن عمى: «دع الفلسفة من فضلك.. الأمر واضح.. البيت موصد من كل ناحية والمنافذ كلها مسدودة، فالذى أخذ العقد لم يجئ من الخارج وإنما هو ولا شك واحد ممن فى البيت». فصحنا جميعا — ما عدا فرحة فإنها مؤدبة.. «برافو.. برافو..» فلم يعبأ بنا ومضى يقول: «الجديد علينا هو ابن العمدة.. فهو السارق». فلما نطق بهذا، صحنا به جميعا — حتى فرحة وإن كانت مؤدبة — فلم ينهزم، وقال وهو يعود إلى الجلوس على الحشية: «لا بأس.. ولا داعى للصياح.. المسألة بسيطة، إذا لم يكن هو اللص فمن عسى أن يكون غيره»؟ فقلت: «أنت مثلا.. لم لا»؟ فقهقه، فقلت: «ألا يمكن أن تكون قد أخذته لتضعه فى مكان أمين ثم نسيته كعادتك؟ إنك هكذا وأنت تعرف ما يكلفنا نسيانك. قم انظر أين وضعت العقد، واذكر الأسفنجة.. قبل أن تعترض وتحتج.. قم من فضلك». فقالت أختي وهى تعتدل في مجلسها: «يا سليم.. إني لم أخطئ حين أزعجتك.. كلا، وأنا الآن واثقة أن ابن العم قد نسى أين وضعه». فصاح بها محتجا: «ولكنى يا ستي لم أدخل غرفتك.. ودعتك — أعنى قبلتك ولا مؤاخذة يا سليم، فهذه عادة الأزواج — ثم لم أعد.. فكيف يمكن أن أكون قد أخذته»؟ فقالت وهى تقف: «تذكر.. حاول أن تتذكر..». وزدت أنا على قولها: «جرب مرة واحدة أن تكلف هذا الرأس عملا.. لا تخف أن تتعب». فمضى عنا إلى الباب وهو يقول: «إنى ذاهب إلى الحمام..». وهنا ينبغي أن أقول إن العقد الذي غاب مما ورثناه عن أمي، وهو من اللؤلؤ النفيس.. وكانت حباته نحو مائتين، وأكثرها من الكبار في حجم الفولة، وقد رأينا أن نجعل منه عقدا واحدا صغيرا أعطيناه لفرحة، وبقى الكبير وآخر صغير لأختي.. فكانت إذا لبست أحدهما تلفه على نحرها الجميل، فغير معقول أن يسرق منها وهو على نحرها. على أن الأمر لا محل فيه للتخمين، فقد قالت فرحة إنها وضعته على المنضدة.. وفرحة صادقة، ثم أن ذاكرتها لا تخونها أو تعابثها كما تعابث ابن عمى — أحمد — ذاكرته. ولم يكن أسخف من قوله — وإن كان يمزح على عادته — إن ابن العمدة «حسن» هو الوحيد الذي تتجه إليه التهمة، فإن «حسنا» هذا من سراة الناس، وهو فوق ذلك من أقرباء أحمد الأدنين. وقد ذكرت ذلك لأريك إلي أي حد يذهب أحمد في مزاحه. ولا أحتاج أن أقول إننا استقبلنا يومنا مكتئبين مهمومين محزونين، فإن للعقد قيمته الذاتية والمعنوية.. وقد كنا نتكلف المرح ونبدى صفحة البشر ونتلقى الأمر بما يشبه الاستخفاف، لأننا اعتدنا أن نواجه الأمور على هذا النحو، وربانا أبوانا على الجلد وضبط الإحساس. أما أحمد فكان بطبيعته هزالا يركب الحياة بالدعابة والبشاشة والعبث، وقد أحبنا وأحببناه وأنس بنا وأنسنا به، فعاش معنا وآثر بيتنا على بيت أبويه، وانتهى الأمر بما كان لابد أن ينتهي به — أي أن يتزوج أختي — ولست أعرف أسرة أخرى تعيش هذه العيشة السعيدة الرغيدة. وحسبك أن المال موفور وأن الطباع رضية والأمزجة متطابقة. ••• ومن عادة أحمد أن يغنّى وهو في الحمّام. ولست أعنى أنه يغنى الأصوات الشائعة، وإنما أعنى أنه وهو في الحمام يصف كل ما يعمل، ويرفع الصوت بالغناء بهذا الوصف.. فإذا كنت على مقربة من الحمام لم يسعك إلا أن تسمعه يقول — أو يغنى على الأصح: «أين الأسفنجة يا سيدي.. لابد أن تكون هذه الزوجة المهملة قد ضيعتها.. ومن يدرى يا حبيبى.. فعلها خبأتها عمدا.. آه يا روحي.. وأين الكبريت.. أظنني نسيته.. هذا خازوق يا حبيبى.. وكيف أسخن الماء الآن؟ يا لعنة الله انزلي على رأس الذي اخترع التدفئة بالغاز.. آه يا عيني.. والله وحْسه.. نجد الكبريت فلا نجد القرش الذي نضعه في الثقب لينطلق الغاز.. ويسخن الماء فلا نجد الأسفنجة.. وأجد كل ذلك وأنام في الحوض، ويبدأ الشعور بالراحة وإذا بالغاز قد فرغ. وأخذ الماء يبرد.. ويجب أن أخرج من الحوض لأضع قرشا آخر في الثقب وأبحث عن الكبريت.. والكبريت مبلول.. معلوم يا سيدي.. أو الكبريت فرغ.. طبيعي.. أصيح.. ومن يسمع.. ألبس البرنس وأخرج لأجيء بكبريت.. خازوق آخر يا حبيبي.. لقد سيبت الغاز مفتوحا.. فالحمام كله غاز.. وستختنق يا ولد إذا لم تفتح النافذة.. افتح يا سيدي وابرد.. وحوح يا حبيبي من البرد.. الذي سمى هذا حماما كان ولا شك ابن حرام». وهكذا إلى غير نهاية.. ومن تحصيل الحاصل أن أقول إننا اعتدنا أن نقف قرب الحمام كلما دخل فيه أحمد لنعرف ما يجرى فيه، فنقع على الأرض من كثرة الضحك. ولابد أن يحدث له شيء لا يحدث لسواه، لأنه كما أسلفت سريع النسيان.. ينسى أين وضع الإسفنجة وأنه رمى الكبريت فى الحوض، وينسى أنه نسى أن يجيء معه بقروش ليضعها فى الثقب.. فإنه يبقى فى الحوض ساعة وساعتين وهكذا. ولولا أنه نسّاء لعابثناه عامدين لنضحك، ولكنه أغنانا عن ذلك. وكان حسن قد استيقظ ونهض ليلحق بنا ويجلس معنا، فألفانا عند الحمام واقفين وإن كانت المقاعد فى الدهليز، فحيا بيده.. فأشرنا إليه أن اسكت.. ورآنا نبتسم وأحس من هيئتنا أننا نتسمع، فمشى على أطراف أصابعه ووقف معنا يصغى أيضا، وكان أحمد يقول: «العقد ضاع.. قال ضاع.. كلام فارغ يا حبيبى.. والله ما أخذه إلا هذا الحرامى الذى نزل فى ضيافتنا.. بالطبع سرقه فى عمر أمه ما رأت مثله الأقارب عقارب يا سيدى.. ضاع العقد يا ستى.. أنا المسكين يا حبيبتي.. هات لى عقد غيره يا سيدي.. طبعا يا ماما.. من يدري.. لعل العقد لم يضع.. أيوه يا سيدي.. لم يضع. الأرجح.. والمعقول أن يكون في الدولاب.. أخفته الزوجة الصالحة لأشترى لها عقدا سواه.. النسوان ملاعين يا روحي. قالوا العقد ضاع.. ضاع فين يا أهل القَوَنطة، لا يا ستى العقد فى الدولاب، والغرض مرض». وكان يبدئ ويعيد فى هذه المعانى.. فأما حسن فلم يفهم وكان ينظر منى إلى أختى، وكان يرانا نضحك فيتكلف الضحك مثلنا.. وأما أختى فضحكت أولا ثم لما سمعته يتهمها بأنها خبأت العقد لتطالبه بحلية.. تجهمت، فشددت على ذراعها، فنظرت إلى مبتسمة وهزت رأسها، وعاد إلى وجهها الإشراق.. ولكنها لم يسعها إلا أن تقول لنا ونحن نمضى عن الحمام قبل أن يخرج هو علينا: «شف.. ينسى أين وضع العقد ثم يدعى أنى خبأته.. طيب..». وقال حسن: «ألا تقول ما هى الحكاية»؟ فضحكت، وقلت: «الحكاية باختصار إن أختى لا تجد عقدها.. وأحمد يتهمك بسرقة العقد.. لقد سمعته بأذنك.. والآن أفهمت»؟ وكانت هذه صدمة، فإن معرفة حسن بأحمد يسيرة، وإن كان من أقاربه الأدنين.. ولكنه احتمل هذه الصدمة، وأسرعنا نحن فعرفناه بأساليب قريبه، فضحك معنا. ولكنه مع ذلك صار يطرق من حين إلى حين. وخرج أحمد أخيرا ودخل علينا وفى يده صحيفة يتأملها وينظر إلى الصور التى فيها فما كانت له عناية بقراءة الصحف. وجلس إلى المائدة وأدار عينه فيما عليها، ثم سأل: «ماذا أعددت لنا يا امرأة»؟ فاغتنمت أختى هذه الفرصة، وصاحت: «ألا تنتظر حتى يستعد الباقون للأكل؟ ما هذه الشراهة؟ ثم كيف تزعم أنى أخفيت العقد لتشترى لى سواه»؟ فقال ببطء: «الجواب على السؤال الأول بالنفى.. النفى البات.. أما الشطر الثانى من السؤال، فإن الرد عليه يكون بعد الأكل.. فإنه يحتاج إلى عقل، والعقل يذهب به الجوع». فعادت تصيح به: «ولكن كيف تجرؤ»؟ فقال بهدوء: «من الغريب أنى جئت إلى هنا لآكل لا لأتكلم أولا يا امرأة». فقالت: «هل عنيت بالبحث فى ثيابك؟ بالطبع لم تعن..». فالتفت إلى حسن، وقال: «شف يا حسن.. شف.. احذر يا ابنى أن تتزوج.. لا عذر لك وقد رأيت بعينك ما تصنع الزوجات ببعولتهن». فقال حسن: «أظن أنى سأتزوج.. وعلى فكرة كيف تسمح لنفسك أن تتهمنى بالسرقة»؟ فرفع أحمد يديه إلى السماء، ثم التفت إلى حسن وقال: «وأنت أيضا؟ لم يبق لى عيش فى هذا البيت.. فلأرحل». ونهض، وقال: «يا امرأة، إنى فى المكتب». لم ندع مكانا فى البيت إلا بحثنا فيه، ولا ثوبا فى خزانة أحمد إلا نفضناه وقلبنا جيوبه.. حتى السجاجيد رفعناها ونظرنا تحتها.. حتى الستائر نحيناها وأجلنا عيوننا فيما وراءها وفيها أيضا مخافة أن يكون حبل العقد قد علق بشيء منها. فلم نجد عقدا ولا حبة من عقد، فيئسنا وحل الاكتئاب محل البشر، فقد كنا إلى ما قبل ذلك نعتقد أن العقد موجود فى مكان ما ولكن أعيننا لا تراه. وقد أعدنا البحث مرة أخرى لظننا وتوهمنا أننا تخطيناه بعيوننا ونحن نديرها كما هى العادة فى حالة الاضطراب. ولم يكن أحمد يعفينا من مزاحه فى خلال هذا البحث المتعب.. فلما كففنا، قال وهو يضطجع ويشعل سيجارته: «لا فائدة.. لقد كنت أعلم من أول الأمر أن لا فائدة.. قلت لكم مائة مرة أن هذه الزوجة تعرف أين يوجد العقد.. نعم، هى خبأته». فصاحت به: «ألا يمكن أن تسكت»؟ فقال: «أسكت كيف.. وأنت تحمليننا كل هذه المشاق من أجل خرزات»؟.. ولم يتمها.. فقد هجنا به احتجاجا على وصف حبات اللؤلؤ بأنها خرزات. ولما هدأت الضجة، قالت أختى: «اسمعوا.. إنى لم أعد أطيق البقاء هذا النهار فى البيت، فلنذهب إلى أى مكان آخر ولنتغد هناك». وكان هذا اقتراحا حسنا، فإن بقاءنا فى البيت كان خليقا بأن يغرينا باستئناف البحث مرة وأخرى، فنشقى على غير جدوى. فمن الخير أن نخرج وأن نقضى النهار فى مكان آخر ثم نعود.. ومن يدرى؟ فقد نجد العقد تحت عيوننا حين نعود كما يحدث كثيرا. وما زلت أذكر كيف كنت أبحث مرة عن قلمى وكانت أختى معى، فلما تعبنا جلسنا على الكراسى وهممت بأن أخرج سيجارة وإذا بالقلم بين أصابعى.. ومن الغريب أن أختى لم تره فى يدى كما لم أره. وقد ذكرت أختى بهذه الحكاية أو الحادثة، وفى مرجوى.. أن أبعث فى نفسها الأمل، فلا تقضى النهار يائسة، وإن كانت تتشجع وتتجلد ولا تبدى جزعا. وقمت إلى حمامى على حين راح غيرى يلبس الثياب استعدادا للخروج.. وكان طبيعيا أن يفرغوا من شأنهم قبلى وأن يستبطئونى، فإنى أنا فى حركة دائمة فى الحمام، وهم لا يصنعون شيئا بعد أن لبسوا الثياب ووقفوا ينتظرون.. وليس أشد على المضطرب القلق من الانتظار. فأقبلوا على باب الحمام يدقون عليه بأيديهم وينقرون بأصابعهم، ويدعوننى أن أسرع.. وأخيرا خرجت.. فما يمكن أن تكون لمستحم راحة أو لذة وعلى بابه من يصيحون به ويُسمعونه ما يكره، فلحقوا بى فى غرفتى ولكنى أخرجتهم منها بجهد.. فإنى مستعد أن أحتمل كل شىء إلا أن يحيط بى هؤلاء الصائحون الصاخبون وأنا ألبس. على أنى أسرعت وعجلت لأتقى شر هجومهم علىّ كرة أخرى، وكانت ساقى لا تزال أحسها ثقيلة مما أصابها فى السويس وهاضها، وإن كانت لا تؤلمنى. فلما صرت إليهم فى الردهة وقفت هنيهة أدعكها بكفى لالينها، فسألتنى أختى: «ألا تزال تؤلمك»؟ قلت: «كلا.. لا ألم ولكنى أحسها ثقيلة». فقال ابن عمى: «كلك ثقيل يا أخى.. تعال». فقلت: «ولكنى حقيقة أشعر أنها أثقل مما كانت أمس». فقالت أختى: «طبيعى.. هذا من الجهد الذى تكلفته اليوم فى البحث». فاقتنعت ونزلنا إلى الباب، وكان ابن عمى قد جاء بالسيارة قبل ذلك وتركها أمام الباب، فجلست أختى ومعها حسن على المقعد الخلفى، واتخذ أحمد مكان القيادة، وقلت له وأنا أفتح الباب الآخر لأجلس إلى جانبه: «لعل درس الأمس نفعك، فلا تكرر أخطاءك المعتادة». فزام أولا، ثم قال: «ولكن إذا كنتم تريدون أن أشرفكم بتولى القيادة العامة.. أفلا يحسن أن أعرف إلى أين يراد منى أن أحملكم»؟ فقالت أختى: «أوه.. إلى أى مكان.. إلى القناطر الخيرية إذا شئت أو إلى أى مكان تحب». قال حسن: «إلى القناطر إذن. اركب يا هذا.. أم تريد أن أنزل وأحملك»؟ وكان الركوب يحوجنى أن أحمل ساقى بيدى، لأن ثنيها كان يؤلمنى فى موضع الركبة.. فجلست على المقعد ووجهى إلى الباب وملت على ساقى وهى ممدودة لأحملها وأدور بها لأدخلها فى السيارة. ثم ارتددت ضاحكا، فسألتنى أختى عن الخبر، فقال لها زوجها: «دعيه.. إنه يحلم. لا يزال نائما.. ألا تريدين؟.. أعنى ألا تسمعين»؟ فمسحت أولا الدموع التى ترقرقت فى عينى من فرط الضحك، ثم مسحت بطنى التى صارت توجعنى.. ثم تنهدت وقلت: «أخ.. مسألة ظريفة جدا». فقالت أختى: «ولكن ما هى الحكاية؟ أتظن أن من اللائق أن نقف ساعة أمام الباب»؟ قلت: «أظن أن الواجب أن ندخل.. نعود إلى البيت دقائق قبل أن نخرج إلى رحلتنا». فنهضت أختى عن مقعدها قليلا وزحفت إلى الأمام مقدار شبر ووضعت كفها البضة على كتفى، وقالت: «لا تعذبنى انطق». قلت: «لا حاجة بى إلى الكلام.. خذى». وانحنيت فأخرجت العقد المفقود من طية البنطلون عند حرفه، ورفعته إلى عينها وقلت: «لقد كنت أظن أن ساقى اليوم أسوأ مما كانت أمس لأنى أحسها أثقل.. فالآن عرفت السبب، ولكنى لا أعرف كيف سقط العقد فى طية البنطلون». ولا أزال إلى الآن أجهل كيف أمكن أن يحدث هذا، وإنما الذى أعرفه أن أختى نعمت فى يومها هذا، وأن ابن عمى حاول أن يركبنى بعبثه المألوف.. فوضعت كفها على فمه، فقبل أصابعها، ثم عضها، فصرخت. فقال: «هذا جزاء من يدافع عن السّراق واللصوص والخونة»!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/5/
الجارة
كثيرا ما أطلب العزلة والهرب من الناس لا لأنى أكرههم أو أنفر منهم، بل ليتسنى لى أن أخلو بنفسى وخواطرى. ولست أعنى أنى أشتهى أن أكون فى مكان خلاء.. وأنما أعنى أنه يحلو لى أحيانا أن أرى أن كل من حولى ممن لا أعرف. ولا أدرى كيف هذا.. ولكنه يخيل إلى حين يتفق لى ذلك، أنى خلعت ثيابى على ساحل بحر ورميت نفسى على مائه ورحت أسبح فيه، وأضرب بذراعى ورجلى، وأفعل غير ذلك مما يفعل السابح. وما أعرف من السباحة شيئا.. وأنى لشبيه بابن الرومى الشاعر الذى يقول فى بعض شعره إنه لم يتعلم من السباحة سوى «الغوص» وأنه لو ألقى به فى الماء لسبق الحجر. ولكن هذه هى الصورة التى ترتسم بذهنى حين أرانى فى حشد كبير ممن لا أعرف من الخلق. وكثرا ما يسألنى أخوانى: «أين كنت البارحة؟» فأقول: «كنت فى السينما» فيسألوننى: «وحدك؟» فأقول: «نعم مع الأسف» ولا داعى للأسف، ولكنى أقول ذلك لهم على سبيل المجاملة، فيقول قائلهم: «ولِمَ لمْ تخبرنا؟.. إذن لذهبنا معك وأنس بعضنا ببعض» فأقول: «أى والله.. ولكن هذا هو الذى كان، فلندعه إلى الحاضر الذى نحن فيه». وفى نوبة من هذه النوبات، ركبت سيارتى وانطلقت بها إلى سينما «المتروبول» وأنا أحدث نفسى بما أرجو أن أفيده من السرور والمتعة حين أرى تلك الطفلة الفاتنة «شيرلى تمبل» من غير أن يكون إلى جانبى أحد يقول لى: «انظر.. يا سلام أما إنها لراقصة.. يا للبراعة. كيف استطاعت أن تجيد التمثيل إلى هذا الحد؟ ترى كم ينقدونها أجرا لها فى الأسبوع»؟.. إلى آخر هذا الهذر الفارغ الذى يفسد علىَّ كل متعة. ووقفت أمام الشباك ومددت يدى إلى الفتاة بثمن التذكرة، وإذا بيد على كتفى.. فأبيت أن ألتفت إلا بعد أن آخذ التذكرة، ويحل غيرى محلى أمام الشباك مخافة أن يكون هذا صديقا فيلازمنى، وماذا يبقى لى حينئذ من الوحدة التى أطلبها وأحدث نفسى بحلاوتها. ومن يدرى أى صديق هذا؟ فقد يكون ممن أحب وآنس بهم وأرتاح إليهم، وقد يتفق أن يكون من الثقلاء الذين يفرضون أنفسهم على الناس، فلا مهرب لمن يقعون عليه. وأحسست أنى نجوت فقد اخترت مقعدا بين مقاعد أخرى ليس واحد منها خاليا، فأنا على الأقل فى أمان من جيرة هذا الذى وضع كفه على كتفى. ووسعنى أن ألتفت إليه وأنا مطمئن لأرى أى أنسان هو.. فلم يخب ظنى، فقد كان ممن ينبغى أن يهرب المرء منهم ويسأل الله السلامة من صحبتهم، فسألنى: «وحدك»؟ فكرهت أن أكذب واكتفيت بأن أشر بيدى، وأنا أمضى عنه، إشارة قد يكون معناها أن معى غيرى أو أنى ذاهب إلى مكان ما أو غير ذلك، مما يمكن أن يفهمه الإنسان من إشارة غامضة كهذه. ونجوت بنفسى، وكان فى الوقت متسع.. فقلت لنفسى: إنى أخشى أن يلحق بى فلأبعد. فرحت أتمشى على الرصيف فى شارع فؤاد — وهو يغص بالناس فى مثل هذه الساعة — فجعلت أنظر إلى الرائحين والغادين أو لعل الأصح أن أقول الرائحات والغاديات وهن مقبلات ومدبرات فى ثيابهن المحبوكة التفصيل. التى تبدى منهن أكثر مما تستر. نعم تستر الجسم، ولكنها تعرض على عينك صورة للقوام هى أبرع من صورة البدن العارى. فقد يكون الثدى مسترخيا فيرفعه ويبرزه الرباط، وقد يكون الخصر أكثر امتلاء مما يجب.. فيرده حسن التفصيل أهيف ويبرز من تحته الردفين. ولم أزل أتمشى حتى آن أن أعود، وإذا فتاة أعرف وجهها ولا أجهل أين بيتها، فإنه قريب من بيتى.. وكثيرا ما رأيتها فى شرفتها أو داخلة أو خارجة من البيت أو نازلة من الترام. وأحسبها تعرفنى كما أعرفها، فقد لفتت وجهها وأطالت النظر إلىَّ — فى عينى — فبيننا معرفة يسهل جدا أن تصبح وثيقة فى أوجز وقت، إذا أمكن أن يفتح أحدنا فمه بكلمة. ولكن من هو الذى ينبغى أن يبدأ؟ أما أنا فإنه من العسير علىَّ — بل من المستحيل كما تبينت ذلك بالتجربة المرة — أن أبدأ إنسانا لا أعرفه بكلام، رجلا كان أو امرأة. وقد خطر لى وهى تنظر إلى — لا بل تحدق فى وجهى — أن فى وسعى على الأقل أن أبتسم. ولم لا؟ إن الابتسامة تحية ظريفة، فإذا قابلتها بمثلها انتهى الأمر، واستطعت أن أنتقل أو أترقى إلى الكلام. وإذا أغضت عنها كأنها لم ترها، ففى مقدورى أن أعزى نفسى بأنها خجلت أو أنها خشيت ألا تكون هى المقصودة بها. وإذا قابلتها بالعبوس أو غير ذلك من مظاهر الامتعاض والنفور، ففى إمكانى أن أزعم لنفسى مغالطا أنى لم أكن أعنيها حين تبسمت، وأن أهز كتفى استخفافا بها كأنما أريد أن أقول إنها ليست المرأة الوحيدة فى هذه الدنيا، وإنها ليست أجمل الفتيات، وإنها حرة.. ولها إذا شاءت أن ترفض نعمة الاتصال بى. دار كل هذا بخاطرى، وأنا أنظر إليها وهى تنظر إلى، وكان ينبغى أن أتبسم.. فما فى ذلك بأس، ولكننى لفرط شعورى بنفسى خشيت أن أبدو كالأبله، ووددت فى هذه اللحظة لو أن معى مرآة فأنظر فيها إلى وجهى، وأرى كيف يكون حين أبتسم لفتاة لا أعرفها. ولكنى أرجو أن تفتنها الابتسامة وتغريها بمثلها — على سبيل التجربة — وأين المرآة؟ ومتى كان الرجال يحملون المرايا معهم كالنساء؟ وهب مع الرجل مرآة، فهل يستطيع أن يخرجها ويتأمل وجهه فيها ويروح يبتسم وحده وهو يفعل ذلك كالمجنون! وذهبت الفتاة وغابت عن عينى، وأنا أحدث نفسى بهذه السخافات.. وضاعت الفرصة وأزف الوقت، فعدت إلى السينما وأنا أقول لنفسى: «ألم يكن فى وسعى أن أدنو منها وأقول لها مثلا إننا جاران من قديم أو كلاما آخر كهذا … كلاما أبرع من هذا وألطف وأوقع فى النفس فإن كونها على طريقى إلى البيت لا يستوجب أن تعرفنى وأعرفها»؟ وذهبت أنشئ أحاديث وأتخيل حوارا بينى وبينها من أظرف وأرق ما يمكن أن يخطر على البال، وكنت وأنا أتخيل ذلك أحس أن وجهى ترتسم عليه المعانى التى تدور فى نفسى.. فخجلت وخفت أن يرى الناس ذلك منى فيتعجبوا ويشكوا فى عقلى — أعنى فى صحته — وكنت قد بلغت المدخل، فدفعت «التذكرة» إلى العامل فتقدمنى ووقف عند صف، وأشار إلى موضع الكرسى وقال: «السادس» فسألته على سبيل التثبت: «الثالث؟» قال: «لا. لا. لا.. السادس..» فاستأذنت الجالسين ودخلت بظهرى — أعنى أن ظهرى كان إليهم وأنا أخطو أمامهم متحرزا — فلم أر وجوههم ثم جلست وبدأت أتلفت، فما راعنى إلا أن الفتاة جالسة إلى جانبي.. ولا أدرى لماذا فزعت.. وقد كان المعقول أن يسرنى هذا لأنه يتيح لى فرصة جديدة، فقد تلتقى يدى بيدها أو تقع رجلى على رجلها فأعتذر بأدب وأعرب لها عن الأسف فيفتح باب الكلام الموصد. أو قد تضحكنا «شيرلى» بنكاتها أو بحسن أدائها فألتفت إلى جارتى فأراها تضحك مثلى، ويمنعها السرور فى هذه اللحظة السعيدة أن تعبس أو تقابلنى بالجفوة. ولكنى فزعت كما قلت ولم أشعر بسرور. وإنما كان فزعى لأنى توقعت أن أعجز عن اغتنام هذه الفرصة الطويلة — وهى إذا ضاعت لا يمكن أن تعود — فأروح أوسع نفسى بعد ذلك تأنيبا وتقريعا وذما وهجاء. وأدرت عينى فى المكان لأرى هل فيه من يعرفنى.. أو على الأصح من أعرفه أنا؟ فإن من عوامل التشجيع أن يشعر المرء أنه غير معروف، وخجل المرء ممن يعرف أقوى من خجله ممن لا يعرف فى مثل هذه المواقف.. على أنى لست على يقين من هذا، فقد يكون وجود الإخوان دافعا إلى الجرأة، والإنسان لا يسره أن يعرف أصدقاؤه أنه جبان. ولم أر وجها أعرفه، فأخرجت سيجارة وأشعلتها، ورحت أدخن. وخطر لى وأنا أفعل هذا أنه يحسن أن أستأذنها.. فلعلها لا تحتمل الدخان، وهذا أدب لا ضير منه، ثم أنه مألوف. ولكن الوساوس لم تترك لى راحة. فقد قلت لنفسى إنى أستطيع أن أستاذن أى فتاة أخرى فلا تستغرب ولا تستريب، أما هذه فإنها خليقة أن تتوهم أنى أتحكك بها وأحتال للكلام معها. ثم عدت فقلت لنفسى إنى أريد أن أكلمها، وما أظن بها إلا أنها تعرف ذلك. نظرتى إليها تشى بهذه الرغبة. ولماذا لا أكلمها؟ أى بأس هناك فى ذلك؟ ولماذا أقدر أن يسوءها كلامى؟ ومن يدرينى أنها لا ترغب فى كلامى؟ ولكن ماذا بالله يدعوها إلى الرغبة فى قزم دميم الخلقة مثلى؟ سخافة … كلا، لست دميما إلى هذا الحد المنفر، ثم إن رأى المرأة فى الجمال غير رأى الرجل.. أوهوهو.. لقد وصلت إلى الكلام فى الجمال. أما إنى والله. لسخيف.. وضحكت.. فالتفتت إلىّ مستغربة، فليس من المألوف أن يضحك العاقل وحده ومن غير أن يكون هـناك ما يوجب الضحك. فلها العذر إذا كانت قد استغربت.. ووجمت أنا، وخيل إلى أنها تنحت قليلا. ومن المحقق على كل حال أنها لمست طرف المعطف وكان متدليا، فجعلته على فخذها. فسخطت على نفسى وصببت وجهى فى قالب صارم من الجد، وجعلت عينى إلى الستار لا أحولها عنه. وبدأت الرواية ووضعت كوعى على المسند — عفوا — وكانت كفها عليها أيضا.. فلمسها كمى، فجذبت يدى وتمتمت بألفاظ أعتذر لم أسمعها أنا، فكيف بها؟ ولم يسعنى إلا أن أضع يدى على ساقى. ولم أعد أرى أو أسمع شيئا من الرواية. وكانت نفسى تقول لى بصوت غليظ فيما أحس: «إنك بليد.. هذا أنت.. وحمار أيضا.. أين جرأتك؟ لماذا تجفل من هذه الفتاة الوديعة التى تتوقع منك أن تكلمها والتى وطنت نفسها على ذلك واستراحت إليه؟ هل بلغ من سخافتك وجبنك أن تتوقع أن تبدأك هى بالكلام؟ اجترئ يا شيخ، لقد كان أجدادك الأولون يخطفون النساء خطفا ولا يبالون شيئا، وكان النساء يسرهن ذلك. وقد ذهب الخطف بالقوة، ولكنه بقى — وسيظل باقيا — أن المرأة تنتظر من الرجل أن يهاجمها، بالكلام — على الأقل — ثم بعد ذلك بالقبل والضمات والعناق». فقلت لها: «استحى يا نفس.. إننا فى سينما.. وهذا الكلام.. هذا التحريض على الأعمال الفاضحه لا يليق.. إننى رجل متمدين ولست وحشا كما كان آبائى». فسخرت منى نفسى، وضحكت.. نعم ضحكت الملعونة ضحك السخر والزراية.. فكدت أجن، ولكنها لم تعبأ بذلك وذهبت تقول: «أين المدنية؟ سبحان الله العظيم! وهل المدنية تمنع أنك إنسان وأن شعورك بالمرأة هو نفس شعور جدك الأعلى الذى كان يسكن الكهوف والغيران؟ أو تخشى أن تغضبها بالتطفل عليها؟ فاعلم أن المرأة إنما يغضبها أن ترى الرجل بليدا جبانا.. هذه يدها على مسند الكرسى فضع يدك عليها. نعم لا تخف.. وماذا تخاف؟ إنها لن تأكلك، بل ستترك كفها تحت كفك وتنعم بملامستك لها … أدن ساقك من ساقها.. انقل إليها بعض الحرارة التى فى جوفك. قرب فمك من خدها.. يا له من خد أسيل.. هل رأيت أحلى منه؟ دع أنفاسك تصافح هذا الخد. قد انتهى الفصل الذى لم تر منه شيئا وأضيئت الأنوار، فادع هذا البائع واشتر منه قطعتين من الشكولاتة المثلوجة وقدم لها واحدة وتبسم تبسم ياشيخ هل أنت قطعة من جليد القطب الشمالى». ولكنى استحييت أن أفعل ما تشير به هذه النفس.. فظلت تقرعنى طول الفصل الثانى وتفسد على قصة «شيرلى». وانتهت الرواية، فنهض الناس ونهضت.. وأولتنى الفتاة وجهها، فأفسحت لها لتخرج قبلى، فقالت «مرسى» فابتسمت ابتسامة عوجاء وتحركت شفتاى، ثم فتح الله على فقلت لسخافتى: «تفضلى» فابتسمت وقالت مرة أخرى: «مرسى» والخطوة الأولى هى الصعبة، كل شىء يسهل بعدها.. فلا غرابة إذا كنت وجدت لسانى الذى كأنما كانت به عقلة، فقلت لها: «أظن أننا جاران» قالت وهى تضحك: «أظن ذلك». قلت: «إذا كان طريقك إلى البيت، فإن معى سيارة صغيرة تحملنى.. فإذا خربت حملتها أنا». قالت: «أعرفها.. لا تطعن عليها.. رأيتك فيها كثيرا». قلت: «سنجد السيارة ترقص» قالت: «ولماذا ترقص؟» قلت: «طربا.. ألست تثنين عليها؟ ليتنى أنا السيارة». وفتحت لها بابها وقلت لنفسى وأنا أدور إلى الباب الآخر: «أرأيت؟ إن أساليب المتوحشين لا تصلح لهذا الزمان.. إنك نفس قديمة.. عتيقة». فقهقهت اللعينة وقالت: «لولا درسى! على كل حال العبرة بالخواتيم».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/6/
البحث عن الذهب
وجدت صديقى ينتظرنى — كما وعد — فدخلنا معا وجلسنا متقابلين إلى مائدة صغيرة، وبدأنا بأيدينا ففركناها.. فقد كان البرد شديدا، وكان كلانا قد خلع المعطف والطربوش، وكانت الحجرة دافئة ولكنه لم يكن قد مضى من الوقت ما يكفى لانتقال الدفء إلى أبداننا. ثم أكب صاحبى على البيان الذى فيه ألوان الطعام، وجعل يسردها لى لأتخير ما يطيب لى منها. وفرغنا من ذلك بعد طول التردد، وانصرف العامل بدفتره الذى دون فيه ما طلبنا، فقال صديقى وهو يميل على المائدة: «والآن ما العمل»؟ قلت: «هذا هو السؤال الأبدى.. وما أظن بنا إلا أننا سنظل نسأل عن ذلك طول العمر — طال أم قصر — المسألة مسألة حظ يا صاحبى». فقال: «كلا.. لابد أن هناك وسائل لاكتساب المال بسرعة.. كثيرون يفعلون ذلك. وهذا دليل على أن الوسائل موجودة، ولكنا نحن — لسبب ما — لا نهتدى إليها». قلت: «فليكن الأمر كما تصوره، فلست أرى أن هذا يجدينا شيئا». قال: «ولكن لابد أن تكون هناك وسيلة». قلت: «إذا كان ينفعك أو يريحك الإيقان من ذلك.. فأيقن وأرح نفسك». فقال وهو يهز رأسه: «نحن اثنان.. كلانا محتاج إلى مبلغ حسن من المال.. والحاجة ملحة والسرعة لا مفر منها. لا سبيل إلى الاقتراض، لأن الذين يقرضون يطلبون ضمانا.. شيئا يطمئنون به على مالهم.. سخافة.. ولماذا ينبغى أن نرد شيئا؟ ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه ويروحون يكترونه ويدفنونه فى خزانات أو فى قدور يدسونها تحت الأرض»؟ فضحكت، وقلت: «هذه بلشفية». قال: «لا تصدق.. آه لو كنت غنيا، إذن لصارت الدنيا أرغد وأهنأ». قلت وأنا أبتسم: «ماذا كنت تصنع»؟ قال: «أصنع؟ أتسأل؟ كنت أضع المال فى صرر وأرمى بها لمن أتوسم فيهم أنهم أهل لأن يكون فى يدهم مال» — وأطرق شيئا ثم رفع رأسه وقال: «هل تعرف أنى زرت اليوم أختى؟ إنها غنية كما تعرف.. وكيف لا تكون غنية وهى لا تنفق شيئا؟ فلما دخلت عليها وفتحت فمى لأتكلم، رفعت يدها وقالت: «ولا مليم» فغضبت وصحت بها ونهرتها عن هذا السلوك. أكّدت لها مائة مرة إنى محتاج إلى قليل من المال، فوقفت وأكدت لى أنى سأكون محتاجا إلى هذا المال حين أخرج من بيتها.. سلوك يطير العقل.. فهل تسمى هذه أختا؟ أنى أتصور أختا ظريفة لطيفة سخية كريمة تعطينى وهى تعتذر وتملأ يدى وهى مغضية. هكذا تكون الأخت». فقلت: «لماذا لا تفكر فى طريقة لكسب المال»؟ فقال بلهجة الاستنكار: «أفكر..؟ وما الفائدة من التفكير؟ لا فائدة ما دامت الدنيا مقلوبة. آه لو كان لى سلطان فى هذه البلاد، إذن لعقدت امتحانا كل ثلاثة شهور للأغنياء.. يجلس أعضاء اللجنة ويقف أمامهم الغنى، فيقول له أحدهم: «كم تملك يا مولانا»؟ فيقول: «ألف فدان ونحو مائتى ألف جنيه فى المصرف، وعمارتين — كل منهما ذات سبع طبقات فى شارع الملكة نازلى». فيقول أحد الأعضاء: «وماذا تصنع بكل هذه الثروة»؟ فيقول: «أوه لا أصنع شيئا.. كل ما زاد على حاجاتى الضرورية جدا أضيفه إلى المدخر» فتقول اللجنة: «شىء جميل.. أهذا رأيك فيما ينبغى أن يصنع المرء بالمال؟.. لا بأس.. اسألوا أحمد — أى العبد الخاضع المطيع — ماذا يكفيه»، فأقول ردا على السؤال: «أوه يكفينى القليل.. خمسون ألفا. كفاية.. أعنى مؤقتا» فتقول اللجنة: «أحمد هذا رجل يحسن إنفاق المال.. أعطوه ما يطلب» فأقبض المبلغ وأشكرهم وأفرك يدى وأقول: «إذا سمحتم لى يا حضرات الأعضاء الموقرين، أستأذنكم فى لفت نظركم إلى رجل يعرف كيف يعطى.. بارع جدا فى الإنفاق» فيسأل أحدهم: «من هذا؟ قل بسرعة» فأقول: «إنه المازنى» فيقول: «آه صحيح.. كيف نسيناه.. هاتوه حالا.. علينا به. اقبضوا عليه فى حيثما تجدونه» فيقبض عليك الشرطة ويجرونك مصفدا إلى اللجنة، فيضحك الأعضاء ويقولون: «خذ.. خذ.. خذ أيضا» فتخرج معى مسرورا.. وتروح تنفق باليمين وبالشمال حتى يحين موعد الامتحان التالى. ما قولك»؟ فقلت وأنا أضحك: «شىء عظيم جدا.. ولكن إلى أن يتيسر أن تلى أمور الناس، ماذا تصنع»؟ فقال: «آه هذه هى المسألة.. ما رأيك أنت»؟ قلت: «يمكننا أن نكسب الورقة الأولى الرابحة من يانصيب المواساة أو اليانصيب الإرلندى». قال: «هذا ممكن.. ولكن ذلك يتطلب أن ننتظر بضعة شهور والعجلة من الشيطان». قلت: «صدقت.. يمكن أن نخترع شيئا ونحتكر بيعه — وصنعه بالطبع — فنغتنى». قال: «صحيح.. فكرة لا بأس بها.. سأدون هذا فى مذكرتى.. تنفع فى المستقبل.. وعلى ذكر ذلك، ماذا نخترع»؟ قلت: «باب الاختراع واسع.. واسع جدا: مثلا نخترع طريقة تجعل السيارات تستغنى عن البنزين وتكتفى بالماء — أو حتى بالهواء — أو نخترع بديلا من النقود فإن النقود هى أصل البلاء فى هذه الدنيا.. أو نخترع..». فقال: «يكفى.. يكفى. ولكن هذا كله يحتاج إلى زمن.. والمطلوب هو الاهتداء إلى وسيلة تكفل إعداد المال اللازم فى أربع وعشرين ساعة.. أنا أقول لك»! فقلت وأنا أضطجع وأرسل الدخان من فمى خيطا ملتويا، بعد أن فرغنا من الطعام: «يظهر أن الضرورة تفتق الحيلة حقيقة». فقال: «معلوم … اسمع، أترى هذا الرجل القاعد هناك فى الركن الأيمن؟ أترى كيف يأكل؟ أترى كرشه المدورة كالكرة ووجهه المنتفخ، وكيف يفتح عينا ويغمض أخرى، وينظر حوله قبل أن يدس اللقمة فى فمه كأنما هو يخشى أن يراه أحد؟ الحق أقول لك أنى أكره وجهه ولا أرتاح إلى النظر إليه». قلت: «يا أخى لا تنظر إليه.. دعه وحول عينك عنه». قال: «ولكنى لا أستطيع.. إنه وجه سوء، لا يمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الخير.. إنه ممن لا يؤتمنون على القُصَّر والأيتام والأرامل.. هذا الرجل لابد أن يكون منطويا على أسرار يكره أن تذاع.. لأن وجهه ناطق بأنه شرير. فلو قمت إليه الآن وهمست فى أذنه أنى أعرف سره الذى يجاهد لإخفائه، ألا تظن أنه يفزع ويضطرب ويشترى سكوتى بأى ثمن»؟ فقلت: «أها! أهذه طريقتك؟ أتريد أن تبتز المال من الناس بهذه الوسائل»؟ قال: «المصيبة أنى لا أستطيع.. تنقصنى الشجاعة، ولكنى واثق أنى أنجح إذا استطعت أن أصنع هذا.. ومع ذلك لكل إنسان سره القبيح.. ولو أن واحدا جاء إلى ووقف على رأسى الآن وحدق فى وجهى، ثم هز رأسه هزة العارف بكل ما هناك، ثم قال: إنى أعرف سرك يا أحمد، لما وسعنى إلا أن أضطرب.. على كل حال يظهر أنه لا فائدة.. لا أمل فى مال كثير نحصل عليه بالسرعة اللازمة». قلت: «صدقت لا أمل». قال: «خسارة.. سأظل أتحسر لأنى لم أجد الشجاعة الكافية للوقوف على رأس هذا المجرم — هو مجرم ولا شك — وإبلاغه أنى أعرف باطنه كما أعرف ظاهره البادى لنا … خسارة، نهايته.. نقوم»؟. قلت: «تفضل». ودفع إلى الخادم ثمن الطعام وخرجنا. وقلت لصاحبى وأنا أودعه: «على فكرة.. من قبيل الاحتياط للمستقبل ما هو الجواب الصحيح أمام اللجنة»؟ قال: «آه.. أنفق ما فى الجيب يأتك ما فى الغيب». قلت: «أهو ذاك؟ أما ما فى الجيب فلست أحتاج فى أمر إنفاقه إلى التكلف.. وأما ما فى الغيب فهل تعرف متى يأتى»؟ فأشار لى بيده.. ومضى عنى وهو يضحك.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/7/
تفيدة
نشأت فى بيت لم أكن أجد فيه من يكلمنى، لا لقلة فى أهله ولا لبكم يعقد ألسنتهم.. بل لأن مشاغلهم كانت تصرفهم عنى. فهذه جدتى، لأبى، كانت لا تفارق السجادة — أو الفروة على الأصح — وفى يدها السبحة التى لا أذكر أن الخيط الذى ينظم حباتها انقطع، وشفتاها لا تكفان عن الحركة والتمتمة بما لا أعرف من الأدعية والصلوات على النبى. وما أكثر — وأطول — ما كنت أقعد أمامها محدقا فى هاتين الشفتين الدائبتين دؤوب الليل والنهار. وكانت ربما التفتت إلى فتتبسم وتدنينى منها وتمسح لى رأسى، ثم تبسط يديها بالدعاء إلى الله بصوت يبريه الضعف وتبحه الحسرة ويهدجه الألم والأسف لما صرنا إليه بعد وفاة أبى، ثم تربت على كتفى وتميل على وجهى الصغير بفمها الأدرد وتقبلنى، فتخرج شفتاها صوتا كهذا «مق». وتلك أمى لا تزال مصروفة عنا بشئون البيت من طبخ وغسل وكنس ونفض، ومن حمام تسقيه وتطعمه، ودجاجات لا تنفك تجس حويصلاتها أو تصبعها لترى أفيها أم ليس فيها بيض أو تنتف ريشها. وكثيرا ما كنت أقف أنظر إليها وهى تتناول فراخ الحمام وتزقزقها، أى تمج فى مناقيرها الماء والحب.. ولا آخر لعمل السيدة في البيت. ولم يكن لنا في ذلك الوقت خادمة، وكانت أمى تنهض بالأعباء كلها اقتصادا فى النفقة.. فكانت هى تطبخ الطعام، وتكنس الغرف، وترتب الأثاث، وتخيط لنا الثياب، وتصنع كل شىء إلا أن تخرج لتشترى الأشياء التى نحتاج إليها لطعامنا. فقد كان رجل من أتباع أقاربنا الذين يقيمون فى أجنحة أخرى من هذا البيت الكبير، يقوم لنا بذلك. وكانت عمة أبى معنا، ولكنها كانت عجوزا ناهزت المائة.. وكانت تجلس وساقاها ممدودتان أمامها ورأسها مستند إلى وسادة، ولسانها لا يمل الدوران، وكان كلامها هذيانا فكنت أضحك منها أحيانا ثم أمل ذلك فأتركها لهذرها الذى لا ينقطع. وكنت إذا شعرت بالشوق إلى مكالمة أحد، أنحدر إلى فناء البيت.. وكانت فيه غرف كثيرة، يقيم فيها أتباع الشيخ قريبنا ويحيون الليل بقراءة الأوراد. وكانت هناك أيضا ميضة ومصلى، فكنت إذا رأيت الشيخ مقبلا أندس بين المصلين وأروح أقف وأركع وأسجد كما أراهم يفعلون. ولكن هؤلاء كانوا يروننى صبيا صغيرا، فينظرون إلى ويبتسمون — لأن أفواههم مشغولة بالتمتمة — ولكن لا يكلموننى. غير أنه كان هناك فى أكبر غرفة فى الفناء، رجل ليس من الأتباع ولا هو يعنيه أمرهم أو يشاركهم فيما يصنعون. ولا أدرى إلى هذه الساعة كيف سكن هذه الغرفة.. فما كان يعطى الشيخ شيئا، وكان الشيخ يستنكف أن يؤجر بيته أو بعضه. وكان هذا الرجل يصنع أزرار الطرابيش، فكان يطيب لى أن أجلس إليه ألاحظه وأحادثه أو أستمع إلى حديثه وقصصه وكان يحادثنى كأنى رجل كبير لا طفل صغير، وكان يبرم خيوط الحرير المصبوغة ويفتلها ويعقد أطرافها ويجمع كل بضعة خيوط معا ثم يثنيها ويربطها ويصمغها ويدقها على قالب من القوالب التى تتخذ لكىّ الطرابيش. وكانت لهذه الخيوط رائحة لا أزال أذكرها، وإنى لأجدها الآن فى أنفى وأنا أكتب ذلك. وقد علمنى صناعته، فكان يدع لى الخيوط فأفتلها وأرتبها وأعقد أطرافها وأفعل مثل ما أراه يفعل بالمدق على القالب. ثم يعود إلى فينظر فيما صنعت ويصلح لى أخطائى، أو يثنى على حذقى. وكان يكل إلىّ ذلك كلما قام لإعداد طعامه أو خرج لشرائه. وفى وسعى أن أقول بلا مبالغة إنى قلما تعشيت إلا معه، فكنت أصعد فأجىء بطعامى وأضيفه إلى ما عنده، فنأكل معا. ولكنى لم أكن أصنع هذا إلا إذا كان عندنا طعام يليق أن يقدم إلى غريب.. أما إذا كان فولا أو عدسا أو ما هو من هذا القبيل، فقد كنت أخرج فأشترى زيتونات وشيئا من الجبن «والحلاوة الطحينية» وأعود بها إليه، فيؤنبنى على فعلتى وينهانى عن العود إلى ذلك، فأصارحه بأن طعامنا الليلة فول أو عدس … وإنى لا أحبه. فكان يحدث أن يقول لى إنه يحب هذا الطعام، ويرجو منى أن أصعد وأجيئه بشىء منه، فأستغرب.. ولكنى أطيع. فلا عجب إذا كنت قد أحببته وألفته. ولم يكن أغرب من هذه الصداقة بين رجل جاوز الأربعين وطفل فى التاسعة من عمره. وقد ألفنى كما ألفته، وتعلق بى كما تعلقت به.. فكان ينادينى إذا أبطأت عليه، فأستبطئ النزول على الدرج وأركب الدرابزين لأن التزحلق عليه أسرع.. وكانت له بنت أخت تزوره من حين إلى حين.. رأيتها أول مرة فى ليلة شتوية كثيرة المطر شديدة البرد، وكنت ألعب فى الحارة.. فلما أخذ المطر ينهمر فجأة ذهبت أعدو إلى البيت. ولمحت، وأنا أجرى، ضوءا فى غرفة صديقى.. فاشتهيت أن أخبره أن السماء تمطر وأن الريح تعصف. ودخلت الغرفة ثم وقفت على العتبة، فما رأيت المصباح المألوف وإنما رأيت نارا موقدة، وكانت ألسنة اللهب عالية.. فرأيت، أول ما رأيت، كفا بدت لى كأنها — ولسان النار من ورائها — مرجان شفاف. وطالعنى محيا فتاة صغيرة على هذا الضوء المضطرب، فرأيت شعرا أسود يتوهج هنا وهاهنا، وضفيرتين فى طرفيهما خيوط من الصوف نسج عليها الشعر واستراحتا على جانبى الصدر، وأنفا فى عرنينه نتوء قليل، وفى مارنه لين، وفى أرنبته انثنا إلى فوق، وعينين ضيقتين مائلتين بعض الميل. وكانت الحدقتان تلمعان كأنما تطلان من شقين، وفى نظرتهما من وراء الأهداب الوطفاء معانى الرضى التام والسكون العميق والاغتباط الذى لا سبيل إلى العبارة عنه. وكانت هذه المعانى على الفم أيضا، وكانت الشفتان رقيقتين وفى العليا منهما نثلة بينة، وهنة دقيقة نابتة فى وسطها، وكانت عليها ابتسامة أبلغ فى العبارة عن السرور من الضحك المجلجل، وكان خط الشفتين موازيا لميل العينين، وقد خُيِّل إلىَّ وأنا أنظر إلى هذه الابتسامة المرتسمة على الشفتين المتلامستين كأنما هى معلقة على ما تغضن على جانبى الفم، وكانت صحيفة الوجه عريضة عند الوجنتين ولكنها تنتهى بذقن دقيق، وفى الديباجة حسن، وفى الخدين رى وأسالة وبضاضة. أما العنق فطويل مستدير، وأما الذراعان — وكانا معتمدين على الركبتين — فمستدقان. وقفت أحدق فى هذا الوجه الذى أضاءته لى النار المضطربة الخفاقة اللمعان، وخيل إلى وأنا أنظر أنى لم أر قط أجمل ولا أبرع من هذا الحسن، وراعنى على الخصوص ما على الوجه من آيات السرور الباطن.. فألفيتنى أتساءل: ماذا ترى يسرها وهى قاعدة وحدها تتدفأ؟ ومن أين جاءت ياترى هذه السعادة التى تومض بها عيناها وتشى بها هاتان الشفتان الصامتتان؟ وأحسست أن أنفاسى أسرعت وأن الدموع تجول فى عينى، فقد كانت الفتاة جميلة وكانت الروعة قد غمرت صدرى، بل ملأ قلبى الخوف كأنما أشهد الحياة نفسها لا إنسانا فانيا مثلى. وارتفع لسان النار فجأة وخفق ضوءها على محياها المبتسم، فخيل إلى أن الدم يجرى كالمجنون تحت جلدها الرقيق. وكانت هى ساكنة لا تتحرك، ولا تزايلها ابتسامتها الهادئة المرتسمة على عينيها الضيقتين المائلتين وفمها المطبق الشفتين. نعم.. كانت الحياة نفسها تنظر إلىّ من عينيها.. وبعينيها. رأيتها بعد ذلك مرة أو مرتين فى نحو عام، وعلمت من صديقى — خالها — أنها يتيمة وأنها تقيم مع عمها وتزور خالها أحيانا، وأكثر ما تكون الزيارة فى الصباح حين أكون أنا فى المدرسة.. ولكنها لا تبقى معه إلا ساعة أو بعض ساعة. وقد حاولت أن أكلمها، ولكنى كنت أستحيى أن أطيل الوقوف معها أو الجلوس إليها، وكانت هى تحدق فى وجهى ولا تطرف حين تكلمنى، ولا أذكر ما كانت تقول وإنما أذكر كيف كانت لهجتها هادئة وحالها بادى الوثاقة.. كما ينبغى أن تكون الحياة. وكنت أسألها أحيانا — وأنا لا أجد كلاما أقوله لها غير ذلك: «هل تلعبين الحبل»؟ ولا أصغى إلى جوابها، بل أروح أفكر فى جمالها وأعجب له.. وأسأل نفسى مستغربا ماذا وراء هذه العين يا ترى؟.. لماذا أراها سعيدة دائما بلا سبب أعرفه؟ وأشتهى أن أسألها عن ذلك، ولكنى آنس من نفسى جبنا فأسكت. ومضت الأيام وتعاقبت السنون وكبرتُ وعرفتُ الأدب والقراءة، فصار كل ما أقرأه عن الحب فى شعر الشعراء وفى وصف الروائيين، يدور حول ذكرياتى القليلة منها، وابتسامتها الساكنة ووجهها الجميل وسعادتها الهادئة. وكان زملائى فى المدارس يذكرون مغامراتهم ويتحدثون بها ويباهون، وكنت أسمع وأسكت وأتعزى بأن هذا الذى يلهجون به ليس من الحب فى قليل أو كثر، وأقول لنفسى إنى أعرف ما لا يعرفون، وأعرف ما أعرف بالتجربة. ومع ذلك لم يخل هذا الصدر من أيامى مما يسمونه المغامرات، ولكنها لم تكن كثيرة أو باعثة على الرضى.. بل كانت على النقيض سببا فى السخط على نفسى واحتقارها، فآليت لأنصرفن عن هذا العبث. وأقبلت على الدرس والتحصيل واشتغلت بالشئون العامة، فصرت أحضر جمعيات الخطابة بل ألّفت مع إخوان لى جمعية للخطابة. وعنيت بقراءة الصحف فكنت على صِغَرى أقرأ كل يوم ثلاث جرائد سياسية، وكنا جميعا من أنصار «مصطفى كامل» وعشاقه فى ذلك الزمان. ثم جاءت الحرب العظمى، فشُغلنا بأنبائها وبالاختلاف على نتائجها المحتملة وبالخوف على أنفسنا من الجواسيس والاعتقالات التى كنا لا نأمنها ولا نستطيع أن نعرف الطريق إلى اتقائها.. ولكن يوما من أيام تلك الحرب أذكره ولا أنساه. وكان لى صديق داره قريبة من دارى، ولم يكن معه أحد فى بيته وكان السهر محرما بعد الساعة التاسعة، فكنت أقضى عنده السهرة فى الأغلب، ولا سيما فى الصيف، فأرانى يوما مسدسا ورصاصات، فجعلنا نتدرب على إطلاقها ونرمى بها باب الحمام، ولم نكن نخشى أن يسمعنا أحد لأن البيت كان بعيدا عن العمار. ثم افترقنا، واتفق أن زارنى بعد ذلك ونسى عندى مسدسه.. ولا أدرى كيف كان يجترئ على حمله معه؟ فوضعت المسدس فى درج المكتب ونسيته فيه، وتكدست فوقه الأوراق على مر الأيام. فحدث يوما أن جاءنى صديق وثيق الصلة بالسلطة العسكرية، وأخبرنى أن بيتى سيفتش الليلة.. فشكرته، ولم أعر الأمر اكتراثا.. لأنه ليس فى بيتى ما أخشى على نفسى منه. فلما كان العشاء، جاء ضابط إنجليزى ومعه من المصريين ضباط وجنود، فدخلوا المكتب أول ما دخلوا. ورأى الإنجليزى الكتب الكثيرة على رفوفها، فأقبل عليها يتأملها.. فألفاها كلها كتب أدب، فجعل يقلبها وينظر إلى ثم سألنى عن عملى، فقلت: «مدرس» فاطمأن واعتقد مما رأى أنى رجل مأمون الجانب، وأرسل المصريين يفتشون بقية البيت، ووقف هو معى فى غرفة المكتب، ثم دنا من المكتب وجعل يقلب ما عليه من الأوراق المنتشرة بغير احتفال، ثم فتح درجا وألقى عليه نظرة ثم رده وشد الدرج الثانى.. ولم تكن للأدراج مفاتيح، فجمد الدم فى عروقى، فقد تذكرت المسدس فجأة، ولم أستطع من فرط الجزع أن أدعو الله أن ينقذنى. وكان الإعدام عقوبة من يحمل سلاحا كهذا بلا ترخيص — أو هكذا أعلنوا — ولكن الله سلم.. فرد الرجل الدرج وكان زملاؤه قد عادوا مخيا وانصرف وهو يبتسم، ولعله كان يعتقد أن تكليفه تفتيش هذا البيت سخافة مطبقة. وما كادوا يذهبون حتى أسرعت إلى المسدس، فقذفت به فى بستان مجاور لبيتنا، وتشهدت.. ولم أطق البقاء فى البيت بعد ذلك من فرط الاضطراب، فخرجت أتمشى على غير هدى وإذا بى فى بعض الطريق — طريق حدائق القبة — التقى بفتاتى القديمة. عرفتها على الرغم من طول الزمن.. وعرفتنى هى كذلك ولم تنكرنى، فصحت بها كالأبله: «تفيدة.. أنت..»؟ فابتسمت لى ابتسامتها القديمة الهادئة ولم تزد، فقلت لها: «من أين، وإلى أين»؟ قالت: «إلى البيت» فمشيت معها إليه. وكان شقة فى عمارة عند «المحمدى» فدعتنى إلى الدخول فلم أتردد.. فإنّا صديقان قديمان. ولم أر فى بيتها غيرها فلم أستغرب فإنها يتيمة، ولكنى لم أعرف من أين جاءت بهذا الأثاث الحسن وإن كان قليلا وعلى قدر الحاجة، واتفقت معها على يوم نخرج فيه للتنزه فى القناطر أو حديقة الحيوانات، فهزت رأسها أن نعم.. فتركتها ولم أسألها عن حالها وكيف تعيش. والتقينا فى الموعد المضروب.. وكان النساء يتقنعن فى ذلك الوقت ولا يخرجن إلا فى الندرة القليلة بوجوههن سافرة، فركبنا عربة يجرها جوادان هزيلان، ومضينا إلى حديقة الحيوانات، وجلسنا على دكة منعزلة.. وقضينا أكثر الوقت صامتين، ثم فتحت فمى فحدثتها عن الزمن الماضى وحبي الصبيانى لها، وكيف طال عمر الحب وامتد إلى الحاضر، فلم تزد على أن تبسمت — كعادتها — وقالت: «لا أدرى لماذا أرى الناس يجنون بى». فأحسست أن لوحا كبيرا من الثلج يوضع على قلبى.. الناس يجنون بها.. الناس … إذن هناك مجنون، أو مجانين بها غيرى ودار رأسى، وذهبت أسأل نفسى عنها كيف تعيش. ولم يخطر لى هذا من قبل، ولكنه خطر الآن نعم كيف تعيش هذه التى يجن بها الناس؟ وأين وكيف ترى هؤلاء المجانين كلهم؟ لابد أنهم كثر … فمن أين يجيئون.. إنى أنا صديق صباها، فلا عجب إذا كنت أعرفها.. ولكن غيرى.. غيرى. وقطع على هذه الخواطر المزعجة سودانى فى ثياب الردنجوت. وكان كهلا، ولكنه يمشى معتدل القامة كالرمح.. فدنا منها وحياها باسمها وسألها عن حالها وعينه تومض، فردت عليه برزانة وسكون ومن غير أن تفارقها ابتسامتها المطبوعة. ولم يطل الوقوف، فمضى عنا وقد عرفت منها أنه ضابط فى الجيش وأنه الآن فيما يسمى الاستيداع، وأن بيته فى العباسية — قرب «المحمدي» فلم أقل شيئا ولكنى قلقت — أو على الأصح زدت قلقا وصرت أناجى نفسى بأن لعل هذه طريقة حياتها. وتعددت المقابلات بيننا والخروج إلى الحدائق العامة، وكنت أعود بها إلى بيتها فى الليل، فتدعونى إلى مقام قليل، فألبى ونذهب نتحدث كأننا رجلان لا رجل وامرأة. فرأيت منها — شيئا فشيئا وعلى مر الأيام — ما أقنعنى أنها ليست الفتاة التى أحببتها فى صغرى، وأنها لا أكثر ولا أقل من امرأة كغيرها من النساء. ولا أدرى الآن وأنا أكتب هذه السطور أى شىء كنت أحسبها قبل أن أتبين أنها ليست سوى امرأة، ولكن الذى أدريه أنى ظللت أحبها على الرغم من ذلك وأنى جعلت أحاول أن أقنع نفسى بأنها كما كنت أتصورها — على الأقل فى حقيقتها الكامنة، ولكن حبى القديم لها تغير.. فلم يعد فيه تعلق بخيال، بل صار حبا لامرأة معينة. وليس فى هذا ما يدعو إلى العجب، فإن الرجل يحب المرأة لأنها امرأة ولأن فيها من بواعث الإغراء ما يكفى لإثارة الرغبة فيها والتعلق بها، ولكن هذا شىء لم أكن قد تعلمته فى تلك الأيام، فرزقنى الله فى شخص «تفيدة» معلما لا يفتر ولا يتردد ولا يترفق بالمثل العليا وصور الكمال وغير ذلك من الأفلاطونيات السخيفة. وكان أول ما تعلمته — أو من أول ذاك — أن من الممكن أن يحب الرجل حبا عميقا طاغيا امرأة لا يحترمها ولا يرى لها مزية ولا ينطوى لها على إكبار أو مودة أو صداقة، ولا يستطيع أن يتفاهم معها ويشركها فى نفسه وخواطره وآماله ومخاوفه وعواطفه.. امرأة لا يرى فيها إلا أنثى منحطة.. بل امرأة يشعر بالشقاء وهو إلى جانبها وبالملل والضجر من قربها وحديثها. نعم تعلمت ذلك.. وكان هذا لما تعلمته شيئا فشيئا يبدو لى مدهشا، ويخيل إلىّ أن الحال فيه مقلوب والآية معكوسة، ولكنى الآن أضحك من نفسى وأسائلها: ولم لا يعشق الرجل بالله امرأة كهذه؟ وأين ترانى كنت أعيش يومئذ؟ فلم أر أن كثيرين من الرجال يعشقون نساء ليست لهن أية مزية.. نساء هن فى الحقيقة كوم عظيم من صنوف الانحطاط.. ونساء يحببن رجالا ساقطين منحطين لا يساوى الواحد منهم ملء أذنه نخالة ولكنى كنت فى ذلك الوقت أعتقد أن الحب شىء سامٍ جدا، وأنه سماوى لا ينبغى أن يخالطه إلا الإعجاب والعبادة. وكانت كل لحظة أقضيها مع تفيدة، تزيدنى إيقانا بأنها عاجزة عن السمو بنفسها إلى المرتبة التى وضعتها فيها فى حداثتى. وكان يزعجنى وينغص عيشى ويسوّد الدنيا فى عينى هذا التباين بين الواقع والصورة القديمة التى احتفظت لها بها فى نفسى.. وتغير حبى لها كما قلت واشتهيتها وصبوت إليها، ولكن هذا التحول لم يعفنى من التنغيص والعذاب. وقد كنت أخجل مما صرت أحسه لها، وأعنّف نفسى على ذلك وأزجرها عنه. وكانت هى ترى ضبطى لنفسى ورياضتها على العفة، وتعلقى بخيالاتى وسخافاتى وأوهامى، فتمتعض وتظهر لى التأفف والتبرم ولا تكتمنى الضجر الذى يثيره حديثى، ولها العذر. وقد كنت أرتفع بالكلام عن طبقتها.. وأتركها على الأرض، وأذهب أحلق فى أجواء لا تستطيع أن تذهب ورائى فيها. وكنت أنشدها ما أقوله فيها من الشعر، فيسرها أنها وجدت شاعرا يحبها كل هذا الحب ويتغنى باسمها، وأن يقرأ الناس ما يقوله فيها وما يصف به وجده لها. ولعلها كانت ترى فى هذا إعلانا.. ولكنها لم تكن تفهم ما أنظم أو تقدره، وكثيرا ما كانت تمط شفتيها ساخرة. وربما قالت لى: «ألا تستطيع أن تقول كلاما حسنا»؟ فأهز رأسى وأقول لنفسى إنى وقعت وقعة سوداء، وإنى يجب أن أصد عنها فإنها لا تصلح لى ولا أصلح لها لأنها لا تفهمنى.. ولا أنا أيضا مع الأسف، أستطيع أفهم هذه الطبيعة المادية التى يكون فيها الجمال ستارا لكل ما هو منحط.. وكانت تدعونى كل ليلة إلى دخول بيتها حين نعود إليه، وكنت ألبى فى بعض الأحيان.. فأقعد معها كالصنم من شدة الكبح، فلا تلبث أن تتثاءب فأقوم وأنصرف فلا تعنى بأن ترافقنى إلى الباب.. فيسوءنى ذلك، ولكنى أراجع نفسى وأقول: إنه ليس بيننا كلفة فإننا صديقان قديمان. وقالت لى ذات ليلة، وقد دنونا من البيت: «لا تغضب إذا لم أدعك إلى الدخول» فسألتها بوقاحة: «هل هناك غيرى»؟ فلم يسؤها ذلك ولم يظهر عليها الامتعاض منه، وقالت بابتسامتها الهادئة: «يخيل إلى أنك لا تحب الوجود معى فى البيت.. إنك شاعر، تحب الرياض والبساتين والماء والسماء والنجوم.. أليس كذلك»؟ فضحكت وإن كنت لم يفتنى ما فى كلامها من التهكم والزراية، وحدثت نفسى أن هذه دعوة صريحة لا يليق أن أغضى عنها مخافة أن يؤدى الإغضاء إلى القطيعة والجفوة.. وكانت هذه مغالطة منى لنفسى، فقد كنت أنا أريد ذلك ولكنى كنت أصرف عنه نفسى وأفطمها بجهد، فقلت لها: «بل سأدخل الليلة — إذا سمحت بالطبع — وسترين أنى أحب بيتك كما أحبك». قالت: «صحيح»؟ وأحسست من نبرة صوتها إنها ارتاحت إلى كلامى، وإنها استغربته فى الوقت نفسه.. ودخلنا، وأغلقت الباب وراءها كعادتها.. فلم أمهلها بل طوقتها بذراعى فى الدهليز وقبلتها على خدها، فأدارت وجهها ومنحتنى فمها.. وكنت أسخط على نفسى بعد كل ليلة وأرميها — نفسى — بالانحطاط، ولكنى ألفت ذلك — فصار الأمر عادة كالتدخين وغيره مما يعتاده المرء ويتأفف منه ويود لو كف عنه، ويمضى فيه مع ذلك ولا يكلف نفسه جهد المقاومة وعناءها. وبقينا هكذا زمنا غير قصير، وعرفت أن لها أصدقاء غير قليلين.. فقد كنا نلقاهم فى الطريق، فيومئون إليها بالسلام فتبتسم لهم، ولكنهم كانوا لا يدنون منها ولا يكلمونها كما فعل الضابط السودانى فى حديقة الحيوان. ولم أكن أعبأ بذلك، فقد كنت أرى أنى منفرد بها وإن كنت لا أعلم ماذا تصنع فى غيابى؟ فما كان يسعنى أن أظل معها كل ساعة. وكنت أروض نفسى على الاطمئنان والثقة لحاجتى إليهما، لا لأنى واجد ما يدعو إلى الثقة والاطمئنان.. ولم يكن هذا المنطق يقنعنى أو يريحنى، ولكنه كان المنطق الذى اضطررت إليه.. على أن الأمر لم يطل، فقد جاء يوم اعتذرت لى فيه بأنها مسافرة.. فاستغربت، فما أعرف لها من تسافر إليه، ولكنى سكت ولم أقل شيئا. ورأيتها بعد أيام، فسألتها عن رحلتها ورجوت أن تكون كما أشتهى لها.. فقالت بضجر متكلف لم يخف على: «أوه أبدا.. كانت رحلة مملة.. إنك تعرف هؤلاء الفلاحين وكيف يعيشون.. ليس فى حياتهم أى تسلية». ومضت أيام، فعادت تعتذر من التخلف عن لقائى لأنها مدعوة فى بيت صاحبة لها. فلم أجادل، وتركتها، وتكرر بعد ذلك الاعتذار، وتوالى انقطاعها عنى. وكنت أحيانا أقسم أن أهملها وأبقى أياما لا أسأل عنها، لأعرف أعادت أم هى لا تزال مع هؤلاء الذين ظهروا فجأة فى حياتها، ولم أسمع بهم مرة واحدة قبل ذلك كل هذه الشهور. وأحيانا كنت أضعف فأذهب إلى بيتها، فتفتح لى وتلقانى كأنها كانت معى قبل ساعة، ولا تسألنى لماذا غبت ولا ماذا كنت أصنع وكيف كنت أقضى الوقت.. لا.. لا شىء من هذا على الإطلاق، فأشعر بالغصة ولكنى أكتم الألم.. وكنا قد دخلنا فى الشتاء، وكنت أعرف أنها لا تحب أن تكون فى غير بيتها بعد العشاء على الأكثر.. فذهبت إلى قهوة قريبة من مدخل الحارة، كى أرى ما يكون. وانحدرت الشمس وأنا لا أرى شيئا.. نعم رأيت ناسا كثيرين راكبين أو ماشين وباعة متجولين ومركبات الخ الخ، ولكنى لم أرها تدخل أو تخرج. وكانت نفسى لا تفتأ تنازعنى أن أنهض منصرفا، وكنت أحدثها بأن من السخافة والحماقة أن أتعب نفسى بهذه الجلسة المضنية لأعرف ما أعرف. وهل فى الأمر سر؟ أليست قد ملتنى ونبت بى وجفتنى واعتاضت منى سواى كائنا من كان هذا السوى؟ وما حاجتى إلى علم ما أعلم؟ ولماذا أحقر نفسى وأمرغ وجهى فى التراب وأضعه عند قدمى امرأة سوء كهذه؟ وأهم بالنهوض ولكنى أحس أنى قد سمرت إلى الكرسى أو لصقت به.. ويتجسد وهمى ويضحكنى أمرى أحيانا ثم تغلبنى الكآبة والحزن — على نفسى وعليها — ثم أرانى غضبت وثرت وهاجت نقمتى على هذه المستهترة التى لا تبالى ولا تدرك. ثم أراجع نفسى فأسألها: «ماذا تريدين منها أن تبالى.. أمن العدل أن أطالبها — أو أتوقع منها — أن تحفل ما لا تدرك»؟ وأستسخف من نفسى أن أروح أنتظر من هذه العامية — على الرغم من أنها تعلمت شيئا — أن ترتفع بنفسها إلى حيث ارتفعت أنا. ثم أرجع فأقول: إن المسألة ليست مسألة تعليم أو ثقافة، وإن كان التعليم يهذب. وانقضى النهار فى هذه الهواجس أو الخواطر، وأقبل الليل ومعه البرد.. فاحتجت أن أقوم وأن أتمشى لأشعر بالدفء، فرحت أتمشى فى الحارة وعينى على بيتها وأنا فى حماية الظلام. فسمعت بعد قليل صوت باب يفتح ويغلق فدنوت على أطراف أصابعى فاذا هو بابها، وإذا الخارج منه هو الضابط السودانى. وكاد يختفى فى الظلام، ولكن الباب فتح مرة أخرى وخرج منه صوت كهذا: «هسسس» فوقف الرجل وتلفت ثم كر راجعا ووقف أمام الباب. وكنت على مسافة مترين منه، فأدرت ظهرى إليه ولويت عنقى لأكون أقدر على السماع، فسمعتها تقول له: «الساعة الثالثة تماما.. فإنى أخشى أن يجىء ذلك الثقيل للسؤال عنى». فمشيت.. ولم أقف لأسمع رده.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/8/
الهارب
دخل «سعيد الميدانى» على مدير دار الكتب — حين أذن له — وهو يحيى وينشر الجريدة التى كانت مطوية تحت إبطه، وقال وهو يقدمها له: «هل قرأت هذا يا بك؟ إن الحملة واضحة التلفيق، ولهذا جئت وفى مرجوى أن أظفر منك ببيان للرد عليها». فتناولها منه المدير وألقاها على طرف المكتب، ولم يكتم ضجره وهو يقول: «تفضل.. تفضل.. إن كل ما يعنى رواد الدار هو أن يجدوا ما يطلبون — كل ما يطلبون — فيها وأن يهتدوا إليه بسرعة وسهولة وبغير عناء أو تضييع وقت. ومتى كان هذا حاصلا فلست أبالى ما تكتب الصحف أو يقول غيرها. وهذا حسبى وحسبك بيانا، فإذا اقتنعت به فذاك.. وإلا فأمرى إلى الله، فما أستطيع أن أضيع وقتى فى الكلام الفارغ». وكان أمامه وهو يقول هذا كتاب ضخم وضع بين صفحتين منه قلما أحمر غليظا. وكان ينظر إلى إحدى الصفحتين ويشير بأصبعه إلى سطور فيها كأنما يتلو منها ما ينطق به. بل لقد خيل إلى سعيد أن الأمر كذلك، ولكنه هز رأسه كأنما يريد أن يطرد هذا الخاطر، فقد استأذن من غير أن يبين الغرض من المقابلة. وكان سعيد من أحدث خريجى كلية الآداب بالجامعة المصرية، ومن أنشطهم وأشدهم إقبالا على التحصيل والاطلاع ونزوعا إلى الاستقلال والعمل الحر. وخال فيه صاحب جريدة «الأحوال» الخير من لمحاته، وآنس الرشد من أعماله.. فألحقه بمساعديه الكثيرين، وما لبث أن صار يعتمد عليه فى تعقب الأخبار وتقصى الحقائق. ورأى المدير أن سعيدا ينظر إلى الكتاب الذى بين يديه، فمسح جبينه العريض بأنامله ثم قال: «على فكرة.. هل عندكم فى «الأحوال» ملفات خاصة بترجمة المشهورين»؟ ثم كأنما تذكر أمرا، فقال: «متى أسست جريدة الأحوال»؟ فقال سعيد: «بعد الحرب العظمى.. سنة ١٩١٩م — أو ١٩٢٠م». وقال المدير: «إذن لا فائدة..». فقال سعيد: «هل تسمح لى أن أسأل ما هى الحكاية لعلى أستطيع أن أساعد». فقال المدير: «الحقيقة أنها مسألة غريبة.. كنت أمس أقرأ كتابا لعبد القادر التميمى، وهو كاتب مصرى وشاعر أيضا.. وإن كان شعره قد ضاع بإهماله — أو على الأصح — لأنه هو أبى أن ينشره لأنه كان يستضعفه ولا يرى رأى الناس فيه. وقد كان مشهورا منذ أربعين سنة، ثم اختفى فجأة ولايدرى أحد أهو حى فيُرجى أم ميت فيُبكى.. وقد رجعت اليوم إلى المستدرك — وأشار بيده إلى الكتاب الذى بين يديه — وهو كما تعلم الجزء الرابع من كتاب الأعلام للزركلى، فوجدت فيه نبذة عن الرجل فيها تاريخ ميلاده وأسماء كتبه إلى آخر ذلك، وليس فيها تاريخ لوفاته. والمفهوم من هذا بداهة، أنه كان حيا حينما صدر الجزء الرابع من الأعلام — أعنى المستدرك. ولعل صاحب الأعلام لم يقف على تاريخ لوفاته إذا كان قد مات، ولكنه كان حينئذ خليقا أن يذكر تاريخا تقريبيا لوفاته على عادته. لهذا أرجح أن الرجل كان حيا وقت صدور الكتاب. ولكن المسألة تبقى مع ذلك بلا حل … فهل هو لا يزال حيا؟ أم تراه مات؟ وأين؟ هذه هى المسألة. ولست أعتقد أن فى وسعك أن تساعدنى، ولكن أدر المسألة فى خاطرك عسى أن تهتدى إلى شىء فتخبرنى؟ إذا سمحت ولك الشكر». ونهض واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة.. ولكن سعيدا كان مطرقا، وكان يفرك جبينه بأصابعه، فلم ير المدير يقف.. فعاد ذاك إلى مقعده على مهل وقد جال بذهنه أن لعل هذا الشاب يعرف شيئا أن يصغى إليه، وتنبه سعيد ورفع رأسه وقال وعينه على السقف: «عبد القادر التميمى؟ أى نعم.. أذكر هذا الاسم، وإن كنت لم أقرأ له شيئا. قرأت عنه ولكن لم أقرأ له، وسمعت من أستاذنا فى الجامعة أن الناس فى عصره كانوا فى حيرة من أمره، وكان أكثرهم لا يعرف له جدا من هزل.. وكان يتهكم بكل شىء.. كل شىء حتى نفسه. وكان أسلوبه جديدا فى بابه فأخذ الناس على غرة وكثر مقلدوه، ولكنهم أخفقوا فأقصروا». وهنا تململ المدير، فما كانت به حاجة إلى من يصف له الرجل.. وإنما كانت حاجته إلى من يدله عليه أو على مكان قبره. ومضى سعيد فى كلامه غير عابئ بضجر المدير، فقال: «نعم.. وأذكر أن أستاذنا قال: إنه رحل من مصر وخلف أسرته بها، وترك لها كل ما جمع من مال. وكان ابنه قد كبر وصار ذا عمل يكسب منه رزقه، ولم يرجع الأب بعد ذلك.. ولكن من المحقق أنه لم يمت وإن كانت أخباره قد انقطعت.. نعم أذكر هذا». فقال المدير: «أواثق أنت من ذلك»؟ قال سعيد: «كل الثقة.. ولكن أين هو؟ لا يدرى أحد». قال المدير: «ولكنه إذا كان لا يزال حيا — لابد أن يكون الآن قد جاوز الثمانين.. انتظر.. ولد.. ولد.. نعم.. سنة ١٨٥٠، فهو الآن فى السادسة والثمانين؟ يألله! أتظن؟ أنى لا أكاد أصدق، لقد كان معروفا عنه أنه مسرف فى إنفاق حياته.. لا يبالى أعاش أم مات.. فكيف يمكن..»؟ فقال سعيد: «مثل هؤلاء الذين لا يبالون أعاشوا أم ماتوا هم الذين يعمَّرون». فقال المدير وهو شارد: «ربما.. ربما.. ولكن ٨٦ سنة.. هذا عمر.. هذا..». فنهض سعيد ومد يده إلى المدير، وقال: «سأعنى بالبحث.. وإذا وفقت إلى شىء فسأخبرك». فمد المدير إليه يده، وهو يقول كالمحدث نفسه: «٨٦ سنة.. أما لو كان حيا؟ ولكن كيف يمكن؟ كيف يمكن»؟ ••• مضى شهران على هذا الحديث لم يسمع فى خلالهما كلمة من سعيد، ولم يكف هو أثناءهما عن البحث والتقصى — عبثا — فأقصر يائسا وصرف نفسه أسفا عن عبد القادر التميمى. وكان جميل بك — أو إذا شئت اسمه كاملا، جميل بك أحمد القناوى — رجلا مخلصا عطوفا رقيق القلب، وقد شق عليه جدا أن يحدث فى القرن العشرين أن يختفى أديب مشهور وأن تنقطع أخباره نحوا من أربعين سنة، فتنساه الدنيا التى يسرها ويملؤها حبورا وجذلا، ولا تعود تعرف عنه حتى أبسط ما ينبغى أن يعرف: «أهو حى أم تراه ميت»؟ وكان جميل بك يرى أن هذه فاجعة إنسانية لأنه لم يشك فى أن اختفاء هذا الأديب وانقطاع أخباره سببهما يأس عميق آخذ بالكاتب، وهو مع ذلك الذى يرفه بكتابته عن الناس وينعش نفوسهم ويهذبها بفكاهته ويفيض على حياتهم البشر والسرور كما تفعل الشمس، ولم يسعه الا أن يعجب لاختفاء رجل مشهور فى عالم لا يكاد يختفى فيه شىء فى هذا العصر، ورجح عنده لهذا أن الرجل لابد أن يكون قد لقى حتفه فى أول مراحل هجرته — إذا صح أن تسمى هجرة — ولا يبعد أن يكون قد تنكر واتقى ألا يحمل معه ما يدل على حقيقته. وأخلق به حينئذ أن يكون قد دفن حيثما اتفق بالاسم الجديد الذى تنكر به، وهز جميل بك كتفيه ومط شفتيه، ثم زفر زفرة طويلة وقال: «إيه لا حول ولا قوة الا بالله» وشرع يشعل سيجارة وإذا بالتليفون يدق إلى جانبه، فتناول السماعة متثاقلا وقال: «نعم» ولكن ما عتم أن أعتدل فى جلسته، وصاح: «أيه ماذا تقول»؟ ولكن الذى خاطبه اكتفى بما قال، فوضع جميل بك السماعة، وقام يتمشى بسرعة ويشعل سيجارة ويضعها فى الطبق وينساها ويروح يشعل غيرها حتى اجتمع فى الطبق أربع سجاير بعضها أقصر من بعض وهو ذاهل عنها جميعا. وأنه ليهم بإشعال الخامسة، وإذا بالخادم — فقد كان فى بيته — ينبئه أن «سعيد أفندى الميدانى» قد حضر، فيقول له بلهفة: «أدخله.. أدخله» ويسبقه هو إلى الباب. ويدخل سعيد أفندى ويده فى يد جميل بك، وهو يقول: «نعم وجدته.. فى غرفة فى ربع قديم فى أعتق أحياء هذه المدينة.. أو هو من أعتقها..». فيقول جميل بك: «وكيف وجدته»؟ فيقول سعيد أفندى: «أوه.. هذه حكاية طويلة. وليس المهم كيف وجدته، بل المهم أنى وجدته. ويمكننى أن أقول لك إنى استعنت بابنه، وقد كان اعتقاده أنه مات لا محالة، ولكنى زعزعت له هذا الاعتقاد بعنف بل بقسوة.. هل تعلم أن ابنه أحيل على المعاش منذ سنتين، وإن له حفيدة تزوجت وولدت بنتا». فيقول جميل بك: «ليس عجيبا أن يعتقد ابنه أن أباه مات وشبع موتا، ولكن كيف وجدته؟». فيقول سعيد مرة أخرى: «لقد قلت لك أن هذه الحكاية طويلة». فيقول جميل بك: «إنما أعنى كيف حاله». فيقول سعيد: «حاله.. وماذا تنتظر أن يكون حال رجل قارب التسعين وأقعدته شيخوخته العالية عن العمل.. فقر وضعف وعمش … حال لا يعلم بها إلا الله». – ولكن كيف يعيش؟ – كان يستعين به طابعو الكتب القديمة لضبطها وهم يجهلون شخصيته لأنه يسمى نفسه عبد القادر ناجى.. أليس اسما غريبا؟ إن اختياره له يشى بثقته بالله وبحسن المآل على كل حال.. لقد أدهشنى منه أنه لايزال يبتسم للدنيا ويؤمن بحسن حظه فى الحياة على الرغم مما هو فيه من الفاقه الشديدة.. ولكن من يدرى؟ لعله قد خرف فهو لا يقدر سوء ما هو فيه. فسأله جميل بك: «ألا يعرف أن ابنه موجود»؟ فقال سعيد: «يعرف، ولكنه أبى أن يذهب إليه حين عاد من رحلاته لأنه استكبر أن يجعل نفسه حميلة عليه، وخشى أن يأنف ابنه من الانتساب إليه إذا وقف على حالته الزرية». – وهل قابل ابنه؟ – بالطبع … وقال له حين رآه: من يصدق أنك ابنى؟ إنى أبدو أصغر منك.. على كل حال، يمكنك دائما أن تنسى أنى مازلت على قيد الحياة.. فما أشك فى أن عثورك علىّ حيا صدمة لك بعد أن وطنت نفسك على موتى. وأحسب أن بعثى الآن قد خيب أملك فى.. كذلك قال لابنه.. مدهش.. إن ذهنه لا يزال حافظا لقوته.. قال لابنه فى جملة ما قال: إنى لما كبرت كنت أقول: لو عاش أبى لما عاشرته، لأنى أستنكف أن أكون فرعا وأحب أن أشعر أنى أنا أصل مستقل بنفسه عما عداه وعما غذاه ونماه. ولكن ذهنه يشرد أحيانا فيخلط فى كلامه، لأنه يكر راجعا إلى ذكرياته الطويلة فى حياته الحافلة، من غير أن يشعرك بالانتقال أو الرجعة.. فتحس أنك تهت وضللت طريقك، وقد تظنه يهذى ولكنه ليس هذيانا بل كر الذهن إلى الوراء فجأة بغير انذار. ولما قلت له أنك تبحث عنه، ضحك وقال هل يريد أن يغلفنى ويضعنى على رف.. وقال عن كتبه لما عرض ذكرها: إن خيرها ما لم يكتبه.. ولا تزال أسنانه باقيا بعضها، وقد قال لى إن متانتها وسلامتها من الآفات هما السبب فى بقائه حيا إلى الآن.. ولما قلت له إن من واجبه أن يملى مذكراته على بعضهم، صاح بى: «أعوذ بالله يا شيخ.. حرام عليك.. اتق الله فى يابنى». فسأل جميل بك: «وماذا كان يعمل كل هذه السنين الطويلة»؟ – أوه كل شىء.. قال لى أنه لم يعش لنفسه ساعة واحدة أيام كان يشتغل بالأدب، وأن كل ما كان يرى نفسه تشتهيه كان يرى أنه محروم منه. وكان مما يثقل عليه جدا أنه لا يرى نفسه يفعل إلا ما يكره فهو لا يحب المجالس التى يكثر فيها الناس ولا يرتاح إلى أحاديثها ولا يغتبط بالزوار ويحب أن يشعر أن بيته حصن منيع لا يقتحم، ويود ألا يجلس إلا الذين يصطفيهم من الإخوان ويأنس بهم ويطمئن إليهم، ولكنه كان يجد — لسبب خارج عن إرادته بل ضد إرادته — أنه يعيش كما يعيش الناس، ويفعل ما يستثقل، ويحرم ما يحب، وقد كبر فى ظنه أنه سيظل حياته هكذا. ولم يستطع أن يروض نفسه على السكون إلى هذه الحياة أو أن يوطنها على احتمال هذا التقيد الذى لا يعرف ماذا يفرضه عليه، وشق عليه أن يظل هكذا.. يعرف أنه حر ولا ينعم مع ذلك بحريته، فكره هذه الحرية الظاهرية، ومل السخط على نفسه.. وود لو أنه مقيد حقيقة بإرادة غيره ليتسنى له على الأقل أن ينحى باللائمة على هذه الإرادة الخارجية ويجعلها غرضا لذمه وطعنه. ولهذا فر من مصر والتحق بشركة أجنبية للملاحة، وركب على بواخرها البحار.. وأقام فى الموانئ مندوبا لها، ثم ترك ذلك وعمل وكيلا تجاريا يجوب المدن ويذرع الأرض داعيا مرغبا، ثم انقلب مدرسا للغة العربية فى بلاد الأفغان حتى أقعدته الشيخوخة ولم تقعده فى الحقيقة، ولكن الناس كانوا يرون أن سنه علت فهم يزهدون فيه من أجل ذلك ويؤثرون من هم أدنى منه سنا، وكان قد جمع مالا فى رحلاته الكثيرة فصار ينفق من رأس ماله حتى قارب النفاد فعاد إلى مصر فدخلها ومعه نحو تسعين جنيها. قال لى — وهو يضحك: إنه حدث نفسه أنه ينبغى أن يموت بعد أن تنفد، فما له رزق سواها. ولكنه كان يخرج ويتردد على المكاتب التجارية، فأنس به أصحابها وأدركوا أنه عالم وأن فى وسعهم أن يستغلوه، فكان يضبط لهم الكتب القديمة التى يعيدون طبعها، وساعده ذلك على إطالة عمره، فقد أغناه عن الإنفاق من رأس ماله أو ما بقى منه. ومعنى ذلك عنده أن عمره طال لأنه يحسب عمره بما لديه من المال، فعلى حسب كثرته أو قلته يكون ما بقى له فى الدنيا من السنين.. فهل رأيت أعجب من هذا؟ فأطرق جميل بك شيئا، ثم رفع رأسه وقال: «لا شك أن الأمر عجيب ولكن ابنه … ألم يأخذه بعد أن اهتدى إليه»؟ فقال سعيد: «أوه.. إن الرجل شاذ كما تعرف وقد أبى كل الإباء أن يذهب إلى بيت ابنه، لأن هذا خليق أن يحدث فى رأيه اضطرابا لا داعى له فى حياة ابنه. وقد أطال النظر إلى البذلة الأنيقة التى يلبسها ابنه، ثم ألقى نظرة على الجلباب البسيطة الذى يرتديه هو وأشار بيده المعروقة إلى الثوبين، وقال: «دعنى لشأنى، فإنه غير شأنك» ولم يزد بعد على الابتسام كلما ألح عليه ابنه فى القيام معه». فقال جميل بك: «والآن ألا نستطيع أن نصنع شيئا لهذا الرجل الذى كشفنا عنه؟ إن رجال الآثار يملأون الدنيا ضوضاء كلما وقعوا على حجر قديم، أفلا ينبغى أن ننبه الناس إلى حقيقة هذا الرجل الذى لا يزال حيا وإن كان محسوبا فى أهل القرون الخالية»؟ فقال سعيد: «بالطبع نستطيع.. يمكن مثلا أن نقيم احتفالا كبيرا فى أكبر الفنادق ندعو إليه رجال الأدب والعلم والصحافة وطائفة من كبار الرجال ونقدم إليهم صاحبنا.. غرابة الموضوع نفسه كفيلة وحدها بنجاح الحفل». فهز جميل بك رأسه، وقال: «لا شك.. ولكن صاحبنا لا يبالى هذا ولا فائدة له منه على كل حال، وأنا أخشى إذا دعونا إلى الاكتتاب أن لا نفوز بشىء يستحق الذكر.. فنكون قد أهنَّا الرجل بلا داع.. ثم من يدرى.. فقد يأبى هذا وذاك..». فقال سعيد، وهو ينهض: «أقول لك.. دع هذا لى. والله الموفق». لم يكن الأستاذ عبد القادر التميمى يبرح بيته، وكان يجلس طول النهار على سريره الضيق تحت النافذة ويطل منها ولا يكاد يحول عينه عنها. ولم يكن يرى شيئا فى الحقيقة الا أشكال المبانى القريبة، وذاك لضعف بصره.. ولكنه لم يكن ينظر ليرى شيئا، ولا كان يعنى بأن يرى أو أن تأخذ عينه المناظر، وإنما كان يحدق كالذاهل. وكانت أسارير وجهه المتجعد تنبسط أو تعمق الأخاديد التى حفرها الزمن، فيخيل إلى الناظر إليه أن هذا وقع ما يشاهده. ولكن الحقيقة كانت خلاف ذلك وعلى نقيضه، فما كان يبصر شيئا وإنما كان يدير عينه فى قلبه أى فى ماضيه، فيبدو عليه السرور أو الألم أو غير ذلك، كما يبدو على وجه من يشاهد قصة معروضة فى دار السينما. وكان سعيد يزوره كل يوم مرة — وأحيانا مرتين — فى اليوم ويصغى إليه — أكثر الوقت، وهو يهضب ويسح بذكرياته التى لا آخر لها وقال له مرة: «ما رأيك يا أستاذ.. أن خبر عودتك قد شاع وذاع بين الأدباء ورجال الصحف وكلهم متلهف على رؤيتك». فقال بإيجاز: «فليتلهفوا». فقال سعيد: «ولكنهم لابد أن يصلوا إليك فى النهاية.. كما وصلت أنا.. ولا سبيل إلى صدهم». فتجهم الرجل وقال: «ولكن يجب أن يُمنعوا.. إن المكان لا يليق.. ما العمل.. أشر..» قال: «اسمع منى وأطعنى.. خير ما يمكن أن نصنع هو أن يروك كلهم دفعة واحدة». قال: «ولكن كيف يتسنى ذلك؟ هذا مستحيل». قال: «كلا.. الضرورة تفتق الحيلة.. وقد رأى المعجبون بك أن خير ما يصنع هو أن يقيموا حفلة يدعون إليها الأدباء والعلماء ورجال الصحف ورجال الدولة أيضا.. فنفرغ من الأمر كله فى ساعة». قال: «ساعة؟ يا حفيظ». قال: «هذا أهون من أن تظل كل يوم ساعة معرضا لحضورهم إلى هنا وإزعاجك.. فكر..». قال: «صدقت.. ولكن حفلة؟ حفلة. إن هذا صعب». قال: «لماذا.. أين الصعوبة؟ ما عليك إلا أن تحضر وتجلس معهم ساعة أو بعض ساعة ثم ننصرف جميعا، وكفى الله المؤمنين القتال». فأطرق الرجل قليلا ثم قال: «ولكنى لا أريد أن أختصر حياتى.. إنى أستطيع أن أعيش.. دعنى أنظر..». فعالجه سعيد حتى صرفه عن التفكير فيما تكلفه الحفلة من النفقات للثياب، فقد كان هذا هو الذى يفكر فيه ويستثقله خوفا على عمره. ولكن المشكل لم يُحلّ مع ذلك، فقد كان ابنه على بك — فقد صار بيكا — عبد القادر التميمى، فى حيرة شديدة من أمره من جراء عناد أبيه، فإنه — أى على بك — رجل ذو مركز ومقام فى المجتمع، وقد زوج ابنته منذ عهد قريب لرجل له مركز ومقام فى المجتمع أيضا، وليس يليق أن يكون أبوه — أى أبو على بك — هذا الرجل الرث الهيئة الزرى اللباس الرقيق الحال الساكن فى غرفة حقيرة فى رَبْع عتيق أو جديد إذا أمكن أن يكون هناك ربع جديد — وقد استطاع أن يرجئ لقاء بنيه ونسيبه لهذا الأب الذى جاء من حيث لم يكن يحتسب، فقد زعم لهم أن العثور عليه أو الاهتداء إليه أحدث له رجَّة عصبية يحسن معها اتقاء إزعاجه إلى حين. ولكن الصحف بدأت تكتب وتفيض، ولا سبيل إلى كبح الصحف أو صرفها عن الموضوع.. فما كل يوم يختفى أديب كانت له شهرة واسعة، ثم يظهر بعد أربعين سنة. وقد حرص جميل بك وسعيد أفندى على إخفاء مسكن الرجل، ولكن الصحف لا يسعها أن تصبر على ذلك.. ومن حقها أن تعرف أين يسكن أو يقيم وإلا كانت معذورة إذا هى استرابت فى الأمر كله. أضف إلى ذلك أن حفلة ستقام ويشهدها مئات من الخلق. وقد كانت فكرة الحفلة هى التى أعانت جميل بك على إقناع الصحف بالصبر والانتظار، وجعلت الموضوع شيقا وخليقا أن يجد القراء فيه مثل لذة الأساطير. ولكن هذا لا يمكن أن يدوم ولا مفر آخر الأمر من كشف الحقيقة كلها، فما العمل؟ لهذا لجأ إلى سعيد وجميل بك ورجا منهما أن ينقذاه ويحولا دون الفضيحة التى يجزع منها ولا يعرف له قدرة على احتمالها، فاتفق الثلاثة أن يحملوا الرجل — ظهر يوم الحفلة — بعد أن يلبسوه بذلة إلى بيت ابنه، ومن هناك يذهبون به إلى الحفلة فى المساء. ••• وجاء يوم الاحتفال، فذهب إليه سعيد بعد الظهر ومعه ثياب أراد أن يلبسه إياها.. فأبى واستكبر وغضب أيضا، وقال إنه ليست به حاجة إلى ثياب ولا إلى أحد من الناس، وإنه لا يريد أن يحضر هذه الحفلة أو يرى وجه إنسان، وإنه ما يعيب ثيابه على كل حال؟ أليس قد قابل بها الناس فى مصر وفلسطين والشام والحجاز والأفغان والعراق وإيران.. فاذا كانت لا تكفى هؤلاء المعجبين به والذين يريدون أن يحتفوا ببعثه، فإنه يحسن بسعيد أن يحمل إليهم ما جاء به من الثياب على مشجب، ويقول لهم إن هذا ما يطلبون وهو كل ما يستحقون أن يروا. ولم يقل هذه الألفاظ بعينها ولا ما يقرب منها، بل فاه بما هو أعنف. وكان صوته متهدجا وكلامه متقطعا، وكانت لحيته الطويلة الكثة تضطرب وأسنانه الباقية تصطك، فلم يجد سعيد بُدًّا من السكوت والكف عن الإلحاح عليه بعد أن وضحت له قلة جدواه، وسأل الله فى سره الستر والسلامة فى هذه الليلة. وخرجا من الغرفة.. سعيد فى ثيابه الإفرنجية التى يلبسها الأفندية من أمثاله، والأستاذ التميمى فى جلباب فضفاض وجبَّة قديمة وحذاء أصفر صارت الرقع فيه أكثر من الأصل فكأنه مركوب أبى القاسم، وطربوش مصرى سوى أنه طرى وعليه لغة كانت فى الأصل مزركشة فأصبحت ألوانها حائلة باهتة. وكان سعيد قد جاء فى مركبة وتركها تنتظر فى الطريق أمام الباب، فأحاط بها غلمان الحارة.. هذا ينط على السلم وذاك يعبث بالغطاء ويطويه وينشره ويكرر ذلك مرات، والسائق يصيح بهم أن يكفوا ويلعن الساعة التى دخل فيها هذه الحارة، ويقرقع بسوطه ليزجرهم ويخيفهم فينفضون متضاحكين ثم يعودون إلى غيهِّم حتى كاد عقل السائق يطير. فلما ركب الرجلان راح الغلمان يجرون وراء المركبة ويتعلقون بها من خلفها ويصيحون، والسائق يلوح لهم بالسوط ويضرب به ظهر الغطاء حتى خرج إلى الطريق العام. ولا نطيل.. ولا نحاول أن نصف لقاء الرجل بأحفاده، فقد خاب أمل الأسرة كلها حين رآه أعضاؤها وأخذت عيونهم الفاحصة قدم الثياب ورثاثتها. وكان ابنه أعظمهم خيبة أمل وأشدهم قلقا واضطرابا، ولا سيما حين عرف إصرار أبيه على هذه الثياب الوضيعة المخجلة حتى لقد أشفق عليه سعيد أفندى أن يفلج، فراح يحاور الأستاذ التميمى ويداوره مرة أخرى عسى أن يهديه الله.. ولكن الرجل كان جبلا لا يتزعزع، ولما قال: «أنا كما أنا.. فمن كان يقبلنى على علاتى فأهلا به، وإلا فإنى أرجع إلى غرفتى.. فما طلبت أن أجىء ولا أردت أن يعرف ابنى أو سواه أنى على قيد الحياة»، عندئذ أمسك سعيد أفندى وأقصر. وكانت الحفلة فى فندق من أكبر فنادق المدينة وفى أوسع قاعاتها، وقد دُعى إليها — أو على الأصح اشترك فيها — نحو مائتين من رجال الأدب والعلم والصحافة والحكم والوجاهة. وكان أكثرهم قد بكر وجاء قبل الموعد.. وجاء غير المدعوين — أو المشتركين — كثيرون، وقفوا بحيث يرون الداخلين، واحتشد جمهور غفير على الرصيف ليروا هذا الأديب الذى بُعث بعد أربعين سنة، والذى دأبت الصحف عدة أيام متوالية على الكتابة عنه. واستعد المصورون لاستقباله وتصويره فى القاعة الكبرى بآلاتهم ومصابيحهم القوية. ثم أقبل أحد الشبان يعدو، وقال: «جاء الأستاذ»، فساد السكون وانقطع حتى الهمس وتعلقت الأنفاس واشرأبت الأعناق، واتجهت العيون إلى الباب لرؤية هذا الذى كأنما قام من القبر. ودخل الأستاذ فى الثياب التى أبى سواها، وقد أخذ بذراعيه جميل بك وسعيد أفندى، وأقبل ابنه وراءهم. ولكن الناس لم يعيروا الابن أدنى التفات وإنما كانت عيونهم على هذا الرجل الهرم ذى الثياب العتيقة واللحية البيضاء والجبين المقطب والعين الثابتة اللماعة وإن كانت لا تَرى إلا قليلا. وكان قد ثقل عليه ما رأى من ابنه، فآلى ليرجعن إلى غرفته. وعرض جميل بك المدعوين على الأستاذ بأسمائهم، فصافحوه واحدا بعد واحد حتى كاد ينخلع ذراعه وإن كانوا جميعا قد ترفقوا به وحرصوا على الاكتفاء بلمس راحته. ولم يبد عليهم ما خشيه ابنه من الاشمئزاز أو الاستخفاف، حين تقع عيونهم على ما هو فيه من الهلاهيل. وأديرت ألوان الطعام، فكان الأستاذ يسأل عما يعرض عليه، ما اسمه؟ وكيف يصنع؟ ولا يتناول إلا بقدر. وكان المدعوون فى أول الأمر يحدجونه بعيونهم، ولكنهم ما لبثوا أن انصرفوا إلى الطعام والحديث. ولكل شىء آخر — انتهى الأكل وبدأت الخطب والقصائد والأستاذ مطرق كأنه يصغى، وكان يهز رأسه من حين إلى حين كمن سره شىء — أو ما يسمع. وانتهى هذا أيضا على طوله، فهمس جميل بك فى أذن الأستاذ: «ألا تحب أن تتفضل بكلمة ترد بها عليهم»؟ فقال الأستاذ مستغربا: «أنا؟.. أقول كلمة؟.. أرد على ماذا؟ الحقيقة أنى لم أكن مصغيا.. لم أكن مصغيا.. لم يكن بالى إليهم». فذعر جميل بك — فما كان يتوقع هذا — وقال: «ولكن يا أستاذ. لابد من كلمة.. لا نستطيع أن نقول لهم إنك لم تكن مصغيا إلى كلامهم.. أرجو يا أستاذ.. كلمة شكر قصيرة.. القليل منك كثير». فهز الأستاذ كتفيه، وقال: «إن هذا غريب! لقد كنت أفكر فى ليلة قضيتها فى كهف..». فقال جميل بك مقاطعا: «فيما بعد الحفلة نسمع ماكنت تفكر فيه.. لابد أنه كان شيئا غريبا.. ولكن الآن.. أرجو يا أستاذ». فالتفت إليه، وقال: «ماذا قلت إنهم كانوا يقولون؟ إنى لم أكن مصغيا». فقال جميل بك: «كانوا يثنون عليك ويمدحونك ويذكرون كتبك العديدة ويصفون ما فيها.. كلام كثير يصعب أن ألخصه لك الآن. أنا أيضا قلت كلمة ولكنك لم تسمع مع الأسف.. نهايته.. لابد من الرد، فاصنع معروفا». وكان سعيد — حلال المعضلات — قد أدرك وهو فى مكانه أن فى الأمر شيئا، فخف إلى جميل.. فلما عرف المسألة انحنى على الأستاذ، وهمس فى أذنه: «إن هؤلاء الناس خليقون أن يتوهموا أننا ضحكنا عليهم أو أننا مخدوعون، وأنك لست الأستاذ التميمى وأنما أنت رجل غيره ينتحل اسمه، فقم قل كلمة وإلا …» ولم يتمها فقد نهض الأستاذ معبسا، ورفع رأسه كأنما يحاول أن يقيم ما قوسه الزمن، وكانت لحيته تضطرب، وشفته تختلج، وكفاه لا تثبتان على المائدة التى وقف معتمدا عليها، وظل هكذا نحو دقيقة كان من الواضح فى أثنائها أنه يعالج نفسه ليردها إلى السكون، ويحاول أن يضبط أعصابه ويفىء بها إلى الاتزان ثم فتح فمه، وقال بصوت خافت: «أيها السادة» وسكت شيئا وثبت حملاقه فكأنه تمثال نصب فى مكانه، ثم ابتسم فجأة وبدأ يتكلم بلا توقف. ولم يشكرهم كما رجا منه جميل بك، بل قال لهم فى صراحة سرّت فريقا وساءت آخرين، إنه وجد بالتجربة الطويلة أن من العسير أن يهرب المرء فى هذه الدنيا من الناس — ومن الأدب والأدباء وعشاق الأدب على الخصوص — المخلصين والمتكلفين والذين يظلون يوحون إلى نفوسهم أنهم يحبون الأدب حتى يؤمنوا بذلك. كلا، لا سبيل إلى الهرب.. وطالب الفرار لابد له من الجرى الطويل والذهاب إلى أبعد مما كانت الحاجة تدعو إليه قبل نصف قرن. وهو يتكلم عن خبرة فيجب أن يصدقوه، بل إن وجوده الليلة بينهم دليل مادى على تعذر الهرب فى هذا الزمان الذى امتد به العمر إليه. وكيف يهرب الإنسان؟ إلى أى مكان يذهب وكل مكان فيه ناس؟ وقد صار الناس أكثر والاتصال بينهم أسرع وأسهل.. ومن أى مكان يهرب؟ إن الهرب الصحيح مستحيل.. وقد يستطيع المرء أن يعيش فى الصين، ولكنه لا يستطيع أن ينكر أو ينسى أن القاهرة والإسكندرية ودمشق والقدس موجودة. والهرب من الزمان أصعب. نعم، يتوهم المرء أنه يعيش لا فى الحاضر بل فى المستقبل وللمستقبل، ويروح يعزى نفسه عما هو كائن بما يزعم أنه سيكون، ويذهب يعمل ليقلب الدنيا ويجعلها كما ينبغى أن تكون، «إنى أؤكد لكم أنى أعرف هذا. فقد فعلته — أعنى توهمته — وعشت فى سكرة طويلة ونشوة مستمرة وحلم دائم بما سيكون». وقال لهم إن هذا كله عبث فى عبث، وأكد لهم أنه لا مسوغ على الإطلاق لأن يفترض الإنسان أن للجنس الإنسانى مستقبلا.. هذا أولا. وثانيا أن ما نسعى له ونلح فى طلبه أو تمنيه، قد يكون مستحيل التحقيق. وهب أن تحقيقه ميسور، فقد يتبين أنه ليس مما يسيغه أو يرتاح اليه أو يرضى به الجنس الإنسانى. وسألهم هل هم يعتقدون أن الإنسان ينشد السعادة؟ ولو كانت السعادة الدائمة الخالدة التى لا تزول ولا تتغير ممكنة، ألا يستفظعها الإنسان ويفرق من تحقيقها؟ على أن التفكير فى المستقبل والسعى له لا يمنعان أن الحاضر موجود وأنه مؤثر بوجوده.. وهناك مهرب آخر إذ يتعلق المرء بالمثل العليا وصور الكمال، ولكن اللجوء إلى الخيال لا ينفى الحقائق المحيطة بالإنسان. وانتهى إلى أن المهرب الوحيد الصحيح لا يكون فى الحياة وهذا لا يعد مهربا، لأن المرء لا يشعر به ولا ينعم بإدراكه أنه استطاع الهرب.. ولو كان هذا مهربا حقيقيا للجأ إليه! وابتسم وقال إنه يرجو أن لا يلجئوه إلى هذا الذى ليس مهربا.. واستطرد بطريقة ما إلى كتبه وما يلقى التكريم من أجله، فقال إنه واثق أن أكثر الموجودين لم يسمعوا باسمه، ولم يكونوا يعلمون أن له كتبا، وأن الذين قرأوها فهموا منها غير ما أراده، وقد يكون هذا عيبه هو كما قد يكون عيبهم هم، ولكنه الواقع على كل حال. والمجتمع لا ينتظم أمره إلا بالمجاملة وهى شىء حسن فى ذاته، ولكنه هو فرغ من ذلك كله وأخرجته سنه من المجتمع وأعفته من ضروراته. وهو ليس من هذا الزمن، فيحسن أن يرتد ويتراجع إلى ما أخرجوه منه لأنه ليس إلا قطعة متخلفة من زمن سابق، ولا شك أنهم أدركوا غلطتهم حين خرجوا به إلى زمانهم. وظل يهضب على هذا النحو الذى لم يكن منتظرا ولا كان فى حساب أحد. وطال الأمر فمل الناس وأحس هو الهمس.. فلم يترفق بالذين ضجروا كأنما أراد أن ينتقم لنفسه أو أن يبغضها إليهم فيتركوه بعد ذلك فى سلام. ولم يطق البعض المقام أو طوله، فتسلل خارجا وتبعه غيره وغيره حتى لم يبق إلا ما دون النصف. ولكل شىء آخر.. عاد الأستاذ إلى غرفته لا إلى بيت ابنه واستلقى على فراشه بثيابه، فقد أضناه الكلام والوقوف أكثر من ساعة ونصف ساعة. وفى الصباح جمع ثيابه وأشياءه، وانتقل إلى ربع آخر. وجاء سعيد بصحف الصباح وفيها وصف الحفلة التى ظلت أياما تدعو لها وتروج، وفى صدر أكثرها خطبته التى عنى سعيد بتدوينها. فلم يجد الأستاذ، وأعياه أن يعرف أين ذهب.. فأسرع إلى ابنه على بك يخبره ويسأله ما العمل، فقال على بك وهو يرسل الدخان فى الهواء: «أظن أن الواجب أن نحترم إرادته ونعفيه من الإثقال عليه». فمضى عنه سعيد وهو يهز رأسه ويفكر فى على بك، أكثر مما يفكر فيمن عاد فاختفى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/9/
النسيان
– إنك قاس.. – أنا؟ يا خبر أسود! وهل فى هذه الدنيا الطويلة العريضة من هو أرق منى قلبا؟ – ولكنه أبى.. أنا أتألم. – أعرف أنه أبوك.. وأعرف أيضا أنه نادر، وأنه منقطع القرين.. أيكفى هذا الثناء أم تريدين الزيادة؟ يكفى؟ حسن.. ولكن ذهوله يضحك الثكلى، فماذا أصنع؟.. ما حيلتى؟ فقالت الفتاة بلهجة مبطنة بالعتاب: «ولكن هل من الضرورى أن تقلده؟ إن هذا هو الذى يسوءني منك». فقلت: «فكرى يا فتاتى.. قولى لى كيف يمكن أن أقص عليك الحكاية وأصف لك ما حدث بغير ذلك.. إنى لا أريد تقليده، ولكن الصدق فى الرواية والفن فى عرضها يتطلبان ذلك.. بل يجىء منى التقليد عفوا وعلى غير عمد» فاقتنعت أو هى لم تقتنع، ولكنى كنت قبل أن يدور هذا الحوار، قد شرعت أقص عليها حادثة جديدة من حوادثه التى لا آخر لها.. فلما احتجت إلى تقليده فى بعض مواقفها ضحكت، ثم انقلبت تعاتب وتستهجن التقليد وتعيب المحاكاة. وهذا بعض ما يحيرنى من المرأة، فقد كان ضحكها وعتابها فى وقت معا، وكانت تضحك وتشير إلى بيدها منكرة ماترى وتسمع منى. وقد عرفتها من أبيها، وبفضل ذهوله العجيب. وكانت تخرج معه لتقيه عواقب ما يقع منه. فكأنها وهى ترافقه وتروح وتجىء معه، ذاكرته الذاهبة. واتفق يوما أن نسيها — نعم نسيها — وخرج وحده، واهتدى — لا يدرى أحد كيف؟ — إلى ناد لم أكن أعرف أن مثله موجود فى بلادنا، فإن حياة الأندية طارئة وعهدنا بها حديث جدا. وكنت قد دعيت فى تلك الليلة إلى زيارة هذا النادى، وقضاء بعض الوقت فيه.. وكان الذى دعانى يرجو أن أنضم إليه ويحثنى على ذلك ويزينه لى، وأنا أتأبى وأبين له أن حياة الأندية فى مصر جافة ثقيلة، وأنها قلما تكون إلا حياة مقامرة أو ما أشبه ذلك، فيضحك منى وينفى ذلك ويقول: «تعال انظر بعينك ثم احكم» فذهبت وكان أول من لقينا هذا الشيخ ولم أكن أحتاج إلى من يعرفنى به، فإنه صديق قديم.. فأقبلت عليه وجلست معه فصفق، فلما جاء الخادم نظر إليه مستغربا ثم إلىّ أنا مستفهما. فقال الخادم، وكان يعرف ذهوله: «هل تريد شيئا يا بك»؟ فقال البك: «أ.. أ.. أريد.. أريد.. ماذا أريد»؟ فكتمت الضحك، وقال الخادم: «لقد دعوتنى يا سيدى فهل أجىء لك بقدح من الويسكى»؟ فنسينى وقال: «أ.. أ.. نعم.. نعم.. أ.. نعم نعم نعم..». وذهب الخادم وعدنا إلى الحديث الذى لا يكون معه إلا محاورات ولفا من هنا وهاهنا، بسبب هذا الذهول الذى أصيب به. فقال بعد كلمات: «ولكنى أهملك.. إن هذا لا يليق.. اعذرنى.. لقد نسيت أن أدعو الخادم». وصفق مرة أخرى، فلما جاء الخادم لم أقل شيئا انتظارا لما يكون منه، فقال له: «أ.. يا خليل.. هل طلبت منك شيئا»؟ فقال الخادم: «نعم.. قدحا من الويسكى». فسأله: «هل جئت به؟ أعنى..». قال: «لا يابك.. سأجىء به حالا». ومضى عنا فصفقت أنا وطلبت ما طاب لى، فمال على الخادم وهمس فى أذنى: «إذا سمحت لى يابك فإن اسمى عبده، ولكن البك ينسانى ويطلق على كل يوم اسما جديدا». وسألنى الشيخ المسكين بعد أن ذهب الخادم: «ماذا يريد هذا الرجل»؟ قلت: «لا شىء.. كان يقول إن اسمه عبده لا خليل». قال: «من هو»؟ قلت: «الخادم». قال: «ماله؟». قلت: «اسمه عبده». قال: «عبده؟». قلت: «نعم». قال: «من عبده هذا؟». قلت: «الخادم». وأحسست أنه سيعود فيسألنى: «ماله»؟ وكان الويسكى قد أقبل به الرجل فقلت له: «آه.. هذه كأسك.. ومعها كأسى أيضا». فنظر إلى كأنه لا يفهم ما أقول وسكت أنا، فما أدرى ماذا يدور فى نفسه. وطال الأمر، فشعرت بالضيق.. فليس مما يخف محمله على النفس أن ترى غيرك يحدق فى وجهك ولا يطرف. فنظرت إليه مستغربا، ولكنه كان كأنه لا يرانى وخيل إلى أنى فى طريق نظرته، فتزحزحت عن مكانى إلى الوراء قليلا وبقى هو ثابت الحملقة لا يشعر بى ولا بحركتى، فحولت وجهى إلى حيث ينظر فلم أر شيئا — أعنى أنى لم أر ما يستوجب هذا التحديق كله — فتركته لشأنه حتى يثوب إلى ويمل طول النظر. وبعد هنيهة، قال — وكأنه يحدث نفسه: «لم أر فى حياتى إنسانا يأكل هكذا». فدهشت وقلت: «إيه؟ كيف»؟ فأهمل سؤالى — أو لعله لم يسمعه — وسألنى هو: «هل تقضم اللقمة وتبلعها بلا مضغ»؟ فزادت دهشتى، وقلت: «كلا بالطبع.. من قال لك أنى أصنع ذلك»؟ قال: «خفت أن تكون ممن يفعلون ذلك.. ليس أضر على المعدة منه..». فسكت، فقد استطردنا إلى حديث لم يكن لى فى حساب، فعاد يقول: «كلا.. لا تفعل.. احذر..». فقلت، وقد مللت: «ما الذى يُجرى ببالك هذا السؤال»؟ قال: «إيه؟.. أى سؤال»؟ قلت: «المضغ والبلع، ولا أدرى ماذا أيضا». قال: «ألا تمضغ طعامك»؟ قلت: «بالطبع أمضغه.. لماذا تسأل»؟ قال: «خفت ألا تكون تمضغه.. لقد كان الطبيب يوصينى أن أمضغ اللقمة اثنتين وثلاثين مرة أو ثلاثا وثلاثين لا أدرى.. الزيادة احتياط ينفع ولا يضر.. هل تفعل ذلك»؟ فقلت لنفسى: إن النسيان فى ذاته وبمجرده ثقيل وبلاء عظيم، ولكنه يكون أعظم وأثقل إذا ألح على المصاب به خاطر واحد يحوم حوله العقل ولا يقع ولا يستقر، فأردت أن أصرفه عن ذلك، فسألته هل له فى كأس ثانية من الويسكى، وحدثت نفسى وأنا أسأله إن رؤيته مخمورا لا يكاد يعى ما يقول أفضل وأشبه بما ينبغى، وأقل استدعاء للعجب والاستغراب من تخليطه وهو مفيق صاح. ولكنه رد على سؤالى بسؤال أذهلنى، فقد قال مستغربا: «وهل شربت ويسكى»؟ ووجه العجب فى كلامه أنه لم يشعر بالتأثير المألوف للخمر، فكأنه لا يسكر لأنه ينسى أنه شرب شيئا. ويظهر أن نسيانه هذا يعفيه من تأثير الخمر وينجيه من إسكارها، وصار السؤال الذى يحيرنى هو: «إذا كانت الخمر لا تؤثر فى نفسه أو جسمه أو عقله، فلماذا يشربها»؟ وبدا لى أن خير ما أصنع هو أن أعود به إلى بيته، فاقترحت ذلك فوافق ونهضنا. وحملته فى السيارة إلى هناك.. ولم يكن ينسى أين يسكن، ولكن الموقع كان يغيب عنه أحيانا وتخونه ذاكرته فيقف حائرا لا يدرى ماذا يصنع حتى يتذكر أو يلقى من يعرف البيت فيسأله ويدله عليه أو يمضى به إليه. وكانت بنته فى النافذة تنتظر أوبته وهى قلقة خائفة عليه.. فأسرعت إلى الباب تفتحه، وكانت ذكية فلم تعاتبه. وما جدوى عتاب من لا يتذكر شيئا؟ ودخل غرفته ونسينى مع فتاته. وقالت لى: «ماذا حدث؟.. لا تدعنى معلقة.. طمئنى» قلت: «كل خير..» وشرعت أصف لها ما وقع منه وأقلده وهو ينظر إلى الرجل الأكول المبطان الذى يعظم اللقم ويبلعها بلا مضغ، وقلت لها بعد ذلك: «إنى أحسد أباك فما أشك فى أنه قد نسى كل ما يجب أن ينساه المرء من متاعب الحياة ومنغصاتها لو كان إلى هذا سبيل غير الذهول». قالت: «إنى أخشى أن ينسى اسمه فلا يعود يعرف من هو، ألا تكون هذه مصيبة»؟ قلت: «يا فتاتى إنه ليس أحمق ولا أقل عقلا ممن يحمل هم المصيبة قبل نزولها.. دعى هذا إلى أوانه وعسى ألا يجىء. ومع ذلك هل أنت واثقة أنه يعرف اسمه؟ من يدرى؟ أمن أجل أنا لا نسأله عنه يكون عارفا»؟ قالت: «لا تفزعنى». قلت: «إنما أردت أن أبين لك أن ما تخافين، لو وقع لما كان شرا فى الحقيقة أو أدهى مما هو حاصل الآن، فلا تزعجى نفسك بلا موجب. وعسى ألا يكون إلا كل خير.. والآن فلنتكلم عن شىء آخر.. شىء أحلى من أبيك وإن كان يكفيه من الحلاوة أنه كان له هذا الفضل العظيم على الدنيا التى تجملينها يا فتاتى». فقالت وهى تضحك: «إنك لا تعرف إلا موضوعين حين تكون معى … أنا وأبى». قلت: «وأنا.. أليس لى حساب عندك؟ ألا أصلح أن أكون موضوعا ثالثا معكما؟». قالت: «بالطبع.. ولكنك لست شيئا ثالثا.. موضوعك هو موضوعنا، فهما يبقيان اثنين ليس إلا». قلت بابتسامة أردت أن يكون لها معناها: «صحيح؟ بالذمة»؟ قالت: «يا خبيث ليس هذا ما أعنى». قلت: «هذا الذى لا تعنينه، ما هو»؟ قالت: «طيب اسكت بقى». قلت: «سكتنا يا ستى» ومددت يدى إلى كفها الرخص وأطبقت عليه أصابعى الخشنة، فتركتنى هنيهة ثم سحبت كفها فنظرت إليها فقالت: «أو لا تسكت»؟ فلم أتكلم وأشرت إلى فمى المطبق فضحكت، فهززت رأسى موافقا وأنا أبتسم، فعادت إلى الضحك، فعدت إلى إشارات الاستحسان والرضى. وتكرر هذا مرات، فصاحت بى: «ألا تنطق؟.. أين لسانك»؟. فقلت وأنا أنظر إلى السماء — أعنى إلى السقف فقد كان يحجب السماء: «حرت والله معك.. أسكت طوعا لأمرك فلا يرضيك الصمت. وأتكلم امتثالا لمشيئتك فلا يروقك الكلام فماذا أصنع بالله؟.. كونى منصفة». فضحكت، فقلت: «عندى اقتراح». قالت: «ما هو»؟ قلت: «هناك ما هو أبلغ من كل كلام وأحسن من الصمت أيضا وإن كان مما يحوج إليه ولا يتيسر الكلام معه». فزوت ما بين عينيها، وقالت: «ما هذا»؟ قلت: «هل أفهم من تقطيبك أنك غير موافقة سلفا»؟ قالت: «لست مقطبة، ولكنى أفكر». قلت: «لماذا تتعبين هذا الرأس الصغير بالتفكير؟ دعيه مرتاحا وتعالى نعمل بالاقتراح أولا، ثم نفكر بعد ذلك فى جماله وما أفدناه من السرور به». قالت: «ولكن ما هو؟ ألا تقول لى أولا». قلت: «هو ذا» وملت عليها فلثمت فمها ورفعت عينى، فإذا أبوها واقف فى مدخل الباب، فتنحنحت ونهضت وقلت: «لقد كان بيننا رهان.. هى تقول إنك نسيتنى، وأنا أقول إنك لم تنس.. فهل نسيت»؟ فشغله الأمر الجديد عما سبقه، وأنساه ما رآه، وبدا عليه أنه لا يعرف أو على الأصح لا يذكر، هل نسينى أو لم ينسنى. وشعرت الفتاة أن الجو صفا وأن الأزمة انفرجت، فنهضت إليه وعانقته وقالت: «بالطبع نسيت.. أعترف بالحق». فعادت ذاكرته تحاوره، وسألها: «الحق؟.. أى حق»؟ قالت: «إنك نسيت». قال: «نسيت.. نسيت ماذا»؟ فقلت لنفسى: إنك رأيتنى أقبّل فتاتك يا مسكين. ولقيت الفتاة بعد ذلك مرة، فقالت لى: «هل تعرف أنه يخيل إليه أنه رآنى أقبل رجلا أو أن رجلا يقبلنى، ولكن هذا يطوف برأسه كالحلم.. بل هو فيما يعتقد حلم». فسألتها: قلت: «ماذا قلت له»؟ قالت: «قبلته فقط وماذا تريد أن تقول له»؟ «وأنا.. أليس لى شىء؟ أزعمينى كأبيك أو عمك وقبلينى.. أم يجب أن أرسل لحيتى أولا»؟ فصاحت بى: «احذر». قلت: «أذن هاتيها.. حلوة طويلة».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/10/
فتاة الحارة
كنا غلامين صغيرين وجارين صديقين، وكنت أنا أسن منه قليلا.. ولكن الفرق كان فرق شهور لا تُقدّم ولا تؤخر، لا فرق سنوات تباعد بين الناس. وكان الوقت صيفا والمدارس مغلقة، فلا عمل أكثر الوقت إلا اللعب فى الشارع. وكان يفصل بيتينا بيت صغير لأرملة وبنتيها، وإحداهما فى مثل سننا والأخرى أكبر بسنوات وأضخم جسما، وكنت أسميها فيما بينى وبين صديقى «السقاء» لأن ثدييها كانا — فيما يبدو لى — كالقربتين. ولم أكن أرتاح إليها، ولكن أختها الصغيرة كانت أثيرة عندى وحبيبة إلىّ … فكنت لهذا أصانعها، ولكن صدرى كان يضيق بها أحيانا فأغضبها وأمرى إلى الله. وكنت إذا زجرنى أهلى عن اللعب فى الشارع، وملوا ترقيع الثياب التى ألبسها فى الصباح نظيفة سليمة فلا يجىء العصر إلا وهى ممزقة وعليها طوائف شتى من الأوحال والأقذار.. أقول كنت إذا نُهيت عن الشارع، أصعد إلى السطح وأتدلى منه إلى سطح الفتاة وأصفر لجارى فيوافينا، وننحدر جميعا إلى غرفة من غرف البيت أو إلى فنائه — وكان رحيبا — فنلعب ما حلا لنا اللعب حتى إذا أمسى الليل تفرقنا إلى بيوتنا. واتفق يوما أن كانت الفتاة معى فى ساحة الدار، وكنت قد تخلفت بعد ذهاب صديقى وصعود الأخت الضخمة — أو «السقاء» كما كنت أسميها — وكان باب البيت مواربا، فطوقتها — أعنى البنت الصغيرة لا السقاء — بذراعى وقبلتها، وكانت فيما أحس تلين لى فى العناق، ولكنها عبست فجأة وتفلتت منى ودفعت ذراعى عنها بعنف، وذهبت تعدو إلى السلم.. فتعلقت بأذيالها، ولكنها شدت الثوب أو على الأصح ضربته بيدها، فطار من يدى وصعدت بسرعة، وتركتنى واقفا أنظر وأتعجب. وفى صباح اليوم التالى، قالت لى أمى فجأة ونحن على الطعام: «هل أنت بنت»؟ فصحت مستغربا منكرا: «بنت»؟ فقالت: «نعم، لماذا تلاعب البنات ولا تلاعب الأولاد من أمثالك»؟ فأطرقت استحياء وقد أدركت أنها تأخذ على شيئا وتستهجن مصاحبتى لهذه الفتاة، ولم يخطر على بالى أن فى الأمر أكثر من هذا. وحان الظهر وجاء معه رجل تركى الأصل عتيق من أصدقاء أخى الأكبر — وكان يلازمه من الظهر إلى نصف الليل — وكان شعره أبيض ووجهه مغضنا، كما تبدو المدينة للمشرف عليها من قمة جبل شامخ، فصاح بى وأنا خارج: «تعال يا سيدى … تعال». فوقفت مستغربا لهجته، وقلت: «نعم». فقال: «جارتك هذه، يظهر أنها تعجبك». فغضبت وتألمت ولكنى تجلّدت، فقد كان إذا اعتبرنا السن يعد جَدًّا أعلى لى، وقلت: «نعم». فضحك وتفل وفتل شاربيه الكثيفين، ثم قال: «لقد رأيتك البارحة تحضنها». فصحت به: «إيه»؟ فأشار إلى بيده المتجعدة المعروقة: «لا تغضب.. كلنا كنا صغارا.. ولكن يا ابنى..». فلم أدعه يتمها وانصرفت عنه، وأنا أغلى من الغيظ والنقمة على هذا الطفيلى الوقح الذى لا شك أنه روى لأخى ما رأى منى، فلم يسع أخى إلا أن ينبه أمى.. فقد كان غير شفيق، وكان يؤثر أن يدع أمر تربيتى لأمى. وخرجت إلى الشارع أنفخ ولا أكلم أحدا حتى ولا صديقى الأثير، وكان يرى ما عرانى فيلح على أن أفضى إليه بالأمر فلا أجد لسانى قادرا على الدوران. وانقطعت عن الفتاة أياما كان صديقى فى خلالها حائرا بينى وبين صاحبته، يعز عليه ألا يكون إلى جانبى وهو يرانى مهموما مكروبا لا أتسلى ولا أقول بشجوى وألمى، ويكون معى فيمل صمتى الذى لا أخرج عنه، وتصبو نفسه إلى مجالسة السقاء وأخيرا نفد صبره، فقال لى يوما: «اسمع.. تعال معى إلى فوق». وكان يعنى «بفوق» منزل الجارة، فنظرت إليه مستغربا كأنما كان عليه أن يعرف كل ما كتمت عنه فقال: «تعال.. قم.. قم». فانحلّت العقدة وانطلق لسانى، وقلت له: «ماذا يعجبك فى هذه الفتاة»؟ فتلعثم وأخذ يتنحنح، ولم يزد على أن سأل: «إيه»؟ قلت: «أو ماذا يعجبها فيك»؟ فرمانى بنظرة عتب ثم ابتسم ولم يقل شيئا، وخيل إلى أنه لو كان له شاربان لفتلهما، ثم قال ببساطة: «الحقيقة أنى أحبها و و و وهى أيضا تحبنى». فوثبت إلى قدمى من فرط الدهشة، وتناولت كتفيه فهززتهما وصحت: «ماذا تقول؟.. أعد هذا». قال: «ماذا جرى لك؟ ألم تسمع؟ أحبها وتحبنى.. شىء بسيط جدا». ونحى يدى عن كتفيه. وثابت إلىَّ نفسى، فأطرقت قليلا ثم سألته: «كيف حدث هذا»؟ فقال: «لا أدرى كيف حدث؟ ولكنى أول من أمس سلمت عليها وجلست بجانبها ثم ملت عليها فقبلتها». فسألته وأنا فى دهشة: «قبلتها؟.. هل تعنى أنك قبلتها»؟ فضحك وقال: «بالطبع أعنى أنى قبلتها.. ماذا تظننى أعنى غير ذلك»؟ فسألته: «ولم يسؤها ذلك؟ لم تغضب ولم تذهب عنك ساخطة»؟ فقال مستغربا: «تغضب؟ لماذا تغضب؟ أما أنك لغريب». فقلت وأنا مطرق: «غريب»! فقال: «غريب؟ ما هو الغريب»؟ قلت: «أعنى أنى أعرف واحدا قبل فتاة فسخطت عليه وولت منه هاربة». فقال ببساطة: «لابد أن يكون له وجه قرد».. وضحك. وتركته وعدت إلى البيت، فكان أول ما صنعت أن نظرت فى المرآة وتأملت وجهى كما يبدو فى صقالها، ثم درت حول نفسى وعينى على جانبى وجهى ثم تنهدت وأقصرت. ••• وكان للفتاة — فتاتى أنا لا السقاء — قطة صغيرة عزيزة عليها، فاتفق أن مر كلب ضال، وكانت هى — أعنى القطة لا الفتاة — واقفة على العتبة، فدنا منها الكلب وهى غافلة، ولعلها كانت مغفية، فأحست أنفاسه وهو يشمها، ففتحت عينيها وهى تتثاءب وانتفضت مذعورة.. وثبت وثبة، قطعت بها عرض الشارع، ولم يكف هذا لإطمئنانها، فدخلت من باب ألفته مفتوحا، وكان فى ساحة البيت شجرة «جميز» فانطلقت تتسلقها، ولم تزل تصعد فيها حتى صارت على أعلى فرع فيها. وكانت الفتاة قد بصرت بالقطة وهى تعدو مذعورة، وتدخل البيت المقابل لبيتها.. فانحدرت مسرعة ودخلت وراءها ونظرت فلم تجد شيئا، فارتدت إلى الباب وقد أغرورقت عيناها بالدموع. وأقبل صديقى فى هذه اللحظة فسألها عما بها، فقالت له إن الكلب أفزع القطة فهربت لا تدرى إلى أين وهى تخشى أن يأخذها الجيران. فركل صديقى الكلب — أعنى أن صديقى ركل الكلب، والمعنى واضح فى الحقيقة ولكنى أوثر هذا الايضاح اتقاء لكل غلط — ودخل مع الفتاة البيت ووقفا وأرهفا آذانهما، فسمعا مواء خافتا فتلفتا، ثم عرفا أن القطة على الشجرة فجعلا ينظران من هنا ومن ههنا ويميلان رأسيهما إلى اليمين والشمال حتى رأياها، وجعلت الفتاة تدعوها بأصوات مختلفة أن تنزل والقطة تأبى أن تطمئن وتخشى إغراء الأصوات المهيبة بها أن تنزل، فتصعد حتى بلغت القمة فدعت الفتاة صديقى أن يتسلق الشجرة ليجيئها بالقطة، فهز رأسه وقال لها: «حرام عليك.. هل تريدين أن أقع فأموت»؟ فتوسلت إليه فلم يلن، وقال إن القطة لا تلبث متى هدأ روعها أن تنحدر من تلقاء نفسها. وكان هذا صحيحا فما يمكن أن تظل القطة على الشجرة طول عمرها، ولكن قلب الفتاة أبى أن يطمئن فخرجت باكية ورأيتها أنا فانطلقت أعدو إليها، وقد أحسست أن قلبى يتفطر، وسألتها ماذا يبكيها.. فقصت على الحكاية، وقالت إن صاحبي لايريد أن يتسلق الشجرة خوفا على عمره، فقرضت أسنانى وقلت: «أنا أفعل» ففرحت وأبرقت أسارير وجهها، وقالت: «صحيح»؟ قلت: «بالطبع صحيح.. وهل تظنين أنى مثله أخاف على عمرى.. ومم أخاف»؟ وخلعت حذائى ورميت الطربوش وشرعت أتسلق الشجرة المخوفة حتى صرت بين أغصانها الغلاظ المتشابكة، وذهبت أزحف على الغصون السميكة التى يحمل الواحد منها جملا لا غلاما خفيفا مثلى حتى بعدت عن الأرض جدا، وحتى أنها كانت تكلمنى فلا أسمع وأصيح بها أن ترفع صوتها وأحتاج أن أنحنى وأفرق الأوراق لأرى أين هى. ولم أزل أصعد حتى دنوت من القطة، ولكنها كانت مع ذلك لا تزال بعيدة، وشاء الحظ أن تخاف القطة فلفت حول الشجرة وأصبحت على فرع فى الناحية الأخرى، وكانت الفروع هناك أمتن وأسمك. فدرت كما دارت ومددت يدى فقبضت عليها ودسستها فى جيبى، وكان الهبوط أخطر من الصعود وأشق.. ولكن الله سلم. وتناولت القطة منى بعد أن أخرجتها من جيبى، وكدت أخنقها وأنا أحاول إخراجها — فقد كان لابد أن أقبض على عنقها لأتقى أسنانها وأظافرها — وأهوت عليها تقبلها وتضمها إلى صدرها وتمسح لها شعرها، كأنها طفل رضيع لا قطة لعينة كانت منذ دقيقة على قمة جميزة ضخمة تحاورنى وتعرّض عنقى للدق وأنا مازلت فى مقتبل العمر. وكنت أنا أنظر إليها راضيا قرير العين فرفعت عينها إلىّ، والقطة مضمومة إلى صدرها، وقالت إنها مدينة لى بالشكر ففركت كفى مسرورا ومرتبكا، فما كنت أنتظر شكرا ولا شبهه وإذا بها تصرخ فذعرت، فقالت: «يداك» فنظرت فيهما فألفيتهما مخدوشتين فأخفيتهما وراء ظهرى، وقلت إن هذا من لحاء الشجرة وسيزول ولا شك، فقالت: «لا.. تعال» فقلت: «إلى أين»؟ قالت: «معى.. أغسلهما لك فى البيت.. مسكين..». فنظرت إليهما مرة أخرى، وقلت: «فكرة..». ودخلنا البيت معا.. ونسينا صديقى فى بيت الجار.. تحت الشجرة. ووصلت القطة المستنقذة ما كان قد انقطع.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/11/
فى رأس السنة
دهش الثلاثة ووقفوا حيث هم — آذانهم مرهفة، وأحداقهم ثابتة، وأنفاسهم معلقة. وكانت الليلة ليلة العام الجديد — أو رأسه — وقد تهيأ حامد للخروج، ولبس ثياب السهرة وأدار الراديو وراح يتمشى فى الغرفة، ريثما تجىء جارته فتنقر له على النافذة المفتوحة.. فيمضى بها إلى العشاء والرقص والمرح. وكانت الإذاعة فى تلك اللحظة رواية متخيرة، ولكن حامدا لم يكن باله إليها وإنما أراد أن يغرق ضجات الطريق المتقطعة فى ضجة أخرى أكبر لأنها أدنى — لا تنقطع ولا تفتر فيألفها ويتسنى له أن يفكر، بعد أن تسكن أعصابه إلى وقعها المتصل، فى أمره مع جارته أو فيما ينبغى أن يصنع ليحمل أباه العتيق الطراز على الرضى بما تقتضيه حياة العصر الجديد. ولم تكن به حاجة إلى أبيه، ولكنه لم يكن يريد أن يفسد بينهما الحال أو أن يضيف إلى عبء السنين التى يحملها عبء الشعور بخيبة الأمل — إذا وسعه ألا يفعل. وكان أبوه فى تلك اللحظة قد دخل بالمفتاح الذى أعطاه إياه حامد ليروح ويجىء كما يشاء. ولم يشعر به حامد لأن خواطره كانت تستغرقه ولأن الراديو كان أعلى من أن يسمح بالالتفات إلى باب يفتح أو يغلق، ثم لأن الرجل لم يكد يرد الباب حتى وقف مذهولا، فقد سمع ضحكات نساء ولغط رجال، وكان ريفيا ساذجا فيه ورع وتقوى يعرف الراديو ويصغى بخشوع إلى ما يذاع من كتاب الله، وقد يتفق له أن يسمع بعض المقطوعات الموسيقية.. ولكنه لم يشهد فى حياته رواية تمثل، ولم يخرج عن عادته فى التبكير فى النوم إلا فى الفلتات القليلة. فإذا كان قد وقف الآن مستغربا منكرا، فلا شك أنه كان معذورا. ولم يكن يفهم شيئا من الأصوات التى تأدى إليه أو يفطن إلى دلالة الكلام. وكان المذيع يصف حركة الروليت بعد أن توضع النقود، وتذهب العجلة تدور وتخفت الأصوات انتظارا لوقوف الكرة عند الرقم السعيد.. ولكن الرجل لم يكن يعرف أن هذا مذيع يصف للسامعين ما لا يرون، بل كان يظنه أحد رفقاء حامد ابنه فى سهرة جمع فيها طوائف شتى من الرجال والنساء.. نعم والنساء فما فى هذا شك، أليست هذه امرأة تقول: «اسرع يا ميمى.. أسرع.. بين الـ ٧ والـ ٨..». وهذا صوت رجل يصيح: «لالالا.. هذا من حق لولو.. نعم فقد رأيت ما حدث.. البيك نقل الورق عن موضعه بكفه، وهو لا يدرى». وها هى الفتاة تعود إلى الكلام مرة أخرى، وتقول: «مرسى يا حبيبى.. ميل مرسى». فيقول الرجل الأول، هو بعينه بالتأكيد فإن الصوت واحد: «العفو.. لقد رأيت كل شىء، وإذا كنت تسمحين بأن أقدم إليك نصيحة رجل مجرب.. فنصيحتى أن تكفى عن اللعب، فإن مثل هذه الغلطة فى العادة تكون إيذانا بانتهاء حظ اللاعب». لعب … نصيحة … حظ … نساء ورجال … ما معنى كل هذا يا ترى؟ فى هذا وقف الرجل المسكين يفكر. وكان يفكر فى شىء آخر هو هل يدخل فيعرف الحقيقة كائنة ما كانت أو يخرج ويدع ابنه لشأنه؟ ولكن كيف يستطيع أن يخرج ويدع ابنه.. وكيف يدخل ومعه نساء غريبات؟ ولم يكن هذا الأب الساذج هو الحائر الوحيد فى تلك اللحظة، فقد كان هناك رجل آخر من طراز غير طرازه وجد باب المطبخ مواربا.. فتسلل منه ودخل على أطراف أصابعه وفى مرجوه أن يخفف عن صاحب البيت — وعن نفسه أيضا — ولم يكد يبلغ باب الدهليز حتى صافح سمعه هذا اللغط الكثير المنبعث من غرفة الاستقبال، ولم يكن كالآخر ساذجا فلم يلبث أن فطن إلى أن ههنا أناسا يقامرون، فسمرته الدهشة والحيرة، فقد كان يظن البيت خاليا فإذا هو عامر بل غاص بالخلق. وكان سبب حيرته أن وجود هؤلاء اللاعبين جميعا يجعل فرصة الغنم فى ليلته هذه أكبر، والورق أخف محملا وأخفى أمرا، وحامله أقل تعرضا للاعتقال، ولكن كثرة الموجودين تجعل تعرضه للوقوع فى المحذور أشد فماذا يصنع؟ أيأخذ بالأسلم فيعود من حيث جاء، أم يذعن للإغراء فيبقى؟ ولا سيما والأرجح أن القوم يشربون وبعد قليل يسكرون.. على أن الأمر خرج من يديه، فقد جاء اللبان فى هذه اللحظة ووقف بباب المطبخ كعادته، ورفع صوته بكلمة واحدة ولكنها طويلة ممطوطة «لبن» فريع الرجل ووثب ودار حول نفسه، فقال اللبان: «اللبن.. عايزين لبن الليلة»؟ فمشى إليه الرجل كالمضروب على أم رأسه، فعاد اللبان يسأله: «عايزين لبن والا إيه؟.. ما ترد». فأفاق الرجل وأشار اليه، وقال: «هس.. هس». فاستغرب اللبان وقال: «هس إيه.. عايزين لبن.. أنت مين قبله»؟ فألهم أن يقول: «أنا الخادم الجديد». فقال اللبان: «طيب ما تقول كده من الصبح! عايز كام»؟ – واحدة. فناوله سلطانية ووقف ينتظر وصاحبنا ينظر إلى الدهليز، ثم قال اللبان: «ماتجيب امال خلينى أروح لحالى». قال المسكين: «أجيب.. إيه»؟ – حق السلطانية. فألهم مرة أخرى أن يقول: «الصبح.. عندنا ضيوف.. ما أقدرش أنادى سيدى دلوقت». فمشى اللبان ومسح الرجل عَرَقه ووقف يستعيد انتظام أنفاسه، وقد دار برأسه أن خير ما يصنع هو أن يخرج وراء اللبان وأمره لله فى هذه الليلة المنحوسة، ولكن القدر أبى إلا أن يعد له مفاجأة أخرى أدهى وأمرّ. ذلك أن الفتاة كانت قد وصلت ونقرت على حافة النافذة، فخف إليها حامد وانثنى على النافذة يقبلها، ثم اعتدل وهم بأن يقول لها إنه سيخرج لها حالا وإذا بها تستوقفه وتسأله: «من عندك»؟ وتشير إلى الدهليز، فقد رأت بابه يختفى فيه شبح، فعجب حامد لسؤالها ونفى لها أن أحدا عنده، ثم نظر إلى حيث كانت تنظر محدقة فخيل إليه أنه يسمع أصواتا، فقال: «انتظرى» وخرج.. ولكنها لم تنتظر، فقد كانت فتاة عملية، وكانت تحب حامدا وتقرأ الروايات البوليسية، فجمح بها خيالها وجسم لها الأمر، وأوهمها أن خطرا عظيما قد أحدق بفتاها.. فذهبت تعدو إلى أقرب شرطى وجرته من ذراعه جرا، فقد كانت خطوته بطيئة وهى تريد أن تطير. وفى أثناء ذلك كان حامد قد خرج، فألفى أباه واقفا وراء باب الشقة، فقال حين رآه: «يا شيخ ظنناك لصا». فسأله أبوه: «من عندك»؟ فخطر لحامد أن هذا هو الليلة سؤال الناس كلهم، فضحك وقال: «لا أحد.. لماذا لا تدخل.؟ لماذا تقف هكذا»؟ وتذكر أن الفتاة واقفة عند النافذة، ولم يدر كيف يفسر لأبيه وجودها. نعم، يستطيع أن يقول إنها جارته — وهذا صحيح — وأنها مرت به فوقفا يتبادلان التحية، ولكن أباه رجل محافظ ثم إنه يريد أن يعرّف أباه بها أحسن تعريف. على أن تفكيره فى هذا لم يطل، فقد سمع حركة فى المطبخ فمشى إليه مستغربا وضغط زر الكهرباء.. فاذا صاحبنا الذى تركناه هناك حائرا بين البقاء والهرب يمد يده إلى سلطانية اللبن، وقد خطر له أن خير ما يصنع هو أن يأكلها قبل الخروج، فلا يكون قد خرج من المولد بلا حمص كما يقول المثل. وبقيت يد الرجل ممتدة لا هى تصل إلى السلطانية ولا هى تنثنى إلى صاحبها، فقال حامد: «ماذا تصنع هنا»؟ فتلعثم قليلا، ثم قال: «جوعان»! قال حامد: «أهو ذاك؟ ومن أين دخلت»؟ قال: «رأيت اللبان داخلا، فلما خرج.. وقفت أنادى فلم يرد أحد فدخلت». فمال حامد إلى تصديقه وكان مستعجلا، فقد ترك الفتاة عند النافذة فقال: «طيب كل واخرج.. خدها كُلْها على السلم». ودفعه وأغلق الباب وراءه وهم بأن يعود، فسمع وقع أرجل.. ولكنه لم يعبأ بذلك، وكر راجعا إلى الغرفة، فإذا أبوه واقف ينظر إلى الراديو ويضحك فلم يفهم ومضى إلى النافذة وأطل، فلم ير أحدا، فالتفت إلى أبيه يريد أن يسأله، ثم آثر العدول. وسمع دقا على باب المطبخ وصوتا ناعما يناديه، فذهب يعدو وفتح الباب وإذا به يرى شرطيا ضخما مفتول الشاربين وفتاته، والرجل بينهما وفى يده السلطانية فارغة، فارتد حامد خطوات وقال: «ما هذا»؟ قالت صفية: «لقد صح ظنى.. الحمد لله..». فقال حامد ببلاهة: «تفضلوا..» وأفسح لهم الطريق ثم أردف: «ولكن لماذا الشرطى»؟ فقالت صفية وهى تدخل: «لماذا؟ أو تسأل؟ ألا تعلم لماذا؟ للص يا روحى» فكاد يضع يده على فمها، ولكن أباه كان قد خرج فلم تبق أى فائدة. وقال حامد: «بابا.. هذه صفية.. جارتنا.. بنت أحمد بك.. لا ليس هذا لصا.. أنا أعطيته السلطانية ليأكلها..». فقال الشرطى: «إذا كان الأمر كذلك فلا داعى لوجودى. سعيدة». وخرج وهو ينظر إلى صفية نظرة محنق. وقالت صفية: «شرفت يا عمى..». فتمتم الرجل وهو مطرق، وقال حامد: «أ.. أ.. نحن.. أعنى صفية وأنا.. اء.. خطيبان.. اتفقنا على الزواج.. بعد موافقتك طبعا..». فدنت منه صفية ومالت على كتفه وهمست فى أذنه: «قل إنك موافق..». فقال الرجل: «أنا متوضئ … ابعدى قليلا..». فضحكت، وقالت: «إذا لم توافق فإنى أنقض لك الوضوء..». ففزع الرجل ونهض قائما، وقال: «لالالا احذرى.. الدنيا برد وأنا راجل كبير ضعيف، وأريد أن أصلى العشاء». فقالت: «قل أولا أنك موافق.. وإلا.. هه». فلوح الرجل بذراعه، وقال: «أنا مالى … مفلوقين فى بعض … فين السجّادة يا حامد»؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/12/
الذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا
لما جاءنى رسول أختى برقعة منها يدعونا فيها — أمى وأنا — إلى قضاء العيد معها، لأن زوجها سافر إلى الإسكندرية.. أدركت أن فى الأمر شيئا، وأن خلافا لابد أن يكون قد شجر بينهما، ولكن دقة إحساسها بالواجب حملتها على البقاء فى بيتها بدلا من أن تجىء هى إلينا. ولم تفت أمى دلالة هذه الدعوة، فقد سألتنى: «أتظن أن شيئا حدث»؟ فقلت: «لابد» فقالت: «أترى أن نسألها»؟ فهززت رأسى، فليس أكفل بفساد الأمر بين زوجين — فى رأيى — من الدخول بينهما. وكان وجه أختى وحده كافيا للارتفاع بالظن إلى مرتبة اليقين. نعم، كانت تبتسم ولكن ابتسامها كان متكلفا، وكلامها أكثر مما ألفنا منها، وحركاتها أسرع، وكان لونها ممتقعا حتى لقد احتاجت إلى الأحمر لخديها وشفتيها. وكان الجو باردا، فاحتجنا إلى ما نُدفئ به.. فجاءتنا بموقد صار الفحم فيه جمرا لأنها تكره مدفأة الكهرباء أو البترول لشدة تجفيف الكهرباء للجوّ، ولأن البترول له رائحة لا تطيقها. وسألتها وأنا أتبسم: «وأين اللعين زوجك»؟ وكان لابد أن أسألها عنه، وإلا كان اجتناب ذكره واشيا بالفطنة إلى ما عسى أن يكون قد وقع بينهما. وما دامت هى لم تقل شيئا فقد يربكها أن تعلم أننا نعلم. فقالت ببساطة: «أوه.. أظنه ملنا.. سافر ليبحث مع شريكه أمر هذه الشركة الجديدة التى يريد أن يؤلفها.. إنك تعرفه.. لا يعترف بعيد، ولا يطيق أن يقعد بلا عمل». فسرنى أنها تكذب لتستر حماقته.. وكنت أعرف أن هذه كذبة لأنه أخبرنى بما تم، فالأمر مفروغ منه ولا حاجة به إلى سفر جديد، ولكنها لم تكن تدرى أنى أعرف هذا وإلاّ للجأت إلى كذبة أخرى. وقضينا النهار على خير ما نستطيع، وإذا بنا بعد العصر نتلقى هذه البرقية: «اصطدمت السيارة وتحطمت، وإصابتى خفيفة. فهل تستطيعين أن تحضرى؟.. سيكون أخى بانتظارك بسيدى جابر» خليل. فذعرنا جميعا فقد كان من الواضح أن الحادثة أكبر مما زعم.. ولم تستطع أختى أن تضبط نفسها، فبكت وهمت أمى أن تزجرها عن البكاء، فقلت لها: «دعيها فما خلق الدمع للناس عبثا». فقامت ترتب لها أشياءها فى الحقيبة، وتضع معها ما قد يحتاج إليه زوجها مخافة أن تكون حقيبته قد فقدت فى الحادثة، أو تركت مع السيارة المحطمة. وقلت لأمى: «اذهبى معها، وسألحق بكما غدا.. فإنى مضطر إلى البقاء الليلة، وأبرقوا إلى فى الصباح بعد أن تروه ليطمئن قلبى». وودعتهما فى المحطة وعدت إلى البيت — بيت أختى — حزينا كاسف البال موجع القلب، وجلست فى البيت أفكر فى هذا الحظ السيئ وأسخط على خليل، وأقول لنفسى هل كان لابد أن يصنع هذا الأحمق ما صنع، وأن يعلن إلى زوجته الجفوة ليلة العيد، ويروح يكسر عظامه أيضا ويرج زوجته هذه الرجة الشنيعة؟ ولكنه لقى فوق جزائه. مسكين. ومن يدرى ماذا جرى له؟ ولعله الآن مشرف على الهلاك، وإنها لقسوة أن ألومه. ثم أنه كان مثال الزوج الصالح، ولم تكن سيرته معها قط إلا سيرة المحب الذى لا يعنيه من الدنيا سوى زوجته، فماذا يا ترى جرى حتى كانت هذه الجفوة المشئومة؟ وإنى لجالس أدخن سيجارة فى إثر أخرى، وبى ما يعلم الله من الحزن.. وإذا بخليل داخل كالقنبلة! فانتفضت واقفا وحدقت فى وجهه مذهولا وفمى مفتوح كالأبله، فلما رآنى كذلك وقف هو أيضا، وسألنى أول ما سأل: «أين فريدة؟». فأحسست أنى سأسقط على الأرض، فانحططت على أقرب كرسى ورفعت يدى إلى رأسى، فأقبل على يهزنى بعنف ويقول بصوت عال جدا: «أين فريدة؟ قل.. انطق، ماذا جرى»؟ فحاولت أن أتكلم، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فأشرت إلى البرقية المشئومة، فتناولها مستغربا ولم يكد يقرأها حتى صرخ: «إيه»؟ فوجدت لسانى، وقلت: «ماذا تظن؟ من أرسل هذه البرقية»؟ قال: «لا أدرى.. ماذا نصنع الآن؟.. فكر.. فكر.. فقد ضاع عقلى.. فريدة.. من يدرى فى أيدى مَنْ من الأشرار ستقع الآن؟» فقلت: «وأمى أيضا معها.. رهينتان لا واحدة يا صاحبى». فقال: «رهينتان؟ هل تعنى أنك تعتقد؟» قلت: «بالطبع.. أى معنى لهذه البرقية غير ذلك؟ إنها شَرَك.. وليس المهم الآن حل اللغز بل السفر وراءهما لإنقاذهما.. لمنعهما من الوقوع فى أيدى هؤلاء الأشرار كائنين من كانوا». فقال: «صدقت.. قم بنا» قلت: «سيارتك لا تصلح لهذا.. ألا تستطيع أن تجد لنا سيارة قوية.. تستعيرها من أى صديق؟» وفى هذه اللحظة أقبل أخى فتشهدت واستبشرت، فقد كانت له سيارة جديدة من طراز هدسون تستطيع أن تطير بنا، فدفعته إلى الباب وسبقته إلى السلم وأنا أناديه وأدعوه أن يسرع ورائى. وكان أخى يكره السرعة فتوليت أنا القيادة، وجلس هو وكلبه معه وراءنا، وجلس خليل معى وكان لابد من التمهل حتى نخرج من المدينة وإلا عطلنا الشرطة، وكنت كالجالس على الجمر، ولكن ما حيلتى؟ واجتزنا شبرا بعد أن ضاع ربع ساعة ثمين، فسألت أخى: «هل الأنوار قوية»؟ ولم تكن بى حاجة إلى السؤال فإنى أنا السائق وأمامى مفتاح النور وفى وسعى أن أجرب، ولكن السؤال جاء دليلا على مبلغ اضطرابى. ودليل آخر على هذا الاضطراب هو أننا لم نخبر أخى ما الحكاية، فراح يكلم كلبه ويقول: «روكسى إنه يسأل عن الأنوار هل هى قوية؟ كأنه لا يعلم، لا بأس. هل تظن أن من حقه أن ينتظر جوابا؟ نعم، الجواب تحصيل حاصل.. بالطبع.. الحق معك.. ثم إنه أرسل النور أمامه وهو يضيىء إلى مسافة أميال.. أليس كذلك؟ ولكن إلى أين يمضى بنا يا روكسى؟ نعم؟ أتقول إن هذه هى الطريقة الأمريكية فى الاستيلاء على السيارات واغتصابها من أصحابها الشرعيين؟ إنها كذلك على التحقيق.. وإنى أراك مصيبا دائما فى ملاحظاتك يا روكسى أوه.. تسعون؟ روكسى.. إنه يخطف بنا الأرض فهل تظن أنهما ارتكبا جناية»؟ وهكذا وهكذا.. ولم أكن أستطيع أن أقول له شيئا لإن عينى على الطريق. وكان خليل يساعدنى فينظر إلى عداد السرعة ويخبرنى بالرقم الذى نرتقى إليه وينظر فى الساعة كذلك، فيطمئننى أو يزعجنى، وأخى ماض فى هذره حتى بلغنا بنها. ولم أدخلها بل آثرت أن آخذ طريق سيارات النقل لأنه أقصر وإن كان غير ممهد — اجتنابا للبطء الذى نضطر إليه فى شوارع المدينة. وبعد أن اجتزنا الكوبرى الجديد، ثم جسر السكة الحديدية — أو المزلقان كما يسمونه — أطلقت للسيارة العنان فجعل خليل ينظر ويقول: «مائة.. مائة وخمسة. وعشر. وعشرون.. وخمس وعشرون.. امض امض. لا شىء.. هذه دجاجة..». فقال أخى: «أظنها ذهبت إلى جنتها — جنة الدجاج — قبل الأوان.. أتراه سباقا يا روكسى»؟ وبلغت السرعة مائة وثلاثين كيلو، فلولا أن السيارة كبيرة ومتينة وثابتة لانقلبت بنا وقتلتنا.. ولكن أخى خبير بالسيارات والذى لا يعرفه عنها لا يستحق أن يعرفه أحد. والحق أنها كانت سيارة أصيلة، بل هى السيارة وكفى. لكن بالى لم يكن فى ذلك الوقت إلى شىء من هذا، بل إلى ما بقى من الوقت حتى يصل القطار إلى طنطا أو دمنهور وإلى مبلغ الأمل فى إدراكه قبل أن يبلغ سيدى جابر. وتأدى إلى صوت أخى يقول: «هل تعلم يا روكسى أن إسماعيل مهمل — يعنينى — أموافق أنت؟ هذا ما كنت أنتظر.. ولكنه ينقصك أن تعلم لماذا.. أتريد أن أسر إليك يا روكسى بالسبب؟ اسمع إذن ولكن لا تخبره.. لقد أردت أن أستعير حقيبته الصغيرة. أقول لك الحق يا روكسى بينى وبينك يا روكسى.. استعرتها فعلا.. ولكنى وجدت أنه أهمل أن يضع فيها المفتاح ولهذا جئت إلى بيت الأخت لعلى أجده فآخذ المفتاح.. أعرف ما تريد أن تقول فإنك ذكى.. بالطبع لم يكن ينتظر أن يعطينى المفتاح.. ولكنى كنت سآخذه على كل حال.. أوه بطريقة من الطرق.. من غير أن يشعر بالطبع..». وقد هممت مرات أن أصيح به، ولكنى كبحت نفسى فليس هذا وقت الاختلاف على الحقائب.. ولكنه غاظنى مع ذلك أنه أخذها وهو يعلم أن فيها أشيائى، فقد كنت أعددتها لرحلة قصيرة، فلما جاء رسول أختى عدلت وكان ما كان.. ونويت أن أغتنم أول فرصة تسنح لاستردادها. بطريقة من الطرق.. كما يقول.. والبادى أظلم. ولم أكن أطمع أن أدرك القطار فى طنطا، فلم أستغرب أن أعرف أنه تركها قبل وصولنا بعشر دقائق، واحتجنا إلى البنزين فضيعنا دقائق أخرى، ثم استأنفنا السير بأقصى سرعة لنعوض — سلفا — التأخير الذى لابد منه فى كفر الزيات. واعترانى ما يشبه الحمى، فلم أعد أبالى كيف أقطع الطريق. وكنت ربما صادفت مركبة أو رجلا على حمار أو جمل فأمرق ولا أعنى نفسى باليمين والشمال. ولم يكن الطريق بعد كفر الزيات على خير ما يمكن أن يكون، ولكنى لم أكن أحفل بذلك ولم أترفق بالسيارة. وكان أخى يرى هذه السرعة الجنونية — فقد بلغنا أربعين بعد المائة وأصررنا عليها — فيقول لكلبه: «انظر يا روكسى.. إن الخبيث ينتقم منى — أعنى منا، فإنك شريكى فى كل شىء — لأنى أستعرت حقيبته.. من أجلها يريد أن يفجعنى فى السيارة.. أى والله يا روكسى. فتعال نبك على ما كلفتنا من مال يضيع الآن فى هذه السكة المنحوسة.. ثلاثمائة وخمسون جنيها خرجت عنها من حر مالى.. وماذا يعنيه هو.. يأخذها بلا استئذان، وينحينى عن مجلسى فيها، يردنى إلى الوراء.. هل هذا يليق يا روكسى»؟ ولولا أن خليلا صاح فى هذه اللحظة: «القطار، القطار، سنسبقه يا إسماعيل … سنسبقه بالتأكيد … الحمد لله» لمضى أخى فى هرائه. وكنا قد قاربنا دمنهور، فلما بلغنا مدخلها عاد أخى إلى الثرثرة، ولكنى لم أسمع شيئا لأن أذنى كانت تطن. ودنونا من المحطة، فوقفت وفتحت الباب، وقلت لخليل: «انزل.. بسرعة» فشرع يفتح الباب من ناحية وأخى يقول: «ألم أقل لك يا روكسى إنه سباق.. بين السيارة والقطار»؟ ولم أسمع بعد ذلك شيئا لأنى ذهبت أعدو إلى الرصيف الذى يقف عنده القطار. ولم نكد نفعل حتى دخل، فركبت — بلا تذكرة، وماذا يهم؟ — وخليل ورائى. ومشينا خلال المركبات حتى وجدنا أمى وأختى، فانحططت بجانبهما بلا كلام. ولو كان فى رأسى أو رأس خليل عقل لنزلنا بهما من القطار وعدنا بالسيارة على مهل، ولكنا لم نفكر فى شىء حتى كان القطار فى طريقه إلى سيدى جابر، فأدركنا أننا تعرضنا لغرامة فادحة لم يكن لها داع. وكان فى الوسع اتقاؤها لو عنينا أن نخبر المفتش أو أحدا من رجال القطار أننا راكبون من هنا، وسندفع الأجر فى القطار.. على أن الثقة بأنا أنجينا الفريستين هونت علينا الخسارة. وقلت لأختى: «هذا زوجك.. البرقية مزيفة، فما الرأى الآن؟». ولكنها لم تكن فى حال تسمح لها بإبداء رأى. وأى رأى هناك يمكن أن يشير به أحد.. لقد ضاعت الفرصة الذهبية فى دمنهور، ولو كنا أخبرنا أخى على الأقل لاستطاع أن يبرق إلى بوليس سيدى جابر بالموضوع، ولكان لاستمرار السفر فى هذه الحالة معنى، أما الآن … وعلى أنا قلنا إن الفرصة لم تضع، وأن من الممكن إذا تركنا الاثنتين تسيران أمامنا وحدهما وعيوننا عليهما أن نرى هذا الذى سيتقدم لهما نائبا عن أخى خليل، وقد نستطيع فى ذلك الوقت أن نجعل البوليس يقبض عليه.. على كل حال لم يبق إلا هذا.. ولكنا لم نجد فى سيدى جابر غير الحمالين. ووقفنا بعيدا ووقفت الاثنتان تنتظران أن يتقدم إليهما أحد — رجل أو امرأة — حتى البوفيه لم يكن فيه أحد، فقلنا لعله ينتظر فى الشارع فأومأنا إليهما أن تخرجا أمامنا، فلم يكن حظنا خارج المحطة أحسن منه داخلها. ولم تبق فائدة من التفرق فركبنا وهممنا بالمضى إلى الفندق. ولكن خاطرا خطر لى فجأة فنزلت وذهبت إلى مكتب التلغراف وبعثت ببرقية منه. وفى اليوم التالى كنا فى مصر.. ولكن هذا لم يكن كل شىء. وهنا يحسن أن أدع أخى يتكلم: «لعله يعنيكما — يريد أختى وأمى — أن تعرفا كيف كانت عودتى البارحة بعد أن تركنى هذان المخلوقان. لا فائدة من قولى انتظرت، فإن هذا القول لا يدل على شىء. فقد تركنى فجأة وذهب يعدو كأنى جرب.. حتى محرك السيارة لم يعن بأن يوقفه. ستقولون جميعا إنه كان معذورا فليكن فإن الجدال عبث، وستسمعون بأشياء أخرى أرجو أن يكون عذره فيها أوضح.. وكان معى روكسى كما لا أحتاج أن أقول، ولا أدرى ماذا كنت أصنع لو لم يكن هذا الرفيق معى. لعلى كنت أجن أو يحدث لى شىء من هذا القبيل. ما علينا، هل أقول إن الأمر طال على وأنا قاعد فى السيارة؟ كلا، وهل أقول إنى كنت ميتا من الجوع؟ كلا أيضا. وأختصر حكاية مؤلمة، فأقول إنى نزلت من السيارة وسرت فى الاتجاه الذى رأيتهما يقصدان إليه، ولم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء.. فقد كان كلامهما دائرا كله على القطار ووجوب سبقه، وإن كان فيما عدا ذلك لا معنى له عندى. ولم أجدهما فى المحطة كما تعلمون، لأنهما شاءا أن يركبا القطار من غير أن يبعثا لى بكلمة. وقد سمعتهما يقولان أنهما أديا أجر الركوب مضاعفا، وهذا حسن وأن كان قليلا.. ولكنه يبرد بعض الغلة. وقد وصفتهما لكل من فى المحطة، فظن واحد أنهما هاربان من سجن، واعتقد ثان أنهما مجنونان خطران. واقتنعت أنا بأن لا فائدة من البحث، وأن أبى — رحمه الله — أخطأ حين رمانى بهذا المخلوق وزعمه أخا، وأن أمى أخطأت أيضا فى ربطنا بهذا المخلوق الثانى الذى أخفوا أمره عنى حتى خطف أختى، فصار واجبي الآن بعد أن عرفته أن أخفيه أنا عن الناس. ما علينا.. فلندع هذا التاريخ القديم.. أظنكم ستضحكون حين أقول أنى احتجت أن آكل وأن أطعم روكسى وقد يسركم أن تعلموا أنى أحب أن أنسى فترة هذا الأكل وأن أمحوها من تاريخ حياتى الحافل بالتضحيات فى سبيل من لا يستحقون شيئا.. ولكنى هكذا دائما.. كريم مفضال، وجزائى من الناس بل ممن يمرحون فى أبراد نعمتى الجحود والكفران. ما علينا أيضا. وقلت لروكسى: تعال يا صاحبى، فإن هذا بلد لا يستحق أن يتشرف بوجودنا فيه، فلنرجع إلى بيتنا فى مصر.. وقد كنت أسلمت السيارة إليه وهى سليمة لا شىء بها، ويشهد شريكه فى المؤامرة أنها أنقذتهما، ولكنى حين أردت أن أدير محركها أبى أن يتحرك.. ولا أطيل. قضيت نصف ساعة فى هذا البرد حتى استطعت أن أقنعها بالحركة والعودة إلى دفء البيت. وكانت السيارة كأنما ركبها قبلى ألف عفريت، ولكنى صبرت وقلت عوضى على الله، وهذا جزاء من يكون له أخ كهذا ونسيت كهذا.. وأظن أن الفجر بدأ يطلع حينما بلغنا شبرا، فتنهدت وتمهلت فى السير وإذا بشرطى يستوقفنى، فوقفت فدار حتى صار إلى جانبى، وقال وهو ينقر على الزجاج: «تفضل معى إلى الكركون». فقلت: «الكركون»؟، قال: «نعم، تفضل انزل». فقلت «ولكن لماذا؟ ماذا صنعت؟ إنى لم أكن مسرعا بل كنت أسير بسرعة خمسة أمتار فى اليوم والليلة». فقال بلهجة جافية: «انزل ولا تحوجنى أن أجرك بالقوة». فقلت لنفسى إن المكابرة والجدال عبث، ولا شك أنى سأجد رجلا يفهم فى مركز البوليس. وذهبت معه، فقال: «اقعد هنا»، فقعدت حيث أشار، وهم بتركى فتعلقت به وقلت: «ألا تسمح من فضلك بأن تخبرنى لماذا جئت بى إلى هنا»؟ فنهرنى بعنف، فهويت إلى الكرسى وروكسى بين يدى لم أر أحدا مستعجلا سواى. وأخيرا جاء شرطى آخر، وجلس إلى مكتب وأخرج أوراقا وبدأ يستعد للكتابة، وسألنى عن اسمى وعنوانى ومولدى وعن السيارة ورقمها، ثم سألنى بخبث: «ماذا معك فيها»؟ فابتسمت وقد خيل إلى أنه ظننى من مهربى المخدرات، وقلت ببساطة: «ليس معى سوى روكسى». فقال: «إيه»؟ قلت: «يعنى الكلب.. اسمه روكسى»، فقال متهكما: «يا حبيبى يخوى.. كمان عامل لى قمع ومعاك كلب.. تعملوها وتِخيلوا والله». فلم أدر ماذا أقول له.. وأعفانى من الكلام، فسألنى: «هل معك مفتاح السيارة»؟ فناولته المفتاح، فنادى شرطيا وطلب منه أن يفتحها أمامى، وأن يجىء بما يجده فيها فلم يجد الا الحقيبة.. اضحكوا.. اضحكوا.. لا بأس.. سيجىء يوم أثأر فيه لنفسى.. فلما جاءوه بالحقيبة، ابتسم ابتسامة عريضة جدا وتنهد مرتاحا، وقال لى: «لا شىء.. هه..؟ طيب». فابتسمت أنا أيضا وقد صح عندى أنه يحسبنى من المهربين وأيقنت بقرب الفرج. وشرع يسألنى عن الحقيبة، فقلت له إنها لأخى وذكرت اسم الأخ المحترم، فأدهشنى بأن سألنى هل أنا أعترف بأن الحقيبة لإسماعيل أفندى زفت وقطران؟ فقلت بالطبع أنا معترف.. إنه أخى. فقال: «أخوك..؟ أواثق أنت أنه أخوك»؟ فضحكت وقلت: «بالطبع واثق … ولكن ما هى الحكاية»؟ فقال: «أين المفتاح»؟ قلت: «معه … لم آخذه منه». وهممت بأن أقص عليه القصة، ولكنى رأيت أنها مما لا يصدق فأقصرت، فقال: «هل تستطيع أن تثبت شخصيتك»؟ فقلت: «بالطبع.. ماذا تظن»؟.. ودفعت يدى فى جيبى لأخرج له أوراق السيارة ورخصة القيادة وغير ذلك مما عسى أن يكون فى جيبى، فما راعنى إلا أن الجيب خال ليس فيه قصاصة واحدة! وأظن وجهى فضحنى على الرغم من محاولتى أن أتماسك وأتجلد، فقد سألنى بعد ذلك مباشرة عن السيارة ولمن هى؟ فأيقنت أنى وقعت، وقلت له: «اسمع.. إنك تطيل بلا داع.. لابد أن يكون قد حدث خطأ، ومن سوء الحظ أنى نسيت الأوراق كلها فى البيت، فإذا سمحت فأرسل معى شاويشا أو عشرة إذا شئت إلى البيت لأجيئك بكل ما يزيل الشك ويريح ضميرك». فلم يبال بهذا الاقتراح المعقول، وقال: «هل أنت مصر على دعواك أنك أخو إسماعيل؟» فقلت: «الحقيقة أنى مستعد للتبرؤ منه ولكن إلى أن أفعل لا يسعنى أن أنكر أنه أخى». فقال: «إذا كنت أخاه، فلماذا يبعث ببرقية كهذه»؟ وناولنيها، فقرأت فيها الحكم على. وللرجل العذر لأنه إذا كان إسماعيل هذا أخى، فلماذا يطلب من البوليس أن يحجز السيارة رقم كذا، وفيها حقيبة صفتها كيت وكيت. لا تعترض من فضلك.. لقد كانت عبارة البرقية يفهم منها أنك تريد حجز السيارة أيضا. ولا أكتمك أنى لم أجد جوابا لهذا السؤال، وأنى استحييت أن أقول إنه مزاح بارد. وحرت ماذا أصنع، ولم يفتح الله على بحيلة تخرجنى من هذا المأزق الثقيل.. وكان النهار قد طلع ولكنا ما زلنا فى البكور، ولا يليق أن أزعج الناس فى مثل هذا الوقت، فعدت إلى اقتراحى أن يبعث معى من يشاء إلى البيت، فرفضه. فسألته عن المأمور من هو؟ عسى أن يكون من معارفى.. فانتهرنى بغلظة، فتساهلت وسألته عن المعاون أو غيره، فلم يزد على أن قال: «بلاش دوشة»، فناشدته أن ينظر إلى ثيابى، وأن يفكر هل هذه ثياب مجرم ولص؟ فقال وهو يضحك: «إن بين اللصوص من هم أشد أناقة منك» فوضعت أصبعى فى الشق، وأسلمت أمرى إلى الله. ••• وخُتم المحضر على هذا … أى على أنى لص ولا شك وأن البوليس حاذق فطن ولا شك. ولست ألوم البوليس، فقد كانت كل القرائن ضدى. وأشهد له أنه كان رفيقا، فقد سمح لى بأن أشترى — أعنى أن يبعث من يشترى شيئا لطعامى وطعام روكسى. ولا أنكر أنى شربت قهوة أيضا، وإن كانت أشبه بمغلى الفول السودانى أو بماء الوحل الساخن. ولكن هذا لم يكن ذنب البوليس. وأخيرا فى الساعة الثامنة دخل ضابط علينا، فنظرت إليه ببلادة.. فقد فترت ويئست ولم أعد أبالى ما يجرى لى، ولكنى لم أكد أرى وجهه حتى انتفضت واقفا، وصحت به «حمدى.. الحمد لله.. أين المحقق»؟ فاستغرب وسألنى عن الحكاية، فقصصتها عليه فضحك ملء شدقيه. مدهش أن يضحك الناس من هذه الفصول الباردة! والباقى لا يحتاج إلى كلام … جئت إلى هنا ونمت ساعة أو اثنتين على هذا الكرسى بثيابى.. ولكنه ينقصك يا حضرة الأخ أن تفسر للبوليس مزاحك، فقد صار الأمر مزاحا مع البوليس لا معى». فما استطعنا أن نتكلم ونغالب الضحك، قلت: «هون عليك.. فإنى أعرف ماذا أقول.. ولكنى أرجو أن يكون ما حدث درسا لك». فقال وفى عينيه نظرة خبيثة: «وأنا أرجو أن يكون ما حدث لكم درسا كذلك». فقال خليل: «ماذا تعنى»؟ فقال أخى: «أعنى أنكم لو لم تكونوا عميا لعرفتم أن اليرقية ليست لكم.. للجار رقم ٢٢٣، وقد تشابه الرقمان على الساعى واتفق أن اسم الجار خليل أيضا، واتفق أنكم عمى لا تبصرون. ولولا ذلك لقرأتم الرقم واسم الجار الذى أرسلت إليه البرقية.. هذا ما أعنى.. فقوموا كفروا عن سيئاتكم يا جهلة».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/13/
عقاب اللّص
لست أخشى اللصوص.. فما معى ولا فى بيتى ما أخشى عليه الضياع وأتقى أن أُمنّى فيه بخسارة. ولو أن لصا كريما فيه مروءة دخل بيتى — أو حيث أقيم فما هو بيتى — وحمل ما فيه من متاع لحملته شكرى، ولبعثت بنسخة منه إلى الصحف.. فإن من اللؤم أن يقابل الإحسان بأقل من الشكر. فما أرى لى متاعا فى شىء مما حولى. وسبب آخر يجرؤنى على لقاء اللصوص وينفى عنى الخوف منهم ويجعلنى لا أتهيبهم، وذلك أنى كما تعلم — أو كما لا تعلم — ضامر ضاو، ظاهر الضآلة بادى الضعف. وأوجز تعريف بنفسى يحضرنى الآن، وهو أنى امرؤ فارغ الثياب.. وأحسب أن هذا تعريف شامل محيط جامع مانع، فإن لم يكن كذلك فأمهلونى، حتى يلهمنى الله ما هو أوفى. وأرجع إلى اللصوص فأقول إن الذى يجعل لقاءهم خطرا فى ساعات العمل هو أنهم يريدون التخلص مما وقعوا فيه اتقاء السجن وما فيه، والمفاجأة فى هذه الحالات تذهلهم وتطير صوابهم، فيحدث أن يضيفوا إلى جريمة السرقة جريمة أخرى هى الاعتداء على النفس.. أما إذا كان الذى يفاجئهم رجلا صغير الجسم مأمونا مثلى، لا خوف من قدرته على منع السارق من الفرار والنجاة.. فإن العدوان لا يخطر لهم على بال. وحسبهم أن يشدوا هذا المتطفل بحبل ويلقوه فى زاوية أو ركن، ويمضوا فى عملهم كأنما لم يعطلهم معطل. ومن هنا اطمئنانى، وهو اطمئنان لم يزعزع الثقة به إلى الآن مزعزع. وقد اتفق لى أن كنت مرة فى الأُقصر وكان الوقت شتاء، والأقصر تطيب فى هذا الوقت.. فنزلت بالفندق ومضى يوم أو يومان — فقد نسيت لطول العهد — وإذا بصديق من أغنياء الأقصر يقع علىّ فى شرفة الفندق حيث يجلس أكثر النزلاء يشربون الشاى قبيل المغرب. وأقول يقع على — وأنا أعنى ما أقول — فقد كان ظهرى إليه وهو مقبل، ويظهر أن باله لم يكن إلى الأرض وهو سائر فاصطدمت رجله بساق الكرسى الذى كنت جالسا عليه فكاد يقع وارتمى فوقى — أعنى الصديق لا الكرسى — ثم شرع يعتذر وشرعت أنا أيضا أهز له رأسى إيذانا بقبول الاعتذار، فالتقت العيون وإذا به يكف عن الاعتذار ويصيح: «أوه.. أهو أنت»؟ كأنما هذا ينفى وجوب الاعتذار ويعفيه من تكاليفه ويجعلنى غير أهل له، فقلت له: «نعم، أنا أنا يا صاحبي» قال مستغربا: «وماذا جاء بك إلى هنا»؟ قلت: «قذفتنى موجة الحياة على هذا الساحل الذى لا أراه أرفق بى من اليمّ». قال: «آسف يا صاحبي..» فقلت مقاطعا: «لأن الحياة رمت بى على شاطئكم»؟ قال وهو يجلس: «لالالا.. إنما عنيت أنى آسف لأنى وقعت عليك». قلت: «هذا أدهى.. أؤكد لك أنى لم أتعمد أن أكون فى طريقك». فصاح بى: «يا أخى، لا.. ليس هذا ما أعنى.. ألا يمكن أن أقول شيئا لا تستطيع أن تؤوله على هذا النحو؟ إنما أعنى.» فترفقت وقلت: «أعرف ما تعنى.. وأعرف أيضا أنك حمار.. والآن هات حديثا آخر». وعرف أنى مقيم بالفندق، فدعانى إلى النزول ببيته فأبيت.. وشكرته فألح، فقلت له إنى هنا حر أفعل ما بدا لى ولا أتوخى إلا راحتى. وحريتى أعز على من أن أقبل ضيافتك الكريمة، فأبى فأصررت، ثم مضى وفى ظنى أن الأمر انتهى.. وإذا بى أعلم حين هممت بالعود إلى غرفتى لحاجة لى، أن الصديق حمل حقيبتى ومضى بها إلى بيته وترك لى مركبته، وأنه لم تبق لى فى الفندق غرفة. وأُوجز فأقول: إنى لم يسعنى إلا أن أذهب إلى البيت على فرط استثقالى لذلك، فإذا البيت شىء مهول وإذا هو بيتان فى الحقيقة.. واحد للرجال وآخر بعيد عنه للنساء، وبينهما بستان واسع وحديقة زهر فيحاء، وفضاء رحيب.. ألفيت أبناء صديقى يلعبون فيه — أو خيل إلى فى أول الأمر أنهم يلعبون — ولكنى لما دنوت منهم رأيت رجلا معروفا لم أرتح إلى وجهه ولم يعجبنى شارباه المفتولان وصلعته الناصعة، وكان قصيرا مثلى.. ولكنه أشد منى دمامة وأضيق عينا. وكان هذا الرجل يصيح بالغلمان وهو واقف لا يتحرك، فيحركون أيديهم أو أرجلهم وينثنون ويعتدلون ويستلقون على ظهورهم ويرفعون سيقانهم وأذرعهم، وكان صديقى واقفا يهز رأسه راضيا مرتاحا، فقلت له: «ما هذا الذى أرى؟ ومن هذا الرجل القبيح؟ ومن هؤلاء الصبية؟ هل نويت أن تقيم فى بيتك (سيرك)»؟ فقال وهو يضحك: «لالالا.. هؤلاء أبنائى». فقلت مستغربا: «أبناؤك؟ ولماذا تترك هذا الرجل القبيح يمرغهم فى التراب»؟ فقال وهو يجرنى: «لا تصح هكذا لئلا يسمع.. إنه معلم الرياضة فى المدرسة.. يدرب الأولاد على الحركات الرياضية». فقلت: «أولا يكفى تدريبه لهم فى المدرسة؟ مدهش.. أمن أجل أن الله رزقك مالا تروح تبعثره فى هذا الكلام الفارغ ليقال إنك متمدين»؟ قال: «لا، إنك لا تعرف.. إن الحكاية طويلة ولكنى أختصرها لك فأقول: إن أحد السياح الأمريكيين كان هنا فى الشتاء الماضى، فاتصلت به بطبيعة الحال — صديقى تاجر عاديات — ورأى أبنائى فنصح لى — وهو طبيب — أن أعنى بحياة أبنائى الرياضية، وأن أتخذ لهم معلما. هذه هى الحكاية.. وقد نسيت أن أقول إن أحدهم كان مريضا». قلت: «هذا ما قلت.. تقليد ليس إلا.. ما علينا.. أين الحقيبة؟ فلست أنوى أن أقيم فى مصحة». ولكنى أقمت فى المصحة وإن كنت قد استطعت أن أتقى هذا «التصحيح» الذى يجرى على أبناء مضيفى.. ••• والأقصر — إذا كنت مقيما فى بيت لا فى فندق — مملة، لأن الحياة كلها فى الفنادق، وقد حزمنى صاحبي وألقانى فى بيته. فلم أكن أخرج إلا نهارا لأزور الآثار، فإذا جاء الليل ذهبنا إلى شرفة الفندق ومكثنا قليلا، ثم عدنا إلى البيت لنتعشى حتى ولو كنت غير جائع وإلا عد نفسه مقصرا فى حقى، ولا أدرى لماذا.. ولكن هذا هو الاعتقاد الشائع. وضقت ذرعا بهذا الكرم ولم أعد أطيقه، فغافلته مرة وانطلقت أعدو إلى الفندق، ودخلت البار وشربت حتى ارتويت ثم خرجت إلى الحديقة الرحيبة، وذهبت أتمشى فيها وأطوف فى أرجائها. وكانت الليلة مقمرة والهواء لا رطوبة فيه، فطال تجوابى فلما نظرت فى الساعة إذا هى الحادية عشرة ولم يكن هذا ظنى، فبادرت إلى العودة إلى البيت وقد سرنى أنى استطعت أن أروح وأجىء وحدى وكما أحب وفى حيث أريد والسلام، وإن لم يكن هذا — بمجرده — خيرا مما فررت منه.. فما كان ثم أى حرج فى أن أشرب أو أفعل ما أشاء وهو معى، ولكن الوحدة أشعرتنى حرية كنت افتقدتها معه إذ أراه إلى جانبى، وكان هو يتوخى مرضاتى فى كل شىء كبر أم صغر. ولكنى لم أكن أرتاح إلى هذا ولا كان يسرنى أن أرى رجلا يقيد نفسه بى، وكان يخيل إلى أنه فى سريرته كاره غير راض، وأنه مثلى لا يريد أن يكون غير مرتبط أو مشدود إلى أحد. ولم يكن هذا كذلك فى الحقيقة، فإن الرجل كريم عظيم الأريحية، ولكن هذا هو الذى قام فى نفسى وكبر فى وهمى. وعدت إلى البيت وأنا أشعر أن الحياة تستحق أن يحياها المرء وأن الدنيا جميلة، وشعرت بشىء من الظمأ على كثرة ما شربت.. وكنت أعرف الطريق إلى حيث أطفىء ظمئى ففتحت بابا ودخلت إلى حيث الشراب، وهو مكان رحيب فيه خزانات شتى، فيها ما لم أحصه من الزجاجات المختلفة الألوان والحجوم، وفى الوسط مائدة مستطيلة مغطاة بالمخمل الأخضر وحولها الكراسى الوثيرة.. فأدرت مفتاح النور، وإذا بى أرى ذاك الرجل الدميم القصير الذى يقيم الأولاد ويقعدهم ويعذبهم بالانحناء والانثناء والقفز والوثب والنط إلى آخر ما كرهت منه ومن منظره، فندّت عنى صيحة استغراب وإنكار، وماذا يجىء به إلى هنا فى الليل — فى منتصف الليل — وهو لا يبيت معنا بل يذهب إلى بيته؟ ولم يخالجنى شك فى أنه لص شرير، على أنه خطر لى مع ذلك أن بيت الرجال أو الضيوف ليس فيه ما يسرق غير الأثاث وهو ضخم لا يسهل حمله أو نقله، ورجح عندى أن هذا المعلم الرياضى لص خمر وأنه جاء متسللا ليشرب كأسين أو ثلاثا بلا ثمن … وسواء أكان هذا أم ذاك هو الصواب، فقد شعرت أن من واجبى أن أنغص عليه ليلته. وصحت به: «من أين دخلت أيها اللص الجاحد الناكر للجميل»؟ وكنت أتكلم بعنف وفى يدى عصا ضخمة وفى عينى لمعة أظن الفضل فيها لما سقانى صاحب «البار» فى الفندق، فرأيت الرجل يستخذى ويتضاءل ويتراجع إلى النافذة، فأطلقت عليه صيحة عالية: «قف» فوقف كالجندى، وكان الفضل فى سرعة الوقفة واعتدالها وجمال منظرها لتربية الرجل الرياضية أو العسكرية لا لقوة الصيحة، ولكنه أطاع على كل حال.. فسررت وقلت له مرة أخرى: «قل من أين دخلت فى الليل.. فى منتصف الليل»؟ فقال بذلة وضراعة: «من النافذة.. فقد وجدت الأبواب موصدة، والخدم نياما». قلت: «آه.. ولكنى أنا لم أجد الباب موصدا». وأيقنت أنه كاذب وأنه تعمد أن يدخل من حيث لا يراه أحد، وهم فى هذه اللحظة أن يقول شيئا فأطلقتها عليه صيحة أخرى مدوية.. فى أذنى أنا فما أظن أحدا سمعها أو سمع بها خارج الحجرة: «اخرس». فخرس ووقف ساكنا لا يتحرك، فسرنى مرة أخرى أنه يطيع على هذا النحو، وقلت لنفسى إن للرياضة نفعا على ما يظهر. ولو لم يكن هذا الرجل رياضيا، لكان الأرجح أن يحاور ويجادل ويكابر ويناقش ويوجع لى رأسى، ويسلب الأمر كله ما أجد الآن فيه من المتعة. وقلت له: «ألست أنت الرجل الذى يكلف هؤلاء الأولاد المساكين أن يتلووا ويتعوجوا وينطوا ويقفزوا»؟ قال: «نعم يا سيدى». قلت: «أرنا إذن بعض ما أتقنت يا صاحبي». قال: «نعم». قلت: «تلو.. تعوج.. انثن.. انحن.. افعل كل ما رأيتك تأمرهم أن يفعلوا.. تفضل». فتردد برهة لا أدرى لماذا أو كيف، ثم كأنما بدا له أن خير ما يصنع هو أن يطيع وأمره لله.. فراح ينثنى ويعتدل، وأنا أقف أنظر إليه معجبا مسرورا، وكلما نظر إلى استزدته حتى خيل إلى أن ظهره سيقصم.. فدعوته أن يقف، وشرعت أفكر فى عذاب آخر أنزله به، ففركت جبينى ثم تذكرت فقلت: «آه.. لقد كنت واثقا أنى سأتذكر.. اصنع من جسمك عقدة كعقدة الحبل». فلم يفهم، فقلت له مرة أخرى: «ألا تعرف العقدة؟ تلف الحبل وتصنع منه دائرة وتدخل طرفا منه فى هذه الدائرة ثم تشد الطرفين فتعقد العقدة. هكذا أريد منك الآن أن تصنع بنفسك. اصنع من خصرك دائرة وأدخل ساقك فيها.. أو لا أدرى كيف تصنع ذلك؟ المهم أن تصنع ذلك وأن أراه … تفضل». فرقد الرجل على الأرض، وراح يقوس ظهره كما لم أكن أتوقع أن يستطيع أن يفعل.. وأنا متكئ على المائدة، وفى يدى سيجارة أشعلتها ورحت أدخن وأنظر معجبا مغتبطا. ورأيته يحاول أن يعقد العقدة التى أمرته بها، فلم يسعنى إلا أن أضحك.. فقد كان منظره يغرى بذلك وهو يلتوى على الأرض، ولكنى لحماقتى ضحكت والدخان فى فمى، فكادت روحى تزهق … وجعلت أسعل سعالا شديدا، فاغتنم الخائن الماكر هذه الفرصة ووثب إلى رجليه ثم إلى النافذة، ومنها إلى حيث لا أعرف. وبينما كنت أوصد النافذة.. وأنا آسف على المتعة التى لم تطل، إذا بمضيفى يقول: «يا أخى أنت كنت فين.. لقد حدثتنى نفسى أن أبلغ البوليس والله». فقصصت عليه القصة وأنا أكاد أقع من الضحك، فقال: «يا شيخ حرام عليك.. هذا رجل مسكين». فصحت به: «أما أنك لرجل مدهش.. إذا كنت تعتقد أن تكليفه هذه الحركات البهلوانية تعذيب له فإنها تكون أيضا تعذيبا لأولادك». فقال: «لا، ولكنه كبير السن وأولادى صغار … ثم إنه لا يكلفهم أن يلووا أجسامهم ويصنعوا منها عقدة كعقدة الحبل.. كيف خطرت لك هذه الفكرة الخبيثة»؟ قلت: «لم يخطر لى شىء، وإنما كان هذا ما بدا لى أنه يكلف أولادك أن يصنعوه حين رأيتهم». قال: «قم لتنام، وحسبك هذا طول العمر». وقد صدق.. فما أزال أضحك إلى الآن كلما تذكرت تلك الليلة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/14/
ثمن سيجارة
كم تظن السيجارة كان ثمنها فى سنة ١٩٠٩م؟ لا أدرى ممن القارئ.. أمن الأيفاع الذين يزدان بشبابهم الغض هذا القرن العشرون، أم من المخضرمين الذين أدركوا — مثلى — القرن الماضى وهو يجود بأنفاسه، وأبوا إلا أن يركبوا هذا الزمن بشبابهم الدائم الذى يأبى أن يدركه الهرم أو يرده الشيب إلى تكلف الوقار؟ وإن كان — أعنى شبابهم المتلكىء — لا يمتاز لا بغضاضة، ولا ببضاضة. وليكن القارئ من شاء — من المحدثين أو ممن هم أحدث منه وإن كانوا أعلى سنا — فهذه فذلكة تاريخية يستطيع أن ينتفع بها إذا كان له من الذكاء حظ. وهل أحرص منى على فائدة القراء؟ كنت فى تلك السنة — سنة ١٩٠٩م — قد تخرجت فى مدرسة المعلمين العليا، ومن كان يشك فى ذلك فليسأل وزارة المعارف فلن تحابينى. وكنا فى مقدمة الصيف، وكنت متعبا مرهقا — لا أدرى لماذا؟ فما أعرفنى عنيت بحفظ درس فى حياتى — فاستشرت طبيبا أو على الأصح ألح أهلى أن أستشيره، فقد صارت لحياتى قيمة بعد أن حملت هذه «الدبلوم» وبلغت بها مبالغ الرجال الذين يكسبون رزقهم وينفقون على سواهم. فلما فحصنى الطبيب، قال: «لا شىء.. يكفى أن ترتاح وتتنزه» قلت: «أين»؟ وكان ضيق الصدر فقال: «وهل أنا أعرف.. فى أى مكان غير البيت» فلم يحسن وقع جوابه فى نفسى، فقلت له: «وهل كنت تحسب أن بيتى منتزه يا أخى.. أم خيل إليك أنى بنت لا أعرف غير غرف البيت.. سبحان الله العظيم» وأنصرفت ساخطا. وأوسعته ذما فى الطريق إلى بيتى — مزقته ونثرت لحمه وجلده للكلاب.. حتى الشعرات القليلة التى بقيت فى رأسه الأصلع انتزعتها واحدة واحدة، وسرنى أنه كان يتألم ويتلوى وأنا أشدها بأظافرى وأقتلعها من جذورها — بخيالى — وكنت أقول له: «هذا جزاؤك يا وقح.. عسى أن يعلمك هذا أن التهكم على الناس غير جائز». ويظهر أنى كنت أكلم نفسى فى الطريق بصوت عال، فقد استوقفنى قريب لى وقال لى: «مالك.. ماذا جرى»؟ قلت له مستغربا: «نعم.. ماذا جرى»؟ وتجهمت له فقال: «من الذى تشتمه وتسبه هذا السب القبيح»؟ فأفقت وارتد إلىّ عقلى.. وكان قريبى هذا له نسيب عندنا له بقية من مال قليل استودعناه إياه ليجريه مع ماله فى تجارته، فقلت له: «يا أخى هذا الطبيب الذى أرسلتمونى إليه يقول لى: إنه لا دواء لى إلا أن أذهب إلى لبنان، وأنه لا أمل لى فى الشفاء بغير ذلك.. ولا أدرى ما أصنع، فقد ذهب أكثر نصيبى فى نفقات التعليم والباقى لا يكفى للسفر إلى الشام. ولست أحب أن أجور على نصيب أمى وأخى وإن كان من السهل رد ما أقترض بعد أن أقبض مرتبى من وظيفتى.. وعلى ذكر ذلك، أقول لك إنى عينت مدرسا فى المدرسة السعيدية الثانوية». وكان الذى أخطر الشام على بالى فى هذه اللحظة، أن لى صديقا أصابه صداع ملح أعيا الأطباء شهورا.. فبعثوا به إلى لبنان فاستراح من آلامه، وكتب إلى من هناك يصف لى جمال البلاد ويدعونى إلى اللحاق به. وكان لابد من موافقة أمى على الاستدانة من نصيبها أو نصيب أخى من هذه البقية الباقية من المال القليل، وكانت — رحمها الله — قوية ذكية، ولم أكن أجرؤ أن أكذب عليها.. ولو أنها كانت سألتنى لما وسعنى إلا أن أحدثها بما دار نفسى من أساليب الاحتيال عليها — لا خوفا منها، بل لأنها عودتنى أن أصدُقها وألا يكون جزائى على الصدق إلا الخير. غير أنها لم تسألنى شيئا بل وافقت وقالت: «اقتراح حسن.. اذهب إلى … خذ منه ما يكفيك». ولو كنت ذكيا لأدركت أن فى الأمر سرا، وأن وراء هذه الموافقة السريعة التى لم أكن أتوقعها تدبيرا خفيا.. ولتذكرت أنها كانت تحبنى حتى كانت لا تستطيع أن تفارقنى يوما واحدا فكيف بشهر أو شهرين؟ ولكن خفة الشباب صرفتنى عن النظر فى شىء من هذا، فصدقت وذهبت إلى الرجل فقال: «ليس معى الآن إلا خمسة جنيهات فخذها، ولولا أنى مريض لخرجت معك لأجيئك بكل ما تحتاج إليه.. ولكن بضعة أيام لا تقدم ولا تؤخر». فخرجت مغتبطا فما كنت رأيت قط قبل ذلك اليوم خمسة جنيهات — ذهبا — فى كفى أصنع بها ما أشاء ولا أُسأل عنها. وأنسانى الفرح أن كونى لا أُسأل عن هذه الجنيهات ماذا صنعت بها هو التدبير الذى لجأت إليه أمى اعتمادا على ما تعرف من تبذيرى وإسرافى اللذين أعياها علاجهما. ومضت أيام ثلاثة نقصت الجنيهات التى معى بعددها، فقد أبقيتها فى جيبى.. فطارت واحدا بعد واحد كأن لها أجنحة، فعدت إلى صاحبنا وقلت له أنى أريد بقية المبلغ اللازم لأنى أخشى الضياع على كل ما يعطينى.. فأبدى الاستغراب وسألنى عما بقى معى من الجنيهات الخمسة، فقلت لم يبق إلا اثنان فقط.. فهز رأسه ولم يقل شيئا وناولنى خمسة أخرى وقال: «إلى أن أشفى». فكبرتُ فى عين نفسى، فقد كنت فرحت بخمسة وأحسست أنى رجل عظيم.. فكيف وقد صار معى سبعة لا خمسة فقط.. ولم أعد فى تلك الليلة إلى البيت إلا قبل الفجر متسللا، فألفيت أمى قاعدة تدخن وتنتظرنى، ولكنها لم تقل شيئا واكتفت بالنظر والابتسام. ولو كنت ذكيا لاستغربت أن تبتسم لابنها الذى لا يكاد يقوى على الوقوف على قدميه — لا من السكر فما كنت سكيرا بل من التعب والإعياء والسهر — وكانت هى تعرف أن الخمر لا تعنينى فلم تكن تخشى شيئا من هذه الناحية. ••• ولا أطيل على القارئ، فإنى أخشى أن أستطرد إلى غير ما أردت — والحديث ذو شجون كما يقولون — ويكفى أن يعلم أنى أضعت خمسة عشر جنيها فى خمسة عشر يوما. وكان الذى عنده ما بقى من مالنا يتماثل للشفاء، وكنت أزوره لأعوده كل يوم فما يليق غير ذلك، فاتفق يوما أن كنت عنده — معه فى غرفته — فجاءه الطبيب على عادته فى كل يوم فخرجت إلى الشرفة وجعلت أتمشى فيها — وكانت رحيبة — إلى أن يفرغ الطبيب من فحصه، وكنت قد اشتريت «علبة» من الفضة للسجاير — فقد صار هذا البذخ فى وسعى — فأخرجتها من جيب البنطلون حيث رأيت أبناء الوارثين يضعونها، وأشعلت سيجارة وانطلقت أدخن وقال لى الطبيب: «هذه قسوة». فاستغربت وسألته عن معنى كلامه، فقال إنه — أى الطبيب — حرم التدخين على نسيبنا هذا، وقد كانت رائحة الدخان تدخل الغرفة. وكان يرى المسكين تجحظ عيناه ويهتز رأسه على الوسادة، ولكنه لا يستطيع أن يقول شيئا لأنه — أى الطبيب — واقف، وحذرنى من أن أعطيه دخانا، وقال إن مريضه لاشك سيتعلق بى ويلحف فى رجائى أن أعطيه ولو سيجارة واحدة.. ولكن مصلحته تقتضى أن لا أرق له. ثم انصرف. وعدت إلى صاحبنا وقد اختمرت فى رأسى فكرة — آخذ عشرة جنيهات دفعة واحدة، فإن أخذ الخمسات لا فائدة منه — وأسافر بها بلا تريث، وأطلب من هناك كل ما أحتاج إليه.. فما يعقل أن يضنوا على بشىء فى الغربة. ودنوت منه، وفركت كفى وقلت: «أظن أن لا فائدة اليوم من طلب شىء». فوافق — وهو عابس — على أن لا فائدة. فقلت: «حتى لو كان الطلب لا يعدو عشرة جنيهات لا أكثر»؟ فزاد وجهه عبوسا وهز رأسه هزات متوالية بلا مناسبة فما كان ثم ما يقتضى هذا العنف وهو المحتاج إلى الراحة التامة. ثم إنى لم أتعود منه إلا التلبية السريعة، فاقتنعت بأن رائحة الدخان — أو الطباق كما علمنى المرحوم الشيخ حمزة فتح الله — هى المسئولة عن هذا السلوك الجديد الذى لا عهد لى به منه. قال بلهجة الجزم: «أبدا» ولم يزد. قلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله». ومددت يدى إلى جيبى، فأخرجت العلبة الفضية منه وفتحتها ببطء — وكانت ملأى بالسجاير — وخفضت يدى بها وأملتها وأنا أتناول منها — ليرى ما فيها من صفى السجاير، وأخرجت واحدة ورددت العلبة إلى مكانها، وأشعلت السيجارة. وإذا بالنائم ينتفض ويقعد على السرير ويصيح بى بصوت كالرعد: «هات العلبة.. هات العلبة». فصحت به وأنا لا أريم مكانى ولا أظهر اكتراثا لانتفاضه: «إيه»؟ فصاح وهو يلوح بكلتا يديه: «هاتها.. أقول لك هاتها. ألا تسمع»؟ فقلت وأنا أتظاهر بأنى لم أفهم مراده إلا الآن فقط: «آه تقصد السجاير..»؟ وأخرجت العلبة وفتحتها له وأنا فى مكانى — على نحو مترين منه — «هنا — فى هذا الجانب سجاير الفيل.. وفى هذا الجانب سجاير جناكليز». فصاح: «هات.. هات.. هات». قلت ببرود: «هى لك كلها إذا شئت». فصاح: «أو لم أشأ.. لقد قلت لك هات مائة مرة فهل أنت أصم.. هات.. أقول لك هات». قلت، وأنا فى مكانى: «وهل تظن أنى أضن عليك بشىء؟ إذن أنت لا تعرفنى.. ولكنى أشعر بحاجة شديدة إلى عشرة جنيهات.. عشرة ليس إلا.. مبلغ زهيد فى الحقيقة وقد جئت إليك وفى مأمولى أن أبلغ عندك مقصودى، فما قولك»؟ قال: «خمسة.. مثل كل مرة». قلت: «عشرة.. والعلبة كلها لك.. إذا شئت.. أما إذا لم تشأ، فالأمر على كل حال لك». قال: «اجعلها سبعة.. وهات بقى». قلت: «إنى أكره المساومة.. طباعى تأباها.. وتربيتى تجعلنى أنفر منها.. أوه أنفر جدا منها.. إنك لا تستطيع أن تتصور شدة نفورى من المساومة.. يبلغ من كرهى لها أن أزهد فى الأمر كله فلا أعود أقبل الكلام فيه مهما كان الذى يبذل لى». وطويت العلبة على سبيل التأكد لهذا النفور ووضعتها فى جيبى وقلت: «والآن.. أستودعك الله.. إن شاء الله. إن شاء الله أراك غدا بخير» وأدرت وجهى وهممت بالخروج، وإذا به يصيح بى: «تعال يا مجنون.. خذ العشرة التى تريدها.. هات بقى». قلت: «حتى تصير العشرة فى كفى هذه». وبسطتها له حتى لا يساوره الشك.. فتنهد، وناولنيها وعددتها على مهل ثم رميت له العلبة. وخرجت وتركت له السجاير غير عابئ بأوامر الطبيب، فما أطيش الشباب وأشد حمقه وأقل رفقه.. ولكن الله سلم ونجا ولم تقتله السجاير. أما أنا فلم يكتب لى الله أن أذهب فى سنتى تلك إلى الشام. ولهذا حديث طويل ليس هذا وقته فإن أكثر الذين يعنيهم لا يزالون أحياء فموعدنا به بعد عمرهم الطويل.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/15/
الببغاء والقط
– أعوذ بالله من الستات … إنهن لا يرحمن ولا يتركن رحمة الله تنزل. قلت: «لماذا؟ ماذا يسخطك على الجنس اللطيف»؟ فاعتدل على كرسيه وحدق فى وجهى، وقال — أو صاح على الأصح: «لطيف؟ أتقول لطيف..؟ أيكون جنسا لطيفا ذاك الذى يلبس هذه الثياب الخفيفة فى البرد ويبدو فيها مكشوف الذراعين إلى ما فوق المرفق؟ إننا نحن الجنس اللطيف لو عقل الناس». قلت: «يا سيدى.. ثم ماذا أيضا»؟ قال — غير عابئ بتهكمى: «ثم إنه ليس لطيفا فى الحقيقة». قلت: «هذه ملاحظة سمعناها فهى مكررة.. فإما قلت شيئا جديدا، وإلا فاسكت». قال: «أنا أعنى أنه جنس غير لطيف المعاشرة». قلت: «وكيف كان ذلك؟.. أعنى ماذا يسخطك عليه اليوم»؟ قال: «لعلك تذكر «إحسان».. لقد عرفتك بها. تعلقت بى كأنها ظلى، فسئمت وأقول لك الحق أنى خفت العاقبة.. فقد كنت أستملحها وأستعذب حديثها وأستريح إلى مجلسها، ولكن المصيبة أنها تحسب أن الملاطفة والمجاملة حب. الحق أن أمر هؤلاء البنات عجيب.. كل كلمة من الرجل — أعنى كلمة ملاطفة أو تودد — يتخذنها دليلا على الحب.. فإذا قلت لها إن ثوبها جميل، أو أن شعرها المرسل أو المرجل بديع، أو أن حذاءها حسن، أو أن ابتسامتها حلوة أو عذبة، أو أن ظل أهدابها على وجنتيها فاتن أو غير ذلك — أى كلمة ثناء تنطق بها — فما أسرع ما تؤولها بأنها صادرة عن حب وعشق وهيام وتدله! مصيبة يا أخى والله، يظهر أن هؤلاء الفتيات بهن ظمأ شديد إلى الحب، ويخيل إلىّ أن حياتهن تجفف نفوسهن وتذويها وتؤجج فيها الشوق إلى الحب.. فلا تكاد الواحدة منهن تسمع لفظا عاديا من ألفاظ المدح التى يستدعيها حسن المجالسة وأدب الحديث حتى يثب خيالها من فرط اللهفة إلى سماء الوهم السابعة». فقلت — وقد برمت بهذه المحاضرة: «أتريد أن تقص حكاية أم أن تتفلسف؟ يجب أن أعرف لأعد نفسى، وأتهيأ لما سأتلقى». فقال: «طيب.. قلت لك أن هذه الفتاة — «إحسان» توهمت — أو أنا خفت أن تكون قد توهمت — أنى أحبها. ولست أكرهها أو أستثقلها فإنها ظريفة جدا، ولكنها ليست الفتاة التى أختارها للزواج ولا سيما بعد أن عرفت «حورية»». قلت: «إنى أهنئك». قال بلهفة: «أو تعرفها.؟ أليست بالله مدهشة؟ ألا ترى أنها..» قلت — وأنا أرفع يدى لأصد هذا السيل المنحدر: «مهلا.. مهلا.. أنىَّ لى أن أعرفها؟ إنما راقنى الاسم وجرى فى خاطرى أنك.. لعلك..». فلوح بيده وقال: «إنك ثقيل.. تخجل المرء وتلقى على حماسته ماء باردا.. ما هذه الطباع السخيفة؟ لماذا تحب أن تصدم الناس على هذا النحو القاسى»؟ قلت: «آسف يا صاحبى.. لم أصدمك.. ولو كنت أعلم أن كلمتى سيسوء وقعها فى نفسك إلى هذا الحد لما نطقت بها. والآن ارجع إلى حوريتك، فإن اسمها يبشر بحكاية …». قال: «أو هذا كل ما يعنيك … الحكاية ليست إلا … شىء بارد». قلت: «يا أخى كن منصفا … هل تريد أن أحب حوريتك هذه من فرط حبك لها وأعجابك بها»؟ قال: «أعوذ بالله» قلت: «انتهينا إذن … هات الحكاية». فاقتنع وقال: «الحكاية أن حورية أهدتنى ببغاء صغيرا وقطة أيضا.. لا أدرى لماذا؟ ولكن لعلها ظنت أن بيتى حديقة حيوانات.. على كل حال هذا ما حدث.. ثم سافرت، وخطر لى أنى أستطيع فى فترة غيابها أن أتخلص من «إحسان» حتى إذا عادت حورية، وجدت الميدان خاليا.. فقد كنت أخاف أن ترى إحسان معى مرة فتظن بى الظنون وإن كان لا محل لها فى الحقيقة، فما بينى وبين إحسان ما يدعو إلى أى ظن.. ولكن النساء لا يفهمن الصداقة، ولا سيما بين الرجل والمرأه. وإحسان — كما تعلم — رقيقة الإحساس جدا، دقيقة الحساب والتقدير لكل حركة. وكانت أمى تحبها وتخالفنى فى رأيى فيها.. ولكنى كنت أقول لها — أعنى لأمى — إنى أنا الذى سيتزوج لا أنت، فاسمحى لى بحرية الاختيار. وأختصر فأقول: إنى اتفقت معها — أعنى إحسان فى هذه المرة لا أمى — أ ن تمر بى فى البيت لنذهب معها إلى القناطر الخيرية ونقضى يومنا هناك ومعنا أمى. وسافرت فى ذلك اليوم على الرغم من احتجاج أمى واعتراضها، ولكنى حلفت لها أن العمل الذى يدعونى إلى السفر لا يحتمل الإرجاء. وطمأنتها فأوصيتها بإحسان وألححت عليها — وإن لم تكن بها حاجة إلى ذلك — أن تكرمها وتسرها وأن تتقى أن «تكسر خاطرها» كما يقولون.. فهل تدرى ماذا صنعت أمى»؟ فهممت أن أقول شيئا، ولكنه منعنى بإشارة ومضى يقول: «إن الذى أريد أن أقوله هو أن أمى — على ما يظهر — سئمت عشرة القطط والببغاوات — ولها العذر — والحقيقة أنى لا أدرى كيف يمكن أن يوفق بين قط قوى صحيح وثاب وببغاء صغير لا يستطيع أن يتكلم ولا يحسن إلا أن يخرج أصواتا كتلك التى قد يخرجها كروان أصابه زكام — لا تقاطع أعوذ بالله من هذه المقاطعة — إنما أعنى إذا أمكن أن يصاب الكروان.. أو أى عصفور بالزكام.. هل استرحت الآن؟ فقد كان القط لا ينفك يثب إلى القفص محاولا أن يقتنص الببغاء، وكان الببغاء لا ينفك يصرخ أو يصيح أو يستنجد أو لا أدرى ماذا أسمى هذه الأصوات المزعجة التى يخرجها ويستغيث بها حين يهم به القط. ومن العبث أن تحاول أن تفهمه أنه فى قفص وأن القط يستطيع أن يقتل نفسه وثبا، فإن له — أعنى للببغاء — من القفص وقاية كافية. وكيف السبيل إلى الراحة فى بيت فيه ببغاء لا يكف عن الصراخ، وقط لا يكف عن الوثب حول قفصه؟ والقط حيوان خبيث متلصص لا سبيل إلى منعه أن يدخل على الببغاء فى حيث يكون من البيت إلا إذا وقفت له بالعصى على باب الغرفة طول النهار. ومع ذلك يستطيع أن يغافلك ويتسلل من بين رجليك وأنت غير دار بما فعل، وإن كنت واقفا كالعصى أو المقشه التى فى يدك. وقد حيرنا جدا هذا القط — أعنى أنه حير أمى فقد تركت الأمر كله لعنايتها فإذا وضعنا الببغاء على حافة الشرفة لينعم بالشمس والهواء قليلا، نط القط إليه وراح يحاول أن يدخل من بين القضبان فينأى الببغاء المذعور إلى آخر القفص، ويرى القط أن يده لا تصل إليه فيطوى كفه ويثنى يده ويروح يحكها بالقضبان — عامدا بلا شك — فينقلب القفص ويصيب الببغاء الرعب، فيضرب بجناحيه كالمجنون ويطلق أعلى صيحاته المنكرة، والقط يحوم حوله ويلوب ويموء مواء له دلالته التى لا تخفى، ويُطل الجيران من نوافذهم وشرفاتهم على القيامة التى قامت فى شرفتنا، ونسمع نحن الضجة فنذهب نعدو كمركبة الإسعاف. أعنى أننا لا نبالى ما يكون فى طريقنا من الأشياء، فكم من طاولة انقلبت بما عليها، ومن زهرية انكسرت، ومن أطباق سجاير انتثرت فى الغرفة، الخ الخ.. وإذا علقنا الببغاء — أعنى قفصه يا سيدى — راح القط يتوثب حوله غير عابئ بما يسقط عليه حين يهبط إلى الأرض من وثباته، ويقلبه أو يكسره.. ولا أطيل عليك فإن فى وسعك أن تتصور حياتنا مع القط والببغاء.. وأكبر الظن أن حورية أرادت أن تتخلص من هذا البلاء فأهدته إلينا وقيدته علينا فى سجل حسناتها. المهم على كل حال أن أمى فى غيابى أحسنت الاعتذار إلى «إحسان» وأهدت إليها القط والببغاء جميعا.. ويخيل إلى الآن أنها رمت عصفورين بحجر.. لاحظ أنى لا أقول أصابتهما، وإنما أقول إنها رمتهما فما أصاب الحجر سوى رأسى.. ذلك أنى بعد أن عدت وعرفت ما كان واضطربت له وقلقت، انتهيت إلى أن الخيرة فى الواقع وأنه ليس فى الإمكان خير مما كان.. ومضت أيام وأنا مغتبط بالراحة الجديدة التى شعرنا بها بعد أن تخلصنا من هذين البلاءين — القط والببغاء — وإذا بحورية داخلة كالمدفع الرشاش. ولست أستطيع أن أقص عليك ما سمعت منها، فقد دار رأسى حتى صرت لا أعى ما أسمع، ولكن أمى لخصت لى الموضوع بعد خروجها، فقالت إنها عرفت — لا أدرى كيف — أنى أهديت هديتها، القط والببغاء، إلى «إحسان» فهى لهذا واجدة ناقمة ولا تريد أن ترى وجه هذا الخائن بعد اليوم.. وهكذا طارت من يدى حورية.. ما أظن بأمى إلا أنها تعمدت أن تطيرها بهذه الحيلة.. فقد كنت أريد أن أتخلص من إحسان فما تخلصت إلا من حورية. ولا أدرى ماذا أصنع فإنها لا تقبل أن تسمع منى كلاما أو تصغى إلى شرح وتفسير، فهل عندك رأى تشير به»؟ فقلت: «قل لى أولا.. هل تعلم كيف استطاعت إحسان أن توفق بين القط والببغاء»؟ فقال: «الحق أقول لك أنى أعتقد أن المرأة أحزم من الرجل، فإن إحسان لم تحاول قط أن تحل العقدة.. وأنما قطعتها بحد السيف. ذلك أنها لم تكد تصل إلى بيتها وترى كيف ينظر القط نظراته المريبة إلى الببغاء حتى خيرت نفسها فاختارت الببغاء. ثم تناولت القط ودسته فى غرارة ودفعت به إلى الخادم، وأمرته أن يذهب إلى الطرف الآخر من المدينة ويفرغ الغرارة هناك. ويطهر أن حورية عرفت هذا أيضا فإنى أرى نقمتها تزيد وتشتد ولا أراها تفتر فما العمل»؟ فقلت: «أوه.. لا شىء.. لا تقطع نفسك حسرات.. دع الأيام تعمل عملها». فصاح بى: «ولكن عمل الأيام زفت وقطران.. فكيف أتركها تعمل عملها»؟ فهززت رأسى ومططت بوزى. وماذا أقول لمن يتكلم هذا الكلام؟ ثم خطر لى سؤال فقلت: «هل أمك رجل»؟ فصاح: «إيه»؟ قلت: «لماذا لم تحل العقدة كما حلتها إحسان وهى امرأة مثلها»؟ فمضى عنى ساخطا ولم يجب.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/16/
السيارة المسروقة
– إن من الواضح أن تربيتك ناقصة.. ناقصة جدا.. هذا أنا — بجلال قدرى — أكلمك منذ عشر ساعات وخمس وعشرين دقيقة وثلاث وأربعين ثانية وأنت لا تجيبين. فقالت زوجتى أخيرا وألقت ما بيدها — وكان شيئا تطرزه أو لا أدرى ماذا تعنى به: «إنى لست اليوم كفؤا لك ولهزلك، فاسكت من فضلك». قلت: «هذا بديل جميل من الاعتذار. ألا تستحيين يا امرأة؟ ثم ما هذه الذى تتشاغلين به عن التقاط الحكمة من فم سيدك وتاج رأسك وبعلك»؟ قالت: «أرجوك.. أرجوك يا مسلم.. ثم إن الطباخة خرجت». فانتفضت واقفا وصحت: «نهارها أسود.. لماذا»؟ قالت: «استحسن زوجها أن يكون ذهابها إليه يوم الجمعة بدلا من يوم الأحد». فانحططت على الكرسى وقلت: «ووافقت أنت بالطبع»؟ قالت: «وماذا أصنع غير ذلك؟ وقد أصرا على يوم الجمعة، فلو رفضت لفارقتنا ولعدنا إلى حيرتنا القديمة». قلت: «يا امرأة.. هل تعرفين أنى أتضور فى هذا البيت؟ يوم الجمعة الذى أستريح فيه وأظل أحلم طول الليل بما أطمع أن أنعم به من الآكل … أوه إن هذا لا يطاق! هذه.. هذه.. هذه.. نعم بلشفية صريحة، ومع ذلك تزعم الحكومة أنها تكافحها.. ما عيب يوم الأحد بالله.. لماذا يجب — حتما — أن تكون بطالتها يوم الجمعة لا غيره»؟ فضجرت زوجتى وبدأت تنفخ، وقالت: «ألا تسكت؟ مالك أنت.. إن لك أن تأكل والسلام.. ثم أنها مسلمة وكذلك زوجها فيوم الجمعة أوفق لهما». قلت: «وهل من الضرورى أن تتزوج هذه الدميمة وذلك المغفل»؟ قالت، وهى تتمطى: «إنى أشعر بفتور وخدر فاعفنى بالله من وجع الدماغ.. وحسبى همّ إطعامك فى هذا اليوم الثقيل». فقلت، وقد خطرت لى فكرة: «اسمعى، أقل لك». قالت وهى تضحك: «وهل ترانى اليوم هنا إلا لأسمع؟ تفضل يا سيدى ونور عينى.. وماذا أيضا»؟ قلت: «وتاج رأسك.. اسمعى.. إن الفتور يغشى جسمك كما تقولين، وأنا رأسى يكاد يطير مذ عرفت أن هذه الطباخة الكريهة الوجه قد تخلت عنا فى يومنا هذا، فما قولك فى أكلة ناشفة خفيفة نصنعها هنا أو نشتريها»؟ فاعتدلت وقالت وقد لمعت عينها: «لماذا»؟ قلت: «وندعو فلانة وفلانا — من أقربائنا — ونذهب جميعا ومعنا الأولاد إلى القناطر الخيرية، فنقضى يومنا هناك بين الخضرة والماء». قالت: «ولكنه سينقصك الوجه الحسن». قلت: «يا خبيثة.. هل تظنين أنى تزوجتك وأنا مغمض العينين»؟ ••• وحشرتهم جميعا فى السيارة، ودسست السلة التى فيها الطعام والشراب فى مكان مجعول لما يحمل المسافر من زاد ومتاع، وكانت الساعة الثانية مساء حين انطلقنا فبلغنا القناطر بعد نصف ساعة، فحملنا أشياءنا وتركنا السيارة فى حراسة رجل من الواقفين هناك المستعدين لهذه المهمات. وتخيرنا مكانا يشرف على الماء وتظلله أشجار باسقة، وبسطنا السجادة وألقينا عليها صفحات من جرائد الصباح والمساء، ووضعنا عليها الصحون والصوانى ثم شرعنا نأكل، ولم يكن الطعام فيما يبدو لعيوننا الفارغة كثيرا.. فجعل بعضنا يخطف من بعض فكانت ألذ أكلة وأهنأها، ثم طرحنا الوسائد على السجادة واستلقينا فنام من نام. ولما آذنت الشمس بالغروب ركبنا زورقا فى ترعة أشمون، ثم بدا لنا أن نعود لندرك الشيخ رفعت وهو يتلو القرآن الكريم — فما نحب أن يفوتنا ذلك منه قط — فرجعنا إلى حيث السيارة.. فاذا بها قد اختفت.. بهتّ حين رأيت مكانها خاليا فوقفت كالصنم، وأقبلت علىّ زوجتى تسألنى وتهز ذراعى، فقلت لها وقد أفقت قليلا: «نعم.. هزى ذراعى بقوة.. إن بى حاجة إلى الشعور بأنى لست أحلم وأن هذا ليس كابوسا..». قالت: «أين ذهبت»؟ قلت: «فتشينى.. لقد كانت هنا.. تركتها فى هذا المكان.. وليس فى الأرض ما يدل على أنها انشقت وابتلعتها … ولست أعرف أن لها أجنحة، فلا يمكن أن تكون طارت. إن الطريقة الصحيحة للاهتداء إلى الحقيقة هى أن يبدأ المرء بنفى كل الاحتمالات غير المعقولة، كما تريننى أصنع الآن». فصاحت «لولو» قريبتنا: «لقد سرقها اللصوص». فصحت بها: «تالله ما أذكاك يافتاتى.. ولكن كيف لم نفطن إلى هذا بمثل هذه السرعة المدهشة»؟ فقالت لولو: «وماذا تكون مزية العبقرية وفضيلتها إذن»؟ قلت: «صدقت يا فتاتى النابغة..». فقالت زوجتى مقاطعة: «هل هذا وقت الكلام الفارغ! ألا تفكرون فى طريقة لاستردادها»؟ فقلت: «آه.. هنا أيضا عبقرية ولكن من ضرب آخر — ضرب عملى لا يرتاح إلى النظريات.. عبقرية يمكن أن ننعتها بأنها نابليونية، ولست أرى أنه ينقصنا — لنوقن أن السيارة عائدة باذن الله — إلا ضرب ثالث». فقالت زوجتى متهكمة: «نعم يا سيدى.. تفضل». فقلت بحدة: «لا تتهكمى يا امرأة.. نعم ينقصنا الضرب الشرلكمزى». فصاحوا جميعا: «إيه»؟ فقلت: «أعوذ بالله.. مالكم تصرخون هكذا؟ نعم الشرلكمزى يا جهلة.. لو كنتم تعنون بثقيف عقولكم الفارغة قدر عنايتكم بخلافى والمكابرة معى وإنكار نعمتى عليكم وجحود فضلى.. لعرفتم أن الشرلكمزى نسبة إلى شرلوك هولمز». فقالت زوجتى وهى تضع كفها على فمها: «طيب اسكت بقى». فلثمت راحتها وسكت.. كما أمرت. ••• وقال سليم — أخو لولو: «إن من الواضح أن علينا أن نتفرق». قلت: «بديهى.. حتى لا يرانا اللصوص فيخافوا.. نعم يحسن أن لا نضع شيئا يزعج اللصوص ويفسد عليهم متعتهم». فصاح بى: «يا أخى ألا تكف عن هذا العبث»؟ قلت: «كففت بإذن الله.. تفضل.. ولكن اسمح لى أن أسأل هل تعنى أن ترسل الأطفال وحدهم فى ناحية، وأمهم وأختك فى ناحية وتذهب أنت إلى حيث ألقت، وأعود أنا إلى البيت وقد تخلصت منكم جميعا؟ إن كان هذا مرادك فأنا من الآن موافق والسلام عليكم، ولا تكلفوا أنفسكم إرسال عناوينكم». وبعد أن هدأت الضجة التى أثارتها هذه الكلمات البريئة، قال سليم: «تأخذ أنت الأطفال وهاتين أيضا — وأشار إلى زوجتى وأخته — وتركب تاكسى وتمر أولا بمركز البوليس ثم لا تتكل عليه بل تذهب تبحث.. وأنا أذهب أبحث من ناحية أخرى». فقالت زوجتى لسليم: «أكون أنا معك فإنى لا أكاد أطيق مزاحه فى مثل هذه الساعات.. إنه لا يفرق بين جد وهزل كل وقت عنده صالح للضحك … شىء فظيع..». قلت: «أشكرك.. على أنى أستطيع أن أهذب لك خطتك العقيمة..». فقالت زوجتى: «بالله اسكت.. أرجوك.. أر.. جوووووو». قلت: «حالا. حالا. كل شىء فى وقته يا امرأة.. وهل هذا وقت رجاء؟ إنه وقت العمل.. ألا تفهمين؟ اسمع يا هذا. تذهب أنت إلى البوليس وتعفينى من هذه المهمة التى لا أرتاح إليها ولا أعتقد أن فيها فائدة، وتأخذ معك هذه الزوجة الجاحدة الناكرة للجميل، وأفعل بعد ذلك ما تستطيع.. وإلى الملتقى فى البيت العامر إن شاء الله». فقالت زوجتى: «أيوه.. أنا أقول لكم ماذا ينوى أن يصنع.. سيذهب إلى البيت مباشرة ولا يكلف نفسه أى عناء فى البحث عن سيارته.. وسترون». وكنت مقتنعا بهذا الرأى حتى لقد اشتريت «صفيحة» بنزين من القناطر وضعناها معنا فى التاكسى، وقلت للولو: «لهذا فائدة أخرى هى أن يعتقد سائق التاكسى حين نتركه ونركب سيارتنا أنا ما استأجرنا سيارته إلا لهذا السبب، فلا يروح يعجب أو يسأل عن شىء ولا يبدو له شىء غريب فى عملنا». وقد شاء الله أن يحقق ظنى، فما كدنا نقطع خمسة كيلومترات من الطريق بعد أن تركنا القناطر وأخذنا فى سكة قليوب حتى وجدنا السيارة. وأوجز فأقول أنا ركبناها فرحين، وعدنا إلى القناطر عسى أن نجد بقيتنا. فلما لم نجد أحدا تركنا لهم خبرا عند الحارس النائم، ثم حملناه معنا إلى مركز البوليس لنسرهم ونعفيهم من البحث، فعلمنا أن أصحابنا أبلغوهم خبر السرقة، وأن بعض الشرطة خرج للبحث وأن الخبر طير بالتليفون إلى قليوب والقاهرة ولجهات أخرى أيضا لضبط السارق فى الطريق. فشكرنا لهم هذه الهمة التى لم تكن متوقعة ثم قلت لهم: «إن المهم الآن هو البحث عن زوجتى». فصاح الرجل: «إيه»؟ قلت: «إنها مع قريبى وقريبها» قال: «انتهينا». قلت: «كلا لم ننته.. وما أدراك أن هذه ليست سرقة أخرى أفظع وأشنع»؟ فضحك الرجل.. وجرتنى لولو وهى تحتج. ••• تركنا السيارة أمام رصيف البيت وجلسنا فى الشرفة نأكل لحم الغائبين — أعنى ننتظرهما — وإذا بهما عائدان بعد نحو ساعتين فى سيارة — هى أخت سيارتنا بلا فرق — فانحدرت إلى الطريق بسرعة فوجدتهما يتأملان هذه المعجزة، فقلت: «تمام.. لقد سرقت هذه السيارة يا صاحبي، ولم أكن أعرف أن قريبى ونسيبى لص.. ولكن ماذا أصنع؟ لقد أخفوك عنى قبل أن أتزوج، فصار واجبي أن أخفيك عن أعين الناس بعد أن تزوجت». فهم بكلام فمنعته ودعوته أن ينظر إلى السيارتين، فاقتنع وقال: «ما العمل الآن»؟ قلت: «تستعد للسجن.. لقد كان هذا واجبا من زمان طويل فى الحقيقة، ولكن ما أكثر من يستحقون السجن وهم طلقاء.. والآن اذهب بالسيارة إلى الجراج — السيارة المسروقة ثم أبلغ البوليس بالتليفون وقل له إنك عندى تنتظر حضوره للقبض عليك». وعرفنا منهما بعد ذلك أنهما ركبا القطار ثم الترام إلى العتبة الخضراء وإذا بهما يريان السيارة عند رصيف إدارة البريد، فذهبا إليها يعدوان فألفياها خالية فركبا، وانطلقا بها من غير أن يعنيا بالنظر إلى رقمها وانحدرا بها فى شارع فاروق.. وتركا صاحبها المسكين يجرى وراءهما ويصيح ويصرخ ويستنجد، وهما يضحكان مسرورين.. بارك الله فيهما من لصين جريئين. وقلت لهما: «لا عليكما.. ستكون العتبة الخضراء كلها عندنا بعد دقائق ببوليسها وصبيانها وباعتها.. إلى آخره.. إلى آخره.. وسيشهد الجيران وجيران الجيران أمتع رواية رأوها أو يمكن أن يروها فى حياتهم أو حياة هذا الشارع الرزين». وجاء الشرطة والمسروق المسكين فى تاكسى. وكان لابد أن يروا السيارة وأن ينزلوا، وكنت واقفا إلى جانبها أنتظر هذه التشريف، فقال الرجل: «هذه هى» ومسح العرق المتصبب ودنا منها وهم بأن يفتح بابها فتصديت له وقلت: «عفوا.. هل من خدمة»؟ فصاح: «خدمة؟ يا حرامى يا مجرم.. أين أخفيت شريكتك؟ المرأة التى كانت معك»؟ فنظرت إلى الشرطى وأنا أبتسم — فقد كان الموقف يتطلب الهدوء والكياسة، وقلت: «هذه سيارتى يا حضرة الشاويش، فما خطب هذا الرجل»؟ فصاح الرجل: «سيارتك يا حرامى يا صفيق الوجه»؟ – إنى أسمح لك بأن تتأملها. فدار حولها ونظر إليها من الأمام ثم من الخلف، ثم وقف أمامى وهو يرعد وينتفض ويقول: «أما مجرم.. بسرعة غيرت أرقامها؟ ولكن هل تظن أن هذا ينفعك؟». فبدا على وجه الشرطى التردد حينما سمع أن الأرقام مختلفة، وإذا كان المفجوع فى سيارته قد طار عقله، فإن الشرطى لا يوجد ما يدعو إلى ذهاب عقله أيضا، وقلت أنا: «المسألة بسيطة. ومن المعقول أن أغير لوح رقم المرور بسرعة، ولكن ليس من المعقول أن أغير رقم الشاسيه المحفور على محرك السيارة، فتفضل واذكر هذا الرقم بعد مراجعة رخصتك إذا شئت، ثم ارفع غطاء المحرك وانظر». ففعل فإذا الرقم مختلف جدا، وشعر بالهزيمة وأدرك أنه تجنى على جدا فبدأ يعتذر.. فسألته: «ولكن كيف يمكن أن تخطئ إلى هذا الحد..؟ هل يعقل ألا تعرف سيارتك»؟ قال: «إنه لا فرق بينهما على الإطلاق لا من الداخل ولا من الخارج». فقال الشرطى وهو يريد أن يفض النزاع الذى تهور فيه صاحبنا: «ما دامت السيارتان متشابهتين إلى هذا الحد فإنه معذور». قلت: «وهل كنت تعذرنى لو كنت أخطأت مثل خطئه وذهبت أسب الناس وأتهمهم بالسرقة»؟ قال: «طبعا.. صحيح إنه تهور فى الاتهام قبل التثبت، ولكنه معذور فى خطئه فى معرفة السيارة». قلت: «وإذا دللتك على سيارتك هل تشكرنى.. أم تستأنف اتهامك لى بالسرقة»؟ فعاد إلى الاعتذار، وأكد لى أنه يكون شاكرا جدا. فلم يبق داع للإطالة فرويت له وللشرطى القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت، وقلت لهما إننا أبلغنا مركز البوليس أنا وجدنا السيارة الأخرى التى ظنها قريبى سيارتنا، وأن البوليس لاشك سيحضر بعد قليل ليتسلمها. وبهذا انتهى الحادث.. وقلت لزوجتى وأنا أدخل بعد الفراغ من ذلك: «هل تعترفين الآن أن الذى كان يضحك ويمزح كان هو الحكيم السديد الرأى الصحيح النظر»؟ فآثرت المكابرة وقالت إنها مصادفة واتفاق، فشهدت لولو بأنى أحسنت التقدير.. فعادت زوجتى تلوم لأنى كتمت رأيى الحقيقى وتركتها تذهب وتلف وتدور مع سليم، وأنى آثرت لها التعب ولنفسى الراحة. فقلت: «ليكون هذا لك درسا … ألم أقل لك أن تربيتك ناقصة»؟ فهاجوا بى وثاروا، ولكن هذا لا يعنى القراء لا قليلا ولا كثيرا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/17/
ميمى
– أنت أجمل فتاة على ظهر هذه الكرة الأرضية.. وأنا أسعد الرجال وضم إليه زوجته التى لم يمض على بنائه بها أكثر من اثنتى عشرة ساعة، فالمبالغة تغتفر له ولا ينبغى أن تسوء أحدا من بنات حواء — كل ما فيك صاغة فنان.. فخداك من المرمر الناصح — وأمرّ يده عليهما برفق — وردفاك حساسان ولجلدهما الرقيق اختلاج حسن تمشين كاختلاج الماء صافحه النسيم الوانى.. وثدياك راسخان لينان وأحلى فيما تحس اليد من الكمثرى. وحنا عليها بسرعة وطبع على غلالة شفتيها قبلة حارة.. فلمعت عينا «ميمى» واتقد وجهها وصار صدرها يعلو ويهبط، ثم قالت: «لكأننا تزوجنا منذ سنين يا سليم.. أليس كذلك»؟ ولصقت به، ثم قالت: «تحبنى يا سليم»؟ فرفع رأسه وابتسم ابتسامة عريضة، وقال: «أحبك إنى مجنون بك.. لا أدرى ماذا أصنع إذا لم تكونى معى»؟ فلمعت عيناها وقالت: «من يدرى.. ربما شغلت عنى وألهيت عن ذكرى..». فلم يدعها تتم الكلام وأهوى على فمها بقبلة. ••• وكانت «ميمى» مشهورة بقوة جذبها السريع حتى أيام كانت بنتا صغيرة. وكان غيرها من البنات أجمل منها شعرا أو أحلى عينا أو أفتن إبتسامة.. أما ميمى فلم يكن لها ما يمكن أن تقول إنه سر جمالها، وإنما كان المرء يشعر أنها فى جملتها أجمل وأسحر. وكانت قوة الجذب هذه تلفت النظر إليها وهى تلميذة فى المدرسة، وكان كل من يراها يشتهى أن ينظر إليها مرة أخرى. ولكنها هى كانت تعتقد أنها ليست على شىء من الجمال، وإن كان اعتقادها هذا لم يُغْرها بالتكلف. وكان الذى وجه خواطرها فى حداثتها إلى هذه الناحية أنها سمعت أمها تقول لصاحبة لها مرة: «إن ثديى ميمى كبيران جدا» وكان هذا صحيحا، فلما أقبل الليل وصارت فى غرفتها وحدها نظرت إلى صدرها فى المرآة وسألت نفسها: «أترى هذا من الدمامة؟ أهما أكبر مما يجب أن يكونا»؟ وآلت على نفسها فى تلك الليلة أن تهتدى إلى الحقيقة. ولو أن ميمى لم تسمع أمها تقول ذلك لكان الأرجح أن لا تجرى خواطرها هذا المجرى، ولظلت على الأقل سنة أخرى لا تطلب أن تهتدى ولا تشتاق إلى هذا الضرب من المعرفة. وكان أول ما عنيت به هو أن تتأمل صدور البنات من أترابها فى المدرسة، فألفتهن جميعا إلا القليلات ذوات أثداء صغيرة نابتة ولم تكن للقليلات أثداء كبيرة، ولكنها كانت تقبل المقارنة بثدييها. أما المقياس الحقيقى فأتيح لها فى يوم خرجت فيه مع لفيف من أهلها بينهم سليم — ابن عمها — إلى القناطر الخيرية فاتفق أن جلست على دكة هناك تحت شجرة على ربوة، فجاء سليم وجلس إلى جانبها.. فقالت لنفسها حين أبصرته يقعد معها إن هذه فرصتها، وشرعت تحاول أن تعرف منه ما تريد. أليس سليم شابا؟ فهو خليق أن يقول لها ما رأى الرجال فى حجم ثدييها. ولكن سليم حيى فهى محتاجة إلى اللف والدوران أو إلى أن تكون معه كالطلمبة الماصة لتحمله على القول الذى تنشده، فسألته: «هل تخرج كثيرا مع البنات يا سليم»؟ فقال: «إيه؟ أحيانا». فسألته: «كم بنتا خرجت معها إلى النزهة»؟ فأطرق وقال وعينه على الأرض: «أوه.. وهل أنا أعرف؟ ربما كان عددهن سبعة أو أكثر..». فسألته: «كلهن من حيّكم»؟ فقال بإيجاز: «تقريبا». فسألته: «ألا تعرف أحدا من غير الحى الذى أنت فيه»؟ فقال: «أعرف.. ولكن ما هى الحكاية»؟ قالت: «هل هن جميلات؟ أعنى هل قوامهن جميل»؟ فقال: «بعضهن» فقالت: «هل قوامهن أعدل من قوامى»؟ وكان صوتها وهى تلقى عليه هذا السؤال يخيل إلى السامع أنها ترجو منه أن يكون جوابه «لا» ولكنه خرج من «لا» ومن «نعم» بقوله: «لا أعلم». ففعلت شيئا لم تكن تظن أنها تستطيع أن تقدم عليه، ولكنها أقنعت نفسها بأن الامر كله أمر بحث عن حقيقة واختبار لمبلغ الصدق فى قول أمها أن ثدييها كبيران، فقالت له وهى تمنحه فمها: «قبلنى». وصارت شفتاه على شفتيها — لا يدرى كيف، ولكن هذا هو الذى كان — وأحس حرارة القبلة تسرى فى بدنه وتوقد النار فيه وتخزه أيضا. وانتهى الفصل الأول ورجعت ميمى إلى بيتها فى تلك الليلة وهى تشعر أن شيئا حصل تحت الشجرة اللفاء، وأن بابا يفضى إلى أسرار عويصة قد فتح لها.. فتحته قبلة واحدة ليس إلا.. وصارت تشعر بعد ذلك أنها مخلوق جديد وأن حياتها من طراز آخر غير الذى غبر.. وأصبحت تناجى نفسها وتسألها عما وراء الباب.. وتقول لنفسها إن القبلات حلوة وإنها تحسها معسولة، ولكن أهذا كل شىء؟.. لا.. فإنها تحس حنينا إلى ما لا تعرف وما لا يسعها أن تدرك، وأخيرا عرفت بعد أن بلغت العشرين وانتقلت إلى بيت سليم وارتمت بين ذراعيه. ••• وقالت ميمى وهى بين ذراعى سليم صباح ليلة الجلوة: «لقد ارتفعت الشمس.. صرنا قرب الظهر.. ألا نقوم»؟ ففتح سليم عينيه ببطء وقال: من حسن الحظ أن الزواج ليس كله شهر عسل، وإلا متنا. فزوّت ميمى ما بين عينيها وقالت: «لست أفهم ما تقول.. أليس واجبا أن تظل حياة الزوجين شهر عسل كلها.. أى أن يكون الشهر سرمدا»؟ فتنهد وقال: «إنه ليس كذلك من حسن الحظ.. أوه مستحيل.. أين من يحتمل ذلك.. أوهو.. مستحيل». ثم عاد فقال: «لا يخب أملك.. كل شىء يفتر على الأيام.. هذا عزاؤنا جميعا». فلم تستطع ميمى أن تفهم لماذا لا يبقى شهر العسل دائما.. ولم تدر ماذا يمنع أن يدوم، ولكنها لم تقل شيئا ولم يحاول هو أن يفهمها، وشغل كلاهما بحياتهما الجديدة فى البيت وخارجه فنسيت أن شهر العسل سيزول كما هددها سليم أو أنذرها. وكانت بعد أن تفرغ من تغيير ثيابها كل ليلة على أثر عودتهما من السينما أو الرياضة أو نحو ذلك تجلس فى حجره وتنحى ما أمامه من الأوراق وتوسعه تقبيلا، ثم تسأله: «ألا تزال تحبنى»؟ فيقول: «بالطبع.. يا له من سؤال»! وكان النهار أثقل الأوقات على نفسها لأن زوجها يغيب فيه عنها، ولم يكن لها فى البيت عمل فإن الخدم كثيرون.. الطباخة وبنتان للكنس والمسح وما إلى ذلك. وكان بيتها شقة فى عمارة كبيرة عالية فحدث يوما أنها كانت تنتظره ليخرج بها إلى السينما، وإذا بالباب تفتحه فألفت سيدة تقول لها: «معذرة إذا كنت أزعجتك.. ولكن خادمتى أضاعت المنفضة، فهل أجد عندكم واحدة»؟ فقالت ميمى: «لا أدرى.. تفضلى حتى أسأل الخادمة». فدخلت السيدة وهى تقول إن شقتها هى التى فوق هذه، فاستغربت ميمى فى سرها لماذا لم تذهب إلى أحد من السكان الآخرين المقابلين لها فى دورها، وحدثت نفسها أن لعلها فعلت فلم تجد عندهم ما تطلب. وقالت السيدة — كأنما ترد على هذا الذى تحدثت به ميمى إلى نفسها: «لقد رأيتك منذ لحظة تخرجين إلى الشرفة فى قميصك.. ولا يسعنى الا أن أقول أن قدك مدهش». فسألتها ميمى: «رأيتنى؟ كيف رأيتنى وأنت فوق»؟ قالت: «رأيتك من الشرفة الأخرى.. من حسن الحظ أن زوجى ليس فى البيت ولم يرك، وإلا لكان من المحقق أن يقذف نفسه عليك». فدهشت ميمى ولم تقل شيئا وراحت السيدة تسألها عن اسمها كله، فقد عرفت بعضه من البواب، وتخبرها باسمها هى تقول إن من الواجب أن تلتقيا كثيرا وأن تتزاورا، ثم سألتها: «هل زوجك يسافر ويغيب عنك أياما»؟ فقالت ميمى: «يسافر؟.. يسافر أين؟.. كلا بالطبع». فقالت الأخرى: «إن زوجى لا يزال على سفر.. وقد كنت فى أول الأمر أقعد فى البيت ولا أبرحه يوما بعد يوم انتظارا لعودته. وقد ضاق صدرى ولم أعد أطيق ذلك، فلن تجدينى فى البيت حين يتركنى ويرحل». فأحست ميمى أنها تحتاج إلى حماية من هذه الجارة، وألفت نفسها تلف الروب دى شامبر على صدرها وإن كانت مع ذلك لم تستطع أن تمنع نفسها أن تسأل جارتها: «أين تذهبين حين يغيب عنك زوجك»؟ فقالت الجارة بابتسامة وضيئة: «أوه فى أى مكان.. الأصدقاء يتكفلون بذلك». فصاحت ميمى: «الأصدقاء.. أى أصدقاء»؟ فقالت الجارة: «بالطبع يا طفلتى العزيزة.. وأى بأس فى ذلك»؟ فقالت ميمى: «ولكن زوجك؟ ألا يسوءه هذا؟ ألا يغضبه أن تخرجى مع رجال»؟ قالت الجارة: «يغضبه؟ وماذا تظنيه يصنع وهو مسافر؟ يقضى الوقت فى المسجد؟ كلا إنى أعرف ما يصنع». وصارت هذه الجارة معلمة لميمى. وكرت الأيام فأصبحت لا تبالى تقصير سليم معها، ولا تحفل ما تراه من فتوره حين يعود إلى البيت متعبا. وتكررت زيارات الأتراب لها فجأة بفضل الجارة الحاذقة التى أدركت أن ميمى غريرة لا عهد لها بهذا الضرب من حياة المرح، وما لنا لا نقول حياة الاستخفاف.. فبدأت معها بتبادل الزيارة ثم صارت تزورها ومعها أتراب لها، فتحتاج أن ترد الزيارات وتخرج إليهن، وارتقت من ذلك إلى دعوتها إلى التنزه والخلوات، ولم تكن الجارة تعدم سيارة تستعيرها بسائقها من بعض من تعرف من الرجال، وكانت تحرص فى هذه الرحلات الأولى على أن تكون قاصرة عليهن، ثم صار يتفق أن يلتقين فى هذه الرحلات إلى الأهرام أو الماظة أو غيرهما ببعض «أقارب» الجارة، فيحصل التعريف الذى تقضى به الآداب، وهكذا إلى أن ألفت ميمى أن تكون مع الرجال كما ألفت أن تخرج مع النساء. وكان الزوج غافلا عن ذلك فى أول الامر. وكانت ميمى إذا آن أن يناما تدنو منه وتلصق به فيتثاءب ويعرض عنها. وكان ربما زجرها عن ذلك وقال لها بعنف إنه محتاج إلى النوم، وكانت هى فى أول الأمر يشق عليها إعراضه وتحس بحزة فى نفسها فتبكى، فلما توثقت الصلات بينها وبين الجارة لم تعد تبالى هذا الفتور. وظن سليم فى بادئ الأمر أن زوجته «هداها الله» حتى كانت ليلة فأقبل عليها يريد أن يقبلها وفتح لها ذراعيه ليضمها، فلم تحرك ساكنا ولم يبد عليها أنها راغبة فى ذلك فعجب وسألها: «مالك»؟ قالت: «لا شىء.. ما لك أنت»؟ قال: «ألا تقبليننى»؟ فمطت شفتيها وهزت كتفيها وقالت: «إنك تحتاج إلى النوم وأنا لا أريد أن أقبل أحدا». فلم يفهم وألح عليها بالكلام، فبدرت منها كلمة فهم منها أنها لا تباليه، فنظر إليها محدقا فى وجهها وقال: «مع من تخرجين؟ من هؤلاء الأصدقاء أو الصديقات اللواتى ظهرن فجأة»؟ فقالت: «لم تعد الحقيقة.. أصدقاء وصديقات.. ومن الجنسين.. ولكنك تكون نذلا إذا أسأت الظن.. ولا أكون أنا بنت أبى وأمى إذا احتملت منك ذلك». فذهل — وإن كان عنفها قد طمأنه — وقال: «ولكن.. ماذا جرى لك»؟ قالت: «لم يجر لى شىء.. إلى الآن.. لا أزال ميمى التى تعرفها وإن كنت قد تعلمت أشياء كثيرة، ولكنه سيجرى لى على التحقيق أشياء كثيرة إذا بقيت تهملنى.. ثق أنى تعلمت ولكنى لم أعمل بما تعلمت إلى الآن.. سأعمل حتما.. فهل ترضيك هذه الصراحة»؟ فقال: «لقد كنت طول عمرك جريئة». وانحط على كرسى، فقالت: «جريئة أو غير جريئة.. سيان.. المهم أنك دفعتنى إلى التعلم.. وأخشى أن تدفعنى إلى ما هو شر.. وقد أنذرتك.. وأنت ورأيك.. ولكن لا تلمنى حينئذ». فأطرق يفكر وطال تفكيره وأحس أنه واقف على حرف هاوية، وكان قلبه يخفق بشدة وعنف غير أنه كان يبدو للمتأمل هادئا ساكنا، وجرى بخاطره أن ميمى على حق، وراجع نفسه وهو قاعد ورأسه مثنى على صدره وعينه على الأرض، وتذكر أن ميمى كانت أبدا جريئة مجازفة.. ألم تدعه إلى تقبيلها مرة؟ ولكن كيف عرفت هؤلاء الناس.. من الرجال والنساء على السواء.. ولم يرتب قط فى صدقها، ولم يخالجه أدنى شك فى أن الأمر اقتصر على اللقاء والتنزه، وأنه لم يقع بينها وبين أحد من هؤلاء الرجال ما لا يحمد فإن ميمى صريحة لا تهاب شيئا ولا تخش أحدا. ولكن كيف عرفتهم.. وقال لنفسه إنها عرفتهم لأنه أهمل أن يكون معها ولأنه كان يتركها وحدها ويقضى سهراته مع الإخوان وفى ظنه أنها ستقنع برفقة الخدم. هذا هو يستنكر كيف عرفت هؤلاء.. والمهم الآن هو إنقاذها من الهاوية وإنقاذ نفسه معها. ونهض ومشى إليها وهو يمد يده ويتناول كفها: «سامحينى يا ميمى.. لن أهملك بعد اليوم». فرفعت رأسها وحدقت فى عينيه، وقالت: «صحيح..؟ لا تتركنى وحدى»؟ فقال وهو يميل عليها ويدنى فمه من فمها: «كيف يمكن..؟ وأنت هل رجعت إلىّ..؟ هل أرجو أن أراك كما كنا»؟ وفى هذه اللحظة دق التليفون فمدت يدها وتناولت السماعة، وقالت: «اللو.. نعم..؟ زكيه؟ معك من..؟ حمدى..؟ آسفة.. يا زكية مشغولة.. نعم.. معى صديق قديم عاد إلىّ.. تريدين أن تعرفى من يكون.. اسمعى إنه أحب الناس إلى.. لا أستطيع أن أعرف أحدا ما بقى هذا الصديق لى.. من هو..؟ سليم.. ألا تعرفين سليم.. لم تسمعى به قط.. معذرة.. زوجى يا بلهاء.. معذرة.. لا.. لا أمل فى لقاء أحد بعد اليوم. كلا.. لا تتعبى نفسك لا أنت ولا غيرك.. أعنى هذا.. تماما.. مع السلامة». والتفتت إلى زوجها وقالت: «فهمت أنى لا أريد منها ولا من غيرها زيارة فغضبت». فلم يقل سليم شيئا بل انحنى عليها وحملها بين يديه ومضى بها إلى الأريكة الواسعة وهى متعلقة به تضحك له وتقبله راضية.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/18/
ليلى
وقفت ليلى أمام المرآة تصلح شعرها، وتضع فيه المشابك وتسويه براحتها وأناملها، وتثنى شعرات منه هنا وترد أخرى إلى مكانها هناك، ثم تناولت المثبنة وفتحتها ونظرت فيها هنيهة ثم قلبتها على المنضدة ونفضتها بأطراف أصابعها، ثم نحّتها وراحت تتأمل ما أفرغته منها. ثم هزت رأسها آسفة، وشرعت ترد الأشياء إلى الحقيبة: المشط والمنديل وثلاثة طوابع بريد بثلاثة ملاليم.. لا شىء غير ذلك.. حتى ولا أجرة الترام إلى عملها الجديد الذى فازت به. وما غناء ثلاثة من طوابع البريد بثلاثة ملاليم.. لو كانت عشرة لباعتها وركبت، إن المسافة طويلة من حدائق القبة إلى شارع سليمان باشا. ولو كانت عشرين لباعتها أيضا — لتركب — فإن المشى يسهل أن يحتمل إذا كان معها قرش تأكل به. كلا.. لابد أن تصبر على الجوع، وأن تتجلد وتحتمل المشى مع الطوى، وما بقى سوى يومين ثم تقبض أجرها عن هذا الأسبوع الأول. ولكن هل تستطيع أن تحتمل الجوع وتعب العمل والمشى يومين كاملين؟ وأبت أن تفكر فى هذا وأن تدعه يثبط همتها وقالت لنفسها إن حسْبها أنها وفقت إلى عمل، وأنه فى وسعها أن تظل حية إلى اليوم. وهبطت على كرسى وهى تقول «آخ» لا من التعب بل مما ستلقى فى يوميها هذين. ومر أمام عينيها كشريط السينما ما كان من أمرها إلى الساعة، فقد تخرجت فى المدرسة السنية ولكنها لم تشتغل بالتدريس.. فقد أحبت فتى رشيقا أغراها بنفسه ووعدها بالزواج وكرر الوعد وأكده وأقسم على الحفاظ — وما أسهل بذل هذه الوعود على الشبان — حتى فاز منها بما يبغى. وألحت عليه تطلب منه الوفاء. وتوسلت إليه، وبكت وقبّلت يديه ورجليه. ولم يكن هو ينوى الوفاء، ولا كان هذا فى وسعه.. فما كان سوى عامل فى مصنع، وإن كان مظهره يوهم أنه من الوجهاء. ولم يكن يدرك ما تورط وورطها فيه — وماذا عسى أن يخشى مثله؟ ولكنها هى كانت لا يخفى عليها ما هى صائرة إليه من الفضيحة لا محالة إذا لم تعجل بالتدبير المنقذ. وليتها أطلعت أمها على ما كان من أمرها مع هذا الفتى.. ولكن ما جدوى «ليت» بعد ثلاث سنوات قضت فيها الحسرة على الأم المسكينة ولم ترقق قلب أبيها الغليظ؟ وكانت ليلى تخشى ضعف أمها وقوة أبيها فلم تجد أمامها الا فتاها تلقى بنفسها عند قدميه باكية متوسلة، وهو يرى تضعضعها هذا فيتجبر ويتغطرس ويتحكم ويدعوها أن تفر معه. وتتردد وتحجم عن هذه الخطوة الحاسمة التى لا رجعة بعدها إلى أهلها، فإن أباها عنيف عنيد يؤثر أن يقتلها على أن يقبلها فى بيته. بل هو لا محالة قاتلها إذا عرف الحقيقة، وإذا أطاعت فتاها وفرت. وسيعرف الحقيقة إذا بقيت فالفرار أنجى. وقد لا يكون أشرف، ولكنه سبيل الحياة إذا شاءت أن تبقى حية. وقد كان … فرت مع هذا الفتى وحملت معها فى حقيبة الثياب حليها وشيئا من حلى أمها أيضا، وقد نفعها ذاك فما أقامت مع الفتى إلا أياما فى فندق زرى، وكان ظنها أنها ذاهبة إلى بيته، وأنها ستكون زوجة له، فيكون مما يرجى، أن تغتفر زلتها على جسامتها.. فإذا بالفتى لا يريد إلا أن يقضى أياما فى متعة خالصة ثم يلقى بها عظمة بعد أن أكلها لحما. فكادت تجن … واغتنمت فرصة خروجه من الفندق يوما، فحملت حقيبتها وأدت حساب الفندق، وانطلقت على غير هدى. وصارت المسألة «أين تذهب»؟ بيت أبيها لا سبيل إليه، وأترابها فى المدرسة … كلا، هذا أيضا ممتنع. وتذكرت وهى واقفة فى محطة للترام صديقة لها كانت من جيرانها فى زمن الحداثة، وهى الآن «حكيمة» فى قصر العينى. ولكن الحكيمات فى هذا المستشفى يبتن فيه ولا يخرجن إلا أياما معلومة، فما العمل؟.. ولم يطل ترددها فذهبت إلى العيادة الخارجية، وسألت تلميذة لقيتها فيها عن صاحبتها، واتفق أنها كانت تعرفها فدلتها عليها وأنبأتها أنها تعمل فى قسم الرمد، وكتبت إليها ورقة بعثت بها مع خادم أو «تمورجى» كما يسمى فدعتها الحكيمة إليها.. وكانت هذه المقابلة بداية الفرج. أقامت ليلى بعد ذلك مع أهل الحكيمة، وكانتا تلتقيان يوم الأحد ويوم الخميس والجمعة إلى المساء — كل أسبوعين مرة — وكانت ليلى ربما اشتاقت إلى صديقتها فى أيام عملها بالمستشفى فتذهب فى الظهر أو فى الساعة التاسعة لتراها وهى خارجة من المستشفى فى طريقها إلى «الهوستل» حيث الطعام والنوم، فتحدثها دقائق ثم تكر راجعة إلى البيت. وكانت المسألة التى تشغل البنتين هى كيف ينبغى أن تحيا ليلى. فقد كان مفهوما أن إقامتها فى بيت صاحبتها ليست سرمدا، وإن كانت تنفق على نفسها من ثمن ما تبيعه من الحلى.. فإن لهذا آخرا على كل حال. وكان مما فكرا فيه أن تعمل فى عيادة أحد الأطباء، ولكن ليلى أشفقت أن تلتقى عنده بأحد من أهلها أو معارفها. وخطر لهما أن تعمل فى مصلحة التليفون ولكن السعى أخفق ولم تجد وساطات الأطباء الذين استعانت بهم «الحكيمة» فقد تحول التليفون وانقلب. «أوتوماتيكيا» فما الحاجة الى بنات جديدات؟ وخشيت أن تشتغل بالتعليم فى مدرسة أهلية فيهتدى إليها أبوها، وكان خوفها من ذلك عظيما. وأخيرًا اقترح عليها طبيب أن تتدرب على الآلة الكاتبة، ففعلت وأتقنت ذلك حتى صارت تكتب ثمانين كلمة فى الدقيقة، وأعانها الطبيب وألحقها بمكتب يتلقى طلبات «النسخ» ولكن العمل كان قليلا لأن أكثر ما كان يطلب كان باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وكانت تعرف الإنجليزية فقد تعلمتها فى المدرسة، فلم يسعها الا أن تتدرب على كتابتها على آلتها، وسهل عليها بعد ذلك أن تستطيع «نسخ» الفرنسية أيضا، فإن الحروف واحدة وإن كان جهلها بهذه اللغة قد جعلها أبطأ. غير أن السرعة يمكن أن تجىء مع الوقت. واستغنت على الأيام عن المقام فى بيت صديقتها، وإن كانت صلتها بها قد بقيت وثيقة فإن فضلها عليها كبير، وجميل صنعها معها ليس مما يجحد ولا مما ينسى، حتى لو نزعت نفسها إلى الكفران. وأفلس المكتب فانتقلت إلى سواه بعد عناء، على الرغم من أنها أصبحت معروفة فى هذا المحيط.. محيط الكاتبات الناسخات. وكانت حليها قد ذهبت جميعا فى نفقات الحياة وأجور التعليم وسد النقص. وها هى ذى الآن قد التحقت بمكتب جديد، بعد أن ظلت عاطلة شهرين أكلت البطالة فى خلالهما القليل الذى كان مدخرا. ونهضت عن الكرسى وهى تتنهد، وتناولت حقيبتها لتخرج إلى عملها. وكانت الساعة السابعة.. فأمامها ساعة كاملة للمشى إلى المكتب، وقد عرفت بالتجربة أن الساعة فوق الكفاية، ولكن فسحة الوقت خير من ضيقه. ومضت إلى بابها لتفتحه وتخرج، وإذا بقرع خفيف عليه.. فقالت: «تفضل»، فدخل رجل بدين وسلم وقال: «أراك خارجة» فقالت: «نعم» وهمت أن تقول أنها مضطرة إلى التبكير، ولكنها كبحت نفسها فما يعنيه هذا، فقال: «أجرة الغرفة عن ثلاثة أسابيع.. ألا يمكن أن تعطينى منها شيئا على الحساب»؟ فقالت: «آسفة.. وإنى لشاكرة لك هذا الصبر كله.. والعطف أيضا.. وبعد يومين.. أقبض أجرة الأسبوع فأعطيك شيئا». قال: «إنك تحرجيننى مع زوجتى.. هذا الصبر الطويل ليس له عندها إلا معنى واحد. وقد أنذرتنى اليوم.. وعبثا أحاول أن أفهمها الحقيقة.. لا تريد أن تفهم.. كل ما تعرفه أن الأجرة تأخرت ثلاثة أسابيع. وكل ما تريده هو أن تؤدى إليها هذه الأجرة أو تخرجى اليوم». قالت: «ألا يمكن أن تمهلونى يومين اثنين.. أين أذهب إذا خرجت اليوم.. ليس لى مكان آخر». فهز الرجل كتفيه الغليظتين، ولم يقل شيئا. فدنت منه ليلى، وقالت: «أرجو أن تمهلنى.. كن شفيعى عندها». فقال: «لو كان الأمر إلى لما تقاضيتك شيئا قط.. ولكنك تعرفين زوجتى.. ولست أعرف لى حيلة». قالت: «ولكن كيف أستطيع أن أعطيك اليوم شيئا؟ لا أعرف أحدا أقترض منه. ولا يمكن أخذ شىء من المكتب إنى جديدة فيه». فقال: «اسمعى، لو لم تكونى بلهاء لأمكن تذليل كل هذه المصاعب، ولكن لم أر فتاة مثلك». فقالت: «ماذا تعنى؟ كيف يمكن تذليل الصعاب»؟ فأراح كفيه الغليظتين على كتفيها، وقال: «أنا أستطيع أن أدبر الأمر إذا طاوعتنى». فهزت رأسها غير فاهمة، فقال: «تعالى». وطوقها بذراعيه، وأدنى شفتيه الممطوطتين من فمها.. فحاولت أن تنأى عنه، ولكنه جذبها إليه بقوة، فحولت وجهها عنه، فذهبت تعبثان فى نحرها وكتفها، وكانت يده اليسرى تتحسس صدرها وتقف وتتكور على ثديها الراسخ، فكاد عقلها يطير وتفلتت من عناقه بعنف، وارتدت راجعة إلى آخر الغرفة، وهى تلهث وتنهج، كأنما كانت تجرى وصدرها يعلو يهبط كالموج من جهد المقاومة ومن الغضب أيضا، وكان هو ينظر إليها نظر النقمة والغيظ فصاحت به وهى ترتجف: «إذا لم تخرج من هنا فسأصرخ». فزام وهز رأسه، وقال وهو يدور ليخرج: «طيب.. سنرى.. أما أن تدفعى اليوم، وإلا فاخرجى أنت». فلم تقل شيئا.. وماذا عسى أن تقول؟ ••• – بونجور. – بونجور … خذى هذا العنوان واذهبى إليه حالا … عمل مستعجل … الرمنجتون ذهب بها أحمد … العمل يستغرق يومين … ثلاثة … المهم الاتقان … يجب أن يكون راضيا.. فاهمة؟ فذهبت ولم تسأله أهو عربى أم أفرنجى.. وماذا يهم.. كله عمل.. آلى. ودخلت الشقة فإذا هى بيت لا مكتب، وقالت للخادم النوبى: «إنى من محل …». فاكتفى بأن يشير إلى غرفة المكتب، فجلست على كرسى من الجلد كبير وثير.. وأدارت عينها فى الغرفة، فلم تر فيها أثاثا غير كرسى آخر كالذى جلست عليه. وحول الجدران رفوف كثيرة عليها كتب لا تحصى، وفى الركن مكتب أنيق، وفى وسط الغرفة منضدة صغيرة مما يستعمل للشاى وضعت عليها «الرمنجتون» فتوقعت أن ترى رجلا عالى السن، وأدهشها أن يدخل عليها شاب يناهز الثلاثين، وأن تعلم أن هذا هو الذى جاءت لتعمل له ولتنسخ ما يشاء. وقال برقة لا تكلف بها: «قهوة»؟ قالت: «أشكرك.. فيما بعد.. بماذا تأمر؟..». فقال — وهو يناولها ملفا ضخما: «فى كم يوم يمكن الفراغ من نسخ هذا كله»؟ فقلبت الأوراق ونظرت فى الخط والسطور، ثم رفعت رأسها إليه وقالت: «صعب أن أقول كم يستغرق.. ولكن.. بعد ورقة أو اثنتين أستطيع أحكم حكما قريبا من الصحة». فهز رأسه وهو يبتسم وتحول عنها، ثم خطر له خاطر، فدار على عقبيه بسرعة وسألها: «يهودية»؟ فابتسمت وقالت وهى تهز كتفيها: «لأنى شقراء»؟ فقال: «إذن أنت..». فأراحته من عناء التخمين، وقالت: «مسلمة». فقال وهو يهز رأسه بعنف: «أنا أيضا مسلم». فلم تقل شيئا واجتزأت بالابتسام وشرعت ترفع غطاء الرمنجتون، وتركها هو وذهب فجلس على الكرسى الآخر، ثم رآها تتلفت فى الغرفة، فنهض وهز رأسه مستفسرًا، فنهضت هى أيضا وقالت: «لا تتعب نفسك.. أظن أن فى وسعى أن أجد كرسيا من الخيزران فى..». فقال وهو يعدو إلى الباب: «بالطبع.. أما أنى لمغفل..». وعاد بالكرسى وهو يقول ضاحكا: «لكأنما كنت أظن أنك ستجلسين القرفصاء وتكتبين على حجرك.. لم تشهدى ذلك العهد بالطبع.. لا يمكن فإنك ما زلت صغيرة.. أوه جدا.. ولكن أين تعلمت الكتابة على هذه الآلة؟.. معذرة إذا كنت أتطفل، ولكن المصريات يندر.. جدا أن تعنى واحدة منهن بذاك». قالت: «أضطررت أن أتعلم.. صنعة فى اليد أمان من الفقر …». وابتسمت، فقال: «أهو ذاك؟ معذرة، كان سؤالى فضولا منى لا يغتفر … سامحينى». فسرها منه هذا الأدب، وقالت: «ليس هذا سرا.. ألست أعمل؟ لست هاوية بالطبع». فقال: «إذا كنت تعملين فى مكتب.. فإنك ولا شك تعرفين لغة أجنبية أو اثنتين.. فـ.. فـ..». قالت: «أعرف الانجليزية.. وأصبحت أعرف من الفرنسية ما يكفى للنسخ.. وأتكلمها أيضا، فإننا جميعا نتكلمها هناك». فقال: «أوه لست أريد أن أفتح لك محضر تحقيق.. معذرة مرة أخرى». ورفع يده إلى جبينه العريض ومسحه، وقال: «هذه أول مرة أرى فيها مسلمة تشتغل بالنسخ — وضحك — أرانا نتقدم.. أليس كذلك»؟ وكانت قد شرعت تدق على الآلة الكاتبة، فاكتفت بالابتسام.. وتركها هو بعد ذلك وخرج بعد أن قال لها أن فى وسعها أن تطلب ما تشاء من الخادم.. أى شىء.. قهوة.. شاى.. أكل.. كل ما فى البيت تحت أمرها.. ولكنها لم تطلب من الخادم شيئا، ولم تقلق راحته بل أقبلت على الآلة تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة، وتخرج له من كل ورقة نسختين. واستغرقها العمل، ووجدت فيه متعة لا عهد لها بها فى مثله.. فقد كانت هذه رواية تنقلها — استعدادا لطبعها ولا شك — وكانت الصور التى يرسمها المؤلف — هذا الشاب الوسيم المؤدب — تتجسد لها، والمواقف تتمثل وهى تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة. وكانت نفسها تجيش بمثل العواطف الموصوفة والإحساسات المصورة، فتضحك تارة، وتخنقها العبرة تارة أخرى، وتعبس حينا.. وترى نفسها تنطق الألفاظ التى تدقها بقوة وعنف كأنها تمثل ما تقرأ أو كأنما كان الأمر حقيقة لا خيالا. وكانت بعد ورقة تلقى فى السلة على المكتب، وهى ذاهلة عن كل شىء. فما قامت مرة، ولا تمطت لتريح أعضاءها المكدودة وتحرك أصابعها التى كادت تتشنج وتتصلب أو تتخشب، ولا شعرت بظمأ أو جوع، ولا كان لها بال إلا إلى هذه الرواية التى تقرأها وهى تنسخها. ولقد كانت مشغولة أيام المدرسة بالروايات والقصص، ولكنها منذ ثلاث سنوات لم تقرأ رواية، وإن كانت قد ذهبت مرارا إلى السينما — وهى مطمئنة — فإن أباها من ألد أعداء السينما. ومع ذلك كانت تتحرز وتلقى على وجهها نقابا خفيفا شفافا، حتى حين تمشى فى الطريق كانت تتنقب زاعمة أن هذا وقاية من الشمس والتراب. ولم تشعر بعبد الحميد — فقد كان هذا اسمه — حين دخل عليها، ووقف ينظر إليها أكثر من دقيقتين. فلما رآها لا تنظر إليه ولا ترفع عينها إليه عن الورق ولا تتمهل أو تتباطأ فى العمل، قال: «معذرة.. إن هذا انتحار». فرفعت رأسها حينئذ، وقالت: «أوه.. لم أرك لما جئت.. كلا.. إنى على العكس مسرورة.. وأعترف لك بأن هذه أول مرة سرنى فيها عملى … رواية مدهشة». فقال وهو ينحى كفيها عن الرمنجتون: «قد تكون الرواية مدهشة.. ولكن أبعث على الدهشة أن لا يحتاج الإنسان إلى راحة.. تفضلى وقومى، أريحى جسمك قليلا على هذا الكرسى» وتناول ذراعها لينهضها، فقالت وهى تقوم: «صدقت.. أستريح دقيقة». فقال وهو يمضى بها إلى الكرسى: «تستريحين تماما». فقالت، وهى تجلس على الكرسى: «ولكنى أريد أن أعرف بقية الرواية». فقال: «اضطجعى أولا.. أنا أقص عليك البقية.. ألخصها لك فى ألفاظ قليلة». قالت: «كلا، هذا يفسدها … إنى أريد أن أقرأها». قال: «إذن أقرأها لك». قالت: «تتعب.. دعنى أقرأها أنا وأنا أستريح». قال: «بعد الغذاء.. الوقت طويل». فقالت: «الغذاء..؟ كلا.. اسمح لى أن أخرج وأعود فى الساعة الثالثة كالعادة». قال: «ولم لا تبقين وتتغدين هنا..؟ قولى إنك باقية». قالت: «لا أستطيع.. سأعود بالطبع بعد الظهر». وكانت تعلم أنها مفلسة، وأنها لا تستطيع أن تذهب إلى بيتها — حيث ذلك الرجل الخشن الفظيع — وهبه ليس فيه، فما تصنع هناك؟ وإذا لم تذهب إلى البيت فأين يمكن أن تذهب؟ هذا شاب يعرض عليها أن يطعمها وأن يريحها من الأنياب التى تمزق أحشاءها ويعفيها من الشعور الثقيل بالقرص والعض فى جوفها، فلم لا تطيع وتقعد وتأكل؟ وأحست وهى تدبر هذا فى نفسها بالدموع تترقرق فى مآقيها أمامه.. فقرضت أسنانها وشدت أعصابها ونهضت متحاملة على نفسها. فقال: «إلى أين؟.. لا يمكن أن تخرجى.. عيب.. لا يليق». فقالت بضعف، فما بقيت فى بدنها ذرة من القوة بعد أن أنفقت البقية فى المكابرة: «أرجو..» ولم تزد، فقد هوت كالجثة أو كأنها ثوب فارغ. ولم يكن هذا مما يجرى لصاحبنا فى حساب، فلم ينتبه إلى ما حدث إلا بعد أن ارتمت على الأرض.. بعضها على الكرسى، وسائرها على السجادة. فانحنى عليها وحملها وأراحها على الكرسى، وخرج يعدو ويصيح: «محمد. محمد. تعال حالا..» ولم ينتظره بل ذهب إلى غرفة النوم، وجاء منها بزجاجة من الكولونيا رش منها على وجهها الأصفر، وأقبل على راحتيها يدلكهما وخلع حذاءيها وجوربيها، وراح يدلك قدميها أيضا بالكولونيا ومحمد واقف ينظر وينتظر الأوامر التى لا تصدر ولا يصنع شيئا. بعد لأى ما، بدأ الدم يعود إلى وجهها الممتقع.. فتنفس عبد الحميد الصعداء واطمأن. وفتحت ليلى عينيها وأجالتهما فيما حولها بفتور، ثم تنهدت ووسعها أن تتكلم. فقالت: «لم يحدث لى هذا أبدا». فقال بشىء من العنف: «كان جميلا جدا أن يحدث لك هذا فى الشارع.. هه». فابتسمت، وقالت: «أشكرك، إنى آسفة … هذه أول مرة». فقال: «محمد. خذ هذه الزجاجة وضعها فى مكانها.. والآن لا يسعنى — وقد خرج محمد — إلا أن أوجه إليك سؤالا ثقيلا … باردا فى الحقيقة … ولكنه واجب … متى أكلت آخر مرة؟ احذرى أن تكذبى». قالت: «لا داعى للكذب.. أمس، الظهر». قال: «لقد ظننت ذلك..». قالت: «كيف عرفت؟». قال: «أوه المسألة فى غاية البساطة.. ليست المسألة فراسة، ولكنها مسألة ضم قرينة الى قرينة.. مررت بمكتب.. واستدرجت صاحبه إلى الكلام عنك، فقال إنك معروفة فى مكاتب النسخ وإن كنت من الجديدات عنده.. هذا يومك الخامس فى مكتبه، وأثنى عليك وطمأننى كأنما كنت أحتاج إلى ذلك، فلما أغمى عليك الآن أدركت أن هذا من التعب والجوع … ألا ترين أنى أصلح للقيام بدور سنكلر أو شرلوك هلمز»؟ فضحكت وقالت: «لماذا سألت عنى»؟ فقال: «قبل أن أجيبك، يجب أن تنتظرى قليلا حتى أعود إليك». وخرج وتركها، فراحت تفكر مسرورة فى هذا الشاب. نعم هو شاب، وإن كان الأرجح أنه جاوز الثلاثين. وفى رقته ودعته، وفى مروءة نفسه وحسن أدبه، وفى براعته فى فن الرواية، براعة جعلتها تعمل كما لم تعمل قط فى حياتها، وفى وسامته، وفى هذا السحر الذى ينطلق من عينيه فينفذ إلى القلب، ثم تنهدت آسفة.. سحر أو لا سحر … سيان، لا شك أنه يعجب بها، هذا واضح. ولكن ما قيمة هذا الإعجاب؟ وهبه أحبها فما أملها معه إلا أمل الخليلة، وهيهات أن ترضى ذلك. ولو كانت ترضى ذلك، لما فاتها ما فاتها من الفرص، ولا كانت خسرت ما خسرت من الأعمال، فما كان أكثر أصحاب الأعمال الذين طمعوا فى هذا النوع من العلاقة، فلما خيبت أملهم ألقوا بها فى الشارع، وحسبها زلة واحدة فى حياتها أورثتها هذا الشقاء الطويل. واختصرت زفرة طويلة، فقد دخل فى هذه اللحظة محمد وأمامه سيده.. الخادم يحمل سلطانية متوسطة فيها مرق، والسيد يحمل فوطة، وقال السيد: «اشربى هذا حالا». وطرح الفوطة على حجرها ففعلت كما أمر، وقال: «هذا يكفى الآن.. بعد طول الطوى، يحسن التخفيف حتى لا تتعب المعدة». فقالت وهى تضحك: «لا تبالغ، إنه يوم واحد ليس إلا». قال: «هذه الشجاعة التى تظهرينها تسرنى وتعليك فى عينى، ولكنها تكلّف على كل حال». فقالت مستغربة: «تكلّف … أبدا». قال: «إن الذى أعنيه هو أن الشجاعة لا تكون إلا تكلّفا شىء يحمل الإنسان نفسه عليه، هذا ما أعنى». فسألت: «ولكنى لست فاهمة». قال: «نؤجل الدرس إلى وقت آخر. ونتحدث الآن عنك.. قولى ما اسمك». فقالت: «فريدة». قال: «ينطقونها فى المكتب «فريدا».. ما علينا.. هل هذا اسمك الحقيقى»؟ قالت: «ولماذا تظن أنه ليس اسمى»؟ قال: «ما رأيت من شجاعتك يحملنى على هذا الظن.. أنت بنت ناس». قالت: «كل الناس أبناء ناس». فضحكت، فقال: «أعنى أنك تشعرين بكرامة تحرصين عليها». قالت: «هل أنا الوحيدة التى تفعل ذلك»؟ قال: «أعترف أنى انهزمت … عندى كلام كثير … حجج … ولكنى أوثر الهزيمة … فما قولك أن نكون صريحين»؟ فضحكت.. ولم يكن ضحكها مسرورا، بل عن شعور بالضعف وبالاضطراب الذى أدركت أنه سيدفعها إلى الاعتراف بكل ما فى نفسها، فقال: «قولى لى اسمك الحقيقى.. سأحتفظ به». فأقرت من حيث تريد المكابرة، وقالت: «ولكن ما الفرق بين اسم واسم..؟ كله اسم». قال: «ها.. لقد صح ظنى، والآن اسمك الحقيقى. لقد وعدتك بكتمانه فهل تستطيعين أن تثقى بى»؟ قالت: «نعم، ليلى» قال: «ليلى، ليلى ماذا». قالت: «ألا تعفينى؟ لست أشعر أنى أستطيع المقاومة إذا ألححت ارحم ضعفى». فقال: «بالطبع … معذرة … لست أريد أن أستغل ضعفك … كلا، اغفرى لى فضولى، فإنه ليس عن خسة بل عن». وأمسك مترددا، فقالت وقد رأت تردده وأدركت بغريزتها الذكية دلالته: «عن». فقال: «عن حب … لقد قلتها … قولى عنى مغفل. ما شئت قوليه.. ولكنها الحقيقة، وقد استرحت الآن، رفعت عن صدرى حجرا.. تنفست.. عجيب ولا شك.. هى دقائق رأيتك فيها.. ولكنى مع ذلك أحببتك كأنى عرفتك من قبل أن أُخلق، كأنما كنا معا فى عالم آخر قبل هذا. ولست أقول هذا لأخدعك. وإنى لأعلم أن الرجل يستطيع أن يخدع المرأة بتمثيل دور العاشق، ولكنى لا أحاول خداعك ولا مطمع لى فيك، كل ما أعرفه أنى أحببتك، قد يكون هذا شعورا وقتيا يفتر بعد قليل أو كثير، وأى حب لا يفتر؟ على كل حال لا أعلم، أعرف فقط أنى أنا فوجئت بهذا الحب الذى غمر نفسى وشاع فيها علوا وسفلا … انظرى إليه كيف شئت … باستخفاف إذا أردت أو لم يسعك غير ذلك. ولكن صدقينى، فإنى أحتمل الاستخفاف، ولكنى لا أستطيع أن أحتمل التكذيب. كلا»!! فقالت ببساطة: «إنى أصدقك» فصاح بها: «إيه»؟ قالت: «ألم تسمع؟ هات أذنك وأنا أصيح لك فيها … صدقتك … هل سمعت الآن؟ لالالالا … صدقتك معناها صدقتك فقط..». وعرف اسمها الكامل اسم أبيها أيضا، فقال وهو يمسح جبينه: «انظرى … أليس والدك هو الذى كان ضابطا فى الجيش»؟ قالت: «هو بعينه» قال: «وكان يسكن فى شارع …». قالت: «هذا هو البيت الذى ولدت فيه». قال: «غريب.. لقد كان أبى رحمه الله صديقا جدا لأبيك. ولداهما يلتقيان الآن.. غريب. ماذا حملك على ترك أبيك؟ أسمع أنه كان عنيفا». قالت: «لأنى خفت عنفه … اسمع … سأقص عليك حكايتى كلها … لم يبق بد من هذا. وأحببنى بعد ذلك إذا استطعت، ربما كان هذا لازما لتُشفى». وقصت عليه الحكاية ولم تكتم شيئا ولم تحاول أن تهون من زلتها. وكان يصغى وهو مطرق، فلما فرغت قالت: «والآن يمكنك أن تبلغنى أنك دفنت حبك المباغت لهذه الفتاة الطائشة». قال: «لقد كنت ضحية … ولست أدفن حبي لك، ولكنى أنوى أن أعلنه، فهل تسمحين لى بأن أطمع أن تحبينى يوما من الأيام»؟ فأطرقت تفكر، فقد أساءت فهم ما قصد إليه وتوهمت أنه يريدها كما أراد غيره، خليلة … وشعر هو من إطراقها أن معنى كلامه ليس واضحا وشجعه ترددها الظاهر فقال: «إنى لا أرى أنى أستطيع أن أعيش بعد اليوم بدونك، فهل تقبليننى زوجا على أن تكون الطاعة منى والحب … ولا يكون منك إلا ما يسمح بالأمل فى أن تحبينى يوما ما»؟ فصاحت: «ولكنى أحبك من الآن!». وندعهما … فما بقى لنا مقام معهما.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/19/
حواء والحية
رفعت «جليلة» رأسها قليلا عن الرمل، ونظرت إلى صدرها الذى يعلو ويهبط، وجلدها الذى دبغته الشمس ثم مدت بصرها إلى ساقيها وإلى أصابعها التى عنيت بصبغ أظافرها، وابتسمت ابتسامة الرضى والاغتباط، ثم ردت رأسها وظلت راقدة وتركت الشمس تفعل فعلها فى جسمها العارى من الصدر إلى الردفين ومن الساقين إلى الأخمصين وكانت هذه عادتها مذ جاءت إلى الاسكندرية.. تخرج كل صباح من الفندق فى ثياب الاستحمام، فتلقى بنفسها فى الماء فى هذه الناحية المنعزلة وتسبح ما شاءت قريبا من الساحل، ثم تخرج إلى الرمل وترخى ما على صدرها من ثوب البحر وتعريه للشمس، لتفيد ما قيل لها أن أشعة الشمس تفيده من الصحة والعافية. ولم تكن تلقى أحدا فى هذا المكان أو تخشى أن يتطفل عليه فيه مخلوق، لبعده وضيقه واحتجابه وكثرة ما يحيط به من الصخور. ولمحت زورقا شراعيا يشق الماء من بعيد فنهضت واتكأت على كوعها، وراحت تنظر إليه تارة وإلى أظافر قدميها المصبوغة تارة أخرى ثم أرهفت أذنيها، فقد خيل إليها أنها سمعت صوتا يشبه صوت تكسر العود داسته قدم.. فنسيت أظافرها وانطرحت على بطنها وعينها إلى الناحية التى تتأدى إليها منها الصوت، فما لبثت أن سمعت وقع أقدام — أو قدمين على الأصح — فما أسرع ما جلست على ركبتيها، ورفعت الثوب فغطت صدرها. وكانت أصابعها لا تزال تعمل فيه لتربطه، حين وقف أمامها رجل وسيم معتدل القامة حسن البزة عارى الرأس، فحدقت فى وجهه.. فقد وقف مفتوح الفم وكأنما بهره جمالها ثم قال: «أرجو المعذرة». فلم تقل جليلة شيئا وظلت قائمة على ركبتيها تنظر إليه، فضحك فجأة وبلا مناسبة ظاهرة، ثم كف فجأة وقال: «أرجو المعذرة.. لكأنك حواء تصلّى فى الجنة». فقالت بلهجة امتزج فيها الغضب بالسرور المكبوح: «ماذا تعنى بحواء والجنة»؟ قال: «من الاتفاق الغريب أن اسمى آدم، وقد كنت وأنا ماش أتوقع — أخشى فى الحقيقة — أن ألقى حية … ولكنى على التحقيق لم أكن أتوقع أن ألتقى بحواء». وضحك مرة أخرى، فقالت بحدة: «ليس اسمى حواء». فقال بابتسام: «هل لى إذن أن أسأل ما اسمك»؟ قالت: «كلا.. لن أخبرك» قال: «إذن سأسميك حواء فإنه أليق ما يكون.. وليت من يدرى هل كان لحواء بحر كهذا فى الفردوس»؟ ونظر إلى البحر، ولكنها ردته بقولها: «سمنى ما شئت فإنى راجعة إلى الفندق». وهمت بالنهوض، فقال: «سأرافقك إليه فإنى نازل فيه إذا كان هو هذا» وأشار الى ناحيته. ولكنها لم تذهب، بل وقفت وقالت، وقد جنحت إلى العناد: «بل سأبقى هنا». فوافق الرجل بسرور وقال: «حسن جدا.. سأبقى أنا أيضا.. لأسليك وأونسك فى وحدتك». فهزت جليلة كتفها هزه خفيفه، وعادت إلى الرمل فجلست عليه، فجلس مثلها بثيابه الأنيقة وراح يجيل عينه فى مفاتنها … وكانت هى أيضا تتأمل كتفيه العريضتين ووجهه القسيم وشعره وساقيه المفتولين، ولا يبدو عليها أنها غير راضية عن وجوده وتطفله عليها فى هذا المكان الذى كانت تظنه نائيا عن الخلق. وسألها: «ماذا تصنعين هنا»؟ فقالت باختصار: «كنت أتمشى». ولكنها رمت إليه ابتسامة ساحرة، فقال: «ولكنك كنت راقدة على الرمل، فهل هذه طريقة جديدة للمشى»؟ قالت: «كنت أستحم». قال: «تستحمين؟ ولكن بينك وبين البحر أكثر من مائة متر». فقالت بغضب: «ألا أستطيع أن آخذ حمام شمس إذا أردت»؟ فقال: «أوه.. صحيح». وهز رأسه ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: «حواء تأخذ حمام شمس، فيفاجئها آدم الذى كان يبحث عن الحية … أليس كذلك؟ ويفسد عليها حمامها … معذرة مرة أخرى». فتركت الاعتذار وسألته بلهفة: «آدم.. قل لى.. هل تظن أن هنا حيات»؟ فقال: «لا أظن.. وماذا تصنع حتى الحية هنا؟.. تأخذ حمام شمس هى أيضا»؟ فضحكت وقالت: «ألم تأخذ قط حمام شمس»؟ فكاد يفهق. وقطب هنيهة وهو يحاول أن يهتدى إلى المعنى الذى أرادته ثم قال بابتسام: «كلا.. لم أفعل ذلك قط … جربت كل نوع من الحمامات إلا هذا، والله فكرة». فصاحت به: «لم أكن أعنى هذا» وابتسمت على الرغم منها، ثم أردفت: «أنما أردت مجرد الاستفهام». فقال: «لقد كنت الآن فى حمامك فقطعته عليك، أفلا يمكن أن تستأنفيه من حيث انقطع»؟ فقالت: «ولكن هذا لا يمكن … أعنى لا يليق يا آدم. ربما كان هذا مألوفا فى الجنة. ولعلنا لو كنا فى عصر قبل عصرنا هذا ببضعة قرون … ولكن فى هذه الأيام التى ليس فيها جنات … كلا يا آدم». فسألها: «ولكن لماذا تحرمين نفسك ما تحبين»؟ قالت: «قد يرانى أحد». قال: «لا أحد هنا يراك». قالت بابتسام: «ألم تفاجئنى أنت فى الحمام»؟ فلم يستطع أن يرد عليها وينقض حجتها وأطرق شيئا، ثم تناول شعره وشده وصاح: «وجدتها … استأنفى حمامك … وأقعد أنا وراء هذه الصخرة … أحرسك … وأنبهك — عند الحاجة — إذا طرأ طارئ». ولم ينتظر أن توافق بل نهض ووثب فوق الصخرة واختفى عنها. وصاح بها من ورائها: «ما قولك»؟ قالت: «حسن. وإذا رأيت أو سمعت أحدا مقبلا فنبهنى واسمع حاذر أن تنظر». قال: «مستحيل» بلهجة من يعتقد أن هذا غير معقول ثم أردف: «لقد رأيت بما فيه الكفاية». واستلقت مطمئنة وراحت تفكر فى آدم القديم وآدم الحديث، وتسأل: «أتراه سينظر من بين الصخور»؟ وتهز كتفيها وتنظر إلى ثدييها وتحدث نفسها أن لا بأس … ولا خوف … ثم إنه ظريف، فلينظر … ألم ير ما فيه الكفاية كما قال؟ وكان آدم — على الجانب الآخر من الصخور — قد خلع الجاكتة واتخذ منها وسادة لرأسه واستلقى على الرمل وذهب يفكر فى هذا الجمال البارع الذى كتب له فى يومه أن يراه، ويسأل نفسه: «أتراها تريد منه أن يبقى حيث هو.. أم هى ياترى تنتظر منه أن يكون جريئا وأن يحور إلى طباع أجداده.. ماذا كان جده الأعلى خليقا أن يصنع فى مثل هذه الحالة؟ أكان يطيع المرأة التى لعلها تعنى خلاف ما تقول أم كان يطيع غرائزه ورغباته»؟ وأنه ليفكر فى هذا وما إليه، وإذا بصرخة عالية.. فوثب إلى قدميه ونط فوق الصخرة وانحط عند جليلة وسألها: «ماذا جرى»؟ ولم يحتج منها إلى جواب فقد كان حسبه ذلك الفزع الذى ارتسم على وجهها، فدار بعينه ينظر فما كان يسعها أن تقول شيئا من فرط الجزع، فأبصر أفعى على نحو مترين منها.. فانقض عليها وتناولها من ذيلها وطوح بها فرماها بعيدا، ثم تناول يد الفتاة فأنهضها وهى لا تزال نصف عارية، ولكنها صاحت به: «لا تلمسنى … أوه لقد لمست يدى … ماذا أصنع الآن»؟ وانتزعت يدها منه، ولكنها أبقتها بعيدة عنها كأنها ملوثة، فقال: «ماذا جرى؟ هل يدك»؟ وهبط قلبه فى صدره، وابترد الدم فى عروقه وجمد، وجعل ينظر إليها وهو مفتوح الفم من الخوف الذى ساوره، فقالت: «لا تلمسنى.. أقول لك لا تلمسنى.. أنى أمقت الأفاعى». فأدرك مرادها، واطمأن قلبه وتشهد، وهز رأسه مرتاحا، ووسعه أن يبتسم وقال: «آه … هذا … لا بأس … سأذهب وألبس جاكتتى وأعود إليك». فصرخت: «كلا. لا تتركنى وحدى» قال: «إذن تعالى معى.. نلبس جماعة». وهم أن يتناول يدها ليعينها على الصعود فوق الصخرة، ولكنها تراجعت عنه فقال: «لا بأس … أرانى صرت مثل المنبوذين الهنود الذين لا يلمسهم أحد..». فرقت له ولكنها قالت وهى تخطو إلى جانبه: «أظنك وضعت هذا الثعبان بيدك إلى جانبى عامدا». فقال: «كيف يمكن؟ لقد كنت راقدا فى الناحية الأخرى». فقالت: «وأظنك كنت ستنام» فقال معترفا: «أى والله كاد النعاس يغلبني». قالت: «هذا ألعن». قال: «ولكنك أمرتنى أن أبقى هناك ولا أجىء». قالت: «وتتركنى مع الثعبان»؟ قال: «لا تكونى متعنتة». قالت: «لن أجىء إلى هنا بعد اليوم». فقال بضحك: «انتهى فصل الحمامات الشمسية» قالت: «بل انتهى شهر العسل». فالتفت إليها وصاح بها: «إيه؟ شهر الـ … الـ..». قالت: «نعم شهر العسل.. ألا تعرف ما هو.. أنا وزوجى هنا فى الفندق وسنعود إلى القاهرة غدا … واسمع، إن زوجى غيور جدا. أسرع ما يكون إنسان إلى إساءة الظن.. فاحذر.. ابق حكاية حواء والحية بينى وبينك». قال: «تعنين بينى وبين نفسى» قالت بابتسام: «لا.. سنلتقى يوما..». قال: «متى؟.. طمئنينى» قالت: «متى أيقنت أن يدك لم يبق بها أثر من الحية..».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/93085140/
في الطريق
إبراهيم عبد القادر المازني
القصة هي أحد الألوان البديعة للعمل الأدبي يصور فيها المؤلف حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، ويتعمق في تقصيها والنظر إليها من جوانب متعددة ليكسبها قيمة إنسانية خاصة مع الارتباط بزمانها ومكانها وتسلسل الفكرة فيها وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي وما يكتنفها من مصاعب وعقبات على أن يكون ذلك بطريقة مشوقة تنتهي إلى غاية معينة. فما بالنا إذا كان من يقوم بذلك هو المازني ذاك الأديب العملاق، الذي يقدم لنا في هذا الكتاب مجموعة من القصص القصيرة الفكاهية والساخرة التي تتناول الأوضاع والجوانب الاجتماعية والنفسية بالوصف والنقد، ليطل بنا المازني من خلالها على تفاصيل ودقائق الحياة في زمنه. لقد أثبت المازني في هذا العمل قدرته على الولوج إلي النفس البشرية في لين ورفق لسبر ما استطاع من أغوارها، وفك أكبر قدر من أسرارها.
https://www.hindawi.org/books/93085140/20/
العقلة
لم يكن «عبده» يشكو قبل هذا أن فى لسانه عقلة، وأن الكلام يتردد فى فمه ولا يكاد يخرج منه.. ولكنه أحب بنت خاله، فماذا يقول لها أو لأمها أو لخاله؟ وكيف تحتمل علته هذه فتاة عصرية تحب أن تباهى النساء بزوجها؟ والمصيبة أن شعوره بهذه الحبسة يزيد لسانه امتساكا كلما جالسها. فكان إذا هم بكلامها لا يزيد على أن يخرج صوتا كهذا «أ أ أ أ أ أ..» أو «مـ مـ مـ مـ» أو «فـ فـ فـ فـ» وأين الفتاة التى لا يحيله هذا مضحكا فى نظرها؟ وأخيرا أشاروا عليه بأن يستشير طبيبا، قالوا له إنه بارع فى علاج هذه الحالات.. فقصد إليه، فلما جاء دوره وقف أمامه يقول أو يحاول أن يقول: «أ أ أ أ.. شنـ سششسسسشـ لللللـ..» فقال الطبيب: «ظاهر، ظاهر.. إن هذه الحالات العصبية معروفة» فأراد عبده أن يقول إنه ليس مصابا بمرض عصبى، فقال: «أ أ أ أ أريد أاان ا أتتتتززززززوج وووو» فسأله الطبيب: «ماذا تقول»؟ فحاول أن يبين، ولكن الحبسة حالت دون الإفصاح.. ففرك الطبيب جبينه، ثم قال: «غن إذا استعصى عليك الكلام» فدهش عبده ولم يصدق أن الطبيب يطلب منه الغناء، وبدا عليه أنه يريد أن يستوثق، فقال الطبيب: «بالطبع غن. غن بما تريد.. إنها طريقة حسنة للتغلب على العلة، وإن كان إسعافها وقتيا». فملأ عبده صدره بالهواء ورفع عقيرته بأنكر ما سمع الطبيب فى حياته، حتى لقد لام نفسه على حماقته فيما أشار به. وبعد أن اضطرب لسان عبده قليلا، انطلق يقول بصوت شبيه بشهقة المصاب بالسعال الديكى إنه يريد أن يتزوج. ولكن هذه الحبسة تقضى على أمله. وكان كلما أخرج صوتا أحس الطبيب أن حجرا دفع فى صدره، فما ندم فى حياته على نصيحة كما ندم فى يومه هذا، فقد حمس عنده وظن نفسه فى موقف مناجاة، فمضى يغنى: «طول الليالى وناطيفك على بالى، ياللى غرامك ملك قلبى وشغل بالى، يا خوفى من طول بعادك واللى خبّالى». فأسرع الطبيب يقول مقاطعا: «تمام … لم تكن بك فى الحقيقة حاجة إلى إتعاب نفسك بهذا الغناء البديع. الآن اسمع: إن حالتك عصبية وأنت على ما يظهر شديد الحياء». فلم يرق عبده هذا التشخيص، وحاول أن يعترض، فحالت الحبسة دون ذلك … فتذكر أن الغناء أسعفه كما لم يسعفه شىء فيما يذكر، فصاح يقول: «لا، لا، لا، ليس بى حياء بل أنا قليل الحـ..». وقاطعه الطبيب بدوره إشفاقا على نفسه وعلى سُمعة عيادته، وعجل بأن يقول: «طبعا.. طبعا.. والآن اسمع ولا تضيع وقتى. يجب أن تفهم أن علاجك الوحيد أن تجترئ على الناس بالكلام.. تعرفهم أو لا تعرفهم، سيان. والأفضل أن يكونوا ممن لا تعرف. ابدأ بالكلام كل من تلقاه إذا استطعت، بأى كلام … وحبذا لو كلمت النساء فإذا فعلت هذا كل يوم، فأنت لا شك تشفى بعد حين». فنفخ عبده صدره استعدادا للاستفسار بالغناء، فريع الطبيب منه وسد أذنيه وخاف أن تطير لعيادته سمعة سيئة، وصاح به: «لالالا.. ابق صوتك الحلو لمن تقابل لا تسرف يا صاحبي» وأسرع فأدراه إلى الباب وأحكم إيصاده وراءه وتشهد. وكانت عيادة الدكتور — ولعلها ما زالت — فى العباسية فلما خرج عبده اتجه إلى آخر محطة الترام الأبيض إلى مصر الجديدة حيث بيت خاله، وكان وهو يمشى شارد الذهن موزع النفس، يفكر فيما أشار به الطبيب من ابتداء الناس بالكلام وإن كان لا يعرفهم. وكيف بالله يبدأ غريبا لا يعرفه بمثل هذه الأصوات: «ممممن ففففضلك السسسساعة كككككام». إن هذا مستحيل. وهذا الطبيب لا شك مجنون إنه طبيب مجانين لا طبيب … ماذا؟ أى طبيب هو؟ لقد أرشده إخوانه إليه أنه أخصائى فى هذه الحالات، غير أنهم لم يقولوا أى حالات فهل تراهم حسبوه؟ ولكن هذا غير معقول وكان قد بلغ المحطة وراح يتمشى ريثما يجىء الترام، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، ولم تكن المصابيح التى رفعتها شركة النور سبعة أمتار فوق الرءوس إلا كالنجوم التى لا تنير، وأنما تريك كيف تكون العتمة، وكيف تغيب معارف الأرض، وكيف تستطيع أن تظن الرجل شجرة ومصباح النور فتاة هيفاء، والظل على الأرض ماء يحسن أن تتقى بلله وتلويثه للحذاء الجميل. وإنه لكذلك، وإذا به يرى رجلا عجيب الثياب مقبلا يتمشى مثله، فوقف مكانه مبهوتا. وكان الرجل لابسا جلبابا قد يصلح أن يكون كلة لسرير، ولكنه لا يصلح ثيابا لآدمى مهما بلغ من الجسامة، وكان الثوب لسعته يكنس الأرض، وقد اضطر صاحبه أن يطوى أكثره تحت أبطه. وكان يحمل عمامته مقلوبة على كفه، كما يحمل الخادم القصعة. وكانت مشيته بطيئة، وعلى ثغره ابتسامة العاشق رأى فى منامه حبيبته تؤاتيه بعد طول الصد والحرمان. وحدث عبده نفسه أن لا ضير من خطاب رجل كهذا، ولكن غرابة أمره صدته. على أن الأمر خرج من يده، فقد دنا منه الرجل وقال بابتسامته المتحجرة: «كله من فضل الله.. كلوا مما رزقناكم» ونظر عبده فى العمامة المقلوبة، فلم يجد شيئا فهم بأن يقول شيئا على سبيل الاعتراض على هذا المزاح، ولكنه لم يستطع أن يجاوز ابتداءاته المعهودة.. وقال له الرجل يشجعه: «لا تستحى أن الخير كثير. اطلب تعط. ألست مؤمنا مسلما.. هه»؟ فلم يفهم ما العلاقة بين الإيمان وبين ما فيه الرجل، ولكنه شعر بأن الحزم يقضى عليه بأن يجيب فقال: «ننننعم ممممـ مسسسسسلم ووو مممموحد ببببالله» فأشرق وجه الرجل، وحنى رأسه تواضعا وقال وهو يبتسم: «انتهينا إذن.. أنا ربك» فذعر عبده وتلفت ناحية الترام، وألفى نفسه يقول وهو يتلفت: «أأأنا مممممؤمن ججججدا». فقال الرجل: «لا عجب أن تتلعثم فى حضرة إلهك، فما كل يوم يظهر الله للناس. لا تقل لأحد أنك رأيتنى، فإنى أحب أن أظهر لمخلوقاتى فى السر». فحنى عبده رأسه مرات عديدة بسرعة لم يكن يدرى أنه قادر عليها أو أن رأسه يحتملها، ومضى الرجل فى كلامه فقال: «أنت من أحسن من خلقت. وإنى لأذكر أنى أردت أن أخلق من طينتك بغلا، ولكن شيئا ألهمنى أن أجعل منك إنسانا … وقد ندمت على ذلك ولكنى أرى الآن أنى لم أخطئ، فاطلب ما تشاء. هل تريد مالا؟ أو تريد غير المال؟ سلنى فليس فىّ بخل … عندى من الحب كل صف يورث الجنون ويضرم النار هنا — ودفع كوعه فى بطنه — حتى لتحرق الصدرية وتزغرد من فوقها. وعندى من الحب ما يجعل منك شاعرا، وثالث تصير به خطيبا، ورابع يغريك بالخيالات ويحبب إليك احتضان أعمدة السرير، فأيها تريد؟ تعال هنا … بعيدا عن الناس … فى هذا الكشك ولنغلقه علينا، فأنى أرى الترام آتيا وأخشى أن يرانا أحد فلا يظفر بنصيبك العادل من وجودى». وأمسكه من ذراعه وجعل يدفعه أو يقوده، فقد كان عبده بادى الزهد فى هذه الخلوة … ولما بلغا الباب كان الترام قد وصل فاندفع الرجل داخلا، واندفع عبده راجعا، ووثب إلى الترام فدخل فى الدرجة الأولى وانحط على كرسى وهو ينهج ويمسح العرق المتصبب. وكانت أمامه سيدة تنظر إليه، وهو غير شاعر بها. وكان يتنهد ويتشهد ويثب من حين إلى آخر، لينظر من النافذة مخافة أن يكون ذلك المجنون قد لحق به. وكان الترام قد قطع شوطا كبيرا، فهدأت نفسه شيئا فشيئا وأبصر السيدة.. وكان الترام لم يقف بعد أن ركبه فلا شك أنها كانت من أول الأمر هنا معه. وتذكر أنه دخل كالمدفع وانحط على المقعد كالحجر وأنه لا شك قد بدر منه ما يريب، فأراد أن يفسر ما لعلها استغربته من سلوكه … غير أن دخول الكمسارى قطع عليه عزمه، وكان الكمسارى ثرثارا فجعل يقول وهو يتناول القرش ويقدم التذكرة: «مجنون هرب من المستشفى.. وجدوه فى محطة العباسية. فى آخر محطة وقفنا فيها، لكنه اختفى بسرعة غريبة. من يعرف يمكن يكون ركب الترام. لكن هذا مستحيل … ومع ذلك أين اختفى؟ ليس فى المحطة مكان يختبئ فيه.. لابد أن يكون ركب الترام». وكان عبده حين سمع ذلك قد ذعر وفتح فمه كالأبله.. وكانت السيدة تنظر إليه وتسمع حديث الكمسارى ثم تنظر إلى عبده، وترى آيات الفزع فى وجهه. وخرج الكمسارى إلى حيث الركاب الآخرون وأحس عبده أن عليه أن يقول شيئا، ولو على سبيل التفكهة والتسلية وليخفف عن هذه السيدة التى لا شك أنها ريعت من حديث الكمسارى، ولا سيما أنه — أى عبده — الوحيد الذى يعرف أين اختبأ المجنون — وهذا العلم وحده يغرى بالكلام. ولكن لسانه خانه على عادته فقال — على حين لم تكن تنتظر كلاما: «أأأأأنا ششفففته». وأمسك، فما فى مثل هذا فائدة، وتذكر أن الطبيب قال له: «غن». فرفع صوته يقول مغنيا: «المجنون يا ستى الذى سمعت عنه مختبىء فى الكشك هناك». ولم تتح له فرصة لإتمام ما بدا.. فقد وقفت السيدة وانطلقت تصرخ بأعلى صوتها وتصيح: «أدركونى.. أدركونى.. الحقوا..». وكان الترام قد بلغ محطة وقف عندها، فلم يسع عبده الا أن ينزل مسرعا … فما بقى له مقام فى هذا الترام وإلا قبضوا عليه على أنه المجنون الهارب، وانطلق يعدو. وأخيرا بلغ البيت وقابل — أول من قابل — بنت خاله، فأدهشه وأدهشها أن الحبسة زالت عنه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/0/
مقدمة
فرغنا والحمد لله من الحلقة الرابعة لسلسة روايات الإسلام وفيها تفصيل خبر المؤامرة المشهورة على قتل الثلاثة العظام الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص في السنة الأربعين للهجرة وتفصيل مقتل الإمام علي مع ما رافق ذلك من الحوادث التي تبين حال الخوارج وانقسام العالم الإسلامي واشتداد الفتن إلى تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية. وسنتبع وراية «١٧ رمضان» هذه برواية أخرى هي الحلقة الخامسة من السلسلة المذكورة نبسط فيها مقتل الإمام الحسين وما يتقدمه ويتبعه من الفتن والحروب وسندعوها «غادة كربلاء» نسبة إلى المكان الذي قتل فيه الحسين. وننشرها ملحقة بالسنة التاسعة من الهلال. ونسأل الله أن يوفقنا إلى تمام هذه الخدمة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/1/
الخوارج
الخوارج جماعة من رجال الإمام علي نقموا عليهِ لأنه قبل بالتحكيم على أثر واقعة صفين (راجع عذراء قريش) وكانوا قبل ذلك في مقدمة الذين حرضوه على قبولهِ. لكنهم لما رأوا التحكيم آل إلى الحكم بخروج الخلافة منه إلى معاوية بن أبي سفيان نقضوا بيعتهُ ونبذوا طاعتهُ وطمعوا في السلطة لأنفسهم فبايعوا واحداً منهم اسمهُ عبد الله بن وهب حاربوا تحت رايتهِ زمناً. ولما صدر حكم الحاكمين بخلع علي وتثبيت معاوية اشتد أزر معاوية وبويع بالخلافة في الشام. وكان الخوارج لا يزالون في بدءِ أمرهم فأخذ عليٌ يتجهز لحرب معاوية. وفيما هو يتجهز جاءه الخبر بتألب الخوارج وتمردهم فنصح لهم وجادلهم وبيَّن لهم أنه لم يخطئْ بقبول التحكيم وإنه لم يقبلهُ إلا إجابة لطلبهم فلم يرتدعوا. فرأى أن يستأصل شأفتهم قبلْ خروجه إلى معاوية. فحاربهم في مواقع عديدة أشهرها واقعة النهروان وراءَ دجلة بالقرب من مكان بغداد انتصر فيها عليهم نصراً مبيناً وشتت شملهم تشتيتاً ولكنهم مازالوا يجتمعون سراً. وفي سنة ٢٨ﻫ فتح عمرو بن العاص مصر وقتل محمد بن أبي بكر عاملها وتولاَّها باسم معاوية فأصبح معاوية خليفة في مصر والشام ومقامهُ دمشق. وبقي علي في العراق والجزيرة والحجاز واليمن ومقامهُ الكوفة. وأخذ معاوية يبعث سراياه إلى بلاد الإمام علي يلتمس افتتاحها للاستقلال بالخلافة. فأنفذ جنداً إلى مكة وآخر إلى اليمن وآخر إلى الجزيرة يحاربون ويناوئون ولكنهم لم يبلغوا ارباً. فدخلت سنة أربعين للهجرة وعليٌّ يتأَهَّب للخروج على معاوية وقد بايعهُ أربعون ألفاً من عسكرهِ على الموت. وفي ما هو في ذلك فاجأه القدر فمات مقتولاً كما سترى تفصيل ذلك في ما يلي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/2/
الكوفة عاصمة الإمام علي
وكان بناؤها في أول أمرها بالقصب فأصابها حريق فاستأذنوا الخليفة عمر في بناءها باللبن فقال «افعلوا ولا يزيدنَّ أحدكم على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنَّة يلزمكم الدولة» ففعلوا ذلك وجعلوا طرقها نوعين المناهج والأزقة وجعلوا عرض المنهج عشرين ذراعاً وعرض الرقاق سبعة أذرع وما بين المناهج أماكن البناء أربعون ذراعاً. والقطائع ستون ذراعاً. وأول شيء خطوه فيها المسجد. فوقف في وسط المدينة رجلٌ شديد النزع رمى إلى كل جهة بسهمٍ وأمروا أن يبنوا ما وراءَ ذلك. وأما الساحة حول ذلك الرامي إلى مرمى سهامهِ فتبقى المسجد. ومازالت الكوفة تعمر حتى اتخذها الإمام علي مقرًّا لهُ بعد واقعة الجمل سنة ٢٦ﻫ فازدادت عمارتها بما تقاطر إليها من الناس بعد أن صارت عاصمة الخلافة وتكاثرت فيها الأبينة وعمرت الأسواق وأنشئت حولها الحدائق والبساتين مما يلي بحيرتها.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/3/
غادة الكوفة
وكان في ضاحية الكوفة على شاطئ البحيرة حديقة من نخيل حولها سور من جذوع النخل يحيط بالحديقة إلا من جهة البحيرة. وفي وسط الحديقة بيتٌ مبني من اللبن يدلُّ شكلهُ على أن سكانهُ من أهل اليسار وقد يخيل لك إذا دخلت الحديقة أنهُ مسكن بعض الأمراء ذوي الخدم والحشم لما ترى بين نخيله من آثار المعالف والأوتاد والسلاسل والقيود. وترى جذوع بعض النخيل قد تأكَّلت من شد الأفراس إليها على توالي الأيام أو من تعهد الأفراس تقشيرها بأسنانها وهي مشدودة إليها. ولو دخلت المنزل لرأيتهُ عبارة عن دار وثلاث غرف مستطرقة بعضها إلى بعض مفروشة أرضها بحصر من سعف النخل فوقها جلود الماعز إلاَّ غرفة في أرضها طنقسة جميلة عليها وسائد من الخز. وفي بعض جوانب الغرفة مصباح ضعيف النور. وعلى إحدى تلك الوسائد فتاة في مقتبل العمر أشرق وجهها بماءِ الشباب. وقد حلت شعرها الأسود فأرسلتهُ على كتفيها فحجب بعض جبينها وغطى عذاريها فحجب قرطيها وسالفيها ولكنهُ زاد عينيها كحلاً وإشراقاً. ترى تلك العينين الدعجاوين البراقتين قد غشيهما الدمع وأخذ ينحدر على وجنتين محمرتين بينهما أنف دقيق مستقيم تحتهُ فم صغير. فإذا زاد انسكاب الدمع استلقتهُ بأطراف جدائلها أو بأحد كميها. وكانت لابسة جلباباً أسود حداداً على فقيديها. ولم يزدها ذلك الحداد إلاّ جمالاً وفتنة. وكأَن تلك الغادة استأْنست بوحدتها فأطلقت لنفسها عنان البكاءِ حيث لا رقيب ولا عدو فأخذت تلطم خديها وتندب فقيدين عزيزين قتلا في يوم واحد. وكانت قطام ثابتة الجأش شديدة الانتقام ذات حيلة ودهاء ما انفكت منذ قتل والدها وأخوها وهي تندبهما وتلتمس الانتقام لهما ولكنها لم تكن تستطيع المجاهرة بذلك والكوفة مقرُّ الإمام علي ومجتمع أنصارهِ وشيعتهِ. فأقامت في منزلها في ضاحية الكُوفة وحيدة ليس معها سوى عبد كهل ربي في أهلها منذ صباه. فلما بليت بمصيبتها هجرها سائر الخدم والأعوان إلاَّ هذا. وكانت ترتاح إلى بث شكواها لهُ وهو يخفف عنها ويعدها بنيل المرام. وكانت قد انفذتهُ في أصيل ذلك اليوم يستقدم لها عجوزاً من مولّدات الكوفة كانت قد ربيت بين ذراعيها منذ نعومة أظفارها وهي تحنُّ إليها حنين الوالدة. فطال غيابهُ وسدل الليل بقائهُ ولم يعد. فانشغل خاطرها وشغلت عن أحزانها بالهواجس لانفرادها في ذلك المكان. ولكنها كانت إذا سكتت هنيهة تذكرت والدها وأخاها ومن كان يقيم في تلك الدار من الخدم والعبيد فتعود إلى البكاء والنحيب.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/4/
العجوز لبابة
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام مسرعة عرفت أنها خطوات عبدها ريحان فأجفلت ولكنها استأْنست بهِ فوقفت وأسرعت لاستقبالهِ. وكان ريحان طويل القامة شديد السواد خفيف العضل سريع الحركة جاحظ العينين أفطس الأنف عظيم الوجنتين بارز الأسنان ويزيدها بروزاً تدلي شفتهِ السفلى وانحسار شفتهِ العليا وكان يستهلك في خدمة سيدتهِ فابتدرها بالسلام. فقالت وما الذي أخرك يا ريحان وإنت تعلم أني وحيدة هنا. أين هي لبابة. قال: إنها قادمة سريعاً. قالت: وما سبب غيابك حتى الآن. قال: كنت في انتظارها وهي تخاطب شاباً وتجادلهُ …. قالت: وأي شاب قال: لا أدري … ها قد أتت وهي تقصُّ عليك الخبر مفصلاً. وما أتمَّ كلامهُ حتى دخلت العجوز تتوكأُ على عكازها وقد احدودب ظهرها وأحناها الكبر فزادها قصراً ولكنها ما زالت سريعة الحركة شديدة العصب وكانت عمصاءَ العينين غائرة الفم لخلو فكيها من الأسنان مجعدة الخدين غائرتهما. فتقدمت إلى قطام وقد غطت شعرها الشائب بنقاب أسود يكاد يجر ورائها لطولهِ وقصرها. وحالما دنت منها قبلتها وأخذت تخفف عنها وتقول لا بأس عليك يا ابنتي اعذريني لإبطائي في الحضور. فلم تزدد الفتاة إلاَّ بكاءَ وهي تقول ما الذي يشغلك عني يا خالة وأنت تعلمين أن ليس لي معزٍّ في أحزاني سواكِ. قالت: هوّني عليك يا قطام واستريحي فقد جئتك بالفرج بإذن الله. قالت: من أين يأتيني الفرج ولا يفرج كربتي إلاّ الانتقام … الانتقام. قالت ذلك وحرقت بأسنانها وهي تتشاغل بجمع شعرها وإرسالهِ إلى وراء ظهرها. ثم مسحت عينيها بكمها الطويل وأرسلتهُ إلى كتفها فبانت أساورها ودمالجها حول معصمها الممتلئ ونظرت إلى العجوز كأنها تسألها الإيضاح. فضحكت العجوز وهي تنظر إليها وكأنها تذكرت أمراً محزناً فقطعت ضحكتها بغتة فاستاءَت قطام من ضحكها وهي تبكي وقالت ما بالك تضحكين لعلك تهزأَين بكلامي.. إني والله غير قانعة بغير الانتقام. فأمسكتها العجوز بيدها وأقعدتها على الوسادة وجلست إلى جانبها ونظرت إلى ريحان نظرة فهمَ منها أنها تلتمس خروجهُ لتخلو بقطام. فخرج فلبثت قطام صامتة تنتظر ما تقولهُ العجوز. فإذا هي قد تنحنحت كأنها تتهيأُ لحديث طويل ثم قالت وماذا تريدين الآن يا قطام؟ قالت: أريد الانتقام لوالدي وأخي فقد قتلهما عليُّ ظلماً ولابد من الانتقام. قالت العجوز: ما قولك إذا دبَّرت لك من ينتقم عنك؟ قالت: ومن ينتقم. قولي … قالت: طوّلي بالك ولا تكوني لجوجة.. أتعرفين سعيداً. قالت: وأي سعيد. قالت: سعيد الأموي الشاب الجميل الذي يحبك ويهواكِ. قالت: دعينا من الحب والغرام وحدثيني عن الانتقام. قالت: سبحان الله أجيبي على سؤالي. هل تعرفين هذا الشاب فإنهُ مغرم بك مفتون بسواد عينيك. قالت: نعم أعرفهُ وما تفيدني معرفتهُ. بالله عليك لا تذكري الغرام الآن. إني لا أشعر بعاطفة الحب ولا يهمني أحبني الناس أو أبغضوني. فابتسمت العجوز ابتسامة الاستخفاف وقالت: ياللعجب ما أكثر لجاجتك.. قلتِ إنكِ تعرفين سعيداً فهل تحبينهُ. فأجابت على الفور لا لا.. لا أحبهُ ولا أحب سواه.. إن قلبي لا يشتغل اليوم إلاَّ بالبغض. إني أبغض بعض الناس ولا أحب أحداً. قالت: ولكن إذا كان لابد من الانتقام فيجب أن تحبي سعيداً. قالت: كيف أحبهُ وقلبي لم يبق فيهِ مكان لغير البغض والحقد إني حاقدة ناقمة. قالت: أنا أعلم ذلك ولكن أحبي سعيداً ولو مؤقتاً وهو ينتقم لك. فبغتت قطام ونظرت إلى العجوز وجعلت تتفرس في سحنتها لتتحقق أنها تتكلم الجد فلما آنست الجد في لهجتها قالت: وهل تقولين حقَّاً هل يقدر هذا الرجل على ركوب هذا المركب الخشن.. قالت: إني أجعله يركبهُ فإذا لم يكن أهلاً لهُ فليس أهلاً لحبك.. ما رأيك؟ فصمتت هنيهة ثم قالت. أَأُحبهُ. نعم أحبهُ ولو إلى أَجل قريب.. ولكني لا أظنهُ أهلاً لهذا العمل بل لا أحسبهُ يقدم عليهِ. ولكن قولي لي العلك تتكلمين من عند نفسك أم أنت على يقين مما تقولينهُ. فاعتدلت تلك العجوز المحتالة في مجلسها ونظرت إلى قطام نظر الاهتمام وقالت: اعلمي يا حبيبتي أن سعيداً هذا قد علق بك وأحبك منذ أعوام ولكنهُ لم يكن يجسر على مخاطبة المرحوم والدك بشأنك لأن والدك كان يومئذ في جملة القائمين بنصرة علي. وسعيد كما تعلمين أمويّ أي أنهُ ممن نقموا على علي وقاموا للمطالبة بدم عثمان. فكان يعلم أنهُ إذا طلبك من والدك يومئذ لا ينال غير الفشل. أما بعد أن خرج والدك رحمهُ الله من طاعة علي في جملة من خرج بعد التحكيم حدثتهُ نفسهُ أن يطلبك فخاطبني في شأنك مراراً. ولكن والدك كان مشغولاً بمحاربة علي وشيعتهِ فلم أتمكنْ من التوسط لهُ. فلما علم بمقتلهِ ومقتل أخيك وا أسفاهُ عليهما (وتنهدت وهي تتظاهر بمسح دموعها) عاد إلى مخاطبتي في ذلك. وقد كنت أدافعهُ لعلمي بحزنك الشديد وهو مع ذلك مازال يتردد عليَّ ويستنهضني ويبذل كل مرتخص وغال في سبيل التمتع بهذا الوجه الجميل. فجاءَني اليوم وأعاد الكرة وبالغ في التذلل والاستعطاف فلمّحت لهُ أنهُ إذا أصرَّ على نيلك لابد لهُ من الانتقام لوالدك. فآنستُ منهُ ارتياحاً فأطلت الكلام معهُ وريحان في انتظاري خارجاً وهذا هو سبب تغيبي عنك فما قولك؟ فلما سمعت قطام كلامها استبشرت بنيل مرامها فقالت: «وهل تظنين أنهُ يعدني وعداً شافياً بالانتقام.. هل يتعهد لي بقتل علي بنْ أبي طالب. إني لا أقبل بأقل من ذلك.» قالت: «أظنهُ يقبل ومع ذلك فإني استقدمهُ إليك ونظراً لما أعهده من مهارتك في أساليب السياسة لا أشك في أنهُ يتعهد لك بكل ما تريدينهُ وخصوصاً إذا أظهرت لهُ ميلاً وقلت لهُ إنك تحبينهُ وتفننت في طرق الدلال والتمنع واشترطتِ عليهِ أنكِ لا تتزوجين إلا بعد قتل عليّ. فإذا عاهدك صبرتِ حتى يقتلهُ فإذا لم يفعل وأصاب حتفهُ كان دمهُ على رأسهِ والسلام … ايه؟» فأشرق وجهُ قطام وأحسَّت بارتياح إلى هذا الرأي وقالت «لا ريب عندي إني أحملهُ على التعهد … فاستقدميهِ لنرى ما يكون. ولكن قولي لهُ إني لم أقبل بعد وبالغي بتمنعي وإِبائي وأنا أتمم الحيلة». فضحكت العجوز ضحكة طويلة وقالت «سامحك الله يا قطام ألا تزالين تحسبينني فتاة مثلك وهل تجهلين أين قضيت هذه الشيبة.. ألا تعلمين أني قضيت عمري في مثل هذه الحوادث. فكم أزوجت من الرجال وكم أقنعت من النساء في الزواج بعد أن كان قبولهنّ ضرباً من المحال.. لا تخافي عليّ.. ولا أنا أخاف عليك» قالت ذلك ونادت ريحان فأسرع إليها. فقالت لهُ هل تعرف الشاب الذي كان عندي الليلة. قال: نعم أعرفهُ. قالت: سر إليهِ إنه لايزال في المنزل حيث رأَيتنا الليلة وقل لهُ إن خالتك لبابة تدعوك إليها. قال: وإذا أبى الحضور ماذا أقول لهُ؟ قالت: لا أخالهُ إلاَّ سابقك في الطريق اذهب وادعهُ إلىّ حالاً. قال: سمعاً وطاعة وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/5/
سعيد
وكان سعيد شاباً أمويّاً في حوالي الثلاثين من عمره توفى والدهُ وهو طفل فكفلهُ جدهُ وقضى صباه وشبابهُ مع جده في منزل الخليفة عثمان وكانا شديدي التعلق بهِ.. فلما قتل عثمان كان سعيد وجده في مقدمة الناقمين لعثمان والمطالبين بدمهِ. فلما كانت واقعة الجمل بجوار البصرة كان هو في جملة رجال أم المؤْمنين وظلّ جده مقيماً في مكة لشيخوختهِ. ولما فشل جند أم المؤْمنين وعادت هي إلى مكة عاد هو معها وظلّ عند جده ولم يخرج لواقعة صفين. ولكنهُ كان يتردد إلى الكوفة وكان يسمع بقطام هذه وجمالها وقد رآها مراراً تحت الخمار فوقعت من نفسهِ موقعاً عظيماً ولكنهُ لم يجسر على خطبتها لأن والدها كان قبل تحكيم الحكمين من شيعة الإمام علي فكيف يزوج ابنتهُ لأموي يطالب بدم عثمان. فلما خرج الخوارج عن طاعة الإمام علي بعد التحكيم استبشر بنيل مرامهِ على أنهُ لم يتمكن من السعي في طلبها إلاَّ بعد مقتل والدها وأخيها. فجاءَ لبابة العجوز كما تقدم فاستخدمت هذه العجوز كل دهائها في إغرائهِ على قتل عليّ وتركت بقية الحيلة لقطام لعلمها أنها لا تقلُّ عنها دهاءً ومكراً. وكان سعيد حسن الطوية قليل الاختبار وخصوصاً في ما يتعلق بدهاءِ أولئك العجائز. وكان جميل الصورة معجباً بجمالهِ وكان الحبُّ قد أعمى بصيرتهُ فلم يعد يرى غير قطام ولم يحلم إلاَّ بالحصول عليها وهو لا يصدق أنها ترضى بهِ. فلما جاءَ العجوز في تلك الليلة وخاطبها بشأْنها وأظهرت ما أظهرتهُ من التمنع ازداد رغبةً فيها وبذل كل ما في وسعهِ من الوعود في سبيل إرضائها وبذل للعجوز كل ما يرضيها من المال والحلي فوعدتهُ أن تسعى في ترغيبها ومضت وتركتهُ يتقلب على جمر الانتظار. فلما جاءَهُ العبد يستدعيهِ إليها خفق قلبهُ وهرول مسرعاً وهو يتعثر بأذيالهِ فمرّ في أسواق الكوفة وهو لا يرى شيئاً من الأسواق ولا ناسها لانشغال بالهِ بما سيلاقيهِ من البغتة عند اجتماعهِ بقطام منى قلبهِ وغاية مرامهِ فكان إذا تصوَّر رضاءَها أشرق وجههُ وكاد يطير فرحاً. فيعترض تصوُّره ما آنسهُ من التمنع عند مخاطبتهِ العجوز وما بدر منهُ من الوعد بالانتقام فتنقبض نفسهُ ويضطرب لهول ذلك العمل. ولكن هيامهُ كان يهون عليهِ كل عسير ويصوّر المحال ممكناً. فخيل لهُ أن قطاماً إذا رأت جمالهُ وتحققت ما هو فيهِ من الوجد لا تلبث أن تقع في هواه وتغضي عن أمر الانتقام. فظل سعيد يتمشى بين النخيل يتشاغل برؤْية أظلالها مع ما يسمعهُ من نقيق الضفادع على شاطئ البحيرة وأَخذ يهيئُ نفسهُ لمقابلة قطام فأصلح عمامتهُ ومشط شاربيهِ ولحيتهُ ونفض جبتهُ وأصلحها ولبث في انتظار العبد فأَبطأَ عليهِ فانشغل خاطرهُ وحدثتهُ نفسهُ بالاستئذان والدخول إلى الدار. وفيما هو يهمُّ بذلك سمع حركة ومشياً وبعد هنيهة بان لهُ نورٌ عند الباب وسمع ريحان يناديهِ فهرول وقلبهُ يخفق وركبتاه ترتعشان رعشة الحب والبغتة. فعثرت رجلهُ بحبل من ألياف النخيل كان مشدوداً في جزع بعض النخيل حتى كاد يقع ولكنهُ تجاهل عن ذلك وتقدم إلى باب الدار فاستقبلتهُ لبابة مرحبة ومشت أمامهُ وريحان يتقدمها بالمصباح. فدخلت بهِ الغرفة التي كانت قطام فيها ودعتهُ للجلوس على وسادة وجلست هي على وسادة وترك ريحان المصباح هناك وخرج. وكان سعيد يتوقع أن يرى قطاماً هناك فلم يَرها فانشغل بالهُ وزاد انشغالهُ لسكوت لبابة عن الحديث وجمودها. فقال مالي أراكِ ساكتة يا خالة ألم ترسلي إلىَّ بالمجيء. قالت: بلى. قال: وأين قطام. فتنهدت وقالت هي هنا في الغرفة الأخرى وسنذهب إليها بعد قليل. قال: أراكِ في قلق … مالذي جرى … قولي. قالت: لم يجر شيء … وتظاهرت كأنها تكتم خبراً. فقال: وكيف. مالي أراك كئيبة أخبريني لقد نفد صبري. قالت: لا ينشغل خاطرك ياولدي إذ ليس هناك ما يدعو إلى القلق. غير أني مللت من استعطاف هذه الفتاة وترغيبها وتشويقها فلم أرَ منها إلاَّ البكاء والنحيب ولم أسمع إلاَّ قولها «الانتقام الانتقام» ومن يخاطبها بغير هذا الموضوع لا يسمع منها جواباً. قال: ألم تذكري لها شيئاً من حديثي معك. قالت: «كيف لا وهي لو لم أذكر لها اسمك مشفوعاً بوعدك بالانتقام لما أجابتني» ثم أدنت فمها من أذنهِ وقالت: «ولكنني آنست من خلال ذلك التمنُّع أنها ترتاح إلى ذكر اسمك وأظنها تحبك كثيراً ولكن انشغالها في الانتقام شغلها عن الحب ولذلك فقد سرَّت لما أخبرتها بوعدك ولكنها لم تصدق قولي كأَنها تحسبني أقول مزاحاً أو لعلها استبعدت ذلك منك أو خافت عدولك عنهُ لجهلها ما أنت مفطور عليهِ من الحمية وكرم الأخلاق» قالت العجوز لك بنغمة تدلُّ على ثقتها التامة بشرف نفس سعيد وصدق وعده. ثم شغلت نفسها بالنحنحة والسعال ومسح آماقها مما يتحلب فيها من الدمع المتواصل لضعف الشيخوخة وصبرت لترى ما يبدو منهُ قبل إتمام الحديث. أما هو فآثر قولها فيهِ وهاج ما في قلبهِ فقال لها: «لا ألوم قطاماً لأنها لا تعرفني بعد فهي معذورة إذا ساءَت الظن بي.. ولكن أين هي أريني إياها فأُؤكد لها وعدي فتعلم من هو سعيد ….» قالت هي هنا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.