text
stringlengths
1
1.34k
عبر عدسة التمييز المظهري
نيويورك هل تعاني المرأة من ازدواجية المعايير في محل العمل في ما يتعلق بمظهرها وهل تجاوزنا الظل الخفي (وفي بعض الأحيان الجلي) للتمييز على أساس الجنس في التوظيف والترقية بما يؤثر بشكل غير متناسب على النساء الذي وصفته في عام باعتباره حاصل الجمال المهني
من الصعب أن أصدق أننا لا نزال نتحدث عن أمور كهذه بعد أكثر من عشرين عاما ولكن يبدو أن هذا أمر واجب علينا وعندما يسوق مناهضو الحركة النسائية حجة مفادها أن الساحة أصبحت الآن ممهدة بشكل متكافئ للنساء وأن أي فجوة بين الجنسين في الإنجاز والأجر تعكس اختيارات النساء أنفسهن فيتعين عليهم أن ينظروا أولا في ما اصطلح على تسميته بالتمييز المظهري
في تعليق نشر مؤخرا وصف عالم الاجتماع مايكل كيميل حالة في ولاية أيوا في الولايات المتحدة حيث فصلت من عملها طبيبة الأسنان البالغة من العمر عاما ميليسا نيلسون ليس بسبب مسائل تتعلق بأدائها لوظيفتها بل لأن رئيسها الذكر وجد أنها تتمتع بجاذبية جنسية كبيرة إلى الحد الذي يجعله عاجزا عن العمل بجانبها دون خوف من التفريط في عهوده الزوجية وعندما رفعت نيلسون دعوى قضائية ضده أصدرت المحكمة حكما شائنا أيدته المحكمة العليا لولاية أيوا أكَد حقه في فصلها لهذا السبب
وقد يزعم المرء أن الرجال أيضا يعاقبون أو يحصلون على ترقيات على أساس مظهرهم بل إن خبراء الاقتصاد وجدوا أن هؤلاء الذين يتمتعون بمظهر فوق المتوسط يكسبون أكثر من نظرائهم الأقل جاذبية وأن العاملين من ذوي المظهر الأقل من المتوسط يكسبون من إلى أقل من نظرائهم المتوسطين
والحق أن علاوة المهنية تنسحب على مظهر الذكور أيضا الآن فنحن نعلم جميعا أن هناك من الأسباب ما يدفع الساسة إلى إنفاق دولار على قصة الشعر وكبار المسؤولين التنفيذيين إلى التباهي بممارسة التدريبات الرياضية عند الفجر تحت إشراف مدربين شخصيين إن المظهر الذي ينم عن الصحة واللياقة والشباب والمهنية يشكل الآن علامة يستخدمها النخب من الذكور للإشارة فيما يبنهم على مكانة كل منهم في اقتصاد المستهلكين والشركات المتقدم
ولكن كما تظهر حالة نيلسون فإن النساء لا يخضعن فقط للتمييز المظهري الصريح الذي لا يقل جورا الذي قد يواجهه الرجال أيضا في عملهم
فالنساء الشابات يعانين بشكل خاص من التمييز في محل العمل عندما يُنظَر إليهن باعتبارهن جذابات للغاية من الناحية الجمالية إن العديد من أماكن العمل تضع النساء الشابات الجذابات في وظائف الدعم المباشرة أو التابعة حيث يكون بوسعهن وهن يقدمن القهوة للرجال من ذوي المقام الرفيع في الاجتماعات أن يضفن قيمة للعلامة التجارية للشركات غير أنهن لا يضفن بذلك أي قيمة لمستقبلهن المهني
إن النساء الشابات يكلفن بمثل هذه الأدوار المرئية الأشبه بوظيفة قائدات التشجيع حتى عندما يكون تطورهن المهني أكثر ملاءمة لغيابهن عن المختبرات أو الكدح في وقت متأخر من الليل أو معالجة غرفة من موقع السلطة وربما الأمر الأسوأ ذلك الضرر اللاحق بثقتهن في أنفسهن وهن يقضين العشرينات من أعمارهن في قلق وتوتر في حين لا ينطبق هذا على أقرانهن من الرجال أيا كان مدى جاذبيتهم على الإطلاق تقريبا حتى أن تقدمهم (الحد الأدنى منه عموما) يعكس تقييما لمظهرهم ولا يرتبط هذا بإنجازاتهم
والأمر الأكثر خداعا وتضليلا هو رد الفعل الانعكاسي حتى اليوم في وسائل الإعلام الغربية الكبرى حيث يتم توجيه الاهتمام بشكل منتظم نحو المظهر والجاذبية الجنسية لدى النساء القويات وخاصة أولئك اللاتي يعملن في عالم السياسة وقد نشرت صحيفة هافينجتون بوست بما يخالف ما عودتنا عليه من عقلانية تقريرا عن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تحت العنوان الرئيسي فتحة صدر رداء ميركل الواسعة تحوز مركز الصدارة في الانتخابات الألمانية في حين لفت المدونون المناهضون لميركل الانتباه إلى فجوة الجاذبية لديها
وقد استخف حزب داي الألماني الذي أسسه محررو المجلة الساخرة تيتانيك بالمجاز الهجومي فأدار حملة تحت شعار امرأة نعم ولكن لابد أن تكون جذابة وعلى النقيض من هذا فإن الراحل كريستوفر هيتشنز لم يكن يمزح عندما حلل الجاذبية الجنسية التي تتمتع بها مارجريت تاتشر
إن هذا الميل المستمر إلى إضفاء نوع من الجاذبية الجنسية على النساء القويات يؤكد على الحجة التي سقتها قبل أكثر من عقدين من الزمان في كتابي أسطورة الجمال وهي أن مظهر النساء يستخدم ضدهن بشكل أكثر صرامة كتكتيك لتشتيت الانتباه عندما تكون القوة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية الحقيقية على المحك وتكاد تصبح في متناول أيديهن
وإنه لأمر محبط ومربك بلا أدنى شك بالنسبة لأي امرأة ذات نفوذ أن يتعامل معها المجتمع باعتبارها فتاة جميلة وغبية أو أن تصفها المنافذ الإعلامية الكبرى بأنها غير جذابة أو مسنة أو بدينة أو رديئة الملبس والواقع أن هذا التدقيق الشائن هو السبب وراء إحجام النساء الشابات اللاتي يتمتعن بصفات قيادية عظيمة عن الدخول إلى دائرة الضوء الشعبية غالبا فهن ينظرن إلى هذا الاعتداء سواء كان إيجابيا أو سلبيا باعتباره مشكلة غير قابلة للحل ولا يواجهها الرجال الأقوياء ببساطة
فهل حدث في أي وقت على الإطلاق أن أطلقت الصحافة التجارية وصف الظريف على جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لمؤسسة جيه بي مورجان أو علقت على شعره المصفف الجميل أو عضلات بطنه اللطيفة وكأنه راقص تعر ذكر وهل حدث من قبل أن سألت هذه الصحافة بن برنانكي ماذا عن شعر وجهك أننا لسنا في عام وهل حدث في أي وقت مضى أن سأل المراسلون السياسيون نيوت جينجريتش عن زيادة وزنه أو عدم لياقته أو ملابسه غير المهندمة
من المؤكد أن أي منفذ إعلامي لن ينشر مثل هذه الملاحظات التي عندما توجه إلى الرجال تبدو مهينة وشخصية بدرجة غير لائقة وغير ذات موضوع لماذا إذن لا يزال من المقبول أن ينشر تعليق عام حول فتحة صدر رداء ميركل أو كاحلي هيلاري كلينتون
ينبغي لنا أن نحاول تخيل ذلك العالم حيث يناضل أمثال جيمي ديمون ونيوت جينجريتش يوميا حتى يتسنى لهم الحفاظ على تركيزهم على وظائهم التي تفرض عليهم ضغوطا قوية في حين يواجهون بسيول من التعليقات حول مدى وسامتهم وذوقهم الرفيع في الملبس أو بدلا من ذلك كيف أنهم يتسمون بعدم اللياقة البديية أو أنهم أصبحوا في منتصف العمر ويفتقرون إلى الجاذبية الجنسية
الواقع أن العديد من البلدان لديها هيئات حكومية تتلخص مهمتها في ضمان عدم تعرض النساء أو الرجال للتمييز في محل العمل على أساس مظهرهن ولكن من المؤسف أن هذه المهمة لم تكتمل
ولكن لأن وسائل الإعلام تلعب دورا رئيسيا في إدامة هذا المعيار المزدوج في التعامل مع النساء في نظر عامة الناس فإن استنان التشريعات ضد مثل هذه الممارسات الرديئة في محل العمل أو التقاضي ضدها لن يساعد كثيرا ويتعين على أكثر المعلقين جاذبية أن يدققوا في فحص أنفسهم وإذا فعلوا ذلك بطريقة صريحة نزيهة فمن المؤكد أن ما سيرونه في المرآة لن يعجبهم
جنة العمال
كامبريدج تُرى هل يكون الانبعاث الجديد للنقابات العمالية سببا في توقف تروس العولمة عن الدوران أم هل تخدم القوة المتزايدة لهذه النقابات والاتحادات كأداة تجعل العولمة أكثر قدرة على الاستمرار من خلال تعزيز المساواة والعدالة أيا كانت الإجابة فإن النقابات العمالية تشكل عاملا لا يمكن التنبؤ بأبعاده في تطور نظامنا الاقتصادي خلال العام وما بعده
لقد بات النفوذ المتصاعد للنقابات جليا واضحا في العديد من الأحداث الأخيرة مثل الصفقة المثيرة للجدال والتي عقدتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل لرفع الحد الأدنى لأجور موظفي البريد وإعراب العديد من المرشحين الرئاسيين الأميركيين بصراحة عن انزعاجهم بشأن قضايا التجارة والهجرة وإعلان القيادات الصينية عن قلقها بشأن معايير العمل
علاوة على نفوذها السياسي المتصاعد تشهد النقابات أيضا نهضة واضحة فيما يتصل باحترامها على المستوى الفكري فبعد عقود من الانتقادات الموجهة إليها من قِبَل خبراء الاقتصاد لتسببها في رفع معدلات البطالة وخنق النمو أصبحت النقابات الآن تتلقى الدعم من زعماء الفكر مثل بول كروغمان الذي يزعم أن النقابات الأكثر قوة مطلوبة في مواجهة أكثر تجاوزات العولمة تطرفا
كان البروز المفاجئ للنقابات باعتبارها قوة سياسية بمثابة تطور مذهل بصورة خاصة في الولايات المتحدة حيث انحدرت معدلات الالتحاق بعضوية نقابات القطاع الخاص من في العام إلى اليوم ويبدو أن الشركات في الولايات المتحدة من شركات التقنية العالية مثل غوغل إلى شركات التجزئة الضخمة مثل وال مارت قد وجدت السبل اللازمة لإبقاء صناعاتها معزولة عن النقابات فقد تركزت المعاقل النقابية في القطاع العام حيث بلغت معدلات الالتحاق بالنقابات كانت واحدة من أفضل صديقاتي من أيام الطفولة قد تزوجت بأحد منظمي النقابات الذي وجد صعوبة في الاستقرار في أي عمل في الولايات المتحدة فقرر في النهاية الانتقال بأسرته إلى كندا المزدهرة بالإضرابات العمالية
اليوم يرغب زعماء السياسة في الولايات المتحدة مثل نائب الكونغرس بارني فرانك في إعادة النقابات إلى سابق قوتها ولكن تظل هناك بعض الأسباب الوجيهة للريبة والتشكك ففي دول فقيرة نسبيا مثل الصين قد تساعد النقابات الحقيقية في موازنة قوة أصحاب العمل وجلب منافع تنسحب على جودة مستويات المعيشة وتتجاوز تكاليف النمو والحقيقة أن ظروف العمل في المصانع في بعض مناطق الصين تذكرنا بقوة بظروف العمل في الولايات المتحدة قبل إنشاء النقابات في أوائل القرن العشرين فالآلاف من العمال الصينيين يموتون في كل عام في مناجم الفحم التي تفتقر في بعض الأحيان إلى تدابير السلامة الأساسية
أما بالنسبة للولايات المتحدة والدول الغنية في أوروبا فإن الحجة التي تزعم أن النقابات الأكثر قوة من شأنها أن تجلب من المنافع ما يفوق التكاليف مشكوك في صحتها بعض الشيء ذلك أن أغلب العمال اليوم قد اكتسبوا بالفعل الحقوق القانونية والتشريعية التي تغطي مناطق الحماية الأساسية التي حاربت النقابات من أجلها طيلة القرن الماضي
وكثيرا ما يخدم النفوذ النقابي اليوم كأداة لنشر الممارسات غير المرنة في العمل وترسيخ هياكل الأجور الثابتة التي لا تكافئ الجهد في العمل والمهارة على النحو الوافي وليس من المدهش أن تتركز النقابات العمالية في القطاع العام حيث الإنتاجية متدنية والقيود المالية أكثر تساهلا ولسوف نجد أن نقابات المعلمين بصورة خاصة تشكل كارثة حيث تعمل على إعاقة أي جهود رامية إلى تحسين الأنظمة التعليمية في العديد من بلدان العالم
قبل عصر العولمة الحديث كان بوسع النقابات أن تزدهر بتنظيم نفسها على المستوى الوطني الأمر الذي منحها قدرة عظيمة على المساومة في مواجهة أصحاب العمل والمستهلكين على السواء أما الآن وبعد التوسع الهائل للتجارة العالمية في مرحلة ما بعد الحرب فقد تآكلت القوى الاحتكارية لدى أغلب النقابات وهذا هو السبب الذي جعل النقابات في مناطق كثيرة من العالم النامي تناضل باستماتة من أجل منع مفاوضات التجارة الحرة التي قد تؤدي إلى إضعاف موقفها بصورة أخطر
الحقيقة أن بعض القضايا التي تدافع عنها النقابات مثل حقوق الإنسان وحماية البيئة ليست قابلة للجدال إلا أن الدوافع التي تحرك النقابات تصبح محل تساؤل وشك حين تحاول الربط بين هذه القضايا والتجارة
ومن بين الأمثلة على ذلك الضغوط التي تمارسها النقابات لمحاربة اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكولومبيا التي من شأنها أن تحقق قدرا عظيما من النفع بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية في حالة التصديق عليها والحقيقة أن التساؤلات المشروعة بشأن الكيفية أدارت بها الحكومة الكولومبية حربها الأهلية الملحمية ضد المتمردين الذين تمول أنشطتهم تجارة المخدرات لا تبز قضايا أخرى أكثر اتساعا ولهذا يتذمر الناشطون في مناهضة هذا التحالف بدعوى أن كولومبيا معادية للنقابات لأنها لا تحمي أعضاء النقابات من عنف المتمردين بيد أن الحكومة الكولومبية تحتج بأن كل أهل كولومبيا يعانون من عنف المتمردين بل إن أعضاء النقابات يتعرضون لقدر أقل من العناء من عنف المتمردين مقارنة ببقية السكان
من المؤسف أن هذه المسرحية يعاد تمثيلها فيما يتصل بمجموعة كبيرة من القضايا التجارية بما في ذلك العديد من القضايا المرتبطة بالصين
إن الدول الغنية أكثر قدرة على التعامل مع قضية إعادة توزيع الدخول من خلال فرض الضرائب وتطبيق نظام الإعانات بدلا من إصدار القرارات الحكومية لتعزيز قوة النقابات ففي العديد من البلدان اليوم يتحمل الأثرياء نسبة ضئيلة من الضرائب إلى الحد الذي أصبح معه من الأفضل أن تتحول هذه البلدان إلى نظام الضريبة الثابتة مع الحرص على تطبيق مستويات إعفاء ضخمة بحيث لا تتحمل الأسر ذات الدخول المتدنية أي نسبة من الضرائب
أما في الدول ذات الدخول المتوسطة فقد يكون القرار أكثر صعوبة ولكن هنا أيضا قد يكون تعزيز الحقوق القانونية والتشرعية للعمال وبالتالي الاستغناء عن أغلب النقابات هو التوجه الأمثل في التعامل مع هذه القضية
من المؤسف أنه بات من المرجح أن يتحول نمو النفوذ السياسي للنقابات إلى عامل رئيسي في تفاقم حالة عدم الاستقرار على صعيد التجارة والنمو فضلا عما قد يترتب على ذلك من عواقب مجهولة الأبعاد وحين نرى زعماء السياسة في العديد من الدول الغنية وهم يعززون من قوة النقابات بفضل تناحرهم بشأن التجارة الحرة والهجرة فإننا لا نملك إلا أن نتصور كافة أسباب القلق والانزعاج إزاء المتاعب التي تنتظرنا جميعا وهذا هو السبب الذي من شأنه أن يحول النقابات إلى عامل اقتصادي لا يمكن التنبؤ بأبعاده خلال العام
تطور العمل
كمبريدج في منتصف ديسمبر/كانون الأول من المقرر أن تصدر منظمة الأمم المتحدة أحدث تقاريرها السنوية عن التنمية البشرية ويركز تقرير هذا العام على طبيعة العمل كيف تتحول الطريقة التي نكسب بها عيشنا بفِعل العولمة الاقتصادية والتكنولوجيات الجديدة والإبداعات في مجال التنظيم الاجتماعي ولا ريب أن آفاق البلدان النامية بشكل خاص متباينة إلى حد كبير
الواقع أن العمل أمر غير سار بالنسبة لأغلب الناس في أغلب الوقت فتاريخيا كان القيام بقدر كبير من العمل المضني هو الكيفية التي أصبحت بلها البلدان غنية ومن خلال الثراء يتسنى لبعض الناس الحصول على الفرصة للقيام بعمل سار
فبفضل الثورة الصناعية قدمت التكنولوجيات الجديدة في المنسوجات القطنية والحديد والصلب والنقل مستويات متزايدة الارتفاع من إنتاجية العمل للمرة الأولى في التاريخ وفي بريطانيا أولا في منتصف القرن الثامن عشر ثم في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية تدفق الرجال والنساء من المناطق الريفية إلى المدن لتلبية طلب المصانع المتزايد على العمل
ولكن على مدى عقود لم يكسب العمال إلا القليل من الفوائد المترتبة على ارتفاع الإنتاجية فقد عملوا لساعات طويلة في ظروف خانقة وعاشوا في مساكن مزدحمة وغير صحية ولم تشهد دخولهم نموا يُذكَر بل إن بعض المؤشرات مثل متوسط طول قامات العمال تقترح أن مستويات المعيشة ربما كانت في انخفاض لفترة من الوقت
وفي نهاية المطاف حولت الرأسمالية نفسها وبدأت مكاسبها تتوزع على نطاق أكثر اتساعا ويرجع هذا جزئيا إلى أن الأجور بدأت ترتفع بطبيعة الحال مع نضوب معين الفائض من العمال الريفيين ولكن ما لا يقل عن هذا أهمية هو أن العمال نظموا أنفسهم للدفاع عن مصالحهم وخوفا من اندلاع الثورات تنازل أرباب الصناعة وامتدت الحقوق المدنية والسياسية إلى الطبقة العاملة
وعملت الديمقراطية بدورها على ترويض الرأسمالية فتحسنت ظروف العمل مع نجاح تكليفات الدولة أو الترتيبات التفاوضية في خفض ساعات العمل وتوفير قدر أعظم من السلامة فضلا عن الفوائد الأسرية والصحية وغير ذلك من الفوائد وبفضل الاستثمار العام في التعليم والتدريب أصبح العمال أكثر إنتاجية وأكثر حرية في ممارسة الاختيار
ونتيجة لهذا ارتفع نصيب العمال في فائض المؤسسات ورغم أن وظائف المصانع لم تصبح سارة قط فقد أصبحت الوظائف العمالية الآن قادرة على تمكين مستويات معيشة الطبقة المتوسطة معل كل ما يصاحبها من الاحتمالات وفرص أنماط الحياة المختلفة
وفي نهاية المطاف تسبب التقدم التكنولوجي في تقويض الرأسمالية الصناعية فقد ارتفعت إنتاجية العمل في الصناعات التحويلية بسرعة أكبر كثيرا من حالها في بقية قطاعات الاقتصاد وبات من الممكن إنتاج نفس الكمية أو أعلى من الصلب والسيارات والأجهزة الإلكترونية بالاستعانة بعدد أقل كثيرا من العمال ولهذا انتقلت العمالة الفائضة إلى صناعات الخدمات التعليم والصحة والتمويل والترفيه والإدارة العامة على سبيل المثال وهكذا وُلِد اقتصاد ما بعد الصناعة
وأصبح العمل أكثر إمتاعا للبعض ولكن ليس الجميع فلكي يزدهر أولئك من أصحاب المهارات ورأس المال والذكاء في عصر ما بعد الصناعة قَدَمَت الخدمات فرصا وفيرة وبات بوسع المصرفيين والمستشارين والمهندسين الحصول على أجور أعلى كثيرا من تلك التي كان بوسع أسلافهم في العصر الصناعي الحصول عليها
وعلى نفس القدر من الأهمية سَمَح العمل المكتبي بدرجة من الحرية والاستقلالية الشخصية التي لم تتوفر لعمال المصانع قط وبرغم ساعات العمل الطويلة (والتي ربما كانت أطول من ساعات العمل في الوظائف الصناعية) حظي من امتهنوا الخدمات بقدر أعظم من التحكم في حياتهم اليومية وقرارات العمل ولم تكن أجور المعلمين والممرضين على سبيل المثال مجزية بنفس القدر ولكنهم أيضا تحرروا من العمل الميكانيكي الشاق الرتيب في المصانع
ولكن بالنسبة للعمال الأقل مهارة كان العمل في وظائف قطاع الخدمات تعني التخلي عن الفوائد التفاوضية التي توفرها الرأسمالية الصناعية وكثيرا ما كان الانتقال إلى اقتصاد الخدمات مصحوبا بانحدار قوة النقابات وتراجع تدابير حماية العمالة وقواعد المساواة في الأجور الأمر الذي أدى إلى إضعاف قدرة العمال على المساومة وأمنهم الوظيفي إلى حد كبير
وهكذا فتح اقتصاد ما بعد الصناعة هوة جديدة في سوق العمل بين أولئك الذين يعملون في وظائف الخدمات المستقرة العالية الأجر والمرضية أولئك الذين يعملون في وظائف مؤقتة عابرة ومتدنية الأجر وغير مرضية وقد اشترك عاملان في تحديد نصيب كل نمط من الوظائف وبالتالي مدى التفاوت الناتج عن انتقال ما بعد الصناعة في تعليم قوة العمل ومستوى مهاراتهم ومدى الطبيعة المؤسسية لأسواق العمل في الخدمات (فضلا عن التصنيع)
وأصبحت مستويات التفاوت والإقصاء والازدواجية أكثر وضوحا في البلدان حيث كانت المهارات سيئة التوزيع وحيث كانت الخدمات أقرب إلى الأسواق الفورية المثالية وظلت الولايات المتحدة حيث يضطر العديد من العاملين إلى شغل وظائف متعددة من أجل تحقيق مستويات الحياة اللائقة المثال الأبرز لهذا النموذج
ولا يزال الغالبية العظمى من العمال يعيشون في بلدان ذات دخل منخفض ومتوسط ولم يخضعوا بعض لهذه التحولات وهناك سببان للاعتقاد بأن مسارهم في المستقبل لن يتخذ نفس الوجهة تماما (أو لا ينبغي له ذلك)
فأولا لا يوجد من الأسباب ما قد يمنع تحقق ظروف العمل الآمنة وحرية تكوين الجمعيات والمساومة الجماعية في مراحل مبكرة من التنمية مقارنة بما حدث تاريخيا وتماما كما لا ينبغي للديمقراطية السياسية أن تنتظر بالضرورة حتى ترتفع الدخول فإن معايير العمل القوية لا ينبغي لها أن تأتي بالضرورة بعد التنمية الاقتصادية ولا يجوز حرمان العمال في البلدان ذات الدخل المنخفض من حقوقهم الأساسية لصالح التنمية الصناعية وأداء الصادرات
وثانيا تضافرت قوى العولمة والتقدم التكنولوجي لتغيير طبيعة العمل في قطاع التصنيع على النحو الذي يجعل من الصعب للغاية إن لم يكن من المستحيل تمكين الوافدين الجدد من محاكاة خبرة التصنيع في بلدان النمور الآسيوية الأربعة أو الاقتصادات الأوروبية والأميركية الشمالية من قبلها والواقع أن العديد (إن لم يكن أغلب) من البلدان النامية أصبحت اقتصادات خدمية من دون الاضطرار إلى تطوير قطاع صناعي ضخم وهي العملية التي أسميتها انحسار التصنيع المبكر
ولكن هل يكون انحسار التصنيع المبكر نعمة مقَنَعة يتمكن بفضلها العمال في بلدان العالم النامي من تجاوز كدح التصنيع
إذا كان الأمر كذلك فليس من الواضح كيف يمكن بناء مثل هذا المستقبل ذلك أن المجتمع حيث أغلب العمال مستقلين أصحاب محال تجارية أو مهنيين مستقلين من أصحاب العمل الحر أو فنانين وهم الذين يحددون شروط عملهم في حين يعيشون حياة لائقة من غير الممكن أن يتحقق إلا عندما تكون إنتاجية كافة قطاعات الاقتصاد مرتفعة للغاية بالفعل إذ تتطلب الخدمات العالية الإنتاجية مثل تكنولوجيا المعلومات أو خدمات التمويل وجود عمالة جيدة التدريب وليس ذلك النوع من العمال غير المهرة المتوفر بكثرة في البلدان الفقيرة
هناك إذن خبر سار وآخر مزعج بشأن مستقبل العمل في البلدان النامية فبفضل السياسة الاجتماعية وحقوق العمل بات بوسع العمال أن يصبحوا أصحاب مصلحة كاملين في الاقتصاد في مرحلة أسبق في عملية التنمية ومن ناحية أخرى من المرجح أن يعمل المحرك التقليدي للتنمية الاقتصادية التصنيع بقدرة أقل كثيرا وسوف تشكل التركيبة الناجمة عن ذلك من ارتفاع الإنفاق العام وانخفاض القدرات المنتجة للدخل تحديا كبيرا للاقتصادات النامية في كل مكان
مهمة جديدة للبنك الدولي
واشنطن العاصمة تُعَد الثورة الخضراء من بين النجاحات العظيمة في تاريخ التنمية الاقتصادية ففي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كان تخليق وتبني أصناف عالية الغلة من الحبوب سببا في تحويل الاقتصاد الهندي وإنقاذ المليارات من البشر من الجوع في قسم كبير من العالم النامي
ولكن اليوم أصبحت المؤسسة المسؤولة عن الثورة الخضراء اتحاد يتألف من خمسة عشر مركز بحثي في مختلف أنحاء العالم ويحمل اسم المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية تحت التهديد ذلك أن البنك الدولي وهو أحد الممولين الرئيسيين لهذه المؤسسة يفكر في سحب دعمه المالي
وهذا القرار في حد ذاته من شأنه أن يثير ما يكفي من القلق والانزعاج ذلك أن مهمة المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية هي توفير الأمن الغذائي العالمي وتحمل البحوث الزراعية الأساسية إمكانات هائلة لتوفير عوائد اقتصادية لفقراء العالم ولكن الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج هو الإشارة التي يرسلها البنك الدولي وهي أنه لن يدعم بعد الآن المنافع العامة العالمية التي تعاني من نقص التمويل والتي تشكل أهمية بالغة للحفاظ على التقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تحقق على مدى القرن الماضي
الواقع أن الخفض المقترح لتمويل المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية يشكل جزءا من جهود البنك الدولي لخفض ميزانيته الإدارية بنحو مليون دولار أميركي وهو التعهد الذي بذله رئيس المنظمة جيم يونج كيم في عام ويقدم البنك الدولي حاليا منحة سنوية بقيمة مليون دولار للمجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية وسوف تنخفض هذه المنحة بنحو مليون دولار مع احتمال سحب المبلغ بالكامل تدريجيا في غضون بضع سنوات
الواقع أن المال الذي ينطوي عليه هذا الأمر لن يكون في حد ذاته مهما بشكل كبير لأي من المنظمتين فالأرقام التي تجري مناقشتها ضئيلة مقارنة بمبلغ مليار دولار الذي تعهدت به في عام الجهات المانحة للبنك الدولي للمساعدة في مكافحة الفقر العالمي وتقديم المساعدة للبلدان ذات الدخل المنخفض وبالنسبة للمجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية لن تكون التخفيضات المقترحة مدمرة برغم كونها مؤلمة ففي عام أنفقت المجموعة مليون دولار لتمويل أنشطتها
ومع هذا فإن البنك الدولي مؤسسة التنمية العالمية البارزة يعلن في الأساس أن البحوث الزراعية ليست أولوية من أولويات التنمية والواقع أن تمويل المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية ليس التمويل الوحيد المعرض للخطر ذلك أن البنك الدولي يدرس أيضا خفض مساهماته الصغيرة رغم كونها محفزة لشبكة التنمية العالمية والتي تمول الباحثين في البلدان النامية كما بات تحت التهديد أيضا دعم البنك لمبادرة شفافية الصناعات الاستخراجية والتي تروج للإفصاح عن الصفقات المتعلقة بالموارد الطبيعية لمصلحة الحد من الفساد وهي نفس حال تمويله للبرنامج الخاص للبحوث والتدريب في مجال أمراض المناطق المدارية وهذه البرامج وغيرها تتلقى الدعم من مرفق منح التنمية التابع للبنك والذي كان مستهدفا بوصفه مصدرا محتملا لخفض الميزانية الإدارية
لم تكن الأموال التي يقدمها البنك الدولي لدعم توفير المنافع العامة العالمية المرتبطة بالتنمية تشكل جزءا كبيرا من إنفاقه قط ذلك أن المبلغ الذي يقرب من مليون دولار سنويا الذي ينفقه البنك في دعم المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية وغير ذلك من الجهات المتلقية للمنح يتضاءل بالمقارنة بنحو مليار دولار في هيئة قروض والتي قدمها البنك في عام ولكن التخفيضات المقترحة من شأنها أن تفرغ مساحة من أنشطة البنك التي ينبغي توسيعها وليس تقليصها
لا شك أن البنك الدولي في بدايته لم يكن متصورا بوصفه مقدما للمنح لمؤسسات تعمل في توفير المنافع العامة العالمية بل كانت مهمته الأساسية ولا تزال تزويد الحكومات بالقروض والمساعدات الفنية ولكن من الجدير بالملاحظة أن أهمية البنك الدولي مقارنة بالاقتراض السيادي والاستثمار الخاص وتحويلات المهاجرين في تمويل البلدان النامية تقلص بشكل حاد في القرن الحادي والعشرين
ولأن قروضه أو ضماناته تأتي مصحوبة بالخبرة والمشورة فإن البنك الدولي يظل يقدم منتجا صالحا ولكن كما زعمت في وقت سابق ينبغي للبنك أن يقدم منتجا آخر فباعتباره مؤسسة التنمية العالمية الأولى والوحيدة العالمية بالكامل يحتل البنك موضعا مناسبا للمساعدة في رعاية وتمويل المنافع العامة العالمية وتحديد الأولويات في إدارتها بل ويتحمل المسؤولية عن ذلك
وقد حان الوقت لكي تبادر واحدة أو أكثر من حكومات الدول الأعضاء في البنك الدولي إلى تبني القضية وتقدم الاستجابة السريعة من قِبَل المنظمة لوباء الإيبولا مؤخرا مثالا مبهرا لقدرتها على معالجة الهموم العالمية وعلاوة على ذلك سوف يتفق المجتمع الدولي هذا العام على أهداف التنمية المستدامة الأهداف التي يخدمها على أفضل نحو الاستثمار في مجالات مثل مشاريع البحث والتطوير الزراعية والجهود المبذولة لتحسين استخدام الأراضي والمياه وحماية الغابات
إن الولايات المتحدة قادرة من خلال التعاون الوثيق مع ألمانيا والمملكة المتحدة والصين على تقديم تفويض واضح للبنك الدولي في هذا الصدد وسوف تظل المهمة التي تولاها البنك في القرن العشرين مساعدة البلدان في تمويل جهود التنمية تشكل أهمية بالغة في المستقبل المنظور ولكن هناك أيضا مساحة يستطيع البنك الدولي باستغلالها لإعادة ضبط تركيزه في القرن الحادي والعشرين مع التأكيد بشكل أكبر على واحد من الشروط الأساسية للتنمية الإدارة الواعية للمنافع العامة العالمية وحمايتها
عودة حروب العُملة
نيويورك كان القرار الأخير الذي اتخذه بنك اليابان بزيادة نطاق التيسير الكمي بمثابة الإشارة إلى أن جولة أخرى من حروب العُملة ربما تكون في الطريق إلينا إن محاولة بنك اليابان إضعاف قيمة الين الياباني تندرج تحت نهج إفقار الجار الذي يستحث ردود فعل سياسية في مختلف أنحاء آسيا والعالم
فقد عمدت البنوك المركزية في الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وتايلاند إلى تخفيف قيود سياساتها النقدية أو قد تزيد من تخفيفها قريبا خوفا من خسارة القدرة التنافسية نسبة إلى اليابان ومن المرجح أن يتبنى البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في سويسرا والسويد والنرويج وعدد قليل من بلدان أوروبا الوسطى برامج التيسير الكمي أو ربما تستخدم سياسات غير تقليدية أخرى لمنع قيمة عملاتها من الارتفاع
وكل هذا من شأنه أن يعزز من قوة الدولار الأميركي مع تحسن النمو في الولايات المتحدة وإشارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى البدء في رفع أسعار الفائدة في العام المقبل ولكن إذا ظل النمو العالمي ضعيفا وأصبح الدولار أقوى مما ينبغي فإن حتى بنك الاحتياطي الفيدرالي قد يقرر تأجيل رفع أسعار الفائدة إلى وقت لاحق وبسرعة أبطأ من أجل تجنب ارتفاع قيمة الدولار بشكل مفرط
والسبب وراء اضطرابات العملة الأخيرة واضح ففي بيئة حيث يسعى القطاعان الخاص والعام إلى تقليص الديون المرتفعة أصبحت السياسة النقدية الأداة الوحيدة المتاحة لتعزيز الطلب والنمو وكان التقشف المالي سببا في تفاقم تأثير تقليص الديون من خلال فرض ضغوط مباشرة وغير مباشرة على النمو ذلك أن خفض الإنفاق العام يؤدي إلى الحد من الطلب الكلي في حين يعمل تراجع التحويلات وارتفاع الضرائب على تقليص الدخل المتاح للإنفاق وبالتالي الاستهلاك الخاص
في منطقة اليورو كان توقف تدفقات رأس المال المفاجئ إلى البلدان الواقعة على أطرافها والقيود المالية التي فرضها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي بدعم من ألمانيا بمثابة عائق ضخم للنمو وفي اليابان تسببت الزيادات المفرطة في الضريبة المقدمة على الاستهلاك في قتل التعافي الذي تحقق هذا العام وفي الولايات المتحدة أدى خفض الميزانية وغير ذلك من الضرائب وسياسات الإنفاق إلى تراكم عبء مالي ضخم في الفترة وفي المملكة المتحدة كان ضبط الأوضاع المالية الذي فرضته على نفسها سببا في إضعاف النمو حتى هذا العام
وعلى الصعيد العالمي أدى التكييف غير المتماثل للاقتصادات الدائنة والمدينة إلى تفاقم هذه الدوامة من الركود والانكماش أما البلدان التي أسرفت في الإنفاق ولم تدخر القدر الكافي من المال وعانت من عجز في الحساب الجاري فقد أرغمتها الأسواق على خفض الإنفاق وزيادة الادخار ومن غير المستغرب أن يتقلص العجز التجاري في هذه البلدان ولكن أغلب البلدان التي أفرطت في الادخار وقللت من الإنفاق لم تقلل من ادخارها ولم تزد من إنفاقها بل إن فوائض الحساب الجاري لديها كانت في ازدياد الأمر الذي أدى إلى تفاقم ضعف الطلب العالمي وبالتالي تقويض النمو
ومع تضرر الأداء الاقتصادي بفعل التقشف المالي والتكييف غير المتماثل تحملت السياسة النقدية عبء دعم النمو الهزيل من خلال إضعاف العملات وزيادة صافي الصادرات ولكن حروب العملة الناجمة عن ذلك كانت جزئيا لعبة محصلتها صفر فإذا كانت إحدى العملات أضعف فلابد أن تكون عملة أخرى أقوى وإذا تحسن الميزان التجاري في دولة ما فلابد أن يسوء في دولة أخرى
بطبيعة الحال لا يشكل التيسير النقدي لعبة محصلتها صفر تماما ذلك أن التيسير من الممكن أن يعزز النمو من خلال رفع أسعار الأصول (الأسهم والإسكان) وخفض تكاليف الاقتراض الخاص والعام والحد من خطر حدوث انخفاض في التضخم الفعلي والمتوقع ونظرا للعبء المالي وتقليص الديون في القطاع الخاص فإن الافتقار إلى التيسير النقدي الكافي في السنوات الأخيرة كان ليؤدي إلى ركود مزدوج وثلاثي (كما حدث على سبيل المثال في منطقة اليورو)
ولكن مزيج السياسات الإجمالي كان دون المستوى الأمثل في ظل قدر أكبر مما ينبغي من تقليص الديون وقدر أكبر مما ينبغي من السياسة النقدية غير التقليدية (والتي أصبحت أقل فعالية بمرور الوقت) وكان النهج الأفضل في الاقتصادات المتقدمة ليتألف من تقليص العجز والدين في الأمد القريب وزيادة الاستثمار في البنية الأساسية الإنتاجية على أن يقترن هذا بالمزيد من الالتزام بتوفيق الأوضاع المالية في الأمدين المتوسط والبعيد والإقلال من التيسير النقدي القوي
قد يكون بوسعك أن تقود الحصان إلى الماء ولكنك لن تتمكن من إرغامه على الشرب وفي عالم يتسم بضعف الطلب الكلي الخاص وتحول السياسة النقدية غير التقليدية في نهاية المطاف إلى شيء أشبه بمحاولة نفخ بالون مثقوب تصبح الحجة لصالح إبطاء تقليص العجز والديون والإنفاق على البنية الأساسية العامة الإنتاجية مقنعة إلى حد كبير
إذ يعرِض مثل هذا الإنفاق عائدات أعلى كثيرا بكل تأكيد من أسعار الفائدة المنخفضة التي تواجهها أغلب الاقتصادات المتقدمة اليوم ومن الواضح أن احتياجات البنية الأساسية هائلة في كل من الاقتصادات المتقدمة والناشئة (باستثناء الصين التي أفرطت في الاستثمار في البنية الأساسية) وعلاوة على ذلك يلعب الاستثمار العام على جانبي الطلب والعرض على حد سواء فهو لا يعمل على تعزيز الطلب الكلي بشكل مباشر فحسب بل ويعمل أيضا على توسيع الناتج المحتمل من خلال زيادة المخزون من رأس المال المعزِز للإنتاجية
ولكن من المؤسف أن الاقتصاد السياسي القائم على التقشف أدى إلى نتائج دون المستوى الأمثل ففي خضم ضائقة مالية تضرب أولى تخفيضات الإنفاق الاستثمارات العامة المنتجة لأن الحكومات تفضل حماية الإنفاق الحالي وغير الكافي غالبا على وظائف القطاع العام ومدفوعات التحويل إلى القطاع الخاص ونتيجة لهذا يظل التعافي العالمي هزيلا في أغلب الاقتصادات المتقدمة (باستثناء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة جزئيا) والآن أيضا في البلدان الناشئة الكبرى حيث تباطأ النمو بشكل حاد في العامين الماضيين
إن السياسات الصحيحة الإقلال من التقشف المالي في الأمد القريب وزيادة الإنفاق الاستثماري العام والحد من الاعتماد على التيسير النقدي هي على وجه التحديد عكس تلك التي لاحقتها الاقتصادات الرئيسية في العالم ولا عجب إذن أن يظل النمو العالمي محبطا ويبدو أننا جميعا أصبحنا الآن على نحو أو أخر يابانيين
سياسات الحنين إلى الماضي
مدريد إن النظام العالمي أو الافتقار إليه موضوع ساخن هذه الأيام والواقع أن هوسنا بمستقبل الهياكل والأنظمة العالمية واضح في كل مكان في الأخبار والمؤتمرات وعلى قوائم أفضل الكتب مبيعا وحتى في البرامج التلفزيونية الشعبية
ويشعر الناس بالقلق فيبدو أن العالم يمر بتغيير جوهري فهناك لاعبون جدد يظهرون على المسرح العالمي وقواعد السلوك الدولي التي كانت مقدسة سابقا أصبحت هدفا للتحدي السافر وتعمل موجة جديدة من التقدم التكنولوجي على تحويل صناعات وقطاعات اقتصادية بأسرها وفي سعينا إلى التنظيم والقدرة على التنبؤ وهو دافع طبيعي في أوقات التغير السريع أصبحنا في حاجة ماسة إلى إشارات ترشدنا إلى الكيفية التي قد يتطور عليها عالمنا ودورنا فيه
بطبيعة الحال من الأهمية بمكان في مثل هذه المواقف أن نتوصل إلى تحديد الطريق الأفضل أو على الأقل الأكثر جدوى إلى الأمام وتزودنا القدرة على التنبؤ بالأساس اللازم لتحليل التكاليف والفوائد والتفكير الاستراتيجي وتنشأ المشكلة عندما يتسبب سعينا الحثيث إلى اليقين في إرباك تفكيرنا العقلاني فنأخذ أفكارنا وأفعالنا في اتجاهات غير منتجة أو حتى شديدة الخطورة
ويُعَد الاتجاه الحالي نحو الاستعراض الوردي لأحداث الماضي مثالا واضحا في مواجهة عدم اليقين السياسي والاقتصادي والجيوستراتيجي والاجتماعي استسلم الساسة على نحو متزايد لإغراء الحنين إلى الماضي فوعدوا بالعودة إلى ما صوروه بوصفه قواعد وممارسات الماضي المألوفة والكاملة
وفي روسيا كان الرئيس فلاديمير بوتن يعمل وفقا لنظرة إلى العالم ترجع إلى القرن التاسع عشر حيث تهيمن القوى العظمى على مجالات نفوذها بلا منازع وكما لاحظ في اجتماع أكتوبر/تشرين الأول الماضي لنادي مناقشات فالداي إن الدب لن يكلف نفسه عناء طلب الإذن وهنا نعتبره سيد الغابة
ويحاول تنظيم الدولة الإسلامية العودة إلى مسافة أبعد في الماضي إذ يتمسك أتباعه بعقيدة تعود إلى القرون الوسطى لتبرير جهودهم الرامية إلى إعادة إقامة الخلافة حيث تصبح مشروعية كل الإمارات والمجموعات والدول والمنظمات معدومة ويصبح الإعدام بإجراءات موجزة واستعباد البشر من الأمور المشروعة
والغرب أيضا سقط في فخ الحنين إلى الماضي فتشبث بتصور يرجع إلى أواخر القرن العشرين للنظام حيث يضع القواعد ويستطيع أن يختار بين تطبيقها أو عدم تطبيقها وكان أحدث مثال لهذا المنظور الذي ينطوي على مفارقة تاريخية هو محاولة أميركا الخرقاء (والفاشلة) لوقف دعم البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية الذي تقوده الصين بعد رفضها مرارا وتكرارا منح القوى الناشئة في العالم قوة تصويت أكبر في مؤسسات بريتون وودز
كما برز الحنين إلى الماضي كعامل رئيسي في الشؤون الداخلية في العديد من البلدان ففي مختلف أنحاء أوروبا تسعى الأحزاب الشعبوية من حزب استقلال المملكة المتحدة اليميني إلى حزب سيريزا اليوناني في أقصى اليسار إلى العودة إلى الأوقات الأكثر بساطة وسعادة ظاهريا والتي كانت تتسم بالسيطرة الوطنية والحدود المغلقة وفي الولايات المتحدة يدافع اتجاه بارز في فلسفة التشريع عن القصد الأصلي لواضعي الدستور في حين يتحول الجمهوريون نحو الانعزالية ويشجب الديمقراطيون اتفاقيات التجارة الحرة
ولكن الحنين إلى الماضي لا يقدم أية حلول بل لا يعرض سوى حلم الهروب فالنظر إلى الوراء لا يقربنا إلى ما نريد بل هو على العكس من ذلك وسيلة مضمونة للإخفاق في التعامل مع التحديات وتفويت الفرص التي تواجهنا إن محاولة تعزيز مصالح المرء استنادا إلى قواعد الماضي أشبه بمحاولة حل لغز الكلمات المتقاطعة اليوم باستخدام حل لغز الأمس
دعونا نواجه الحقيقة إن العالم الذهبي المزدهر الذي يتلهف كثيرون إلى العودة إليه ولنقل عالم ما قبل الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة أو حتى الدولة القومية لم يكن له وجود حقا فكما لاحظ مارسيل بروست إن تذكر ماضي الأشياء ليس بالضرورة تذكر الأشياء كما كانت عليه حقا فالماضي يُختَصَر ويُغَلَف بالسكر من أجل تصويره متفوقا على البؤس والاضطرابات المنتشرة على نطاق واسع اليوم
الواقع أن الحنين إلى الماضي أصبح بمرور الوقت ينطوي على دلالات حميدة ولكن الكلمة التي تتركب من الكلمتين اليونانيتين (العودة إلى الوطن) و(الألم) صيغت لوصف مرض الحنين الحاد إلى الوطن ولعل من المفيد أن نعود إلى هذا التعريف لمصطلح الحنين إلى الماضي على الأقل في تجليه السياسي باعتباره أقرب إلى المرض حالة تتسبب في تشويه الواقع وعرقلة صياغة الحلول الفعالة لتحديات العالم الحقيقي
إن أي نظرة تمتد جذورها إلى القرن التاسع عشر ناهيك عن القرن التاسع لن تكون كافية لمواجهة تعقيدات عالم العولمة اليوم وعلى نحو مماثل يعني صعود قوى جديدة ومنظمات بلا دولة أن صناعة القواعد (وكسرها) لم يعد من الممكن أن تظل مقصورة على ناد غربي صغير كما تعني كثافة المنافسة العالمية أن الدول الأوروبية من غير الممكن أن تحقق الازدهار بشكل مستقل عن بعضها البعض
إن الأفكار الرديئة الواهية تزدهر في غياب البديل القابل للتطبيق ولهذا السبب أصبح التأمل لبعض الوقت في النظام العالمي أمرا بالغ الأهمية ولكن بدلا من السماح لأنفسنا بالانجراف مع المد الرجعي للحنين إلى الماضي ينبغي لنا أن ننخرط سويا في محادثة بناءة حول التحديات التي نواجهها فعليا وأن نقترح أفكارا جديدة للتصدي لها ومعالجتها
ادارة عالم من القوى العظمى
مدريد ان التنافس بين القوى العظمى قد اصبح حقيقة اليوم فالولايات المتحدة الامريكية تتنافس الان مع روسيا التي تنشط بشكل متزايد والصين الصاعدة ان الشرق الاوسط وجنوب بحر الصين واوكرانيا هي فقط ثلاث مسارح يتفاعل فيها هذ الواقع الجديد
لقد تولد لدي انطباع بعد قراءة كتاب وزير الدفاع الامريكي السابق ستروب تالبوت التجربة الكبرى بإن بذور بعض العوامل التي تلعب دورا هذه الايام قد زرعت قبل وقت طويل يصف الكتاب محادثة جرت في ديسمبر من سنة بين الرئيس بيل كلينتون والرئيس المنتخب جورج بوش الابن حيث ذكر كلنتون انه على اساس حملة بوش الانتخابية فإن القضايا الامنية الاكثر الحاحا بالنسبة لبوش كانت صدام حسين وبناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ على نطاق واسع ولقد اجاب بوش قائلا هذا صحيح تماما
لقد تم تأجيل النظر في تلك القضايا عندما وقعت المأساة بشكل غير متوقع والتي جاءت على شكل الهجمات الارهابية في الولايات المتحدة الامريكية في سبتمبر ولقد ادت تلك الهجمات الى فترة من التعاون الدولي تميزت بالتضامن ضد الارهاب ولقد كانت فترة شعرنا جميعا بإننا امريكان ووصف بوش بوتين آنذاك بإنه واضح تماما وجدير بالثقة
لقد بدأت الامور تتغير في ديسمبر من العام نفسه عندما اعلنت الولايات المتحدة الامريكية بانها ستنسحب من معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية من اجل بناء نظام دفاعي مضاد للصواريخ لحماية نفسها من ايران التي يمكن ان تصبح نوويهان هذا الأمر لم يمر مرور الكرام في روسيا
يبدو ان الولايات المتحدة الامريكية لم تفهم في ذلك الوقت ان عالما متعدد الاقطاب قد بدأ في الظهور وهو عالم سوف يجعل من الصعوبة بمكان الاستمرار في السياسات التي ناقشها بوش وكلنتون سنة بدون عواقب ولقد ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذلك بصراحة خلال كلمته في مؤتمر امن ميونخ سنة حيث رفض بشدة التدخل في العراق وخاصة الخطط الامريكية لتوسعة الانظمة الدفاعية المضادة للصواريخ لتشمل اوروبا حيث وصف ذلك بإنه عمل عدواني ضد روسيا وخرقا للامن المشترك لاوروبا
وفي صيف سنة ابرزت ثلاثة احداث العالم المتعدد الاقطاب بشكل واضح فالصين اذهلت العالم كمستضيفة للالعاب الاولمبية مما عزز من وضعها كلاعب دولي مهم والعمل العسكري الروسي في جورجيا في خضم تلك الالعاباظهر للعالم ان مفهوم مناطق النفوذ ما يزال حيا في الكرملين كما ان انهيار بنك الاستثمار الامريكي ليمان بروذرز في الشهر الذي يليه والذي ادى الى حدوث ازمة مالية عالمية والتي لم يستعيد الاقتصاد العالمي عافيته منها بشكل كامل بعد اظهر نقاط الضعف لدى الاقتصادات المتقدمة علما ان تلك الازمة لم تؤثر على الصين بشكل عام