BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/0.9/
كلمة أخيرة
بعد نشْرِ الإصدارِ الأول من كتاب «البحث عن قطة شرودنجر» بفترةٍ قصيرة، سُئل جون بيل عمَّا إن كان يرى أنَّ تجربة «أسبيكت» هي الاختبار التجريبي «النهائي» الحاسم للواقع الكَمِّي، أم لا. وقد أجابَ: ومن منطلق أنَّ التجربة «تحدِّد النقطة التي ينبغي للمرء التوقُّف عندها والتفكير لبعض الوقت»، ألَّفتُ هذا الكتاب. لكن إلى أين أخذَنا ربعُ قرن آخر من التفكير وإجراء التجارب؟ يُعَد التطور الأهم فيما يتعلَّق بالتفكير بشأنِ الواقعِ الكَمِّي هو تحوُّل تفسير العوالم المتعدِّدة من «رأي أقلية جدير بالاحترام» إلى رأيٍّ شائعٍ للغاية لدرجةِ أنه صار يُشار إليه بالحروف الأولية من مصطلحه الإنجليزي، التي يعرفها جميعُ الفيزيائيين. في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، حازت الفكرة دعمًا من علماء الكَوْنيات، ومنهم الشهير ستيفن هوكينج الذي لم يَجِد طريقةً تؤدي إلى «انهيار الدالة الموجية للكون»، واضطُر إلى التفكير في البديل، وهو تفسير العوالم المتعددة. غير أنَّ عِلم الكونيات مجالٌ مبهم بعض الشيء، والسبب الحقيقي لإحياء تفسير العوالم المتعددة هو تطويرُ الحوسبةِ الكَمِّية، لا سيَّما ما قام به فيزيائيُّ جامعة أكسفورد ديفيد دويتش. لقد عرضتُ التفاصيلَ في كتابي «البحث عن العوالم المتعددة»، لكني سأوضِّح هنا بإيجازٍ أنَّ الحاسوبَ الكَمِّي يختلف عن الحاسوب العادي الذي أستخدمه لكتابة هذه الكلمات في أنَّ «المحوِّلات» الموجودةَ في بنوكِ ذاكرتِه (وحدات «البِت») ليست «تشغيل» و«إيقاف تشغيل» فحسب، بل يمكن، وفقًا لتفسير كوبنهاجن، أن توجَد في تراكبٍ من الحالات على غرارِ قطةِ شرودنجر، فتُوجَد في حالتَي «التشغيل» و«إيقاف التشغيل» في الوقتِ نفسِه. ومن الناحية العملية يعني هذا أنَّ عدد وحدات البِت الفعلي في هذا الحاسوب لا يساوي عدد المحوِّلات، بل يساوي العدد ٢ مرفوعًا لأُس عدد المحوِّلات. وبهذا فإنَّ حاسوبًا كمِّيًّا بذاكرةٍ سعتُها ٤ بِت يعمل بكفاءةِ حاسوبٍ تقليديٍّ بذاكرةٍ سعتُها ١٦ بِت، وهكذا. وبذاكرةٍ سعتُها ١٠ بِت (أو بِت كَمِّي) فحسب، فإنَّ الحاسوب سيعمل بكفاءة حاسوب عادي تبلغ سعة ذاكرته ١٠٢ بِت أو كيلوبِت واحدًا. وفي وقتٍ مبكِّر يعود إلى عام ١٩٨٥، أثبت دويتش نظريًّا أنَّ الحواسيب الكَمِّية ستكون قادرةٍ بصفةٍ أساسيةٍ على إجراءِ عملياتٍ حسابية تعجز الحواسيب التقليدية عن إجرائها. لكنَّ الجوانب العملية لبناء مثل هذا الحاسوب كانت تتجاوز قدرات التجريبيين في ذلك الوقت. الأمر المذهل أنه بالرغم من الصعوبات العملية، حدثَ إنجازٌ بارز للغاية في بداية القرن الحادي والعشرين؛ إذ تمكَّن فريقٌ في «مركز أبحاث المادين» التابع لشركة «آي بي إم» من تصميم كمبيوتر كَمِّي تبلغ سعةُ معالِجه سبعة بِت كَمِّي؛ أي ما يعادل ١٢٨ بِت في الأجهزة التقليدية، وصارت بعض الحواسيب الكَمِّية الأكبر بعض الشيء تُستخدم الآن. إنَّ الحوسبة الكَمِّية ناجحةٌ بالتأكيد. لكن الأهم، هو كيف تنجح، أو بالأحرى، «أين»؟ لا ينشغل العلماء التجريبيون كثيرًا بشأن ذلك. لكنَّ دويتش قد توصَّل إلى استنتاجاتٍ مهمةٍ من نجاحِ الحوسبةِ الكَمِّية. في الحوسبة، يُطلق على ٨ وحدات من البِت اسم البايت، وهي الوحدة المعتادة التي نقيس بها ذاكرة الحاسوب. ويمكن لمخزن ذاكرة (يُسمَّى عادةً «السجل») يتألَّف من ٨ وحداتٍ كَمِّية أن يتذكَّر ٢٥٦ عددًا في الوقت نفسه. يقول دويتش إنَّ التفسير المنطقي الوحيد لهذا أنَّ «التراكب» يمثِّل بالفعل ٢٥٦ «عالَمًا موازيًا» مختلفًا. وإذا كان لدينا حاسوبٌ كَمِّي تبلغ سعة ذاكرته ١٠٠ بِت كَمِّي فحسب، فسوف يعادل في كفاءته ١٢٦٧ مليار مليار مليار حاسوب تقليدي جميعها يعمل في ١٢٦٧ مليار مليار مليار عالَم. إنَّ حقيقةَ عملِ الحواسيب الكَمِّية تثبت وجود العوالم المتعددة. وقد أدَّى هذا بدويتش إلى وضعِ تصوُّرٍ مختلِفٍ لموضوع تفسير العوالم المتعددة، وهو يقدِّم فهْمًا جديدًا للواقعِ الكَمِّي. كانت الطريقة التي يفكِّر بها أشخاصٌ مثل هيو إيفريت في العوالم المتعدِّدة تتمثَّل في الانقسام. ففي تجربة القطة وفقًا لتصوُّرهم، ينقسم العالَم بأكمله إلى فرعَين في لحظةِ إجراء التجربة؛ أحدهما يحتوي على قطةٍ ميتة، بينما يحتوي الآخر على قطةٍ حية. لكنَّ دويتش يرى أنَّ كلتا النسختين من الواقع موجودةٌ «دائمًا». كان يوجد كَوْنان على الدوام، وقد ظلَّا متطابقَين حتى نقطةِ إجراء التجربة، وحدث الاختلافُ بينهما بدءًا من تلك النقطة. في أحدِ الكَوْنين، تموت القطة (أو بالأحرى تموت «قطةٌ» ما)، وفي الكون الآخر تعيش القطة، لكن «دون» انقسام. بدأت بعض الأفكار المماثلة تتشكَّل أيضًا منذ ثمانينيات القرن العشرين على يدِ فيزيائيٍّ آخرَ من جامعة أكسفورد، وهو جوليان بربور، الذي طوَّر منظورًا مثيرًا للاهتمام عمَّا يعنيه هذا كلُّه فيما يتعلَّق بفهْمنا لطبيعة الزمن. غير أنَّ تلك قصةٌ أخرى. ثمَّة تطوُّر عملي آخر حدث في السنوات الأخيرة ينبع من مفارقة «إي بي آر» وتجربة «أسبيكت». فمنذ ١٩٨٤، انتقلنا من إثباتِ أنَّ أيَّ كِيانَين كُموميَّين يتفاعلان يظلان في حالةِ «تشابك»، حتى إذا فصلت بينهما مسافاتٌ ضخمة، إلى تطبيق هذا السلوك الناتج عمليًّا. وقد جرى ذلك بطريقتَين. الأولى هي إنتاجُ تعليماتٍ برمجيةٍ كَمِّية لا يمكن فكُّ تشفيرها، والثانية هي تطويرُ الانتقال الآني. إنَّ أول نسخةٍ جرى تطويرها من التشفير الكَمِّي لا تتضمَّن التشابكَ الكَمِّي بصورةٍ مباشرة، وإنما تعتمد على التراكب الكَمِّي. تُعزى هذه النسخة إلى بحثٍ أجراه كلٌّ من تشارلز بينيت الذي كان يعمل لدى شركة «آي بي إم» وجيليس براسارد الذي كان يعمل في مونتريال عام ١٩٨٤. تتمثَّل الطريقة التي تعمل بها التعليمات البرمجية (الشفرات) في أنَّ الرسالةَ الأصلية تُشوَّش بطريقةٍ ما حتى لا يمكن فَهْمها، ثم تُنقَل إلى شخصٍ آخر يتمكَّن من إزالة التشوُّش لأنه يملك «مفتاحًا» يخبره بطريقةِ فعْلِ ذلك. تكمُن الفكرة في كيفية نقل المفتاح من المُرسِل إلى المستقبِل دون حصولِ طرفٍ ثالثٍ عليه واستخدامه في فكِّ شفرةِ الرسالة. كان الحل الذي اقترحه بينيت وبراسارد هو إرسال المفتاح في صورةِ سلسلةٍ من الفوتونات في حالاتٍ مختلفة من الاستقطاب. ستكون هذه الفوتونات في حالاتٍ من التراكب؛ ومن ثَم إذا حاول المتنصِّت «قراءة» المفتاح، فستنتقل الفوتونات إلى حالة أو أخرى، مما يوفِّر دليلًا على اعتراض التواصل. والأفضل من ذلك، ومن دونِ إسهابٍ في التفاصيل التقنية، يمكن إعدادُ النظامِ بطريقةٍ تجعل المتنصِّت يدمِّر المعلومات الموجودة في المفتاح بمحاولة قراءتها؛ ولذا فلن يتمكَّن من استخدامها على أية حال. وليس ذلك من شطحات الخيال النظري فحسب. ففي الحادي والعشرين من أبريل عام ٢٠٠٤، بعد عشرين عامًا فحسب من توصُّل بينيت وبراسارد إلى هذه الفكرة، أجرى فيزيائيون من جامعة فيينا بمساعدةِ بنكٍ محلي وعُمدة المدينة تحويلًا إلكترونيًّا للأموال من البنك إلى سلطات المدينة باستخدام هذا النوع المحدَّد من الأنظمة التي لا يمكن فكُّ شفرتها. نُقِلت إشارات مماثلة أيضًا عبر الأثير على نطاقٍ يزيد عن ١٥٠ كيلومترًا، مما يثبت أنه سيصبح من الممكن إرسالُها إلى مدار الأرض على متن أقمار صناعية. وما هي إلا مسألةُ وقتٍ، ولن يكون وقتًا طويلًا على الأرجح، ويُستخدم هذا الأسلوب بطريقةٍ اعتياديةٍ في تشفير المعلومات، كالمعلومات التي تقدِّمها عند استخدام بطاقات الائتمان للشراء عبر الإنترنت. أما الأسلوب الثاني للتشفير الكَمِّي فقد اقترحه أرتور إيكيرت الباحث بجامعة أكسفورد في تسعينيات القرن العشرين، لكنه لم يبلغ تلك المرحلة المتقدمة من التطبيق العملي. يستند هذا الأسلوب إلى مبدأ بسيط، لكنه ذو صعوباتٍ عمليةٍ هائلة. ففي البداية، يجب إعدادُ زوجٍ من الفوتونات (أو غيرها من الكِيانات) التي توجد في حالةِ تشابك. بعد ذلك، تُرسِل أحدَ الفوتونَين إلى صديقك الذي يُجري قياسًا يعترض مسار الفوتون، ثم يرسله إليك مجددًا. وأخيرًا، تُجري قياسًا لحالة الكِيانَين المتشابكَين، فيخبرك بما فعله صديقك للكِيان الذي تدخل فيه. لا يمكن لأحدٍ أن يفكَّ شفرة هذا المفتاح؛ لأنك تحتاج إلى كلا الكِيانَين المتشابكَين لمعرفةِ ما فعله صديقك، المشكلة هي أنه سيكون عليك إرسال تدفُّق من الفوتونات ذَهابًا وإيابًا مع الاعتناء في الوقتِ نفسِه بشركائها من الفوتونات لكي تتمكَّن من إرسالِ مقدارٍ مفيدٍ من المعلومات، غير أنَّ التغلُّبَ على هذه المشكلة ممكن. لقد ادَّخرت الأسلوبَ الأفضل، أو المفضَّل لديَّ على الأقل، إلى النهاية. توصَّل تشارلز بينيت عام ١٩٩٣ إلى استخدامٍ آخرَ للتشابك، وهو الانتقال الآني الكَمِّي. وكالمعتاد، يبدأ الإجراء بالفوتونات، لكن ربما يتطوَّر في يومٍ ما إلى ما هو أكبرُ من ذلك. يتمثَّل المبدأ الأساسي للانتقال الآني في صنْعِ نسخةٍ طبْقِ الأصل من شيءٍ ما في موقعٍ مختلفٍ عن الموقع الأصلي للشيء؛ أي كشراء ملفات الموسيقى بتنسيق «إم بي ثري» عبر الإنترنت على سبيل المثال. لقد ثبُتَ أنَّه من المحال استنساخ فوتون واحد؛ أي يستحيل صنْعُ نسخةٍ طبقِ الأصل منه في الحالةِ الكَمِّيةِ نفسِها. بالرغم من ذلك، يمكن تنفيذ الانتقال الآني، وقد تحقَّق ذلك بالفعل باستخدام زوجٍ من الفوتونات المتشابكة. تتمثَّل البداية في إعدادِ زوجٍ من الفوتونات المتشابكة التي تُنقَل بعد ذلك إلى مواقعَ مختلفةٍ دون إجراء أي قياس لحالاتها. بعد ذلك، يسمح أحد القائمين بالتجربة للفوتون المسئول عنه بالتفاعل مع شيء آخر، ويخزِّن المعلومات بشأنِ ناتِج هذا التفاعل. وبعدها تُنقَل هذه المعلومات إلى القائم بالتجربة الثاني باستخدامِ طرقٍ تقليدية (ومن الضروري ألا تتجاوز سرعة الضوء). وباستخدام هذه المعلومات، يمكن لفيزيائي بارع أن يعدِّل الفوتون الثاني بطريقةٍ تجعله نسخةً طبقَ الأصل من الفوتون الأول. في واقع الأمر، يصبح الفوتون الثاني هو الفوتون الأول. ونؤكِّد مرةً أخرى على أنَّ ذلك قد تحقَّق بالفعل. لقد نجح الفيزيائيون بالفعل في إجراءِ النقل الآني لفوتوناتٍ من أحد جانبي مختبر إلى الجانب الآخر في البداية، ونجحوا مؤخرًا في نقلها آنيًّا عبرَ مسافةٍ تبلغ بضعة كيلومترات. إلى أين سيئول الأمر؟ لا يمكن لأحدٍ أن يعرف على وجه اليقين إلى أين ستأخذنا مثل هذه التطورات في القرن الحادي والعشرين، مثلما كان الأخوَان رايت لا يعرفان إطلاقًا مدى تطوُّر آلات الطيران خلال القرن العشرين. لكنَّ الجلي أنَّ أسرارَ عالَمِ الكَمِّ قد انكشفت، وأننا على أعتابِ مرحلة جديدة من تطبيق المبادئ الكَمِّية في الاستخدامات العملية. ومن المرجَّح أن يكون القرن القادم أكثرَ إثارة حتى من سابقه.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/59586913/
البحث عن قطة شرودنجر: فيزياء الكم والواقع
جون جريبين
من الصادم أن «أينشتاين» لم يستطع قَبول نظرية الكَم، مع أنها قدَّمت الركيزة الأساسية لكل العلوم الحديثة، ودُونها ما كنا لنحصل على الطاقة النووية أو القنبلة النووية أو أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر أو البيولوجيا الجزيئية، وما كنا لنفهم شيئًا عن الحمض النووي ولا الهندسة الوراثية. والآن، يروي لنا «جون جريبين» القصة الكاملة لميكانيكا الكَم، وهي حقيقةٌ أغرب من الخيال، ويأخذنا في رحلةٍ إلى مكانٍ أخَّاذ وأكثر غرابة، يتطلب فقط أن نتعامل معه بذهنٍ منفتح، ويُقدِّم لنا العلماءَ الذين وضعوا نظرية الكَم، ويتناول موضوعاتٍ مثل الذرة والإشعاع والسَّفر عبر الزمن ونشأة الكون والموصِّلات الفائقة والحياة نفسها. وفي عالَمٍ حافل بالمسرَّات والغموض والمفاجآت، يبحث «جريبين» عن قطة شرودنجر — وهو بحث عن مفهوم الواقع الكمومي — في الوقت الذي يأخذ فيه بأيادي القُراء نحو فهمٍ أوضح للمجال الأهم في دراسة العلوم في وقتنا الحاضر، وهو فيزياء الكَم.‏‏
https://www.hindawi.org/books/59586913/0.10/
المراجع
هذه هي الكتب التي قرأتُها في مسارِ بحثي عن حقيقةِ قطة شرودنجر. لم أرتِّب لتقديمِ مجموعةٍ شاملةٍ من المراجع لنظريةِ الكَمِّ، ولا شك أنَّ خبراء المجال سيلاحظون غياب بعض العناوين التي قد يتوقَّعون وجودها هنا. بالرغم من ذلك، فإن أحد المراجع يقودنا إلى آخرَ، وتستطيع أن تجد كلَّ ما كُتِب من الأمور المهمة عن نظريةِ الكَمِّ والكثير جدًّا من الموضوعات الأخرى بالبدء من مكانٍ ما من الخيارات التالية، واتباع حدْسك بعد ذلك. وإضافةً إلى الكتب غير الخيالية، أقدِّم في النهاية أيضًا مجموعةً من كتب الخيال العلمي، التي لا أجِدها مسليةً فحسب، بل تحتوي أيضًا على معلوماتٍ مفيدة عن بعض أفكار فيزياءِ الكَمِّ، ولا سيما فكرة العوالم المتوازية. وقد انتهزت فرصةَ إعادة الطبْع لتضمين بعضٍ من مؤلفاتي الخاصة الأحدث — من الكتب غير الخيالية والخيالية أيضًا — إذ توضِّح بعضَ الأفكار التي يناقشها هذا الكتاب. معالجة مبكِّرة شاملة لغير المتخصصين. يغطي الجزء الأول الخلفيتَين التاريخية والرياضية، ومن ثَم فالجزء الثاني بأكمله يدور عن نظريةِ الكَمِّ. يُصعِّب أسلوبُ الكتابةِ القديمةِ المهمةَ بعض الشيء على القراء الحديثي السِّن، لكنه يقدِّم معالجةً متبحرة؛ إذ يشكِّل الجزءان معًا ٩٨٢ صفحة، وهو جدير بالقراءة تمامًا إذا كنت ملتزمًا بما يكفي للاجتهاد في فهْم بعض الرياضيات. هذا الكتاب مُعَدٌّ ليكون مقرَّرَ فصلٍ دراسي واحد في الفيزياء للطلابِ غيرِ المتخصصين في العلوم، لكنه مُشَوِّق وواضح بما فيه الكفاية ليكون ذا قيمةٍ للقارئ العادي. إنه أحد أفضل الكتب الجادة في الفيزياء لغير المتخصصين في العلوم، وهو يطوف بالقارئ بدءًا من البدايات البسيطة إلى النسبية وميكانيكا الكَمِّ والأنوية والجسيمات. ومع أن الكتاب لا يتطرق إلى النتائج الفلسفية ومعنى الواقعِ الكَمِّي إلا من بعيد، فإنه يقدِّم أساسياتِ فيزياءِ الكَمِّ بوضوحٍ لأي شخص يرغب في محاولة وضع بضعةِ أرقام في المعادلة. أوصي به بشدة. مبني على مقالاتٍ أُلقيت في مؤتمرٍ تعليمي غير رسمي عُقِد في كامبريدج سنة ١٩٦٨ لدراسةِ إمكانيةِ حدوث «تحوُّل نوعي» رئيسي في نظريةِ الكَمِّ في وقتٍ قريب. الكتاب صعبٌ بعضَ الشيء وفلسفي بدرجةٍ أكبرَ من معظم الكتب المُشار إليها هنا. أفضلُ عرضٍ معاصرٍ للفيزياء الجديدة بقلم إحدى الشخصيات الرائدة في تطويرِ نظريةِ الكَمِّ. ليس الكتاب عرْضًا لتاريخ ميكانيكا الكَمِّ، بل هو كتابٌ عن الفيزياء «لعامة الجمهور»، ويتضمَّن أحد الأوصاف المبكِّرة للتفسير الإحصائي الذي كان السببَ في حصول بورن على جائزة نوبل فيما بعد، وبأسلوبٍ يناسب غيرَ المتخصصين. من الجدير بالذكر أيضًا أنه يحتوي — منذ نصف قرن — على رسومٍ كاريكاتورية توضِّح العمليات الديناميكية. مراسلات جرت بين رجلين عظيمين مع تعليقات لبورن. تحتوي المراسلات على تعليقاتٍ هامشيةٍ عديدةٍ ومثيرةٍ حول نظريةِ الكَمِّ وتردُّد أينشتاين في قبولِ تفسيرِ كوبنهاجن. للكتاب أهميةٌ تاريخية بصفةٍ أساسية، وهو تقرير معاصر لميلاد الفيزياء الجديدة بقلم أحد المساهمين فيها. ترجمة إنجليزية غير جيدة للغاية لكتابٍ فرنسيٍّ آخرَ أكثرَ قِدمًا بكثير، لكنه مهم من الناحية التاريخية أيضًا. باكورة الموجة الجديدة من الكتب التي تربط فيزياءَ الجسيمات الحديثة بالفلسفة الشرقية والتصوف والدِّين. كابرا فيزيائي ينسج روايةً مُشوِّقة تضم الأفكارَ الأساسيةَ للكَمِّ، لكنه لا يضعها في سياقٍ تاريخي. مقدمة مباشرة لغرائب الهندسة الوراثية وإمكانياتها وحدودها. قصة ميكانيكا الكَمِّ تُحكى عن طريق السيرة الذاتية، من خلال فصولٍ عن رذرفورد وبلانك وأينشتاين وبور، وباولي وهايزنبرج. كتاب جيِّد للقراءة، وقوي في الحكايات التي يرويها لكنه لا يتضمَّن سوى القليل من الفيزياء. مقدمة سهلة عن طبيعة الجزيئات الحية، ويقدِّم افتراضًا بأن الحياة على الأرض ربما تكون قد أتت من الكون الخارجي بصفة عامة. إعادة نشر لمجموعة الأوراق البحثية الرئيسية التي أرست أساسَ نظرية العوالم المتعدِّدة، يتضمَّن الكتابُ رسالةَ الدكتوراه لإيفرت، ومقالات إيفرت وويلر الصادرة سنة ١٩٥٧ في مجلة «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس»، ومحاولات ديويت وجراهام اللاحقة لتعميم النظرية ونشرها على نطاقٍ أوسع، إضافةً إلى مساهمات أخرى. كتاب منظَّم من جزء واحد يلخِّص كلَّ ما دار في هذا الموضوع. الكتاب المعتمَد للطلاب الجادين حتى اليوم. رُوجع وحُدِّث عدةَ مرات، ويحتوي الكتاب على جزء عن الكهروديناميكيا الكَمِّية، وتَعرِض أجزاء المقدمة أوضحَ نقاش يمكن أن تجده في أي مكانٍ عن عدم اليقين، والتراكب والحاجة إلى ميكانيكا الكَمِّ. وحتى إذا لم تكن طالبًا جادًّا، فإن الكتاب يستحق أن تستعيره من المكتبة لقراءة الفصل الأول، أما إذا كنت طالبًا جادًّا فإن نهج ديراك في الانتقال من الرياضيات إلى شرودنجر وتفسيرات هايزنبرج، أكثرُ منطقيةً وذكاءً من الطريقة التي يُدرَس بها الموضوع اليوم في المعتاد. محاضرات أُلقيت في أستراليا ونيوزيلندا سنة ١٩٧٥. وهي لا تقدَّر بثَمن بصفتها رؤيةَ آخرِ عضوٍ ما زال على قيد الحياة من المجموعة التي طوَّرت ميكانيكا الكَمِّ في عشرينيات القرن العشرين، ومما يضاعف من قيمتها أنها نُسخٌ مباشرة من محاضرات ديراك الممتعة والواضحة. ويحتوي الكتاب على مناقشةِ أفكارٍ مثل الجاذبية المتغيرة والمغناطيسات الأحادية القطب التي تلقي الضوءَ على عدم اكتمال الفيزياء اليوم. نصٌّ يضم سلسلةَ محاضراتٍ أُلقيت في إدنبرة سنة ١٩٢٧، ويعرِض هذا الكتاب نظرةً ثاقبةً ونادرةً لتأثيرِ نظريةِ الكَمِّ على أحد أعظم العلماء في عشرينيات القرن العشرين، وقد كُتب في وقتٍ كان الموضوع لا يزال يتغيَّر فيه بوتيرة سريعة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ إدنجتون ليس عالِمًا رائدًا فحسب، بل هو كذلك من أوائل مَن نشروا العلم للعموم وأفضلهم. مزيد من المحاضرات من الفترة نفسها. سلسلة من المحاضرات أُلقيت بجامعة كورنيل سنة ١٩٣٤. يوضِّح هذا الكتاب الكيفيةَ التي سارت عليها الأمور منذ ظهورِ كتاب «ذا نيتشر أوف ذا فيزيكال وورلد» (طبيعة العالم الفيزيائي). المزيد من المحاضرات التي يعود تاريخها إلى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وتتسم بدرجةٍ أكبرَ من التوجُّه الفلسفي، مثلما يدُل على ذلك عنوانها. يستخدم الحدَّ الأدنى من الرياضيات ويركِّز على المغزى الفيزيائي لنظريةِ الكَمِّ، لكن هذا «الحد الأدنى» لا يزال كثيرًا. يُعَد دليلًا جيدًا لا يتعمَّق في شرح البنية الذرية وغيرها، لكنه يقدِّم رؤيةً فيزيائية وفلسفية ثاقبة لألغازِ عالَم الكَمِّ. سلسلة من المحاضرات التليفزيونية أُلقيت في جامعة كورنيل سنة ١٩٦٤ وأُذيعت على شبكة «بي بي سي تو» سنة ١٩٦٥. كلها مستساغة وسهلة القراءة من مُحاضِرٍ متمكِّن، وتتضمَّن فصلًا جيدًا عن الرؤية الميكانيكيةِ الكَمِّية للطبيعة. أسهل الكتب الدراسية التي تصلح مقدمة لميكانيكا الكَمِّ للطلاب الجادين. الكتاب جيد جدًّا فيما يتعلَّق بتجربةِ الشقين الطوليَّين الشهيرة ويحتوي على مناقشةٍ مثيرة للاهتمام حول التوصيل الفائق. كتابٌ سهل القراءة وبه مقدارٌ جيد من المعلومات عن الكوانتا ونظرية الموجات من قاصٍّ بارع، يتصادف أيضًا أنه كان جزءًا من هذه القصة؛ إذ عمل جامو فترةً مع بور. ربما يكون أسلوب الكتاب قديمًا، لكنه مسلٍّ ويستحق الاستكشاف، وإن كان ذلك للتعرُّف على الشخصيات الرئيسية فحسب. كتابٌ متفاوت الجودة، يحتوي على مقالٍ ممتاز عن أينشتاين بقلم سي بي سنو. من داروين إلى الحمض النووي «دي إن إيه»، وما بعد ذلك. المزيد عن ألغازِ الكَمِّ مع تقييمٍ للتفسيرات المختلفة. قصة اكتشاف ميلاد الكون، بما في ذلك التضخم. علامَ نحصل عن الجمع بين الفيزياءِ الكَمِّية وعلم الكونيات؟ ليس كونًا واحدًا، بل أكوان متعدِّدة. يحكي عن صاحب المعادلة. كتاب عن تطوُّر البشر، لكنه يتضمَّن عرْضًا مفصَّلًا غيرَ تقني عن الحمض النووي ووظائفه. يضم سِيَرًا ذاتيةً مختصرةً وتلخيصاتٍ للأعمال التي فاز عنها أصحابها بجائزة نوبل، ويشير هذا المجلَّد بأناقةٍ إلى الدور الطاغي لنظريةِ الكَمِّ في فيزياء النصف الأول من القرن العشرين. لا يغيب من الكتاب سوى اثنين من الأسماء الرئيسية: ماكس بورن الذي لم يحصل على جائزته إلا في خمسينيات القرن العشرين، وإرنست رذرفورد الذي مُنح الجائزة في مجال «الكيمياء». كتاب يستحق الغوص فيه. نصُّ سلسلةٍ من المحاضرات التي أُلقيت في جامعة سانت أندروز عامي ١٩٥٥-١٩٥٦. يحتوي على تاريخٍ مختصرٍ لنظريةِ الكَمِّ وعلى مناقشةٍ لتفسيرِ كوبنهاجن من أحد مؤسسي ميكانيكا الكَمِّ. والكتاب ليس رياضيًّا على الإطلاق. كتابٌ آخرُ شِبه فلسفي يستحق الذكر هنا بصفةٍ خاصة للتأكيد على عدم الخلط بينه وبين كتاب جاكديش ميهرا الذي يحمل الاسم نفسه! (انظر أسفله.) يحمل الكتاب العنوان الفرعي «ميموريز أوف ألايف إن ساينس» (ذكريات حياة في العلم)، وهو سيرة ذاتية شخصية بها الكثير من الحكايات وقليل من العلم، لكنها حافلة بالرؤى العميقة عن هايزنبرج الإنسان. رؤية شائقة لنظريةِ الكَمِّ التي كانت لا تزال جديدة نسبيًّا في أربعينيات القرن العشرين. يقع المؤلِّف أحيانًا في فخ التبسيط الزائد فتختل حجَّته بعض الشيء في محاولته الالتزامَ بلغةِ الحياة اليومية، لكنه لا يزال كتابًا جيدًا حتى بعد مرورِ ما يقرب من سبعين سنة على كتابته. هذا الكتاب يستحق البحث عنه، وإن لم يكن ذلك إلا للتذييل المكتوب سنة ١٩٥٩، الذي يصف التطورات التي وقعت في العَقد السابق بكل وضوح، بما في ذلك مخطَّطات فاينمان وانتهاء السببية. كتاب للرياضيين والفيزيائيين، لكنه غير مناسب لغير المتخصصين. يركِّز الكتاب على «طرق» استخدامِ نظريةِ الكَمِّ لحل المشكلات، لكنه ضعيف فيما يتعلَّق بتفسيرِ ما تعنيه المعادلات. دراسة شاملة في مجلَّد واحد، لا يتضمَّن مقدارًا صادمًا من الرياضيات، ويمكنك الاستفادة منه بالكثير من الرؤى المثيرة للاهتمام حتى إذا تجاهلت معظم الرياضيات. كتابٌ عن تفسير ميكانيكا الكَمِّ ودلالتها الفلسفية. يُسهِب أحيانًا في ذكْر تفاصيلَ عن تاريخ تفسير كوبنهاجن مثلًا، لكنه يحتوي على أكثرَ من وصفات طهي الكَمِّ. على غرار مؤلَّفات «دي بروي» المذكورة سابقًا، تُعَد أهمية هذا الكتاب تاريخية في الأساس بصفته سردًا بقلم أحد الرواد في ابتكار فيزياء القرن العشرين. كتابٌ ضخم غير متماسك إلى حدٍّ ما عن التطور الثوري للبيولوجيا الجزيئية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يستحق القراءة في حدِّ ذاته؛ وذلك لقصة البيولوجيا الجزيئية الي يتضمَّنها وما يذكره من رؤًى ثاقبة عن كيفية عمل العلماء. تتمثَّل صلته المحدَّدة بقصةِ ثورةِ الكَمِّ في الطريقة الواضحة التي يؤكِّد بها جادسون أن ميلاد ما نسمِّيه اليوم بالبيولوجيا الجزيئية قد حدث عندما استخدم لاينس بولنج قواعدَ ميكانيكا الكَمِّ لفهْم كيمياء الجزيئات المعقَّدة. ومن المؤسف أنَّ جادسون يقول أيضًا وهو على خطأ، إن نُسَخَ هايزنبرج وبورن وديراك لميكانيكا الكَمِّ قد ظهرت بعد نسخةِ شرودنجر، لكن لا أحدَ مثالي. وقائعُ مؤتمر عُقِد في تريستا سنة ١٩٧٢ تكريمًا لعيد ميلاد بول ديراك السبعين. تجعل قائمة المشاركين الرائعة، وجميعهم ممَّن قدَّموا إسهاماتٍ مهمةً في نظريةِ الكَمِّ، هذه الملحمة التي تحتوي على ٨٣٩ صفحة في مجلَّد واحد، أحدُ أفضل المصادر لذوي المعرفة العلمية، للاطلاع على الكيفية التي تغيَّرت بها الفيزياء في القرن العشرين. دراسةٌ شاملة لتاريخ فيزياءِ الكَمِّ. نُشِر منه حتى الآن أربعة أجزاء، تعود بالقصة حتى سنة ١٩٢٦، ومن المخطَّط إصدارُ خمسة أجزاء أخرى لاكتمال القصة حتى الوقت الراهن. ومع أن هذا العمل الهائل لا يتضمَّن أيَّ صعوبات رياضية، فإنَّ المعادلات الكثيرة الموجودة به محاطةٌ بثروة من المعلوماتِ المكتوبةِ بأسلوبٍ سهلٍ ومستساغ. كتابٌ شامل عن حياة أينشتاين وأعماله. محاولةٌ جريئة لشرْحِ نظريةِ النسبيةِ ونظريةِ الكَمِّ، وفيزياءِ الجسيمات الحديثة في جزء واحد. يكمُن صميم هذا الكتاب المكتوب بقلم أحد فيزيائي الجسيمات، في العرْض التفصيلي للجسيمات: الكواركات والجليونات، وبقية الجسيمات بأكملها. تَرِد نظريةُ الكَمِّ في الكتاب على نحوٍ موجزٍ بصفتها خلفيةً ضرورية لفهْم الجسيمات، ولا يتضمَّن الكتاب أيَّ منظورٍ تاريخي. يُعَد الكتاب مصدرًا جيدًا إذا أردت معرفة المزيد عن انتشار الجسيمات. يمثِّل الكتاب أيضًا مقارنةً مثيرةً للاهتمام مع مؤلَّفات كابرا وزوكاف. بالرغم من أن هذا الكتاب ظاهريًّا مقرَّرٌ دراسي لغير المتخصصين في العلوم، فإنه يقدِّم رؤية عامة للفيزياء بأكملها مع قليل من الرياضيات على نحوٍ يسهُل فهْمه، يمكن أن نوصي به بكل ارتياحٍ لأي شخص مهتمٍّ بالعلوم الحديثة. للكتابِ أهميةٌ تاريخية فحسب، لكنه يقدِّم نظرةً ثاقبة عن تفكير الشخص الذي أسَّس نظريةَ الكَمِّ للإشعاع، دون إدراك منه في البداية لضخامة الخطوة التي اتخذها. (ترجمة عن الطبعة الألمانية المنشورة سنة ١٩٢٨): تلك هي المقالات الأساسية التي وضع فيها شرودنجر أسسَ الميكانيكا الموجية، بما في ذلك تحليله الذي أوضح تكافؤ المصفوفة والميكانيكا الموجية. جُمِعَت المقالات الأساسية الأصلية حول ميكانيكا المصفوفات بواسطة فان درفيرون (انظر أسفله). كتابٌ مكتوب بطريقةٍ جميلة، له أهمية تاريخية بصفته مؤثرًا رئيسيًّا على الأشخاص الذين كشفوا الغموض عن بنية الجزيئات الحية. ولا يزال الكتاب جديرًا بالقراءة مع أنه صار من المعروف الآن أن جزيء الحياة هو الحمض النووي «دي إن إيه»، وأن الجينات ليست مصنوعة من البروتينات مثلما افترض شرودنجر عندما كتب هذا الكتاب. وإذا لم يقنعك هذا الكتاب بأن لنظريةِ الكَمِّ أهميةً محورية في الهندسة الوراثية، فلن يقنعك شيء آخر. يتضمَّن الخطابَ الذي ألقاه شرودنجر عندما مُنح جائزة نوبل، وهو خطاب واضح ومليء بالمعلومات، ويُعَد مصدرًا أساسيًّا للقراءة لجميع المهتمين بتطور ميكانيكا الكَمِّ. خطابات من شرودنجر وإليه، أما المراسلون الآخرون فهم أينشتاين، وبلانك، ولورنتز. يقدِّم الكتاب رؤًى تاريخيةً مثيرةً للاهتمام عن عقول هؤلاء الرجال العظام، بما في ذلك بعض المراسلات الرئيسية عن مفارقة القطة الشهيرة. كتاب يحتوي على الحد الأدنى من الرياضيات، لكنه موجَّه للطلاب الجادين. وبالرغم من قِدَمه، فإنه يُعَد ممتازًا لنظريةِ الكَمِّ في مستوى الطلاب الجامعيين. مقدمة أساسية على مستوى طلاب الجامعة في السنة الأولى، وهو يختلف كثيرًا عن غيره من الكتب الموجَّهة لذلك الجمهور في أنه يتضمَّن مقدمةً جيدةً لنظريةِ الكَمِّ والفيزياء النووية. وهو كتاب دراسي وليس لعموم الجمهور. تجميعٌ للمقالات الأساسية الأصلية، وجميعها نُسَخٌ باللغة الإنجليزية، بما في ذلك المقالات التي أرسَت أساسيات ميكانيكا المصفوفات (هايزنبرج وبورن وجوردان وديراك) لكنها لا تحتوي على مقالات الميكانيكا الموجية لشرودنجر (مجمَّعة وحدها؛ راجع شرودنجر). يورد الكتابُ مقدِّماتٍ مختصرةً لكنها شاملة لكل مقال ليضعها في السياق الصحيح. عرْضٌ شخصي وقوي وواضح عن اكتشافِ بِنية الحمض النووي. ربما يركِّز الكتاب على «العيوب»، لكنه مسلٍّ للغاية ويستحق القراءة. يقدِّم هذا الكتاب وقائعَ مؤتمر عُقِد في «معهد الدراسات المتقدمة»، في برينستون، احتفالًا بمئوية ميلاد أينشتاين. تضم قائمة المشاركين أسماءً معروفةً للغاية في مجال الفيزياء النظرية، ويضم الكتاب جزءًا شاملًا عن إسهام أينشتاين في نظريةِ الكَمِّ. ومع أن الكتاب لا يحتوي على الكثير من الرياضيات فإنه يتسمُ بالعمق وغير مناسب للقارئ العادي. أفضل تصوير في الخيال العلمي لما يمكن أن يحدث حين تكون باحثًا في الفيزياء يتمتَّع بتصوُّر خيالي بارع لنوعِ السفر عبر الزمن المحتمَل وجوده في واقع العوالم المتعددة. قصةٌ عن واقعٍ موازٍ حيث هُزِمت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية. نصٌّ لطيف مع الحد الأدنى من المعرفة العلمية، لكنَّ مفاجأة في الحبكة تجعله غيرَ اعتيادي. قصصُ «احتمالات» تحدُث في الواقع الموازي؛ حيث عاش ريتشارد ليونهارت «قلب الأسد» فترةً كافية ليضمن ألا يرث أخوه جون العرشَ الإنجليزي بعده. القصص فقيرة علميًّا لكنها قصصٌ بوليسية جيدة ومسلية. تصويرٌ مسلٍّ وشائق للتأثيرات المربِكة للسَّفر عبر الزمن للأمام وللخلف ضمن العوالم المتعددة في الواقع العمودي. من السهل تجاهل «العلم» في هذا الكتاب واعتباره محضَ هراء، لكن المعاني المضمَّنة قريبة جدًّا من بعض الأفكار التي ذُكرت في الفصل الحادي عشر من كتابنا. قصة عن السفر عبر الزمن استنادًا إلى تفسير كوبنهاجن. ربما تدور أحداث هذه القصة في كونٍ موازٍ وربما لا. وفي كلتا الحالتين فهو كتاب جيد للقراءة. نُشرت أولًا كحلقات في مجلةٍ سنة ١٩٣٨، وهي قصةُ مغامرةٍ محكَمة من الخيال العلمي في زمانها، وهي جديرة بالذكر لأمرٍ واحد فقط. ذلك أنه بحسبِ ما تمكَّنت من التعقُّب، فتلك هي المرة الأولى لظهورِ مفهومِ العوالم الموازية الذي أصبح فيما بعدُ تفسيرَ العوالم المتعددة لميكانيكا الكَمِّ، سواء في الأعمال الواقعية أو الخيال. توجد قصصٌ على طريقة «ماذا لو» أقدَمُ بالطبع تقع في عوالمَ بديلة، لكن وليمسون استخدم لغةً علمية ملائمة في رواية أحداثه، بعد عَقدٍ واحد فقط من إرساء أساسيات ميكانيكا الكَمِّ. «للخطوط الجيوديسية انتشار غير محدود من الفروع المحتملة التي تخضع لهوى اللايقين على المستوى تحت الذري». إنَّ هيو إيفرت لم يستطِع ذكْرَ ذلك بطريقةٍ أكثرَ دقةً في رسالته للدكتوراه بعد ١٩ عامًا، وإن كان قد وصفه على أساسٍ رياضي سليم. نادرًا ما يتنبَّأ الخيال العلمي بالفعل بالتقدُّم الذي سيحدث في العلوم النظرية، وذلك أمرٌ يستحق الإشادة به عند حدوثه. ربما يكون من المحال أن نصفَ هذه الثلاثية المسلية الجريئة والعبقرية، التي تقدِّم ثلاثة تنويعات مختلفة على الأفكارِ الكَمِّية (واحد في كل جزء من الثلاثية)، وهي مطبَّقة بعنايةٍ شديدةٍ لتُقدِّم إطارًا للأحداثِ نفسِها تقريبًا بالشخصياتِ نفسِها إلى حدٍّ كبير. وبشكلٍ ما، قدَّمت هذه الثلاثية لنظريةِ الكَمِّ ما قدَّمته «رباعية الإسكندرية» بقلم لورنس دوريل لنظرية النسبية، لكن ويلسون ممتعٌ بدرجةٍ أكبر. إنها عملٌ من النوع الذي ينبغي التدرُّب عليه لتتمكَّن من تذوقه، لكنك إن تمكَّنت من ذلك، فستدرك النكهة الحقيقية لعالَمِ الكَمِّ.
جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس. جون جريبين: أحد أشهر الكُتَّاب المعاصرين في العلوم المبسطة. من مؤلَّفاته الكثيرة التي نالت استحسانًا كبيرًا: «قصة الكون»، و«البحث عن قطة شرودنجر»، و«تاريخ العلم». يكتب بانتظام في العديد من الصحف، كما يؤلف روايات الخيال العلمي. عمل سابقًا في مجلتي «نيتشر» و«نيو ساينتيست»، ويحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء الفلكية من جامعة كامبريدج، وهو حاليًّا زميل زائر في قسم علم الفلك بجامعة ساسكس.
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/0.1/
مقدمة
في بداية القرن العشرين، لاحظ عالِمُ الرياضيات العظيم ديفيد هيلبرت أن عددًا من البراهين الرياضية المهمَّة مُتشابهُ التركيب. وفي الواقع، أدرك هيلبرت أنه عند مستوًى مناسبٍ من التعميم يمكن اعتبارُها هي نفسها. نتجَ عن هذه الملاحظة — وغيرِها من مُلاحظاتٍ مُشابهة — فرعٌ جديد في الرياضيات، سُمِّيَ أحدُ مفاهيمه الرئيسية باسم هيلبرت. إن المفهوم الرياضيَّ لفراغ هيلبرت يُلقي الضوء على جوانبَ كثيرة من الرياضيات الحديثة؛ بدءًا من نظرية الأعداد وحتى ميكانيكا الكَمِّ، حتى إنك إذا كنتَ لا تعرف على الأقل مبادئَ نظرية فراغ هيلبرت، فلا يُمكنك أن تدَّعيَ أنك عالِم رياضياتٍ ضليع. باختصار، لكي تأمُلَ في فَهم المقصود بفراغ هيلبرت؛ ينبغي لك أن تتعلمَ وتستوعب تسلسُلًا كاملًا من المفاهيم الأدنى مُستوًى أولًا. ولا عجَب في أن الأمر يستغرقُ وقتًا ومجهودًا. ولأن الأمر نفسَه ينطبق على عددٍ كبير من أهم الأفكار الرياضية، فإنه تُوجَد حدودٌ صارمة لما نستطيع إنجازَه من خلال أي كتابٍ يحاول تقديمَ مقدمة سهلة ومُستساغة إلى الرياضيات، لا سيَّما إذا كانت المقدمةُ قصيرةً جدًّا. وبدلًا من محاولة إيجاد طرقٍ ماهرة للتحايُل على هذه الصعوبة؛ فقد ركَّزتُ على عائقٍ آخرَ أمام إيصالِ المفاهيم الرياضية. هذه الصعوبة فلسفيةٌ أكثرُ منها تِقنية، وهي تُفرِّق بين مَنْ هم راضون بمفهومٍ مثل اللانهاية والجَذْر التربيعي لسالب واحد والبُعد السادس والعشرين والفراغ المنحني، ومَنْ يَجدونها مفاهيمَ مُتناقضةً على نحوٍ مُشوَّش. ومن الممكن أن يَقنَع المرءُ بهذه الأفكار، دون التعمُّق في التفاصيل التقنية، وهذا ما سأُحاول توضيحَ كيفيته. وإذا جاز القولُ إن لهذا الكتاب رسالةً، فرسالتُه هي ضرورةُ أن يتعلم المرءُ التفكيرَ المجرد؛ لأن كثيرًا من الصِّعاب سوف تختفي ببساطةٍ عند فِعل ذلك. وسوف أشرح بالتفصيل ما الذي أَعنيه بالطريقة المجردة في الفصل الثاني. يهتمُّ الفصل الأول بأنواعٍ أكثرَ أُلفةً وترابطًا من التجريد: عملية استخلاص السِّمات الأساسية من المسائل المُستقاة من الواقع، ومن ثَم تحويلها إلى مسائلَ رياضية. في هذَين الفصلَين والفصلِ الثالث أُناقش المقصودَ بالبرهان الدقيق في الرياضيَّات عمومًا. سأُناقش بعد ذلك موضوعاتٍ أكثرَ تحديدًا. أما الفصل الأخير، فهو يُعْنى بعلماء الرياضيات أكثرَ من الرياضياتِ نفسِها، ومن ثَم فطابَعُه مختلفٌ إلى حدٍّ ما عن الفصول الأخرى. أُوصي بقراءة الفصل الثاني قبل قراءة أيِّ فصلٍ من الفصول اللاحِقة، ولكن بصرف النظر عن ذلك فإن الكتاب قد نُظِّم بطريقةٍ غير مُتدرِّجة كلما أمكنَ ذلك، ولا أفترض، بالاقتراب من نهاية الكتاب، أن يستوعبَ القارئُ ويتذكَّر كلَّ ما وردَ ذِكره سابقًا. يلزم لقراءة هذا الكتاب الإلمامُ بقدرٍ ضئيل من المعلومات المستقاة من مراحلَ تعليميةٍ سابقة (يمكن الاكتفاءُ بالثانوية أو ما يُكافئها)، ولن أُحاول جذْبَ انتباهِ القارئ؛ لأنني سأفترض ضمنًا أنه مُهتم. ولهذا السبب؛ لم أتطرَّق في الكتاب إلى سردِ حكاياتٍ مُسلِّية أو الاستعانة برسومٍ كاريكاتورية أو جُملٍ إنشائية، أو الإتيانِ بعناوينَ هزلية للفصول، أو استخدامِ صورٍ من مجموعات ماندلبرو. وتجنَّبتُ أيضًا موضوعاتٍ مثلَ نظرية الفوضى ونظريةِ جودل، اللتَين تستحوذان على خيال العامَّة بما لا يتناسبُ مع تأثيرهما الضئيل على الأبحاث الرياضية الحاليَّة. على أي حالٍ فقد عُولِجَت هذه الموضوعاتُ جيدًا في كتبٍ أُخرى كثيرة. وبدلًا من ذلك، تناولتُ عددًا من الموضوعات البسيطة، وناقشتُها بالتفصيل؛ لتوضيح كيف يمكن فهمُها بطريقةٍ أدَق. وبعبارةٍ أخرى، قصدتُ إلى التعمُّق بدلًا من العرض بسطحية، وحاولتُ جاهدًا أن أنقل جاذبيةَ الرياضيات السائدة بِجَعْلِها تتكلم عن نفسها. أودُّ أن أشكر لمعهد كلاي للرياضيات وجامعة برنستون دعْمَهما وضيافتَهما لي أثناء مرحلةٍ من تأليف الكتاب. وإنني لَممتنٌّ جدًّا لجلبرت أدير، وربيكا جاورز، وإميلي جاورز، وباتريك جاورز، وجوشوا كاتز، وإدموند توماس؛ لقراءتهم المسوَّداتِ الأولى. ومع أنهم على قدرٍ كبير من الذكاء وسَعة الاطلاع لا يجعلهم في مصاف عموم القراء؛ فقد أكَّد لي ذلك على الأقل أن ما كتبتُه مفهومٌ لغير الرياضيِّين. وقد أثمرَت تعليقاتُهم كثيرًا من التحسينات. وإنني لأُهدي هذا الكتابَ إلى إميلي؛ على أملِ أن يُعطيها فكرةً بسيطة عما أفعله طَوال اليوم.
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/1/
النماذج
افترِضْ أنك واقفٌ على أرض مستوية في يوم هادئ، وتُمسك في يدِك حجرًا، وتودُّ أن ترميَه إلى أبعدِ مسافةٍ ممكنة. إذا سلَّمنا جَدلًا بأنك ستُلقيه بقوة، فإن القرار الأهم الذي يجب اتخاذُه هو تعيين الزاوية التي يترك بها الحجر يدَك. إذا كانت هذه الزاويةُ مسطَّحةً للغاية، فإن الحجر سيسقط سريعًا على الأرض مع أنَّ له سرعةً أُفقية كبيرة، ومن ثمَّ فلن تكون لدَيه فرصةٌ للوصول إلى مسافةٍ بعيدة جدًّا. وعلى الجانب الآخر، فإنك إذا رميتَ الحجر لمسافةٍ عالية جدًّا فإنه يظلُّ مدةً أطولَ في الهواء، ولكن لن يُغطِّيَ مسافةً كبيرة على الأرض في هذه الحالة. من الواضح أننا نحتاج إلى حلٍّ وسط. في ضوءِ هذه الاعتراضات، وبعضُها من الواضح أنه أكثرُ جِديةً من غيره، ما الموقف الذي على المرء أن يتَّخذه من العمليات الحسابية، والتوقُّعات الناتجة عنها؟ أحد الأساليب هي وضعُ أكبر عددٍ من الاعتراضات في الحسبان. ومع ذلك، فإن النَّهج الأصوبَ على النقيض من ذلك تمامًا؛ حدِّدْ مستوى الدقة الذي تُريده، وحاوِلْ تحقيقه بأبسطِ طريقةٍ ممكنة. وإذا علمتَ من خبرتك أن افتراضًا مبسَّطًا سيكون له تأثيرٌ ضئيل على الناتج، فينبغي لك الأخذُ بهذا الافتراض. على سبيل المثال، سيكون تأثيرُ مقاومة الهواء على الحجر محدودًا نوعًا ما؛ لأن الحجر صغير، وصلد، ومُتماسكٌ إلى حدٍّ معقول. ولذا، لا مَغزى من تعقيدِ العمليات الحسابية بأخذِ مقاومة الهواء في الاعتبار، في الوقت الذي يُحتمَل فيه حدوثُ خطأٍ كبير وملحوظٍ في زاويةِ رمي الحجر على أي حال. فإذا رغبتَ في أخذ مقاومة الهواء في الاعتبار، فمن الجيد بما يكفي لمعظم الأغراض تطبيقُ القاعدة العامة التالية: كلَّما زادت مقاومةُ الهواء، تعيَّن رميُ الحجر بزاويةٍ أقربَ إلى الزاوية المستقيمة؛ لتعويض ذلك. عندما يفحص المرءُ حلَّ مسألةٍ ما في الفيزياء، فإنه يحدث أحيانًا وليس دائمًا أن يُلاحظ فَرقًا واضحًا بين إسهامات العلوم وإسهامات الرياضيات. فالعلماء يضَعون نظرية، تعتمد في جزءٍ منها على نتائج الملاحظات والتجارِب، وتعتمد في جزءٍ آخرَ على اعتباراتٍ أكثرَ تعميمًا مثل التبسيط والقوة التفسيرية. ثم يفحص الرياضيُّون، أو علماءُ الرياضيات، النتائجَ المنطقية البَحْتة المترتبةَ على النظرية. وفي بعض الأحيان تكون هذه النتائجُ نِتاجَ عملياتٍ حسابية روتينية تتنبَّأ على وجه التحديد بأنواع الظواهر التي صُمِّمَت النظريةُ لتفسيرها، لكن تنبُّؤات النظرية أحيانًا ما تكون غيرَ متوقَّعةٍ بالمرة. وإذا أثبتَت التجارِبُ صحةَ هذه التنبؤات لاحقًا، فإنه يكون لدَينا برهانٌ قوي يؤكِّد تأييدَ النظرية. ومع ذلك، فإنَّ فكرة تأكيدِ تنبُّؤٍ علمي ما تكون محلَّ نظر إلى حدٍّ ما؛ نظرًا إلى ضرورة إجراء تبسيطاتٍ من النوع الذي ناقَشتُه سابقًا. لنأخُذْ مثالًا آخر: في قانونَيْ نيوتن لكلٍّ من الحركة والجاذبية يقتضي الأمرُ ضِمنًا أنك إذا أسقطتَ جسمَين من الارتفاع نفسِه، فإنهما يرتطمان بالأرض (إذا كانت مستوية) في الوقت نفسِه. كان جاليليو هو أولَ مَن أشار إلى هذه الظاهرة، وهي ظاهرةٌ غيرُ بديهيةٍ نوعًا ما. بل إنها في الحقيقة أسوأُ من ذلك؛ فإذا أجريتَ التجرِبةَ بنفسك باستخدام كُرتَين إحداهما للجولف والأخرى لتنس الطاولة، فإنك ستجدُ أن كرة الجولف ترتطم بالأرض أولًا. إذن، بأيِّ معنًى كان جاليليو مُحقًّا؟ وبالطبع، فإن مُقاومة الهواء هي السبب الذي جعَلَنا لا نعتبر هذه التجرِبةَ دحضًا لنظرية جاليليو أو إبطالًا لها؛ إذ يَثبُت بالتجرِبة صحةُ النظرية عندما تكون مقاومةُ الهواء صغيرة. إذا وجدتَ أنه من الأنسب أكثرَ مما ينبغي اعتبارُ مقاومة الهواء هي المُنقِذَ في كل مرةٍ تُخطئ فيها تنبؤاتُ ميكانيكا نيوتن، فسوف تستعيد إيمانَك بالعلوم، وإعجابَك بجاليليو إذا أُتيحَت لك فرصةُ مراقَبة ريشةٍ تسقط في الفراغ؛ إنها في الحقيقة تسقط تمامًا كما كان سيسقُط الحجر. تُوجَد العديدُ من الطرق لإنشاء نموذج لموقفٍ فيزيائي معيَّن، ويجب أن نستخدم مزيجًا من الخبرة واعتباراتٍ نظريةً أخرى لتحديدِ الشكل الذي مِن المحتمَل أن يكون عليه النموذجُ المُعطى ليُزودنا بمعلوماتٍ عن الواقع نفسِه. عند اختيار نموذجٍ ما؛ لا بد أن تكون الأولويةُ هي أن يتطابقَ سلوكُه بدقةٍ مع السلوك المُلاحَظ للعالم. ومع ذلك، ثَمة عواملُ أخرى — مثل البساطة والدقَّة الرياضية — يمكن غالبًا أن تحظى بقدرٍ أكبرَ من الأهمية. في الواقع، تُوجَد نماذجُ مفيدةٌ للغاية لا تُشبه تقريبًا الواقعَ الفعليَّ على الإطلاق، كما سيتَّضح من بعض الأمثلة التي سأعرضُها. إذا ألقيتُ زوجًا من النَّرْد، وأردتُ أن أعرف كيف سيكون سلوكُه، فإنني أعرف بالتجرِبة أن هناك أسئلةً مُعيَّنة يكون من غير الواقعيِّ طرحُها. فمثلًا من غير المتوقَّع أن يُخبرني شخصٌ مقدمًا بناتجِ إلقاء النَّرْد في إحدى المرات، حتى إذا أُتيحَت له تكنولوجيا باهظةُ التَّكلِفة، فإنَّ إلقاء النَّرْد سيتمُّ آليًّا. وعلى النقيض من ذلك، فالأسئلة ذاتُ الطبيعة الاحتمالية مثل «ما احتمالُ أن يكون مجموعُ العددَين على كل نَرْدٍ سبعة؟» يمكن غالبًا الإجابةُ عنها، وربما تكون الإجابة مفيدةً إذا كنا — على سبيل المثال — نلعب لُعبة الطاولة مقابل المال. بالنسبة إلى النوع الثاني من الأسئلة، يُمكننا بسهولةٍ شديدة إنشاءُ نموذجٍ للموقف بتمثيل إلقاء النَّرْد على أنه اختيارٌ عشوائي لأحد الأزواج المرتَّبة الستة والثلاثين التالية: ربما كان على المرء أن يعترضَ في هذا النموذج على أساس أن النَّرْد عند إلقائه يكون سلوكه موافقًا لقوانين نيوتن، ولو بدرجةٍ كبيرة من الدقة على أقلِّ تقدير، ومن ثمَّ فإن الوضع الذي يتوقَّف عليه النَّرْد يكون عشوائيًّا. ومن حيث المبدأُ يمكن حسابُ توقُّفه. ومع ذلك، فكلمةُ «من حيث المبدأ» هنا فيها مُغالاة؛ لأن الحسابات تكون معقَّدةً جدًّا، ويجب أن تُبنى على معلوماتٍ أدق عن الشكل والتكوين، والسرعة الابتدائية، ودوَران النَّرْد، مما يمكن قياسُه في الواقع. ولذلك، لا تُوجَد ميزةٌ على الإطلاق في استخدامِ نماذجَ أكثر حسمًا وتعقيدًا. بل إنَّ هذا النموذج الرئيسي جيدٌ بما فيه الكفاية لإقناعنا بأنه في حالِ ارتفاع معدَّل المواليد بدرجةٍ كبيرة عن معدَّل الوفَيات، فإن عدد السكان سيزداد بسرعةٍ كبيرة للغاية. ولكنه أيضًا غيرُ واقعي على نحوٍ يجعل تنبؤاتِه غيرَ دقيقة. على سبيل المثال، افتراض أنَّ نسبة المواليد ونسبة الوفَيات ستظلان كما هما مدةَ ٢٠ عامًا ليست مقبولة؛ ذلك أنهما قد تأثَّرا في الماضي بالتغيُّرات الاجتماعية والأحداث السياسية مثل التطورات الحادثة في مجال الطِّب، والأمراض الحديثة، وارتفاع متوسِّط العمر الذي تبدأ عنده النساءُ في الولادة، والحوافز الضريبية، والحروب الواسعةِ النطاق في أجزاءٍ متفرقة من العالم. سببٌ آخر لتوقُّع تغيُّر نسبة المواليد ونسبة الوفَيات مع مرور الزمن هو أن أعمار السكان في البلد الواحد ربما تكون موزعةً على نحوٍ غير متساوٍ إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، إذا حدَث ارتفاعٌ مفاجئ في المواليد قبل ١٥ عامًا، فهناك مبررٌ لتوقُّع ارتفاع نسبة المواليد خلال ١٠ إلى ١٥ عامًا. وفقًا لنظرية الحركة للغازات التي قدَّمها دانييل برنولي عام ١٧٣٨، وتطوَّرَت على يد ماكسويل وبولتزمان وآخَرين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن الغاز يتكوَّن من جُزَيئاتٍ متحرِّكة، وكثيرٌ من خصائصه، مثل درجة الحرارة والضغط، هي خصائصُ إحصائيةٌ لهذه الجزيئات. درجة الحرارة مثلًا تُناظِر متوسطَ سرعة الجزيئات. ومع أخذِ هذه الفكرة في الاعتبار، فلْنُحاولْ وضْعَ نموذجٍ للغاز الموجود في صندوقٍ مكعَّب. يجب بالطبع تمثيلُ الصندوق بمكعَّبٍ (وهو تمثيلٌ رياضي وليس فيزيائيًّا)، وبما أن الجزيئاتِ صغيرةٌ جدًّا فمن الطبيعيِّ تمثيلُها بنقاطٍ داخل المكعب. من المفترض أن هذه النقاطَ تتحرَّك، ومِن ثمَّ يجب أن نُقرر القواعد التي تحكم حركتَها. وفي هذه المرحلة، علينا إجراءُ بعض الاختيارات. وليس من الصعب أبدًا استنتاجُ العلاقات العددية بين الضغط ودرجة الحرارة والحجم. بمجرد اختيارنا للسرعات، نستطيع مرةً أُخرى أن نغُضَّ الطَّرْف تمامًا عن وجود تفاعلاتٍ بين الجزيئات. ونتيجةً لذلك، فإن النموذج المُحسَّن قليلًا سيشترك في كثيرٍ من عيوب النموذج الأول. ولا سبيلَ أمامنا لإصلاح ذلك إلا بوضعِ نموذج يُراعي هذه التفاعلاتِ بطريقةٍ أو أخرى. ويتَّضح أنه حتى النماذج البسيطة جدًّا لأنظمة الجسيمات المتفاعلة تتصرَّف بطريقةٍ مدهشة، وتُسفِر عن مشكلاتٍ رياضية صعبة للغاية، مُستحيلة الحل غالبًا. يُطلَق على مجموعةِ البوَّابات المرتبطة بواسطة أضلاع اسمُ «دائرة»، وما استعرضتُه هنا هو نموذج الدائرة الحسابي. السببُ في أن كلمة «الحسابي» مناسبةٌ هنا هو أن الدائرة يمكن التفكيرُ فيها بأنها تأخذ متتابعةً واحدة من الأصفار والآحاد، وتنقُلها إلى متتابعة أخرى، طبقًا لقواعدَ محددة سابقًا، من الممكن أن تكون معقدةً للغاية في حالِ إذا كانت الدائرةُ كبيرة. وهذا أيضًا ما تفعله أجهزةُ الكمبيوتر، على الرغم من أنها تُترجم هذه المتتابعاتِ إلى صِيَغٍ يمكن فهمُها مثل لُغات البرمجة العاليةِ المستوى والإطارات والأيقونات وهكذا. ومن ثَم يصبح من السهل جدًّا (من الناحية النظرية، ولكنه يظلُّ كابوسًا مروِّعًا من الناحية العَملية) تحويل أيِّ برنامج كمبيوتر إلى دائرة تُحوِّل المتتابعات المكوَّنة من أصفارٍ وآحاد طبقًا للقواعد نفسِها تمامًا. علاوةً على ذلك، الخصائص المهمَّة لبرامجِ الكمبيوتر تكون لها ما يُماثلها في الدوائر الناتجة. وعلى وجه الخصوص، فإن عدد الرءوس في الدائرة يُقابل المدةَ الزمنية التي يستغرقها برنامجُ الكمبيوتر في تشغيله. ولهذا إذا استطاع المرءُ إثباتَ أن طريقةً معيَّنة لنقل مُتتابعات الأصفار والآحاد تحتاج إلى دائرةٍ كبيرة جدًّا، فإنه يكون قد أثبتَ كذلك أنها تحتاج إلى برنامجِ كمبيوتر يستغرق في تشغيله وقتًا طويلًا للغاية. تتمثل مَيزةُ استخدام نموذج الدائرة بدلًا من تحليل أجهزة الكمبيوتر في أنه أبسطُ وأسهل وأقرب إلى الواقع. يمكن أن يُسفر تعديلٌ صغير في نموذج الدائرة عن نموذجٍ مفيد للدماغ البشري. والآن، بدلًا من الأصفار والآحاد، فإن المرءَ لدَيه إشاراتٌ مُتباينة في قوتها، يمكن تمثيلها بأعدادٍ ما بين صفرٍ وواحد. البوابات التي تُقابل الخلايا العصبية، أو خلايا الدماغ، مختلفةٌ أيضًا، لكنها ما زالت تتصرَّف بطريقةٍ بسيطة للغاية. تستقبل كلُّ بوابة بعضَ الإشارات من البوابات الأخرى. فإذا كانت القوة الكلية لهذه الإشارات — أي مجموعُ كلِّ الأعداد المقابلة — كبيرةً بدرجةٍ كافية، فإن البوابة تُرسِل إشاراتها الخاصةَ بقُوًى مُعيَّنة. وإلا، فإنها لا تُرسل أيَّ إشارة. وهذا يُقابل قرار الخلية العصبية في أن «تستجيب» أو لا. يبدو أنَّ من الصعب الاعتقادَ بأن هذا النموذج يمكنه التقاطُ كل تعقيدات الدماغ. ومع ذلك، قد يكون ذلك صحيحًا جُزئيًّا؛ لأننا لم نقل شيئًا عن عدد البوابات التي ينبغي أن تكون موجودة، ولا الكيفية التي ينبغي ترتيبُها وَفقًا لها. يحتوي الدماغ البشريُّ النموذجي على نحوِ مائة مليون خليةٍ عصَبية مُرتَّبة بطريقةٍ معقَّدة جدًّا، وعلى ضوء المعرفة الحاليَّة بالدماغ، من غير الممكن أن نقول ما هو أكثرُ من ذلك، على الأقل فيما يتعلق بالتفاصيل الدقيقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن النموذج يُمِدُّنا بإطارٍ نظري مُفيد للتفكير في آليَّة عملِ الدماغ، وأتاح للناس مُحاكاةَ بعض أنواع السلوك الشبيهة بالدماغ. لنفترض أنك صمَّمتَ خريطةً مُقسَّمة إلى قطاعاتٍ، وأردتَ أن تختار ألوانًا لهذه القطاعات. ورغبتَ في أن تستعمل أقلَّ عددٍ ممكنٍ من الألوان، لكنك لا ترغب في تعيين اللون نفسِه إلى قِطاعَيْن متجاورَيْن. نفترض الآن أنك أردتَ أن تُنشئ جدولًا زمَنيًّا لمحاضراتِ مقرَّرٍ جامعي مُقسَّم إلى وحداتٍ تعليميَّة. عدد المواعيد المتاحة للمحاضرات محدود، ومن ثمَّ يحدُث تعارضٌ بين بعض الوحدات التعليمية وغيرها. ولدَيك قائمةٌ تُحدِّد كلَّ طالبٍ والوحدات التي يأخذُها، وتريد أن تختار المواعيد بحيث لا تتعارض وَحْدتان تعليميَّتان إلا إذا كان لا أحدَ يحضرهما معًا. عند إنشاء نموذج، فإننا نُحاول قدْر الإمكان تجاهُلَ ما يمكن تجاهلُه من الأمور المتعلقة بالظاهرة قيد الدراسة، ونستخلص منها فقط السِّمات الأساسيةَ لِفَهم سلوكِها. في الأمثلة التي نوقِشَت اختُزِلَت الأحجارُ إلى نقاطٍ مفردة، واختُزِلَ سكان أيِّ بلدٍ إلى عددٍ واحد، واختُزِلَ الدماغ إلى شبكةٍ من البوابات التي تخضع لقواعدَ رياضيةٍ بسيطة للغاية، واختُزِلَ التفاعلُ بين الجزيئات إلى صفرٍ أو لا شيء. إنَّ البِنَى الرياضيةَ الناتجة هي تمثيلاتٌ مجرَّدة للمواقف المادِّية الجاريةِ نمْذَجَتُها. الرياضياتُ موضوعٌ مجرَّد من منظورَين؛ إنها تستخلص السِّماتِ المهمةَ من مشكلةٍ ما، وإنها تتعامل مع كائناتٍ غير مادية وغير ملموسة. وسوف يُناقش الفصلُ التالي مفهومًا ثالثًا أعمقَ للتجريد في الرياضيات، وهو ما أعطانا المثالُ المذكور في الجزء السابق فكرةً عنه بالفعل. الرسم هو نموذجٌ مَرِن جدًّا له استخداماتٌ كثيرة. ومع ذلك، فلا داعيَ عند دراسة الرسوم أن يأخذ المرءُ استخداماتها في الاعتبار؛ لا يُهم إذا كانت النقاطُ تُمثِّل قطاعاتٍ أو محاضراتٍ أو غير ذلك تمامًا. يمكن للباحث النظريِّ في مجال الرسوم أن يترك العالمَ الواقعيَّ كُليةً وراءه ويدلفَ إلى عالم التجريد البَحْت.
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/2/
الأعداد والتجريد
قبل بضعة أعوام، استُهِلَّ مقالٌ نقديٌّ في الملحَق الأدبي لجريدة التايمز بالفِقرة التالية: يمكن الردُّ على هذا الجدل بطرقٍ عدَّة، ومن غير المحتمل أن يأخذه أحدٌ على محمَل الجِد، بمَن فيهم الناقد. ومع ذلك، يُوجَد بالتأكيد فلاسفةٌ يأخذون مسألةَ وجودِ الأعداد من عدمه بجِدِّية، وهو ما يُميِّزهم عن علماء الرياضيات، الذين يجدون مسألةَ وجود الأعداد بديهيةً وواضحة، أو لا يفهمون كُنه المسألةَ المطروحة. يهدف هذا الفصلُ بصفةٍ أساسية إلى شرح الأسباب التي على أساسها يمكن لعلماءِ الرياضيات (بل ويتعيَّن عليهم) تَجاهلُ هذه المسألة التي تبدو في ظاهرها أساسيَّة. يتجلَّى سخفُ الجدل «البسيط إلى حدِّ السذاجة» بشأنِ وجود الأعداد إذا نظر المرءُ في جدلٍ مُماثل بشأن لُعبة الشِّطْرَنْج. لنفترض أن المَلك الأسود في الشِّطرَنج يُسمَح له أحيانًا بالتحرُّك في اتجاهٍ قُطري مسافةَ مربعٍ واحد، فإنه يترتبُ على ذلك وجودُ قِطَع من الشِّطرنج يُسمح لها أحيانًا بالتحرك في اتجاهٍ قُطريٍّ مُربعًا واحدًا، وهذا يستتبع بدوره وجودَ قِطَع الشطرنج من الأساس. وبالطبع، لا أعني بذلك أن أُشير ببساطةٍ إلى أن الناس أحيانًا يَبْنون ألواحَ الشطرنج — ففي النهاية، يمكن لعبُ الشطرنج من دون هذه الألواح — ولكن ما أعنيه هو النتيجة الفلسفية الأكثر «إذهالًا»؛ بأنَّ قِطَع الشطرنج تُوجَد بشكلٍ مُستقلٍّ عن مَظاهرها المادية. ما الذي يَعنيه الملكُ الأسود في لُعبة الشطرنج؟ هذا سؤالٌ غريب، ويبدو أن أحسنَ طريقة للتعامل معه هي تنحيتُه جانبًا قليلًا. فماذا عساه أن يفعل المرءُ أكثرَ من الإشارة إلى لوح الشِّطرنج وشرحِ قواعد اللُّعبة، ربما مع إيلائه اهتمامًا خاصًّا لدور الملك الأسودِ في أثناء ذلك؟ ما يُهم في الملك الأسود ليس وجوده ولا طبيعته الذاتية، ولكن الوظيفة التي يُؤدِّيها في اللُّعبة. الطريقة المجرَّدة في الرياضيات، كما تُسمَّى أحيانًا، هي النتائج المترتِّبة على اتخاذ المرءِ موقفًا مُماثلًا تجاهَ الكائنات الرياضية. يمكن تلخيصُ هذا الموقف في الشِّعار الآتي: يَكمُن معنى الكائن الرياضي في وظيفته. كثيرًا ما ظهرَت شِعاراتٌ مُشابهةٌ في فلسفةِ اللغة، وهي شِعاراتٌ يمكن أن تكون مثيرةً للجدل على نحوٍ كبير. وفيما يلي مِثالان على ذلك: «في اللغة لا يُوجَد سِوى الفروقِ والاختلافات»، و«يكمن معنى الكلمةِ في استعمالها في اللُّغة»، ويرجع هذان المثالان إلى سوسور وفيتجنشتاين على الترتيب (راجع جزء «قراءات إضافية»)، ويمكن للمرء أن يُضيف الرأيَ الذي اجتمَع عليه أنصارُ الوضعية المنطقية، وهو أنَّ: «معنى أيِّ تصريح يكمُن في طريقة التحقُّق من صحته». فإذا وجدتَ أن تصريحي غيرُ مُستساغ لأسبابٍ فلسفيَّة، فعليك عندَئذٍ أن تُفكِّر فيه من منظورِ أنه موقفٌ يمكن للمرء تبنِّيه أحيانًا، وذلك بدلًا من اعتباره حُكمًا أو تصريحًا مُطلقًا يفتقر إلى وجود بيِّنة أو دليل. وفي الواقع، من الضروري للمرء أن يتمكَّن من تبنِّي هذا الموقف من أجل أن يتوصَّل إلى فَهمٍ صحيح للرياضيات المتقدِّمة، وهذا ما آمُل أن أوضِّحه هنا. هذا النموذج المرسوم لِلُعبة الشطرنج، وإن كان غيرَ عمَلي بالمرة؛ لوجود عددٍ كبير جدًّا من مواضع الشطرنج الممكِنة، فإنه مِثاليٌّ من منظورِ أن المباراة الناتجةَ تُكافئ تمامًا مباراةَ الشطرنج الحقيقية. ومع ذلك، فإنني عندما عرَّفتُه لم أذكر قِطعَ الشطرنج أبدًا. ومن هذا المنطلق، يبدو من غير العاديِّ تمامًا أن نسأل عن وجود الملكِ الأسوَد؛ لوح الشطرنج وقِطَعُه ما هي إلا مبادئُ مُنظِّمة ملائمة، تُساعدنا على التفكير في النسَق المذهل للرءوس والأضلاع في الرسوم الكبيرة. إذا قُلنا شيئًا مثل «الملك الأسود معرَّض للتهديد» فإن ذلك يعني اختصارًا لجملةٍ تُعيِّن قائمةً طويلة للغاية من الرءوس، وتُخبرنا أن اللاعبَيْن قد وصلا إلى أحَدِها. بعبارةٍ أخرى، لا يُشترَط أن تكون الأعداد كبيرةً للغاية للتوقُّف عن التفكير فيها ككائناتٍ معزولة، والبدء في فَهمِها من خلالِ خصائصها، ومن خلال علاقتها بالأعداد الأخرى، ومن خلال دَورها في نظام الأعداد. هذا ما قصَدتُ إليه عند حديثي عن «وظيفة» العدد. بطبيعة الحال، لن يَعبأَ أحدٌ بطرح هذا السؤال، لكن في حالِ طَرْحِه، يمكننا الإجابةُ بأن: يُسمَّى هذان القانونان بقانون الإبدال وقانون التجميع في عملية الضرب. دعوني أسرُدْ لكم بعضَ القواعد، بما فيها هذان القانونان، التي نستخدمها عادةً عند الجمع والضرب. ••• تاريخيًّا، تطوَّرَت فكرةُ العدد صفر في وقتٍ لاحِق من تطوُّرِ فكرة الأعداد الموجبة. وبدا هذا غامضًا ومتناقضًا لكثيرٍ من الناس، حيث أثار الأمر أسئلةً من قَبيل: «كيف يُمكن لشيءٍ أن يكون موجودًا وهو مع ذلك لا شيء؟» ولكن من وجهةِ النظر المجرَّدة، فإنَّ للصفر معنىً مباشرًا للغاية؛ وهو أنه مجردُ رمزٍ جديد دخَل في نظامنا العدديِّ وله الخاصيةُ المميزة التالية. وهذا هو كل ما تحتاج إلى معرفته عن الصفر. ليس ما يَعنيه الصفر في ذاته، ولكن مجرد قانون صغير يُخبرك بوظيفته. لماذا أُعطي هذا البرهانَ المستفيض لإثبات حقائقَ أوليةٍ للغاية؟ مرةً أخرى، ليس لأنني أجدُ البراهين ممتعةً رياضيًّا، ولكن لأنني أرغبُ في بيانِ ما يَعنيه تعليلُ الجُمَل الحسابية وتسويغُها بطريقةٍ مجرَّدة (باستخدام بعض القواعد البسيطة، دون أن نُجهِد أنفسنا بماهيَّة الأعداد فعليًّا) بدلًا من التفسير المادي الملموس (بالتفكر فيما تَعنيه الجُمَل). ومن المفيد جدًّا — بالطبع — أن نَربط المعانيَ والصور الذهنية بالكائنات الرياضية، لكن، كما سنرى كثيرًا في هذا الكتاب، غالبًا ما يكون هذا الربطُ غيرَ كافٍ لإخبارنا بما علينا فِعلُه في السياقات الجديدة غيرِ المألوفة. ولهذا، تصبح الطريقة المجردة لا غِنَى عنها. في الواقع، نحتاج إلى قانونَين آخَرين لتوسيع نظام الأعداد على هذا النحو: أحدهما لإدخال الأعداد السالبة، والآخَر لإدخال الكسور، أو الأعداد النسبية، كما هي معروفةٌ عادةً. يقتضي قانونا المعكوس الجمعي والمعكوس الضربي قانونَين آخرَين، يُعرَفان بقوانين الحذف. يمكن التحقُّق من هذه الطريقة، وغيرِها، باستخدام القوانين الجديدة التي ذكَرناها أعلاه. على سبيل المثال، وكذلك لماذا يبدو لكثيرٍ من الناس أن الأعداد السالبة أقلُّ واقعيةً من الأعداد الموجبة؟ ربما لأن عدَّ مجموعاتٍ صغيرة من الأشياء يعدُّ نشاطًا أساسيًّا بين الناس، وعند عملِه لا يتطلَّب الأمرُ استخدام الأعداد السالبة. لكن، هذا كلُّه يعني أن نظام الأعداد الطبيعية، باعتباره نموذجًا، يكون مفيدًا في حالاتٍ مُعيَّنة، ولكن النظام الموسَّع للأعداد ليس كذلك. فإذا أردنا أن نُفكِّر في درجات الحرارة أو التواريخ أو الحسابات البنكية، فإن الأعداد السالبة تُصبح مفيدة فعلًا. وما دام النظام العدديُّ الموسَّع متَّسقًا منطقيًّا، فلا يوجد ضررٌ من استعماله نموذجًا. يتكوَّن نظام الأعداد الحقيقية من جميع الأعداد التي يمكن تمثيلُها بكسورٍ عشريةٍ غيرِ منتهية. هذا المفهوم أكثرُ تعقيدًا مما يبدو؛ لأسبابٍ ستُشرَح في الفصل الرابع. أما الآن، فدعني أقُلْ لك إن سبب توسيع نظام الأعداد من الأعداد النسبية إلى الأعداد الحقيقية مماثلٌ لسببِ تقديمنا للأعداد السالبة والكسور؛ إنها تُمكِّننا من حلِّ مُعادلاتٍ لا يمكن حلُّها بدونها. يتوازى ذلك مع مسألةٍ فلسفية شهيرة. هل يمكن أن يكون إحساسُك عند ملاحظتك اللونَ الأحمر هو ما أتصوَّرُه أنا عند ملاحظتي اللونَ الأخضر، والعكس صحيح؟ بعضُ الفلاسفة يتعاملون مع هذا السؤال على نحوٍ جِدِّي ويُعرِّفون «الكيفيات المحسوسة» بأنها خِبراتنا الذاتية المطلقة عندما نرى الألوان على سبيل المثال. بينما لا يعتقد الفلاسفةُ الآخَرون في الكيفيات المادية المحسوسة. ذلك أنهم يرَون أن كلمةً مِثل «أخضر» تُعرَّف بطريقةٍ أكثر تجريدًا بدَورها في نظامٍ لُغويٍّ ما؛ أي بعلاقاتها بمفاهيمَ مثل «عُشب»، «أحمر»، وهكذا. ومن غير الوارد استنتاج موقفِ شخصٍ ما من هذا المقال من طريقةِ كلامه عن اللون، باستثناء خلال المناقشات الفلسفيَّة. وبالمثل، فإن كلَّ ما يهمُّ عَمليًّا فيما يخصُّ الأعدادَ وغيرها من الكائنات الرياضية هو القوانين التي تتبعُها. من أعظم فوائد الطريقة المجردة أنها تسمح لنا بإسباغ معنًى على المفاهيم المألوفة في المواقف غير المألوفة. ومن المناسِب هنا اختيارُ عبارة «إسباغ معنًى» حيث إن هذا ما نفعله ببساطة، وليس اكتشاف معنًى موجودٍ من قبل. ومثالٌ بسيط على ذلك الطريقة التي نوسِّع بها مفهومَ رفعِ عددٍ إلى قوة. وفيما يلي القانونان الأساسيَّان لرفعِ الأعداد إلى قُوًى: سوف أناقش عددًا من المفاهيم ذات الطبيعة المماثلة في جزءٍ لاحقٍ من الكتاب. تبدو هذه المفاهيمُ ضَربًا من الغموض إذا حاولتَ أن تفهمها فَهمًا ملموسًا، لكنها تفقد غُموضها إذا استرخيتَ، ولم تعبَأْ بماهيَّتِها، واستخدمتَ الطريقةَ المجردة في التفكير.
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/3/
البراهين
ومع ذلك، نادرًا ما يقتنع علماءُ الرياضيات بعبارةِ «يبدو أن». وبدلًا من ذلك، فإنهم يطلبون برهانًا؛ أي: إثباتًا يجعل الجملة الرياضيَّة تتجاوز كلَّ الشكوك الممكنة. ماذا يعني ذلك؟ على الرغم من أن المرء يستطيع غالبًا إثباتَ صحةِ جملةٍ رياضية على نحوٍ يتجاوز كلَّ الشكوك المعقولة، فلا شك أنه سيكون ضَربًا من المبالغة الزعمُ بأنَّ برهانًا ما لا يترك مجالًا للشكِّ مهما كان. يمكن للمؤرخين تقديمُ العديد من الأمثلة على جُملٍ وعبارات، بعضُها رياضية، كان يُظَن يومًا أنها لا يَرقى إليها الشكُّ، ولكن تبيَّن فيما بعدُ أنها غيرُ صحيحة. فلماذا يُفترَض في النظريات الرياضية اليومَ أن تكون استثناءً في ذلك على أيِّ نحو؟ سأُجيب عن هذا السؤال بإعطاء أمثلةٍ لبراهين، وأستخلصُ منها بعض الاستنتاجات العامة. يُستهَلُّ البرهان من هذا النوع بافتراض أن النتيجة المطلوب إثباتُها غيرُ صحيحة. ربما تبدو هذه طريقةً غريبة لتقديم البرهان، لكننا في الحقيقة نَستخدِمُ غالبًا التقنية نفسَها في المحادثة اليومية. إذا ذهبتَ إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغٍ بأنك رأيتَ عرَبةً محطَّمة عمدًا، واتُّهِمتَ بأنك أنت مرتكبُ هذا الفِعل، فإنك ربما تقول «إذا كنتُ أنا الفاعل، فما كنتُ لِأَلفِت الانتباهَ إليَّ على هذا النحو». وعندئذٍ، ستتبنَّى مؤقتًا الفرضيَّةَ (غيرَ الصحيحة) بأنك أنت الفاعل؛ لإثباتِ مدى سخفِ هذه الفرضية وعدم منطقيَّتها. (٦-ب-٤) وعليه، فإن كل عددٍ صحيح موجب هو عددٌ صالح، وهو ما كنا بصدَدِ إثباتِه. يُعرَف هذا بمبدأ الاستقراء الرياضي، أو الاستقراء فقط للذين يعتادون استخدامَه. وبمفرداتٍ أقلَّ تخصُّصًا، فإنه ينصُّ على أنه إذا كان لديك قائمةٌ غير مُنتهية من الجمل الرياضية التي ترغب في إثباتها، فإن إحدى الطرق للقيام بذلك أن تُبرهن على أن الجملة الأولى صحيحة، وأن كلًّا منها يستلزم صحةَ الجملة التي تليها. إنَّ ما قلتُه في الفقرة السابقة أبعدُ ما يكون عن الوضوح: في الواقع إنه كان أحد الاكتشافات الكبرى في مطلع القرن العشرين، ويرجع بدرجةٍ كبيرة إلى كلٍّ من فريجه وراسل ووايتهيد (راجع جزء «قراءات إضافية»). هذا الاكتشاف كان له عميقُ الأثر في الرياضيات؛ لأنه يعني إمكانيةَ حَسم أيِّ خلافٍ حول صحة أي برهانٍ رياضي. في القرن التاسع عشر، على النقيض من ذلك، كان يُوجَد اعتراضاتٌ حقيقية حول مسائلَ رياضيةٍ جوهرية. على سبيل المثال، اخترع جورج كانتور مؤسِّس نظرية المجموعات الحديثة براهينَ تعتمِد على فكرةِ أن مجموعةً غير مُنتهية يمكن أن تكون «أكبر» من أخرى. هذه البراهين مُتفَق عليها الآن، لكنها أثارت كثيرًا من الشكِّ في وقتها. اليوم، إذا كان هناك خلافٌ على أن برهانًا ما صحيحٌ، فإما لأنه لم يُكتَب بتفاصيلَ كافية، وإما لأنه لم يُبْذل جهدٌ كافٍ لِفَهمه واختباره بعناية. في الواقع، هذا لا يعني أن الاعتراضات لن تَحدث أبدًا. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يحدُث أن أحدَهم يُقدِّم برهانًا طويلًا جدًّا، غيرَ واضحٍ في بعض الأجزاء، ويتضمَّن كثيرًا من الأخطاء الصغيرة، لكنه غيرُ صحيح بطريقةٍ واضحة وجوهرية. وعادةً ما يستغرق الأمرُ جهدًا هائلًا لإثباتِ ما إذا كان البرهانُ المطروح مُحكَمًا على نحوٍ قاطع. وحتى صاحب البرهان قد يُفضِّل عدمَ المجازفة لإثباتِ عدم صحته. على الرغم من ذلك، فإن حقيقة أن الخلافات يمكن أن تُحَل «من حيث المبدأ» لا تجعل الرياضياتِ مُتفرِّدة. ولا يُوجَد مكافئٌ رياضي لعلماء الفلك الذين لا يزالون يعتقدون في نظريةِ استقرار الكون، أو لعلماء الأحياء الذين يتبنَّون باقتناعٍ شديد وجهاتِ نظرٍ مختلفةً جدًّا حول مقدارِ ما تم تفسيرُه بواسطة الانتخاب الطبيعي، أو الفلاسفة الذين يختلفون جَذريًّا حول العلاقة بين الوعي والعالم المادي، أو الاقتصاديِّين الذين يتبعون مدارسَ فكرية مُتعارِضة مثل ترشيد الإنفاق والاقتصادات الكينزية الجديدة. من المهم أن نفهمَ العبارة السابقة «من حيث المبدأ». لا يُوجَد عالمُ رياضيات يُلقي بالًا لكتابةِ برهانٍ كامل التفاصيل — بمعنى أن يكتبه على صورةِ استنتاج من مُسلَّماتٍ أساسية مستخدمًا فقط الخطواتِ الأوضحَ على الإطلاق، والأسهلَ اختبارًا. وحتى لو كان هذا ممكنًا، فسيكون غيرَ ضروريٍّ تمامًا؛ فالأبحاث الرياضية مكتوبةٌ لقُراء على درجةٍ عالية من التدريب، ولا يحتاجون إلى أن يكون كل شيءٍ موضَّحًا بعباراتٍ لا التباسَ فيها. ومع ذلك، إذا قدَّم أحدُهم ادِّعاءً مُهمًّا، ووجد علماءُ الرياضيات الآخَرون أنه من الصعب تتبُّعُ البرهان، فإنهم سيطلبون إيضاحات، وستبدأ عندئذٍ عمليةُ تقسيم خطوات البرهان إلى خطواتٍ فرعية أصغر، وأسهلَ استيعابًا. وعادةً، لأن الحضور على درجةٍ عالية من التدريب، لن تستغرق هذه العملية وقتًا طويلًا حتى يُقدَّم التوضيح اللازم أو يتَّضح الخطأ. وعليه، فإن أي برهانٍ مزعوم يُقدم نتيجةً يهتمُّ لها علماءُ الرياضيات الآخَرون لا يكون مقبولًا غالبًا إلا إذا كان صحيحًا. من الخبرات العامة لدارسي الرياضيات المتقدِّمة الوصولُ إلى نهاية البرهان، ثم التفكير في الجملة الآتية: «لقد فهمتُ تتابُعَ خطوات البرهان، لكنني بشكلٍ ما لا أستطيع الحكمَ على صحة النظرية، أو استخلاصَ رأيِ أيِّ شخصٍ في هذا البرهان.» عادةً ما نفترض في البرهان ما هو أكثرُ من مجرد ضمانِ صحته. ونشعر بعد قراءة برهانٍ جيدٍ أنه يُمِدُّنا بتوضيحٍ للنظرية، وأننا فهِمنا شيئًا لم نكن قد فهمناه سابقًا. إذا كانت النسبة بين ضِلعَي المستطيل هي النسبةَ الذهبية، فإنه يمكننا الاستمرارُ في اقتطاع مربعاتٍ إلى ما لا نهاية. يحوي هذا المثالُ التحذيريُّ العديدَ من الدروس المهمَّة فيما يخصُّ تفسير الجُمَل الرياضية. وأوضحُ هذه الدروس أنك إذا لم تهتمَّ بإثباتِ صحَّة ما تقول، فإنك عُرضةٌ لقول شيءٍ غير صحيح. المغزى الأكثرُ إيجابيةً هو أنك إذا حاولتَ إثبات جملٍ ما، فستكون المحصِّلة أنك سوف تفهمها بطريقةٍ مختلفة تمامًا، وأكثر إمتاعًا بكثير. ما يميِّز الحجة الثانية أنها تعتمد على فكرةٍ واحدة، وهي وإنْ كانت غيرَ متوقعة، فإنها تبدو طبيعيةً جدًّا ما دام المرءُ قد فهمها. كثيرًا ما يتحيَّر الناس عندما يستخدم علماءُ الرياضيات كلماتٍ مثل «أنيق»، أو «جميل» أو حتى «ظريف» لوصفِ برهانٍ ما، إلا أن مثالًا كالسابق يعطي فكرةً عمَّا يَعنون بهذه الكلمات. يمكن الاستعانة بالموسيقى كتشبيهٍ مُفيد: ربما نستمتع تمامًا عند عزف مقطوعةٍ موسيقية بنغمةٍ توافقية غير متوقَّعة، ويبدو فيما بعدُ أنها مناسبة بدرجة مدهِشة، أو عندما يبدو نسيجُ الأوركسترا أكثرَ من مجرد مجموع آلاته، بطريقة لا يمكن فَهمُها فهمًا تامًا. يمكن للبراهين الرياضية أن تُمِدَّنا بمتعةٍ مماثلة من خلال ما تكشف عنه من تجلياتٍ مُفاجئة، وأفكار غير متوقَّعة ولكنها طبيعية، ومع تلميحاتٍ مثيرة بأنه لا يزال يُوجَد الكثير لاكتشافه. بالطبع، جمالُ الرياضيات ليس هو نفسه جمالَ الموسيقى، ولكن الجمال الموسيقي لا يتماثل كذلك مع جمالِ لوحةٍ فنِّية أو قصيدة أو حتى وجه إنسان. من مظاهر الرياضيات المتقدِّمة، التي يجدها الكثيرون محيِّرة، أن بعض نظرياتها تبدو واضحة جدًّا، لا تحتاج إلى برهان. إزاء نظرية كهذه يسأل الناسُ كثيرًا: «إذا لم يعتبر ذلك واضحًا، فما الواضح إذن؟». زميل سابق لي لدَيه إجابةٌ جيدة لهذا السؤال، وهي أن الجملة تكون واضحةً إذا تبادَر إلى الذِّهن على الفور برهانٌ يُثبت صحَّتها. في الجزء الباقي في هذا الفصل، سأعطي ثلاثة أمثلةٍ على جُمَل ربما تبدو واضحة، لكنها لا تجتاز هذا الاختبار. لماذا، على الرغم من ذلك، نميل إلى أن نقول «بالطبع»؟ هل خطرَت لنا توًّا حُجة تؤيد ذلك؟ ربما — يبدو كما لو أن أي محاولةٍ لفك العُقدة تجعلها حتمًا تزيد من تشابكها وليس العكس. ولكن، من الصعب تحويلُ هذا الإحساس الغريزي إلى برهانٍ صحيح. من الواضح حقًّا أنه لا تُوجَد طريقةٌ سهلة لفكِّ العُقدة. ومن الصعب استبعادُ إمكانية وجود طريقةٍ لفكِّ هذه العقدة الثلاثية الوُرَيقات بجعلها أكثرَ تعقيدًا أولًا. ويبدو هذا باعترافِ الجميع أمرًا غيرَ وارد، ولكن تحدُث بالفعل ظواهرُ من هذا النوع في الرياضيات، بل حتى في الحياة اليومية: على سبيل المثال، لترتيبِ غرفةٍ جيدًا، يلزم غالبًا أن نبعثر محتوياتها ونجعلها أكثرَ فوضى أولًا، وذلك على عكس أن نضع كلَّ شيءٍ في خِزانته.
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/4/
النهايات واللانهاية
في الفصل الأخير، حاولتُ الإشارة إلى إمكانيةِ صياغةِ مفهوم البرهان الرياضي بطريقةٍ منهجية تمامًا. إذا بدأ المرء من بعض المسلَّمات واتبع بعضَ القواعد وانتهى إلى جملةٍ رياضية مثيرة للاهتمام، فإن هذه الجملة سوف تُقبَل كنظرية، وبخلاف ذلك لن يُقبل. ترجع فكرة استنتاج المزيد والمزيد من النظريات المعقَّدة من بضع مُسلَّمات إلى إقليدس، الذي استخدم خمسَ مُسلَّمات فقط لإرساءِ موضوعات كبيرة في الهندسة. (سوف نناقش مُسلَّمات إقليدس في الفصل السادس.) وربما يتساءل المرءُ لماذا استغرَق الأمرُ حتى القرنِ العشرين لكي يُدرك الناسُ أن هذا النهج يمكن تعميمُه في الرياضيات ككلٍّ؟ السبب الرئيس يمكن تلخيصُه في كلمةٍ واحدة: «اللانهاية». بطريقةٍ أو بأخرى، فإن مفهوم اللانهاية لا غَناء عنه للرياضيَّات، وإن كان يُعَدُّ فكرةً صعبة للغاية لا يسهل تعريفُها بدقة. في هذا الفصل سأُناقش ثلاثَ جُمَل رياضية. يبدو كلٌّ منها بسيطًا في البداية، ولكن يتبيَّن بإمعانِ النظر أنها تتضمَّن مفهوم اللانهاية. وهذا من شأنه أن يُولِّد صعوباتٍ، ولذا سوف نتحدَّث في معظم هذا الفصل حول كيفية التعامل مع تلك الصعوبات. مرةً أخرى، نحن بصدد تناوُل جملةٍ تتضمَّن مفهوم اللانهاية كطريقةٍ ملائمة لكتابة جملة أكثرَ تعقيدًا بخصوص التقريب. يمكن استخدام كلمة أخرى، قد تكون أكثرَ إيحاءً، وهي «النهاية». الكسر العشري غير المنتهي هو نهايةٌ متتابعة من الكسور العشرية المنتهية، والسرعة اللحظية هي نهايةُ التقديرات التي نضعها بقياس المسافة المقطوعة خلال أوقاتٍ زمنية أقصرَ فأقصر. كثيرًا ما يتحدث علماءُ الرياضيَّات عمَّا يحدث «بداخل النهاية» أو «عند اللانهاية»، لكنهم يُدركون أنهم لا يقصدون إلى الجدِّية التامة عندما يفعلون ذلك. وفي حال الضغط عليهم للإفصاح عما يَعْنونه بالضبط، فإنهم يبدَءون في الحديث عن التقريب بدلًا من ذلك. إنَّ إدراك أن اللانهائي يمكن فهمه في صورةِ حدود منتهية كان واحدًا من أهم انتصارات القرن التاسع عشر في مجال الرياضيَّات، على الرغم من أن جذوره تعود إلى حقبةٍ أسبقَ من ذلك بكثير. في مناقشةِ مثالي الآتي، كيفية حساب مساحة الدائرة، سوف أستخدِمُ حُجةً اخترعها أرشميدس في القرن الثالث قبل الميلاد. ولكن قبل إجراء هذه العملية الحسابية، علينا أن نُحدِّد ماهيَّة ما نحسبه، وهو ليس بأمرٍ سهل كما قد يظن المرء. ما المقصود بالمساحة؟ إنها بالطبع شيءٌ مثل مقدار المادة التي تُغطي سطح الشكل (أي: المادة الثنائية البُعد)، لكن كيف يُمكننا حسابُها بدقة؟ هذا مثالٌ آخر يساعد فيه كثيرًا المنهجُ المجرَّد. دعنا لا نُركِّز على ماهيَّة المساحة، بل على ما تفعله. هذا الاقتراح يحتاج إلى توضيح؛ حيث لا يبدو أن المساحة تفعل الكثير، ولكنْ مؤكَّدٌ أنها موجودة. ما أعنيه هو أنه يجب التركيز على الخصائص التي يتضمَّنها أيُّ مفهوم منطقي للمساحة. سنستعرِض فيما يلي خمسَ خصائص. إذا نظرتَ فيما سبق، فستجد أننا استخدمنا الخصائصَ الأولى والثالثة والرابعة لحساب مساحة المثلث القائم الزاوية. قد تبدو الخاصيةُ الثانية بديهيةً لدرجةِ أنها لا تستحقُّ الذِّكر، لكن هذا ما يتوقَّعه المرءُ في حالة المسلَّمات، وسوف نرى فيما بعدُ أنها مفيدةٌ جدًّا. وعلى الرغم من أهمية الخاصية الخامسة، فإننا قد لا نحتاج إليها حقًّا كمُسلَّمة نظرًا إلى أنها يمكن استنتاجها من الخصائص الأخرى. وعليه، نزوعًا إلى المفهوم الرياضي، فإن جملة «للشكل مساحةٌ مقدارها ياردة مربَّعة واحدة» تعني الآتي. في حال السماح بهامشِ خطأ مُعيَّن، يمكننا — مهما كان صِغَر الهامش — اختيارُ شبكةٍ من المربعات منتظمةٍ بما يكفي، ثم نحسب المساحةَ التقريبية بجمع مساحات المربعات داخل الشكل، فنحصل بذلك على ناتجٍ يكون الفارقُ بينه وبين الياردة المربعة الواحدة أقلَّ من ذلك الهامش المسموح به. (ربما نعلم في أعماق أنفسنا، ولكننا لا نبوح بالأمر، أنه «بداخل النهاية» يمكن استعمالُ عددٍ لا نهائيٍّ من المربعات المتناهية في الصغر، والحصولُ على الناتج الصحيح تمامًا.)
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/5/
البُعد
إنَّ إحدى السِّمات البارزة في الرياضيَّات المتقدمة أنَّ الكثيرَ منها يتعلق بالهندسة فيما يزيد عن ثلاثة أبعاد. هذه الحقيقة مُحيِّرةٌ لغير الرياضيين: الخطوط والمنحنَيات لها بُعدٌ واحد، والأسطح لها بُعدان، والمُجسَّمات لها ثلاثةُ أبعاد، ولكن كيف يكون لشيءٍ ما أربعةُ أبعاد؟ إذا كان لدَينا جسمٌ له طولٌ وعرض وعُمق، فإنه يَشغَل حيزًا كاملًا من الفراغ، ولا يبدو حينئذٍ أن هناك مجالًا لأيِّ أبعادٍ أخرى. اقتُرِحَ أحيانًا أن البُعد الرابع هو الزمن، وهي إجابةٌ جيدة في بعض السياقات مثل النسبية الخاصة، لكنها لا تُساعدنا في فَهم البُعد السادس والعشرين — مثلًا — أو حتى الهندسة اللانهائية الأبعاد، وكلاهما له أهميَّته في الرياضيات. الهندسة الكبيرةُ الأبعادِ هي مثالٌ آخَر على مفهومٍ يمكن فهمُه على أفضلِ نحوٍ من منظورٍ مجرد. بدلًا من القلق بشأن كينونة الفراغ ذي الستة والعِشرين بُعدًا ووجودِه أو ما شابه، دعنا نُفكِّر في خصائصِ هذا الفراغ. وربما تتعجَّب كيف يمكن التفكيرُ في خصائص شيءٍ ما دون إثباتِ وجوده أولًا، لكن هذا الموضوع يمكن التغلبُ عليه بسهولة. إذا حذفتَ كلمتَي «شيءٍ ما»، فإن السؤال يصبح: كيف يمكن التفكيرُ في مجموعةٍ من الخصائص دون إثباتِ وجود شيءٍ أولًا له تلك الخصائص؟ لكن هذا ليس صعبًا على الإطلاق. على سبيل المثال، يمكن أن يُخَمِّن المرءُ السماتِ المحتملةَ لشخصية المرأة التي يمكن أن تتقلَّد منصبَ رئيس الولايات المتحدة، مع أنه لن يُوجَد أبدًا ما يضمن أن تتقلَّد امرأةٌ هذا المنصب. لن تكون لهذه التأمُّلات أهميةٌ كبيرة في حالِ اتضح أن هناك تناقضًا منطقيًّا فيما يخصُّ مفهومَ الفراغ ذي الستة والعشرين بُعدًا. ولكي نتحقَّق من هذا الأمر، سنودُّ أن نُثبت على أي حالٍ أنه موجود — وهو أمرٌ غير واردٍ بطبيعة الحال في حالِ انطوى على تناقُض — ولكنه سيكون إثباتًا لوجوده بالمفهوم الرياضيِّ لا المادي. هذا يعني أننا بحاجةٍ إلى تعريف نموذجٍ مُناسب. وقد لا يكون بالضرورة نموذجًا لأيِّ شيء، ولكن إذا كان له جميعُ الخصائص التي نتوقَّعها، فإنه سيُثبت أن هذه الخصائص متَّسقة. ومع ذلك، يتضح غالبًا أن النموذج الذي نُعرِّفه مفيدٌ جدًّا. لقد عرَّفتُ الآن نموذجًا رياضيًّا من نوعٍ ما، لكنه ليس جديرًا بعدُ بأن يُسمَّى نموذجًا لفراغٍ ثُمانيِّ الأبعاد؛ لأن كلمة «فراغ» تحمل معها كثيرًا من الدلالات الهندسية التي لم أصِفْها بعدُ بدلالةِ النموذج؛ الفراغ أكثرُ من مجردِ تجمعٍ هائل من النقاط المفردة. على سبيل المثال، نحن نتحدَّث عن المسافة بين زوجٍ من النقاط، وعن الخطوط المستقيمة، والدوائر، وأشكالٍ هندسية أخرى. فما نظائرُ هذه الأفكار في الأبعاد الكبيرة؟ تُوجَد طريقةٌ عامة للإجابة عن أسئلةٍ كثيرة من هذا النوع. على ضوءِ مفهومٍ مألوف من الفراغ الثنائيِّ البُعد والفراغ الثلاثيِّ الأبعاد، علينا أولًا أن نصفَ هذه الطريقة من حيث الإحداثيات، ثم نأمُلَ أن يُصبح تعميمُها على الأبعاد الأكثرِ واضحًا. لنرَ كيف نُطبِّق هذا على مفهوم المسافة. هذه الطريقةُ في تناوُل الموضوع مُضلِّلة نوعًا ما؛ لأنها تشير إلى أن هناك دائمًا مسافةً بين أي زوج من النقاط الخُماسية الأبعاد (تذكَّر أن النقطة الخماسية الأبعاد ما هي إلا متتابعةٌ من خمسةِ أعداد حقيقية) وأننا استنتجنا كيف نحسب هذه المسافات. ولكن، في واقع الأمر، ما فعلناه هو تعريفُ مفهوم المسافة. وليست هناك حقيقةٌ مادية تُجبرنا على أن نُقرِّر أن المسافة الخُماسية الأبعاد يجب أن تُحسَب بالطريقة الموضَّحة. ومن ناحيةٍ أخرى، من الواضح جدًّا أن هذه الطريقة هي التعميم الطبيعي لما قُمنا به في حالة البُعدَين والثلاثة الأبعاد، حتى إنه لَيبدو من الغريب تبنِّي أي تعريف آخر. يمكن تلخيصُ ما نفعله هنا بأننا بصددِ تحويل الهندسة إلى جبر، حيث نستخدم الإحداثياتِ لتحويل مفاهيمَ هندسيةٍ إلى مفاهيمَ مُكافئة لها تُعْنى فقط بالعلاقات بين الأعداد. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع تعميمَ الهندسة على نحوٍ مباشر، فإننا نستطيع تعميم الجبر، ويبدو أنه من المعقول أن نُسمِّيَ هذا التعميم الهندسةَ الكثيرةَ الأبعاد. ومن البديهيِّ أن الهندسة الخماسيةَ الأبعاد لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بخبراتنا المباشرة كما في حالة الهندسة الثلاثية الأبعاد، لكنه أمرٌ لا يستحيل معه التفكيرُ فيها، ولا يحول دون أن تكون مُفيدةً كنموذج. في الواقع إنَّ هذه الجملة التي تبدو واضحةً في تقريرها بأنه يمكن تصوُّر العناصر الثلاثية الأبعاد، بخلاف العناصر الرباعية الأبعاد التي لا يمكن تصوُّرها، لا تصمد أمام إنعامِ النظر الدقيق. على الرغم من أن تصوُّر عنصرٍ ما يُشبه بالأحرى النظر إلى ذلك العنصر، فإنه تُوجَد أوجهُ اختلافٍ مهمة بين الخبرتَين. فمثلًا، إذا طُلِب إليَّ تصوُّرُ حجرةٍ مألوفة لي، لكنها ليست مألوفةً بدرجة كبيرة، فلن أجد صعوبةً في فعل ذلك. لكن إذا طُرِحَت عليَّ بضعةُ أسئلة بسيطة عنها، مثل السؤال عن عدد الكراسي التي تحتويها أو لونِ الأرضية، فلن أتمكَّن غالبًا من الإجابة. هذا يوضح أنه، أيًّا كانت الصورة الذهنية، فإنها ليست تمثيلًا فوتوغرافيًّا. في سياق الرياضيات، الفارق المهمُّ بين إمكانية تصوُّرِ شيءٍ ما وعدم إمكانية تصوُّره هو أنه في الحالة الأولى يمكن للمرء إلى حدٍّ ما أن يُجيب عن الأسئلة بطريقةٍ مباشرة، بدلًا من التوقُّف برهةً وإجراءِ حساباتٍ في ذهنه. هذه القدرة على إعطاء إجاباتٍ مباشرة هي أمرٌ نِسبي بطبيعة الحال، ولكن هذا لا ينتقِص من واقعيةِ تلك الإجابات. على سبيل المثال، إذا طُلِبَ أن أُحدِّد عدد الأحرف في مكعبٍ ثلاثي الأبعاد، فيُمكنني معرفةُ ذلك «بمجرد النظر»، حيث سأدرك أن هناك أربعةَ أحرف في الجزء العلوي، وأربعةَ أحرف في الجزء السفلي، وأربعةً من الجزء العلوي إلى الجزء السفلي، وهذا يعني وجودَ اثنَي عشَر حرفًا. شتَّانَ ما بين إقرار إمكانية فهم الهندسة الكثيرة الأبعاد وإدراك المغزى منها، وبين توضيح السبب الذي يجعلها موضوعًا جديرًا حقًّا بأن يُؤخَذ على مَحمل الجد. في موضعٍ سابق في هذا الفصل، زعمتُ أنه يمكن الاستفادة بها كنموذج، ولكن كيف يتأتَّى هذا، عِلمًا بأن الفراغ الفعليَّ الذي نعيشه ثلاثيُّ الأبعاد؟ الإجابة عن هذا السؤال بسيطةٌ إلى حدٍّ ما. كان من بين الموضوعات التي تناولتُها في الفصل الأول أن النموذج يمكن أن تكون له استخداماتٌ كثيرة مختلفة. بل إن الهندسة الثنائية الأبعاد والثلاثية الأبعاد تُستخدَمان لأغراضٍ عدَّة، بخلاف النَّمْذجة المباشرة للفراغ المادي. على سبيل المثال، نحن نُمثِّل دائمًا حركةَ جسمٍ ما بإنشاءِ رسمٍ بياني يُسجِّل المسافة التي قطعَها في نقاطٍ زمنية مختلفة. وسيكون هذا الرسم البياني عبارةً عن منحنًى في المستوى، والخصائص الهندسية للمنحنى تُناظر المعلوماتِ المتعلقةَ بحركة الجسم. لماذا تكون الهندسة الثنائية الأبعادِ مناسبةً لنمْذَجة هذه الحركة؟ لأن هناك عددَين مُهمَّين — الزمن المنقضي والمسافة المقطوعة — وكما قلت، يمكن للمرء أن يُفكِّر في الفراغ الثنائي الأبعاد على أنه تجمُّعٌ من كل أزواج الأعداد. يعطينا ذلك لمحةً عن السبب في أن الهندسة الكثيرةَ الأبعادِ يمكن أن تكون مفيدة. قد لا يُوجَد أيُّ فراغ كثيرِ الأبعاد في مكانٍ ما في الكون، لكن يُوجَد العديد من الحالات التي تقتضي منا التعاملَ مع مجموعاتٍ من أعدادٍ كثيرة. سأصفُ حالتَين بإيجازٍ شديد، وينبغي أن يتَّضح بَعدهما أن ثمة حالاتٍ أخرى كثيرة. الهندسة المتعددة الأبعاد لها أهميةٌ كبيرة أيضًا في مجال الاقتصاد. إذا تساءلت — مثلًا — عمَّا إذا كان من الحِكمة أن تشتريَ أسهُمًا في شركةٍ ما، فإن كثيرًا من المعلومات التي تساعدك في اتخاذ قرارك تأتي في هيئة أرقام — حجم القوة العاملة، قِيَم الأصول المختلفة، تكلفة الموادِّ الخام، معدَّل الفائدة، وهكذا. يمكن التفكيرُ في هذه الأعداد، التي تُعامَل على أنها مُتتابعة، بوصفها نقطةً في فراغٍ معيَّن كثيرِ الأبعاد. وما تودُّ عمله، ربما بتحليلِ كثيرٍ من الشركات الأخرى المشابهة، هو تحديدُ منطقةٍ بعينها في هذا الفراغ، وهي المنطقة التي سيكون شراءُ أسهمٍ فيها فكرةً سديدة. إذا كان هناك شيءٌ ما بدا واضحًا من المناقشة حتى الآن، فهو أن أبعاد أيِّ شكلٍ دائمًا ما تكون أعدادًا صحيحة. فماذا يمكن أن يعنيَ القولُ بأننا نحتاج إلى بُعدَين ونصفٍ لتعيين نقطةٍ ما، حتى لو كانت نقطة رياضية؟ يُلقي هذا الأمرُ على نحوٍ مثير للاهتمام الضوءَ على عمليتَي التجريد والتعميم المتناظرتَين. أشرتُ إلى أن تعميم مفهومٍ ما يستلزم بدوره تحديدَ بعض الخصائص المرتبطة به وتعميمها. وتُوجَد غالبًا طريقةٌ بديهية وحيدة للقيام بذلك، إلا أنه أحيانًا ما تؤدي مجموعاتٌ مختلفة من الخصائص إلى تعميماتٍ مختلفة، وأحيانًا يكون وجودُ أكثرَ من تعميم واحدٍ مُثمِرًا.
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/6/
الهندسة
نتناول فيما يلي مُسلَّمات إقليدس. وإنني لَأسير هنا وَفْق النهج المعتاد، وأستخدمُ مصطلح «خط مستقيم» للمستقيم الذي يمتدُّ بلا نهاية في كِلا الاتجاهَين. وسيكون معنى «القطعة المستقيمة» مستقيمًا له نقطةُ بداية ونقطة نهاية. أيُّ نقطتَين يمكن توصيلُهما بواسطة قطعةٍ مستقيمة. أي قطعةٍ مستقيمة يمكن مدُّها لتُصبح خطًّا مستقيمًا. كل زاويتَين قائمتَين متطابقتان. في الحقيقة ليس هذا بالسؤال المناسب طرحُه، بما أن البرهان صحيح. ولكن، بما أنه يستند إلى المسلَّمات الخمس لإقليدس، فإنه لا يقتضي ضِمنًا أيَّ علاقةٍ بالحياة اليومية ما لم تكن هذه المسلَّماتُ صحيحةً في الحياة اليومية. ومن ثمَّ، فإنه بالتشكيك في صحةِ مُسلَّمات إقليدس، يمكن التشكيك في مقدمة البرهان. لكن أيُّ المسلَّمات تبدو أقلَّ مثارًا للشك؟ من الصعب أن نجد خطأً في أيِّ مُسلَّمة منها. إذا أردتَ توصيل نقطتَين في العالم الحقيقيِّ بواسطة قطعةٍ مستقيمة، فكلُّ ما عليك فعلُه هو أن تشدَّ قطعةً من الخيط بحيث تمرُّ بالنقطتَين. وإذا أردتَ مدَّ هذه القطعةِ المستقيمة لتُصبح خطًّا مستقيمًا، فيُمكنك استخدامُ شعاعٍ من الليزر بدلًا من ذلك. وبالمثل، يبدو أنه من غير الصعب إيجادُ دائرة بأي نصفِ قطر وأي مركزٍ مرغوب، ويتَّضح بالخبرة والتجرِبة أنك إذا أخذتَ رُكنَين من ورقةٍ بزاويتَين قائمتَين، فإنه يُمكنك وضعُ أحدهما فوق الآخر بحيث ينطبقان تمامًا. وفي النهاية، ما الذي يمنع مستقيمَين من الامتداد إلى مسافةٍ لا نهائية إلى الأبد، كالحال في قضيبَي السككِ الحديدية اللذين يمتدَّان بطولٍ لا نهائي؟ دعنا نختبر مسلَّمة التوازي بمزيدٍ من الدقة، ونحاول أن نفهم سببَ أنها تبدو صحيحةً بطريقةٍ بديهية. ربما تدور في أذهاننا البراهينُ التالية. يُلاحَظ أن ما فعلتُه توًّا أنني حاولتُ إثبات مسلَّمة التوازي، وهذا بالضبط ما حاولَ كثيرٌ من علماء الرياضيات قبل القرن التاسع عشر أن يفعلوه. كان أقصى ما أرادوه هو استنتاجَ هذه المسلَّمةِ من المُسلَّمات الأربع الأخرى، ومن ثَمَّ إثبات أنه يمكن الاستغناءُ عنها. ولكن، لم يتمكَّن أحدٌ من ذلك. المشكلة في البراهين التي طرَحتُها توًّا، وأخرى مثلها، أنها تتضمَّن افتراضاتٍ ضِمنية، وعندما يحاول المرءُ أن يجعلها صريحة، يرى أنها ليست نتائجَ بديهيةً للمُسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس. وعلى الرغم من أنها معقولة، فإنها ليست أكثرَ معقوليةً من مسلَّمة التوازي نفسِها. من الطرق الجيدة للوقوف على هذه الافتراضات الضِّمنية ومناقشتِها بوضوحٍ: اختبارُ البراهين نفسِها المُطبَّقة في سياقٍ مختلف، وتحديدًا في سياقٍ تكون فيه مُسلَّمة التوازي غيرَ صحيحة قطعًا. وبأخذِ هذا في الاعتبار، دَعْنا نُفكر لحظةً في سطح الكرة. لا يتَّضح على الفور ما نقصدُه بأنَّ مُسلَّمة التوازي لا تنطبق على سطح الكرة؛ لأن سطح الكرة لا يتضمَّن خطوطًا مستقيمةً على الإطلاق. سوف نتغلَّب على هذه الصعوبة بتطبيقِ فكرةٍ ذات أهميَّة جوهرية في الرياضيات. تتمثَّل هذه الفكرة، التي هي مثالٌ تطبيقي مُتعمِّق على الطريقة المجرَّدة، في إعادة تفسير مفهوم الخطِّ المستقيم، بحيث يتضمَّن سطحُ الكرة بالفعل خطوطًا مُستقيمة في نهاية الأمر. قد تبدو هذه حيلةً وضيعة؛ فإذا عرَّفتُ «الخط المستقيم» بأسلوبٍ جديد، فمن غير المستغرَب أن تنهارَ مُسلَّمة التوازي من أساسها. ولكن ليس المقصودُ أن يكون الأمرُ مُستغرَبًا، بل إن التعريف قد وُضِعَ لهذا الغرض على وجهِ الخصوص. وسيكون الأمر مثيرًا للاهتمام عندما نفحص بعضَ البراهين المطروحة كمحاولاتٍ لإثباتِ مُسلَّمة التوازي. وفي كل حالة، سنكتشف افتراضًا لا يصلح للهندسة الكروية. البرهان رقم (٤) مختلفٌ بعضَ الشيء، حيث يتعلق بأحادية المستقيمات المتوازية وليس وجودها. وسأناقش هذا الموضوعَ في الجزء التالي. يطرح البرهانُ رقم (٥) افتراضًا مُهمًّا للغاية، وهو أنه: يمكن وصف الفضاء بواسطة الإحداثيات الديكارتية. ومرةً أخرى، لا ينطبق هذا على سطح الكرة. إنَّ الهدف من تناول موضوع الكرة أنه يُتيح لنا أن نستخلِص من كل برهانٍ من البراهين (١) و(٢) و(٣) و(٤) و(٥) افتراضًا ينصُّ عمليًّا على أن «الهندسة التي نَستخدِمها ليست هندسةً كروية». قد تتساءل: وما الخطأ في ذلك؛ فنحن في النهاية لا نستخدِم الهندسة الكروية. وقد تتساءل أيضًا كيف لنا أن نأمُلَ في إثباتِ أن مُسلَّمة التوازي لا تتمخَّض عن بقية مُسلَّمات إقليدس، إذا كانت حقًّا لا تتمخَّض عنها. ولا فائدة من القول إن علماء الرياضيات قد حاولوا استنتاجها قرونًا دون أن ينجَحوا في ذلك. وكيف نتأكَّد من أنه لن يخرجَ علينا عبقريٌّ شابٌّ في غضون مائتَي سنة بفكرةٍ رائعة جديدة تُفضي في النهاية إلى برهان؟ هذا السؤال له إجابةٌ جميلة، على الأقل، من حيث المبدأ. وُضِعَت المسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس لوصف الفراغ المستوي اللانهائي ذي البُعدَين. لكننا غيرُ مُجبَرين على تفسيرها بهذه الطريقة ما لم ينتج بالطبع هذا الاستواءُ من المُسلَّمات. وإذا استطعنا إعادةَ تفسير (أو ربما تقريبًا «تحريف») المسلَّمات بطريقةٍ ما عن طريق إضفاءِ مَعانٍ جديدة على مصطلحات مثل «القطعة المستقيمة»، بالأحرى كما فعلنا مع الهندسة الكروية، وإذا وجَدْنا بعدما فعَلنا ذلك أن المُسلَّمات الأربعَ الأولى صحيحةٌ لكن مُسلَّمة التوازي خاطئة، نكون بذلك قد أثبتنا أن مُسلَّمة التوازي ليست نتيجةً للمسلَّمات الأخرى. لكي نعرف سببَ ذلك، تخيَّل أن لدَينا برهانًا مزعومًا، يبدأ بالمُسلَّمات الأربع الأولى لإقليدس، ويَخلُص بعد سلسلةٍ من الخطوات المنطقية الدقيقة إلى مُسلَّمة التوازي. بما أن الخطوات تتتابع منطقيًّا، فإنها ستظلُّ مُتحققةً وصحيحة عند تفسيرها بالتأويل الجديد. وبما أن المسلَّمات الأربع الأولى صحيحةٌ بموجب التفسير الجديد، ومُسلَّمة التوازي غيرُ صحيحة، فلا بد من وجودِ خطأٍ ما في هذا البرهان. لماذا لا نَستخدم الهندسة الكروية لطرحِ التفسير الجديد؟ السبب، للأسف، أن المُسلَّمات الأربعَ الأولى لإقليدس ليست كلُّها صحيحةً في حالة الكرة. على سبيل المثال، لا تحتوي الكرةُ على دوائرَ ذات أنصافِ أقطار كبيرة على نحوٍ اختياري، ومن ثَمَّ فإن المُسلَّمة الثالثة غيرُ صحيحة، كما أنه لا يُوجَد ما يمكن أن نُسمِّيَه المسارَ الأقصر الوحيد ما بين القطبَين الشماليِّ والقطبي، ومن ثَمَّ فإن المسلَّمة الأولى غيرُ صحيحة كذلك. وعليه، فإنه على الرغم من أن الهندسة الكروية ساعَدَتنا في فهم أوجُه القصور في بعض البراهين الاجتهادية لمُسلَّمة التوازي، فإنها لا تزال تترك المجالَ مفتوحًا لاحتمالية أن ينجح برهانٌ آخرُ في ذلك. وبناءً على ذلك، سأنتقل إلى تفسيرٍ جديد آخَر، يُسمَّى الهندسة الزائدية. ومرةً أخرى ستكون مُسلَّمة التوازي غيرَ صحيحة، ولكن هذه المرة ستكون كلُّ المسلَّمات الأربع الأولى صحيحة. هناك العديدُ من الطرق المتكافئة لوصفِ الهندسة الزائدية، ولكن الطريقة التي اخترتُها معروفةٌ باسم نموذج القرص، اكتشفَها عالِمُ الرياضيات الفرنسيُّ العظيم هنري بوانكاريه. ومع أن المجال لا يتَّسع لتعريفها بدقةٍ في كتابٍ كهذا، فيُمكنني على الأقل شرحُ بعض سِماتها، ومناقشةُ ما تُخبرنا به عن مسلَّمة التوازي. إذا كان ذلك يبدو مُحيِّرًا ومتناقضًا، فيُمكنك تخيُّل خريطةِ العالم. كما هو معلومٌ للجميع، فإنه نظرًا إلى أن العالَم دائري، والخريطة مُسطَّحة، فالمسافات تكون مُحرَّفة بالضرورة. تُوجَد طرقٌ عديدة لإجراء هذا التحريف، وفي أكثرِ هذه الطرق شيوعًا، وهو «إسقاط مركاتور»، تبدو الدولُ قربَ القطبَين أكبرَ كثيرًا من حقيقتها. تبدو جرينلاند، على سبيل المثال، وكأنها تُضاهي في حجمها أمريكا الجنوبيةَ بأكملِها. وكلما اقتربتَ من الحدِّ العُلوي أو السفلي لهذه الخريطة، تقلَّصَت المسافة مقارنةً بما هي عليه في الحقيقة. يترتَّب على هذا التحريف نتيجةٌ معروفة، وهي أن أقصرَ مسار بين نقطتَين على سطح الكرة الأرضية يظهر مُنحنيًا على الخريطة. وهذه الظاهرة يمكن فهمُها بطريقتَين. الطريقة الأولى هي أن تُنحِّيَ الخريطة جانبًا وتستحضرَ في ذهنك الكرةَ الأرضية، لاحِظ أنه إذا كان لديك نقطتان في النصف الشمالي، بحيث تقعُ الأولى على مسافةٍ طويلة جدًّا إلى الشرق عن الثانية (مثالٌ جيد على ذلك باريس وفانكوفر)، فإنَّ أقصرَ مسارٍ من النقطة الأولى إلى الثانية سيمرُّ بالقرب من القُطب الشمالي بدلًا من الاتجاه غربًا. أما عن الطريقة الثانية، فهي أن تستعين بالخريطة الأصلية لمناقشة وتفسير فكرة أنه إذا كانت المسافات قربَ الحدِّ العُلوي للخريطة أقصرَ مما تبدو، فإنه يمكن تقصيرُ المسار بالاتجاه شمالًا نوعًا ما وكذلك غربًا. وبذلك، فإنه من الصعب أن نعرف بدقةٍ ما المسارُ الأقصر، إلا أن المبدأ على الأقلِّ صار واضحًا، وهو أن «الخط المستقيم» (بمنظورِ المسافات الكروية) سيكون مُنحنيًا (بمنظور المسافات على الخريطة الفعلية). ومن الطبيعي أن نسأل عند هذه النقطة عمَّا تبدو عليه الهندسةُ الزائدية الحقيقية. أي: ماذا تكون الخريطةُ المُحرَّفة لخريطةٍ ما؟ ما الذي يُضاهى بنموذج القرص على غِرار مضاهاة الكرةِ بإسقاط مركاتور؟ الإجابة عن هذا صعبةٌ إلى حدٍّ ما. فمن جانبٍ، كان ضربًا من الحظ أنْ تَسنَّى التعرفُ على الهندسة الكروية بوصفها سطحًا يقع في فراغٍ ثلاثيِّ الأبعاد. ولو أننا بدأنا بإسقاط مركاتور، بمفهومه الغريب للمسافات، دون معرفةِ أنَّ ما لدَينا هو خريطةٌ للكرة، لَاندهَشنا وابتهَجْنا لاكتشاف وجودِ سطح مُتماثل على نحوٍ رائع في الفراغ، خريطة لهذه الخريطة، إن جاز التعبير، حيث المسافات بسيطةٌ للغاية، لا تَعْدو كونَها أكثرَ من أطوالٍ لأقصرِ المسارات في المعتاد، بمفهومٍ يسهل استيعابُه. واحدةٌ من أكثر العبارات المتناقضة في الرياضيات (والفيزياء) هي «الفراغ المُنحني». نعرف جميعًا ما يعنيه أن يكون خطٌّ أو سطحٌ منحنيًا، لكن كيف يكون الفراغُ نفسُه منحنيًا؟ وحتى لو استطعنا بطريقةٍ ما فَهْم فكرة الانحناء الثلاثيِّ الأبعاد، فالتشبيهُ مع السطوح المنحنية يوحي بأننا لن نستطيعَ أن نرى بأنفسنا إذا ما كان الفراغُ منحنيًا، إلا إذا استطعنا الخروجَ إلى بُعدٍ رابع لنرى ذلك. وربما لَاكتشَفنا وقتها أن الكون كان بمنزلة السطح الثلاثيِّ الأبعاد لكرةٍ رباعية الأبعاد (وهو مفهومٌ شرَحتُه في الفصل الخامس)، تبدو على الأقل منحنية. هذا كله مستحيلٌ بالطبع. وبما أننا لا نعرف كيف نقف خارج الكون — هذه الفكرة متناقضة تقريبًا في مفرداتها — والدليل الوحيد الذي يمكننا استخدامه ينبع من داخله. فما الدليل الذي يمكن أن يُقنِعَنا بأن الفراغ مُنحنٍ؟ ربما تميل إلى توضيحِ أن الفراغ كما نعرفه لا يتَّسم بهذه الخصائص الغريبة. فالمستقيمات التي تبدأ في اتجاهٍ بعينِه تستمرُّ في الاتجاه نفسِه، ولا تغييرَ يطرأُ على زوايا المثلث ومحيطات الدوائر كذلك. بعبارةٍ أخرى، يبدو أنه حتى لو كان من الممكن منطقيًّا أن يكون الفراغُ منحنيًا، فإنه في الواقع مسطَّح. ولكن من الممكن أن يُعزَى ظهورُ الفراغ أمامنا مسطحًا إلى أننا نُقيم في هذا الجزء الصغير منه، تمامًا كما يبدو سطحُ الأرض مسطحًا، أو بالأحرى مسطحًا مع وجودِ نُتوءاتٍ مختلفة الأحجام، إلى شخصٍ لم يُسافر بعيدًا. ومع أنه من المسلَّم به اليوم أن الفراغَ (أو، على نحوٍ أدق، الزمَكان) مُنحنٍ، فإن الانحناء الذي نُلاحظه، كما في حالة الجبال والوديان على سطح الأرض، هو مجردُ اختلالٍ بسيطٍ في شكلٍ أكبرَ كثيرًا، وأكثرَ تماثلًا. وإحدى المسائل الكبرى غيرِ المحسومة في الفلَك تعيينُ شكل الكون الواسع النطاق، وهو الشكل الذي يتَّخِذه الكون إذا أزَلْنا الانحناءاتِ الناتجةَ عن النجوم والثقوب السوداء وغيرها. هل سيظلُّ الكون منحنيًا مثل كرةٍ كبيرة، أو سيُصبح مسطَّحًا، كما يتصوَّره البعضُ بطبيعة الحال، وإن كان من المحتمَل جدًّا أن يكون تصوُّرُهم غيرَ صحيح؟ إنَّ السطح المغلَق هو شكلٌ ثنائيُّ الأبعاد، ليس له حدود. سطح الكرة مثالٌ جيِّد على هذا، وكذلك الطارة (المصطلح الرياضي لشكل سطح الحلقة أو للكعكة المُحلَّاة التي على شكل حلقة). وكما اتضح من مناقشة موضوع الانحناء، قد يكون من المفيد التفكيرُ في هذه الأسطح دون الرجوع إلى الفراغ الثلاثيِّ الأبعاد الموجودة فيه، ويزداد هذا الأمرُ أهميةً في حال الرغبة في تعميم مفهوم السطح المغلق ليشمل أبعادًا أعلى. ليس علماءُ الرياضيات وحدهم هم مَن يُحبِّذون التفكير في الأسطح بمنظورٍ ثنائيِّ الأبعاد بَحْت. على سبيل المثال، الهندسة في الولايات المتحدة متأثرةٌ بوضوحٍ بانحناء الأرض، لكن إذا أردنا تصميم خريطةِ طريقٍ مُفيدة، فلا يستدعي الأمرُ بالضرورة طباعتَها على قطعةٍ كبيرة منحنية من الورق. والأكثرُ عمَليةً من ذلك أن تُنشئ كتابًا يتضمَّن عدةَ صفحاتٍ، تعرض كلٌّ منها جزءًا صغيرًا من الدولة. ومن الأفضل أن تكون هذه الأجزاءُ متراكبة، بحيث إذا وقَعَت مدينةٌ ما على نحوٍ غيرِ ملائم بالقرب من حافَةِ صفحة، فإنها تظهر في صفحةٍ أخرى بوضوحٍ أكثر. وعلاوةً على هذا، ستُوجَد عند حواف كلِّ صفحة إشارةٌ توضح الصفحاتِ الأخرى التي تُمثل المناطقَ المتراكبة جزئيًّا وآليةَ هذا التراكب. ونظرًا إلى انحناء الأرض، فلن تكون أيٌّ من الصفحات دقيقةً تمامًا، ولكن يمكن للمرء أن يُضمِّن الصفحاتِ خطوطَ العرض والطول الثابتةَ للإشارة إلى التشوُّه البسيط الحادث، وبهذه الطريقة يمكننا تضمينُ هندسة الولايات المتحدة في كتابٍ مؤلَّف من صفحاتٍ مسطحة. وعلى ضوء هذا الأطلس، كيف نتصوَّر أن تكون طريقة التنقل داخل المنطوية؟ الطريقة البديهية أن نُفكِّر في نقطةٍ ما تتحرَّك في إحدى الصفحات. إذا وصلَت هذه النقطةُ إلى حافة الصفحة، فستُوجَد صفحةٌ أخرى تعرض الجزء نفسَه من المنطوية، ولكن لن تُوجَد النقطةُ عند الحافة مباشرةً، حتى يتَسنَّى للمرء الانتقالُ إلى هذه الصفحة عوضًا عن ذلك. ومن ثَمَّ، يمكن تجميعُ هندسة المنطويات بأكملها باستخدام دليل أطلس، بحيث لا يكون من الضروري التفكيرُ في المنطوية بكونها «حقًّا» سطحًا ثلاثيَّ الأبعاد، يقع في فراغٍ رباعي الأبعاد. وفي الحقيقة، فإن بعض المنطويات الثلاثيةِ الأبعاد لا يمكن حتى أن نُضمِّنها في فراغاتٍ رباعية الأبعاد. تُثير فكرة الأطلس هذه بعضَ التساؤلات البديهية. على سبيل المثال، على الرغم من أنها تُتيح لنا وصفَ ما يحدث إذا تحرَّكنا ضمن المنطوية، وكيف نُكوِّن من تلك المعلومة، التي ربما تكون متضمَّنةً في عددٍ كبير من الصفحات بقواعدَ معقَّدةٍ للغاية حول كيفية تراكبها، انطباعًا عن «الشكل» الأساسي للمنطوية؟ وكيف نُميِّز أن أطلسَين مختلفَين يُمثِّلان المنطويةَ نفسَها؟ وعلى وجه الخصوص، هل من طريقةٍ سهلة نُحدِّد بها — بالنظر إلى الأطلس الثلاثي الأبعاد — ما إذا كانت المنطوية التي يُمثِّلها الأطلس سطحًا ثلاثيَّ الأبعاد في كرةٍ رباعية الأبعاد؟ لا تزال الصياغةُ الدقيقةُ لهذا السؤال الأخير، المعروفةُ باسم «حَدْسيَّة بوانكاريه»، مسألةً غيرَ محسومة، خُصِّصَت لحلِّها جائزةٌ قدرها مليون دولار (من معهد كلاي للرياضيات).
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/7/
التقدير والتقريب
يُفكِّر معظم الناس في الرياضيات بوصفها مادةً تتعامل مع النتائج التامَّة والدقيقة. ويتعلم المرءُ في المدرسة أن يتوقَّع أنه إذا صِيغَت مسألةٌ رياضية بإحكام، فإنه ربما يكون لها ناتجٌ قصير، عادةً ما يُعطَى بصيغةٍ بسيطة. وهؤلاء الذين أكملوا دراستهم الجامعية في الرياضيات، وعلى وجه الخصوص، الذين يُجْرون أبحاثًا فيها، سرعان ما يكتشفون أن هذا أبعدُ ما يكون عن الحقيقة. فالعديد من المسائل ستكون مُعجِزةً وغيرَ متوقعة تمامًا إذا وُجِدَت صيغةٌ دقيقة للحل؛ ذلك أنه يُكتَفى في معظم الوقت بتقديم تقديرٍ تقريبي بدلًا من ذلك. وحتى نعتاد على عمليات التقدير، فإنها تبدو لنا بشعةً وغير مُرضية. ومع ذلك، فمِن الجدير أن نتعلَّمها؛ لأن إغفالنا لذلك معناه إغفالُ الكثير من أعظم النظريَّات والمسائل غيرِ المحسومة الأكثر إثارةً للاهتمام في الرياضيات. و يغلب هذا الطابَعُ على كثيرٍ من الأبحاث المتعلقة بالأعداد الأولية. في بادئ الأمر، عليك أن تستنبطَ نموذجًا احتماليًّا للأعداد الأولية؛ أي إنك تتظاهر بأنها اختِيرَت طبقًا لإجراءٍ عشوائيٍّ ما. وبعدها، اختبر الاحتمالات التي من المنتظَر تحقُّقها في حالِ كانت الأعداد الأولية قد كُوِّنَت حقًّا بطريقةٍ عشوائية. هذا يُتيح لك تخمينَ إجاباتِ كثيرٍ من الأسئلة. وأخيرًا، حاول إثباتَ أن النموذج واقعيٌّ بما يكفي لأن تكون تخميناتُك صحيحة على نحوٍ تقريبي. لاحظ أن هذا النهج سيكون مستحيلًا إذا اضطُررتَ إلى إعطاء إجاباتٍ محددة في كل مرحلةٍ من البرهان. من المثير للاهتمام أن النموذج الاحتمالي ليس بنموذجٍ لظاهرةٍ مادية، ولكنه نموذجٌ لجزء آخَر من الرياضيات. وعلى الرغم من أن الأعداد الأولية محدَّدةٌ بصرامة، فإنها تبدو بطريقةٍ ما كأنها بياناتٌ تجريدية. وبمجرد أن ننظُر إليها على هذا النحو، يُحرِّضنا ذلك على ابتكار نماذجَ بسيطةٍ تُتيح لنا التنبُّؤ بالإجابات الممكِنة عن بعض هذه الأسئلة الاحتمالية. وفي الحقيقة، أدَّت هذه النماذج أحيانًا إلى براهينَ صحيحة للأعداد الأولية نفسِها. يُوجَد قسمٌ آخر في الرياضيات مليءٌ بالتقديرات التقريبية، وهو علوم الكمبيوتر النظرية. إذا كتبَ المرءُ برنامجَ كمبيوتر لأداء مهمةٍ مُعيَّنة، فمِن الجيد إذن أن يُراعى في تصميمه التشغيلُ بأقصى سرعةٍ ممكنة. يطرح علماءُ الكمبيوتر النظريون السؤالَ التالي: ما أسرعُ برنامج يمكن أن نأمُلَه؟
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/8/
بعض الأسئلة المتداولة
إنَّ هذه الخرافة، التي يعتقد قطاعٌ كبير من الناس في صحتها، تَستمدُّ رَواجها من تصوُّرٍ خاطئ عن طبيعة المقدرة الرياضية. يميل الناسُ إلى التفكير في علماء الرياضيات بوصفِهم عباقرة، والعبقرية في ذاتِها صفةٌ غامضة تمامًا، وُلِدَ بها قليلٌ من الناس، ولا تتأتَّى لأحدٍ سواهم أيُّ فرصةٍ لاكتسابها. العلاقة بين السنِّ والإنجاز الرياضي تتفاوتُ كثيرًا من شخصٍ إلى آخر، وصحيحٌ أن بعض علماء الرياضيات قدَّموا أفضلَ أعمالهم وهم في العشرينيَّات من أعمارهم. ولكن، تجد الأغلبيةُ العظمى منهم أن معلوماتهم وخبراتهم تتطوَّر باطِّرادٍ على مدار حياتهم، وأنه على مدار أعوامٍ كثيرة قدَّم هذا التطوُّر تعويضًا كافيًا عن أيِّ تراجُعٍ مُفترَض في القدرات الذهنية «الفِطرية» — إن كان لهذا المفهوم معنًى من الأساس. صحيحٌ أنه ليس ثمة الكثيرُ من الطفرات الجوهرية التي حقَّقها علماءُ رياضياتٍ فوق سنِّ الأربعين، ولكن ربما يُعزى الأمرُ إلى أسبابٍ اجتماعية. ففي سنِّ الأربعين، من المُحتمَل أن يكون الشخص القادر على تحقيق مثلِ هذه الطفرة قد أصبح مشهورًا نتيجةً لعملٍ سابق، وربما لا يُوجَد لدَيه الشغفُ الموجود لدى عالِم الرياضيات الأصغرِ سنًّا، والأقلِّ شهرة. ولكن هناك الكثير من الأمثلة المناقضة لهذا، وبعض علماء الرياضيات يواصِلون مسيرتهم بحماسٍ لا يَفتُر بعد سنِّ التقاعد. بوجهٍ عام، فإن النظرة الشائعة التي تُصوِّر عالِم الرياضيات في قالَبٍ نمَطي بأنه شخصٌ ربما يكون ذكيًّا جدًّا، ولكنه أيضًا غريب، غيرُ مُهندَم، عازفٌ عن الزواج، يميل إلى العُزلة، ليست بقاعدة. صحيحٌ أنه يُوجَد القليلُ من علماء الرياضيات الذين ينطبق عليهم هذا القالَبُ إلى حدٍّ ما، ولكن لا شيء أكثر غباءً من اعتقاد أن المرء — في حال ما لم ينطبق عليه هذا القالبُ — لا يمكن أن يكون ماهرًا بالرياضيَّات. وفي الحقيقة أنه في حال ثبات كلِّ العوامل الأخرى، فإن أرجحية أن يكون المرءُ عالِمَ رياضياتٍ تكون أكبر. نسبةٌ ضئيلة للغاية من طلاب الرياضيات يُصبحون في نهاية المطاف علماءَ باحِثين في الرياضيات. والغالبية يتعثَّرون في مرحلةٍ مبكرة؛ لافتقداهم الاهتمامَ مثلًا، أو لعدم وصولهم إلى مرحلة الإعداد للدكتوراه، أو لحصولهم على دكتوراه ولكن دون حصولهم على وظيفةٍ بالجامعة. وفي رأيي، الذي لا أظنُّ أنني الوحيدُ فيه، أنه من بين أولئك الذين يجتازون تلك العقَبات المختلفة، تُوجَد عادةً نسبةٌ ضئيلة للغاية من الشخصيات الفَذَّة مقارنةً بعدد هؤلاء في مجتمع الطلاب. وفي حين أن الصورة السلبية عن علماء الرياضيات قد تكون مُدمِّرة، من حيث أنها تُنحِّي جانبًا الأشخاصَ الذين لولا تنحيتُهم لظهر شغَفُهم بالرياضيات ولَتجلَّت مهارتهم فيها، فالضررُ المترتِّب على كلمة «عبقري» أبلغُ أثرًا وأكثرُ ضررًا. فيما يلي تعريفٌ تقريبيٌّ وبسيط للشخص «العبقري»: هو شخصٌ يستطيع أن يؤدِّيَ بسهولة، وفي سنٍّ صغيرة، شيئًا لا يستطيعه أيُّ إنسانٍ آخَر تقريبًا، إلا بعد سنواتٍ من الممارسة، إنْ حدث واستطاع ذلك من الأساس. تتَّسِم إنجازات العباقرة بأن لها طابعًا غامضًا يُشبه السحر — يبدو الأمر كأنَّ عقولهم لا تعمل بكفاءةٍ أكبرَ من عقولنا فحسب، بل وبطريقةٍ مختلفة تمامًا. كل عامٍ أو عامَين، يلتحِق طالبُ رياضياتٍ بجامعة كامبريدج، يستطيع عادةً أن يحلَّ في دقائق معدودة مسائلَ يستغرق معظمُ الأشخاص، بمَن فيهم مَن يُفترض أنهم يدرسونها، عدةَ ساعات أو أكثر في حلِّها. عندما نلتقي شخصًا كهذا، فإنه لا يسَعُنا إلا أن نخطوَ خطوةً إلى الوراء ونُبدِيَ له إعجابنا به وتقديرَنا له. لعلك تتساءل الآن كيف عَساه أن يفعل ما فعَله لو لم يكن لدَيه نوعٌ من القدرة الذهنية الفائقة الغامضة؟ الإجابة هي أنه على الرغم من براعة الإنجاز الذي قدَّمه، فإنه ليس بارعًا بحيث يكون عَصِيًّا على التفسير. ولا أعرف بالضبط مُقوِّمات النجاح التي ساعَدَته، ولكن لا بد أن الأمر تطلَّب منه التحلِّيَ بقدرٍ هائل من الشجاعة، والعزم، والصبر، ومعرفةً واسعة بأبحاثٍ صعبة للغاية أجراها آخَرون غيرُه، وكذلك الحظ الجيد الذي أدخَلَه في مجال الرياضيات المناسِب في الوقت المناسب، فضلًا عن قدرةٍ استراتيجية استثنائية. تُعَدُّ هذه الصفةُ الأخيرة، في نهاية الأمر، أهمَّ من السرعة الذهنية الفذَّة: أبلغ الإسهامات في مجال الرياضيَّات يُقدِّمها غالبًا علماءُ رياضيات في بُطء السلحفاة وليس علماء رياضياتٍ في سرعة الأرانب البرية. وكلما تطوَّرَت قدراتُ علماء الرياضيات، فإنهم يتعلمون الحِيلَ الرياضية المختلفة، وهو ما يُعزى في جزءٍ منه إلى أبحاثِ علماء الرياضيات الآخَرين، ويُعزى في جزءٍ آخَر إلى ساعاتٍ طويلة قضَوْها في التفكير في الرياضيات. وما يُحدِّد إن كان بإمكانهم استخدامُ خبراتهم لحلِّ المسائل المستعصية، يُعنى إلى حدٍّ بعيد، بالتخطيط الدقيق: محاولةُ حلِّ مسائلَ من المحتمَل أن تكون مثمرةً، ومعرفة الوقت الذي ينبغي فيه التخلِّي عن خطٍّ مُعيَّن في التفكير (وهو قرارٌ يصعب اتخاذُه)، والقدرة على رسم خطوطٍ عريضة وواضحة للحُجَج، وهي خطوةٌ تأتي أحيانًا قبل كتابة التفاصيل. وهذا يتطلَّب مستوًى من النضج لا يتعارَض بأي حالٍ مع العبقرية، ولكنه لا يكون مُلازمًا لها على الدوام. إنه لَمِن المُغري تجنُّبُ هذا السؤال؛ لأن الإجابة عنه تُقدِّم فرصةً سانحة لإثارة الاستياء. ومع ذلك، فإن النسبة الصغيرة من النساء الموجودة، حتى اليوم، في أقسام الرياضيات على مستوى العالم، ملحوظةٌ جدًّا، وتُمثِّل حقيقةً مُهمَّة للغاية في واقع الرياضيات، حتى إنني أشعر أن لِزامًا عليَّ أن أقول شيئًا في هذا الصدد، حتى إذا كان ما أقوله لا يَعْدو أكثرَ من أنني أرى الوضعَ محيِّرًا ومؤسِفًا. هناك نقطةٌ جديرة بالاعتبار، وهي أن قلةَ أعداد النساء في الرياضيات هي ظاهرةٌ إحصائية أخرى: تُوجَد عالمات رياضيات على قدرٍ جيد جدًّا من المهارة، وعلى غِرار نظائرهن من علماء الرياضيات، لديهن الكثيرُ من الطرق المختلفة التي يتَميَّزن بها، بما فيها أحيانًا أن يكنَّ عبقريات. ولا يُوجَد دليلٌ مادي، أيًّا كان، على وجود حدٍّ أعلى من أي نوع لِما يمكن أن تُحققه النساءُ في الرياضيات. يقرأ المرء بين الفَينة والفينة أن الرجل أفضلُ أداءً في بعض الاختبارات العقلية للقدرة البصَرية المكانية، مثلًا، ويُقترَح أحيانًا أن هذا راجعٌ إلى تسيُّدِهم في الرياضيات. ولكن، هذه الحُجة غيرُ مُقنِعة تمامَ الإقناع: القدرة البصرية المكانية يمكن أن تتطوَّر وتُصقَل بالممارسة، وعلى أي حال، فمع أنها قد تكون مفيدةً لعالم الرياضيات، فإنها نادرًا ما تكون ضرورية. السبب الأكثر معقوليةً هو فكرة أن العوامل الاجتماعية مهمة: أمام كلِّ فتًى فخورٍ بمقدرته الرياضية، توجد فتاةٌ يَعتريها الحَرج لتفوُّقِها في مهنةٍ يَنظُر إليها المجتمعُ على أنها غيرُ أُنثَوية. بالإضافة إلى ذلك، الفتيات الموهوبات في الرياضيات لديهنَّ نماذجُ قليلة يُحتذَى بها، ومن ثمَّ فإن الوضع سرمدي. وثَمة عاملٌ اجتماعي آخرُ قد يتجلَّى أثرُه في مرحلةٍ لاحقة، وهو أن الرياضيات تتطلَّب — أكثر من مُعظم التخصصات الأكاديمية الأخرى — عقليةً مُتفردة من طِراز معيَّن، وهو ما يصعب — وإن كان بالتأكيد ليس مستحيلًا — أن يجتمع مع الأمومة. لقد قالت الروائيةُ كانديا ماكويليام مرةً إن كلَّ ابنٍ من أبنائها كلَّفها كتابَين؛ لكن يظلُّ من الممكن على الأقل تأليفُ روايةٍ بعد بِضع سنواتٍ من التوقُّف عن التأليف. أما إذا تخلَّيتَ عن الرياضيات بضعَ سنواتٍ، فإنك تصبح كمَن يُقلِع عن عادة، ونادرًا ما يمكن العودةُ إلى الرياضيات بعد ذلك. اقتُرِحَ أن عالمات الرياضيات يَمِلن إلى التطوُّر في مرحلةٍ متأخرة عن نظائرهن من الرجال، وهذا يضَعُهن في وضعٍ غير مُواتٍ في الهيكل الوظيفي الذي يُكافئ الإنجازاتِ الأولى. تُؤكِّد ذلك القصصُ الحياتية لكثيرٍ من عالمات الرياضيات المرموقات، وإن كان تَقدُّمُهن المتأخِّر يُعزى بدرجةٍ كبيرة إلى الأسباب الاجتماعية المذكورة توًّا، ولكن مرةً أخرى يظلُّ هناك الكثيرُ من الاستثناءات. مع ذلك، لا يبدو أيٌّ من هذه التفسيرات كافيًا. وبدلًا من الاستطراد في هذا الأمر، أرى أن الأفضل هو التنويهُ إلى تأليف الكثير من الكتب حول هذا الموضوع (راجِع جزء «قراءات إضافية»). وتعليقٌ أخير هو أن الوضع آخذٌ في التحسُّن: نسبة النساء بين علماء الرياضيات ازدادت باطِّرادٍ في السنوات الأخيرة، وعلى ضوء التغيُّر الذي شهده — وما زال يشهده — المجتمع بوجهٍ عام، من المؤكِّد تقريبًا أن يستمرَّ الحال على هذا المنوال. على الرغم من حقيقةِ أن كثيرًا من علماء الرياضيات غيرُ موسيقيِّين بالمرة، وأن قليلًا من الموسيقيِّين لهم اهتماماتٌ بالرياضيات، فثَمة معلومةٌ يُروَّج لها باستمرار بأنهما متَّصلتان. ونتيجةً لذلك، من غير المستغرَب أن نعلم عن عالم رياضياتٍ ما أنه عازفٌ جيد جدًّا للبيانو، أو أنَّ لدَيه هوايةَ التأليف الموسيقي، أو أنه يحبُّ الاستماع إلى موسيقى باخ. تُوجَد الكثير من الأدلة السردية التي تُشير إلى أن علماء الرياضيات ينجذبون إلى الموسيقى أكثرَ من أي ضربٍ آخَر من الفنون، وقد زعَمَت بعضُ الدراسات أنها أثبتَت أن الأطفال الذين لدَيهم ثقافةٌ موسيقية يكون أداؤهم أفضلَ في المواد العلمية. ومن غير الصعب تخمينُ الأسباب. فعلى الرغم من أن التجريد مُهمٌّ في جميع الفنون، وأن للموسيقى مُكونًا تمثيليًّا، فإن الموسيقى هي الفن التجريدي الأكثرُ وضوحًا: جزءٌ كبير من مُتعة الاستماع إلى الموسيقى ينبع من تقديرٍ مباشر، إن لم يكن وعيًا كاملًا، لهذه الأنماط الخالصة من دون أيِّ معنًى جوهري. ولسوء الحظ، فإنَّ الأدلة السردية يدعمها القليلُ جدًّا من العلوم الطبيعية. حتى إنه من غير الواضح نوعيةُ الأسئلة التي ينبغي طرحُها. فما الذي سنتعلَّمه في حالِ جُمِعَت بياناتٌ ذات دلالة إحصائية تُوضح أن نسبة علماء الرياضيات الذين يعزفون على البيانو أعلى منها في غيرِ علماء الرياضيات، الذين لهم خلفيَّات اجتماعية وتعليمية مُماثلة؟ أعتقد أن هذه البيانات «يمكن» جمعُها، لكن سيكون الأهمُّ بكثير هو وضْعَ نظريةٍ يمكن اختبارُها بالطرق التجريبية، تُفسِّر هذه العلاقة. وفيما يخص الأدلةَ الإحصائية، فإن هذه النظرية ستكون أقيمَ كثيرًا لو أنها أكثرُ تحديدًا. الرياضيات والموسيقى مختلفتان للغاية؛ من الممكن أن يُولَع المرء وجْدانيًّا ببعض الجوانب ويكون غيرَ مهتمٍّ تمامًا بجوانبَ أخرى. هل تُوجَد علاقاتٌ أكبرُ وأكثر تعقيدًا بين الذَّوق الرياضي والذوق الموسيقي؟ إذا كان الأمر كذلك، فستكون هذه العلاقات أكثرَ إفادةً من العلاقات التبادُلية البسيطة بين مستويات الاهتمام في فروع المعرفة ككلٍّ. لا يحدث كثيرًا أن نسمع أحدًا يُصرِّح بعدم حُبِّه للأحياء أو للأدب الإنجليزي. وبطبيعة الحال، لا تحظى هذه الموادُّ باهتمام الجميع، إلا أن الأشخاص الذين لا تروق لهم يتفهَّمون جيدًا أنَّ ثمة آخَرين يُخالفونهم الرأي. على النقيض من ذلك، يبدو أن الرياضيات، والموادَّ ذاتَ المحتوى الرياضي الكثيفِ مثل الفيزياء، لا تُثير عدم الاكتراث فحسب، بل أيضًا كراهيةً فِطرية حقيقية. ما الذي يجعل الكثيرَ من الأشخاص يُحجِمون عن الموضوعات الرياضية بمجرد أن يَسْنَح لهم ذلك، ويتذكَّرونها بفزعٍ بقيةَ حياتهم؟ تُوجَد علاقاتٌ متعدِّدة من هذا النوع، إلا أن مواكبةَ الرياضيات تستوجبُ ما هو أكثرُ من مجرد الطلاقة التقنية؛ أي القدرة على استخدامِ القواعد وتطبيقها بسهولة. في كثيرٍ من الأحيان، تُقدَّم فكرةٌ جديدة مهمة جدًّا وأكثرُ تعقيدًا على نحوٍ ملحوظ من اللاتي سبَقْنها، وكلٌّ منها يُتيح فرصةً للتخلُّف عن الرَّكْب. ومثالٌ واضح على هذا استخدامُ الحروف بدلًا من الأعداد، وهو ما يجده كثيرون مُحيِّرًا، وإن كان أساسيًّا لكلِّ فروع الرياضيات فوق مستوًى مُعيَّن. ومن الأمثلة الأخرى الأعدادُ السالبة، والأعداد المُركَّبة، وحسابُ المثلَّثات، ورفع الأعداد لقُوًى، واللوغاريتمات، ومبادئ حساب التفاضل والتكامل. أما أولئك الذين ليسوا على استعدادٍ لتحقيق القفزة المفاهيمية الضرورية عندما يُواجهون إحدى هذه الأفكار، فلن تكون لدَيهم قناعةٌ بكل الرياضيات المبنيَّة عليها. وسوف يعتادون تدريجيًّا فَهْم ما يقوله لهم مُعلِّمو الرياضيات فهمًا جزئيًّا. وبعد بضع قفزاتٍ أخرى يُغفِلونها، سيجدون أن هذا الفهم الجزئيَّ حتى مُبالَغٌ فيه. وفي غضون ذلك، سيرَون آخَرين في فصولهم يُواكبون الشرح دون أدنى صعوبةٍ على الإطلاق. فلا عجبَ أن تُصبح دروسُ الرياضيات، بالنسبة إلى الكثيرين، تجرِبةً مَريرة. هل هذا ما يكون عليه الوضع حتمًا؟ هل بعض الناس مُقدَّر لهم حتمًا ألا يُحبُّوا الرياضيات في المدرسة؟ أم أنه قد يكون من الممكن تدريسُ مادة الرياضيات بطريقةٍ مختلفة بحيث يكون عددُ المستبعَدين أقلَّ؟ أنا مُقتنع بأن أيَّ طفلٍ أُتيحَت له في سنٍّ مبكرة فرصةُ تَلقِّي تعليمٍ فردي في الرياضيات على يدِ مُعلِّم جيد ومُتحمِّس سيَنشأ مُحبًّا للرياضيات. هذا بالطبع لا يعني وضْعَ سياسةٍ تعليمية مناسبة على الفور، ولكنه يُشير على الأقل إلى وجودِ مَجال لتحسين طرقِ تدريس الرياضيات. تنبع إحدى التوصيات من الأفكار التي أَكَّدتُ عليها في هذا الكتاب. لقد أشرتُ ضِمنيًّا فيما سبق إلى وجودِ تناقضٍ بين الطلاقة التقنية وبين استيعابِ المفاهيم الصعبة، ولكن يبدو أن أغلب مَن يُجيد أحدَ الأمرَين يُجيد الآخر. وبالفعل، إذا كان فهمُ موضوعٍ رياضي يتعلق إلى حدٍّ كبير بتعلُّمِ القواعد التي تحكمه أكثرَ من فَهْم جوهر الموضوع نفسِه، فإن هذا بالضبط ما يتوقَّعُه المرءُ — الفرق بين الطلاقة التقنية والفهم الرياضي أقلُّ وضوحًا ممَّا قد يتصوَّره المرء. لا أريد التنويه إلى ضرورة أن يُحاول المرء توضيحَ ماهيَّة الطريقة المجردة للأطفال، وإنما أريد التنويهَ ببساطةٍ إلى أن المعلِّمين ينبغي أن يكونوا على علمٍ بنتائجها. وأهمُّ هذه النتائج أنه من الممكن جدًّا تعلُّمُ استخدامِ المفاهيم الرياضية بطريقةٍ سليمة دون معرفةِ ما تعنيه بالضبط هذه المفاهيم. وقد تبدو هذه فكرةً سيئة، لكن تدريس هذا الاستخدام غالبًا ما يكون أيسرَ من ذلك، وغالبًا ما يترتَّب على ذلك تلقائيًّا فهمٌ أعمقُ للمعنى، إن كان ثمة أيُّ معنًى عِلاوةً على الاستخدام. الإجابة المختصَرة هي أن معظمهم لا يستخدمونه، أو على الأقل، لا يستخدمونه بطريقةٍ أساسية. وبطبيعة الحال، فإنهم مثل أيِّ شخص نجدهم لا يستغنون عن الكمبيوتر لمعالجة النصوص، ولتواصُلِ بعضهم مع بعض، بالإضافة إلى الدَّور المهم الذي صار يلعبه الإنترنت. تُوجَد موضوعاتٌ في الرياضيات تتضمَّن عملياتٍ حسابيةً طويلة وبغيضة، ولكن تُوجَد عمليات حسابية روتينية أساسًا لا بد من إجرائها، وتوجد برامجُ معالَجةٍ رمزية جيدةٌ جدًّا يمكن الاستعانة بها في إجراء هذه العمليات الحسابية. ومن ثمَّ، فإن أجهزة الكمبيوتر مفيدةٌ جدًّا بوصفها أجهزةً توفِّر الوقت، وأحيانًا تكون مفيدةً جدًّا لدرجة أنها تُمكِّن علماءَ رياضياتٍ من اكتشاف نتائجَ لم يكن ممكنًا أن يكتشفوها بأنفسهم. ومع ذلك، فإن نوع المساعدة التي يمكن لأجهزة الكمبيوتر تقديمُها محدودٌ جدًّا. إذا تصادفَ أن مسألتك، أو في الأغلب مسألة فرعية، كانت واحدةً من الأقلية الصغيرة التي يمكن حلُّها ببحثٍ طويل ومتكرِّر، فالمساعدة تكون جيدةً وحسَنة. ولكن، من ناحية أخرى، إذا كنتَ متحيرًا وتحتاج إلى فكرةٍ ذكية، فإنه في الحالة الراهنة للتكنولوجيا لن يُقدِّم لك الكمبيوتر أيَّ مساعدةٍ على الإطلاق. في الواقع، معظم علماء الرياضيات يقولون إن أهمَّ أدواتهم هي قطعةٌ من الورق وشيء للكتابة به. في رأيي، الذي هو رأيُ أقلية، أن هذا الوضع مؤقَّت، وأنه على مدار المائة سنة القادمة أو نحوها، سوف تتمكَّن أجهزةُ الكمبيوتر تدريجيًّا من إنجازِ ما يفوق بكثيرٍ ما يُنجزه علماء الرياضيات — ربما يبدأ الأمر بإعدادِ تمارينَ بسيطة لنا، أو توفيرِ أسبوعٍ كامل علينا في محاولة إثبات مُبرهنةٍ تمهيدية، لها تأويلٌ معروف يُوفر مثالًا مناقضًا (أتحدثُ هنا عن خبرةٍ متكررة)، وفي نهاية المطاف تحلُّ محلَّنا تمامًا. معظم علماء الرياضيات أكثرُ تشاؤمًا بكثير (أو هل عساه أن يكون هذا تفاؤلًا؟) حول مدى مهارةِ أجهزة الكمبيوتر في الرياضيات. على العكس، ربما يسأل المرءُ ما الذي يدعو إلى المفارقة فيما يخصُّ إمكانيةَ البحث في الرياضيات؟ لقد ذكرتُ في هذا الكتاب العديدَ من المسائل غيرِ المحسومة، والأبحاثُ الرياضية تتضمن إلى حدٍّ بعيد محاولةَ حلِّ تلك المسائل وشبيهاتها. وإذا قرأتَ الفصل السابع، فستعرف أن إحدى الطرق الجيِّدة لتكوين أسئلةٍ هي أن تتناول ظاهرةً رياضية يصعُب تحليلها بدقة، وتُحاول أن تصوغ إقراراتٍ تقريبيةً عنها. واقتُرِحَت طريقةٌ أخرى في نهاية الفصل السادس: اختر مفهومًا رياضيًّا صعبًا، مثل المنطوية الرباعية الأبعاد، وستجد عادةً أنه حتى الأسئلة البسيطة حوله سيكون من الصعب جدًّا الإجابةُ عنها. لو أن هناك شيئًا غامضًا فيما يخصُّ البحث الرياضي، فإنه لا يَكمُن في وجود أسئلةٍ صعبة — ففي الحقيقة من السهل جدًّا وضعُ أسئلةٍ صعبة غير واردة — وإنما يكمن في وجودِ ما يكفي من الأسئلة التي على مستوًى مناسبٍ من الصعوبة يجعل الآلافَ من علماء الرياضيات عالِقين فيها. ولكي يتحقَّق هذا؛ لا بد بالتأكيد أن تنطويَ على تَحدٍّ، ولكنها لا بد أيضًا أن تُقدم بصيصًا من الأمل في إمكانيةِ حلِّها. الإجابةُ الأبسط والأقلُّ تضليلًا عن هذا السؤال هي النفيُ الصريح ﺑ «لا». يعلم علماءُ الرياضيات المحترفون في وقتٍ قريب جدًّا أن أيَّ فكرةٍ لدَيهم تقريبًا عن أي مسألة معروفة كانت لدى كثيرٍ من الناس قبلهم. ولكي تكون الفكرةُ جديدة، يجب أن تكون لها سِمةٌ ما تُفسِّر السببَ في أن أحدًا لم يُفكر فيها من قبل. قد يكون الأمر ببساطةٍ أن هذه الفكرة مبتكَرةٌ تمامًا وغير متوقَّعة، ولكن هذا نادرٌ جدًّا: بوجهٍ عام، إذا ظهرَت فكرةٌ ما، فإنها تظهر لسببٍ وجيه ولا تأتي من العَدم. وإذا كانت قد تبادرَت إليك، فما المانع في أن تكون قد تبادرَت إلى غيرك؟ أحد الأسباب الأكثرِ معقوليةً أن هذه الفكرة متعلقةٌ بأفكارٍ أخرى غير معروفةٍ على وجه الخصوص، لكنك تكبَّدتَ عَناء تعلُّمها واستيعابها. هذا يحدُّ على الأقل من احتمال أن تكون الفكرة قد تراءت لآخَرين قبلك، وإن كان الاحتمال يظلُّ واردًا. تتلقَّى أقسامُ الرياضيات حول العالم على الدوام رسائلَ من أناسٍ يدَّعون أنهم توصَّلوا إلى حلولِ مسائلَ مشهورة، وكل هذه «الحلول» تقريبًا تكون غيرَ صحيحة، وبدرجةٍ مُضحكة أيضًا. وبعضُها، وإن لم يكن خطأً تمامًا، فإنه لا يُشبه بُرهانًا صحيحًا لأيِّ شيءٍ حتى إنها ليست بمحاولاتٍ للحل بأيِّ حال. وأولئك الذين يتَّبِعون على الأقل بعضَ المعايير المتَّفَق عليها في الطَّرح الرياضي يستخدمون حُججًا أوَّلية جدًّا حتى إنها — في حالِ كانوا على صواب — قد اكتُشِفَت منذ قرون. ولا يكون لدى الأشخاص الذين يكتبون هذه الرسائلَ أيُّ تصوُّر حول مدى صعوبةِ الأبحاث الرياضية، ولا حول الجهود اللازمة التي تستغرق سنواتٍ كاملةً لتكوين القدْر الكافي من المعرفة والخبرة لتقديم بحثٍ أصلي ذي معنًى، ولا حول إلى أيِّ مدًى تعتبر الرياضيات نشاطًا جماعيًّا. لا أعني بهذه النقطة الأخيرة أن علماء الرياضيات يعملون في مجموعاتٍ كبيرة، مع أن كثيرًا من الأوراق البحثية يكون مُعِدُّوها اثنَين أو ثلاثة. ما أعنيه بالأحرى أنه مع تطور الرياضيات تُبتكَر أساليبُ جديدة وتصبح لا غِنى عنها للإجابة عن أنواعٍ مُعيَّنة من الأسئلة. ونتيجةً لذلك، فإن كل جيل من علماء الرياضيات يقِف على أكتافِ سابقيه، حيث يعمد إلى حلِّ مسائل كان يُنظر إليها من قبل على أنها مستحيلة. فإذا حاولتَ أن تعمل بمعزلٍ عن الاتجاه السائد في الرياضيات، فسوف يتعيَّن عليك إذن وضعُ هذه الأساليب بنفسك وهذا يضعُك أمام عقَبةٍ تعجيزية. لا يعني هذا الجزمُ أنه لا يُوجَد شخصٌ غيرُ محترف يستطيع أن يُجرِيَ بحثًا ذا مغزًى في الرياضيات. والواقع أن هناك مثالًا أو اثنَين على ذلك. عام ١٩٧٥ اكتشفَت مارجوري رايس، وهي ربَّة منزل في مدينة سان دييجو على درايةٍ بسيطةٍ جدًّا بالرياضيات، ثلاثَ طُرق لم تكن معروفةً قبلًا لتقسيم المستوى بواسطة مُضلَّعات خُماسية (غير منتظمة)؛ وذلك بعد قراءة المسألة في مجلة «ساينتفيك أمريكان». وفي عام ١٩٥٢ أثبتَ كورت هيجنر، وهو مدرسٌ ألماني في الثامنة والخمسين من عمره، إحدى حَدْسيات جاوس الشهيرة، التي ظلَّت دون حسمٍ أكثرَ من قرن. ومع ذلك، لا يتَناقض هذان المثالان مع ما قلتُه حتى الآن. تُوجَد بعض المسائل التي لا يبدو أنها وثيقةُ الصِّلة بالمحتوى الرئيسي للرياضيات، وهذه المسائلُ لا يُساعد في حلِّها كثيرًا معرفةُ الأساليب الرياضية الموجودة. وكانت مسألةُ إيجاد تقسيماتٍ جديدة على شكلِ مُضلَّعاتٍ خماسية كانت واحدةً من هذا النوع: لم يكن عالِمُ الرياضيات المحترفُ مؤهلًا بقدرٍ أفضلَ حالًا من غيرِ المحترف الموهوب لحلِّها. كان إنجاز رايس أشبهَ بإنجازِ عالِم الفلَك غير المحترف الذي يكتشف مُذنَّبًا جديدًا — الشهرة الناتجة هي جائزةٌ يستحقُّها عن جدارةٍ نظيرَ بحثٍ طويل. أما عن هيجنر، فعلى الرغم من أنه لم يكن عالمَ رياضياتٍ محترفًا، فإنه لم يعمل حتمًا بمعزلٍ تام. وتحديدًا، فقد درس بنفسه الدوالَّ المعيارية. ولا يتَّسع المجال هنا لشرحِ المقصود بالدوالِّ المعيارية؛ إذ إنها عادةً ما تُعتبَر موضوعًا مُتقدمًا للغاية حتى بالنسبة إلى مُقررِ رياضياتٍ في مرحلة البكالوريوس. من المثير للاهتمام أن هيجنر لم يكتب بُرهانه بطريقةٍ تقليدية تمامًا، وعلى الرغم من أن بحثه قد نُشِرَ على مضض، فقد كان يُعتقَد لسنواتٍ طويلة أنه غيرُ صحيح. وفي أواخر الستينيَّات من القرن العشرين، حلَّ المسألةَ مجددًا كلٌّ من آلان بيكر وهارولد شتارك على حِدَةٍ، وعندئذٍ فقط أُعيدَ النظر في بحث هيجنر بعناية، ووُجِدَ أنه صحيحٌ في نهاية المطاف. ولسوء الحظ، تُوفي هيجنر عام ١٩٦٥ ومن ثمَّ لم يُمهِلْه القدَر أن يعيشَ ليشهد الاعتراف بأهليته. لقد ناقشتُ هذا السؤال من قبلُ في الكتاب؛ ولذا سأتناوله بإيجازٍ شديدٍ هنا. قد يبدو من الغريب استخدامُ لغةٍ جمالية للإشارة إلى شيءٍ جامد في ظاهره مثل الرياضيات، لكن — كما شرحتُ (في نهاية مناقشة موضوع «تغطية شبكةٍ من المربعات بإزالة الأركان») — قد تُضفي البراهينُ الرياضية قدرًا من الاستمتاع، وثَمة أوجُه تشابهٍ كثيرةٌ بين هذا النوع من الاستمتاع والاستمتاع الجمالي بالمعنى المتعارَف عليه. ولكن من أوجُه الاختلاف بينهما — على الأقل من وجهة النظر الجمالية — أن عالِم الرياضيات يكون مجهولًا بقدرٍ أكبر من الفنان. وعلى الرغم من أنَّنا قد نُعجَب كثيرًا بعالم الرياضيات الذي يكتشف برهانًا جميلًا، فالقصةُ الإنسانية وراء الاكتشاف تخبو مع الوقت، وفي النهاية، فإنَّ الرياضيات في ذاتِها هي ما يُسعدنا.
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/17075726/
الرياضيات: مقدمة قصيرة جدًّا
تيموثي جاورز
إن الرياضيات موضوع نتعرض له جميعًا في حياتنا اليومية، لكنه موضوع يهابه الكثيرون منا. وفي هذا الكتاب الذي يجمع بين السهولة والإمتاع يوضح تيموثي جاورز الفروق الأساسية بين الرياضيات المتقدمة والرياضيات التي نتعلمها في المدارس — وهي فروق فلسفية في المقام الأول — حتى يخرج القارئ بفهم أوضح لتلك المفاهيم التي تبدو متناقضة مثل: اللانهاية، والفراغ المنحني، والأعداد التخيلية. ينتقل الكاتب من الأفكار الأساسية إلى التساؤلات الفلسفية إلى الأسئلة الاجتماعية الشائعة حول المتخصصين في علم الرياضيات، ويقدم الكتاب حلولًا لبعض الألغاز المتعلقة بالفراغ والأعداد.
https://www.hindawi.org/books/17075726/0.2/
قراءاتٌ إضافية
وأخيرًا، إذا كنت قد استمتعتَ بهذا الكتاب، فربما يروق لك أن تَعلم أنني عمَدتُ إلى الإيجاز قدْرَ الإمكان، وذلك بحذفِ أجزاءٍ كاملة من المسوَّدات الأولى، بما في ذلك حذفُ فصلٍ بأكمله. يمكن إيجادُ بعض هذه المادة في صفحتي الرئيسية على الإنترنت:
تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا». تيموثي جاورز: أستاذ الرياضيات بجامعة كامبريدج، وهو حاصل على ميدالية فيلدز في الرياضيات التي تُمنح «لأكثر أبحاث شباب المتخصصين في الرياضيات جرأة وعمقًا وإبداعًا».
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/0.1/
إهداء
إلى ديبورا هارفورد، وفران مونكس، وستيلا هارفورد عائلتي في الماضي، والحاضر، والمستقبل.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/0.2/
شكر وتقدير
عرفني بيتر سينكلير بعلم الاقتصاد، كما ساعدني طوال الوقت كل من توني كوراكيس، وسيمون كوان، وستان فيشر، وبوب جارهارت، وبول كليمبرر، وبريندان ماكلروي، وإلينور أوستروم، وهاين شين، وبيل سجوستروم، وآخرون كثيرون، وإنني لأدين بالعرفان لكل منهم. وفي شركة شل، بينما كنت أكتب أول مسودة للكتاب؛ منحني جيد دافيس فرصة للعمل لبعض الوقت، وشعرت بالسعادة وبالامتنان لدعمه لي. كما كان زملاء آخرون في شل مصدر إلهام لي، ولاسيما بيتي سو فلاورز، وأنوبام كانا، وتشوكونج، ومايكل كلاين، ودوج ماكا، وجون روبينسون. وفي جريدة فاينانشيال تايمز، حصلت على الفرص من كل من بيليتا كلارك، وأندي دافيس، وكريس جيلز، وأندرو جوارز، وجون كاي، وجون ويلمان، ومارتن وولف؛ الذين تأكدوا فيما بعد أني لم أضيعها. وفي البنك الدولي، كان كل من مايكل كلاين، وسوزان سميث زميلين رائعين، وكان كل يوم معهما بمنزلة الخبرة التي تثري ثقافتي. تحول هذا الكتاب إلى الأفضل بملاحظات كل من دافيد بودانيس، وفيلسيتي برايان، وبيني دابلين، ومور فلانيري، وجوري جابريال، ومارك هينستريدج، وديانا جاكسون، وأوليفر جونسون، وجون كاي، وتشو كونج، وبول كليمبرر، وسيتيفن ماجرورتي، ودوج ماكاي، وفران مونكس، وديف موريس، ورافييل راميريز، وجيليان رايلي، وجون روبينسون، وتيم سافين، ومارتين وولف، وأندرو رايت. كانت سالي هولوواي — وكيلة أعمالي — رائعة. وأثار إعجابي كل من تيم بارليت، وكيت هاميل بمطبعة جامعة أكسفورد بدقتهما ونفاذ بصيرتهما، فقد كنت موفور الحظ للعمل معهما. وحصلت على دعم معنوي على قدر عظيم من الأهمية من ديانا جاكسون، وزوجتي فران مونكس، و«عمي» ديف موريس، وجيليان رايلي. وقبل كل شيء، لا بد لي من شكر أندرو رايت، العبقري الذي لولاه لما انتهيت أبدًا من الكتاب، ودافيد بودانيس — مصدر الإلهام — الذي لولاه لما بدأت فيه أبدًا.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/0.3/
مقدمة
كنت أود أن أشكرك على شرائك هذا الكتاب، ولكن لو كان فيك بعض من خصالي لما كنت اشتريته أبدًا. ومع ذلك فإنك حملته إلى مقهى المكتبة وأخذت تتصفحه وأنت ترتشف الكابوتشينو في الوقت الذي تقرر فيه ما إذا كان يستحق المال الذي ستدفعه فيه أم لا. يخبرك هذا الكتاب عن الكيفية التي يرى بها خبراء الاقتصاد العالم. وفي حقيقة الأمر ربما يجلس أحدهم بجوارك الآن وأنت لا تعي وجوده، فالشخص العادي حينما ينظر إلى خبير اقتصادي لا يرى فيه شيئًا يخالف المألوف. أما في عيون خبراء الاقتصاد فيبدو الأشخاص العاديون وفيهم شيء يخالف المألوف. فماذا يرى خبير الاقتصاد؟ فإذا كان السؤال يعنيك، تُرى ماذا ستكون إذن إجابته عليه؟ ولماذا «يجب» أن يعنيك هذا السؤال؟ قد تظن أنك تستمتع بفنجان الكابوتشينو المغطى بالرغوة، ولكن خبير الاقتصاد يراك أنت والكابوتشينو كلاعبيْن في لعبة دقيقة ومعقدة ذات إشارات ومفاوضات وصراعات قوة ومعارك تعتمد على الدهاء لا العنف. ويحصل الفائزون في هذه اللعبة على جوائز ضخمة: فبعض من شاركوا في الجهد لكي تحصل على كوب القهوة الذي تحتسيه الآن يحصلون على كثير من الأموال، في حين يحصل بعضهم على أموال قليلة. أما البعض الآخر، فيتطلع للحصول على المال الذي تحمله في جيبك الآن. يستطيع مخبرنا الاقتصادي أن يخبرك من سيحصل على ماذا، وكيف، ولماذا. أتمنى بعدما تنتهي من قراءة هذا الكتاب أن تتمكن من رؤية الأشياء بنفس عين خبير الاقتصاد. ولكن من فضلك اشتر الكتاب أولًا قبل أن يطردك صاحب المتجر. وفي حقيقة الأمر فإن خبير الاقتصاد يرى أن قهوتك من المسائل المُحيرة والمثيرة للفضول وذلك لسبب آخر، فهو لا يعرف كيفية صناعة الكابوتشينو، ويعرف أيضًا أن لا أحد يعرف. ففي النهاية من يحق له أن يفخر بأنه هو الذي زرع البن، وقطف ثمرته، وحمصه، وخلطه ببعض التوابل والحبوب الأخرى لإكسابه نكهة مستحبة، وربى الأبقار وحلبها، وسبك الصلب، وشكل اللدائن، وجمعها ليصنع آلة تحضير القهوة. وفي النهاية، يشكل الخزف ليصنع كوبًا جميل الشكل؟ ففنجان الكابوتشينو الذي تحتسيه يعكس نتاج نظام ذا تعقيد مذهل. فلا يوجد شخص بمفرده في هذا العالم يستطيع القيام بكل ما تتطلبه عملية إعداد كوب الكابوتشينو. وعندما ينصرف انتباه خبير الاقتصاد عن قهوتك ليتأمل باقي المتجر، فإن التحديات التنظيمية تزيد أكثر وأكثر، فتعقيد النظام الذي جعل من المتجر واقعًا حيًّا هو أمر يستعصي وصفه. تذكر الابتكار والتطور اللذين حدثا على مدار قرون من الزمان، بدءًا من الورق الذي تُطبع عليه الكتب، إلى مصابيح الإضاءة التي تنير الأرفف، إلى البرمجيات التي تعطي معلومات عن التغير في مخزون الكتب، ناهيك عن المعجزات اليومية للمؤسسة التي عن طريقها تُجري عملية طباعة الكتب ثم تجليدها ثم تخزينها ثم تسليمها للمكتبات ثم وضعها على الأرفف ثم بيعها. يحقق هذا النظام نجاحًا رائعًا. فعندما اشتريت أنت هذا الكتاب — بالتأكيد اشتريته الآن، أليس كذلك؟ — ربما تكون اشتريته دون أن توصي متجر الكتب أن يطلبه من أجلك. وربما لم يخطر بذهنك عندما غادرت منزلك هذا الصباح أنك ستشتريه. ومع ذلك وبشيء من السحر قام العشرات بما يلزم من أجل تلبية رغباتك غير المتوقعة بدءًا بي ثم المحررين، والمسوقين، والمدققين اللغويين، والمطابع، ومصنعي الورق، وموردي الحبر إلى جانب كثيرين غيرهم … يمكن أن يشرح لك خبير الاقتصاد الكيفية التي يعمل بها نظام مثل هذا، وأيضًا الكيفية التي تحاول بها الشركات استغلاله، وكذا ما يمكن أن تفعله كمستهلك من أجل مقاومة ذلك الاستغلال. والآن ها هو المخبر الاقتصادي يطل من النافذة ويلقى بنظرة محدقة على زحام المرور بالخارج. ينظر بعض الأشخاص إلى زحام المرور باعتباره مجرد حقيقة مزعجة من حقائق الحياة. أما خبير الاقتصاد فإنه يفكر في التناقض بين فوضى الزحام المروري والحركة السلسة داخل المكتبة فربما نتعلم شيئًا ما من المكتبة يجعلنا نمنع حدوث الزحام المروري. وبينما يفكر خبراء الاقتصاد فيما يدور حولهم على نحو دائم، فإنهم لا يقصرون اهتمامهم على القضايا المحلية داخل بلادهم فحسب. فإذا رغبت في الحديث إلى أحدهم فربما تحدثه عن الفارق بين متاجر الكتب في العالم المتقدم والمكتبات في الكاميرون التي تجد فيها قراء نهمين ولكنها تخلو من الكتب. قد تذكر له أن الهوة بين دول العالم الغنية ودول العالم الفقيرة ضخمة ومرعبة. أما خبير الاقتصاد، فإنه سيوافقك على ما تشعر به من ظلم، ولكنه سيخبرك أيضًا بالسبب وراء ثراء الدول وفقرها، وما يمكن فعله إزاء ذلك. ربما يبدو المخبر الاقتصادي وكأنه شخص يتصرف كما لو كان يعرف كل شيء عن كل شيء، ولكنه في الواقع يعكس الطموح الواضح لعلم الاقتصاد لفهم سلوك البشر كأفراد، وكشركاء، وكمنافسين، وكأعضاء في التنظيمات الاجتماعية الواسعة التي نسميها «الأنظمة الاقتصادية». يتجلى هذا المدى الواسع للاهتمام في طريقة الانتقاء التي تتميز بها لجنة اختيار الفائزين بجائزة نوبل. فمنذ عام ١٩٩٠، كانت جائزة نوبل في الاقتصاد تمنح من وقت لآخر للإنجازات في الموضوعات الواضح للعيان أنها موضوعات «اقتصادية»، مثل نظرية أسعار الصرف والدورات الاقتصادية، أما في الغالب فقد مُنحت لموضوعات أقل وضوحًا في ارتباطها بما قد تظنه جوهر علم الاقتصاد: مثل التنمية البشرية، وعلم النفس، والتاريخ، والتصويت في الانتخابات، والقانون، وحتى الاكتشافات التي لا يعرفها سوى القليلون، مثل: لماذا لا يمكنك أن تشتري سيارة مستعملة بحالة جيدة. إن هدفي من هذا الكتاب هو مساعدتك لترى العالم مثلما يراه الخبير الاقتصادي. لن أحدثك عن أسعار الفائدة، أو تقلبات النشاط الاقتصادي، ولكنني سأكشف لك لغز السيارات المستعملة. كما سنتناول قضايا مهمة مثل: كيف تنتشل الصين كل شهر مليون فرد من الفقر. وسنتناول أيضًا قضايا أقل أهمية، مثل: كيف يمكنك توفير المال في المتجر. صحيح أنه يشبه عمل المحققين السريين، ولكنني سأعلمك كيف تستخدم أدوات الاستقصاء والتحري التي يستخدمها خبير الاقتصاد. كما أتمنى بنهاية هذا الكتاب أن تكون قد أصبحت مستهلكًا أكثر ذكاء، وناخبًا أكثر ذكاء أيضًا، بحيث تقدر على رؤية الحقيقة الكامنة خلف القصص التي يحاول رجال السياسة إقناعك بها. فالحياة اليومية مليئة بالألغاز التي لا يدرك كثير من الناس كونها ألغازًا، لذلك وقبل كل شيء أتمنى أن ترى التشويق الذي تنطوي عليه تلك الأسرار الحياتية اليومية. لذا فلتكن نقطة البدء هي أمر مألوف لديك، بطرحنا سؤال: من يدفع ثمن قهوتك؟
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/1/
من يدفع ثمن قهوتك؟
سواء كنت تعيش في نيويورك أو طوكيو أو أنتويرب أو براغ، يعتبر استخدام المواصلات العامة يوميًّا في الرحلات الطويلة للذهاب إلى العمل والعودة منه تجربة حياتية مألوفة في مدن العالم الكبرى. وهذه الرحلات اليومية لها تأثير عام وتأثير خاص، على نحو يفقد المرء حماسه، فالتأثير الخاص يحدث لأن كل راكب بمنزلة الفأر الذي يدور في متاهته الخاصة؛ فهو يقيس الزمن الذي يستغرقه بدءًا من حمام الصباح حتى الوصول إلى ماكينة التذاكر بمحطة المترو. ولكي يسرع من انتقاله بين القطارات المختلفة، تراه يعرف جداول مواعيد القطارات والاتجاه الصحيح للرصيف؛ ويفاضل بين مساوئ الوقوف في أول قطار يمر عليه وبين الجلوس في آخر قطار. ومع ذلك، فإن هذه الرحلات اليومية ينتج عنها تأثيرات عامة، مثل ساعات الذروة والاختناقات المرورية، التي يستغلها أصحاب الأعمال لصالحهم في جميع أنحاء العالم. وتختلف رحلتي اليومية هنا في واشنطن العاصمة عن رحلتك في لندن أو في نيويورك أو في هونج كونج، ومع ذلك فإنها ستبدو مألوفة على نحو مدهش. لا يعتبر كوب الكابوتشينو الكبير الذي يبيعه مقهى ستاربكس بسعر ٢.٥٥ دولار رخيصًا، ولكني أستطيع دفع هذا السعر، فثمن هذا الكوب لا يمثل لي، وأيضًا للكثيرين من مرتادي المقهى، أكثر من الأجر الذي أحصل عليه عن عملي لبضع دقائق. ومن المؤكد أنه ما من أحد منا سيضيع وقته لتوفير بضعة سنتات ليبحث عن مقهى أرخص في الساعة الثامنة والنصف صباحًا. يوجد طلب هائل على المقهى الذي يحظى بأفضل موقع يسهل الوصول إليه، فمحطة ووترلو على سبيل المثال يمر بها كل عام أربعة وسبعون مليون شخص، الأمر الذي يجعل موقع ذلك المقهى مسألة في غاية الأهمية. لا يعتبر موقع مقهى ستاربكس في محطة فارجوت ويست موقعًا ذا قيمة لأنه يقع على طريق حتمي نشيط لمرور الناس بين أرصفة المحطة في طريقهم إلى خارجها، وإنما أيضًا لعدم وجود مقاهٍ أخرى على طول الطريق، فلا عجب إذن أن يحقق هذا المقهى أرباحًا طائلة. وفي حقيقة الأمر فإن أهم ميزة يتمتع بها ستاربكس هي موقعه على طريق مشاه يسير عليه آلاف القائمين برحلات يومية جيئة وذهابًا. ولا يوجد اليوم كثير من الأماكن الجيدة التي يمكن أن تلائم إقامة المقاهي مثل مخارج المحطات أو نواصي شوارع مزدحمة. والسبب هو أن ستاربكس ومنافسيه قد التهموا هذه الأماكن. فلو كان لشركة ستاربكس تأثير التنويم المغناطيسي على زبائنها كما يزعم منتقدوها، فما كانت ستحتاج أن تبذل مثل هذا الجهد الهائل كي تجعلهم يرتادون المقهى. فهامش الربح الجيد الذي تجنيه ستاربكس من بيع الكابوتشينو لا يرجع إلى جودة البن أو طاقم العمل، ولكن بسبب موقع المقهى، ثم الموقع، ثم الموقع. وفي محاولتك لاستنتاج من سيجني كل الأرباح، تذكر ببساطة أن طاولة المفاوضات يوجد على جانب منها نحو عشر شركات متنافسة على الأقل، وعلى الطرف الآخر يجلس مالك الموقع المتميز الذي تنشده هذه الشركات. وبعد أن يجعل صاحب الأرض هذه الشركات متواجهة لتحقيق مصلحته الشخصية، يصبح قادرًا على إملاء شروطه، وإجبار واحدة منهن على دفع قيمة إيجارية تستنزف تقريبًا كل ربحها المتوقع. والشركة الفائزة بالمكان سوف تفترض أنها ستحصل على بعض الأرباح وليس أرباحًا كثيرة: فلو بدت القيمة الإيجارية قليلة على نحو يساعد على تحقيق ربح وفير، فسترحب شركة مقاهٍ أخرى بدفع قيمة إيجارية أعلى قليلًا نظير حصولها على الموقع. وفي حقيقة الأمر يوجد عدد هائل من شركات المقاهي التي قد تؤجر المكان، وفي الوقت نفسه عدد قليل من المواقع الجذابة لهذه الشركات، وهذا يعني أن ملاك المواقع لهم اليد العليا. فوجئت عندما كنت أتصفح كتب الاقتصاد القديمة التي أحتفظ بها في مكتبة منزلي بأول تحليل اقتصادي عن مقاهي القرن الحادي والعشرين. ومع أنه نشر في عام ١٨١٧ فإنه لا يتناول بالشرح المقاهي الحديثة فقط وإنما يتحدث أيضًا عن كثير من أحوال عالمنا الحديث. ويعني هذا أن ملاك الأراضي باتت لديهم القدرة على رفع قيمة الإيجار، ولكن بأي قدر؟ يجب أن يظل الإيجار كافيًا بحيث يحصل المزارعون على مقدار من الغلة من زراعة الأرض الخصبة بعد أن يدفعوا الإيجار للمالك؛ يساوي مقدار الغلة التي يحصلون عليها من زراعة الأراضي المغطاة بالشجيرات القصيرة دون دفع أي إيجار، فلو كان الفرق في الغلة التي تنتجها كلتا الأرضين هو خمسة بوشل من الحبوب سنويًّا، فإن الإيجار يجب أن يكون أيضًا خمسة بوشل سنويًّا. أما لو حاول مالك الأرض المطالبة بأكثر من هذا فسيذهب المستأجر إلى الزراعة في الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة. وإن قل الإيجار عن هذا، فسيرغب مزارع الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة أن يدفع إيجارًا أكبر نظير زراعته للأرض الخصبة. قد يبدو من الغريب أن يحدث التغيير في قيمة الإيجار بهذه السرعة فقط لقدوم رجل واحد آخر ليزرع في المنطقة. تبدو هذه القصة عاجزة عن تفسير ما يجرى حقيقة في أرض الواقع، ولكنها تحمل بين ثناياها قدرًا كبيرًا من الحقيقة يفوق ظنك حتى لو كانت قصة مفرطة في التبسيط. توجد بالطبع أمور أخرى على أرض الواقع ينبغي أن تؤخذ في الحسبان مثل قوانين طرد المستأجر، والعقود طويلة الأجل، وحتى العادات الثقافية مثل حقيقة أن طرد شخص في يوم ليحل محله مستأجر جديد في اليوم التالي أمر «غير لائق اجتماعيًّا». وفي حقيقة الأمر يوجد أكثر من نوعين من الأراضي في دنيا الواقع، وسيكون أمام بوب خيارات مختلفة ليعمل في مجال عمل آخر غير الزراعة. فقد يتجه إلى العمل كمحاسب أو كسائق تاكسي. كل تلك الحقائق تزيد من تعقيد ما يحدث في عالمنا الواقعي، فهي تبطئ من عملية انتقال القدرة التفاوضية وتغير الأرقام المطلقة المرتبطة بهذا الشأن وتحد من التغييرات المفاجئة في قيمة إيجار الأرض. ومع ذلك فإن تعقيدات الحياة اليومية غالبًا ما تخفي الاتجاهات الكبيرة الكامنة وراء الأحداث، مثلما يحدث عند انتقال قوة الندرة من مجموعة إلى أخرى. ووظيفة الخبير الاقتصادي هي تسليط الضوء على العمليات غير الظاهرة، فلا ينبغي أن نندهش لو تحول سوق الأراضي فجأة ضد مصلحة المزارعين، أو لو ارتفعت أسعار المنازل ارتفاعًا حادًّا، أو لو امتلأ العالم بالمقاهي في غضون أشهر قليلة. ولذلك تؤكد لنا بساطة تلك القصة جزءًا من الحقيقة غير الظاهرة، ولكن هذا بالتأكيد يفيد في الكشف عن أمر مهم ألا وهو أن الندرة النسبية والقدرة التفاوضية، تتغيران حقًّا في بعض الأحيان تغيرًا سريعًا وتحدثان تأثيرات عميقة في حياة الناس. ونحن غالبًا نشكو من أعراض المشكلة — مثل التكلفة العالية لشراء كوب قهوة أو حتى لشراء منزل — ولكننا في حقيقة الأمر لن نتمكن من علاج الأعراض بنجاح دون فهم نماذج الندرة التي تعتبر أساس تلك الأعراض. ولهذا سيكون إيجار الأرض الخصبة مساويًا دائمًا للفرق في محصول الغلة الذي تنتجه الأرض الخصبة والذي تنتجه أي أرض أخرى يمكن للمزارعين الجدد زراعتها دون دفع أي إيجار. ويسمي علماء الاقتصاد هذه الأرض الأخرى بالأرض «الحدية» لأنها تقع على الحد بين كونها مزروعة وبين كونها غير مزروعة. (وسرعان ما سترى أن علماء الاقتصاد يفكرون كثيرًا بشأن القرارات التي تُتخذ عن الحد). ففي البداية، عندما كانت الأراضي الخصبة متوفرة على نحو يفوق عدد المستوطنين اللازمين لزراعتها، لم تكن هذه الأرض أفضل أنواع الأراضي فحسب، بل كانت هي الأرض «الحدية» أيضًا لأن المزارعين الجدد كان بإمكانهم استغلالها. ونظرًا لأن أفضل أنواع الأراضي كانت تؤدي نفس دور الأرض الحدية فلم يكن هناك إيجار بخلاف المبلغ البسيط الذي كان يعوض مالك الأرض عن متاعبه. وفيما بعد، عندما زاد عدد المزارعين حتى لم يعد يكفيهم عدد الأراضي الخصبة الموجودة، صارت الأراضي المغطاة بالشجيرات القصيرة هي الأرض الحدية، وارتفع إيجار الأرض الخصبة إلى خمسة بوشل سنويًّا — وهو الفرق في إنتاجية الأرض الخصبة والأرض الحدية (أي الأرض المغطاة بالشجيرات القصيرة في تلك الحالة). وعندما وصل كورنيليوس، صارت الأرض العشبية هي الأرض الحدية، وباتت الأراضي الخصبة أكثر جاذبية مقارنة بالأرض الحدية، ولذلك تمكن ملاك الأراضي من رفع قيمة إيجار الأراضي الخصبة مرة أخرى. من المهم أن نشير هنا إلى عدم وجود قيمة مطلقة: فكل شيء يصبح نسبيًّا لهذه الأرض الحدية. يمكن أن تكون أكشاك القهوة هي نقطة البدء. لماذا ترتفع أسعار القهوة في لندن ونيويورك وواشنطن وطوكيو؟ قد تخبرنا فطرتنا أن القهوة غالية الثمن لأن أكشاك القهوة تضطر لدفع قيمة إيجارية عالية. أما نموذج ديفيد ريكاردو الاقتصادي، فيستطيع أن يبين لنا أن هذه الطريقة خاطئة للتفكير في تلك القضية لأن «القيمة الإيجارية العالية» ليست حقيقة عشوائية من حقائق الحياة، وإنما لها سبب يبررها. يوضح المثال الذي استخدمه ريكاردو أن ثمة أمرين يحددان القيمة الإيجارية للمواقع المتميزة، تمامًا مثلما يتحدد إيجار الأراضي الخصبة وفقًا للفرق في الإنتاجية الزراعية بين الأراضي الخصبة والأرض الحدية، وأهمية الإنتاجية الزراعية نفسها. فإذا كان سعر البوشل (مقياس لكيل الحبوب يساوي ثمانية جالونات) دولارًا فإن خمسة بوشل من الحبوب تستحق إيجارًا قدره خمس دولارات. وإن كان سعر البوشل مائتي ألف دولار، فإن خمسة بوشل من الحبوب تستحق إيجارًا قدره مليون دولار. وتستحق الأرض الخصبة قيمة إيجارية مرتفعة مُقَيَّمة بالدولار إذا كانت الحبوب التي تساعد هذه الأرض على إنتاجها مرتفعة القيمة. والآن دعنا نطبق نظرية ريكاردو على المقاهي التي تحدثنا عنها. فمثلما تستحق الأرض الخصبة إيجارًا مرتفعًا إذا كانت الحبوب التي تنتجها هذه الأرض مرتفعة القيمة، فإن المواقع المتميزة للمقاهي تستحق هي الأخرى إيجارًا مرتفعًا إذا كان الزبائن سيدفعون أسعارًا مرتفعة للقهوة. وبالطبع يكون زبائن ساعة الذروة في حاجة ماسة للكافيين، وفي عجالة من أمرهم بحيث إنهم لا يدققون إذا كانت الأسعار التي يدفعونها مرتفعة أم لا. لذلك فإن استعدادهم لدفع أعلى سعر مقابل مقهى يتمتع بسهولة الوصول إليه هو السبب في ارتفاع القيمة الإيجارية، وليس العكس. استطاع ديفيد ريكاردو أن يكتب تحليلًا عن مقاهي الكابوتشينو في محطات المترو قبل أن تخرج إلى الوجود مقاهي الكابوتشينو أو محطات المترو. وهذا هو نوع الحيل الذي يجعل الناس إما يعشقون علم الاقتصاد، أو ينفرون منه. فالذين ينفرون منه يزعمون أننا لو أردنا فهم كيفية عمل تجارة القهوة في العالم الحديث لا يجب علينا أن نقرأ تحليلًا عن الزراعة نُشر عام ١٨١٧. ومع ذلك فالكثيرين منا يُغرمون بحقيقة أن ريكاردو، منذ حوالي مائتي عام، استطاع أن يخرج برؤية واضحة تُنير طريقنا اليوم نحو الفهم. فمن السهل أن ترى الفرق بين الزراعة في القرن التاسع عشر، وبين بيع القهوة ذات الرغوة في القرن الحادي والعشرين، ولكن ليس من السهل أن ترى وجه الشبه بينهما قبل أن يقوم أحدهم بتسليط الضوء عليه. يدور علم الاقتصاد بقدر ما حول وضع النماذج الاقتصادية، وحول التعبير بوضوح عن المبادئ والأنماط الأساسية المسئولة عن الموضوعات التي تبدو معقدة مثل إيجار الأراضي الزراعية أو إيجارات المقاهي. وثمة نماذج أخرى نجدها في صناعة القهوة، والتي تعتبر نافعة للعديد من الأمور المختلفة، فمثلًا قد يكون نموذج التصميم المعماري للمقهى مفيدًا كدراسة حالة ليدرسها المهندسون العاملون بمجال التصميم الداخلي. وقد يساعد أحد النماذج الفيزيائية في تحديد الملامح البارزة للآلة التي تولد مقدار ١٠ ضغط جوي وهو المقدار اللازم لتخمير القهوة الإسبرسو، ونفس النموذج قد يصبح نافعًا عند الحديث عن مضخات الشفط، أو محركات الاحتراق الداخلي. واليوم لدينا نماذج من التأثيرات البيئية التي تحدثها الطرق المختلفة للتخلص من بقايا البن المتخثرة في قاع الفنجان. وكل نموذج منها مفيد لأمور مختلفة، أما «النموذج» الذي حاول أن يصف في آن واحد كلًّا من التصميم والهندسة وعلم البيئة وعلم الاقتصاد فإنه لن يكون أبسط من الواقع نفسه وبالتالي لن يضيف شيئًا لفهمنا. ويصلح نموذج ريكاردو الاقتصادي لمناقشة العلاقة بين الندرة والقدرة التفاوضية حيث يذهب النموذج إلى ما هو أبعد من القهوة أو الزراعة ثم يفسر لنا في النهاية كثيرًا من أمور العالم التي تحدث من حولنا. فعندما ينظر علماء الاقتصاد إلى العالم يرون أنماطًا اجتماعية مستترة، تصبح جلية فقط عندما يركز المرء على العمليات الجوهرية غير الظاهرة. ويدفع هذا التركيز النقاد إلى القول بأن علم الاقتصاد لا يأخذ في اعتباره الأمر برمته أو «النظام» بأكمله. ومع ذلك كيف لتحليل عن الزراعة يعود إلى القرن التاسع عشر أن يكشف حقيقة مقاهي القرن الحادي والعشرين، بغض النظر عن إخفاقه في ملاحظة كل أنواع الفروق المهمة؟ والجواب هو أنه يتعذر في الواقع فهم أي مسألة معقدة دون التركيز على عناصر محددة تقلل من تعقيدها. يفضل علماء الاقتصاد التركيز على أمور محددة، والندرة هي أحد تلك الأمور، وهذا التركيز يعني أننا لا نلاحظ الميكانيكا التي تعمل بها ماكينة إعداد القهوة الإسبرسو، واختيار الألوان المستخدمة في تصميم المقاهي، وغير ذلك من الحقائق المثيرة الأخرى. ومع ذلك فهذا التركيز يفيدنا أيضًا، وأحد الأشياء التي نستفيدها هو فهم «النظام»، أقصد النظام الاقتصادي، الذي يعد أشمل كثيرًا مما قد يظن الكثيرون. ومع ذلك فيلزم هنا قرع جرس تحذير. فتبسيط النماذج الاقتصادية قد اشتهر بأنه يضلل علماء الاقتصاد. حتى إن ريكاردو نفسه كان من أوائل ضحايا هذا التبسيط، فقد كان يحاول أن يمد نموذجه الاقتصادي الناجح والرائع عن المزارعين وملاك الأراضي ليفسر توزيع الدخل في النظام الاقتصادي بأسره، مثل: كم الدخل الذي يحصل عليه العمال، والدخل الذي يحصل عليه ملاك الأراضي، والدخل الذي يحصل عليه الرأسماليون. ولكن لم يحقق هذا النموذج نجاحًا تامًّا في مهمته؛ لأن ريكاردو تعامل مع القطاع الزراعي بأكمله وكأنه مزرعة واحدة شاسعة يملكها فرد واحد. فالقطاع الزراعي الموحد لن يستفيد شيئًا من تحسين إنتاجية الأرض عن طريق تعبيد الطرق، أو تحسين الري؛ لأن تلك الأمور من شأنها أن تقلل من ندرة الأرض الخصبة. ومع ذلك فالمالك الفرد حينما يكون في منافسة مع ملاك آخرين فسيكون لديه الكثير من الدوافع لعمل تلك التحسينات. وبسبب انشغاله بالتفاصيل الفنية دون غيرها، أخفق ريكاردو في إدراك حقيقة أن الآلاف من ملاك الأراضي ينافس بعضهم بعضًا مما يجعلهم يتخذون قرارات مختلفة وليس قرارًا واحدًا. وهكذا فليس بمقدور نموذج ريكاردو تفسير كل شيء، إلا أننا نوشك على معرفة أن النموذج بمقدوره تفسير أمور لم يتصورها ريكاردو نفسه. لا يفسر هذا النموذج المبادئ الكامنة خلف مقاهي القهوة والزراعة فحسب، وإنما — إذا جرى تطبيقه على النحو الصحيح — يظهر أن التشريعات البيئية يمكن أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا على توزيع الدخل، ويفسر السبب وراء تحقيق بعض الصناعات بطبيعتها للأرباح العالية في حين تعتبر الأرباح العالية في بعض الصناعات الأخرى دليلًا دامغًا على الاحتيال، وكذلك فهو ينجح في تفسير السبب وراء معارضة المتعلمين لهجرة أمثالهم من المتعلمين في حين تشكو الطبقات العاملة من هجرة العمالة التي تعمل في وظائف لا تحتاج إلى مهارات خاصة. هل ستبالي إذا بيعت لك سلعة بثمن أكبر بكثير من ثمنها الحقيقي؟ وفيما يخص نموذج ريكاردو، ينبغي أن نعرف الأسباب المختلفة التي تتسبب في ارتفاع أسعار الإيجارات؛ فمعرفة هذه الأسباب قد تكون شيقة بعض الشيء حين نتحدث عن الأراضي الخصبة، (وإذا كنت مزارعًا فحينها ستكون شيقة للغاية)، ولكن معرفة الأسباب تصبح مسألة في غاية الأهمية عندما يتعلق الأمر بمعرفة لماذا تبدو أسعار إيجارات الشقق السكنية باهظة للغاية، أو معرفة ما إذا كانت البنوك تحتال علينا أم لا. ومع ذلك يمكن أن نبدأ بمسألة الأراضي الخصبة ثم نطبق ما سنصل إليه على نطاق أوسع. نحن نعرف أن تحديد سعر إيجار أفضل أنواع الأراضي يتحدد بواسطة الفرق في الخصوبة بين الأرض الخصبة والأرض الحدية. لذلك فإن السبب الواضح في ارتفاع قيمة الإيجار هو أن الأرض الخصبة تنتج محاصيل عالية القيمة مقارنة بالأرض الحدية. وكما ذكرت آنفًا أنه عندما يكون سعر البوشل من الحبوب دولارًا والفارق في الإنتاج خمسة بوشل فإن هذا الفارق يستحق إيجارًا قدره خمسة دولارات، ولكن عندما يكون ثمن البوشل مائتي ألف دولار والفارق في الإنتاج خمسة بوشل فإن هذا الفارق يستحق إيجارًا قدره مليون دولار. وإذا كانت الحبوب غالية الثمن، يصبح من الطبيعي أن تكون الأراضي الخصبة النادرة التي تنتجها غالية الثمن أيضًا. وثمة سبب آخر يرفع سعر إيجار الأراضي الخصبة، وهو سبب لا علاقة له بالتطور الطبيعي للأسواق، فلنفترض أن ملاك الأراضي قد اجتمعوا معًا ونجحوا في إقناع عُمدة البلدة بضرورة وجود ما تسميه انجلترا «الحزام الأخضر» وهو عبارة عن مساحة شاسعة من الأرض حول المدينة تطوق المدينة بحيث تعرقل بشدة قوانين التخطيط الصارمة استغلالها في أي مجال من مجالات التنمية العقارية. سيزعم ملاك الأراضي حينها أن من العار إقامة المزارع على تلك الأرض البرية الرائعة، ويطالبون بأن يمنع القانون زراعتها. وفي الواقع يستفيد ملاك الأراضي كل الاستفادة من مثل ذلك الحظر، لأنه يرفع سعر إيجار كل الأراضي التي لا يمنع القانون زراعتها. وتذكر أن إيجار الأرض الخصبة يحدده الفرق بين إنتاجية تلك الأرض وإنتاجية الأرض الحدية. وبالتالي لو منعنا زراعة الأرض الحدية بأمر القانون فسيرتفع سعر إيجار الأرض الخصبة؛ فذات يوم كانت زراعة الأراضي العشبية دون دفع أي إيجار هي البديل لزراعة الأراضي الخصبة ودفع إيجار مقابل الزراعة، أما الآن فلا يوجد بديل حيث يتوق المزارعون الآن كثيرًا لزراعة الأرض الخصبة لأن زراعة الأراضي العشبية أصبح أمرًا مخالفًا للقانون، وهكذا يرتفع أيضًا سعر الإيجار الذي يكون هؤلاء المزارعون على استعداد لدفعه. ها نحن قد كشفنا عن سببين وراء ارتفاع سعر إيجار الأراضي: أولهما، هو أن الأمر يستحق أن تدفع مبلغًا كبيرًا من المال مقابل إيجار الأرض الخصبة لأن الحبوب التي تنتجها تلك الأرض مرتفعة القيمة. وثانيهما، أنها تستحق الإيجار المرتفع؛ لأنه ليس أمامك بدائل أخرى. وهذه النقطة قد تصيب بالدهشة أولئك القراء الذين يؤجرون في الوقت الحالي أي ممتلكات عقارية في لندن، وهي المدينة التي يطوقها «الحزام الأخضر» الأصلي الذي أنشئ في الثلاثينيات من القرن العشرين. فهل السبب في غلاء تأجير أو شراء الممتلكات العقارية في لندن لا يرجع إلى أنها أفضل بكثير من البدائل الأخرى وإنما يرجع إلى أن تلك البدائل أصبحت ممنوعة بأمر القانون؟ والآن آن الأوان كي تؤدي أول اختبار في علم الاقتصاد: لماذا يعد التحسين في جودة الخدمات والأسعار في القطار الذي ينقل راكبيه إلى محطة «بن» في نيويورك من الضواحي المجاورة؛ أمرًا يسر كل المستأجرين لممتلكات عقارية في مانهاتن؟ ولماذا ربما يكون ملاك العقارات في نيويورك أقل حماسًا فيما يتعلق بهذا التحسين؟ الإجابة هي أن النقل العام المطور يزيد من البدائل فيما يتعلق بمسألة تأجير عقار في المدينة. فعندما يقل زمن رحلة القطار ليصبح ساعة واحدة بدلًا من ساعتين، ويكون بوسع الركاب أن يجلسوا على مقاعد في القطار بدلًا من الوقوف، سيري البعض منهم عندئذ أنه من الأفضل توفير المال والانتقال للحياة خارج حي مانهاتن. وعندئذ ستظهر بالسوق الشقق الخالية، وتقل الندرة، وتنخفض أسعار الإيجارات. وهكذا فتطوير الخدمات المقدمة إلى الركاب القائمين برحلات يومية هو أمر لا يقتصر أثره على هؤلاء الركاب فحسب، بل إنه يؤثر على كل المتعاملين في سوق العقارات في نيويورك. من إحدى مشكلات أن تصبح مخبرًا اقتصاديًّا، أنك ستبدأ في رؤية «أحزمة خضراء» من أنواع مختلفة في كل مكان. فكيف نفرق بين السلع باهظة الثمن بسبب ندرتها الطبيعية وبين السلع باهظة الثمن بسبب أسباب مصطنعة مثل التشريعات أو اللوائح أو الخداع؟ يمكن أن يفيدنا نموذج ريكاردو في هذه المسألة أيضًا، فنحن بحاجة لأن ندرك التماثل المستتر بين الموارد الطبيعية مثل: الحقول والمواقع التجارية المزدحمة والشركات. فالحقول تقوم بتحويل بعض الأغراض إلى أغراض أخرى، فبها يتحول السماد والبذور إلى حبوب. وهذا ما تفعله الشركات أيضًا. فمصنعو السيارات يحولون الصلب والكهرباء والمكونات الأخرى إلى سيارات. ومحطات الوقود تحول المضخات وخزانات الوقود الكبيرة وأرض المحطة إلى بنزين. والبنك يحول أجهزة الحاسب الآلي وأنظمة المحاسبة المتقدمة والنقود إلى خدمات مصرفية. وبدون أن نعتدي كثيرًا على حقوق الملكية الفكرية، يمكن أن نستبدل بكلمة «إيجار الأرض» في نموذج ريكاردو كلمة «ربح». فالإيجار هو العائد الذي يحصل عليه ملاك الأراضي من أملاكهم، والربح هو العائد الذي يحصل عليه ملاك الشركات من أملاكهم أيضًا. دعنا نطلق على هذا البنك اسم «مؤسسة أكسيل المصرفية»، ولنفرض أن هناك بنكًا آخر، ولنُسَمِّه «بنك بوب للديون والائتمان» وهو بنك لا يتمتع بكفاءة كبيرة، واسمه التجاري أقل ثقلًا، وبه ثقافة تنظيمية مقبولة. وهذا البنك ليس سيئًا، ولكنه ليس ممتازًا أيضًا. ولنفرض أن هناك بنكًا ثالثًا ولنُسَمِّه «مؤسسة كورنيليوس للإيداع» الذي لا يتمتع بأي درجة من درجات الكفاءة، وسمعته غاية في السوء، ويعامِل موظفوه العملاء بفظاظة، ولا يوجد به أي نظام تحكم في النفقات. فكفاءة «مؤسسة كورنيليوس للإيداع» أقل من كفاءة «بنك بوب للديون والائتمان»، وتنعدم على الإطلاق مقارنته «بمؤسسة أكسيل المصرفية». كل هذا يذكرنا بأنواع الأراضي الثلاثة التي تحدثنا عنها: من أراض خصبة تتمتع بكفاءة في إنتاج الحبوب، وأراض مغطاة بالشجيرات القصيرة أقل كفاءة، وأراض عشبية وهي أدناها كفاءة. وتتنافس بنوك أكسيل وبوب وكورنيليوس على بيع الخدمات المصرفية بإقناع الناس بفتح حسابات لديهم أو الحصول على قروض منهم. وبالطبع فإن بنك أكسيل غاية في الكفاءة حتى إنه قادر على المنافسة إما ببيع الخدمات المصرفية بتكلفة أقل، أو بتجويد الخدمات وبيعها بنفس السعر. وفي نهاية كل عام يجني بنك أكسيل الأرباح الوفيرة، ويجني بنك بوب، الذي لا يقدم لعملائه نفس جودة الخدمات، ربحًا أقل من أرباح بنك أكسيل، أما بنك كورنيليوس، فبالكاد يغطي تكاليفه. وإذا كانت السوق المصرفية أكثر صرامة، فسيتوقف بنك كورنيليوس عن مزاولة أعماله. أما إذا غدت السوق المصرفية أكثر جاذبية، فسيبدأ بنك كورنيليوس في جني الأرباح وسيدخل إلى المجال بنك جديد ربما أقل كفاءة من بنك كورنيليوس. وهذا البنك الجديد سيكون هو البنك الحدي وسيغطي تكاليفه بالكاد. وبدون تكرار كل خطوة من خطوات التحليل، يمكن أن نذكر أنفسنا بأن إيجار الأرض الخصبة جرى تحديده عن طريق المقارنة بين إنتاجيتها وإنتاجية الأرض العشبية الحدية. وبنفس الطريقة فإن أرباح بنك أكسيل سيجري تحديدها عن طريق المقارنة بين بينه وبين بنك كورنيليوس، البنك الحدي، الذي نعرف أننا ينبغي أن نتوقع منه أن يجني الأرباح القليلة، أو حتى ألا يجني أرباحًا على الإطلاق. فأرباح الشركات مثلها كمثل إيجارات الأراضي تحددها البدائل. فالشركة التي تواجه منافسة قوية تجني أرباحًا أقل من الشركة التي تواجه منافسين غير أكفاء. قد تظن أن هناك عيبًا في هذه المقارنة، فقد تقول إن أفدنة الأراضي الخصبة عددها محدد، ولكن الشركات يمكنها أن تنمو. ولكن هذا ليس صحيحًا تمامًا، فالشركات لا يمكنها أن تنمو بين عشية وضحاها دون أن تتشوه سمعتها وسمعة المقومات الأخرى التي دفعتها نحو النجاح. من ناحية أخرى، بينما يستحيل أن يتغير عدد الأفدنة، فإن التمييز بين الأنواع المختلفة من الأراضي سوف يتغير بمرور الزمن مع تطور نظم الري ومكافحة الآفات وتقنيات الأسمدة. إن نموذج ريكاردو، الذي يتجاهل تلك التغييرات التي تحدث بمرور الزمن، سوف يفسر الاتجاهات في أسعار المنتجات الزراعية على مدار العقود وليس على مدار القرون، ولكنه سوف يفسر ربحية المؤسسات على مدار السنين وليس على مدار العقود. وهذا التحليل شأنه شأن الكثير من النماذج الاقتصادية سيؤدي وظيفته جيدًا عندما يُطبق خلال فترة زمنية محددة، وفي حالتنا هذه، تكون الفترة الزمنية على المدى القصير أو المتوسط. أما بالنسبة إلى الفترات الزمنية الأخرى، فهناك نماذج اقتصادية أخرى تفلح في هذا الصدد. كل هذا رائع … ولكن ما علاقة هذا بجشع الشركات؟ كثيرًا ما نجد الصحف تتحدث عن الأرباح التي تجنيها الشركات وكأنها تعتبر هذه الأرباح علامة على أنها تغش المستهلك. فهل هذه الصحف محقة؟ ليس دائمًا. يقول تحليل ريكاردو إن هناك سببين ربما يدفعان متوسط الأرباح التي تجنيها صناعة مثل صناعة البنوك إلى الارتفاع، فلو كان العملاء يقدرون حقًّا قيمة الخدمة الممتازة والسمعة الطيبة، فسيجني بنكَا أكسيل وبوب الكثير من النقود. (أما بنك كورنيليوس الذي يعد بمنزلة البنك الحدي فسيجني ربحًا ضئيلًا.) وسيكون عندئذ بوسع الكتاب في الصحف أن يشتكوا من الكسب المفرط لهذه الشركات. أما لو كان العملاء يهتمون بالخدمة الممتازة بقدر ضئيل، فسيجني أكسيل وبوب أرباحًا تزيد قليلًا عن تلك التي يجنيها كورنيليوس (الذي ما يزال يعتبر البنك الحدي وما يزال يجني الربح الضئيل)، وسيصبح متوسط الأرباح منخفضًا. وعندئذ سيصمت الصحفيون رغم عدم تغير دوافع واستراتيجيات الصناعة حيث إن الأمر الوحيد الذي تغير هو أن العملاء أصبحوا يهتمون بالخدمة الممتازة بقدر كبير. وهكذا فليس لدينا سارق أو مسروق وإنما يُكافئ كل من أكسيل وبوب لأنهما يعرضان شيئًا يتميز بالندرة والتقدير الكبير لأهميته في آن واحد. إذا أردت معرفة ما إذا كنت قد وقعت ضحية غش متاجر البقالة، أو البنوك، أو شركات الأدوية، يمكنني معرفة كم تجني تلك الشركات من أرباح. فلو كانت تجني أرباحًا عالية، أبدأ أشك في أمرهم. أما إن كان من السهل إنشاء شركة جديدة تنافسهم في مجال عملهم، فسيقل شكي نحوهم. وهذا يعني أن الأرباح العالية ترجع إلى الندرة الطبيعية: يعاني العالم بالفعل قلة عدد المؤسسات المصرفية الجيدة، ونحن نعلم أن المؤسسات المصرفية الجيدة تتفوق في كفاءتها كثيرًا عن نظيرتها السيئة. لا تقتصر الرغبة في تجنب المنافسة والحصول على إيجارات احتكارية على ملاك العقارات وأصحاب الشركات. فهذه الرغبة تحدو أيضًا كل من النقابات العمالية وجماعات الضغط ومن يدرسون للحصول على مؤهلات متخصصة بل وحتى الحكومات المحلية. فكل يوم يحاول الناس من حولنا تجنب المنافسة، أو الحصول على نتاج جهد الآخرين الذين نجحوا في فعل هذا. يسمي علماء الاقتصاد هذا النوع من السلوك «خلق الإيجار» و«السعي وراء الإيجار». ليس من السهل فعل هذا، فالعالم مكان تنافسي بطبيعته، ومن الصعب أن يعمل المرء فيه دون منافسة. وهذا أمر طيب لأنه إذا كانت المنافسة أمرًا يدعو للضيق إذا كنت من المتضررين منها، فهي مفيدة حينما تنتفع منها كأن تكون مستهلكًا تستفيد من منافسة الشركات لبعضها. فكلنا نستفيد عندما نتفاعل مع أناس يتنافسون ليقدموا لنا الوظائف والصحف وإمكانية الاستمتاع بعطلة في مكان ذي طقس بديع تمامًا مثلما استفاد ملاك الأراضي في مثالنا الافتراضي من المنافسة بين أكسيل وبوب. يعتبر التحكم في أحد الموارد الطبيعية مثل الأراضي الزراعية أحد الطرق لتجنب المنافسة. صحيح أن هناك عددًا محدودًا من الأراضي الخصبة في العالم، ولكن بإمكان التقنيات الزراعية المتطورة أن تزيد من هذا الرقم. ولكن الأرض الزراعية ليست المورد الطبيعي الوحيد المحدود في العالم. فالنفط مورد آخر محدود حيث تنتجه بعض دول العالم بتكلفة منخفضة لاسيما السعودية والكويت والعراق ودول الخليج الأخرى، وعلى النقيض تنتجه بعض الدول الأخرى بتكلفة عالية مثل ألاسكا ونيجيريا وسيبيريا وألبرتا. أما في أنحاء عديدة أخرى من العالم فترتفع تكلفة استخراج النفط ارتفاعًا هائلًا حتى إنه لا يوجد أحد يفكر في استخراجه. وفي الوقت الحالي فإن الأماكن مثل ألبرتا هي المنتج «الحدي» للنفط. يصلح تاريخ صناعة النفط أن يكون دراسة حالة عند دراسة «نظرية الريع» لريكاردو. فحتى عام ١٩٧٣م كان المعروض العالمي من النفط يُنتج بواسطة «حقول النفط الخصبة» التي توجد في أغلب الأحيان في الشرق الأوسط. وبالرغم من أهمية النفط الهائلة للاقتصاديات الصناعية، كان سعر النفط منخفضًا جدًّا — أقل من عشر دولارات للبرميل حسب قيمة الدولار اليوم — وذلك لأن النفط آنذاك كان متوفرًا بكميات كبيرة وبسعر ضئيل جدًّا. وفي عام ١٩٧٣ قررت منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك) — التي تجلس على معظم حقول النفط الخصبة — أن تدع بعض من حقولها دون عمل، عن طريق توجيه أوامر إلى كل الدول الأعضاء بها بأن يقللوا من إنتاجهم. وعندئذ قفزت أسعار النفط إلى أربعين دولارًا للبرميل، ثم إلى ثمانين دولارًا بعدها وذلك حسب قيمة الدولار اليوم. وبقي سعر النفط مرتفعًا لسنوات وذلك بسبب قلة وجود موارد بديلة للنفط على المدى القصير آنذاك. (يعادل هذا في مثال ريكاردو الافتراضي التوقف فجأة عن زراعة الأرض الخصبة الأمر الذي يترك فترة زمنية قبل أن يتم تشذيب وحرث الأرض العشبية، مما يتسبب في نقص مؤقت في الحبوب إضافة إلى زيادة قيمة الريع.) لا يرتبط جانب كبير من اقتصاد العالم ارتباطًا وثيقًا بالموارد الطبيعية المحدودة. ويعني هذا أن البشر عليهم إيجاد وسائل أخرى لمنع المنافسة. ويعد اللجوء إلى العنف أحد الوسائل الشائعة وعلى الأخص في تجارة المخدرات وغير ذلك من ضروب الجريمة المنظمة. يفضل تجار المخدرات عدم وجود منافسين يدفعون أسعار المخدرات للانخفاض. ومن الممكن أن يؤدي قيام عصابة إجرامية بقتل عدد كاف من البشر أو ضربهم ضربًا مبرحًا أن يثني العصابات المنافسة عن الدخول إلى السوق لتتمتع تلك العصابة بالأرباح الطائلة. وهذه التصرفات غير قانونية بالطبع، ولكن هذا الوصف ينطبق أيضًا على تجارة المخدرات؛ فلو كنت ستخاطر بدخول السجن في كل الأحوال، لا يوجد مغزى من استخدام أنصاف الحلول. فلو أراد تجار المخدرات التمتع بقوة تمنحها لهم الندرة، فعليهم فعل كل ما في وسعهم حتى تكون المنافسة نادرة. وبالطبع ليس من المحتمل أن يشكو زبائنهم للشرطة من جشع تجار المخدرات. وهذا يعني أن هذا النوع من العنف ليس هو الذي يجني الأرباح المستدامة ويخلق حواجز منع دخول الأسواق، ولكنها فعالية المنظمة التي يملكها بنك أكسيل، ويفتقر إليها بنك كورنيليوس، تمامًا مثلما تفتقر إليها عصابات الشوارع العادية، وتتمتع عصابات المافيا بالكثير منها. لحسن الحظ أنه يمكنك في الأماكن الراقية في العالم المتقدم الاحتماء ممن يستخدمون العنف لمنع المنافسة، ولكن هذا لا يعني أن الناس لم يطوروا وسائلَ أخرى للتخلص من المنافسين. والنقابات العمالية مثال جلي على هذا، فالغرض من النقابة هو منع العمال من منافسة بعضهم بعضًا على فرص العمل حتى لا تنخفض الأجور وتتدهور ظروف العمل. فلو زاد مثلًا الطلب على الكهربائيين مع قلة من يتقنون تلك المهنة، سيصبح لمن يتقنونها قوة مستمدة من ندرتهم، ومن ثم، يحصلون على أجور وظروف عمل ممتازة، سواء كان ذلك في ظل وجود أو عدم وجود نقابة لهم. أما إن ظهر في السوق المزيد والمزيد من الكهربائيين، فستنهار تلك القوة، وسيؤدي الكهربائيون الجدد نفس دور المزارع بوب الذي تحدثنا عنه من قبل. صحيح أن وظيفة النقابات العمالية هي التفاوض باسم العمال جميعًا، ولكن من وظائفها أيضًا سد الطريق أمام دخول العمال الزائدين عن الحاجة إلى المهنة. ولكن إن كانت النقابات العمالية تحقق هذا النوع من النجاح المبهر، فقد نتوقع أن يتمتع الموظفون التابعون للنقابات بالأجور الضخمة — مثلما كان الحال في صناعة السيارات بالولايات المتحدة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين — عندما يكون للنقابات تأثير ملموس. ولكن الواقع أن النقابات العمالية تواجه العديد من العوائق التي تحول دون تحقيقها لهذا النوع من النجاح. فلما نُظر إلى النقابات العمالية على أنها تطالب بمطالب مبالغ فيها متسببة في زيادة الأسعار إلى درجة لم يقبلها قطاع عريض من الناس الذين، بدورهم، مارسوا ضغطًا على رجال السياسة لإعادة تنظيم النقابات العمالية. وأحيانًا أخرى تهدد المنافسة الدولية الندرة التي تتمتع بها تلك النقابات، مثلما حدث مع مصنعي السيارات بالولايات المتحدة الذي كانوا يتمتعون بالرواتب الممتازة والاستقرار الوظيفي إلى أن استخدم مصنعو السيارات اليابانيون طرقًا أكثر فعالية وبدءوا في وضع مصنعي السيارات الأمريكيين تحت الضغط. وفي حالة الصناعات الآخذة في الانكماش مثل صناعة بناء السفن في بريطانيا أو صناعة السيارات في الولايات المتحدة، تختفي فرص العمل بمعدل يجعل النقابات العمالية عاجزة عن الحفاظ على قيمة ندرتها، حيث لا يمكن أن تهدد النقابات بتقليص المعروض من العمال بنفس السرعة التي تتمكن بها من مواجهة تناقص الطلب. دائمًا ما كانت الهجرة قضية مثيرة للعاطفة في أمريكا، ومع أن الأمن القومي أصبح مدعاة للقلق مؤخرًا، فما زال الجدل مستمرًّا في التمحور حول نفس السؤال القديم: هل يسرق المهاجرون وظائفنا؟ ربما يكون أحدهم قد سرق وظيفتك، أما وظيفتي فلم يسرقها أحد. يرحب بالهجرة كل من العمال المتعلمين ذوي الوظائف التي تتطلب المهارة والتدريب، ورجال الأعمال ممن في حاجة إلى العمالة الرخيصة وذلك كجزء من عملية إثرائية تضيف إلى الحياة الاقتصادية والثقافية لكل دولة. في حين يرفض غير المتعلمين جيدًا أي هجرة جديدة لمهاجرين يعملون في أعمال لا تحتاج إلى مهارات خاصة، متذرعين بالقول «إنهم يسرقون وظائفنا». ربما يتصف هذا القول بكثير من المبالغة ولكنه يبدو منطقيًّا من وجهة نظر أصحاب المصالح. وباعتباري أحد العاملين في أعمال تحتاج إلى المهارة فإنني أستاء من معارضة قدوم المهاجرين، بل أرغب في رؤية المزيد منهم. ولكن لو كنت من الجانب الآخر، هل كان هذا سيصبح رأيي أيضًا؟ إن احتاجت الدولة إلى عمالة تنجز الأعمال النافعة في وظائف تتطلب أو لا تتطلب المهارة، فمن مصلحتي المباشرة أن أرى هجرة مزيد من العمالة غير الماهرة إلى دولتي، الأمر الذي يضر بطريقة مباشرة أيضًا بالعمالة غير الماهرة الموجودة بالفعل. تخيل أنني أنا وغيري من المواطنين الحاصلين على تعليم عالٍ كمُلَّاك للأراضي، ولكن استبدل بكلمة «الأرض الخصبة» كلمة «الشهادة الجامعية». فمهاراتي ومؤهلاتي تعد موردًا شأنها شأن الأرض الخصبة. ولكن هل مهاراتي مورد نادر؟ افرض أنني أعمل ضمن الفريق الإداري لمتاجر وول مارت، فعندما تمتزج مهاراتي (دعنا لا نحدد بالضبط المهارات التي يفترض أن أتمتع بها) بالعمل الجاد للبائعين المساعدين بالمتجر ومنظمي البضاعة على الأرفف نكون قد أصبحنا فريقًا منتجًا. أما مَن منا يحصل على العوائد، فهذا أمر يعتمد على مَن تتمتع مهاراته بالندرة. فإن نقصت بالدولة العمالة غير الماهرة ممن يعملون في تنظيم البضاعة على الأرفف، يجب عندئذ أن ترتفع أجورهم حتى تجتذب مزيدًا من الناس للعمل في هذه الوظيفة. أما إذا نقص عدد المديرين المهرة وامتلأت الدولة بمنظمي البضاعة على الأرفف غير المهرة، فسأحصل على أجر مُرضٍ بسبب قيمة ندرتي مثلما يحصل مالك الأرض على إيجار مُرضٍ بسبب ندرة الأرض التي يملكها بمجرد أن يظهر العدد الكافي من المزارعين. يعزو البعض سبب معارضة الطبقة العاملة لهجرة الأجانب إلى العنصرية. وهناك نظرية بديلة أكثر إقناعًا تقول بأن كل إنسان يتصرف وفقًا لمصلحته الشخصية. فظهور العمال الجدد يصب في مصلحة من يملكون الموارد التي ستصبح نادرة نسبيًّا سواء أكانت تلك الموارد أراضٍ خصبة أم شهادات جامعية، ولكن من المفهوم أن ظهورهم أمر يمقته نظراؤهم العاملون بالفعل. وفي حقيقة الأمر فإن المهاجرين القدامى هم أكثر من يتأذون من الهجرة الجديدة ويجدون أجورهم قد انخفضت انخفاضًا هائلًا. لقد كنا نفكر تمامًا مثل علماء الاقتصاد طوال هذا الفصل. ولكن ماذا يعني هذا؟ لقد استخدمنا أحد النماذج الاقتصادية الرئيسية لتعميق فهمنا لعدد من المواقف المختلفة. انتقل الفصل من التحليل الذي يبدو عليه بعض الموضوعية فيما يخص مَن يجنون المال من تجارة الكابوتشينو؛ إلى مسألة سياسية خطيرة عن تنظيم القيود والهجرة. قد يزعم بعض علماء الاقتصاد أنه لا يوجد اختلاف بين تحليلهم الاقتصادي لإيجار المقاهي وبين تحليلهم الاقتصادي للهجرة. وهذا حقيقي، فعلم الاقتصاد يشبه الهندسة إلى حد بعيد، أي أنه يخبرك بكيفية عمل الأشياء، وما قد يحدث لو غيرت هذه الأشياء. وبإمكان رجل الاقتصاد أن يشرح لك كيف يساعد السماح لعدد كبير من المهاجرين من العمالة الماهرة في تضييق الهوة بين أجور العمالة المدربة وغير المدربة، في حين أن هجرة العمالة غير المدربة تفعل عكس ذلك. أما ما تفعله المجتمعات وولاة أمورها بتلك المعلومات فهذه قضية أخرى. واليوم يصل علماء الاقتصاد إلى نتائج مشابهة عن قوانين الحماية، التي تحمي — كما سنرى في الفصل التاسع — الجماعات الضاغطة التي تتمتع ببعض الميزات على حساب باقي الناس، في العالم المتقدم والنامي على حد سواء. فقد ينتفع مليارات البشر من السياسات الاقتصادية الجيدة في حين يموت الملايين من السياسات السيئة. في بعض الأحيان يكون منطق علم الاقتصاد مقنعًا للغاية بحيث يكون من المستحيل على علماء الاقتصاد عدم اتخاذ موقف.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/2/
ما لا تريد منك المتاجر الكبيرة أن تعرفه
يتمتع مقهى كوستا بكثير من قوة الندرة بالنسبة إلى زبائنه نظرًا لكونه المقهى الوحيد بجوار «عين لندن». ولا ترجع هذه القوة إلى شيء مميز في مقهى كوستا وإنما للتألق المنعكس من روعة الموقع. وكما علمنا من قبل أنه طالما أن الناس يدفعون الأسعار المرتفعة في المقاهي ذات المواقع المتميزة، فإن القيمة الإيجارية التي يدفعها المقهى لمالك الموقع ستكون مرتفعة هي الأخرى، فلقد أجر مالك الأرض بعضًا من قيمة الندرة التي يتمتع بها المكان لمقهى كوستا، تمامًا مثلما فعل مُلَّاك ناطحات السحاب في مانهاتن أو مثلما يحدث في محطات المترو بدءًا من محطة ووترلو في لندن حتى شينجوكو في طوكيو. وهكذا فالندرة يجري تأجيرها ولكن بالسعر المناسب. ولكن كيف يستغل مقهى كوستا الندرة التي استمدها من استئجار مكان بجوار «عين لندن» على الوجه الأمثل؟ يمكنه ببساطة أن يرفع سعر الكابوتشينو من ١,٧٥ جنيه إسترليني (أي ما يعادل حوالي ٣ دولارات) إلى ٣ جنيهات إسترلينية (أي ما يعادل حوالي ٦ دولارات). صحيح سيجد المقهى بعض الزبائن الذين سيدفعون هذا المبلغ، ولكن هناك الكثير ممن لن يعجبهم السعر ولن يشتروا القهوة، ولنا في «قبة الألفية» عبرة. فالندرة تعطيك قوة، ولكنها ليست قوة بلا حدود. وبدلًا من ذلك قد يلجأ المقهى إلى تخفيض أسعار القهوة التي يقدمها؛ ليبيع المزيد والمزيد منها. فلو جعل ثمن فنجان القهوة ٦٠ بنسًا (ما يعادل دولارًا واحدًا) فسيتمكن من دفع رواتب موظفيه والنفقات اللازمة لإعداد القهوة، ولكن إن لم تفلح تلك الطريقة في مضاعفة حجم مبيعاته عشرات المرات، فلن يتمكن من دفع القيمة الإيجارية للمكان. فالمعضلة كالتالي: إما تحقيق هوامش ربح عالية من بيع القليل من القهوة، وإما هوامش ربح منخفضة من بيع الكثير من القهوة. لو استطاع مقهى كوستا تجنب تلك المعضلة بأن يطلب ٦٠ بنسًا من الزبائن الذين لا يودون دفع أكثر من هذا المبلغ و٣ جنيهات إسترلينية ممن لا يمانعون أن يدفعوا كثيرًا من المال للتمتع بالمشروب وإطلالة الموقع المميزة؛ فسيكون هذا أمرًا جيدًا. وبهذه الطريقة يتمكن المقهى من تحقيق هامش ربح مرتفع متى يحب، ويظل يبيع القهوة بهامش ربح ضئيل للزبائن المقتصدين. ولكن كيف يفعل ذلك؟ هل يكتب مثلًا في قائمة الأسعار: «سعر الكابوتشينو ٣ جنيهات إلا إذا كنت غير مستعد لدفع أكثر من ٦٠ بنسًا فقط»؟ قد تكون هذه الفكرة منطقية بعض الشيء ولكنني أشك في أنها يمكن أن تلقى رواجًا بين من يشترون القهوة هناك في الضفة الجنوبية لنهر التايمز بلندن التي توجد بها عين لندن، لذلك على مقهى كوستا أن يتبع أسلوبًا أكثر دهاء من ذلك. تدفع شركة كافيه دايريكت للمزارعين مساعدة تتراوح ما بين ٤٠ و٥٥ بنسًا (ما يعادل حوالي دولار) على كل رطل من البن. وستندهش إن أخبرتك أن هذا المبلغ القليل نسبيًّا قد يضاعف دخل مزارع في جواتيمالا التي يقل متوسط دخل الفرد فيها عن ٢٠٠٠ دولار سنويًّا. ولمّا كان ربع الأوقية من البن كافيًا لصنع كوب كابوتشينو متوسط الحجم، كان لزامًا أن تترجم المنحة المدفوعة للمزارع إلى زيادة في التكلفة تقل عن بنس واحد لكل كوب. والواقع أن ٩٠٪ من المبلغ الإضافي الذي كان يدفعه زبائن مقهى كوستا لم تكن تذهب للمزارعين. لذلك إما أنّ مقهى كوستا أو كافيه دايريكت هما اللذان كانا يبددان تلك الأموال (عن طريق التكاليف العالية) أو أن تلك الأموال كانت تدخل ضمن أرباح الشركتين. فجمعيات تجارة البن العادلة تقدم وعودها للمنتجين وليس للمستهلكين. فإذا اشتريت قهوة تحمل علامة التجارة العادلة تكون ضمنت بذلك أن منتجي القهوة سيحصلون على سعر جيد. ولكن لا يوجد ما سيضمن حصولك «أنت» على سعر جيد. والحقيقة هي أن شركات البيع بالجملة للبن الذي يحمل علامة التجارة العادلة يمكنهم دفع ضعفين أو ثلاثة أضعاف أو حتى أربعة أضعاف سعر السوق لمنتجي البن في الدول النامية دون إضافة أي زيادة ملحوظة لتكلفة إنتاج كوب الكابوتشينو؛ لأن حبوب القهوة لا تشكل سوى جزء ضئيل من هذه التكلفة. فالمطالبة بعشرة بنسات إضافية أعطت فكرًا مضللًا عن التكلفة الحقيقية للقهوة الحاملة لعلامة التجارة العادلة. وببعض من أعمال التقصي والتحري التي قام بها مخبرنا الاقتصادي السري، قدر مقهى كوستا أن هذا النوع من التجارة أعطى انطباعًا خاطئًا، وبنهاية عام ٢٠٠٤م كان المقهى قد بدأ في تقديم قهوة تحمل علامة التجارة العادلة «لمن يطلبها» ودون أية زيادة في سعرها عن مثيلتها التي لا تحمل نفس العلامة. وهكذا فقد تخلى مقهى كوستا عن تلك الزيادة في سعر القهوة ليس لأنها كانت غير مربحة ولكن لأنها أساءت للعلاقات بين المقهى وزبائنه. ولكن لماذا كان من المربح للمقهى أن يضع على تكاليف الإنتاج للقهوة التي تحمل علامة التجارة العادلة نسبة ربح مرتفعة تتجاوز مثيلتها بالنسبة إلى القهوة العادية؟ بالتأكيد ليس لأن مقهى كوستا يعارض فكرة التجارة العادلة بأكملها ويحاول تثبيط ذلك السلوك المثالي بهذه الطريقة في تحديد الأسعار. فالسبب ليس له علاقة بالتجارة العادلة على الإطلاق، ولكن لأن القهوة التي تحمل علامة التجارة العادلة ساعدت مقهى كوستا على إيجاد الزبائن المستعدين لدفع أسعار أعلى قليلًا متى توفر سبب لذلك. فعندما تشتري الكابوتشينو الذي يحمل علامة التجارة العادلة، تكون قد أوصلتَ رسالتين لمقهى كوستا: الرسالة الأولى لا تلقى اهتمامًا كبيرًا من أصحاب المقهى وهي: «أظن أن القهوة التي تحمل علامة التجارة العادلة منتج يستحق التشجيع.» أما الرسالة الثانية فهي التي يتوق أصحاب المقهى لسماعها وهي: «في الواقع لا أمانع من دفع بعض النقود الإضافية.» وهذا يمد المقهى على الفور بالمعلومات التي كان يبحث عنها. فهو يعرف أن المواطنين المهتمين بالقضايا الاجتماعية لا يبالون لو أنفقوا بعض المبالغ الإضافية مقابل بعض المنتجات، في حين يكون المواطنون غير المهتمين بتلك القضايا أكثر حساسية تجاه الأسعار. وبالفعل مارس مقهى كوستا هذه الاستراتيجية لكي يحصل على أقصى قيمة من قوة الندرة التي منحها إياه مكانه بجوار «عين لندن». فالمقهى في حيرة بين رفع الأسعار وخسارة الزبائن، وبين خفض الأسعار وخسارة هامش الربح. فإن رغب المقهى في المطالبة بسعر موحد من كل الزبائن، عليه أن يجري حساباته للوصول إلى أفضل خيار من بين الخيارين. أما إذا كان بإمكانه أن يطلب سعرًا أعلى من المسرف (أو المهتم بالقضية الاجتماعية) وسعرًا منخفضًا من المقتصد (أو غير المهتم بالقضية)، فسيغدو بإمكان المقهى عندئذ الحصول على أفضل ما يمكن الحصول عليه من كلا الصنفين من البشر. ولا داعي لأن تقلق على مقهى كوستا إذا مُنع من ممارسة ذلك الأسلوب؛ فكوستا كوفي لديه كثير من الطرق البديلة للتعرف على العملاء عندما يتعلق الأمر بزيادة السعر. وهذا ليس بتصرف مكيافيللي شاذ من جانب مقهى كوستا كوفي. فأي شركة تتمتع بإدارة جيدة تسعى للحصول من العميل على أعلى سعر يكون على استعداد لدفعه، وهذه الشركات تفعل هذا دائمًا. لنأخذ شركة ستاربكس على سبيل المثال. انظر في قائمة أي فرع من فروع ستاربكس وليكن الفرعين الموجودين في شارع بي وشارع فورتينث في واشنطن العاصمة مثلًا وستجدها كالتالي: وترجمتها كالتالي: إن مقهى ستاربكس لا يسعى لعرض مجموعة متنوعة من المنتجات للزبائن فحسب، ولكنه يحاول أيضًا أن يعطي للزبون أية فرصة تقول إنه لم ينظر إلى قائمة الأسعار. لن يتكلف المقهى كثيرًا عند إعداد كوب كبير من الكابوتشينو، أو استخدام شراب ذي نكهة، أو إضافة مسحوق شوكولاتة، أو الكريمة المخفوقة. وكل منتج من المنتجات المدونة في القائمة السابقة يتكلف إعداده في مقهى ستاربكس نفس التكلفة تقريبًا، وهي تكلفة تنخفض إلى خمسة أو عشرة سنتات. هل هذا يعني أن شركة ستاربكس تغالي في كل الأسعار التي تطلبها من الزبائن؟ لا، فلو كانت تفعل ذلك لرفعت سعر الكابوتشينو العادي أو الشوكولاتة الساخنة إلى ٣,٣٠ دولارات ثم تحصل بعد ذلك على كل الإضافات التي تريدها مقابل عشرة سنتات. ربما يود المسئولون في ستاربكس القيام بذلك بالفعل، ولكنهم لا يمكنهم إجبار الزبائن الذين يتصفون بالحساسية للأسعار على دفع مثل تلك الأسعار. وبالتالي فإن التنويع في أسعار المنتجات التي تتساوى في تكلفتها تقريبًا يُمكّن ستاربكس من عدم خسارة ما كان سيكسبه من الزبائن الأقل حساسية للسعر. فالمقهى ليس لديه وسيلة أكيدة للتعرف على هذا النوع من الزبائن، لذلك فهو يدعوهم للكشف عن أنفسهم عندما يطلبون المنتجات الفاخرة باهظة الثمن. هناك ثلاث استراتيجيات شائعة للكشف عن الزبائن الذين لا يكترثون بالأسعار المرتفعة، سنتحدث أولًا عن اثنتين منها، ثم نؤجل الطريقة الثالثة — وهي الفضلى — إلى نهاية الفصل. وفي حقيقة الأمر فإن طريقة «استهداف الفرد» لم تلق رواجًا، ففي حالة موقع أمازون بدأ زوار الموقع في إدراك أنهم إذا قاموا بمسح الكوكيز من حواسبهم الآلية، فستتغير أسعار الكتب التي يعرضها لهم الموقع، وفي معظم الأحيان تتغير إلى الأرخص. وعندما اكتشف الزوار هذا الأمر احتجوا احتجاجًا عنيفًا. ولهذا تعهدت شركة أمازون — مثل مقهى كوستا — ألا تتبع هذه الطريقة مرة أخرى. والمدهش في الأمر أن الناس لم يعترضوا كثيرًا على الاستراتيجية الثانية وهي: «استهداف المجموعة»، وتعني تقديم أسعار مختلفة إلى أفراد جماعات محددة. فمن ذا الذي يستطيع أن يشكو من انخفاض سعر تذاكر الحافلات للأطفال والمسنين؟ وهل سيغدو من المنطقي أن تقدم المقاهي خصمًا لمن يعملون في أماكن قريبة منها، وأن تسمح الأماكن السياحية بدخول مواطني البلاد بتذاكر منخفضة؟ في معظم الأحيان «سيبدو» هذا منطقيًّا لأن أعضاء المجموعات القادرة على أن تدفع أكثر هم في الغالب القادرون ماليًّا بشكل أكبر والذين لا يبالون لو ارتفعت الأسعار. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هذه مجرد صدفة. فالشركات التي تهدف إلى تعظيم أرباحها والحصول على أقصى قيمة من ندرتها ستهتم «بالمستعدين» لدفع سعر أعلى أكثر من اهتمامها بمن «يقدرون» على دفع سعر أعلى. فالسائحون الزائرون لولاية فلوريدا أقل حساسية تجاه الأسعار من سكان الولاية، وهذا يعني أنه إذا رفع منتجع عالم والت ديزني من أسعار تذاكر الدخول، فسيُعرض السكان المحليون — على الأرجح — عن فكرة قضاء يوم في المنتجع. وبنفس المنطق إذا انخفضت أسعار تذاكر الدخول سيكرر أبناء الولاية الزيارة على نحو لا يفعله السائحون. فأحيانًا — وليس دائما — يقترن كونك غنيًّا بكونك عديم الحساسية تجاه الأسعار. فأسعار المقاعد في درجة رجال الأعمال بالطائرة باهظة الثمن لأن المؤسسات التي يعمل بها هؤلاء الرجال مستعدة للدفع كما تتمتع شركات الطيران بقوة الندرة التي تمكنها من استغلال تلك الحقيقة، في حين أن أسعار المكالمات لرجال الأعمال ليست غالية الثمن؛ لأنه مع استعداد المؤسسات التي يعمل بها هؤلاء الرجال للدفع، إلا أن هناك منافسة كبيرة بين شركات الاتصالات، بحيث لا توجد شركة اتصالات واحدة يمكن أن تجبر هذه المؤسسات على دفع ثمن باهظ مقابل خدماتها. تتسم استراتيجية «استهداف الفرد» بالصعوبة في تطبيقها؛ لأنها من ناحية تستلزم وجود الكثير من المعلومات عن الناس، وأيضًا لأنها من ناحية أخرى لم تلق درجة كبيرة من الرواج. وبالرغم من تلك الصعوبات فمن المربح جدًّا للشركات أن تسعى دائمًا لاكتشاف طرق جديدة لتنفيذها. أما استراتيجية «استهداف المجموعة» التي تقدم الأسعار المخفضة للطلاب أو لسكان المدينة المحليين؛ فتجدها أقل فاعلية وإن كانت أسهل في التنفيذ، وفي الغالب تكون مقبولة اجتماعيًّا لدرجة أنها تحظى بالترحيب. وبالتأكيد سيؤدي أي من هاتين الاستراتيجيتين إلى كسب مزيد من الأرباح بدلًا من التعامل مع جمهور المستهلكين كفئة واحدة. إن أذكى وأكثر الطرق شيوعًا لتقنع الديوك الرومية بأن تصوت لصالح عيد الشكر هي استراتيجية «إدانة الذات»، والتي يستخدمها كل من مقهى كوستا وستاربكس عندما يُدخلان بعض زبائنهم في فخ الاعتراف بأنهم ليسوا حساسين تجاه الأسعار. ولجعل هؤلاء المستهلكين يكشفون عن أنفسهم، يعرض المقهى منتجات تختلف على الأقل عن بعضها اختلافًا طفيفًا، مثل أن توفر منتجًا معينًا بأحجام مختلفة (مثل توفير حجم كبير من الكابوتشينو بدلًا من الحجم الصغير أو تقديم عرض يباع فيه ثلاثة أكواب بسعر كوبين)، أو نفس المنتج بإضافات مختلفة (بالكريمة المخفوقة، أو بالشوكولاتة البيضاء، أو بمكونات تحمل علامة التجارة العادلة)، أو حتى تغيير المنتج بتغير الموقع، فتجد مثلًا الساندويتش الذي يباع في كشك بمحطة المترو ليس بجودة ذلك الساندويتش الذي يباع في أحد المتاجر الكبيرة التي تقع خارج المدينة والذي يشبهه تمامًا من الناحية الشكلية فقط. وفي سبيل التحري عن أسعار كلا الفرعين اخترت عشوائيًا خمسة منتجات يبيعها الفرع الموجود في محطة ليفربول ستريت ونجحت في العثور على أربعة منها في الفرع الموجود بشارع مورجيت، وقد وجدت أن كل منتج من هذه المنتجات ينخفض في فرع شارع مورجيت بنسبة ١٥٪ عن مثيله في فرع ليفربول ستريت، فانخفض سعر السلاطة ذات الحجم الكبير إلى ثلاثة جنيهات إسترلينية مقارنة بثلاثة جنيهات ونصف إسترلينية في فرع ليفربول ستريت (أي ٥,٦٥ دولارات بدلًا من ٦,٦٠ دولارات)، وانخفض سعر الساندويتش إلى ١,٩٠ جنيه إسترليني مقارنة بسعر ٢,٢٠ جنيه إسترليني في فرع ليفربول ستريت (أي ٣,٥٥ دولارات بدلًا من ٤,١٥ دولارات). ولكن حتى بعد إلقاء الضوء على تلك الفروق السعرية، تجد القليل من الناس بالمدينة هم فقط المستعدون للمشي هذه المسافة لتوفير ثلاثين بنسًا، أي حوالي نصف دولار تقريبًا. يا لها من طريقة فعالة وجريئة من طرق الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب. يحاول أفضل ممارسي سياسة تحديد السعر المستهدف مضاعفة أرباحهم بممارسة السلوك الذي تبدو عليه روح الفضيلة. فلقد رأينا كيف يعلن كوستا كوفي مناصرته للتجارة العادلة بينما هو في الواقع يستخدمها للتعرف على الزبائن المستعدين لتبديد أموالهم. كما أنه من المربح للغاية بالنسبة إلى الشركات؛ أن تقدم المنتجات بأسعار مخفضة للمسنين والطلاب (بمعنى: اطلب أسعارًا مرتفعة من الزبائن الذين يبدو عليهم أنهم موظفون). فمن يمكنه الاعتراض على هذا السلوك الجدير بالثناء سوى ناقد ساخر أو عالم اقتصاد؟! ولكن هل الطعام العضوي باهظ الثمن جزء من تكتيك الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب؟ في حقيقة الأمر فإن الطعام العضوي يجب أن يكون أغلى سعرًا لأن تكلفة إنتاجه أكبر، ولأنه يمكث فترة أقل على أرفف المحلات، ولأن تكلفة توزيعه أغلى من المنتج التقليدي. ولكن مثلما تشكل تكلفة مكونات الكابوتشينو الخام جزءًا ضئيلًا من سعره للمستهلك تشكل كذلك تكلفة إنتاج معظم المنتجات الغذائية جزءًا ضئيلًا من أسعارها على أرفف المتجر الكبير. في المملكة المتحدة مثلًا يزيد سعر اللبن العضوي عن مثيله التقليدي بحوالي خمسين سنتًا لربع الجالون، ولكن المزارع لن يحصل إلا على أقل من عشرين سنتًا من هذا الفارق في السعر. يجب ألا نندهش من أن المتاجر الكبيرة تنتهز الفرصة التي تمنحها إياها حركة الطعام العضوي لمحاصرة المستهلكين بزيادات سعرية مستهدفة المستهلك على نحو جيد. ونصيحتي إليك، إن كنت مقتنعًا بمحاسن الطعام العضوي، ألا تدع تجار المنتجات الغذائية يستغلون حماسك. مالك هو صوتك فقدمه ليدعم أي تاجر تجزئة أو أي مورد مباشر للأغذية يقوم بعرض الأصناف المتشابهة من الطعام العضوي وغير العضوي جنبًا إلى جنب. فأسعار الموز واحدة في كل من سيف واي وهولفودز، وكذلك سعر صندوق الكرز والطماطم العنقودية. معلوم أن أسعار البصل الأصفر والزبد الأيرلندي وأطعمة الإفطار المعدة من الشوفان أرخص في سيف واي عنها في هولفودز. وفي المقابل تجد أن أسعار المياه المعدنية وعصير برتقال تروبيكانا الفاخر والبصل الحلو أرخص في هولفودز عنها في سيف واي. والحقيقة المؤكدة هي أنك إذا اشتريت سلة كبيرة تحوي «نفس» المنتجات من سيف واي وهولفودز فستجد فرق السعر يبلغ دولارًا واحدًا أو اثنين، ومن الأرجح أنك ستجد هولفودز هو الأرخص. قد لا يتفق هذا مع الحس العام الذي يؤمن بأن هناك أماكن غالية وأماكن رخيصة. ولكن هذه الحس لم يكن صائبًا قط. فإذا كان هناك متجر يفرض أسعارًا أعلى من متجر آخر مقابل نفس المنتجات ونظير خدمة مماثلة ويقع في موقع مماثل، فهذا يعني أن جميع زبائنه ليسوا إلا مجرد حمقى. معلوم أن التسوق في متجر هولفودز أكثر متعة، ولكنه في النهاية مجرد متجر كبير تتجول فيه لتملأ عربتك تمامًا مثل سيف واي. فمتجر هولفودز ليس غاليًا بمعنى أنه يعرض أسعارًا أعلى مقابل نفس المنتجات. ولكنه غالٍ بسبب المنتجات التي يركز عليها في سياسته من أجل الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب؛ فقد تكون أسعار السلع الأساسية التي يعرضها تنافسية بالنسبة إلى أسعار المتاجر الأخرى، ولكن مجموعة المنتجات التي يعرضها تستهدف الزبائن الذين لديهم منظور مختلف عما تكون تلك «السلع الأساسية». ومن السلع الأساسية تجد أن كل من البصل الأصفر والبصل حلو المذاق يُعرضان بنفس السعر في المتجرين. ولكن الزبائن في هولفودز يفضلون الاختيار من تشكيلة فاخرة، مثل: بصل اللؤلؤ، والبصل الأحمر، وحتى البصل العضوي؛ وهذه التشكيلة تباع بنسبة ربح ضخمة. بالتأكيد المتسوق في هولفودز الذي يبحث عن المنتجات معقولة الثمن سيجدها، أما ذلك المتسوق الذي يلتقط أول نوع من البصل يراه فسيدفع الثمن غاليًا جزاء عدم فضوله لمعرفة الأسعار. وهذا يفسر لماذا يزيد سعر المنتجات في سلة التسوق في هولفودز عن سعرها في سيف واي. ليس لأن هولفودز «غالي الثمن» وزبائنه أغبياء، ولكن لأن هولفودز يعرض اختيارات إضافية غالية الثمن يكون المتسوقون على استعداد لشرائها لأنهم يرون أن جودتها تستحق. وهذه هي نصيحتي إليك: إن كنت تريد صفقة رابحة، لا تحاول أن تجد متجرًا أرخص، ولكن حاول وأنت في نفس المتجر أن تتسوق بحثًا عن الأرخص. فالمنتجات المتشابهة في أغلب الأحيان تحمل أسعارًا متشابهة. ورحلة التسوق التي تكلف الكثير ليست سوى نتاج اختيار طائش لمنتجات يبيعها المتجر بنسبة ربح مرتفعة، وليس لأنك كنت تتسوق في متجر استغلالي؛ لأن تحديد السعر المستهدف يعتمد إلى حد كبير على الفرق بين الأسعار وبعضها، وليس الفرق في الجودة بين متجر وآخر. الأسعار المخفضة أو الأكاوزيونات هي إحدى الاستراتيجيات الأخرى الشائعة. فكم اعتدنا على رؤية المتاجر تقدم تخفيضات على أسعار مئات المنتجات، حتى إننا لا نتوقف لنسأل أنفسنا لماذا تفعل المتاجر كل هذا. وعندما تفكر جيدًا في إجابة، تجدها طريقة محيرة لتحديد الأسعار عن طريق تخفيض الأسعار المعتادة التي يفرضها المتجر على منتجاته. ولكن لماذا يعرض المتجر تخفيضًا قدره ٣٠٪ على العديد من أسعار المنتجات مرتين في العام ولا يعرض تخفيضًا قدره ٥٪ طوال العام؟ فتغيير الأسعار أمر مرهق للمتاجر لأنها تضطر لتغيير ملصقات الأسعار وموادها الإعلانية. فلماذا تضطر لتكبد عناء كل هذه الجلبة؟ يفيد أحد التفسيرات أن التخفيضات التي تعرضها المتاجر الكبيرة تعد أحد الأشكال الفعالة للوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب. فإذا كان بعض الزبائن يعقدون مقارنة بين الأسعار وجودة المنتجات في المتاجر في حين لا يفعل ذلك باقي الزبائن؛ فمن الأفضل للمتاجر أن تعرض إما الأسعار العالية لانتزاع النقود من الزبائن الأوفياء (أو الكسالى)، أو الأسعار المنخفضة لتجني الأرباح من جيوب صائدي الصفقات. أما الأسعار المتوسطة فليست مفيدة: فلا هي مرتفعة بما يكفي لاستغلال الزبائن الأوفياء، ولا هي منخفضة بما يكفي لجذب صائدي الصفقات. ولكن ليست هذه هي نهاية المطاف؛ لأن الأسعار لو ظلت ثابتة فحتى الزبائن غير الحساسين للأسعار سيجدون حتمًا مكانًا يحصلون منه على السلع التي يريدونها بأسعار أرخص. لذلك فبدلًا من الالتزام بأسعار عالية أو منخفضة، تتأرجح المتاجر بين النقيضين. والتنافس على نفس الزبائن هو أحد المواقف الشائعة لدى متجرين كبيرين، فكما ناقشنا منذ قليل، من الصعب أن يعرض أحد المتاجر الأسعار الباهظة دومًا أكثر من غيره دون أن يخسر كثيرًا من الزبائن، لذلك فهما يعرضان نفس الأسعار بصفة عامة، ولكن يبقى كلا المتجرين قادرًا على تعويض التخفيض على بعض المنتجات بزيادة أسعار منتجات أخرى. وهذه الطريقة يمكنها أن تفرق بين صائدي الصفقات وبين من يقصدون شراء سلع بعينها، مثل المتسوقين لشراء مكونات وصفة قرءوها في أحد كتب الطهي لتحضير الأطعمة في حفل عشاء. أما صائدو الصفقات فسيلتقطون أي منتج يتم عرضه وقت الأوكازيون ليستفيدوا منه بشكل أو بآخر. وبذلك سيأتي المتسوقون من أجل حفل العشاء إلى المتجر لشراء منتجات معينة وسيكونون أقل حساسية تجاه الأسعار. والواقع أن السبب وراء نجاح استراتيجية «الوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب» هو أن المتاجر تنوع دائمًا من أشكال العروض الخاصة التي تقدمها، وأن المستهلك سيتجشم الكثير من العناء في الذهاب إلى كلا المتجرين. فإذا كان بإمكان المتسوقين التنبؤ على نحو موثوق بالسلع التي سيجري تخفيض سعرها، ربما كان بإمكانهم اختيار وصفات طهي أخرى مسبقًا، أو حتى اختيار المتجر المناسب لشراء المكونات في أي وقت متى كانت أسعارها أرخص ما يمكن. وفي الواقع من الأدق والأكثر توضيحًا أن نقلب فكرة «الأوكازيون» رأسًا على عقب وأن ننظر إلى الأسعار على أنها زائدة عن سعر الأوكازيون وليس على كونها تخفيضات على السعر الأصلي للسلعة. فالنموذج العشوائي للأوكازيونات ما هو إلا نموذج عشوائي لزيادة أسعار بعض المنتجات أيضًا، فالشركات تجد من المربح أكثر أن ترفع الأسعار (فوق سعر الأوكازيون) زيادة كبيرة بطريقة لا يمكن للمستهلك التنبؤ بها، أكثر من أن ترفعها بزيادة طفيفة بطريقة يتنبأ بها المستهلك. فقد وجد المستهلكون أنه من الصعب تجنب الزيادات السعرية التي لا يمكن التنبؤ بها — حتى إنهم قد لا يلاحظونها في السلع الأقل قيمة — ولكنهم يجدون من السهل تجنب الزيادات التي يمكن التنبؤ بها. في المرة القادمة التي تدخل فيها متجرًا حاول التقصي عن هذا النوع من تفاوت الأسعار بحيث يعوض ارتفاع سعر سلعة انخفاض سلعة أخرى. هل لاحظت أن المتاجر الكبيرة عادة ما تعرض سعرًا على الفلفل الحار المغلف يزيد عشرة أضعاف عن سعر الفلفل الحار السائب؟ هذا لأن المستهلك العادي يشتري منه كمية ضئيلة لدرجة أنه لا يفكر في أن يتأكد ممّا إذا كان ثمنه أربعة سنتات أم أربعون سنتًا. فمضاعفة سعر نوع من الخضروات على نحو عشوائي ثلاثة أضعاف؛ هي حيلة مفضلة لدى المتاجر الكبيرة، والزبائن الذين يلاحظون هذه الزيادة يقومون بشراء نوع آخر من الخضروات في ذلك الأسبوع، أما الزبائن الذين ليس لديهم مستوى سعري مستهدف فتراهم يدفعون الزيادة الضخمة في الأسعار. أذكر أنني لاحظت ذات مرة حيلة أخرى تمارسها المتاجر عندما كنت أبحث في أحدها عن رقائق البطاطس المقلية. فقد كان نوعي المفضل بنكهة الملح والفلفل متوفرًا على الرف العلوي، في حين كانت النكهات الأخرى متوفرة بنفس الحجم على الرف السفلي الذي يبعد بضعة أقدام قليلة عن الرف العلوي. أما سعر رقائق البطاطس المقلية على الرف العلوي فكان يزيد بمقدار ٢٥٪ عن المعروضة على الرف السفلي. وبالطبع لم يُجْرِ الزبائن الذين اشتروا البطاطس من على الرف العلوي مقارنة سعرية بين منتجين شبة متطابقين وفي مكانين متقاربين. فلقد كانوا مهتمين أكثر بتناول الوجبة الخفيفة، وليس بالمقارنة السعرية. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إنكار أن الفرق في النكهات في رأي بعض الناس أمر مهم. سيلاحظ بعضهم السعر المرتفع للبطاطس بنكهة الملح والفلفل، ويمتعض قليلًا، ثم يدفع على أية حال. أما الآخرون فسوف يفضلون النكهات الأخرى ويعدون أنفسهم محظوظين لأنهم يملكون أذواقًا غير مكلفة. يعد هذا مجرد مثال على الحقيقة العامة عن المتاجر، ألا وهي أنها مليئة بالبدائل المتقاربة (أو شبة المتقاربة)، بعضها رخيص وبعضها باهظ الثمن ويتصف تسعير هذه السلع بقدر كبير من العشوائية. ويوجد العنصر العشوائي بحيث إن المتسوقين الحريصين على ملاحظة وتذكر ومقارنة الأسعار هم فقط من ينجحون في الحصول على أفضل الصفقات. لذلك إذا أردت أن تخدع المتجر، فأفضل سلاح يمكنك التسلح به هو الملاحظة. أما إذا كنت لا تود إزعاج نفسك بالقيام بهذا، فأنت بالفعل في غير حاجة لتوفير المال. حان الوقت الآن لتقوم بأحد أعمال تقييم الواقع. فعندما نتحدث عن المتاجر، ننجرف بسهولة إلى أفكار عن قوة تلك المتاجر اللانهائية، وسذاجة المستهلكين اللانهائية. ولكن هذه الأفكار ليست صحيحة. تذكر أنه لا توجد شركة تتمتع بقوة إلا إذا كانت تتمتع بالندرة، وفي الغالب نحن الذين نعطيها تلك الندرة بكسلنا. فلا يوجد ما يمنعنا من المشي أو قيادة السيارة من متجر إلى آخر، كما لا يوجد ما يمنعنا من القيام ببعض العمليات الحسابية الذهنية عند شراء الفلفل الحار، أو من النظر إلى باقي الأرفف لبضعة ثوان عند شراء البطاطس المقلية. فكل متجر يتمتع بقليل من قوة الندرة فقط إذا كان زبائنه يعتبرون السير إلى المتجر المجاور أمرًا مجهدًا. ولكن هناك بعض المتاجر التي تتمتع بالفعل بقوة ندرة أكثر من غيرها، الأمر الذي يستحق التفكير في مدى احتمال خطورة تعرضنا للوقوع في فخاخ استراتيجيات تحديد السعر المستهدف. فمثلًا، ما إجابة السؤال الذي طرحناه في الفصل السابق: لماذا الفشار غالي الثمن في دور السينما؟ هل لنفس السبب الذي من أجله ترتفع أسعار النبيذ في المطاعم؟ نعرف أن أول إجابة في الحالتين ستكون: «لأنهم بمجرد أن نجحوا في إدخالك، يستطيعون مطالبتك بأي ثمن يريدونه.» ونعرف أيضًا أن الإجابة الأولي لا تكون صحيحة دائمًا. قد يكون الزبائن أغبياء، ولكنهم ليسوا أغبياء إلى هذه الدرجة، فهم يتوقعون أنهم سيدفعون الكثير نظير النبيذ والفشار والحلوى «قبل» دخولهم من باب المطعم أو السينما. أما الآن فعندي لك إجابة أفضل: فقد تكون هذه إحدى استراتيجيات تحديد السعر المستهدف. فمرتادو السينما ذوو الحساسية للأسعار سيجلبون الوجبات الخفيفة معهم من المنزل، أو سيدخلون السينما بدونها. أما غير الحساسين للأسعار — ربما أولئك الذين يدعون النساء للسينما ولا يريدون أن يبدوا بخلاء أمامهن — فسيدفعون ببساطة مقابل الفشار باهظ الثمن. يا للمهارة! يعتبر هذا تفسيرًا أفضل بكثير حيث إن هناك كثيرًا من البلدان بها دار عرض سينمائي واحدة فقط، وحتى في البلدان التي يوجد بها أكثر من دار سينما، ففي أغلب الأحيان تكون دار واحدة فقط هي التي تعرض الفيلم الذي تود مشاهدته. وهذا يعطي لدار السينما الكثير من قوة الندرة، وإذا كان مدير السينما ذكيًّا فسيحاول استغلال تلك الندرة إلى أقصى درجة ممكنة. حتى الآن لا تبدو تلك القصة سائرة على أسعار النبيذ المرتفعة في المطاعم. فالمطعم العادي يتمتع بقوة ندرة أقل من دار السينما لأن معظم البلدان سيكون بها مجموعة بدائل متنوعة أمام مرتادي المطاعم. وكلما قلت قوة ندرة المكان، اقتربت أسعاره من أسعار التكلفة. ومع ذلك، فحتى المطاعم العادية يبدو أنها تغالي في أسعار النبيذ. وثمة تفسير أفضل يفيد أن إحدى التكاليف الباهظة التي يتحملها المطعم هي مساحة المنضدة. ولهذا يود أصحاب المطاعم أن يطلبوا من الزبائن سعرًا مقابل قضاء الوقت في المطعم، ولكن نظرًا لأنهم لا يمكنهم القيام بذلك، فهم يطالبون بأثمان عالية مقابل الطلبات التي تستغرق وقتًا أطول في تناولها: ليس النبيذ فقط، بل أيضًا المشهيات وأطباق الحلوى. نحن نذهب إلى السينما لنشاهد فيلمًا، ونرتاد المطاعم لنأكل، فهل من الحقيقي أن تلك الأماكن تبتزنا بسبب المميزات الإضافية التي تمنحها فوق منتجها التقليدي؟ لا على الإطلاق، فإحدى الميزات المتوفرة في كل من دور السينما والمطاعم هي ميزة استخدام دورات المياه؛ فهذه الميزة تُقدم دائمًا مجانًا. وبالإضافة إلى ذلك فإن مياه الصنبور تُقدم أيضًا بلا مقابل في المطاعم. وفي حقيقة الأمر فإن الميزات الإضافية ليست هي التي تدعو هذا الأماكن لابتزاز مرتاديها ولكن فقدان الحساسية للأسعار هو الذي يسمح للمطعم الذي يتمتع بقوة الندرة أن يمارس سياسة التحديد لسعر مستهدف. ربما تكون مدير شركة وتشعر بالسعادة وأنت تقرأ عن هذه الاستراتيجيات، بل وبدأت بالفعل في التخطيط لتنفيذ مجموعة من الاستراتيجيات الماهرة في شركتك للوصول بالسعر إلى المستوى المطلوب. ولكن قبل أن يأخذك حماسك، ستحتاج أولًا إلى التعامل مع الثغرات التي تنطوي عليها استراتيجية تحديد السعر المستهدف التي تتبعها. هناك ثغرتان كارثيتان أو فجوتان عظيمتان في أي خطة تسويقية ذكية. وإذا لم تُعالجَا، ستنهار كل خططك. وأُولى تلك الثغرات في استراتيجية تحديد السعر المستهدف هي أن الزبائن الذين يفترض أنهم غير حساسين للأسعار قد لا يدخلون في لعبة تحديد السعر المستهدف. ليس من الصعب أن تقنع الزبائن الحساسين للأسعار أن يُعرضوا عن شراء منتج باهظ الثمن، ولكن أحيانًا يكون من الأصعب أن تمنع الزبائن غير الحساسين للأسعار من شراء المنتج الأرخص. وهذه ليست مشكلة مع الفروقات السعرية البسيطة؛ فلقد رأينا بالفعل أنه بإمكانك أن تدفع بعض الزبائن نحو شراء منتجات ذات نسبة ربح بسيطة إذا ما قيست وحدها دون النظر إلى السلع الأخرى، ولكن نسبة الربح هذه قد تكون ضخمة عند قياس السلع ببعضها البعض تمامًا مثل تغليف بعض الفلفل في كيس بلاستيكي، أو نقل أكياس البطاطس المقلية إلى الرف العلوي. والمسألة لا تكون دائمًا سهلة عندما يتعلق الأمر بقرارات شرائية على قدر أكبر من الأهمية. ونجد بعض أكثر الأمثلة تطرفًا حول استراتيجيات تحديد السعر المستهدف في صناعة السفر: فتذاكر الدرجة الأولى سواء بالقطار أو الطائرة أغلى ثمنًا من تذاكر الدرجات الأقل، ولكن ما دام الهدف الأساسي هو نقل الركاب من النقطة (أ) إلى النقطة (ب)، فربما يكون من الصعب إذن أن تعتصر شركات النقل النقود من الركاب الأثرياء. ولكي تنفض الشركات استراتيجية تحديد السعر المستهدف على نحو فعال فإنها يجب أن تبالغ في الفرق بين نوعي الخدمة الأفضل والأسوأ. وبالفعل لو فكرت قليلًا فستجد أنه ليس هناك سبب على الإطلاق في عدم وجود طاولات في عربات الدرجة الثالثة، كما هو الحال في القطارات بالمملكة المتحدة، وذلك حتى لا يقرر ركاب الدرجة الأولى شراء تذاكر أرخص في الدرجة الثالثة عندما يرون كم أصبحت الدرجة الثالثة مريحة أكثر من ذي قبل. لهذا السبب يجب أن يعاني ركاب الدرجة الثالثة. ليس بسبب تكلفة تركيب سقف لعربة الدرجة الثالثة أو تنجيد مقاعدها البالغة بضعة آلاف من الفرنكات تقوم بعض شركات النقل بترك تلك العربات مفتوحة وذات مقاعد خشبية … ولكن ما تحاول تلك الشركات فعله هو أن تمنع الركاب الذين يستطيعون دفع تذاكر الدرجة الثانية من الركوب في الدرجة الثالثة؛ نعم إنها تزعج الفقراء ولكن ليس لأنها تَرْغَب في إزعاجهم، وإنما لتخويف الأغنياء … وهذا هو نفس السبب في أن الشركات القاسية مع ركاب الدرجة الثالثة والبخيلة مع ركاب الدرجة الثانية؛ تصير سخية وكريمة في التعامل مع زبائن الدرجة الأولى. فبالرغم من إنكارهم على الفقراء أساسيات الخدمة، يوفرون للأغنياء خدمة غير ضرورية. وبالتأكيد يعد سوء حال معظم صالات المغادرة في مطارات العالم جزءًا من نفس الظاهرة. فإن أصبحت الخدمة في كل صالات المغادرة المجانية مريحة، لن تتمكن شركات الطيران بعد الآن من بيع تذاكر درجة رجال الأعمال وما تشمله من المساحة المريحة في المطار لحامل هذه التذاكر. وهذا يفسر أيضًا لماذا تطلب مضيفات الطائرة أحيانًا من ركاب الدرجة السياحية (التي تعادل الدرجة الثالثة في القطارات) عدم مغادرة الطائرة قبل ركاب الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال. فهذه «الخدمة» لا تهدف إلى راحة ركاب الدرجة السياحية، وإنما لينظر إليهم ركاب مقدمة الطائرة في شفقة واشمئزاز. وذلك لتتأكد شركة الطيران من وصول الرسالة إليهم: استمر في الدفع من أجل المقعد باهظ الثمن، وإلا ستجد نفسك مع تلك المضيفة الأخرى في رحلتك القادمة. ونفس الحيلة نراها في المتاجر: فنحن نرى منتجات يبدو أنها قد غُلفت بهدف واضح وهو أن تنم عن سوء جودتها. كثيرًا ما تنتج المتاجر مجموعة منتجات «توفيرية» تحمل اسم المتجر ذات أغلفة صماء لا تتغير سواء أكان المنتج الذي بداخلها عصير ليمون، أم خبز، أم بقول. إن تعيين مصمم جيدٍ وطباعة بعض الشعارات الجذابة لن يكلف المتجر الكثير، ولكن لن يحقق هذا الغرض المطلوب ألا وهو أن التغليف صُمم بعناية لكي ينبذه الزبائن المستعدون للدفع أكثر. فحتى هؤلاء الزبائن المستعدون لدفع خمسة أضعاف السعر المعروض لزجاجة عصير الليمون سيشترون المنتج الرخيص، إلا إذا بذل المتجر بعض الجهد لتثبيطهم. لذلك فمثل عدم وجود الطاولات في عربات الدرجة الثالثة بالقطارات والمقاعد غير المريحة في صالات المطارات؛ فإن التغليف القبيح للمنتجات «التوفيرية» صُمم لضمان قيام الزبائن المتكبرين بزيادة الأسعار على أنفسهم بأيديهم. لو كنت تفكر مثلي، لرأيت أن كل تلك الحيل غاية في الخسة. ولكن نفس الرأي الشائع الذي يمقت صناعة الدي في دي لمحاولتها بيع منتجاتها بأسعار مختلفة في أسواق مختلفة يرى في الوقت نفسه أن على شركات الأدوية الكبرى أن توفر الدواء للدول الفقيرة بأسعار مخفضة. وهكذا يبدو أن حدسنا الأخلاقي يرسل لنا رسائل متناقضة باعثة على الحيرة. وربما تكون القصة بالبساطة التالية: عندما يكون المنتج مهمًّا مثل عقار لعلاج مرض الإيدز، فمن المهم أن يحصل عليه الفقراء. أما عندما يكون المنتج تافهًا كأقراص الدي في دي نثور غضبًا لفكرة أننا نقع ضحايا الجشع. ولكن قد لا يكون هذا صحيحًا تمامًا، فأقراص الدي في دي تشق طريقها إلى مناطق غاية في الفقر، فهل يجب علينا على الأقل أن نسعد لأن الفقراء يشاهدون الأفلام في الحانات وصالات القرى في كل مكان في العالم النامي؟ أم العكس، يجب أن نزداد حنقًا لأن شركات الأدوية تغالي في أسعار الأدوية المهمة في العالم المتقدم؟ لا يمكن لعالم اقتصاد أن يحل هذه الألغاز الأخلاقية، ولكن يمكنه على الأقل أن يزيح عنها الستار لكي تغدو أكثر وضوحًا. إليك المثال الاعتباري التالي: وفي النهاية تحدد الشركة أسعارًا مرتفعة لأن الناس في الدول الغنية سيدفعون الكثير من النقود نظير العلاج الفعال، وبالتالي لا مغزى إذن من خسارة زبائن يدفعون آلاف الدولارات في سبيل البحث عن زبائن يدفعون السنتات. قد تبدو هذه أخبارًا سيئة. فتلك الشركة تستخدم قوة الندرة التي تتمتع بها لفرض سعر مرتفع على عقار ضروري لإنقاذ حياة المرضى. وبالتالي، لا يحصل عليه الناس في الدول الفقيرة الذين يموتون بسبب طمع شركة الأدوية. في الواقع هذه الأخبار نصفها فقط هو السيئ؛ فهناك أيضًا «الأحياء» بسبب طمع شركة الأدوية. فلقد تشجعت الشركة لتطوير هذا العلاج المهم على أمل الحصول على حق براءة الاختراع الذي يدر الربح الوفير. فالأبحاث التي تتم على الأدوية وتطويرها إجراءات باهظة التكاليف، ويجب على أحدهم تحملها. يقتضي النظام الحالي بأن شركات التأمين العامة والخاصة هي التي تتحملها. ولمّا كانت الولايات المتحدة هي أكبر أسواق العالم للأدوية، كانت تذهب إليها الابتكارات والتي تثاب فيها بشكل كبير. وبالرغم من تحقيق شركة بيلكورب للأرباح عن طريق بيع منتجاتها من الأدوية بسعر عالمي موحد مرتفع، فهناك طرق أخرى تمكنها من الاستفادة أكثر هي وزبائنها أيضًا. وحينما يتكلم علماء الاقتصاد عن إمكانية الاستفادة أكثر، فهم لا يتكلمون عنها مع التسليم بالأمر الواقع. ولكنهم يتحدثون عن فكرة أدق ألا وهي أن شركة بيلكورب يمكنها بالفعل تحقيق مزيد من الأرباح، وخدمة العالم بصورة أفضل. افرض أن ما يحتاجه أحد المستهلكين من الأدوية لمدة عام يكلف شركة بيلكورب ١٠ دولارات لإنتاجه، ويباع في الصيدليات بسعر ١٠٠٠ دولار. وهذا لا يمثل مشكلة للمستهلكين الأغنياء المستعدين للدفع، أو التابعين لشركات تأمين تدفع لهم. ففي كل عام ينتقل ٩٩٠ دولارًا ممن يعيشون بمرض الإيدز إلى صانعي الدواء. ولكن قد يكون هناك مواطن بالكاميرون يعمل سائق تاكسي وغير مستعد لدفع أكثر من ٥٠ دولارًا فقط سنويًّا مقابل العلاج، حتى إنه قد يفضل الغذاء أو وقود التاكسي على العلاج. وبالتالي يخسر هذا السائق فرصة الحصول على علاج بسبب سياسة شركة بيلكورب في تحديد سعر عالمي مرتفع، وتخسر الشركة كذلك فرصة تحقيق بعض الربح. ولكن إذا باعت الشركة لهذا الشخص العلاج مقابل سعر يتراوح ما بين عشرة إلى خمسين دولارًا — وليكن ٣٠ دولارًا — فسيستفيد كلا الطرفين. فيحصل سائق التاكسي على العلاج مقابل ٣٠ دولارًا بينما كان مستعدا لدفع ٥٠ دولارًا. وتحصل شركة الأدوية على ٣٠ دولارًا كعائد من تكلفة تبلغ ١٠ دولارات للقرص، أي ربح قدره ٢٠ دولارًا. والآن افترض أن اتبعتْ شركة بيلكورب استراتيجية تحديد لسعر مستهدف، تظل بناء عليها تطلب سعرًا من الدول الغربية الغنية يبلغ ١٠٠٠ دولار مقابل العقار الذي طورته، في حين توفره للأفراد في الدول النامية مثل سائق التاكسي في الكاميرون مقابل ٣٠ دولارًا، وفجأة، تفتح شركة بيلكورب سوقًا جديدًا كاملًا لها؛ فالخصومات الجديدة للشركة تسمح بكسب ملايين المستهلكين الجدد بربح يبلغ ٢٠ دولارًا سنويًّا من كل منهم، وتحتفظ في الوقت ذاته بكل المبيعات التي تحققها في الدول الغنية. وهذا كله مع افتراض أن العقار مخفَّض السعر لن «يتسرب» ويعاد بيعه مرة أخرى، الأمر الذي يثير عظيم القلق عند شركات الأدوية. فإعادة بيع الأدوية ذات الأسعار المخفضة في كندا يعتبر مشكلة تواجه شركات الأدوية التي تود أن تستغل استعداد بعض الناس في الولايات المتحدة لدفع المبالغ الكبيرة، والتي تبيع أيضًا خدمات الرعاية الصحية للكنديين الذين يرفضون دفع الأسعار العالية مقابل العقاقير الطبية. والخطورة إذا استمرت عملية إعادة البيع أن ترفض الشركات الأمريكية الاستمرار في بيع العقاقير بأسعار مخفضة للكنديين. يجب أن يجعلنا هذا المثال ندرك أن زيادة شفافية الأسعار التي تسببت فيها الإنترنت وأشكال التطور الأخرى في مجال الاتصالات هي مسألة ذات جانب سلبي، ألا وهو أن الشركة التي تتمتع بقوة ندرة قد تُعرض عن توفير المنتجات المخفضة لأن تلك المنتجات أكثر تعرضًا لأن تتسرب ويعاد بيعها. وتخلق سياسة التسعير الثنائي التي تتبناها شركة بيلكورب حالة أفضل بكثير لا يتضرر منها المستهلكون في الدول الغنية، ويكسب من ورائها حملة أسهم شركة بيلكورب، وينتفع منها أيضًا المصابون بمرض الإيدز في الدول الفقيرة. أي أنها حالةٌ جميع الأطراف فيها رابحون، أو كما قد ينعتها أحد علماء الاقتصاد بأنها تطور واضح في الفعالية. ولا يعني هذا أن الحالة الجديدة مثالية؛ ولكنه يعني فقط أنها حالة تنم عن تقدم جلي بالمقارنة بالحالة السابقة التي تسببت فيها قوة ندرة شركة بيلكورب في زيادة عدم الفاعلية بشكل كبير … وخسارة جسيمة في الأرواح في الدول الفقيرة. ربما نستشيط غضبًا عندما يتم حرمان الفقراء من الأدوية التي تكلف إنتاجها بضعة سنتات، ليس بسبب العدل (فالكثير من الأمور غير عادلة) ولكن لأن هذا يعرض حياتهم للخطر. سنعرف في الحال، إن كنا علماء اقتصاد، أن هذه حالة من اللافعالية. بعبارة أخرى، يمكننا أن نفكر في أن هذه حالة تعود بالكسب على فرد واحد على الأقل دون أن يتضرر منها أي فرد آخر. افرض أن وجدت الشركة أحد الموظفين الراكبين إلى العمل يوميًّا مستعد فقط لدفع مبلغ أقل من ١٠٠ دولار بقليل، وليكن ٩٥ دولارًا، ولذلك قرر أن يسافر بالسيارة بدلًا من القطار، وقررت الشركة أن تقدم له مقعدًا بسعر ٩٠ دولارًا. فكيف توفر له مقعدًا مقابل ٩٠ دولارًا إن كانت كل المقاعد ممتلئة؟ يمكنك أن تأخذ طالبًا ليس في عجالة من أمره مستعد لكي يدفع أكثر من ٥٠ دولارًا، ولنقل ٥٥ دولارًا مقابل المقعد، وتلقيه بأدب خارج القطار. ولكنك ستعيد له ثمن تذكرته بالإضافة إلى ١٠ دولارات تعويضًا عما سببت له من إزعاج. كيف صار الحال الآن؟ لقد كان الموظف مستعدًا لدفع ٩٥ دولارًا، فدفع ٩٠ دولارًا فقط. وبذلك استفاد من توفير مبلغ ٥ دولارات. وكان الطالب مستعدًا لدفع ٥٥ دولارًا مقابل تذكرة ثمنها ٥٠ دولارًا، فلو كان سُمح له بالركوب لكان استفاد بتوفيره اﻟ ٥ دولارات. ولكنه حصل لتوه على ١٠ دولارات، لذلك فهو سعيد هو الآخر. وماذا عن شركة النقل؟ لقد حولت لتوها تذكرة ثمنها ٥٠ دولارًا إلى تذكرة ثمنها ٩٠ دولارًا محققة صفقة مربحة أكثر. وحتى بعد دفعها اﻟ ١٠ دولارات كتعويض للطالب الذي أنزلته من القطار، فلقد كسبت الشركة ٣٠ دولارًا. وهنا، الكل مستفيد، أو سيستفيد لو تبنت الشركة هذا النظام بدلًا من استراتيجية تحديد السعر المستهدف لفئة من الركاب. ولكن ليس هذا ما يحدث بالطبع لأنه لو فعلت الشركة ذلك مرة، فسيتشبث كل الركاب من الموظفين الذين كانوا على استعداد لدفع ١٠٠ دولار مقابل التذكرة بالتذاكر البالغ ثمنها ٩٠ دولارًا، وسيشتري الطلاب الذين لم يكونوا على استعداد لدفع ٥٠ دولارًا التذاكر على أية حال وينتظرون أن تدفع الشركة لهم لينزلوا من القطار. وبالتالي تنقلب الحالة بأكملها ضد مصلحة شركة النقل المعنية وحدها بتحديد الأسعار. إذا بدأت رأسك في الدوران، فإليك هذا الملخص السريع: تعتبر استراتيجية تحديد السعر المستهدف لفئة من المستهلكين حالة من عدم الفعالية لأنها تأخذ المقاعد من الركاب المستعدين لدفع مبلغ أكبر وتعطيها للركاب المستعدين لدفع مبلغ أقل. ومع ذلك، لا تزال شركات الطيران وشركات السكك الحديدة يستخدمونها لأن البديل — وهو تحديد السعر المستهدف للمستهلك الفرد — ليس بديلًا ممكنًا. حسنًا، أحيانًا يكون تحديد السعر المستهدف أقل فعالية من السعر الموحد كما في مثال القطار، وأحيانًا يكون أكثر فعالية من السعر الموحد كما في مثال عقاقير علاج مرض الإيدز. ولكن هل هناك مزيد من القول في هذا الصدد؟ فعندما تخفق استراتيجية تحديد السعر المستهدف في زيادة حجم المبيعات، وتقوم فقط بنقل المنتجات من الناس الذين يقدرون قيمتها، مثل الركاب من الموظفين، إلى الناس الذين يقدرون قيمتها بصورة أقل، مثل الطلاب، كما في مثال شركة النقل، فستكون تلك الحالة حتمًا أقل فعالية من استراتيجية السعر الموحد. أما عندما تتسبب استراتيجية تحديد السعر المستهدف في فتح سوق جديدة دون أن تؤثر على السوق القديمة، كما في مثال شركة الأدوية فستكون هذه حالة أكثر فعالية بالتأكيد من الحالة التي تسببت فيها استراتيجية السعر الموحد. وثمة حالة وسط بين هذا وذاك. فالكثير من استراتيجيات تحديد السعر المستهدف لفئة من المستهلكين تمارس القليل من كلا الأمرين، فهي تتسبب في فتح بعض الأسواق الجديدة ولكنها تقوم أيضًا بنقل المنتجات من المستهلكين الذين يعطون للمنتج قيمة كبيرة إلى المستهلكين الذين لا يقدرون المنتج بنفس الدرجة، مهدرة بذلك بعض المكاسب الممكنة. فعلى سبيل المثال، لقد نُشر هذا الكتاب بغلاف فاخر مقابل سعر مرتفع، وسيتم نشره لاحقًا بغلاف ورقي بسعر أقل. والهدف من ذلك هو تحديد السعر المستهدف الأعلى للقراء الشغوفين بقراءة ما أكتبه. ولهذا الأمر نفعه وضرره، فمن نتائجه المفيدة أن الناشر سيتمكن من بيع النسخ ذات الغلاف الورقي بأسعار أرخص ليصل الكتاب بذلك إلى مزيد من القراء. أما النتيجة غير المفيدة فهي أن النسخة التي نشرت أولًا هي الأغلى ثمنًا ولذلك سيفضل بعض القراء انتظار النسخة الأرخص. هكذا يدور العالم المليء بالندرة، فعندما تحاول الشركات التي تتمتع بقوة ندرة استغلال تلك القوة، تتسبب في حالة من اللافعالية. وكالعادة نحن خبراء الاقتصاد سنكون تقريبًا قادرين على التفكير دائمًا لتحويل المواقف لتعود بفائدة أكثر على جميع الأطراف. أقول «تقريبًا» لأن الشركة القادرة على ممارسة سياسة مثالية لتحديد السعر المستهدف للمستهلك الفرد؛ لن يفوتها أبدًا مستهلك واحد، فالمستهلكون الأغنياء، أو اليائسون سيدفعون المبالغ الكبيرة. أما المستهلكون الفقراء، أو الذين لا يبالون بشراء منتجات معينة دون غيرها فسيدفعون القليل، ولكن لن تدير الشركة ظهرها لأي مستهلك مستعد لأن يدفع تكلفة إنتاج المنتج. وهنا سنكون بصدد حالة من الفعالية. ومع ذلك، فالواقع يقر أنه في أغلب الأحيان لا توجد شركة تملك العديد من المعلومات عن عملائها لتتمكن من تحقيق مبيعات فعالة ومثالية. فستحتاج الشركة أن تدخل إلى عقل كل مستهلك لتعرف مدى تمسكه بالمنتج، الأمر الذي يحتاج إلى قوة خارقة وهذا ليس معقولًا. ولكن ماذا إذا كان يمكنك إدخال مفضلات كل مستهلك إلى حاسب آلي عملاق؟ ماذا إذا كان لديك كل المعلومات التي تحتاجها كي لا تخسر زبونًا واحدًا؟ هل سيحسن ذلك من العالم شيئًا؟ أود أن ألفت انتباهك إلى شيء آخر، عندما غيرت شركة بيلكورب من سياستها العالمية لتسعير منتجاتها، فهي لم تقم بفعل مربح فقط، بل أيضًا قامت بفعل فعال وعادل في آن واحد. فهل لا يزال لدينا ما نقوله عن كيفية تسبب طمع الشركات الخاصة في خدمة المصالح العامة؟ للإجابة على كل تلك الأسئلة وأكثر … اقرأ الفصول التالية.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/3/
الأسواق المثالية و«عالم الصدق»
تخيل إن شئت أن الأمنية التي تمناها ابن فليتشر في عيد ميلاده قد تحققت ليس فقط فيما يتعلق بوالده صاحب الحديث الناعم المنمق ولكن فيما يتعلق بالعالم بأكمله؛ فعندئذ إذا ذهبت لشراء كوب كابوتشينو في عالم الصدق وقبل أن تأخذ الكوب الممتلئ نصفه بالرغوة المميزة ستجد أن النادلة تتفحصك من شعر رأسك إلى أخمص قدميك وتسألك: «ما أقصى مبلغ يمكن أن تدفعه؟» ستحاول أن تكذب وتتظاهر أنك بالفعل لا تريده، ولكنك لا تستطيع فيتفوه لسانك بالصدق فتقول: «جسمي يحتاج بشدة للكافيين. سأدفع خمسة عشر دولارًا». وبابتسامة متكلفة تهم النادلة بتسجيل المبلغ المبتز منك، ولكنك تستوقفها لتسألها بضعة أسئلة مثل: «كم تكلفت حبوب البن التي سيصنعون منها الكابوتشينو؟» «ما تكلفة الكوب وغطائه البلاستيكي؟» «وما تكلفة اللبن في الكابوتشينو؟» «ثم ما تكلفة الكهرباء من أجل التبريد والتسخين والإضاءة في المقهى؟» ومهما كانت محاولاتها لتجنب أسئلتك أو إقناعك بضخامة التكلفة الحقيقية للكابوتشينو يحين دور النادلة لقول الصدق مثل فليتشر ريد، ليتضح لك أن تكلفة إعداد الكابوتشينو ليست خمسة عشر دولارًا، بل أقل من الدولار الواحد. وبينما تحاول أن تقطع محادثتها معك، تسألها سؤالًا آخر يعد بمنزلة الضربة القاضية لها: «هل يوجد أي مكان آخر لا يبعد أكثر من ثلاثين ياردة يبيع قهوة مثل التي تبيعونها هنا؟» فتجيبك متأوهة: «نعم …» وترتطم رأسها في الحائط علامة على الهزيمة الساحقة. ثم تخرج أنت من المقهى ومعك قهوتك التي حصلت عليها مقابل اثنين وتسعين سنتًا فقط. ثمة حقيقة أساسية موجودة في أي نظام سعري ألا وهي أن الصدق ينبع من أن كلًّا من المتاجر والمستهلكين غير مضطرين للشراء أو للبيع بسعر محدد، ولكن يمكنهم دائمًا الاختيار بين قبول هذا السعر أو رفضه. فإذا كنت غير مستعد إلا لدفع خمسين سنتًا فقط مقابل كوب القهوة، فلن يجبرك أحد على أن تدفع أكثر من هذا، ولن يجبر أحد النادلة على أن تعطيه لك بسعر أقل. وما سيحدث هو أن عملية البيع ببساطة لن تتم. ربما بدأت الآن تدرك لماذا أشرت إلى أن الأسعار «تقول الصدق» وتفشي المعلومات. ففي سوق حرة، سيفضل كل من يشتري قهوة أن يحصل على القهوة بدلًا من احتفاظه بالمبلغ الذي سيدفعه مقابل شرائها، أي أنه باختصار يفضل القهوة على شراء أي سلعة أخرى ثمنها اثنين وتسعين سنتًا. ويعني هذا أن قيمة أي منتج من المنتجات في نظر المستهلك تساوي سعره أو تزيد عنه؛ وأن التكلفة بالنسبة إلى المنتجين تساوي سعر المنتج الذي يبيعونه أو تقل عنه. ربما يبدو الأمر جليًّا ولكن عواقبه هائلة. قد تظن أنها معلومة تافهة أن نقول إننا نعرف أن المستهلكين في سوق حرة يرون قيمة القهوة أعلى في نظرهم من قيمة ما يدفعونه من مال مقابلها، ومع ذلك، فالأمر ليس بهذه التفاهة التي يبدو عليها؛ أولًا، هذه المعلومة «التافهة» تحوي أكثر مما نستطيع قوله عن أي سلعة يتم دفع الأموال نظيرها في نظام خارج نظام السوق، مثل إستاد واشنطن العاصمة الجديد للبيسبول الذي أثار جدلًا كبيرًا. فلقد وافق فريق مونتريال اكسبوس للبيسبول على الانتقال إلى واشنطن العاصمة في حالة دعم الحكومة لتكلفة بناء الإستاد الجديد، يقول البعض بأن الدعم سوف يصل إلى ٧٠ مليون دولار بينما يقول آخرون بأن الدعم سيكون أكبر من هذا بكثير. وقد يكون هذا الدعم فكرة صالحة أو طالحة؛ فالطريقة التي نقرر من خلالها الكيفية التي ننفق بها أموال دافعي الضرائب ليست واضحة. أما عندما يتم اتخاذ القرارات داخل نظام سوق، لا تجد مجالًا لهذا النوع من الخلاف. فإذا قررتُ أن أدفع ٧٠ دولارًا مقابل تذكرة لمشاهدة مباراة بيسبول، فلن يسألني أحد إذا كانت التذكرة تستحق هذا المبلغ أم لا؛ لقد اتخذت قراري بنفسي ولذا فمن الواضح أنني ارتأيت أن التذكرة تستحق بالفعل هذا المبلغ. وينتج عن الاختيار الحر معلومات عن أولوياتي وتفضيلاتي، وعندما يتخذ الملايين منا القرارات، تعكس أسعار السوق أولوياتنا وتفضيلاتنا جميعًا. لذلك، فإن الفكرة القائلة إن قيمة الكابوتشينو في رأي الزبائن في ظل سوق حرة تتجاوز قيمة ما يدفعونه مقابل ذلك الكابوتشينو من مال — ليست بالمعلومة التافهة، على خلاف التوقعات. ولكن لا ينبغي لنا أن نتوقف عند ذلك الحد. تخيل الآن أن سوق القهوة ليست سوقًا حرة فحسب، وإنما سوق تحتد بها المنافسة أيضًا، حيث تجد دائمًا أصحاب الأعمال ينشئون شركات جديدة ذات أفكار حديثة في محاولة منهم لاقتطاع جزء من حصة السوق التي تمتلكها الشركات القائمة بالفعل. (في مجال عمل تنافسي تكفي الأرباح لدفع أجور العاملين، وإقناع أصحاب الأعمال أن استثمار أموالهم في الشركات أفضل من إبقائها في حساب ادخاري، وليس أكثر من هذا). وتجبر هذه المنافسة سعر القهوة على الانخفاض إلى أن يصل إلى «التكلفة الحدية»، أي التكلفة التي يتحملها المقهى عندما يصنع كوبًا آخر من الكابوتشينو، وهي التكلفة التي ذكرنا أنها تقل عن الدولار الواحد. وفي سوق المنافسة المثالية يكون سعر فنجان القهوة مساويًا لتكلفته الحدية. أما إذا انخفض سعره عن تكلفته الحدية، فستتوقف معظم المقاهي عن العمل إلى أن يرتفع السعر مرة أخرى. وعندما يزيد سعره عن تكلفته الحدية، فإما أن تدخل مقاهٍ جديدة إلى السوق أو أن تحاول المقاهي القديمة أن تزيد من إنتاجها إلى أن ينخفض السعر فيما بعد. وفجأة أصبح السعر لا يعكس حقيقة مبهمة مثل: (تساوي هذه القهوة اثنين وتسعين سنتًا أو أكثر للمستهلك، وهي قد كلفت المقهى نفس المبلغ أو أقل.) وإنما أصبح يعرض حقيقة دقيقة هي: (كلفت هذه القهوة المقهى اثنين وتسعين سنتًا بالضبط.) قد يعد هذا سيناريو افتراضيًّا غير منطقي، ولكن علماء الاقتصاد يمكنهم قياس — وقد قاسوا بالفعل — بعض من هذه التأثيرات: فعندما كسا الصقيع البرازيل، ارتفعت بالفعل أسعار البن العالمية، واشترى المزارعون الكينيون بالفعل الأسقف المصنوعة من الألومنيوم، وارتفع سعر الأسقف بالفعل، وقام المزارعون بالفعل بتحديد الوقت المناسب لشراء الأسقف بحيث لا يدفعون الكثير. من هنا نعرف أن الأسواق حتى وإن لم تكن مثالية، يمكنها نقل قدر هائل من المعلومات المعقدة. وتجد الحكومات — أو أي منظمات أخرى — صعوبة في الاستجابة لتلك المعلومات المعقدة. ففي تنزانيا لا يجري إنتاج البن في سوق حرة بحيث تستفيد الحكومة — وليس المزارعون — من أي زيادة غير متوقعة في الأسعار. وتاريخيًّا نجد أن الحكومة فشلت في إنفاق الأموال في الأوجه المناسبة، فكانت تنفق الكثير على زيادات رواتب موظفي الحكومة التي لم تدم، بعد أن فشلت في إدراك أن زيادة الأسعار كانت مؤقتة. ولتدرك قيمة أهمية قيام الأسواق بمثل هذه الوظيفة ألا وهي معالجة المعلومات المعقدة، عليك أن تفكر أولًا في المستهلك. نحن نعرف أنه لن يشتري كوب كابوتشينو إلا إذا كان يفضل شراءه على أية سلعة أخرى يمكنه شراؤها بنفس المبلغ من المال. ولكن ماذا يمكنه أن يشتري بنفس المبلغ من المال؟ في عالمنا الذي يقول الجميع فيه الصدق، سيشتري «أي سلعة» تتكلف نفس ثمن الكابوتشينو، أو أقل. فإذا اختار أن يشتري القهوة فكأنه يقول إنه من بين كل السلع في هذا العالم — التي تبلغ أثمانها نفس ثمن القهوة — قد فضل القهوة عليها جميعًا. ما نتيجة ارتباط الأسواق المثالية في تنافسيتها بعضها ببعض بهذه الطريقة؟ لذلك، إذا كان إنتاج السلع المناسبة يتم بأفضل طريقة ممكنة، وبالكميات المناسبة، وتذهب إلى من يقدرونها أقصى تقدير، فلن تتبقى مساحة إذن لتحقيق أي مكسب آخر من الفعالية. أو بعبارة أخرى، «لن تحصل على فعالية أكثر من التي تعطيها إياك السوق المثالية في تنافسيتها» والتي تنبع على نحو طبيعي من الحقيقة التي ينطوي عليها نظام السعر: فالأسعار تعكس بصدق التكلفة التي تحملتها الشركات، وتعكس أيضًا بصدق القيمة التي يراها المستهلكون في السلع. نظرًا لاعتماد المجتمع الغربي على نظام السوق الحرة اعتمادًا كبيرًا، نجد من الصعب تخيل حالنا في ظل عدم وجود تلك الأسواق أو العودة خطوة إلى الوراء ورؤية مدى عمق تأثير السوق علينا. ومع ذلك، فإن أي دولة ديموقراطية حديثة توفر السلع خارج نظام السوق إضافة إلى النظر إلى الطرق التي يجري بها توفير مثل هذه السلع؛ تعطينا مفاتيح لفهم جوانب القوة والضعف في الأسواق. إليك على سبيل المثال شرطة مدينتك، التي يمولها نظام ضريبي لا يعتمد على السوق، والتي لها بعض المميزات، فمثلًا عندما تطلب رقم هاتف النجدة لا يسألك أحدهم عن تفاصيل بطاقة ائتمانك. ويفترض أن على الحكومة أن توفر نفس مستوى الحماية للفقراء والأغنياء على حد سواء، ومع ذلك لا يبدو الأمر كذلك دائمًا. فهذا النظام الذي لا يعتمد على السوق لا يخلو من بعض العيوب. فمثلًا، إذا كان ضابط الشرطة الذي تتعامل معه وقحًا أو غير كفء، فليس لديك خيار للتسوق بحثًا عن شرطة أخرى. وإذا رأيت كذلك أن مستوى الحماية الذي توفره لك الشرطة زائد عن الحد، لن تكون أنت صاحب القرار في تقليل هذه الحماية قليلًا. وإلى جانب ذلك فلن يكون بوسعك أن تحصل على خدمات إضافية بأن تدفع أكثر. ولكن كل ما يمكنك فعله هو أن تحاول التأثير على رجال السياسة في مدينتك على أمل أن تلقى مطالبك اهتمامًا. وتعد المدارس الحكومية مثالًا آخر على الخدمة التي لا تعتمد على نظام السوق، والتي يستخدمها الكثير منا. ففي كل من بريطانيا والولايات المتحدة يرسل معظم الناس أطفالهم إلى المدارس التي تمولها الحكومة. ولكن تختلف المدارس بعضها عن بعض، فأجواؤها مختلفة، وكذلك الاهتمام الأكاديمي بكل منها. والأهم من ذلك، أن بعضها مدارس جيدة، وبعضها غير جيد. أما الحل الذي يقترحه السوق لهذه المدارس فيشبه الحل الذي يقترحه السوق للمنتجات الغذائية؛ إذ إن أفضل أنواع الطعام تذهب للأفراد المستعدين، الذين هم أيضًا القادرون ماديًّا على دفع أكبر مبلغ ممكن مقابلها. ولكن القطاع الحكومي يخلو من الأسعار. فماذا يحدث في المقابل؟ يحتشد أولياء الأمور ويتظاهرون احتجاجًا. وينتقل الناس من ضواحيهم للعيش في ضواح أخرى يكون بها مدارس أفضل. ففي بريطانيا، تتمتع المدارس الدينية الحكومية في أغلب الأحيان بأفضل نتائج دراسية لطلابها لذلك يأخذ الملحدون أبناءهم إلى الكنيسة كل أحد ليتعرفوا على قساوسة يمنحونهم توصيات تسهل لهم إلحاق أولادهم بهذه المدارس. وكما هو الحال مع الشرطة، فالنظام الذي لا يعتمد على السوق يتصف بميزة وثيقة الصلة بما ناقشناه في موضوع الشرطة ألا وهي إخفاء حقيقة أن الفقراء لا يحصلون على نفس جودة التعليم الذي يحصل عليه الأغنياء. ولكن مرة أخرى، يعاني النظام الذي لا يعتمد على السوق من مشكلة خطيرة وهي اختفاء الصدق فيما يتعلق بالقيمة، والتكلفة، والأرباح. فمن المستحيل أن تفرق بين أولياء الأمور الذي يلحقون أطفالهم بمدارس تديرها الكنائس بسبب الوازع الديني وبين أولياء الأمور الذين يرغبون فقط في حصول أبنائهم على درجات أفضل. ومن المستحيل أيضًا أن تعرف قدر المال الذي يريد أولياء الأمور أن يدفعوه من أجل عدد أكبر من المدرسين ومواد تعليمية أفضل. وفي نظام السوق تتكشف الحقيقة عن قدر المال الذي يُتكلف من أجل توفير مدارس جيدة وأيضا حقيقة المستعدين لدفع هذا القدر لإلحاق أبنائهم بها. أما النظام الذي لا يعتمد على السوق، فيعاني بسبب عدم اهتمامه بهذه المسائل الأساسية. يبدو أن هناك استعدادًا بالفعل من جانب أولياء الأمور لدفع المال لإلحاق أبنائهم بالمدارس الجيدة، حيث تظهر لنا تلك الحقيقة جلية بسبب ارتفاع أسعار المنازل في المناطق التي تقع بها المدارس التي تتمتع بأفضل سمعة تعليمية. فالنظام الذي لا يعتمد على السوق، والذي يعطي أولوية الالتحاق بتلك المدارس للطلاب القاطنين في المناطق المجاورة لها؛ ينقل الأموال التي يمكن أن يدفعها أولياء الأمور لإلحاق أبنائهم بمدارس جيدة إلى جيوب مالكي العقارات الكائنة بجوار المدارس الجيدة الموجودة بالفعل. وهذا بالطبع أمر لا يبدو منطقيًّا، فلو كان نظام السوق هو القائم لقام ببساطة بتوجيه هذه الأموال لتوفير المزيد من المدارس الجيدة. للأسعار وظيفتان وليس وظيفة واحدة. توفر الأسعار في ظل نظام السوق طريقة لتحديد من سيتمتعون بالقدر المحدود المتاح من المدارس؛ فمن يدفع أكثر يرسل أبناءه إلى أفضل المدارس وهي طريقة كريهة في التعامل مع الأمور جرى وضع نظام التعليم الحكومي كي يمنعها. والأسعار أيضًا تعطينا الإشارة إلى بناء مزيد من المدارس، وتوظيف مزيد من المعلمين، أو زيادة أجورهم إذا كانوا قليلي العدد، وشراء مواد تعليمية أفضل. فعلى المدى البعيد، يحول نظام الأسعار استعداد الناس الكبير للدفع مقابل المدارس الجيدة إلى توفير مزيد من المدارس الجيدة، تمامًا مثلما يقوم بالتأكيد بتحويل الطلب المرتفع على القهوة إلى توفير مزيد من الكابوتشينو. ألا يعلم السياسيون أننا بالفعل نقدر قيمة المدارس الجيدة؟ ألا يجب عليهم إتاحة أموال الحكومة لذلك الغرض؟ تكمن صعوبة الأمر في أن السياسيين مثلما يسمعون عن رغبتنا في مدارس جيدة لأبنائنا، يسمعون أيضًا عن رغبتنا في تواجد عدد أكبر من رجال الشرطة في الشوارع، وتحسين الخدمات الصحية، والكثير من الطرق الواسعة، والضمانات الاجتماعية الممتازة، والضرائب القليلة، وقهوة فينتي بكمية مضاعفة من الكراميل التي تقدمها ستاربكس. فمن السهل علينا طلب كل تلك الأشياء، ولكن الأسعار — عن طريق إجبارنا على دفع أموالنا إرضاء لرغبات أفواهنا — تكشف الحقيقة. نعم، للضرائب مميزاتها، ولكنها لا تسهم في إظهار الصدق؛ لأننا لا نملك اختيار دفعها من عدمه بناء على ما إذا كان كل بنس يُدفع يُنفق وفق رغباتنا. وبما أن الأسعار غير إجبارية، فهي تفصح عن المعلومات. لا يسهم أي من هذا في دحض الرأي المعارض لتوفير خدمات شرطة، أو نظام مدارس لا يعتمد على السوق. حقًّا، للأنظمة التي لا تعتمد على السوق مميزاتها، ولكنها تفتقر أيضًا إلى أمر مهم ألا وهو المعلومات، فهي بحاجة إلى معلومات فيما يتعلق بالرغبات والاحتياجات والتكاليف والعيوب. أحيانًا، يكون نقص المعلومات أمرًا جيدًا لأنه يُعوَّض بالمكاسب في المساواة والاستقرار. ولكن أحيانًا قد يؤدي هذا النقص إلى تخبط الاقتصاد والمجتمع في حيرة وضياع. فنحن نعتقد أن القيمة التي نحصل عليها من المدارس والشرطة أكبر من تكلفتهما التي ندفعها في صورة ضرائب، ولكن هذا الاعتقاد لا يرقى إلى مرتبة اليقين وإن كان الحال ليس كذلك مع الكابوتشينو. وهناك ما هو أكثر من الدعم، فالضرائب أحد الأسباب الشائعة وراء اللافعالية، فالحكومة تفرض الضرائب على تعاملات السوق وتنفق الأموال على أشياء حميدة — على الأقل نتمنى ذلك — مثل الشرطة والمدارس. ولكن لماذا تتصف الضرائب باللافعالية؟ الجواب هو لأنها تدمر المعلومات التي تنم عنها الأسعار في الأسواق الفعالة المثالية في تنافسيتها: فالأسعار لم تعد تساوي التكلفة، ولذلك فالتكلفة لم تعد تساوي القيمة. فمثلًا، تتسبب ضريبة المبيعات البالغة ١٠٪ في «كذبة» كما في الحالة التالية: تكلفة الكابوتشينو: تسعون سنتًا سعر الكابوتشينو في سوق مثالية في تنافسيتها: تسعون سنتًا سعر الكابوتشينو بعد الضريبة: تسعة وتسعون سنتًا الاستعداد للدفع مقابل الكابوتشينو: خمسة وتسعون سنتًا الكابوتشينو المباع: لا يوجد الضريبة المحصلة: صفر كان من الممكن بيع الكابوتشينو بطريقة تخلق خمسة سنتات كمكسب من مكاسب الفعالية (يتكلف الكابوتشينو تسعين سنتًا، ولكن المستهلكين أعطوا له قيمة خمسة وتسعين سنتًا) ولكن لم يتم تحصيل هذا المكسب بسبب الضريبة. أما ما هو أسوأ، فهو أن الضريبة لم يتم تحصيل أي منها. فإن استطاعت الحكومة أن تلغي الضريبة في حالة مثل هذه، فلن تخسر شيئًا، في حين أن من يشترون القهوة هم الذين سينتفعون من جراء ذلك، الأمر الذي يعد مكسبًا واضحًا تسببت فيه الفعالية. ومن الصعب أحيانًا على جباة الضرائب أن يقرروا متى يفرضون الضريبة (الحالة التي لن يغير فيها فرض الضريبة من سلوك المشترين) ومتى يلغون الضريبة (لأن من يفترض أنهم سيشترونها، سيتجنبونها في كل الأحوال بإعراضهم عن شراء القهوة)، إلا أنهم يحاولون القيام بذلك باستخدام أحد أنواع استراتيجيات تحديد السعر المستهدف التي تحدثنا عنها في الفصل الثاني. فهي تفرض الضرائب المرتفعة عندما تقل الحساسية السعرية لدى الناس. فمثلًا، تفرض الحكومة الضرائب العالية على الجازولين والسجائر ليس لأسباب صحية أو بيئية، وإنما لأن من يشترون تلك المنتجات منهم من لا يمكنه الاستغناء عن قيادة السيارات، ومنهم مدمنو السجائر؛ ولن يغيروا من سلوكياتهم هذه حتى مع الضرائب المرتفعة. وثمة معضلة هنا، فنحن نريد أن نتجنب اللافعالية لأنها تفوت علينا فرصة أن يربح أحد الناس دون أن يخسر أحد. وبالرغم من أن الضرائب تتسبب في حالة من اللافعالية إلا أن معظمنا يعتقد أننا في حاجة إلى الضرائب لإعادة توزيع الدخل (سواء على نطاق ضيق أو واسع) بين الأغنياء والفقراء. يبدو أننا في هذا السياق نواجه هنا أمرين متناقضين، وهما محاولة تجنب الإهدار الذي لا داعي له أي «اللافعالية»، وفي نفس الوقت التأكد من أن الثروة قد وُزّعت على الأقل بشيء من العدل. فما نحتاجه هو طريقة لجعل أنظمتنا الاقتصادية فعالة وعادلة في آن واحد. شرح أرو أن نفس الطريقة يمكن أن تُستخدم عند محاولة دفع التجاوز في الأسواق المتنافسة إلى التوازن: فبدلًا من التدخل في النظام الذي تعمل به الأسواق، فإن الحيلة هي تعديل نقطة بداية كل منها بفرض رسوم وضرائب ثابتة القيمة لا تتغير مهما تغيرت ظروف دافع هذه الرسوم والضرائب. وكمثال على هذه الضريبة ثابتة القيمة، يمكن أن تفرض الحكومة على كل فرد ضريبة تبلغ ثمانمائة دولار، أو تفرضها على كل فرد فوق عمر الخامسة والستين، أو أن تفرضها على كل فرد يبدأ لقب عائلته في شهادة الميلاد بحرف الهاء. والمغزى من هذه الضريبة هي أنها، بخلاف الضريبة على الدخل أو ضريبة المبيعات على القهوة، لا تؤثر على سلوك أحد لأنها ببساطة لا يمكن تجنبها. فهي لا تؤدي إلى فقدان الفعالية مثلما تفعل ضريبة المبيعات. وعلى نفس المنوال، فإن عملية إعادة توزيع الدخل ثابتة القيمة يمكن أن تتم مثلًا بمنح كل فرد يبدأ لقب عائلته بحرف الهاء ثمانمائة دولار، أنا شخصيًّا (ولأنني سأكون من هذه الفئة) سأرحب جدًّا بهذه السياسة. أما في سباق المائة متر، فسيتشابه فرض الضرائب ثابتة القيمة مع تحريك نقاط البداية الخاصة بكل عداء بضعة أمتار إلى الوراء. أما الضرائب على الدخل وضرائب المبيعات، فتشبه طلبك من أفضل العدائين أن يعدو إلى الخلف. فكلا الطريقتين تضمنان تحقيق التعادل في نهاية السباق، ولكن مواصلة تغيير نقاط البداية لن يقلل من سرعة أي عداء منهم. وفي سياق العدْو، من الجلي أن إحدى الطرق للوصول إلى نتيجة متقاربة هي منح العدائين الأبطأ ميزة بدء السباق قبل الآخرين. أما في سياق الاقتصاد، الذي يحتوي بالمعني الحرفي للكلمة على مليارات السلع والرغبات والمواد الخام والمواهب المختلفة، فإن الادعاء بوجود نظرية بدء السباق قبل الآخرين يحمل الكثير من الجرأة. ولكنه ادعاء صحيح، فيمكنك أن تسمح للاقتصاد التنافسي أن يستخدم كل مهارة، وكل مادة خام، بل ويستغل كل فرصة للتجارة، أو للتعاون، أو للتعليم، أو للاستثمار … وفي الوقت نفسه يمكنك أن تستمر في الحصول على نتيجة عادلة بالاستمرار في تغيير نقاط البداية، تاركًا الأسواق المثالية لتقوم بالباقي. معنى ذلك أن الشيء الوحيد الذي تحتاجه في عالم الأسواق المثالية لتحقيق العدل والفعالية في آن واحد هو نظرية «بدء السباق قبل الآخرين»، وهو البرنامج الذي يفرض الضرائب والدعم ذا القيمة الثابتة المناسبة التي من شأنها أن تضع الجميع على قدم المساواة. وعلى هذا فإن السوق المثالية تبحث عن كل فرصة ممكنة من أجل جعل الجميع أفضل حالًا من خلال نقاط بدايتهم المعدلة. والسؤال هو، هل يمكن تطبيق ذلك في الواقع؟ ربما تظن أن فرض الضرائب الباهظة على الدخل الذي كان يكسبه تشامبيرلين سيتسبب في جعل الموقف أفضل، ولكن نوزيك حذرنا أنه إذا لم يكن تشامبيرلين يتمتع بالفعل بلعب كرة السلة، وجثمت على صدره هذه الضرائب الباهظة، فقد يتوقف عن اللعب تمامًا. لذلك، ومع أن الموقف سيبدو وكأنه «عادل» فلن يكون هناك دخل من الضرائب أو كرة سلة؛ يعود هذا بنا إلى مشكلة الضريبة على مبيعات الكابوتشينو مرة أخرى. لذلك، كيف يغدو من المعقول أن نصف توزيع الدخل بأنه «عادل» عندما يفضل كل الأطراف المعنيين فيه — جمهور السلة واللاعب — النتيجة «غير العادلة»؟ نعرف اليوم بفضل كينيث أرو أنه عندما يتعلق الأمر بنجم رياضي معاصر مثل تايجر وودز يكون الحل هو أن نفرض عليه ضريبة ذات قيمة ثابتة تصل إلى عدة ملايين من الدولارات بحيث يظل لديه الدافع لكسب الأموال من لعب مزيد من المباريات، حيث إنه سيدفع مبلغ الضريبة نفسه حتى لو لعب عددًا أقل من المباريات، وهو ما كان سيفعله في نظامنا الحالي لكي يتجنب دفع مبلغ ضخم للضرائب عن دخله. ومن دون شك سيكسب ما يجعله قادرًا على سداد الضريبة، وسيبقى له ما يكفي لشراء سيارة عائلية، ومنزل جميل في مكان معقول. ومن ثم، لن يكون هناك أي نوع من أنواع الإهدار أو اللافعالية في هذا السيناريو، وإنما ستتحقق نتيجة «عادلة» تثمر عن توزيع للثروة أكثر عدلًا. وهذا مستحيل بالطبع. ومع ذلك فلا ينبغي علينا التخلي عن نظرية «بدء السباق قبل الآخرين». وبينما لا يمكننا دائمًا استخدام هذا الأسلوب من الضريبة وإعادة التوزيع ذي القيمة الثابتة، إلا أننا أحيانًا يمكننا أن نفعل ذلك؛ وعندما نفعله فيستحق الأمر أخذ هذه النظرية في الاعتبار لأنها تحافظ على الفعالية وصدق السوق التنافسية في الوقت الذي تضيف فيه جرعة من العدل يسعد الجميع بوجودها. يمكن تطبيق نظرية «بدء السباق قبل الآخرين» لمنع كبار السن من الإصابة بالبرد في الشتاء دون إلحاق الضرر بالبيئة. فمثلًا، يموت خمسة وعشرون مواطنًا مسنًّا بسبب قلة التدفئة في فصل الشتاء ببريطانيا. ولمعالجة مشكلة مثل هذه، قد نخفض الضرائب على الوقود أكثر من تخفيضها على أي سلعة أخرى. ولكن هذه طريقة غريبة نوعًا ما للتعامل مع المشكلة فهي تتماثل مع حل «الجري للخلف». وإذا أرادت الحكومات أن تزيد من عوائدها الضريبية — كل الحكومات تريد ذلك — ستكون أول استراتيجية يمكن تطبيقها هي فرض ضريبة مبيعات واحدة يجري تطبيقها على كل السلع لأن هذا لن يؤثر كثيرًا على قرارات الناس الشرائية. وهناك رأي أكثر دهاء قد يظهر لينادي بتطبيق استراتيجية «السعر المستهدف» التي تحدثنا عنها في الفصل الثاني. ونظرًا لقلة الحساسية السعرية لدى المستهلكين تجاه الوقود لعدم قدرتهم على تقليل استخدامهم له، إذن يجب أن تزيد الحكومة قليلًا من الضرائب المفروضة عليه أكثر من تلك المفروضة على كافة السلع الأخرى، فالمستهلكون لن يغيروا سلوكهم بتخليهم عن استخدام الوقود، وبالتالي يتحقق أقل قدر من اللافعالية. وسيزيد من الأسباب القوية وراء زيادة الضرائب على الوقود الرأيُ الأكثر حنكة الذي سنتناوله بالتفصيل في الفصل الرابع القائلُ بأن الوقود المحلي يعد مصدر طاقة غير متجدد ويسبب التلوث. أما أن تخفض الحكومة الضرائب المفروضة على الوقود وتزيد الضرائب المفروضة على السلع الأخرى، فهي حالة يصعب فهمها إلى أن نضع في الحسبان المسنين المرتعدين من البرد الجالسين في بيوتهم ولا يمكنهم شراء الوقود للمدفأة. فهل يعد هذا أحد القرارات الصعبة التي يتعين على الحكومة في بعض الأحيان اتخاذها؟ ليس بالضرورة. فبدلًا من فرض ضريبة غير مناسبة وجبايتها من الجميع، يكون من الأفضل أن تفرض الحكومة ضريبة معقولة، ولكن تجعل المسنين «يبدءون السباق قبل الآخرين» لأن فقرهم وضعف قواهم الجسدية يجعلهم في حاجة إلى التدفئة أكثر من باقي شرائح المجتمع. والحل ببساطة هنا هو أن تزيد الحكومة من الضريبة على الوقود في حين تدفع للمسنين الإعانات التي تمكنهم من شراء الوقود لمدافئهم. ها نحن قد علمنا أن فكرة «البدء في السباق قبل الآخرين» ستحقق لكبار السن مزيدًا من الفعالية بسبب إعانات الحكومة، وهي الأموال التي لن ينفقوها بالضرورة لشراء الوقود للمدفأة. فليس كل شخص مسن يشعر بالبرد، وحتى من يشعر منهم بالبرد ربما لديه حل أفضل لتلك المشكلة. ولذلك قد يأخذ بعضهم النقود وينتقل للعيش في فلوريدا مثلًا، أو قد يفضل بعضهم الاحتفاظ بالنقود والانعزال في منازلهم. أما من لا يشعرون منهم بالبرد في المقام الأول فسينفقون تلك الأموال في أغراض أخرى. ولكن الأكيد أنه لن يستخدم أي منهم تلك الأموال لشراء الوقود إلا إذا كان في حاجة إلى ذلك، وإذا احتاج فسيكون لديه المال الكافي لشرائه. أما الدرس المستفاد من نظرية «بدء السباق قبل الآخرين»، فهو أنه عندما تظهر مشكلة ما، يستحق الأمر أن نسأل أولًا عمّا إذا كان يمكن معالجتها بإعادة ترتيب نقاط البداية بدلًا من التدخل في السباق نفسه. حقًّا قد لا تكون هذه الاستراتيجية قابلة للتطبيق على نحو دائم ولكن نظرًا لأن الأسواق الحرة تتسم بالفعالية، فإن الأمر يستحق محاولة وضع هذه الفعالية تحت سيطرتنا واستخدامها لتلبية الأهداف الأخرى. سافرنا في هذا الفصل في رحلة خيالية لا تقل في قابليتها للتصديق عن قصة فليتشر ريد. «فعالَم الصدق» عالم تتسم فيه الأسواق بالكمال، والحرية، والتنافسية. وعلى أرض الواقع فنحن سوف نشرف على الوصول إلى عالم ذي أسواق تتسم بالكمال والحرية والتنافسية عندما يبدأ المحامون الناجحون في قول الصدق طوال الوقت. من هذا المنطلق ربما تسأل نفسك الآن لماذا قرأت فصلًا من كتاب، حتى وإن كان فصلًا قصيرًا، يتناول خيالات غريبة لعلماء اقتصاد؟ الإجابة: لأن الخيال يقرب لنا فهم أسباب المشكلات الاقتصادية، ويساعدنا أيضًا على التحرك في الاتجاه الصحيح. وبالإضافة إلى ذلك فنحن عرفنا أن العالم الذي توجد به الأسواق المثالية الممزوجة بطريقة «بدء السباق قبل الآخرين» هو عالم رائع نسعى للوصول إليه. وعرفنا أنه عندما تخفق الأنظمة الاقتصادية في العالم في وظيفتها، يكون السبب في الأغلب هو إخفاق يصيب السوق، وبالتالي لا بد أن نفعل ما في وسعنا لمعالجة هذا الفشل. وتطرقنا بالفعل إلى أحد هذه الإخفاقات، ألا وهي أن بعض الشركات تتمتع بقوة ندرة وتحدد أسعارًا تزيد بكثير عن سعر التكلفة الحقيقي الذي ستكون عليه إذا كانت السوق تنافسية. وهذا يفسر لماذا يعتقد علماء الاقتصاد أن هناك اختلافًا جوهريًّا بين الوقوف في صف الأسواق، والوقوف في صف الشركات ولاسيما في قطاعات تجارية بعينها. فرجل السياسة الذي يقف في صف الأسواق يؤمن بأهمية المنافسة، ويريد أن يمنع الشركات من اكتساب قدر كبير من قوة الندرة. أما رجل السياسة المتأثر بجماعات الشركات الضاغطة، فسوف يفضل عكس ذلك تمامًا. وسواء كانت الشركات تتأثر برجال السياسة أم لا، فإن الشركات التي تتمتع بقوة ندرة تمثل أحد مظاهر فشل الأسواق. وثمة مشكلتان أخريان سنتناولهما في الفصلين المقبلين؛ لنترك بذلك عالم الصدق الفضولي وراء ظهورنا ونواجه عالمنا الحقيقي مرة أخرى.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/4/
الزحام المروري عبر المدن
علمنا من الفصل السابق أن كل شيء يتم على الوجه الأمثل في عالم الأسواق المثالية. كما علمنا أنها أسواق تتسم بالفعالية التامة، والنتائج الخالية من العيوب على جميع الأصعدة فيما عدا مسألة توزيعها للثروة. وعلمنا أيضًا أننا يمكننا إصلاح أي خلل في توزيع الثروة مقدمًا عن طريق نظرية «بدء السباق قبل الآخرين»، وكذلك حل جميع المشكلات على الفور أو على الأقل تلك المتعلقة بتوزيع السلع والخدمات. هذه أمور يُسرُّ المرء عند سماعها، ولكن لماذا إذن قضيت ساعتين عالقًا في زحام المرور وأنا في طريقي إلى عملي هذا الصباح؟ فحركة المرور البطيئة — حتى إن كل سيارة تكاد تلتصق بالسيارة التي أمامها — بمنزلة إهدار أحمق للوقت. وأي من قادة هذه السيارات كان من الممكن أن يصل إلى وسط مدينة واشنطن في خمس عشرة دقيقة فقط لو كان قد استقل حافلة أو شارك الركوب مع شخص آخر في سيارته للاستفادة من حارات الطريق المخصصة للسيارات التي يركب فيها أكثر من شخص والتي لا تعاني أي زحام مروري. فأين الأسواق المثالية إذن؟ والإجابة الواضحة هي أنه بالطبع لا توجد سوق مثالية على الإطلاق وليس فقط فيما يخص قيادة السيارات في الشوارع. أما ما هو أقل وضوحًا فهو أنه يمكن لهذه السوق المثالية أن توجد على أرض الواقع. والنظم الاقتصادية التي تسير دون توقف مفاجئ بوصفها أسواقًا مثالية أو كاملة لا تعتبر نظمًا واقعية أو جاذبة للاهتمام. ومع ذلك، ونظرًا لأن الأسواق المثالية توفر مثل هذا المقياس الواضح، يجد علماء الاقتصاد قدرًا كبيرًا من السهولة في البدء من نقطة هذه الأسواق ومحاولة العثور على حلول لما هو خطأ بدلًا من البدء من نقطة الصفر ومحاولة العثور على حلول لما هو صواب. وسوف تقودنا هذه الطريقة في التفكير فيما يتعلق بالعالم إلى علاج لمشكلة الزحام المروري عبر المدن. الأصل أنني رجل سعيد ولكن تشوب حياتي بعض الأمور التي تثير ثائرتي وأتمنى أن تتغير. أتمنى مثلًا أن لو كنت غير مضطر لتحديث برمجيات جهاز الحاسب الآلي الخاص بي كل عامين بتكلفة ضخمة. وأتمنى أن أستطيع الاعتماد على الأطباء في أن يصفوا لي الدواء المناسب عندما أكون مريضًا. وأتمنى ألا تكون شوارع واشنطن مسدودة بالزحام المروري وممتلئة بالتلوث. الناس ليسوا حمقى: فحقًّا توجد بالتأكيد فائدة تعود على كل من يذهب إلى مكان ما مستخدمًا سيارة، إلا أن هذه الفائدة تأتي على حساب كل المحيطين بهم مثل قائدي السيارات الآخرين المحبوسين وسط الزحام المروري، والآباء والأمهات الذين يخشون ترك أطفالهم يمشون إلى المدرسة، والمشاة الذي يجازفون بحياتهم باندفاعهم بسرعة لعبور الطريق لأنهم ضجروا من انتظار تغير ضوء إشارة المرور، وموظفي المكاتب المتصببين عرقًا الذين لا يقدرون على فتح نوافذ مكاتبهم بسبب ضجيج المرور في الخارج. ونظرًا لأن كل قائد سيارة يتسبب في تعاسة الآخرين، فلا يمكن للسوق الحرة أن تقدم حلًّا لمشكلة المرور. وتعتبر التأثيرات الخارجية الناتجة عن التكدس المروري والتلوث بمنزلة انحراف كبير عن «عالم الصدق» الذي يجعل كل فعل يرجع إلى سلوك أناني يصب في الصالح العام. فأنا على نحو أناني أشتري الملابس الداخلية لأنني أحتاجها، ولكنني بهذا الفعل الأناني أقوم بتوجيه الموارد إلى أيادي أصحاب مصانع الملابس الداخلية دون أن أسبب الضرر لأي فرد آخر. كما يبحث عمال صناعة النسيج في الصين، حيث صنعت الملابس الداخلية، على نحو أناني عن وظائف أفضل، في حين يبحث أصحاب هذه المصانع على نحو أناني عن الموظفين المهرة. وهكذا فكل ما سبق صب في مصلحة الجميع: فالسلع يتم تصنيعها فقط إذا وُجد راغبون في شرائها، ويتم تصنيعها فقط بواسطة أفضل العناصر للقيام بهذه المهمة. وبالتالي تسهم الدوافع الذاتية في أن تعم المصلحة على الجميع. أما سائقو السيارات، فوضعهم مختلف، فهم لا يقدمون للمجتمع تعويضًا عن التكلفة التي ابتلوا بها المجتمع بأسره. فعندما أشتري الملابس الداخلية، يعوض المال الذي أدفعه كل تكاليف صناعة هذه الملابس وبيعها لي. أما عندما أقود سيارتي فإنني لا أحتاج حتى إلى التفكير في التكلفة التي فرضتها على المجتمع بأسره أثناء انتفاعي بالقيادة في طرق بلا رسوم. ولكي تفهم سبب أهمية هذا الفارق، دعنا نتحول إلى المشروبات الكحولية. فعندما كنت طالبًا بالجامعة، كان من عادة الأندية والجماعات بالجامعة إقامة حفلات ضخمة تجد فيها بعض الناس لا يشربون الخمور على الإطلاق، بينما أغلب الحضور يشربون حتى الثمالة. وكان السبب في هذا وجود نوعين من التذاكر: تذكرة «كحولية» تدفع مقدمًا وتسمح لك بتناول الخمور كيفما تشاء، لنقُل إن سعرها كان عشرة جنيات إسترلينية على سبيل المثال (أي ما يعادل نحو خمسة عشر دولارًا آنذاك). أما النوع الآخر من التذاكر فكان أرخص بكثير، ولكنه لم يكن يسمح إلا بالوقوف في أحد الأركان وتناول عصير برتقال سيئ الطعم بينما يزداد الإزعاج الذي يتسبب فيه شاربو الخمر أكثر وأكثر. وكان حضور مثل هذه الحفلات وشرب كوبين من البيرة مكلفًا للغاية ولهذا كان معظم الناس يفضل إما تحقيق أقصى استفادة من قيمة التذكرة الكحولية بتناول كمية غير محدودة من الشراب، وإما التخلي عن تناول المشروبات الكحولية تمامًا. وبالطبع كانت الفوضى هي النتيجة بالرغم من شعور البعض أنها كانت حفلات جيدة. وعندما شعرت الجامعة أن السُكر يتسبب في الفوضى، قررت التعامل مع هذا الأمر في الحفل التالي عن طريق رفع سعر تذكرة المشروبات الكحولية إلى عشرين جنيهًا (حوالي ثلاثين دولارًا آنذاك). ولكن بالرغم من اختيار البعض الاكتفاء بعصير البرتقال أو عدم حضور الحفل على الإطلاق، قرر معظم شاربي الخمر أنه لا مغزى من الحفل دون شراب. وبالتالي كانوا يفرغون على مضض ما في محافظهم مقابل التذاكر الباهظة، وفي وقت لاحق من الحفل كان الكثيرون منهم يفرغون ما في أمعائهم. يبدو أن القائمين على الأمر في الجامعة لم يفهموا المشكلة كما ينبغي. فكل ما فهموه هو أن الطلاب كانوا يفرطون في الشراب، وظنوا على نحو صحيح أن الحل قد يكون في رفع سعر تناول المشروبات الكحولية. والمسألة هي أن هناك طرق مختلفة لوصف سعر تناول المشروبات الكحولية، فهناك سعر أن تكون شارب خمر وهو عشرة جنيهات. وهناك متوسط السعر لكأس الخمر وهو خمسون بنسًا للطالب العادي الذي سيشرب عشرين كأسًا. ثم هناك التكلفة «الحدية» وهي صفر. فبمجرد أن تدفع قيمة التذكرة مقدمًا، يمكنك أن تستمر في الشرب. سؤال: لو كنت أنت المسئول عن هذا الأمر في الجامعة، فهل ستحل المشكلة عن طريق: (أ) زيادة سعر التذكرة المدفوعة مقدمًا؟ أم (ب) تقديم نوع أفضل من عصير البرتقال؟ أم (ج) إلغاء التذكرة المدفوعة مقدمًا وتطالب الأعضاء بسعر ما يتناولونه من شراب؟ ربما سيكون تقديم نوع أفضل من عصير البرتقال حلًّا لطيفًا، ولكن المخبر الاقتصادي السري سيختار الطريقة رقم (ج). لنعود الآن إلى الاختناق المروري، فإذا أردت أن تقدم المشورة لوزير النقل والمواصلات ربما يجدر بك أن تجري له تلك المقارنة بحفل الجامعة الذي ذكرناه. أما الآن، فليس لدى قائدي السيارات إلا خياران، إما دفع رسوم باهظة مقدمًا والقيادة متى يشاءون؛ وإما التخلي عن القيادة تمامًا. فهذا الخيار الثاني أشبه بخيار «عصير البرتقال» في الحفل، والذي سيدفعهم إلى ركوب الدراجات في المقابل أو استخدام المواصلات العامة أو المشي (على الرغم من أنه في حفل الجامعة كلما زاد عدد من يختارون الخيار الأول، يصبح الخيار الثاني أقل جاذبية.) ربما سيكون من المفيد أيضًا أن تقترح عليه بعض الخيارات المتعلقة بتغيير السياسة المتبعة: (أ) كأن يزيد رسوم القيادة المدفوعة مقدمًا؛ أو (ب) أن يقدم مثلًا «عصير برتقال» أفضل (أي المزيد من الحافلات، وتحسين القطارات، وطرق للدرجات، وأماكن لعبور المشاة)؛ أو (ج) أن يلغي الرسوم المدفوعة مقدمًا ويطالبهم بضريبة كل مرة يقودون فيها سياراتهم. وعندئذ يُعرض على كل قائد سيارة نفس الخيارين اللذين واجههما طلاب الجامعة في حفلاتهم، إما دفع مبلغ كبير من المال مقابل كمية غير محدودة من الشراب، أو عدم دفع أي شيء والحصول على لا شيء في المقابل. أي أنه ليس هناك حل وسط. فالطلبة في حفلات الجامعة لم يشعروا بالسعادة لحقيقة أن المشروبات تقدم بسعر خمسين بنسًا (أقل من دولار) في المتوسط، وإنما شعروا بالسعادة لحقيقة أنهم سيحصلون دائمًا على المشروب التالي مجانًا. بالمثل، ليس السبب في زحام المرور حقيقة أن الضرائب على قيادة السيارات في الرحلة خمسين سنتًا في المتوسط ولكنه لحقيقة أن الرحلة التالية ستكون مجانية دائمًا. لا يجب أن ننشغل كثيرًا بالمبلغ الذي يدفعه قائدو السيارات في المتوسط، فبالتأكيد متوسط المبلغ الذي يدفعه أي شخص كضريبة يعد أمرًا مهمًّا بالنسبة لتوزيع الثروة، ولكن بالرغم من أهمية التوزيع إلا أنه ليس له تأثير كبير على ازدحام الشوارع بالسيارات أو تلوث المدن. أما ما يهم كثيرًا فيما يتعلق بمسألة اختناقات المرور فهو التكلفة الحدية التي يتحملها قائدو السيارات؛ أو بعبارة أخرى التكلفة التي يتحملها قائدو السيارات لقيادة السيارة مرة أخرى. فالسيارات في النهاية ليست هي التي تحدث التلوث الشديد أو اختناق المرور وإنما «قيادتها» هي المشكلة. فالجامعات ستشجع على تناول الشراب بكميات معقولة إذا طالبت الطلاب بسعر كل مشروب يتناولونه. بالمثل، ستشجع وزارة النقل والمواصلات على القيادة بطريقة معقولة إذا جعلت قائدي السيارات يدفعون كل مرة يقودون فيها سياراتهم. تحتاج المطالبة بضريبة للتأثيرات الخارجية أن نحقق التوازن بين المتعة والضرر؛ فيجب أن تعكس الضريبة تكلفة التأثير الخارجي … تكلفته فقط وليس أكثر. ويجب أن نهدف لأن نخلق لأنفسنا عالمًا يشعر فيه الناس بالحرية في ممارسة الأعمال التي يستمتعون بها، حتى وإن كانت تسبب قليلًا من الإزعاج للآخرين، ولكنه أيضًا عالم نمتنع جميعًا فيه عن إلحاق الأذى أو الضرر بالآخرين إذا كان منع هذا الضرر يتطلب جهدًا ضئيلًا. لقد اكتشفنا معًا في الفصل الثالث أن الأسواق المثالية تحقق مثل هذا العالم، أو على الأقل داخل مجال عمل تلك الأسواق. فالأسواق المثالية لن تجعلك تبتسم في وجه عابر للطريق، أو أن تبر والديك، ولكنها ستجعلك متأكدًا أنك ستحصل على الكابوتشينو إذا، وإذا فقط، كنت مستعدًا لدفع أكثر من التكلفة الحقيقية، أي التكلفة التي تضم تكلفة الوقت والجهد لكل من النادلة، ومزارعي البن، وأصحاب شركات المقاهي، والمصنعين لآلات صنع القهوة وما إلى ذلك. بعبارة أخرى، الأسواق المثالية تسمح لك بالشعور بحرية التصرف فقط إذا كانت المتعة التي تحصل عليها تفوق العناء الذي وقع لتحصل على تلك المتعة. يفسر هذا السببَ وراء شعور علماء الاقتصاد بالراحة عندما تعمل الأسواق على النحو الأمثل. ولكن يجدر بنا الاحتراس من العديد من إخفاقات الأسواق. كيف تتأكد إذن عندما تقرر ما إذا كنت ستقود سيارتك عبر المدينة أم لا أن النفع الذي سيعود عليك يفوق التكلفة التي أوقعتها على الآخرين؟ لا داعي للقلق حيال ذلك فكل من التكلفة والمنافع تعد جزءًا لا يتجزأ من تعاملات السوق الفعالة. لذلك، فإذا كان سوق تكرير النفط وسوق بيع البنزين من الأسواق المثالية (وهما ليسا بعيدين عن هذا الوصف بعكس الاعتقاد الشائع)، فإن السعر الذي يباع به البنزين يعبر تمامًا عن العناء الذي وقع ليتم تكريره وتوزيعه على محطات الوقود. أما أنا فلن أشتري البنزين إلا إذا كان النفع الذي سأحصل عليه يفوق العناء الذي تطلبه الأمر ليتم تكريره وتوزيعه. أما إذا كان هناك ما يجب أن نقلق حياله، فهو التكلفة والمنافع التي لا تدخل ضمن تعاملات السوق، فالتلوث الناتج عن البنزين يتسبب في التسمم محليًّا والاحتباس الحراري عالميًّا، كما أن غالبية ضرر التلوث الذي يحدث عندما أحرق كمية ضخمة من البنزين لن يقع على شركة النفط. وإنما الخدعة هي محاولة محاكاة الأسواق المثالية بجعل قائدي السيارات يدفعون كل ما تتسبب فيه تصرفاتهم من تكلفة، فمثلما تحملوا التكلفة التي فرضتها شركة النفط في السوق، يتعين عليهم أيضًا تحمل تكلفة ما يسببونه من تأثير خارجي قبل كل شيء. فتكلفة التأثير الخارجي هي التكلفة التي تقع على الآخرين والتي لا يتحملها صاحب السيارة ولا شركة النفط. أصبح لدينا الآن جميع العناصر المتعلقة بفرض ضريبة للتأثير الخارجي. وأصبحنا الآن على علم أنه ربما توجد تكاليف ومنافع للقرارات الفردية أو لتعاملات السوق تؤثر على الآخرين على نحو غير مباشر. ومن ثم قد يتسبب في خلق حالة من اللافعالية (بمعنى: يمكن أن نتصرف على نحو أفضل بأن نسبب النفع لفرد واحد على الأقل، ولا نسبب أي ضرر لأي فرد.) كما علمنا أيضًا أننا إذا أردنا تغيير سلوكنا لتصحيح حالة اللافعالية، فسنظل في حاجة لتغيير الأسعار الحدية، وليس متوسط الأسعار. ثالثًا: لا يجب أن نقلق حيال التكلفة التي ترتبط بتعاملات سوق يعمل على نحو جيد، وإنما يجب أن نقلق حيال تكلفة التأثير الخارجي التي دائمًا ما يتم إهمالها. رابعًا: يجب أن يعكس نظام التسعير الحدي تكاليف التأثير الخارجي بدقة. فلا يكفي أن نمنع أي سلوك لا يروق لنا فحسب، ولكن بدلًا من ذلك، يجب أن نركز على الحالات التي يحصل فيها الفرد الفاعل على قليل من النفع، لكنه يتسبب في إلحاق كثير من الضرر بالآخرين. نظرًا لأن ضريبة للتأثير الخارجي في حقيقتها ضريبة حكومية، فلا تسلم من الخلاف الذي تتعرض له دائمًا الضرائب الحكومية. فالمطالبة بضريبة تأثيرات خارجية دائمًا ما يتم انتقادها من ناحيتين أخلاقيتين متضادتين. هل يتم فرض ضريبة التأثير الخارجي بطريقة غير عادلة؟ فهذه الضريبة لا يتم فرضها على الفقراء بعينهم، وإنما على الأنشطة التي يقوم بها الناس طواعية، فإذا قررت أن تتوقف عن إلحاق الضرر بالآخرين، لن تصبح مضطرًا لدفع ضريبة التأثير الخارجي، صحيح أن الأغنياء يمكنهم تحمل نفقات قيادة السيارات على نحو يفوق الفقراء ولكن هذا الأمر يتماثل في صحته مع القول بأن الأغنياء يمكنهم تحمل نفقة الغذاء أكثر من الفقراء، الأمر الذي قد يعد غير عادل، ولكنك إذا قبلت نظام الأسعار على السلع التقليدية مثل الطعام، فلماذا لا تقبله على مساحة الطريق أو الهواء النظيف؟ ربما ستقول لأن الغذاء والملبس والمسكن لا يمكننا الحصول عليها مجانًا، أو لأنها سلع سريعًا ما تنفد. ولكننا لا نجد مكانًا خاليًّا نسير فيه؛ لأننا نستخدم الطرق مجانًا. سيسعد ما سبق مؤيدي ضريبة الزحام المروري في بريطانيا، ولكنه لن يكون ذا فائدة في الولايات المتحدة التي لا يزال يقود فيها الفقراء السيارات بكثرة، وبالتالي يضطرون إلى دفع الضرائب الضخمة التي يستقطعونها كنسبة مئوية من دخولهم. ولكن هذه المسألة لا ينبغي أن تمثل اعتراضًا غير مقبول لأن الضريبة يمكن تصميمها بحيث لا تعيد توزيع الدخل كثيرًا. وفيما يخص الطرق، يمكن للحكومة أن تلغي رسوم استخدام المركبات بالطرق العامة، وهي الضريبة الضخمة التي يتم دفعها مقدمًا، ثم البدء في فرض ضريبة زحام عليك في كل مرة تقود فيها سيارتك. سيظهر هذا فائدة فعالية ضريبة الزحام دون أن يكون لها تأثير كبير على توزيع الدخل. ومن الممكن تحييد الكثير من جوانب إعادة توزيع الدخل التي تسببت فيها ضريبة التأثيرات الخارجية وفي الوقت نفسه تحافظ على تأثيراتها التي تساعد على زيادة الفعالية. يعد هذا أحد أشكال الضريبة ذات القيمة الثابتة التي تفرض على تايجر وودز التي تحدثنا عنها في الفصل الثالث: إذ يمكننا استخدام الضرائب ذات القيمة الثابتة لإعادة توزيع الدخل دون الإخلال بالفعالية. وبعد أن صدوا هجمة من يتحدثون عن إعادة توزيع الدخل، يبقى رأي آخر على علماء الاقتصاد مواجهته ألا وهو الرأي المتحمس لضرورة فرض ضريبة تأثير خارجي من منطلق الحفاظ على البيئة. فليس كل متحمس لقضايا البيئة معارضًا لضرائب التلوث والزحام، وإن كان البعض يعارضونها؛ والسبب هو أنهم يشعرون أن التلوث يجب أن يتم تجريمه قانونيًّا بشكل عام، بدلًا من أن يكون محظورًا على الفقراء ومباحًا للأغنياء. فلماذا يسمح للأغنياء بإحداث التلوث؟ فهناك بعض جماعات الضغط التي تحتج بشكل عام على ضريبة التأثير الخارجي لأنها تسمح للأفراد بالدفع، ومن ثم الاستمرار في القيام بالأفعال البغيضة. قد تذهب أحد الردود المتحيزة إلى رأي هذه الجماعات إلى أن الأغنياء لا يسببون التلوث على سبيل المزاح. معلوم أنهم الأكثر مقدرة على دفع ضريبة الزحام، ولكنهم لن يغضوا الطرف عنها. ربما سيحرصون أكثر على الذهاب إلى المتجر بالسيارة مرة واحدة بدلًا من مرتين، أو حتى قد يفضلون المشي إلى المتجر القريب بدلًا من القيادة إلى مكان آخر بعيد. فضريبة التأثير الخارجي تجعل البدائل الأخرى تبدو أكثر جاذبية لكل من الأغنياء والفقراء. والأمر الأكثر أهمية في هذا السياق هو أنه لا يجب علينا الخلط بين صرامة تنظيم التأثيرات الخارجية قانونيًّا وبين طريقة تنظيمها. فضريبة الزحام يمكن أن تبلغ دولارًا واحدًا يوميًّا، أو عشرة دولارات يوميًّا، أو ألف دولار يوميًّا. أما ما نعرفه، فهو أنه مهما كانت قرارات المجتمع عن مدى خطورة التأثير الخارجي، فإن فرض ضريبة له تعد من أكثر الطرق فعالية لمعالجة هذه المشكلة. ويمكن أن تكون ضريبة الزحام، على سبيل المثال، إذا صممت جيدًا أكثر الطرق فعالية لتحقيق أي خفض محدد في استخدام الطريق. أما مسألة القدر المرغوب من الخفض فهو سؤال مفتوح للمناقشة، بينما نجد أن ضريبة الزحام تحقق الغرض المنشود منها بغض النظر عن إجابة هذا السؤال. وثمة بدائل لضريبة الزحام التي لم تصل إلى حد منع قيادة السيارات تمامًا. أما المشكلة، فهي أن تلك البدائل لا تنجح هي الأخرى. فمثلًا، يمكن للحكومة أن تعطي لكل صاحب سيارة بطاقة تسمح له بالقيادة مسافة ٢٠ ميلًا أسبوعيًّا. ولكن ستتسبب تلك الخطة على الفور في أن يرغب بعض الناس، معظمهم من الفقراء، في بيع تلك البطاقات إلى أناس آخرين، معظمهم من الأغنياء، فالفقراء يفضلون الحصول على النقود، والأغنياء يفضلون الحق في القيادة. ومتى سمحت الحكومة بالاتجار بتلك البطاقات، فستكون ببساطة قد فرضت ضريبة زحام بطريقة أخرى، وربما بطريقة أقل فعالية بصورة طفيفة نظرًا لما ستسببه تلك التجارة من مشاحنات. (فالثمن سيكون أي قيمة سوقية يحددها السوق لهذه البطاقات). وإذا منعت الحكومة المتاجرة بتلك البطاقات، فستوصف الخطة باللافعالية بشكل واضح لأن الراغبين في المتاجرة سيُمنعون من ذلك. أما البدائل الأخرى مثل رسوم انتظار السيارات المرتفعة، فتعد أقل فعالية، وبالرغم من صعوبة شرح ذلك بإيجاز إلا أنني سأعطيك مثالًا. فقد يمكن أن تثني رسوم انتظار السيارات العالية بعض قائدي السيارات عن القيادة؛ ولكن كيف ذلك والعلاقة بين القيادة وانتظار السيارات ليست مباشرة؟ فبعض قائدي السيارات يقضون وقتًا إضافيًّا في الشوارع باحثين عن مكان خالٍ للانتظار بسياراتهم. فإذا رغبت الحكومة في إثناء قائدي السيارات عن القيادة بتحميلهم بعض التكاليف، فمن الأفضل أن تطلبها منهم مباشرة وتنفق العائد في عمل آخر مفيد. سوف تشكو بعض جماعات الضغط من أن ضريبة التأثير الخارجي ليست صارمة بما يكفي، في حين أن هناك آخرين يشكون أنها قاسية للغاية. ويذهب دفاع علماء الاقتصاد في هذا الصدد إلى أن ضريبة التأثير الخارجي أكثر الطرق الصارمة فعالية. وهكذا يمكن لعالم الاقتصاد في أي أمر آخر أن يقترح بديلًا، باستخدام ضريبة التأثير الخارجي، التي ستعود بالنفع على بعض الناس ولا تسبب الضرر لأحد. يوضح الجزء السابق أن مستوى أي ضريبة تأثير خارجي يمكن أن يثير جدلًا واسعًا. أما بالنسبة للمخبر الاقتصادي السري، الذي يسعى لإعادة خلق «عالم الصدق». فضريبة التأثير الخارجي المثالية تعكس كل التكاليف، التكاليف الخارجية الحقيقية «فقط». ويستحق الأمر التفكير فيما يجب أن يكون عليه النظام المثالي للتأثيرات الخارجية التي تتسبب فيها قيادة السيارات. فأي شخص تتسبب سيارته في انبعاث ملوثات تدمر البيئة المحيطة يجب أن يدفع ضريبة مقابل التلوث الذي سببه إذا كان يقود سيارته في منطقة ذات كثافة سكانية عالية. كما سيكون هناك نوع آخر من الضرائب على انبعاث ثاني أكسيد الكربون كل مرة تتم فيها القيادة؛ لأن هذا يسهم في تغير المناخ، بغض النظر عن مكان هذا الانبعاث على سطح الكرة الأرضية. وفي كلا الحالتين، فثمن الرحلة سوف يعتمد أيضًا على مدى نظافة عادم المركبة. سيدفع قائدو السيارات رسومًا إضافية عند قيادتهم في الأماكن المزدحمة في ساعات الذروة. أما الحافلات القديمة التي تنبعث منها أسوأَ أنواع الملوثات، فسيتم فرض ضرائب باهظة عليها، الأمر الذي سيدفعها إلى تجديد محركاتها. كما يجب فرض ضريبة أيضًا على المركبات الثقيلة التي تسير على الجسور والطرق الضعيفة. كما سيتم فرض ضريبة على السيارات الرياضية الضخمة لوجود احتمال كبير في تسببها في حوادث يقتل فيها المستخدمون الآخرون للطريق. قد تبدو هذه وجهة نظر معقدة، فهل يمكنها أن تنجح؟ من السهل تخيل أن كل سيارة بها جهاز حاسب آلي صغير متصل بنظام عالمي لتحديد المواقع للكشف عن أماكن الزحام، كما سيراقب ذلك الحاسب الآلي أيضًا عادم المركبة لينير عدادًا على اللوحة الأمامية للسيارة بالسعر الذي وصلت إليه الضريبة، وربما سينير أيضًا بالإرشادات المفيدة للسائق مثل: «رحلتك هذه تكلفك الآن تسعة سنتات في الدقيقة يا «تيم»، ألا تعلم أنك يمكن أن تخفض ذلك المبلغ بمقدار النصف إذا ضبطت محركك؟» قد نصل إلى هذا المستوى من التكنولوجيا في يوم من الأيام بل إن هناك قدرًا كبيرًا منها يتوافر بالفعل، ولكن تبقى مشكلة أخرى ألا وهي معرفة التكلفة الحقيقية للتأثير الخارجي. فقد يمكن للحاسب الآلي أن يقيس الزحام والتلوث، ولكن ما تكلفة ضياع وقت الآخرين التي يتسبب فيها زحام المرور؟ وما تكلفة تسميم الناس بالمواد الجسيمية والبنزين؟ للتأثيرات الخارجية تكلفة وفوائد حقيقية من الصعوبة الشديدة قياسها، مثل: الوقت والصحة والهدوء وربما الموت أحيانًا. لتوضيح ذلك ربما يكون من المفيد التركيز على المثال المحدد المتعلق بتسعير التأثيرات الخارجية التي تتسبب فيها قيادة السيارات. معلوم أنه من الصعب قياس الحقائق المادية، مثل: مدى ما يمكن أن يصيب الطريق من تلف إذا سارت مركبة أخرى على الطريق، أو كم الضوضاء الذي ستحدثه، أو عدد الحوادث، وكم التأخر عن الوصول الذي ستتعرض له المركبات الأخرى، وكم التلوث، وكم الأضرار الصحية التي سيتسبب فيها التلوث. وفي الوقت نفسه سيكون من الصعب أيضًا قياس النتائج النفسية مثل: كم سيبالي الناس بأنواع الضرر المختلفة كتلوث الهواء والضوضاء والتأخير عن الوصول في الموعد والتوتر العصبي، وحتى المرض والموت. ناهيك عن أن لكل فرد رؤية مختلفة فيما يخص هذه الأمور. والتخلي عن مواجهة تلك المشكلات من الأمور المغرية للغاية. وبالتأكيد ليس من الممكن تحديد قيمة معينة للضوضاء أو التأخير، وبالتأكيد يبدو من المستحيل تحديد قيمة معينة لحياة الإنسان. ولكننا سنضحك على أنفسنا إذا ظننا أننا يمكننا الانسحاب وعدم اتخاذ هذه القرارات. فكل سياسة تتبناها الحكومة، وكل خيار فردي تتخذه أنت، يحمل في طياته تقييمًا أجري تجاه ذلك الأمر حتى وإن لم يستطع أحد الاعتراف بقراراته الخاطئة ولو حتى أمام نفسه. فنحن كأفراد نتخذ دائمًا قرارات تهم بيئتنا المحيطة ووقتنا والحياة التي نعيشها. فإذا دفعت مزيدًا من المال مقابل المعيشة في شقة أو في غرفة في فندق بعيدًا عن الضوضاء، فإنك قد قدرت ضمنيًّا قيمة الهدوء والسكينة. وإذا قررت انتظار الحافلة بدلًا من إيقاف سيارة أجرة، فقد قدرت ضمنيًّا قيمة وقتك، وإذا قررت ألا تزعج نفسك بشراء جهاز إنذار حريق في منزلك، تكون قد وفرت الوقت والتكلفة مقابل رفع احتمال تعرضك للموت. ومع ذلك، فعندما تتخذ أيًّا من هذه القرارات، فإنك لا تصارح أحدًا، ولا حتى نفسك، بالسعر الذي حددته للهدوء أو للوقت أو للحياة. وتتخذ الحكومة أيضًا قرارات تعكس إلى أي مدى تساوي حياة المواطنين عندها. فهل يجب على الحكومة أن تقوم بتركيب لافتات مرور إضافية أو أن تنفق مزيدًا من الأموال على شراء كاميرات لرصد السرعة في الشوارع، أو أن تقوم بتحسين الرعاية الصحية، أو أن تمول أبحاث مرض السرطان؟ أو ألَّا تفعل أيًّا من تلك الأمور وتخفض الضرائب في المقابل، أو أن تقوم بتحسين التعليم بالجامعات، أو الاعتناء بتجميل المحميات الطبيعية الوطنية؟ فمثل تلك القرارات يجب أن تؤخذ، وبمجرد أن تؤخذ تجد معها افتراضات بشأن قيم شخصية ومن ضمنها قيمة حياة الإنسان. أما تقدير ضريبة للتأثير الخارجي، فهو أمر عسير؛ لأنها إذا حُددت كما ينبغي، فسيتطلب الأمر تبريرًا وشرحًا لكل تلك الافتراضات. أما تركها هكذا دون تبرير أو شرح فسيتركنا تحت رحمة الانجراف العشوائي للعملية السياسية في أحسن الأحوال، وفي أسوئها سيتركنا خانعين لرغبات جماعات المصالح الخاصة. وهناك مصدران مهمان من المعلومات عن مفضلات الناس، ألا وهما: أسعار المنازل، والرواتب. فأسعار المنازل تحتوي على معلومات مدمجة بها فيما يتعلق بالقيمة التي يحددها الناس لشتى جوانب الحياة: كالمتاجر، والمساحات الخضراء، وانخفاض نسبة الجريمة، والهدوء، وشعاع الشمس الذي يدخل من النافذة في الصباح، وهكذا. يمكن قياس بعض تلك الأمور بدقة: فمثلًا سعر منزلين متطابقين يقع أحدهما أمام الآخر في نفس الشارع؛ سيعكس مدى تفضيل المشترين للمنزل المواجه لأشعة الشمس. كذلك يمكن للرواتب أن تعكس المعلومات إذا كان هناك فرق في الرواتب بين وظيفتين متشابهتين في المهارات المطلوبة، ولكن تختلف مخاطر كل منهما. ولكن ثمة عيوب لهذه الطريقة: فماذا إذا كان كل من هذا الهدوء والسكون تجده في آن واحد في شارع مغلق في نهايته، يُعد بمنزلة مكان آمن ليلعب فيه أطفالك، كما سيكون منعزلًا وبالتالي سيوفر لك في فاتورة التدفئة؟ فكم بالضبط من الخمسة عشر دولارًا أسبوعيًّا تدفعه مقابل الحصول على مكان هادئ؟ ماذا إذا كانت الوظيفة في منصة النفط ذات الراتب المرتفع ولكن مخاطرها كبيرة تتطلب منك ألا تشرب الخمر طوال ستة أسابيع وأن تقضي عطلات نهاية الأسبوع كلها دون مغادرة محل العمل؟ ربما لا يكون للراتب أي علاقة بالمخاطر وإنما له علاقة بالإزعاج الذي تسببه مثل هذه الوظيفة. سيغدو من الصعب دائمًا التعرف بسهولة على هذه العوامل المختلفة، ومن المستحيل أن تعرف قدر النجاح الذي حققته في مهمتك. ولكن إذا تزود خبراء الاقتصاد بالمعلومات الكافية يمكنهم أن يحصلوا على ما يصفونه بأنه محاولة جيدة. والمشكلة الثانية هي أنك عندما تشتري جهاز إنذار الحرائق، ربما تكون ظننت أنه سيقلل احتمال موتك بنسبة واحد في الخمسين مليونًا، بدلًا من واحدًا في المليون. لهذا وقبل أن تتعجل الوصول لاستنتاجات فيما يتعلق بالقيمة التي تساويها حياتك بالنسبة لك، نحتاج بالفعل لأن نعرف حقيقة الكيفية التي ظننت بها أن جهاز إنذار الحريق سينقذ حياتك، وإدراك أنك وعلى نحو رشيد قد لا تعبأ بإنفاق قدر كبير من الوقت لمعرفة ذلك. ونظرًا لأن تلك الطرق مثيرة للجدل وتفتقر إلى المثالية، فهي تعكس افتراضية مهمة في علم الاقتصاد، ألا وهي: أنه لا أحد سيهتم بشأنك مثلما تهتم أنت. إن وضع سعر لضريبة التأثير الخارجي لا يعتمد على المعلومات المشكوك في صحتها فيما يتعلق بالقدر الحقيقي لأهمية الحد من التأثيرات الخارجية بالنسبة لنا مثل: الضوضاء، والحوادث، والزحام. ولكن ليست هذه هي الفجوة الوحيدة في معلوماتنا؛ فنحن لا نعرف أيضًا أرخص السبل للحد من الضوضاء، والحوادث، والتلوث، والزحام. ويأتي وضع سعر لضريبة التأثير الخارجي ليحاول سد هذه الفجوة الثانية. والميزة الحقيقية لضرائب التأثيرات الخارجية هي أنها تسد الفجوة الثانية في معلوماتنا، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يعرف أرخص الطرق لحل مشكلاتنا الخاصة بزحام المرور، ولكن ضريبة التأثير الخارجي تأتي بالتلوث والزحام وباقي المشكلات إلى عالم الصدق الذي تخلقه لنا الأسواق. وطالما اضطر الناس إلى مواجهة الحقيقة، أو على الأقل تقدير ما تتسبب فيه تصرفاتهم من تكلفة، فإنهم سيجدون طريقة يقللون بها تلك التكلفة. وكلما مُنح هؤلاء الناس فترة أطول لإظهار ردود أفعالهم، تصبح هذه الردود أكثر ابتكارًا وإثارة للدهشة كما سنرى معًا في الصفحات المقبلة. يعتقد المؤيدون لضريبة الزحام أن إقناع الناس بإيجاد وسيلة لتقليل قيادتهم للسيارات أسهل من إقناعهم ببناء منازلهم بطريقة معمارية مبتكرة وإن كانت غير مناسبة للسكنى. وأفادت توقعاتهم أن المجتمع لن يتغير على المدى القصير، أما على المدى البعيد، فذهبوا إلى أن المجتمع سيصبح مكانًا نستطيع فيه قيادة سياراتنا بطريقة أكثر أمنًا وسلاسة. يمكن لضريبة الزحام أن تغير جميع القرارات غير الهامة التي نتخذها كل أسبوع، مثل: هل من الأفضل أن نقود سياراتنا إلى المتجر، أم نستقل الحافلة، أم نمشي إلى المتجر القريب، أم نشتري الطعام عن طريق الإنترنت؟ ولكن هذه الضريبة تقيس أيضًا القرارات الهامة. ففي كل عام، يغير واحد من كل ثلاثة وظيفته، ويغير واحد من كل سبعة مكان إقامته؛ وكل مرة يحدث هذا، توجد فرصة سانحة لإعادة النظر في خيارات السفر في ضوء ضريبة الزحام. وهذا أيضًا له تأثير الدومينو حيث إن التغيرات في السلوك تدعم بعضها بعضًا. فمثلًا إذا زاد عدد الركاب الذين يركبون الحافلات، فستزيد المساحات الخالية في الشوارع، وستتحرك الحافلات بسرعة أكبر … وبالتالي ستدار بتكلفة معقولة في كثير من الأحيان. وإذا زاد عدد الناس الذين يتشاركون الركوب في سيارات مستأجرة، فسيمكن لكل واحد منهم العثور بسرعة على شخص آخر يسلك نفس طريقه. وإذا زاد عدد الناس الذين يحاولون توفير ضريبة الزحام عن طريق العمل من المنزل يومين أسبوعيًّا أو الذهاب إلى العمل في أوقات مختلفة من النهار، فستجد الشركات طرقًا لتوفر لهم سبل الراحة. وقد يحاول بعض الناس الانتقال للعيش في منازل بجوار عملهم، أو قد تنتقل الشركات إلى أماكن ريفية لتسمح للعاملين بها بالذهاب منها وإليها دون دفع ضريبة زحام مرتفعة. وباختصار، نحن لا نعرف. فالجانب الجذاب في ضريبة التأثير الخارجي هو أنها تواجه المشكلة إلا أنها لا تقدم أية افتراضات بشأن الحل. فضريبة الزحام تعطي إشارة لقائدي السيارات مفادها: عندما تقود سيارتك في المدينة في ساعة الذروة، تكون قد فرضت تكلفة على كل من حولك. ويصبح لدى قائدي السيارات خياران: إما أن يدفعوا لهم تعويضًا، أو أن يجدوا طريقة لتجنب فرض تلك التكلفة على من حولهم. وهناك العديد والعديد من السبل التي يمكن من خلالها تجنب تلك التكلفة، ويمكن للسوق أن تقدم البراعة التي يمكنها الكشف عن هذه السبل. فعندما لا توجد التأثيرات الخارجية، تضع الأسواق في اعتبارها تلقائيًّا تلك التكلفة، وتوفر الدوافع للمتسببين فيها لتقليلها. أما عندما توجد التأثيرات الخارجية، فلا يرى السوق تلك التكلفة، ولكن الأنظمة مثل ضريبة التأثير الخارجي هي التي تقدم الإشارة المفقودة لوجود تكلفة. عندما أعلنت لندن عن منطقة يُطبق فيها ضريبة زحام في مطلع عام ٢٠٠٣م (كانت الضريبة تبلغ حوالي ٥ جنيهات إسترلينية يوميًّا أي تقريبًا ٩ دولارات لقيادة السيارة إلى وسط المدينة)، جاءت ردود أفعال الناس أسرع كثيرًا مما توقع النقاد. فبعد عام واحد، قلت السيارات على الطريق بمقدار الثلث، وزادت شعبية وسائل النقل المعفاة من هذه الضريبة؛ وزاد ركوب الحافلات بنسبة ١٥٪، وزاد ركوب الدراجات البخارية بنسبة ٢٠٪، وزاد ركوب الدراجات الهوائية بنسبة ٣٠٪. أما قائدو السيارات الذين لم يعودوا يدخلون إلى المنطقة الخاضعة للضريبة فقد اختاروا مجموعة من الحلول: لجأ ربعهم إلى الدوران حول المنطقة الخاضعة للضريبة، واتجه ٥٥٪ منهم إلى ركوب المواصلات العامة، واستخدم ٢٠٪ منهم البدائل مثل الدراجات، أو ركوب السيارات المشتركة، أو العمل بضعة أيام في الأسبوع من المنزل. وبينما تراجع عدد رحلات السيارات، تراجعت معه — وعلى نحو أكبر — نسبة التأخر بسبب الزحام، مما يعني أن ضريبة الزحام سمحت بأن تُستخدم الشوارع بطريقة أكثر فعالية. وبينما أصبح لدى الناس مزيد من الوقت لكي يكيفوا أنفسهم مع ضريبة الزحام، فإن تكلفة التعامل على نحو فعال مع التأثير الخارجي ستنخفض أكثر. والمشكلة هي أن المتسببين في التلوث سيكذبون على المسئولين فيما يتعلق بالتكلفة الحقيقية لتقليل أو التخلص من التلوث. وفي النهاية، فحتى تنفس البشر يطلق الملوثات حيث ينتج عنه ثاني أكسيد الكربون. ولكن من الصعب أن يطالبنا المسئولون يومًا أن نتوقف عن التنفس للحد من التلوث. إذن فأي نوع من التلوث يجب تقليله؟ وكيف؟ هل عن طريق اللجوء إلى وسائل مختلفة لتوليد الطاقة؟ أم بتقليل استهلاك الطاقة؟ أم عن طريق وسيلة أخرى؟ فقط اسأل المتسببين في التلوث وسيخبرونك جميعًا أن تقليلهم للتلوث يشبه التوقف عن التنفس، فسيكون من المكلف جدًّا إيقافه، ولهذا فيجب أن يقوم بالتغيير شخص آخر. ولكن إيجاد الحقيقة ليس صعبًا للغاية، حيث يمكن للمسئولين معرفة تكلفة تقليل التلوث إما عن طريق مطالبة الناس بتغيير سلوكياتهم، أو مطالبتهم بدفع ضريبة. فليس عليهم سوى معرفة القرار الذي سيتخذونه. وبعبارة أخرى الحكم على الناس وفقًا لأفعالهم. وبالفعل حاولت وكالة حماية البيئة اتباع هذه الطريقة مع انبعاثات غاز الكبريت. فأقامت مزادًا لبيع حق إطلاق الكبريت الذي يسبب الأمطار الحامضية، يتم فيه منح الملوثين حصصًا من تصاريح إطلاق ذلك الغاز، بحيث يمكنهم إما شراء مزيد من التصاريح من المزاد، أو تقليل التلوث بالتوقف عن العمل، أو تركيب أجهزة تنظيف غاز الكبريت، أو استخدام فحم أكثر نظافة. فعندما حاولت وكالة حماية البيئة أن تطلب منهم تركيب أجهزة تنظيف الغاز، رفض مولدو الطاقة زاعمين أن تركيب مثل تلك الأجهزة أمر مكلف للغاية، كما مارسوا ضغوطًا لإيقاف هذا القانون الإجباري. قدرت وكالة حماية البيئة أن تكلفة تقليل انبعاث ثاني أكسيد الكبريت بمقدار طن واحد ستبلغ ما بين ٢٥٠ دولار إلى ٧٠٠ دولار، وقد ترتفع إلى أن تصل إلى ١٥٠٠ دولار. ولكن عندما أجرت وكالة حماية البيئة المزاد عام ١٩٩٣، قام عدد قليل جدًّا من الشركات المتسببة في التلوث بتقديم عطاءات مرتفعة، كانت الشركات تبالغ في تكاليفها. وبحلول عام ١٩٩٦ انخفضت أسعار التصاريح إلى ٧٠ دولارًا للطن، ولكن حتى مع ذلك السعر ظلت العديد من الشركات المتسببة في التلوث تشتري الفحم النظيف أو تركب أجهزة تنظيف الغاز بدلًا من شراء تصريح للاستمرار في تلويث البيئة. واكتشف المسئولون أن التخلص من ثاني أكسيد الكبريت كان رخيصًا إلى درجة أن عدد من كانوا مستعدين لأن يدفعوا الكثير من أجل الحصول على حق الاستمرار في إطلاقه كان قليلًا. وفي نهاية المطاف، كانت الجماعات الطلابية البيئية هي الوحيدة المستعدة لدفع أسعار التصاريح المرتفعة، إذ كانت تشتري تصريحًا واحدًا في محاولة للفوز بخمس عشرة دقيقة من الشهرة. أما الرائع في هذا المزاد، فلم يكن في تقليل ملوثات الكبريت — فقد كان من الممكن سن قانون يفرض ذلك — وإنما أنه جعل المسئولين يكتشفون التكلفة «الحقيقية» لأجهزة تنظيف الغاز. فلقد شكلت الأساس لتشريعات تالية: وهكذا أفاد المزاد في تجنب وضع القوانين عن جهل ووضعها في ظل المعرفة الكاملة بالتكلفة (المعقولة). ومثال على ذلك تايوان التي تقع شمال شرق الصين، والتي بدأت بالفعل في تنفيذ خطة مشابهة. يُعنى الآن علماء الاقتصاد بتنفيذ نفس نوع المزاد لبيع تصاريح إطلاق غازات ثاني أكسيد الكربون على أمل تقليل تأثيرات تغير المناخ، وثمة جدال واسع حول تكلفة ذلك. وفي حقيقة الأمر فإن مزادًا لبيع تصاريح استخراج النفط والفحم والغاز الطبيعي، سرعان ما سيخبرنا عن حقيقة تلك التكلفة. يمكن أن يبدأ المزاد تدريجيًّا: ففي عام ٢٠٠٧م يُجرى المزاد على تصاريح استخراج نفس أعداد الأطنان من الكربون التي استُخرجت عام ٢٠٠٦م. ويتطلب ذلك أن ينمو الاقتصاد دون أن تنمو معه الغازات الملوثة المنبعثة. فإذا كنا سنصدق العديد من حماة البيئة، فلن يبيع المزاد كل التصاريح لأن إجراءات الفعالية الأساسية للطاقة لا تتكلف شيئًا كما سنعرف معًا بعد قليل. لذلك، وخلال السنوات القليلة المقبلة ستجرى المزادات على عدد أقل من التصاريح. فربما ستنخفض انبعاثات الكربون أسرع من عدد التصاريح؛ لأن المزايدين سيشترون التصاريح ويدخرونها. ولن يسبب هذا مشكلة؛ فسيتم إطلاق الملوثات في كل الأحوال ولكن إطلاقها فقط سيتأخر بعض الشيء. أما إذا اتضح أن التصاريح باهظة الثمن، فسنكون قد حصلنا على المعلومة من مصدر موثوق به. ويمكننا التساؤل عما إذا كانت تكاليف تغير المناخ أكثر من تكلفة تقليل إطلاق الغازات الملوثة. ولكن يعتقد العديد من علماء الاقتصاد أن تصاريح إطلاق الكربون، مثل تصاريح إطلاق الكبريت في كاليفورنيا سرعان ما ستكشف أن تكلفة عملية التخلص من الكربون أرخص مما توقعنا، وسنتساءل عن السبب وراء تأخرنا في البدء في هذه العملية. «كيف أتيت إلى هنا اليوم؟» «معذرة؟» أصابتني الدهشة أثناء دخولي لحلقة نقاشية نظمتها إحدى الجمعيات الخيرية لحماية البيئة عندما أخذ أحد أعضائها من الشباب المتحمسين يعذبني بهذه الأسئلة حتى قبل دخولي من باب ردهة المحاضرة. «كيف أتيت إلى هنا اليوم؟ نحتاج أن نعرف الإجابة من أجل برنامجنا لتعويض انبعاثات الكربون». «ما برنامج تعويض انبعاثات الكربون هذا؟» «نريد أن نجعل جميع اجتماعاتنا متعادلة الكربون بحيث نسأل كل من يحضر هذه المحاضرة عن المسافة التي قطعها ووسيلة النقل التي استقلها، ثم نقوم بحساب كمية ثاني أكسيد الكربون التي انبعثت، ونغرس الأشجار لكي نعوض هذا الانبعاث.» وهنا يكاد يكشف المخبر الاقتصادي عن وجهه، فقلت له: «الآن فهمت. في هذه الحالة إذن لقد جئت من أستراليا بسفينة بخارية تعمل بفحم الإنتراسيت.» «معذرة … كيف تتهجى الإنتراسيت؟» «إنه نوع من أنواع الفحم، قذر للغاية، كمية هائلة من الكبريت، أوه!» هنا أعطته زوجة المخبر الاقتصادي دفعة قوية في ضلعه: «تجاهله، لقد قدنا نحن الاثنان الدراجات إلى هنا.» «حقًّا!» وبغض النظر عن كون هذه القصة مثالًا جيدًا عن الكيفية التي يمكن أن يثير بها أسلوب مخبر الاقتصاد الإزعاج، أما هذه القصة الحقيقية فأتمنى أن تثير بعض الأسئلة. مثل لماذا تنظم إحدى الجماعات الخيرية لحماية البيئة اجتماعًا لتعويض انبعاثات غاز الكربون؟ والإجابة الواضحة هي «حتى تجري اجتماعها دون المساهمة في تغير المناخ». وهذا حقيقي، ولكنها إجابة مضللة. فقد كان المخبر الاقتصادي بداخلي يبحث عن أمور من منظور الفعالية. فإذا كان غرس الأشجار وسيلة جيدة للحد من مشكلة تغير المناخ، لماذا لا ننسى أمر الاجتماع ونذهب لغرس أكبر كمية ممكنة من الأشجار؟ (في تلك الحالة يجب أن يقول الجميع إنهم أتوا إلى الاجتماع بالباخرة.) أما إذا كانت زيادة الوعي هي المسألة المهمة، فلماذا لا ننسى أمر الأشجار ونعقد مزيدًا من الاجتماعات؟ بعبارة أخرى، لماذا تكون «متعادلًا كربونيًا» بينما يمكنك أن تكون «أفضل كربونيًا»، وخاصة أن الاجتماع لم يكن متعادل البنزين، أو متعادل الرصاص، أو متعادل الجسيمات، أو متعادل الأوزون، أو متعادل الكبريت، أو متعادل الزحام، أو متعادل الضوضاء، أو متعادل الحوادث؟ فبدلًا من التفكير في ما إذا كنت ستقوم بتحسين البيئة بطريقة مباشرة (بغرس الأشجار)، أو بطريقة غير مباشرة (بتشجيع المناقشات)؛ كانت الجمعية الخيرية تبذل طاقة هائلة لكي تظل «متعادلة» على نحو دقيق، ولكنها لم تكن متعادلة على نحو دقيق فيما يخص جميع التأثيرات الخارجية، ولا حتى بعض السموم البيئية، وإنما كانت تحافظ على تعادلها مع نوع واحد من الملوثات: ألا وهو ثاني أكسيد الكربون. بل وكانت تفعل ذلك علانية. ومن وجهة نظر متعاطفة يمكن القول بأن الجمعية الخيرية كانت تهدف إلى أن تكون بمنزلة «قدوة حسنة»، هذا إذا كان التصرف بحماقة يعتبر قدوة حسنة، أما من وجهة نظر غير متعاطفة فإن الجمعية كانت منغمسة في سلوك أخلاقي زائف. قد تجعل هذه الفقرة المنطقية علماء الاقتصاد يبدون مهتمين أكثر بمصالحهم الخاصة، ولكنها تعد بمنزلة إيضاح مهم لنقطة أشمل. فاستعراض تلك الجمعية البيئية للأخلاقيات يمكن أن يكون مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بحقيقة أن السياسات العامة لا توضح التكلفة البيئية لمعظم أفعالنا. وإذا أوضحتها، فسيحاول المدافعون عن حماية البيئة الدفاع عن رأيهم من وجهة نظر اقتصادية؛ وسوف نرى الكثير من الشعارات الأخلاقية في المناقشات البيئية، أما البيئة نفسها فيجب أن يتم التعامل معها بطريقة أكثر فعالية. في عالم تعد فيه المحافظة على البيئة مجرد قضية أخلاقية، لا يستطيع المهتمون بالبيئة أنفسهم تحديد تأثير القرارات اليومية على البيئة. فأيهما أسوأ: حفاضات الأطفال التي يتم التخلص منها (التي تتجمع وتملأ مقالب القمامة)، أم الحفاضات القابلة للغسل (عندما يتم استخدام الكهرباء وما ينتج عن الغسيل من مركبات عضوية ملوثة)؟ فحتى لو كنت تتحلى بأعظم إرادة في العالم، ستواجه صعوبة في اتخاذ القرار الصحيح. والأهم من ذلك، أن مشكلة الحفاضات — مثلها في ذلك مثل أي قضية بيئية، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، فلن يتم حلها بواسطة قلة قليلة ممن يجادلون ولا يستطيعون حسم أيهما التصرف الأخلاقي الفردي الأنسب. وبينما تفتقر القلة المحبة للبيئة إلى الإشارات الصحيحة فيما يتعلق بالدمار البيئي للعمل بموجبها، فإن أغلبية الناس لن يزعجوا أنفسهم حتى إذا فهموا المشاكل البيئية. وفي الحقيقة فإن كلًّا من المعلومات والدوافع ضروريتان، وكما تناولنا في الفصل الثالث، فإن الأسواق يمكن أن توفرهما. لطالما كان علماء الاقتصاد في طليعة من يعنون بتحليل المشاكل البيئية، وهذه الصعوبة المزدوجة هي السبب وراء تأييدهم فكرة فرض ضرائب التأثيرات الخارجية. معلوم أن علماء الاقتصاد يهتمون بالبيئة إلا أنهم يحلمون أيضًا بألا تقتصر القضية على مجال للسلوكيات الأخلاقية الزائفة فحسب، وإنما تصير قضية منصهرة في الأسواق وعالم الصدق الذي سيمدنا بكل من المعلومات والدوافع الضرورية لإقناع عوام الناس بالتصرف بقدر من المسئولية تجاه البيئة. ففي مثل ذلك العالم، سيصبح لدينا جميعًا إشارات واضحة عن تكاليف أفعالنا وذلك بسعر السوق. فقد يتم فرض الضرائب على صناعة اللدائن لأنها لا تتحلل عضويًا، لتتجمع وتملأ مقالب القمامة عن آخرها. فستثني هذه الضريبة الناس عن استخدام العلب والأكياس البلاستيكية، وبطانات الحفاضات البلاستيكية، التي يتم التخلص منها. وسيستخدم الناس البلاستيك باهظ الثمن فقط إذا كان استعماله يستحق دفع التكلفة الإضافية — ربما سيفلح ذلك في حالة الحفاضات، ولكنه قد لا يفلح في حالة العلب البلاستيكية. وسيتم فرض ضريبة لتوليد الكهرباء التي تسهم في تغير المناخ هي الأخرى، الأمر الذي سيزيد من أسعار الكهرباء إلا إذا كان بإمكاننا تطوير وقود أنظف في احتراقه، حتى يصبح لدى من يغسلون الحفاضات ليعيدوا استعمالها وكذلك جميع الناس الآخرين؛ دافع لشراء مزيد من الغسالات الكهربائية وخفض استهلاك الطاقة بشكل عام. وبدلًا من القلق إزاء ما تصنعه قراراتنا من تأثير على البيئة، نكون قد أصبحنا أكثر وعيًا بأننا إذا أصبحنا مستعدين لدفع ضريبة التأثير الخارجي على منتج مثل حفاضات الأطفال؛ فسنعوض بذلك الآخرين عن الضرر الذي نسببه لهم، وفي نفس الوقت سنكون واثقين أن ذلك الضرر أقل مما يصيبنا نحن من إزعاج. حتى إننا قد نكتشف أن هناك طرقًا أسهل للحفاظ على البيئة دون التصرف بطريقة مزعجة فيما يخص الحفاضات، فهي تزعجنا بالفعل بما يكفي. لقد تحدثنا كثيرًا عما يسميه علماء الاقتصاد ﺑ «التأثيرات الخارجية السلبية»، وهي الآثار الجانبية الكريهة لتصرفات الناس التي لا يتم فرض أية ضرائب عليها. فبمجرد أن تبدأ في التفكير في «التأثير الخارجي السلبي»، ستدرك على الفور أنه ليس كل التأثيرات الخارجية سلبية، فهناك أيضًا تأثيرات إيجابية، ألا وهي الآثار الجانبية «الجيدة» للأفعال التي يقوم بها الناس ولا يثابون نظير قيامهم بها. فعلى سبيل المثال، إذا قام أبراهام بطلاء واجهة منزله وتنسيق حديقته، فسيبدو الشارع بأكمله في صورة أفضل، ولكن لن يفكر أحد في أن يدفع لذلك الشخص مقابل الطلاء ومقص التشذيب. وإذا افتتحت بليندا مقهى جذابًا على رصيف الطريق، فستبدو الشوارع مكانًا لطيفًا للتريض، ولكن سيكون لدى زبائنها الاستعداد للدفع من أجل متعتهم فقط، وليس للدفع مقابل المتعة التي يحصل عليها المارة أيضًا. وإذا قرر كريج أن يُطعِّم طفله ضد الحصبة والتهاب الغدة النكفية والحصبة الألمانية، فسيعني هذا تقليل احتمال عدوى الأطفال الآخرين بتلك الأمراض، ولكن لن يسع الحكومة إلا أن تستمر في تشجيع كريج على القيام بذلك. ستبدو جميع «التأثيرات الخارجية الإيجابية» مقبولة ولطيفة إلى أن تعرف أن أبراهام قد يقرر أنه لا داعي لتكبد عناء طلاء منزله، وأن بيلندا تخشى الإفلاس ولن تفتتح المقهى، وأن كريج قد يقرر أنه يبالغ في القلق بشأن الآثار الجانبية المحتملة للتطعيم وأن الأمر لا يحتاج لأن يصطحب ابنه إلى الطبيب. فقد كان كل أفراد المجتمع سيستفيدون إذا استمر هؤلاء الأشخاص فيما كانوا ينوون فعله، ولكن قرر كل منهم بعد تفكير وبعد أخذ كل شيء في الاعتبار أن الأمر لا يستحق العناء. تمامًا مثلما قد تؤدي التأثيرات الخارجية السلبية إلى الكثير من التلوث أو الزحام، ستتركنا التأثيرات الخارجية الإيجابية بقدر أقل من التطعيم، وبجيران قذرين، وبندرة في المقاهي الجذابة. وبينما تحظى التأثيرات الخارجية السلبية بكل الاهتمام، فربما تكون التأثيرات الخارجية الإيجابية أكثر أهمية: فالعديد من الأمور التي تجعل حياتنا أفضل إنما تتوقف على التأثيرات الخارجية التي لا يتم توفيرها بشكل كافٍ: مثل الخلو من الأمراض، والأمانة في الحياة العامة، والجيران الممتلئين طاقة وحماسة، والابتكار التكنولوجي. وبمجرد أن ندرك أهمية التأثيرات الخارجية الإيجابية، يظهر لنا الحل جليًّا، ألا وهو نفس السياسات التي نتبعها لمعالجة التأثيرات الخارجية السلبية: فبدلًا من ضريبة التأثير الخارجي، ندعم التأثير الخارجي. فالتطعيم على سبيل المثال تدعمه الحكومة أو منظمات الرعاية الصحية. والبحث العلمي أيضًا يحظى في كثير من الأحيان بجزء كبير من تمويل الحكومة. ولكننا نحتاج أيضًا لأن نكون واقعيين بشأن الحد الذي يمكن أن نصل إليه في هذا السياق، لأنه على الرغم من أن كلًّا من ضريبة التأثيرات الخارجية ودعمها يبدوان كحلول رائعة للتأثيرات الخارجية، إلا أنهما يمكن أن يُحدثا في الوقت نفسه مشاكل غير متوقعة. متى لا يعتبر التأثير الخارجي تأثيرًا خارجيًّا؟ إليك هذا المثال: قد أشكو أن الشجرة في حديقة جاري تدمر سور حديقتي، ولكن إذا كانت الشجرة تزعجني بالفعل يمكنني أن أدفع له المال لكي يتركني أقطعها. وإذا رفض ذلك العرض فسأستنتج أنه يحصل على متعة من وجود الشجرة تفوق انزعاجي منها، وبالتالي يجب أن تبقى الشجرة مكانها، أو ربما يمنحني القانون الحق في إجبار جاري على قطع الشجرة، ولكن في تلك الحالة، قد يدفع لي المال كي لا أمارس ذلك الحق، وأنفق بعض ذلك المال في إصلاح سور حديقتي. فلو كان القرار بيدي، لكنت حصلت على المال، ولو كان القرار بيده، لحصل هو على المال. ولكن في كلتا الحالتين ستبقى الشجرة في مكانها إذا كانت قيمتها تساوي أكثر بالنسبة له، وسيتم قطعها إذا كانت تزعجني بشكل أكبر. فالتأثيرات الخارجية لا تكون تأثيرات خارجية إذا كان يمكن للأفراد الجلوس معًا والتفاوض. تذكر أنها تسمى «تأثيرات خارجية» لأنها تخرج عن تعاملات السوق. ولكن لا يزال لبعضها إمكانية دخول السوق بسهولة. ونظرًا لأن القطاع الخاص يفلح جيدًا في التعامل مع تلك التأثيرات الخارجية الزائفة، فإذا تدخلت الحكومة بفرض ضريبة التأثير الخارجي، فسنجد أنفسنا «نعالج مشكلة» التأثير الخارجي مرتين. ولن يحقق هذا النتيجة المرجوة، وكأننا لم نحل المشكلة على الإطلاق: فبدلًا من التلوث الكبير الذي تتسبب فيه مولدات الطاقة، نبالغ في التكلفة ونفرط في التعويض عندما نغلق كل ثلاجاتنا ونطفئ أعمدة النور بالشوارع ونذهب إلى المطاعم كل مساء سيرًا في الظلام. ولكن كيف نحصل على هذا النوع من «جرعة العلاج الزائدة» للتأثيرات الخارجية؟ عندما ذكرت أن أبراهام قام بطلاء واجهة منزله، ذكرت عفويًّا أن جيرانه لم يعوضوه بمبلغ مقابل هذا الطلاء، ولكن هذا هو المتعارف عليه في الواقع. فمن الشائع عند ملاك العقارات أنهم يشترون الطلاء للمستأجر لدعم التأثير الخارجي الإيجابي: فإذا أعاد المستأجر الطلاء، سيحظى بشقة أجمل، ولكنه سيسهل على مالك الشقة أيضًا مهمة تأجيرها لشخص آخر في المستقبل. فإذا وضعنا في الاعتبار النفع الذي سيعود على كل من المالك والمستأجر، نجد أن طلاء الشقة أمر مفيد لكلا الطرفين، ولكن إذا لم يدفع المالك للمستأجر قيمة الطلاء، فقد يقرر المستأجر أن الأمر لا يستحق العناء، أما إذا وفر المالك للمستأجر الطلاء فسيتشارك معه بذلك في التكلفة كما سيتمتع بالفائدة أيضًا. وهكذا نجد ما بدا في تلك الحالة على أنه تأثير خارجي قد أصبح «تأثيرًا داخليًّا» بسبب التفاوض على تحمل التكلفة. ولكن ماذا لو كانت الحكومة تفكر في تقديم دعم للتأثيرات الخارجية الإيجابية؟ تخيل أن بعض الخبراء بالحكومة اعتقدوا خطأ أنه متى تم تأجير أي شقة، فنادرًا ما سيجري الملاك والمستأجرون التجديدات بها، وسيتركونها في حالة يرثى لها. وأن الأمر لا يستحق العناء بالنسبة للمستأجر أو للمالك للقيام كثيرًا بعمل التجديدات، ولكن متى وضع كل منهما مصلحة الآخر في اعتباره، فسيتفقان على القيام بها. وعندما ترى الحكومة ذلك التأثير الخارجي الإيجابي تبدأ في توزيع دعم التأثير الخارجي بقيمة ٥٠٠ دولار للمستأجر الذي قام بتجديد شقته. (فإذا لم تَرُقْ لك تلك الفكرة، فتذكر أن الحكومات تمنح بالتأكيد الدعم من أجل تحسين فعالية استخدام الطاقة في المنازل، التي تؤدي إلى تأثيرات خارجية إيجابية.) تخيل أن الجهد المبذول لتغيير ديكورات الشقة يتكلف ٣٠٠ دولار كقيمة معيشة أفضل للمستأجر، ويساوي ٥٠٠ دولار كقيمة إيجارية أعلى في المستقبل للمالك، ولكنها تتكلف ١٠٠٠ دولار. فلقد حددت الحكومة التأثير الخارجي بدقة: ٥٠٠ دولار فائدة (الإيجارات المرتفعة) لمالك الشقة التي لا يضعها المستأجر في الاعتبار. ولكن لاحظ أنه لما كان حاصل جمع ٣٠٠ دولار و٥٠٠ دولار يساوي أقل من ١٠٠٠ دولار، فإن الدعم ليس كافيًا لإقناع المستأجر بالقيام بالتجديدات، كما أنها لا يجب أن تصبح كافية لأن التجديدات تسبب كثيرًا من العناء لكل من المالك والمستأجر أكثر مما تستحق لكليهما. لسوء الحظ، يكون لدى المستأجر من الدوافع ما يجعله يأخذ الدعم البالغ ٥٠٠ دولار ويطلب أيضًا من المالك أن يسهم بمبلغ آخر، لنقل ٣٥٠ دولارًا على سبيل المثال. وبالتالي فقد استفاد المستأجر وتمتع بالتجديدات البالغة قيمتها ١٠٠٠ دولار مقابل ١٥٠ دولارًا فقط — لأن ٨٥٪ من المبلغ دفعها المالك والحكومة — والتي تساوي قيمتها بالنسبة له ٣٠٠ دولار. كما أن المالك قد استفاد أيضًا لأنه دفع ٣٥٠ دولارًا مقابل تجديدات تساوي قيمتها بالنسبة له ٥٠٠ دولار. ولكن لم يكن ينبغي أن تحدث التجديدات مطلقًا؛ ففي النهاية لقد أنفقت الحكومة ٥٠٠ دولار ولكنها استطاعت أن تجعل كلًّا من المستأجر والمالك أفضل حالًا بمبلغ ١٥٠ دولارًا فقط: وهي ليست بالطريقة الفعالة تمامًا لإنفاق المال. لماذا تحدث المشكلة إذن؟ لأن التعامل مع التأثير الخارجي الإيجابي قد حدث مرتين، مرة عندما قامت الحكومة بتقديم الدعم، ومرة أخرى في عملية المفاوضة. فكل حل منهما على حدة يمثل طريقة فعالة للمجتمع لمعالجة التأثيرات الخارجية، ويصل إلى النتيجة الصحيحة والتي هي في هذه الحالة أن التأثير الخارجي ليس كبيرًا بما يكفي ليبرر أعمال التجديدات. أما الحلان معًا فيعنيان أن هناك إفراطًا في دعم التأثير الخارجي. وقد يحدث نفس الشيء مع التأثيرات الخارجية السلبية أيضًا، فإذا فرضت الحكومة الضرائب على جاري لاستخدامه آلة جز الحشائش التي تعمل بالغاز وتطلق الغازات الملوثة، وعرضتُ عليه بدوري أن أدفع له المال ليتخلص منها لأنني أكره رائحتها والضوضاء التي تبعثها، فإن كلًّا من عرضي له وفرض الحكومة ضريبة عليه قد يقنعه بالتخلص من هذا الوحش، بالرغم من المتعة والراحة التي تمده بها تلك الآلة، والتي تفوق أي ضرر تلحقه بالآخرين. ومع ذلك، فإن الكثير من التأثيرات الخارجية لها آثار حقيقية بالفعل، فبعيدًا عن أسوار حدائقنا الجميلة (حتى وإن كانت مكسورة) أو شققنا غير المطلية، لا يزال لدينا الشوارع المكتظة بالزحام. فاختناق المرور لا يمكن حله بسهولة بالجلوس لاحتساء فنجان من القهوة وعقد اتفاق، فهناك العديد من الناس المعنيين بهذا الأمر، مما يجعل تفعيل الاتفاق أمرًا مستحيلًا، وسيكون هناك دائمًا ما يدفع الكثيرين إلى تجنب المفاوضات باهظة التكاليف وإن كانوا يتمنون التمتع بالمنافع مجانًا. لقد اقترح هذا الفصل طرقًا لمعالجة بعض المشاكل الكبرى في مجتمعنا: مثل التلوث، والزحام، والتشاجر مع جيراننا. لقد تعلمنا أن أيًّا من فرض ضريبة التأثيرات الخارجية على النفايات أو القيادة في الأماكن المزدحمة، أو تقديم الدعم للأبحاث العلمية، أو التطعيمات؛ تعد أكثر الطرق فعالية لمعالجة العديد من المشكلات التي يترك السوق حلها إلى جانب واحد من أطراف هذه المشكلات. فضريبة التأثير الخارجي تعطي الناس كلًّا من المعلومات التي تمكنهم من اتخاذ القرار الصحيح والدوافع التي تجعلهم يفعلون ذلك. فهذا النوع من الضرائب لا يجيب تلقائيًّا عن السؤال عما ينبغي أن تكون عليه العملية التنظيمية من صرامة، أو ما ينبغي تنظيمه قانونيًّا، ولكن بمجرد أن تعرف العملية السياسة رغبة المواطنين، توفر أرخص الطرق للإجابة على مثل هذه الأسئلة. وإذا ظننت أن هذا هو «الاقتصاد»، فقد يكون الخبراء على حق، فقد تقلل ضريبة مثل ضريبة التلوث من رقم مثل رقم إجمالي الناتج المحلي، ولكن من يهتم؟ بالتأكيد ليس علماء الاقتصاد، فنحن نعرف أن إجمالي الناتج المحلي يقيس العديد من التعاملات الضارة (مثل: بيع الأسلحة، أو بناء المنشآت بمواد رديئة وما يعقب ذلك من تصليحات باهظة التكاليف، وكذلك تكلفة الرحلات اليومية إلى العمل) ويتجاهل العديد من الأمور المهمة، مثل: رعاية أطفالك، أو الذهاب في نزهة جبلية. فالعديد من فروع علم الاقتصاد ليست ذات صلة وثيقة بإجمالي الناتج المحلي. فعلم الاقتصاد يتناول من يحصل على ماذا ولماذا. فالهواء النظيف، وحركة تدفق المرور السلسة، يمثلان جزءًا من «الاقتصاد» وفقًا لهذا المعنى. فمن المحتمل أن ضريبة الزحام قد تزيد من إجمالي الناتج المحلي لأن الناس سيصلون بعدها إلى العمل بطريقة أسرع وينتجون أكثر، وستنخفض الأسعار في المتاجر بسبب التوزيع الأكثر فعالية. ولكن أغلب الظن أن ضريبة الزحام ستقلل من إجمالي الناتج المحلي. وهذا في الواقع لا يشكل أدنى فرق، فنحن متأكدون أن هذه الضريبة ستجعلنا أفضل حالًا إذ ستتاح أمامنا العديد من الخيارات بشأن سؤال: أين نذهب؟ وسؤال: ماذا نفعل؟ فالحياة تحفل بأمور غير تلك التي يجري قياسها في دفاتر الحسابات، وحتى علماء الاقتصاد يعرفون ذلك.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/5/
القصة الخفية
ماذا كنت ستفعل إذا كنت مكان السيد جيروم؟ قرر هو الذهاب في رحلة عبر نهر التايمز، ولكنه لم يكن عالم اقتصاد. نصيحتي لك في مثل ذلك الموقف أن ترفع سماعة الهاتف، وتشتري بضع وثائق تأمين صحي متعددة المزايا. فما دمت تعلم علم اليقين أنك سوف تطلب رعاية صحية باهظة التكاليف، فلماذا إذن لا تدفع قسط التأمين الذي يمنحك أفضل رعاية صحية ممكنة؟ وهذا يثير تساؤلًا، فإذا كان الناس أمثال السيد جيروم سيتهافتون على شراء وثائق تأمين صحي عندما يعرفون فقط أنهم مرضى، فأي شركة سترغب في التأمين عليهم؟ اختار أكيرلوف سوق السيارات المستعملة كمثال في بحثه الذي أوضح فيه أنه حتى مع احتداد المنافسة، فلا يمكن للسوق أن تعمل جيدًا إذا كان البائعون يعرفون عن جودة سياراتهم أشياء لا يعرفها المشترون. دعونا نأخذ مثالًا شديد الوضوح: لنفرض أن نصف السيارات المستعملة المعروضة للبيع عبارة عن «خوخ»، والنصف الآخر عبارة عن «ليمون» حيث يساوي الخوخ أكثر بالنسبة للمشترين عما يساويه بالنسبة للبائعين، وإلا ما كانوا ليشتروه في المقام الأول — لنقُل مثلًا إن قيمة السيارة الخوخ تبلغ ٥٠٠٠ دولار بالنسبة للمشترين المحتملين و٤٠٠٠ دولار بالنسبة للبائعين. أما السيارات الليمون فهي ليست إلا قطعًا من الخردة. وكل بائع يعرف بالطبع إذا كانت السيارة التي يبيعها ليمونة أم خوخة، أما المشترون فيجب عليهم التخمين. قد يظن المشتري الذي لا يمانع في المشاركة بمقامرة، لن تسفر في الغالب عن أي ربح مالي، أن سعر السيارة المتراوح ما بين ٢٠٠٠ دولار و٢٥٠٠ دولار سيكون مناسبًا لسيارة ذات احتمال بنسبة ٥٠٪ أن تكون خوخة، واحتمال بنسبة ٥٠٪ أن تكون ليمونة. وقد يظن البائع أيضًا أن الصفقة كانت عادلة بالنسبة لاحتمال ٥٠:٥٠، ولكن الحقيقة أن البائع لا يواجه احتمال ٥٠:٥٠: يعرف البائع على وجه اليقين إذا كانت السيارة التي يبيعها خوخة أم ليمونة. والمشكلة هي أن البائع الذي يبيع ليمونة قد ينحني ليقبل يدك إذا عرضت عليه مبلغ ٢٥٠٠ دولار، أما البائع الذي يبيع الخوخة فسيظن أن هذا المبلغ إهانة بالنسبة له. وإذا تجولت لشراء سيارة فستجد أن سيارات الليمون هي فقط المعروضة للبيع بذلك المبلغ. أما إذا عرضت مبلغ ٤٠٠١ دولار فستكتشف أن السوق به خوخ أيضًا ولكنه لم يخلُ بعد من الليمون، فسعر ٤٠٠١ دولار ليس سعرًا جذابًا لسيارة ذات احتمال بنسبة ٥٠٪ ألا تعمل جيدًا. وهذه ليست مشكلة هينة عن جوانب هامشية من السوق. ففي هذا السيناريو «لا يوجد سوق»، فلا يوجد بائع مستعد لبيع خوخة بأقل من ٤٠٠٠ دولار، في حين لا يوجد مشترٍ مستعد لعرض مثل ذلك المبلغ مقابل سيارة من المحتمل بنسبة ٥٠٪ أن تكون ليمونة. فالباعة لا يعرضون الخوخ للبيع، والمشترون يعرفون أنهم لا يفعلون ذلك، وفي النهاية لن يباع سوى الليمون الذي لا يساوي شيئًا. تقود الافتراضات الأقل حدة حول المشكلة إلى انهيار للسوق أقل حدة ولكن النتائج تكون متشابهة: إذا عرف أحد الأطراف معلومات عن جودة المنتج لا تعرفها الأطراف الأخرى، فربما لا تباع بعض المنتجات عالية الجودة على الإطلاق، أو قد تباع بكميات محدودة. وبالتأكيد فإن أي شخص حاول أن يشتري سيارة مستعملة من قبل سيقدر ما فهمه أكيرلوف ووضعه في بحثه. فالسوق لم يعمل كما يجب؛ إذ أن السيارات المستعملة تميل إلى أن تكون رخيصة ومنخفضة الجودة. وإذا وجدت سيارات مستعملة جيدة فسيحاول البائعون الحصول على سعر جيد مقابلها، ولكن نظرًا لأنهم لا يمكنهم «إثبات» أن السيارات التي يبيعونها خوخة، فلن يتمكنوا أيضًا الحصول على السعر الذي يريدونه، ولذا سيحتفظون بها لأنفسهم. قد تتوقع أن البائعين ينتفعون بالمعلومات الداخلية التي يعرفونها، ولكن في الواقع لا يوجد رابحون: فالمشترون الأذكياء لا يعرضون أنفسهم للدخول في منافسة يكون الفائز فيها محدد قبل بدايتها. دعنا نتكلم بوضوح أكثر عن مدى الإزعاج والمآسي التي تتصف بها هذه المشكلة. إن ما وصفه أكيرلوف ليس بالسوق الذي يقع فيه الناس ضحايا غش، ولكنه شيء أكثر خطورة من ذلك بكثير. فقد وصف السوق التي ينبغي أن تكون ولكنها غير موجودة نتيجة القوة المدمرة للمعلومات الداخلية. سيحاول باعة السيارات الجيدة التفاوض مع المشترين، تبلغ قيمة كل تفاوض ١٠٠٠ دولار، لأن هذا هو الفرق بين قيمة السيارة للبائع وقيمتها للمشتري: فإذا اقترب سعر السيارة من ٤٠٠٠ دولار، فسيحصل المشتري على أكثر من تلك القيمة، وإذا اقترب من ٥٠٠٠ دولار، فسيحصل البائع على قيمة أكبر. ولكن أشار أكيرلوف إلى أن مثل هذا النوع من التفاوض على السعر الذي يخلق قيمة لا يحدث؛ لأن المشترين لن يتموا عملية الشراء دون دليل على جودة السيارة، والباعة لا يمكنهم تقديم هذا الدليل. وليست سوق السيارات المستعملة بالسوق الوحيدة التي تتأثر بالمعلومات الداخلية، فمثلًا الأثاث في الشقق المؤجرة: لماذا لا يجري اختياره ليعيش طويلًا؟ يجيب نموذج أكيرلوف عن هذا السؤال، فالشقق بها العديد من الخصائص الجديرة بالملاحظة بل والواضحة التي يمكنها أن تؤثر على قراراتنا بتأجير الشقة أم لا، مثل مساحتها وموقعها والتصميم الداخلي، وما إلى ذلك. ولكن هناك بعض الخصائص الأخرى التي تصعب ملاحظتها، مثل ما إذا كان الأثاث متينًا أم لا. فالمالك ليس لديه دافع قوي لوضع أثاث متين وباهظ الثمن؛ لأن هذه الصفة ليست من الصفات التي يمكن أن يلاحظها المستأجر المحتمل قبل أن ينتقل إلى الحياة فيها، وبالتالي لن تكون هي الصفة التي يدفعون من أجلها للحصول على الشقة. (بالطبع قد يتجه المالك لاستخدام أثاث رخيص وضعيف لأنه يتوقع أن المستأجر قد يدمر كل ما يضعه بالشقة، مع الوضع في الاعتبار أن هذا يجب أن يدفعه إلى توفير أثاث أكثر متانة بالشقة). ونتيجة لهذا يوجد سوق لشقق الإيجار ذات الأثاث الضعيف، ولا توجد سوق لشقق الإيجار ذات الأثاث المتين. ستصير مشكلة «الليمون» التي طرحها أكيرلوف مزعجة بما يكفي إذا كانت تسري فقط على السيارات المستعملة، والشقق المفروشة، والمطاعم التي تسرق الزبائن في الأماكن السياحية الجميلة. ولكن لسوء الحظ، فإنها تدمر أسواقًا أخرى مهمة ولاسيما سوق التأمين الصحي. يعتبر سوق التأمين الصحي سوقًا مهمة لأن المرض لا يمكن التنبؤ به، وأحيانًا يكلف علاجه الكثير. ولا يقتصر الأمر على أن بعض العلاجات الطبية باهظة التكاليف بل غالبًا يستحيل تأجيلها إلى أن تكون ظروف المريض مناسبة. وقد تتصادف أيضًا مع فترات يقل فيها دخل المرء لأن أكثر من يحتاجون الرعاية الصحية يكونون في الغالب من المسنين، وأيضًا لأن من يحتاج إلى رعاية صحية يكون مريضًا إلى درجة تمنعه من العمل. ولهذا يعد التأمين الصحي منتجًا عالي القيمة. فإن لم يعمل سوق التأمين الصحي على نحو جيد، فإن النتيجة ستكون في شكل ارتفاع باهظ في الأسعار ووجود عدد كبير من الناس الذين لا يغطيهم التأمين الصحي. سيعي الأمريكيون هذا الحديث جيدًا لأن السوق في الولايات المتحدة لا تعمل بشكل جيد في توفير التأمين الصحي، ويحدث هذا بالضبط بسبب مشكلة «الليمون» التي طرحها أكيرلوف. لنفرض أن المعرضين للإصابة بالأمراض هم «الليمون»؛ وأن الأصحاء هم «الخوخ». فإذا ظننتُ أنني من الليمون، مثلما ظن جيروم كي. جيروم، فسوف أُنصح بشراء كل وثائق التأمين الصحي الموجودة. ومن ناحية أخرى، إذا شعرتَ أن صحتك جيدة وكل أجدادك عاشوا حتى بلغ عمرهم مائة عام، فربما لن تشتري أي وثيقة تأمين صحي إلا إذا كانت زهيدة الثمن؛ حيث إنني لا أتوقع أن تحتاجها في يوم من الأيام. وبفضل ما أثبته أكيرلوف أن الأسواق التي يحصل المتعاملون فيها على معلومات غير متماثلة هي أسواق من المؤكد خرابها، نعرف أن سوق التأمين قد تختفي مثلما اختفى سوق السيارات الجيدة المستعملة. فإذا كان جسدك بمنزلة خوخة ناضجة وسليمة، فلن ترى وثيقة التأمين العادية على أنها صفقة رابحة. بينما سنأخذها بالأحضان أنا والسيد جيروم حيث إن جسدينا بمنزلة الليمون المر. والنتيجة هي أن شركة التأمين سوف تبيع الوثائق فقط للمتأكدين أنهم سيستخدمونها. ومن ثم، تفقد شركة التأمين عملاءها الأقل عرضة للحصول على علاج، بينما يزيد عدد عملائها الذين لا ترغب فيهم وهم الأكثر عرضة للحصول على علاج مكلف. ومن هنا، تضطر الشركة إلى تقليل ما تقدمه من خدمات وترفع أقساط التأمين. وحينئذ سيجد أصحاب الصحة المتوسطة أن التأمين باهظ الثمن أكثر من اللازم، ويقومون بإلغائه دافعين بذلك الشركة إلى رفع أقساط التأمين أكثر وأكثر حتى تظل تمارس عملها وتعوض الخسارة. ثم يبدأ المزيد والمزيد من الناس في إلغاء وثائقهم. ليقتصر شراء الوثائق في النهاية على أكثر الليمون مرضًا وبأسعار يكاد يكون من المستحيل تحملها. ستحاول شركات التأمين بالطبع إصلاح سوقها بمحاولة التقصي عن مزيد من المعلومات عن عملائها مثل: هل يدخنون؟ كم تبلغ أعمارهم؟ هل توفي آباؤهم بسبب أمراض وراثية في عمر الخامسة والثلاثين، أم في حادثة سيارة رياضية في عمر المائة؟ وعندما تتوفر المزيد من المعلومات الجينية، تتمكن شركات التأمين من تكوين صورة أكثر دقة عن تكلفة توفير تأمين صحي لأفراد معينين. فقد كانت سوق التأمين من قبل تهددها مشكلة المعلومات الداخلية أي عندما كانت شركة التأمين تعرف معلومات أقل من تلك التي يعرفها عملاؤها. ولكن إذا استمرت شركات التأمين في إغلاق فجوة المعلومات هذه، فسيزيد استعدادها للتأمين على مزيد من الناس. قد يبدو هذا مثل استراتيجية «تحديد سعر مستهدف» التي يستخدمها مقهى ستاربكس ومتجر هولفودز اللذان تحدثنا عنهما في الفصل الثاني، ولكن في الواقع الاستراتيجية هنا مختلفة. فعندما يحاول مقهى ستاربكس أن يستهدف سعرًا، فهو يعرف تكلفة ما يقدمه من قهوة ويحاول ببساطة معرفة ما إذا كان يمكن الحصول على سعر أعلى من بعض الزبائن. أما شركات التأمين الصحي، فتواجه مهمة أكثر صعوبة، فهي لا تعرف كم ستبلغ تكلفة تغطية علاج كل عميل، وإذا لم تتمكن من معرفة ذلك بدقة أكثر من العميل نفسه، فستفلس بمنتهى البساطة؛ بسبب أعباء تكلفة علاج العملاء. كما أن النتائج هنا مختلفة أيضًا: فتحديد السعر المستهدف هو أحد طرق الحصول على قطعة كبيرة من الكعكة عن طريق اعتصار المال من الزبائن، بينما يخلق تحري المعلومات عن عملاء شركة التأمين كعكة جديدة تجعل عملية بيع الوثائق ممكنة بعد أن كانت غير ممكنة من قبل. وسوق التأمين يمكن إنقاذه ولكن مع الأسف لهذا الأمر تكلفته: فسوف تكتشف الشركات أن الليمون كأمثالي أنا والسيد جيروم سيُقبِل على شراء وثائق التأمين حتى ولو بأسعار باهظة. أما الخوخ أمثالك، فيمكنه أن يحصل عليها بمبالغ منخفضة للغاية بالمقارنة بتكلفتها الحقيقية. وسيعكس كلا النوعين من الأقساط سعرًا عادلًا من الناحية التأمينية، أي سعرًا لا يغطي أكثر ولا أقل من تكلفة العلاج المحتملة. إذا كانت الشركات تمتلك حقيقة معلومات دقيقة — ربما يمكنها الحصول عليها عن طريق الفحوصات الجينية للعميل التي ستوضح مدى احتمال إصابته بأمراض في المستقبل — فيمكنها أن تطلب من العملاء الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض أقساطًا تبلغ مئات الآلاف من الدولارات، الأمر الذي لا يمكن تسميته تأمينًا بالمرة. يمكن لشركة التأمين أن تستمر في العمل إذا قامت بتقييم الخلفيات الفردية والتنبؤ بتكلفة تقديم المنافع لكل منا؛ فإذا لم تُغالِ الشركات في أسعارها لليمون من أمثالي أنا والسيد جيروم، فستتوقف عن العمل سريعًا. والمشكلة هي أن من يتوقعون أن يطالبوا بتغطية تأمينية — من كبار السن ومن يعانون من أمراض مزمنة مثلًا — سيجدون أن شركات التأمين التي يتعاملون معها لا تعطيهم التأمين الكافي على الإطلاق. ولأن أقساط التأمين التي يدفعونها قد عُدّلت لتضع تلك التكلفة في الحسبان، فهم يدفعون مقابل التأمين أكثر مما يمكن أن يدفعوه من جيوبهم الخاصة نظير العلاج بدون تأمين. وإذا أمعنا النظر في تاريخ شركات التأمين فسنجد أن وثيقة التأمين تعتمد على الجهل المتبادل. فشركة التأمين يمكنها أن تؤمن عليّ ضد السرقة، أو الحريق، أو أن تدفع فاتورة العلاج فقط إذا لم يتأكد كلانا من إمكانية وقوع أحداث مثل هذه. ولكن لو كان بوسعنا التنبؤ بالمستقبل، لأصبح شراء وثائق التأمين بلا مغزى. فمثلًا، إذا كانت شركة التأمين التي أتعامل معها تتنبأ بحدوث الحرائق أفضل مني بكثير، فستبيع لي التأمين فقط إذا كنت لا أحتاجه. وإذا علمت الشركة أن منزلي سيحترق، فستتصل بالمطافئ بدلًا من أن تبيع لي التأمين. ولمّا كان التأمين يعتمد على الجهل المتبادل، فإن أي تقدم في علوم الطب يكسر من حواجز الجهل — سواء بالنسبة لشركة التأمين، أو للمؤمن عليه، أو لكليهما — سيضعف من الأساس الذي ترتكز عليه تلك الصناعة. فكلما عرفنا أكثر قلَّت وثائق التأمين المباعة. وهذا أمر مقلق إذا أردنا إعطاء الناس فرصة لحماية أنفسهم من التكلفة الباهظة للحظ السيئ. لقد أدرك سبينس أن قول بائع الخوخ: «كل سياراتي خوخ» غير كافٍ؛ لأن الكلام سهل، فبإمكان بائع الليمون أيضًا أن يقول: «كل سياراتي خوخ.» ولن يعرف المشتري من يقول الصدق. وبالتالي، لا تحمل تلك العبارة التي قالها كلا البائعين أية معلومات. ومن هنا أدرك سبينس أن إشارة الجودة الحقيقية لا بد أن تكون إشارة لا يستطيع بائع الليمون تقليدها، أو بمعنى آخر، لا يقدر على تحمل نفقتها. وقد تتمثل إشارة الجودة هذه في صالة فاخرة لعرض السيارات باهظة الثمن يشتريها التاجر كنوع من الاستثمار والتي لا يقدر على شرائها إلا من يخطط للبقاء في السوق فترة طويلة. وبالطبع يتوقع بائع الخوخ أن يعود إليه الزبائن الراضون عن مستوى السيارات التي اشتروها منه ليعاودوا الشراء منه مرة أخرى، ويتوقع أيضًا أن يخبروا أصدقاءهم عن متانة وجودة سياراته. وبمرور الوقت، ستغطي أرباح المبيعات تكلفة المعرض. أما بائع الليمون، فلن يتمكن من البيع بهذه الطريقة؛ فكل ما يستطيع فعله هو القيام ببعض الدعاية لسيارات الليمون التي يبيعها، ثم سيضطر للانتقال إلى مكان آخر لا تتبعه فيه سمعته السيئة. لهذا السبب اعتادت بعض البنوك على اتخاذ المباني المبهرة مقرًّا لفروعها. لك أن تتخيل كيف كان يتأكد العملاء من قبل من نزاهة تلك البنوك قبل أن تصبح الحكومة قائمة على مراقبتها؟ فالعملاء يعرفون بالتأكيد أن النصابين الذين يخططون للهرب بالأموال لا يكسون حوائط بناياتهم بالبرونز والمرمر. ويعد هذا أحد الأسباب في أننا نفضل الذهاب أحيانًا إلى المتاجر الكبيرة لنشتري منتجات أغلى من تلك التي تباع في كشك مثلًا، عندما نرغب في شراء منتجات ليس لدينا معلومات داخلية عن جودتها أو متانتها؛ وذلك لأن المتجر الكبير سيبقى في مكانه، وسيعيد لك نقودك إذا شكوت من رداءة المنتج، وهذا يجعلك مطمئنًا وأنت تشتري. استخدم علماء الاقتصاد الآخرون نظرية سبينس لتفسير حملات الدعاية الضخمة باهظة الثمن التي لا تحوي المعلومات. ففي النهاية ما المعلومات التي يخبرك بها إعلان عن أحد المشروبات الغازية مثل الكوكاكولا؟ المعلومات الوحيدة هي أن الإعلان تكلف أموالًا طائلة. وبالتالي نستنتج أن شركة كوكاكولا تخطط لأن تبقى في السوق، وهذا يجعلها تتعهد بصناعة المنتجات عالية الجودة دائمًا. استخدم سبينس نفس تلك النظرية ليوضح لماذا يسعى بعض الطلاب لإكمال دراساتهم العليا، فموادها صعبة كما نعرف ولا توفر فرص عمل محددة، كأن يحصل المرء على شهادة في الاقتصاد، أو في التسويق مثلًا. افرض أن أرباب العمل يفضلون تعيين الموظفين الأذكياء المجتهدين، ولكن لا يمكنهم تحديد كل ذلك من المقابلة الشخصية. فالدرجات العلمية التي يستلزم الحصولُ عليها الكثيرَ من الكد والمثابرة هي التي تميز الكسالى من المجتهدين. ثم يوضح سبينس أن الكسالى لن يستطيعوا الحصول على مثل هذه الدرجات العلمية فحسب، بل إنهم لن يرغبوا كذلك في الحصول عليها، وسيدفع أرباب العمل لموظفيهم من الحاصلين على تلك الشهادات رواتب كافية لتعويضهم عن المعاناة التي تحملوها، ولكنها لن تكون كافية لإقناع الأغبياء والكسالى لخوض نفس المعاناة. وسيدفعون تلك الرواتب حتى مع علمهم بحقيقة أن تلك الشهادات نفسها لا تثبت إنتاجية المتقدم للوظيفة على الإطلاق، فهي مجرد إشارة معقولة إلى الجودة؛ لأن الحصول عليها أمر في غاية الصعوبة على الكسالى. ولما كان سبينس نفسه يحمل درجة علمية من جامعة برينستون، فربما تكون فكرته هذه ذات مغزى. وأثبت سبينس أن إحدى الطرق لحل مشكلة تعثر الأسواق بسبب المعلومات الداخلية أن يحاول التجار محل الثقة إيجاد طرق يعكسون بها جودة بضاعتهم. ولهذا يجد الخوخ من البنوك، أو المتقدمين للوظائف، أو تجار السيارات المستعملة، أو شركات المياه الغازية — أن الأمر يستحق قضاء الوقت، أو إنفاق المال ببذخ مقابل الديكورات، والمباني الفاخرة، والإعلانات للحصول على شهادة قد لا تضيف لمؤهلات الفرد، ولكنها ببساطة تميزهم عن نظرائهم من الليمون. وقال سبينس — وإن لم يؤكد — إن مشكلة الليمون يمكن حلها. فهناك بعض الاحتمالات التي طرحها في نموذجه الاقتصادي يقول فيها إن النفع سيعود على كل فرد إذا استحال عليه إظهار تميزه عن الآخرين. فإذا حُرم الطلاب من الدراسات العليا، لن يتمكن أرباب العمل من التمييز بين الموظفين الكسالى والموظفين الأذكياء، وسيدفعون لكلا النوعين نفس الأجور التي تعكس متوسط إنتاجيتهم المتوقعة. وبالتالي، تعم الفائدة على كل من الكسالى والأذكياء إذا كان الأجر الجديد الذي يحصلون عليه أقل من السابق، ولكنه سيوفر عليهم تكلفة الحصول على شهادات عليا. ولن يمانع أرباب العمل من تعيين عمال سيئين في متوسطهم طالما أنهم باتوا يدفعون أجورًا أقل. ووضح أكيرلوف أن هذا الحل لمشكلة المعلومات الداخلية سيقلل قدرة الناس على تحقيق التعاملات التي تعود بالنفع على كلا الطرفين. وهنا وجد سبينس وسيلة تحقق هذه التعاملات، ولكنه أفاد أيضًا أن لهذه التعاملات تكلفة اجتماعية باهظة. قد تفسر صعوبة حل مشكلة الليمون السبب وراء التعثر الشديد الذي يشهده نظام الرعاية الصحية الأمريكي. فالولايات المتحدة تعتمد على شركات التأمين الصحي الخاصة التي تغطي التكاليف الطبية للمواطنين. وهذا غريب، ففي بريطانيا، وكندا، وأسبانيا، على سبيل المثال، الحكومة هي التي تدفع جزءًا كبيرًا من تكاليف الرعاية الصحية. وفي كل من أستراليا، وبلجيكا، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا يوجد نظام «التأمين الاجتماعي» الذي يدفع التكاليف الطبية، ويكون فيه معظم الناس مجبرين على شراء التأمين الذي تحدد أقساطه وفقًا للدخل بحكم القانون، وليس وفقًا لمخاطرة أن تدفع الشركة تغطية تأمينية باهظة. أما الولايات المتحدة، فلا تجبر مواطنيها على شراء التأمين، ويتم تحديد الأقساط وفقًا للمخاطرة، وليس وفقًا للدخل. ولكن لا يبدو أن هذا النوع من مبادئ السوق التي يحبها العديد من الأمريكيين يقدم لهم نوعًا جيدًا من الرعاية الصحية، فقد كشف استطلاع للرأي أُجري حديثًا أن ١٧٪ فقط من الذين سئلوا كانوا راضيين عن نظام الرعاية الصحية الأمريكي، وكانوا يرون عدم وجود داعٍ للقيام بأي إصلاحات كبيرة. فلماذا لم يرضَ الآخرون عن النظام؟ والأمر التالي هو البيروقراطية. اكتشف الباحثون في كلية الطب بجامعة هارفارد أن التكلفة الإدارية لنظام الرعاية الصحية الأمريكي، العام والخاص، تتعدى اﻟ ١٠٠٠ دولار للفرد. بعبارة أخرى، عندما تحسب كل الضرائب، والأقساط، والنفقات الأخرى، تجد أن المواطن الأمريكي العادي ينفق في عيادات الأطباء وغيرها نفس المبلغ الذي يدفعه المواطنون في سنغافورة وجمهورية التشيك على رعايتهم الصحية الكاملة. وتتشابه النتائج الصحية للمواطنين إلى حد بعيد في هاتين الدولتين معها في الولايات المتحدة، حيث يقل كل من متوسط عمر الإنسان ومتوسط «الحياة الصحية» (وهي إحصائية تميز بين الحياة الصحية الطويلة والحياة الطويلة الموبوءة بسنوات من الإعاقة الشديدة) في جمهورية التشيك عنهما في الولايات المتحدة، ويزيدان في سنغافورة بصورة طفيفة عنهما في الولايات المتحدة. كما تزيد تكلفة نظام الرعاية الصحية الأمريكي للفرد ثلاث مرات عن التكلفة البالغة ٣٠٧ دولارات في كندا التي تحقق نتائج صحية متفوقة. ثالثًا: يعاني نظام الرعاية الصحية الأمريكي من التشتت. فالتأمين الصحي عادة ما يتم فرضه على المواطن عند الالتحاق بوظيفة، الأمر الذي يقلل من فعالية سوق العمل حين يتخوف الموظفون عند إقدامهم على الاستقالة من ألا يجدوا وظيفة أخرى سريعًا حتى لا يبقوا بدون تأمين صحي طوال فترة البحث عن عمل. والأسوأ أن حوالي ١٥٪ من المواطنين ليس لديهم تغطية تأمينية من أي نوع، الأمر الذي لا بد أن يلقى اهتمام أغنى الأنظمة الاقتصادية في العالم، ولكن ربما لم تهتم حتى الآن؛ لأن أحدًا لم يُلقِ الضوء على مثل هذه النقطة من قبل. قارن هذا بألمانيا التي يبلغ فيها عدد المواطنين الذين ليس لديهم أي تغطية تأمينية بها ٠,٢٪ من إجمالي السكان، أو قارنه بكندا، أو بريطانيا، التي توفر فيها الحكومة الرعاية الصحية لكل مواطن. وبالنظر إلى ما أخبرنا به جورج أكيرلوف عن الليمون، نجد أن المشاكل التي تشوب نظام الرعاية الصحية الأمريكي مشاكل متوقعة. فبالتأكيد لا بد لنظام تأمين صحي خاص اختياري أن يكون مشتتًا. فالقليل من الناس ممن لديهم مصاريف مُلحة أكثر من التأمين الصحي (مثل الفقراء الشباب، ممن لديهم القليل من المال ويتوقعون، وهم على حق في ذلك، أنهم أقل عرضة للإصابة بأمراض خطيرة) لن يشتركوا في هذا النظام التأميني. ومن هنا، ترفع شركات التأمين الصحي — التي تحتاج إلى تغطية تكاليفها — من أقساط التأمين للعميل العادي، الأمر الذي سينفر المزيد والمزيد من شراء الوثائق. وبعكس مثال الليمون الذي ينهار فيه السوق تمامًا، لا ينهار ذلك السوق؛ وهذا تقريبًا لأن العديد من الناس يخشون أن يحتاجوا في يوم من الأيام إلى رعاية صحية، لدرجة أنهم يزيد استعدادهم لدفع أقساط أعلى بكثير من أقساط التأمين العادلة. لهذا يقبل الناس على شراء التأمين، ولكن لا يزال هناك الكثيرون ممن يأبون الدخول في النظام. وبفضل سبينس وستيجلتس نتوقع أن تخترع شركات التأمين الطرق للتحايل على مشكلة الليمون. وبالفعل نجد شركات التأمين تناضل لرصد مخاطر تعرض عملائها لأمراض، ورصد سلوكياتهم، ونفقاتهم. ولكن بالرغم من أن الحلول قد تكون مؤثرة وفعالة، إلا أن لها بعض النتائج السلبية. فلا يزال تعنت الروتين بالنظام الأمريكي عبئًا ثقيلًا. وتظل تلك العلاقة السخيفة التي تربط التأمين الصحي بالوظيفة، فمن الوهلة الأولى، ليس ثمة سبب يجعلك مجبرًا على قبول التأمين الصحي مع الوظيفة أكثر من إجبارك على قبول سكن أو طعام مجاني. فهذه الطريقة تجبر الأصحاء على الاشتراك في وثائق تأمين إجمالية، وذلك لحماية سوق التأمين من الإفلاس، ولكن على حساب المؤمن عليهم الذين يبغون الحصول على تغطية تأمينية مثالية مقابل أسعار مناسبة. فهم لا يختارون خطط الرعاية الصحية بأنفسهم، وإنما يختارها مديرو الموارد البشرية في شركات التأمين ممن لديهم أولويات مختلفة كأن يحصلوا مثلًا على أقصى منفعة بتقديم نوع واحد من الوثائق «يصلح لجميع المقاسات». والنتيجة بالطبع مزيد من النتائج السلبية. ولا يصح أن نوقع اللوم إثر كل نقص أو عيب في نظام الرعاية الصحية الأمريكي على مشكلة الليمون التي طرحها أكيرلوف، فحتى من دون الصعوبة التي يواجها النظام بسبب المعلومات الداخلية، لا يزال النظام مثيرًا للجدل لأنه لا يسمح للمؤمن عليهم أن يختاروا طريقة علاجهم بأنفسهم، ولكن شركة التأمين هي التي تحدده لكي يتسنى لها أيضًا تحديد قيمة الفاتورة التي ستدفعها. فعندما تطلب من شخص آخر أن يدفع الفاتورة نيابة عنك، لا تندهش إذا لم تحصل تمامًا على ما كنت تريده. والمدهش أن التغطية غير الكاملة، واللافعالية، والتكاليف الباهظة ليست فقط سمات شركات التأمين الصحي الخاصة، ولكنها تتوافق بالضبط مع ما ذهب إليه كل من أكيرلوف وسبينس وستيجلتس في أبحاثهم. تعد مشكلة الليمون (التي يسميها علماء الاقتصاد بالاختيار السلبي، والتي تحدُث عندما تتسبب المعلومات الداخلية في مشكلة بالأسواق تقلل من استعداد المشترين الذين لا يملكون المعلومات للدفع؛ لأنهم لا يمكنهم معاينة جودة المنتج أو ملاحظته عند الشراء) مثالًا على مشكلة نقص المعلومات (التي يسميها علماء الاقتصاد مشكلة عدم تماثل المعلومات). وثمة مشكلة خطيرة يتسبب فيها نقص المعلومات تسمى مشكلة «الخطر الأخلاقي»، ومفهومه بسيط: إذا عوضت الناس ماديًّا عندما يتعرضون لمواقف سيئة، ربما يصبحون أقل احتراسًا فيما بعد. فإذا قمت بالتأمين على سيارتي ضد السرقة مثلًا، لن أعبأ إذا تركتها في شارع مهجور غير آمن على الإطلاق. فإذا عرفت أن التغطية التأمينية لن تكفي لتعويضي في حالة السرقة، فسأحترس منذ البداية وأترك سيارتي في موقف خاص وبحارس أيضًا. وإذا فقدت وظيفتي ودفعت الحكومة لي إعانة بطالة، قد لا أسارع بالبحث عن وظيفة جديدة بنفس سرعتي إذا لم توفر لي الحكومة أي دخل على الإطلاق، تمامًا مثلما لن أزعج نفسي للتأكد من الوضع المالي للبنك الذي أضع فيه نقودي، إذا كنت مؤمنًا على المال في حسابي الجاري ضد إفلاس البنك. ومن المستحيل أن يخلو نظامنا الاقتصادي من مشكلة الخطر الأخلاقي. ولذلك تسعى شركات التأمين لمحاولة تقليله، فهي لا تقدم مثلًا التأمين ضد الفصل من العمل، أو حدوث الحمل، لأنه سيكون من العار وجود هذا النوع من التأمين. والسبب واضح، فمن السهل أن تخطط كي يتم فصلك من العمل، أو أن تصبحين حُبلى. كما أن هناك العديد ممن يريدون ترك وظائفهم، وهناك الكثيرات أيضًا ممن يُردن إنجاب الأطفال، وهؤلاء — خصوصًا — سيتشوقن لشراء وثيقة تأمين تدفع لهم ببذخ كي يضعن خططهن موضع التنفيذ. وهذا سيقلل بالطبع من احتراسهم. من هنا، كان الخطر الأخلاقي كافيًّا لإقناع شركات التأمين الخاصة بالعدول عن التأمين ضد البطالة. من ناحية أخرى، لا تزال الحكومة تقدم إعانات البطالة. وهذا بالطبع أمر يشجع على البطالة. ومع ذلك فإذا توقفت الحكومة عن دفع تلك الإعانات، لن يخلو المجتمع من البطالة. ولكن دعم هؤلاء العاطلين أمر يفعله كل مجتمع متحضر. غير أنه يجدر بالحكومة التفريق بين التشجيع على البطالة، ودعم من لا دخل لهم. وبالفعل تحاول كل من الحكومة وشركات التأمين الخاصة ألا تكون السبب في حدوث مشكلة الخطر الأخلاقي. وفي سبيل ذلك قامت بتعديل وثائق التأمين لتتضمن مدفوعات المؤمن عليه وجعلت التغطية غير كاملة. فإذا بلغت المدفوعات في وثيقة التأمين على سيارتي ٢٠٠ دولار، ربما لن أقوم باتخاذ احتياطات أمنية كبيرة خشية فقدان هذا المبلغ، ولكني على الأقل سأتأكد أن سيارتي موصدة. ويمكن لشركات التأمين التصدي للخطر الأخلاقي أيضًا بالوصول إلى المعلومات الداخلية. فمثلًا سيسألونني عما إذا كنت مدخنًا أم لا قبل تحديدهم لأقساط التأمين التي سأدفعها. ولن يكون من الصعب عليهم التأكد مما إذا كنت صادقا أم لا، فسيعرفون بفحص طبي بسيط أنني أدخن. وإذا أرادت معظم الحكومات أن تدفع إعانات البطالة، فستحاول التأكد إذا كان متلقو تلك الإعانات يبحثون بجدية عن عمل أم لا، ونظرًا لأن أي حكومة لا يمكنها القيام بذلك بطريقة مثالية، فلا تدفع إلا الإعانات الزهيدة. وربما تكون كريمة أكثر إذا استطاعت التأكد من مدى جدية العاطلين في البحث عن عمل. هل يمكن لتلك المشاكل الخاصة بالمعلومات أن تُلحق الدمارَ التام بالأسواق؟ بالتأكيد تضر بها، ولكن لا داعي للمبالغة في حجم الضرر، فالأسواق تنجح دائمًا حتى مع عدم تماثل المعلومات، ذلك لأن هناك دائمًا محاولات لتضييق الهوة التي يصنعها نقص المعلومات أو لتقليل الضرر الناجم عنها. فمثلًا عندما أرغب في شراء شيء معقد مثل الكاميرا، تجدني استشير أصدقائي ومواقع الإنترنت ومجلات المستهلك، التي آمل أن تعطيني المعلومات المفيدة عن المنتجات التي أرغب في الاختيار من بينها. فآراء الخبراء تحوي «معلومات داخلية» تفيدنا إلى حد بعيد عندما نجهل المعلومات عما نرغب في شرائه. أنا شخصيًّا أعتمد علي تلك الآراء دائمًا في سوق يعاني هو الآخر من مشكلة حادة في نقص المعلومات، وهو سوق الرحلات. فأنا مثلًا أتطلع دائمًا لزيارة الأماكن الجديدة، ولكن في معظم الأحيان أكون غير متأكد مما إذا كنت سأستمتع بزيارة تلك الأماكن أم لا، أو إذا كانت شركة السياحة جيدة أم لا، ولا أستطيع معرفة الأماكن الجميلة والتفريق بينها وبين الأماكن الخطرة. فإذا لم نتغلب على هذه المشكلة، فلن نذهب إلى أي مكان في العطلة. (أو قد نطلب من الحكومة أن توفر لنا هي تلك الرحلات، الأمر الذي يستدعي في ذهني صورة لقوائم الانتظار الطويلة التي قد تجعلنا ننتظر لسنوات، قبل التمتع بالألعاب الجماعية والتشجيع المصطنع في منتجع خرساني كئيب). ولكننا في المقابل نشتري دليلًا سياحيًّا، ونحاول أن نعرف تلك المعلومات بأنفسنا. أما مع نظام الرعاية الصحية فلا تفلح استشارة دليل طبي عندما تريد إجراء جراحة في القلب. ومع ذلك، فمشكلة المعلومات واحدة حيث تجد مرضى القلب يحاولون دائمًا معرفة الأطباء ذوي السمعة الطيبة، والإجراءات الطبية التي حققت أعلى معدلات نجاح، والمستشفيات التي تتمتع بأفضل سمعة. ومع ذلك، تجد أن معظمهم ليس لديهم فكرة عن مدى مهارة أطبائهم المعالجين. يا له من أمر محزن! فنظام الرعاية الصحية الخاص المعتمد على التأمين الخاص سيكون — كما علمنا — باهظ التكاليف ولا يعتمد عليه، وبيروقراطيًّا. والأدهى من ذلك أنه يعطي للمرضى خيارات مثل اختيار جراح قلب بعينه، وهو قرار غير مؤهلين لاتخاذه. لذا، هل يمكن للحكومة أن تقدم ما هو أفضل؟ على أية حال، فقد أعرب كل فصل من فصول هذا الكتاب حتى الآن، باستثناء الفصل الثالث، عن أسفه لأسباب وتكاليف إخفاقات السوق. ولعلنا نتوسم أملًا في الحكومة أن تصلح الأمور. ولسوء الحظ، كما تخفق الأسواق فإن الحكومة تخفق هي الأخرى. يوجد لدى كل السياسيين والبيروقراطيين دوافعهم الخاصة. وقوة الندرة، والتأثيرات الخارجية، ونقص المعلومات لا تختفي بمفعول السحر عندما يُدار الاقتصاد أو يُنظم بواسطة الحكومة. فعندما يحدث إخفاق الأسواق وإخفاق الحكومة في آن واحد، ينحصر الخيار دائمًا بين أقل الضررين. وتوقعك أن النظام مكتظ بالناس صحيح بالطبع، ففي معظم الأحيان يضطر الناس للانتظار، كما أن اختيار المريض ليس سمة أساسية من سمات النظام: فإما أن يقبل أي نوع من العلاج يراه الطبيب مناسبًا، أو ألا يحصل على أي علاج. ونتائج العلاج بشكل عام ليست سيئة، ولكن طالما كانت قوائم الانتظار الطويلة للحصول على علاج محل جدل بين الكثيرين لعدة سنوات. وأفاد نفس استطلاع الرأي الذي كشف أن ١٧٪ من المواطنين الأمريكيين يستحسنون نظام الرعاية الصحية الأمريكي أن ٢٥٪ فقط من البريطانيين سعداء بنظامهم للرعاية الصحية، صحيح أنها نسبة جيدة، ولكنها ليست تأييدًا ساحقًا. إذا كنت من المصابين بالعمى في بريطانيا فستعي جيدًا أحد الأمثلة المعاصرة للمشاكل التي يواجهها مثل هذا النظام. شن المعهد الملكي الوطني للمكفوفين، والمنظمات الأخرى التي تمثل من لديهم مشاكل في الإبصار حملة قوية ضد قرار المعهد الوطني للجودة الصحية بالمملكة المتحدة، وهو جهاز يقيم العلاجات ويقرر ما إذا كان نظام الخدمات الصحية الوطنية يجب أن يغطي تكاليف الرعاية الصحية للمكفوفين أم لا، فتجد مثلًا أن جراحات القلب موجودة في قائمة العلاجات المسموح بها بينما جراحات تجميل الأنف غير مسموح بها. وفي عام ٢٠٠٢م أصدر المعهد الوطني للجودة الصحية تقريرًا ينصح بالعلاج بالتأثير الضوئي في الحالات الحرجة فقط، وفقط عندما تكون كلتا العينين مصابتين، ويجري العلاج فقط على العين ذات الإصابة الأقل خطورة. ومعنى هذا أن من يخضعون لهذا العلاج، سيتمكنون من الإبصار بعين واحدة فقط في حين أن من يحتاج إلى هذا العلاج لتحسين قوة إبصاره، سيحرم من العلاج كليًّا. ولكن من السهل اتهام المعهد الوطني للجودة الصحية دون فهم لمنهجه وللموقف الذي يواجهه. فقد كان التحدي الأساسي الذي يواجه إدارة الخدمات الصحية الوطنية هو محدودية مصادر التمويل في ظل أوجه إنفاق غير محدودة. ويرى المركز أنه ليس من المناسب مطالبة المرضى، الذين يدفعون القليل أو لا يدفعون شيئًا، بدفع مقابل للعلاج لأنهم إذا دفعوا سيطالبون بكل شيء. لهذا كان لزامًا على المعهد الوطني للجودة الصحية أن يحل تلك المعضلة الحتمية بأن يحدد من الذي يستحق الحصول على تغطية تأمينية، ومن يتركه يدفع تكلفة علاجه بنفسه. ولكن كيف يمكنه تحديد ذلك في ظل مثل هذه الظروف؟ وماذا ستفعل إذا كنت مسئولًا عن المعهد الوطني للجودة الصحية؟ إنها أشبه بالمهمة المستحيلة، ولكنك قد تنجح في تحديد تكلفة كل نوع من العلاج ونتائجه، والمقارنة بينهما. أحيانًا يكون الأمر في غاية البساطة كأن تقرر أن العلاج الذي يمنع الإصابة بأزمة قلبية بنسبة ٢٠٪ أفضل من العلاج الذي يمنع الإصابة بالأزمة بنسبة ١٠٪. وتحت ضغط اتخاذ القرار، قد تبالغ وتقول إن العلاج الأول أفضل مرتين من العلاج الثاني، ولا بد من استخدامه خاصة إذا كان أرخص مرتين. ولكن هل يمكن أن تقارن بين علاج يجعل المريض يعود للسير على قدميه مرة أخرى بعد إصابته في حادث، وعلاج آخر يقلل احتمال الإصابة بالعمى؟ مستحيل! ولكن ربما ستضطر للمحاولة إذا كنت رئيس المعهد الوطني للجودة الصحية والإكلينيكية. إليك المثال التالي، فكر في المشكلات التي يسببها تحكم المعنيين بأخذ القرار حول تأثير العلاج الضوئي، الذي يقلل فرصة الإصابة بالعمى. لقد زعم المعهد الملكي الوطني للمكفوفين أن العام الذي يعيشه الإنسان وهو ضرير أقل قيمة بكثير من العام الذي يعيشه وهو يتمتع ببصره. فإذا وافق المعهد الوطني للجودة الصحية على هذا الرأي فستزيد قيمة علاجات العمى التي تجعل الإنسان يعيش طويلًا وهو يتمتع ببصره عن تلك التي تجعله يعيش وهو فاقد البصر، وذلك وفقًا لمقياس جودة سنوات الحياة المعدلة. ولكن مهلًا. فالرأي القائل إنه «من الصعب أن يكون المرء كفيفًا» يفيد أن ذلك المنطق يعطي أولوية كبيرة للعلاجات التي تعيد البصر، في حين يعطي أولوية أقل لعلاج المكفوفين من الأمراض الأخرى. افرض أن جاء إلى المستشفى في نفس الوقت مريضان إثر إصابة كل منهما بانسداد في الشرايين التاجية، وأحدهما ضرير، والآخر أعور، والحالة حرجة لدرجة أن الوقت لا يسمح إلا بإسعاف حالة واحدة فقط، سيفضل مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة علاج الأعور على علاج الآخر الكفيف؛ لأن ذلك يزيد من جودة حياة الأعور. ولكن هذه حجة واهية، فحياة الضرير لا تختلف في قيمتها عن حياة المبصر. وهذا صحيح بالتأكيد. ولسوء الحظ أننا إذا اعتمدنا على مقياس جودة سنوات الحياة المعدلة، فسنجد أنه لا مغزى على الإطلاق من إنفاق أي من الأموال على العلاج الضوئي — أو حتى على تركيب نظارة حيث يذهب ذلك المقياس إلى أن العلاج إن لم يحسن من قيمة حياة المرضى، فلا يستحق أن ينفقوا نقودهم عليه. وقد يتطرف ذلك المقياس إلى القول إن علاج السرطان لا يحسن بالتأكيد من جودة حياة المرضى، وبالتالي فلا قيمة له. لذلك لا عجب أن المعهد الملكي الوطني للمكفوفين لا يطيق ذكر هذا المقياس. فقد أفاد المعهد بأنه قد ثبت أن العلاج الضوئي يحسن قوة الإبصار وعليه لا بد من توافره بكل الوسائل. ولن ألقي اللوم على المعهد الملكي الوطني للمكفوفين، ولكنه لا يدرك حجم المشكلة التي يحاول المعهد الوطني للجودة الصحية حلها، ألا وهي توزيع الموارد المحدودة على عدد غير محدود من العلاجات الطبية. فمن السهل فهم موقف المعهد ولاسيما ما يبدو أنه قرار قاسٍ، وهو أن تخضع عين واحدة فقط للعلاج تاركين الأخرى تصاب بالعمى. فمقياس جودة سنوات الحياة المعدلة بمنظوره البارد يفيد أن الفرق بين أن يكون للمرء عينان سليمتان وأن تكون له عين واحدة سليمة ليس على نفس الدرجة من أهمية الفرق بين أن يملك المرء عينًا واحدة سليمة وبين أن يكون ضريرًا. ولذلك، يحرج الوضع المالي المعهد مع المرضى لأنهم يطالبون دائمًا بالعلاج المجاني، ومن الصعب إيجاد طريقة مناسبة لتوزيعه. تسمح تقنيات جراحة المنظار للجراحين بإجراء العمليات دون فتح جروح كبيرة بجسم المريض مقللين بذلك خطورة حدوث مضاعفات أو آثار جانبية. ينصح خبراء الاقتصاد عادة باستخدام استراتيجية مماثلة عند محاولة إصلاح مشكلة تتعلق بالسياسات، إذ تقترب هذه الاستراتيجية من المشكلة بقدر الإمكان بدلًا من محاولة استخدام حل متطرف نوعًا ما لحلها. كيف إذن يمكننا إصلاح نظام الرعاية الصحية؟ لقد فشل الحل السوقي المعتمد على التأمين في الولايات المتحدة فشلًا ذريعًا إلى حد كبير بسبب المشكلة التي ميزها نموذج الليمون ﻟ أكيرلوف. والنتيجة هي رعاية صحية باهظة التكاليف وبيروقراطية … بل ومتاحة للبعض فقط. أما المنهج البريطاني فقد عمل على التخلص تمامًا من السوق والاستعاضة عنه بنظام تحكمه قرارات المعاهد الحكومية البيروقراطية مثل المعهد الوطني للجودة الصحية بدلًا من توجيهه بواسطة أسعار السوق، ويحدث هذا مع أن بعضًا من المستشفيات وغرف الجراحة في الاتحاد السوفييتي السابق قد تحولت إلى النظام الإنجليزي. ولحسن الحظ فإن القرارات السياسية الحكومية يمكن تفسيرها في المملكة المتحدة على نحو أفضل من الاتحاد السوفيتي، لذا ينجح النظام جيدًا. ومع ذلك فقد فعلت المملكة المتحدة ذلك كنوع من رد الفعل الضخم واسع المدى على مشكلة خطيرة وإن كانت محددة ألا وهي مشكلة المعلومات الداخلية. ونحن ندين لأنفسنا بسؤال هو: هل توجد جراحة منظار لإصلاح نظام الرعاية الصحية دون التضحية بقدرة المرضى على اتخاذ القرار بشأن القيمة التي يضعونها لأعينهم؟ وفي البداية، يمكن أن يتعرف علم الاقتصاد القائم على جراحة المنظار على الإخفاقات المحددة في السوق التي تنحصر في ثلاثة أقسام: قوة الندرة، والتأثيرات الخارجية، والمعلومات الناقصة، بالإضافة إلى قضية العدل. فقوة الندرة مشكلة محتملة، ولكن بالنسبة لمعظم العلاجات الطبية نجد أنها ليست بالمشكلة الكبيرة. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، ثمة ممارس عام واحد لكل ألف وخمسمائة مريض تقريبًا (والذي يعد أول محطة لمعظم المرضى المشتركين في خدمات الصحة القومية). لهذا ربما لا تجد في البلدة الصغيرة البالغ عدد سكانها تسعة آلاف نسمة إلا ستة أطباء فقط، وهو العدد الذي ربما يكون أكثر من كافٍ للحث على منافسة حقيقية في دولة يعيش ٩٠٪ من سكانها في مناطق حضرية. كما أن هناك بعض العلاجات الخاصة التي ينتج عنها قوة ندرة كبيرة، فتجد مِن المرضى مَن يسافر من أستراليا ومن نيوزيلندا إلى هاواي للعلاج باستخدام مشرط جاما، وهو أداة لعلاج أورام المخ اخترعه الجراح السويدي ليكسل. وهكذا تتدخل قوة الندرة في بعض الحالات وإن كانت قليلة. والتأثيرات الخارجية، أيضًا، مهمة فقط في بعض الحالات مثل: مشروعات الصحة العامة من أجل الحد من الأمراض المعدية، (فإذا استخدم كل الرجال العازل الطبي لحماية أنفسهم من مرض الإيدز، لن يكون هناك داعٍ للقلق من انتشار المرض). ومع ذلك، فإن أيًّا من التأثيرات الخارجية أو قوة الندرة ليس بالخطورة أو الانتشار حتى يصير تدخل الحكومة بديلًا جذابًا. وحل المنظار هذا سيكون بمنزلة إشراف تنظيمي بسيط لمنع استغلال قوة الندرة بالإضافة إلى بعض الدعم الحكومي المُركز لزيادة برامج التطعيم ضد الأمراض. لا يعتبر العدل، بالمعني الحرفي للكلمة، ضمن إخفاقات السوق؛ فهو شيء لا يتوفر بالضرورة حتى في الأسواق المثالية. ولكننا نهتم بقضية العدل عندما يتعلق الأمر بالرعاية الطبية لأننا لا نريد أن يُحرم الفقراء منها، ولأن تكلفة الرعاية الصحية يمكن أن تتغير تمامًا تبعًا لاختلاف الحظ من شخص إلى آخر. وفي مجتمع متحضر، فإننا سنرغب في أن نتأكد أن كل فرد يمكنه تحمل نفقة أحد مستويات الرعاية الطبية. وأفضل طريقة للقيام بذلك هي معالجة مشكلة الفقر بشكل عام (راجع فكرة «بدء السباق قبل الآخرين» التي ناقشناها في الفصل الثالث) وذلك باستخدام ضرائب مُعاد توزيعها بحيث تحصَّل من كل فرد وفقًا لطاقته المادية. وعلى أية حال، فلماذا ننفق الكثير لتوفير الرعاية الطبية المجانية للفقراء بينما نتجاهل حقيقة أنهم لا يمكنهم تحمل نفقة الطعام الصحي، أو العيش في مسكن آمن؟ هذا يجعل المعلومات الداخلية عائقًا كبيرًا أمام فعالية نظام الرعاية الصحية. يفيد التحليل الاقتصادي الذي أجريناه أن نظام الرعاية الصحية الذي توفره الحكومة يتسم باللافعالية لأن اتخاذ القرار لا يكون في يد المريض، كما تتدخل الدوافع السياسية في توزيع الموارد. وفي الوقت نفسه، فإن أكبر المشكلات التي تواجه توفير السوق للرعاية الصحية هي مشكلة المعلومات الداخلية وبالتحديد اتجاهها لتدمير أسواق التأمين. يقترح هذا التشخيص العلاج بالمنظار على مرحلتين: المرحلة الأولى هي توفير المعلومات على نطاق واسع: ويستلزم ذلك أن يكون من السهل الحصول على رأي لطبيب آخر، أو الاتصال بخط ساخن للمساعدة، أو الحصول على المعلومات من المكتبات، والعيادات، والإنترنت، بل وحتى من المتاجر الكبيرة. ولكن لا يهتم الناس كثيرًا في المملكة المتحدة بهذه المعلومات لأن الأطباء هم أصحاب القرار. أما إذا طُلب منا تحمل المسئولية فيما يخص علاجنا، فسيزيد اهتمامنا، وستستجيب الكثير من المصادر (العامة والخاصة) لمطالبنا بمعرفة المزيد. أما المرحلة الثانية فهي إعطاء المرضى فرصة لاستخدام تلك المعلومات. في النظام المخصخص القائم على التأمين، تقوم شركات التأمين باتخاذ الكثير من القرارات؛ وفي النظام الذي توفره الحكومة فإن الحكومة هي التي تتخذ القرارات. أما في النظام القائم على السوق بدون تأمين، فالقرار بيد المريض. وهذا أفضل كثيرًا، ولكن على المريض أيضًا تحمل تكلفة العلاج غير المتوقعة والتي ربما تكون مفجعة ماليًّا. ولكن كيف نعطي للمرضى القرار والمسئولية دون أن نضع عليهم عبئًا لا يطاق. سيكون أفضل نظام هو أن نجعل المرضى يدفعون جزءًا كبيرًا من التكلفة، وبالتالي، نوفر لهم دافعًا للتقصي عن المعلومات بأنفسهم، واتخاذ القرارات التي فيها مصلحتهم، وفي نفس الوقت لا تكلفهم الكثير وبحيث يترك النظام التكاليف الباهظة فقط لتتولى أمرها الحكومة أو شركة التأمين. وقد يفلح ذلك الأمر لأن معظم تكاليف العلاج ليست باهظة للغاية، ومن ثم لن تحتاج إلى تأمين. وبتفصيل أكثر، كيف يمكن لمثل هذا النظام أن ينجح؟ ينبغي أن يكون الهدف هو منح المرضى أقصى قدر من المسئولية واتخاذ القرار، ومن ثم نطلب منهم أن ينفقوا على علاجهم من أموالهم الخاصة وليس من أموال الحكومة أو شركة التأمين، ولكن لا بد من التأكد أن أحدًا لن يحصل على فاتورة علاج باهظة، ولا بد من التأكد أيضًا أنه حتى الفقراء لديهم المال الكافي لشراء العلاج. وتعني هذه المتطلبات أن المرضى سيتعين عليهم تحمل التكلفة الكاملة لما يتلقونه من علاج؛ ولكن يبقى على شركة التأمين أن تغطي الفواتير الباهظة، وأن كل فرد ينبغي أن يكون لديه حساب ادخاري مخصص لنفقات العلاج، ستسهم فيه الحكومة في حالة الفقر أو المرض المزمن. وهكذا يكون التأمين الباهظ رخيصًا بدرجة كبيرة عندما يغطي تكاليف العلاج الباهظ. أما الادخار فهو أيضًا لا يمثل مشكلة: يمكن أن تقلل الحكومة الضرائب المفروضة على كل فرد بمقدار ١٥٠٠ دولار في العام على سبيل المثال — المبلغ الذي يمثل تقريبًا تكلفة الرعاية الصحية العامة في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة بحساب الضرائب — ثم تجبر الحكومة الناس على وضع هذا المبلغ في حساب ادخاري. وأما بالنسبة لمن يدفعون ضرائب أقل من ١٥٠٠ دولار سنويًّا، فستمنحهم الحكومة المال لتعويض النقص. وطالما أن النظام إجباري، فلن يكون هناك مجال لحدوث ما يعرف بالاختيار السلبي الذي يعبر عن ميل أصحاب الوظائف الخطرة إلى التأمين على حياتهم. إذا اشتركت في مثل هذا البرنامج، كيف سيطبق عليك؟ ستتحول مدخراتك من أجل العلاج تلقائيًّا إلى حساب بنكي بفائدة مرتفعة، وستزيد هذه المدخرات تدريجيًّا طوال حياتك. وبالنسبة لمعظم الناس، تكون تكلفة العلاج منخفضة في سنوات شبابهم. لذا، قد تتوقع أن يصل حسابك إلى ثلاثين ألف دولار عندما تبلغ سن الأربعين؛ والأكثر من هذا، إذا استطعت أن تقلل نفقاتك، سيستمر حسابك في زيادة. وبالتالي، سيضمن لك مبلغ الثلاثين ألف دولار تلقيك الكثير من الرعاية الطبية. بالطبع ربما يتم إنفاقها كلها على إجراء علاجي واحد باهظ الثمن، ولكن سيبقى التأمين الصحي عند الكوارث موجودًا ليقلل نفقاتك. فإذا وصلت إلى سن التقاعد وما يزال في حسابك الادخاري الطبي مبلغ يزيد عما تحتاجه، فقد تستخدم هذا المال لتنفق منه عند تقاعدك. وعندما تموت، قد تورث تلك المدخرات لحسابات الآخرين (في الغالب زوجتك أو أبنائك). لذا، سيكون لديك دافع في كل مراحل حياتك لإنفاق المال على العلاج الذي تشعر أنه غاية في الأهمية فقط. فإذا شعرت مثلًا أن العلاج المناسب بالنسبة لك مجرد إجراء وقائي — على سبيل المثال العلاج بجلسات الشياتسو الياباني التي يجري فيها العلاج بضغط الإصبع — فالقرار لك. كما قد تفكر أيضًا في الإقلاع عن التدخين نظرًا لما قد يكلفك من علاج بمرور السنين. فبالتأكيد سيغطي التأمين الصحي عند الكوارث عمليات زرع الرئة التي ستخضع لها، ولكن لا يوجد نظام بشري يمكنه تجنب الخطر الأخلاقي تمامًا. والاستثناء سيكون إذا كان يتوجب عليك دفع نفقات باهظة للغاية، فربما ستفضل شركة التأمين في هذه الحالة أن تدفع ثمن أرخص علاج بينما ستفضل أنت الحصول على أفضل علاج، عندها سنكون بصدد مشكلة عويصة، ولكنها لن تختلف عن مشكلة تضارب المصالح التي نواجهها في كل تعاملاتنا مع أنظمتنا الطبية الآن. ويعني النظام الجديد باختصار أن تعارض المصالح الموروث أصبح قلما ما يحدث. من الشائع توفر السلع والخدمات في السوق الخاص، ولكن أحد البدائل الرئيسية — وبالتأكيد هو البديل الأيديولوجي الرئيسي — هو توفيرها باستخدام سوق سياسية. فتوزيع السلع والخدمات الطبية يعد من بين أصعب أنواع السلع في التوزيع. فقد حاولنا من قبل استخدام الأسواق السياسية لتوزيعها، ولكنها خذلتنا لأسباب واضحة. فللوهلة الأولى، نجد أن إخفاقات السوق الخاص التي يمثلها النظام الأمريكي، واضحة هي الأخرى. ولكن متى دققت بعناية في إخفاقات الأسواق، تجد مشكلة نقص المعلومات أكثرها خطورة، ويعاني سوق التأمين أكثر العواقب خطورة. ويتلقى المواطنون الأمريكيون معظم رعايتهم الطبية عبر هذا السوق الذي لا يعمل على نحو سليم. وببعض التخيل، وبنذر يسير من مبادئ علم الاقتصاد، يمكن أن نفكر بهدوء في مشكلات أنظمتنا الحالية، ونفكر في كيفية إصلاحها. ففي سنغافورة، حقق النظام المذكور في الصفحات الأخيرة من الكتاب نجاحًا على مدار عشرين عامًا تقريبًا. يعيش المواطن السنغافوري العادي حتى عمر الثمانين، وتبلغ تكلفة ذلك النظام (سواء العام أو الخاص) ألف دولار للفرد — أي أقل من تكلفة بيروقراطية الرعاية الطبية وحدها في الولايات المتحدة. فكل عام يدفع المواطن السنغافوري حوالي سبعمائة دولار مقابل الرعاية الطبية (في حين يدفع الأمريكي العادي ألفين وخمسمائة دولار)، ويبلغ إنفاق الحكومة على الفرد ثلاثمائة دولار (أي أقل خمس مرات من الحكومة البريطانية، وأقل سبع مرات من الحكومة الأمريكية). أي أن علم الاقتصاد المعتمد على المنظار قد نجح. وربما السبب في عدم انتشار النجاح الذي حققته سنغافورة في الدول الأخرى هو ترجيح الرأي القائل إننا يجب أن نعتمد على السوق، في حين يؤكد الرأي الآخر أن الدور الحكومي سيكون هو الأفضل. فأين الحل إذن، عند الحكومة، أم السوق؟ علمنا من قبل أن السؤال وحده بمعزل عن السياق لا معنى له. وللإجابة عليه نحتاج أن نفهم لماذا تنجح الأسواق، وكيف، ولماذا تفشل؟ علمنا من الفصل الثالث لماذا تنجح الأسواق بالضبط؛ لأن اختياراتنا كمستهلكين بين البائعين المتنافسين تعطي لهم الدوافع المناسبة، والمعلومات المناسبة، لإنتاج الكميات المناسبة مما نحتاجه بالضبط. كما علمنا أيضًا أن كلًّا من قوة الندرة، والتأثيرات الخارجية، والمعلومات الداخلية يمكن أن تدمر الطريقة التي تقوم فيها الأسواق بكل ذلك. أما في حالة الرعاية الصحية فيكون أداء السوق ضعيفًا؛ لأننا بينما نريد أن نطمئن أنهم سيدفعون فواتير العلاج الباهظة نيابة عنا، تضر المعلومات الداخلية بصناعة التأمين باستمرار لأنها تُنفر منها العملاء الأقل إصابة بالأمراض؛ مما يدفع شركات التأمين إلى رفع قيمة الأقساط. صحيح طورت الشركات الخاصة طرقًا للتحايل على المشكلة، ولكنها طرق بيروقراطية، وباهظة الثمن. ولكن كان لحكومة سنغافورة من القوة ما مكنها من معالجة المشكلة الرئيسية باستخدام كل من المدخرات الإلزامية والتأمين الصحي عند الكوارث للتأكد من القدرة على التحكم في التكلفة، وللحفاظ في نفس الوقت على حق المريض في الاختيار. فالحكومة يمكنها أن تحل محل الأسواق، ولكنها ستبلي بلاءً أفضل إذا تدخلت لمحاولة إصلاحها فقط. ولكن من غير المحتمل أن تنجح إذا لم تحدد أين توجد المشكلة في المقام الأول.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/6/
الجنون العقلاني
أتخيل أنه في غضون سنوات قليلة سيكون هناك بوابتان فقط، أو ثلاث بوابات إنترنت كبيرة يدخل إليها كل مستخدمي الإنترنت، ثم يتم توجيههم من خلالها إلى ما يريدون تصفحه عبر الشبكة. سيجلب هذا مئات المليارات من الدولارات. فإذا أردت أن تنجح، يجب أن تكون أحد هذه البوابات. حدث الكثير منذ ذلك الحين. ففي عام ١٩٩٩، قفز سعر السهم إلى أكثر من ١٠٠ دولار عندما شاع حينها أن قيمة الشركة قد قُدرت بما يزيد عن قيمة كل المكتبات التقليدية لبيع الكتب في العالم. ولكن خلال عام ٢٠٠٠، تراجع سعر الأسهم لتصل إلى ١٨ دولارًا للسهم بل أقل. وفي صيف عام ٢٠٠١ كان السهم يباع مقابل حوالي ثمانية دولارات. وفي عام ٢٠٠٢، نُشرت أراء إيجابية في حق الشركة في عدة مقالات في الصحف الاقتصادية ومع ذلك فقد استمر سعر الأسهم أقل من سعر طرحها للاكتتاب عند ١٨ دولارًا. استعادت الأسهم قوتها منذ ذلك الحين ووصل سعر السهم إلى ٤٠ دولارًا. فأيهما كان السعر الخطأ؟ ١٠٠ دولار، أم ثمانية دولارات؟ أم كلاهما؟ ستكون إجابة هذا السؤال مفيدة، وخصوصًا في ظل حقيقة أن التغير الحاد في أداء أسهم شركة أمازون يعتبر مألوفًا. إذن، هل يمكن لمخبرنا الاقتصادي أن يخبرنا عن السبب وراء سلوك الأسهم عندما تتحرك صعودًا أو هبوطًا، وكيف يمكن أن يكون أداء الأسهم في المستقبل؟ يواجه علماء الاقتصاد مشكلة خطيرة أثناء محاولتهم قول أي شيء منطقي حول أسعار الأسهم. يعمل هؤلاء العلماء على دراسة السلوك المنطقي، ولكن كلما زادت منطقية سلوك المستثمرين في سوق الأوراق المالية، زادت عشوائية سلوك سوق الأسهم. وها هو السبب: المستثمرين العقلانيون يشترون الأسهم اليوم إذا كان واضحًا أن أسعارها سترتفع غدًا، ويبيعونها إذا كانت ستنخفض. ولكن هذا يعني أن أي توقع بأن الأسعار سترتفع غدًا سوف يكون خاطئًا؛ فأسعار الأسهم سترتفع اليوم لأن المستثمرين سيشترونها وسيستمرون في شرائها حتى تصل إلى المستوى الذي لا تكون فيه رخيصة جدًّا بحيث يكون من الواضح أنها سترتفع غدًا. وحقيقة الأمر أن المستثمرين العقلانيين ينبغي أن يكون بوسعهم التكهن بأي تحركات متوقعة في سوق الأسهم أو في سعر سهم ما؛ فإذا أمكن توقع التحرك، فعندما يضعون أموالهم موضع المخاطرة فسوف يتنبئون بما سيحدث. والأصح أن يكون في سوق الأسهم «حركة عشوائية ذات اتجاه»، أي أن السوق ينبغي أن يرتفع في الغالب مع مرور الشهور، وهكذا يكون له ميزة تنافسية بالمقارنة بأشكال الاستثمار الأخرى المحتملة، مثل إيداع الأموال في حساب ادخاري، أو شراء أملاك عقارية. فإذا توقعنا لسوق الأسهم أن يرتفع بأكثر من ارتفاع هذا الاتجاه، فسيكون بالفعل قد حقق ما توقعناه، وبالمثل إذا توقعنا انخفاض سوق الأسهم أو ارتفاعه ارتفاعًا يقل عن ارتفاع هذا الاتجاه، فسيكون سوق السهم قد أصبح متدنيًّا بالفعل. وهذا هو السبب وراء احتفاظ المستثمرين بالأسهم في المقام الأول. فالاتجاه لا يغير من التحليل الأساسي شيئًا، ومع ذلك فالتحركات العشوائية في أي جلسة من جلسات التداول تجعل الاتجاه يبدو كالقزم. وتنطبق هذه النظرية حتى لو لم يكن جميع المستثمرين عقلانيين. فالعقلانيون منهم ينبغي أن يكونوا كافيين لدفع السوق نحو السير العشوائي، إذا كانوا يدفعون أموالًا ضخمة لشراء أسهم جيدة ويجنون أموالًا ضخمة من بيع أسهم سيئة. ولا ينبغي أن تكون حركة الأموال ما بين دفع وربح صعبة للغاية ما دام من المفترض أن المستثمر الذكي سوف يربح الكثير من المال. هل يجب أن نصدق نظرية «السير العشوائي»؟ بالتأكيد لا يجدر بنا أن نتوقع أنها صحيحة تمامًا. فإذا كانت كذلك فلا يخلو الأمر من تناقض: فالمستثمرون المُلمُّون إلمامًا جيدًا بتحركات السوق يتسببون في وجود السوق العشوائية، ومع ذلك فالسوق العشوائي لا يثيب أحدًا على كونه ملمًّا إلمامًا جيدًا بتحركات السوق. لن يستحق الأمر حينها من أحد أن يبذل الوقت والجهد في تحليل السوق، أو في الكشف عن معلومات جديدة إذا كان كل المستثمرين بالسوق يقومون بنفس الأمر. من ناحية أخرى، فالسوق المليء بالفرص غير المستغلة سوف يتيح الفرص الكبيرة للربح لأي مستثمر راغب في البحث عنها. وبين هذه النقطة وتلك توجد نقطة توازن: وهي عبارة عن سوق عشوائي تقريبًا به ما يكفي من غرابة السمات التي تؤهله لمكافأة الملمين إلمامًا جيدًا بتحركات السوق والذين يحافظون على سوق يكاد يكون عشوائيًّا. يمكنك أن ترى نفس الظاهرة في الطوابير أمام خزائن الدفع في المتاجر الكبيرة. أي من هذه الطوابير يتحرك أسرع؟ الإجابة ببساطة أنه لا يهم أيهم أسرع. فإذا كان أحد الطوابير يبدو أسرع من غيره على نحو واضح، فسيكون زوار المتجر قد وقفوا فيه بالفعل، ولن يصبح الأسرع بعد ذلك. لذا فإن كل ما عليك فعله هو الوقوف في أي صف، دون أن تشغل بالك بسرعته. ومع ذلك، فحتى إذا وقف الجميع في أي صف يختارونه، فسيكون هناك إذن نماذج يمكن توقعها والتي يمكن للمتسوق الخبير استغلالها؛ فمثلًا، إذا كان المتسوقون يبدءون تسوقهم من مدخل المتجر ثم يشقون طريقهم إلى داخل المتجر، فسيكون أقصر الطوابير أقربها من مدخل المتجر. ولكن إذا عرف عدد كاف من الخبراء بذلك، فحينها لن يصبح أقصرها. والحقيقة هي أن المتسوقين النشيطين الأذكياء الرشيقين والمتمرسين تجدهم أفضل قليلًا من المتسوقين العاديين في تحديد أسرع الطوابير، وربما يمكنهم أن يحاسبوا على مشترياتهم أسرع منا جميعًا. ولكن ليس بفارق كبير. لو كان من السهل التنبؤ بالمستقبل، لكان من السهل تحديد كم يساوي امتلاك سهم في شركة تيم هارفورد دوت كوم. لنفرض أن جميع المستثمرين يعرفون أن هذه الشركة سوف تحقق ربحًا ١٠٠ دولار سنويًّا إلى الأبد. لذلك، سوف يدر امتلاك السهم دولارًا واحدًا سنويًّا إلى الأبد. والسؤال هنا ما قيمة ذلك؟ إذا وضعت ١٠ دولارات في حساب ادخاري بفائدة سنوية ١٠٪، سيدر لي دولارًا واحدًا سنويًّا إلى الأبد. وهكذا يكون السهم الواحد في شركة تيم هارفورد يضاهي ١٠ دولارات في حساب ادخاري بفائدة ١٠٪ سنويًّا. إذن فعندما يكون سعر الفائدة ١٠٪ سنويًّا يجب أن يكون بوسعي دفع ١٠ دولارات لشراء سهم من أسهم شركة تيم هارفورد دوت كوم. أما إذا بلغ سعر الفائدة ٥٪، فستغدو الأسهم أكثر جاذبية بمقدار الضعف بالمقارنة بوضع النقود في حساب ادخاري؛ وأما عندما يكون سعر الفائدة ١٪ فقط، فترتفع حينئذ جاذبية الأسهم عشر مرات بالمقارنة بوضع النقود في حساب ادخاري. سيكون عليَّ حينئذ دفع ١٠٠ دولار للحصول على سهم واحد من أسهم شركة تيم هارفورد دوت كوم بفائدة تبلغ ١٪ إلى الأبد لأنه سيدر لي ربحًا قدره دولار واحد سنويًّا، تمامًا مثلما ستدر المائة دولار في الحساب الادخاري. (وهذا أحد الأسباب وراء ارتفاع أسواق الأسهم عندما يكون من المتوقع انخفاض أسعار الفائدة، ووراء انخفاضها عندما يكون من المتوقع ارتفاع أسعار الفائدة). وصل سعر سهم شركة أمازون إلى ٤٠ دولارًا في أكتوبر عام ٢٠٠٤. ولكن مع أسعار الفائدة طويلة الأجل في الولايات المتحدة البالغة ٤٪، كان إيداع دولارين فقط في الحساب الادخاري كافيًا ليدر ثمانية سنتات سنويًّا. ولمّا كان السهم الواحد في أمازون يدر ثمانية سنتات عام ٢٠٠٣، كان من المفترض أن يباع السهم مقابل دولارين، وليس ٤٠ دولارًا. ولكن بالتأكيد كان هناك سبب آخر يبرر ارتفاع سعر السهم إلى هذا المستوى. وفي حقيقة الأمر هذا «الشيء الآخر» ليس سوى المستقبل. فالشركات الواقعية لا تحقق على نحو موثوق ربحًا محددًا سنويًّا. ويمتلك المستثمرون الحق في الحكم على ربحيتها المستقبلية بأي طريقة يستطيعونها. فربما لا تحقق شركة تيم هارفورد دوت كوم ١٠٠ دولار سنويًّا، وإنما مليار دولار سنويًّا بسبب توسعها الرهيب. وأيضًا ربما تشهر الشركة إفلاسها غدًا. وبسبب هذا النوع من عدم اليقين، يرغب معظم العقلاء في الحصول على خصم: كأن يحصلون على سهم واحد خالي من المخاطرة بسعر فائدة يبلغ ١٪ بسعر قد يصل إلى ١٠٠ دولار، ولكنهم يحصلون على السهم ذي المخاطر والمتوقع أن يدر نفس العائد وهو دولار واحد سنويًّا (ولكن كيف يتأكدون؟) بسعر أقل، ربما بسعر ٩٠، أو ٧٠، أو حتى ٣٠ دولارًا. أما مدى انخفاض سعر بيع السهم حينئذ، فهذا يعتمد على مدى المخاطرة المنطوي عليها السهم، والمخاوف التي تراود المستثمر العادي حيالها. يعني هذا أن المساهمين في شركة أمازون دوت كوم لا يتوقعون الحصول على أرباح طويلة الأجل تبلغ ثمانية سنتات للسهم، وإنما يتوقعون الحصول على أرباح أعلى من هذا بكثير. فبدلًا من شرائهم السهم بسعر ٤٠ دولارًا ليدر عليهم ثمانية سنتات، يمكنهم أن يودعوا هذا المبلغ في حساب ادخاري ليحصلوا على ١,٦٠ دولار (حيث إن أسعار الفائدة طويلة الأجل تبلغ ٤٪). ولكنهم يتوقعون ارتفاع عائد كل سهم ليبلغ ١,٦٠ دولار أو أكثر لتعويضهم عن المخاطرة. وفي سبيل ذلك يجب أن ترتفع أرباح شركة أمازون من ٣٥ مليون دولار إلى مليار دولار سنويًّا. لا يتعلق الأمر باختيار الأجمل في نظر المرء، ولا حتى من يراهم الذوق العام على أنهن الأجمل. ولكننا وصلنا إلى المرحلة الثالثة التي نستخدم فيها ذكاءنا لتوقع ما يمكن أن يكون عليه الذوق العام. وأعتقد أن هناك من وصلوا إلى المرحلة الرابعة، والخامسة، بل والأعلى من ذلك. فقد داي وظيفته، ولكنه كان على حق. فقبل أن يتوفر لشركة فيليبس آند دريو الوقت لتغير استراتيجيتها، تحول اتجاه سوق الأسهم فتراجعت أسعار أسهم شركات الإنترنت، والاتصالات، والتكنولوجيا. وهبطت الأسعار في السوق ككل. أما أسهم «القيمة» التي لم تكن مطابقة لذوق العصر آنذاك والتي كان يحتفظ بها داي، فحققت أداءً جيدًا. كما كانت الأموال النقدية أفضل من أسهم الإنترنت المنهارة. من هنا قفزت الشركة على القمة متصدرة قائمة شركات إدارة صناديق التقاعد، حيث إنها حققت ربحًا لعملائها يبلغ ٦,٤٪ في ثلاثة أشهر حتى يونيو عام ٢٠٠٠، أي ما يعادل أكثر من ٢٨٪ كعائد سنوي في سوق منهارة تمامًا. وبات مؤشر إف تي إس إي ينخفض وينخفض بعد أن وصل إلى أكثر من ٦٤٠٠ نقطة وقتما غادر السيد داي الشركة، لينخفض إلى أقل من ٣٣٠٠ نقطة بعد ثلاث سنوات. وتوصل داي عام ١٩٩٦ إلى أن عملاءه سيستفيدون من بيع الأسهم في السوق عندما يصل المؤشر إلى ٤٠٠٠ نقطة، ووضع المال في حساب ادخاري. ثم ثبت بعد سبعة أعوام أنه كان على صواب. كان توني داي مصيبًا، ولكن هل كان تصرفه منطقيًّا؟ لقد ظل المئات من مديري الاستثمارات ممن ثبت ارتكابهم للأخطاء الفادحة؛ محتفظين بمراكزهم الوظيفية لأنهم كانوا يسايرون التيار. أما توني داي، فقرر أن ينتهج مذهبه هو. نعم، لقد برئت ساحته في النهاية، ولكن هذا بعدما أصبح محط سخرية الصحافة، وهجره عملاؤه، وأجبرته الشركة على التقاعد. فمديرو تلك الصناديق مشتتون بين دوافع غير متسقة، فإذا قرروا اتباع رأي مخالف للجمهور، فلن يقبل عليهم إلا عملاء قليلون، وسيعد هذا نجاحًا. أما إذا لم ينجحوا حتى في هذا، فربما يفقدون وظائفهم. ولذلك فمن الأسلم هنا أن تسبح مع التيار. وليس معني هذا أن أسعار الأسهم تبتعد تمامًا عن الواقع، ولكنه يعني أن الكثيرين من مديري صناديق الاستثمار الكبيرة، الذين يتخذون القرارات بشأن مبالغ مالية هائلة، يحصلون على أجورهم من أجل متابعة الأسهم التي تساير ذوق العصر وليس الأسهم التي ينبغي متابعتها. وهذا يعني أن السوق سوف ترتكب أخطاء. وفكرة هذا الرسم البياني هي توضيح أن أداء سوق الأسهم قد ارتفع بسرعة شديدة (وفي هذا المثال معنا أحد مؤشرات سوق الأسهم الأمريكية الذي كثيرًا ما يورد على سبيل المثال وهو مؤشر ستاندرد أند بورز ٥٠٠)، فإذا كنت استثمرت أموالك في سوق الأسهم الأمريكية في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، لكنت حققت الربح الوفير. والرسالة الحقيقية مقلقة بعض الشيء. فالأرقام على المحور الرأسي في الرسم البياني عبارة عن «معدلات تاريخية للسعر/الأرباح». تظهر هذه الرسومات البيانية كيف ترتبط أسعار الأسهم بتاريخ أرباح الشركات خلال السنوات العشر الماضية. لهذا في عام ١٩٨٠، كانت أسعار أسهم عادية داخل مؤشر ستاندرد أند بورز ٥٠٠ تبلغ تسعة أضعاف متوسط أرباح هذه الشركات في السبعينيات (جرى تعديل الرسم البياني وكل هذه الأرقام من أجل إزالة أي أثر للتضخم). فالأسهم التي كانت تدر أرباحًا تبلغ ١٠٠ دولار سنويًّا في السبعينيات، كان يتكلف شراؤها ٩٠٠ دولار عام ١٩٨٠. وبحلول عام ١٩٩٠، كان يتكلف شراء الأسهم التي تدر ربحًا يبلغ ١٠٠ دولار سنويًّا في الثمانينات ١٨٠٠ دولار. ويعني هذا أن المستثمرين عام ١٩٩٠ كانوا متفائلين أن سوق الأسهم ستكون في التسعينيات أفضل منها في الثمانينيات، في حين أن المستثمرين عام ١٩٨٠ لم يكونوا متفائلين بنفس الدرجة أن أداء سوق الأسهم في الثمانينات سيكون أفضل منه في السبعينيات. وبحلول عام ٢٠٠٠، كان المستثمرون مستعدين لدفع مبلغ ٤٥٠٠ دولار مقابل الأسهم التي تدر ربحًا يبلغ ١٠٠ دولار طوال التسعينيات. فإذا كان المستثمرون عام ١٩٩٠ على درجة أكبر من التفاؤل بالمقارنة بالمستثمرين عام ١٩٨٠، فإن المستثمرين عام ٢٠٠٠ كانوا حمقى تمامًا. وكان جزء من هذه الحماقة يرجع إلى استعدادهم لدفع مبالغ أكبر مقابل الأسهم لأن امتلاك الأسهم كان قد أصبح أكثر شيوعًا بين الناس آنذاك، وزادت قدرتهم على تحمل المخاطر. ولكن هذا الأمر قد عكس في الأغلب وجهة نظر، وهي وجهة نظر لا تناقش وغير مقصودة، ترمي إلى أن الربحية في المستقبل ستكون أفضل بكثير منها في الماضي بطريقة لم تحدث من قبل. لنكن أكثر وضوحًا فيما يتعلق بالافتراض الهائل الذي افترضناه من قبل. لم تكن المسألة تدور حول ما إذا كانت أرباح الأسهم تزيد أم لا، وفي المتوسط، كانت دائمًا تشهد مع توسع الاقتصاد زيادة غير منتظمة على المدى المتوسط. ولكن معدلات السعر/الأرباح مثل تلك الموضحة في الرسم البياني قد أخذت دائمًا في اعتبارها حقيقة أنه نتيجة لنمو الاقتصاد فإن أرباح الغد ستكون في الغالب أكبر من أرباح اليوم. وفي عام ٢٠٠٠ راهن المستثمرون على أكثر من ذلك حيث راهنوا على أن أرباح الغد ستكون أكبر بكثير جدًّا من أرباح اليوم بطريقة لم يسبق لها مثيل في تاريخ سوق الأسهم، ولا حتى عند إنشاء السكك الحديدية أول مرة، ولا عند دخول الكهرباء الولايات المتحدة، ولا أثناء التوسع الاقتصادي الكبير الذي شهدته الخمسينيات والستينيات. ومع أول انهيار مفاجئ شهدته سوق الأسهم في نهاية عشرينيات القرن العشرين، الذي كان يمثل بداية انهيار بورصة وول ستريت عام ١٩٢٩، زعم فيشر أن الأرباح المستقبلية ستكون ممتازة بسبب الفعالية الناتجة من الاندماجات الكبيرة الذي شهدتها الشركات مؤخرًا آنذاك، وأيضًا بسبب تطبيق التكنولوجيا الحديثة، وتطور الخبرة الإدارية وخبرة البنك المركزي الأمريكي. وكان يبدو تحليله معقولًا … ومألوفًا بشكل غريب (أي يشبه تحليله السابق الذي لم يكن تحليلًا صائبًا). والسؤال عمّا إذا كانت أرباح إحدى الشركات ستزيد زيادة كبيرة بالفعل في الأعوام القليلة المقبلة، مثلما توحي تقييمات الفقاعة يعد سؤالًا مهمًّا. من المثير التفكير في أن هذه الحجة هي حجة عن قوة الإنترنت، والهواتف الخلوية، والحواسب الآلية، وأشكال التقدم التكنولوجي الحديث الأخرى. فقد حاجج العديد من أنصار الإنترنت بالفعل أنه من المعقول جدًّا أن يدفع المرء مبلغًا باهظًا مقابل السهم في شركة أمازون لأن الإنترنت «ينقل كل شيء». ولكن للأسف ليس هذا هو الغرض المقصود، فربما يعد الإنترنت بالفعل بمنزلة تكنولوجيا تحويلية شأنه شأن الكهرباء، أو الإنتاج الكيميائي الضخم، أو السكك الحديدية. وفي حقيقة الأمر فإن الإجابة سوف تظهر بمرور الزمن، ولكن هذه الإجابة لا تهم في الحقيقة عندما يتعلق الأمر بسوق الأسهم. والفرضية الأساسية الخفية في هذا الأمر هي أننا إذا كنا نخوض غمار ثورة تكنولوجية، فينبغي أن تكون قيمة الأسهم مرتفعة للغاية. ولكن هذه الفرضية خاطئة؛ فأسعار الأسهم ترتفع فقط متى وجد سببًا وجيهًا يجعلنا نتوقع زيادة في الأرباح المستقبلية. وكما نعرف فإن الأرباح تأتي من الندرة مثل ملكية الأرض النادرة (فنجدها محمية بواسطة سند ملكية قانوني)، والمنتج النادر (فنجده محميًّا بواسطة العلامة التجارية)، أو الشركة ذات القدرات النادرة (لا يحميها إلا مسألة صعوبة تقليد أكثر الشركات فعالية). ولهذا فأسعار الأسهم يمكن أن ترتفع فقط إذا كان التحول الاقتصادي يزيد درجة تحكم الشركات في الموارد النادرة. من السهل أن ترى أنه ربما توجد علاقة بين التحول الاقتصادي والتحكم في الندرة. ولكن ليس من السهولة أن تعرف طبيعة هذه العلاقة؛ فهي بالتأكيد ليست بالعلاقة المباشرة، مثل القول بأن «التكنولوجيا الجديدة تزيد من تحكم الشركات في الموارد النادرة.» بعض الشركات سوف تربح وبعضها ستخسر. وتاريخيًّا لم توجد علاقة واضحة بين التحول الاقتصادي وبين الأرباح العالية بالنسبة للشركات العادية. وفي الواقع، فالعكس غالبًا يكون هو الصحيح: يقضي التحول الاقتصادي على ربحية الشركات القديمة (عن طريق استبدال أصولها النادرة أو مطابقتها)، بينما تواجه الشركات الجديدة التي حلت محل نظيراتها القديمة خطر ارتفاع معدلات الفشل والارتفاع الهائل في تكاليف تطوير أعمالهم. أما الثمار فيجنيها العمال الذين يحصلون في المتوسط على رواتب أعلى، ويجنيها أيضًا المستهلكون في صورة أسعار منخفضة أو حصولهم على سلع وخدمات أحدث وأفضل. وعلى سبيل المثال، فأرباح شركة أمازون البالغة ٣٠ مليون دولار عام ٢٠٠٣م ينبغي أن تقاس أمام التراجع في أرباح صناعة الموسيقى عالميًّا في نفس العام بما يقرب من ٢,٥ مليار دولار، وهو التراجع الذي يرجعه القائمون على هذه الصناعة إلى تحميل الموسيقى من الإنترنت وسهولة القرصنة. وهكذا يمكن للإنترنت القضاء على الأرباح وفي الوقت نفسه تمكين الحصول عليها. لذلك، فحتى الاستثمار في أفضل شركات السكك الحديدية لم يكن بمنزلة الاستثمار العظيم، أما الاستثمار في أسوأ تلك الشركات، كان يعد بمنزلة كارثة مالية. ولكن لا خلاف على أن صناعة السكك الحديدية قد حولت تمامًا الاقتصاديات المتقدمة. تفيد التقديرات المتحفظة أنها أضافت من ٥ إلى ١٥٪ إلى القيمة الإجمالية للاقتصاد الأمريكي بحلول عام ١٨٩٠م، وهو رقم مذهل عندما تفكر فيه. ولكن تسببت المنافسة بين شركات السكك الحديدية وبعضها في بناء وتشغيل الخطوط في أن تظل الأرباح متواضعة. وطالما ظلت المنافسة قوية، فإن السكك الحديدية لن تنعم سوى بقدر ضئيل من قوة الندرة. يبدو أن شركة مايكروسوفت والتي حلت محل شركة آي بي إم كعملاقة صناعة الحاسب الآلي، هي فقط التي لم تمر بأوقات عصيبة. وربما يكون هذا النجاح الكبير لشركة مايكروسوفت هو ما ساعد في إشعال حالة الهيستريا بحثًا عن «مايكروسوفت جديدة». ولكن لا تستطيع معظم الشركات أن تكون مثل مايكروسوفت، ولن تكون مثلها أبدًا. وفي الحقيقة، فعندما يتعلق الأمر بأسعار الأسهم، فحتى شركة مايكروسوفت لا تبدو وكأنها شركة مايكروسوفت الشهيرة لأن سعر سهمها في نهاية تسعينيات القرن العشرين لم يعكس وضعها القائم آنذاك وإنما عكس توقعات لما سوف تصبح عليه مايكروسوفت في النهاية. وكانت وجهة نظر المستثمرين، التي ربما تكون صحيحة، أن مايكروسوفت بسيطرتها على عدد من المعايير المهمة للصناعة فإنها تمتلك بالفعل قوة ندرة حقيقية ودائمة والتي ستعود عليها بالأرباح الضخمة في السنوات المقبلة. وبالنسبة إلى سرب الشركات المطالبة بعرش الدوت كوم، فما كان ينبغي تكون الفروق بينها كبيرة. فكثير من هذه الشركات كان من الممكن أن تقام شركات طبق الأصل منها بأقل تكلفة في غضون أشهر قليلة، ولعل هذه الحقيقة وحدها هي التي أوضحت أن أسهمها لا تساوي شيئًا في الحقيقة. لم يكن يهم ما إذا كان الاقتصاد يتغير أم لا؛ إذ إن الاقتصاد لن يتغير أبدًا بصورة تجعل الشركات التي لا تتمتع بأي قوة ندرة تجني الأرباح الطائلة.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/7/
رجال عرفوا قيمة العدم
تخيل أنك استأجرت خبيرًا اقتصاديًّا ليبيع منزلك، سيقوم الخبير بتنظيم مزاد ذي مظهر طيب بحيث يمنحك الشعور بالاطمئنان بأنك ستحصل من ورائه على مبلغ ٣٠٠,٠٠٠ دولار، وهي القيمة التي تظن أن منزلك يساويها. ثم تبدأ عملية استلام العطاءات التي تسفر عن إصابتك بصدمة كبيرة وشعور خبيرك الاقتصادي بالحرج بعد أن انتهت العملية ببيع المنزل بأقل من ٣,٠٠٠ دولار. وهكذا تجد نفسك مشردًا وعلى وشك الإفلاس. ثم تُطلق منك زوجتك، وتقضي بقية حياتك تعيش في قبو شديد الرطوبة. وبينما أنت كذلك، تجد جارك قد قرر هو الآخر بيع منزله. يقوم جارك في هذا الشأن بالاتفاق مع خبير اقتصادي آخر يقوم بدوره بتنظيم مزاد ذي مظهر طيب ويتوقع جارك أن يصل سعر منزله في المزاد إلى ٣٠٠,٠٠٠ دولار، ولكن ما تنفك عملية المزايدة في رفع سعر المنزل إلى أن يصل سعره إلى ٢,٣ مليون دولار. أتجد من الصعب أن تحدث هذه القصة في الواقع؟ كلا على الإطلاق. فقد وقعت حادثة مماثلة ولكنها لم تحدث لملاك منازل وإنما لحكومات. أما العقارات التي عُرضت للبيع في تلك الحالة فلم تكن مكونة من الطوب والملاط، وإنما من الهواء، أو إن شئت الدقة أطوال موجات الطيف اللاسلكي، التي تستخدمها شركات الهواتف المحمولة لتشغيل شبكاتها. فقد كانت حكومات العالم منذ بضعة أعوام مضت تبيع حقوق تراخيص استخدام هذه الترددات لشركات الاتصالات. ولمّا كان هذا الطيف الترددي موردًا محدودًا، وُجدت الندرة. وأينما وجدت الندرة، وجدت الفرص لكسب المال، كما علمنا من الفصول السابقة. ولكن للأسف، لم يكن كل الخبراء الاقتصاديين الذين عينوا كمستشارين يعرفون كيفية تنظيم المزادات على النحو الذي يجعلها تحقق على الأرجح سعرًا جيدًا. لذا تجد أحد المزادات قد حقق أقل من ١٪ من المبلغ المأمول، في حين حقق مزاد آخر مبلغًا يزيد عشر مرات عن المبلغ المتوقع. لم تكن تلك المزادات خاضعة للحظ، وإنما للمهارة في بعض الحالات، وارتكاب الأخطاء في حالات أخرى. فبيع الهواء في المزاد شأنه شأن لعب البوكر، فهي لعبة تتطلب المهارة الفائقة، ويجري لعبها للفوز بجوائز ضخمة بالفعل. يعني مصطلح لعبة بالنسبة إلى المتخصص في نظرية الألعاب أي نشاط يؤثر فيه توقعك بما سيفعله الطرف الآخر على قرارك بما ستفعله أنت. وتتضمن هذه الألعاب لعبة البوكر، والحرب النووية، والحب، أو بيع الهواء في مزاد. والبساطة التي تبدو عليها نظرية الألعاب قد تكون خادعة: فأنت تجد على سبيل المثال لعبة «قيادة السيارات» لعبة مباشرة بكل معنى الكلمة. وفي هذه اللعبة أحصل على نتيجة مقبولة إذا قدت السيارة على الجانب الأيمن من الطريق، وأنت كذلك تحصل على نفس النتيجة إذا فعلت مثلي. وكذلك أحصل على نتيجة مقبولة إذا قدت السيارة على الجانب الأيسر من الطريق وأنت كذلك تحصل على نفس النتيجة إذا فعلت مثلي. أما إذا تصرف أحدنا عكس تصرف الآخر فإنني أحصل على نتيجة سيئة للغاية (كأن تحملني سيارة إسعاف بعد إصابتي). وكذلك سوف تحصل أنت أيضًا على نتيجة سيئة إذا اصطدمت مقدمة سيارتك بمقدمة سيارتي، ولكنني في نظرية الألعاب لا أهتم عادة بنتيجتك في حد ذاتها وإنما أهتم بها لأنها تساعدني على التنبؤ بسلوكك. كان فون نيومان عاشقًا للبوكر، وبسبب اهتمامه بهذه اللعبة طور أدوات رياضية لا تفيد المتخصصين في الاقتصاد فحسب، بل تفيد كل من يريد فهم كل شيء بدءًا من المواعيد الغرامية وحتى علم الأحياء التطوري، والحرب الباردة. وأساسيات لعبة البوكر بسيطة إذ يخفي كل اللاعبين أوراق اللعب إلى أن يتم كشف الأوراق في نهاية اللعبة عندما تفوز أفضل تشكيلة أوراق بقيمة الرهان الموضوع على الطاولة، وهو عبارة عن مجموعة المراهنات منذ أن بدأ اللاعبون في اللعب. وعلى كل لاعب أن يستمر في المراهنة حتى يظل في اللعبة. أحيانًا ينسحب بعض اللاعبين في منتصف اللعبة مفضلين التخلي عن المال الذي راهنوا به بدلًا من المخاطرة بخسارة مال أكبر عند كشف الأوراق. فإذا انسحب كل اللاعبين الآخرين، يمكنك أن تفوز بقيمة الرهان دون أن تكشف أوراقك. فإذا كنت تلعب البوكر، فسيكون همك الأساسي أثناء اللعب هو تحديد ما إذا كان الأمر يستحق أن تستمر في دفع المال كي تظل في اللعبة، إذ لا يكفي أن تحسب احتمالات أن تشكيلة الأوراق في يدك أفضل من الأوراق المختفية في الأيادي الأخرى على الطاولة. بل إنك تحتاج إلى تحليل كل تحركات منافسيك. فهل المراهنة بمبلغ ضئيل علامة على الضعف، أم هي خدعة لإغرائك لأن ترفع رهانك أمام القوة الخفية؟ وهل تعني المراهنات بالمبالغ الكبيرة تشكيلة أوراق لعب متميزة في يده، أم أنها خدعة هي الأخرى؟ ولا بد أن تضع في اعتبارك أن منافسيك يحاولون تفسير مراهناتك في الوقت ذاته. لذا عليك أن تأخذ حذرك وتراوغ أنت الآخر حتى لا يكون سلوكك متوقعًا. لهذا تجد البوكر يمتلئ بسلسلة حلزونية من تخمين ماذا سيفعل الآخرون كأن تقول مثلًا: «إذا كان يظن أنني أظن أنه يظن أن معي أربعة ملوك، فإن كذا وكذا.» والبوكر لعبة حظ ومهارة، والأهم من ذلك، أنها لعبة أسرار؛ فكل لاعب يعرف معلومات لا يعرفها اللاعبون الآخرون. أما في لعبة الشطرنج، وهي اللعبة التي تعتمد على المهارة البحتة، فإن المعركة تحدث على مرأى من الجميع، في حين أن في البوكر لا يرى أي لاعب الحقيقة كاملة. من هنا نتجت نظرية الألعاب، إذ كان فون نيومان مؤمنًا أنه إذا استطاع تحليل لعبة البوكر باستخدام الرياضيات، فيمكنه إذن أن يلقي الضوء على كل أنواع التعاملات البشرية. فالبوكر لعبة يحاول فيها عدد قليل من اللاعبين خداع بعضهم بعضًا في جو من الأسرار والحظ والحسابات التي تُجرى بمهارة. ولكن ليس البوكر فقط هو الذي تنطبق عليه هذه الصفات. فهناك مثلًا قادة الحروب، أو هناك حتى — إذا كنت ناقدًا ساخرًا مثلي — رجال ونساء يلعبون لعبة الحب العظيمة. وبالفعل يمكن تفسير العديد من التعاملات البشرية على أنها معارك يُستخدم فيها الدهاء لا العنف، تمامًا مثل البوكر. ويصف المتخصصون هذه التفاعلات على أنها «ألعاب» ويعملون على اكتشافها مستخدمين نظرية الألعاب. وإذا أردت أمثلة من واقع الحياة على «الألعاب الاقتصادية»، ففكر في المساومات التي تتم بين المالك والمستأجر، أو بين الحكومة ونقابات العمال، أو بين بائع السيارات المستعملة والمشتري. أو فكر في الدول المنتجة للنفط وهي تقرر ما إذا كانت ستلتزم بقواعد منظمة الأوبك والمساعدة في دفع الأسعار نحو الارتفاع أو أن تنتجه بغزارة للاستفادة من الأسعار المرتفعة التي تسببت فيها الدول الأخرى التي التزمت بهذه القواعد. أو في المثال الآتي الذي سندرسه دراسة متعمقة في هذا الفصل وهو مثال عن مجموعة من شركات الاتصالات الطموحة التي تحاول كل منها الحصول على تراخيص طيف ترددي من الحكومة ليس لديها إلا عدد محدود من هذه الترددات. وكل شركة مشتركة في المزاد لديها فكرة عن كم الربح الذي ستحصل عليه من وراء هذا الترخيص (وأيضًا عن مدى قيمة الترخيص)، ولكن لا تعلم أي شركة من الشركات كم يبلغ الربح الذي ستحققه بالضبط من ورائه. ويكون التحدي أمام الحكومة هو كيفية الكشف عن بعض المعلومات الخفية مثل تحديد أيٍّ من شركات الاتصالات ستستخدم الترخيص أفضل استخدام، وتحديد المبلغ المالي الذي يساويه هذا الترخيص بالنسبة إلى هذه الشركات. فالوضع المثالي يفترض أن الحكومة تريد بيع التراخيص للشركات التي ستستخدمها الاستخدام الأمثل. ولمّا كانت الحكومة تقوم بتقسيم أصل ثمين من الأصول العامة، فهي تريد أيضًا أن تحصل على أفضل قيمة من أجل دافعي الضرائب. ويعد مزاد بيع تراخيص الطيف الترددي لعبة مثل لعبة البوكر تمامًا في نظر فون نيومان، بل إنه يوجد تشابه كبير بينهما؛ ففي كلتا الحالتين ينبغي دفع مبالغ ضخمة في أكثر أجزاء العملية أهمية. فالبوكر يكون بلا معنى بدون مراهنات. والمقامر يرى أن أي لعبة تكون «أكثر متعة» إذا كانت تدار بنقود حقيقية. أما في البوكر، فإن المراهنة أساسية لكي يتم اللعب في المقام الأول، كما أن المراهنات في البوكر تفشي علامات عن القوة والضعف، فإذا لم يراهن اللاعبون بأموال حقيقية، يصبح «الاتصال» بلا مغزى؛ إذ إن الكلام سهل كما يعرف جميعنا. وبالتالي فالخداع في البوكر يكون له آثار فقط إذا كان المال الحقيقي في وضع يعتمد على نتيجة شيء غير مؤكد. وينطبق الأمر نفسه على تراخيص الطيف الترددي. يفيد علماء الاقتصاد المتخصصون في نظرية الألعاب أن توزيع الأصول العامة — بدءًا من حق استخراج النفط وحتى حق استخدام الطيف الترددي — يجب أن يخضع لأساليب تشبه تلك الأساليب المستخدمة في لعبة البوكر. ولكي تتمكن الحكومة من إبعاد الشركات صاحبة الكلام والوعود الواهية، يجب أن تفرض على كل منها المراهنة بمبالغ ضخمة وأن تستخدم عبارةً استعملت في الماضي وهي أن تجبر كل متفاوض على «وضع ماله إرضاء لرغبات فمه». أذكر أن الحكومة الأمريكية كانت استعانت بالاقتصاديين المتخصصين في نظرية الألعاب لمساعدتها في بيع حقوق استخدام الطيف الترددي طوال النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، الأمر الذي لم يكن بالمهمة السهلة: فالشركة التي تقدم العطاءات في المزاد لتحصل على ترخيص الطيف الترددي في كل من لوس أنجلوس وسان دييجو ربما ترغب في الحصول على كليهما، أو ربما لا تريد أيًّا منهما لأنها تعتبر استخدام الشبكات المجاورة أمرًا أقل تكلفة. ولكن كيف تقدم الشركة العطاء المناسب للحصول على ترخيص لوس أنجلوس قبل أن تعرف من سيحصل على ترخيص سان دييجو؟ فهذه المشكلة المعقدة مثلًا تمثل أحد مواضع نظرية الألعاب. لذا صمم المتخصصين في نظرية الألعاب الذين استعانت بهم الحكومة مجموعة معقدة من المزادات التي تُعقد في آن واحد. وحقق أول هذه المزادات نجاحًا بالغًا، (كما حقق للحكومة الربح الوفير)، ولكن ساءت الأمور بعد عدة مزادات. لقد نجح هؤلاء المتخصصون في التعامل مع الأمور المعقدة كما ينبغي، ولكنهم ارتكبوا أخطاء بسيطة مثل إعلان قيمة العطاءات المقدمة قبل تقريبها إلى بضعة آلاف من الدولارات. استفادت الشركات عن طريق تقديم عطاءات تحتوي على رموز المناطق التي يريدونها. وقد مكنتهم هذه الطريقة من الإشارة إلى التراخيص التي يودون الحصول عليها ومن ثم قسموا سوق الاتصالات الأمريكية فيما بينهم دون الحاجة إلى أن تنافس شركة الأخرى منافسة شديدة. وفي حقيقة الأمر فإن هذا المخطط لم يكن بحاجة إلى عقد أي اتفاق (غير قانوني) لأن المزاد بطبيعته سمح بمثل هذه الإشارات الواضحة. بدا الأمر وكأنه عملية غش، ولكن لا يمكن لأحد إثباتها. وبعد ثلاث سنوات من عقد هذه المزادات الأولى، انتهى مزاد عُقد في أبريل عام ١٩٩٧ بسعر وصل إلى ١٪ فقط من العائد المتوقع؛ لأن الشركات — كما زعم كثير من المعلقين — تعلمت الغش بتجنب منافسة بعضها بعضًا. وهذا هو المعادل لبيع منزل قيمته ٣٠٠٠٠٠ دولار مقابل أقل من ٣٠٠٠ دولار إذ يبدو من الصعب أن تفهم كيف يمكن أن يحدث هذا، ولكنه يمكن أن يحدث بمنتهى البساطة. فإذا كان هناك عدد قليل فقط من المشترين المحتملين لمنزلك، يمكنهم أن يتفقوا فيما بينهم على عدم منافسة بعضهم بعضًا. وعلى الشخص الذي اشترى المنزل بسعر رخيص أن يجد طريقة ما يعوض بها المشاركين الآخرين في المزاد. والتعويض الأكثر شيوعًا هو أن يتفق معهم ألا ينافسهم في المزادات التي ستعقد مستقبلًا. وبنفس الطريقة، يبدو أن شركات الاتصالات توصلت لاتفاق فيما بينها على ألا ينافس بعضها بعضًا على تراخيص الطيف الترددي في مناطق مختلفة. وكان الأمر بمنزلة إهانة لنظرية الألعاب، ولكن كان هذا أفضل قليلًا من منح التراخيص بلا مقابل. وثمة طريقة أخرى للنظر إلى مشكلة المزادات الأمريكية ألا وهي أن المتخصصين في نظرية الألعاب أخفقوا في إدراك أن ما حللوه كان جزءًا من لعبة أكبر. فالحكومة كانت مثل لاعب البوكر الذي يبدو في منتهى السعادة بينما هو لا يعلم بوجود كاميرات خفية في الغرفة تصور أوراقه من الخلف، ويغفل هذا اللاعب عن حقيقة أن اللاعبين الآخرين، عبر سلسلة من الإيماءات والغمزات، يتناوبون الدور في سلبه أمواله. فاللعبة التي يظن أنه يلعبها ليست اللعبة الحقيقة على الإطلاق. لا بد أن يكون قد اتضح الآن أن نظرية الألعاب، سواء كانت تطبق على التواطؤ في المزادات أو على الغش في لعب البوكر، تعتمد على الفن بقدر ما تعتمد الرياضيات. وتحتاج كل الألعاب إلى وضع بعض الفروض المبسطة قبل استنباط نموذج رياضي لها، فإذا تجاهل المتخصصون فرضية أن المزايدين لن يستخدموا أكواد المناطق ليتواطئوا على التقسيم؛ فسوف يتوصلون إلى حلول مثالية ولكن لمشكلة أخرى. تعتبر أصول نظرية الألعاب أحد أكثر التحديات صعوبة على الإطلاق؛ فقد طورتها عقول بشرية قمة في النبوغ والذكاء أمثال ناش، وفون نيومان. تمثل هذه المسألة أكبر نقاط القوة والضعف للنظرية في آن واحد، لأنه لكي تنجح نظرية اللعبة فإنها يجب أن تقدم بعض البصيرة فيما يتعلق بما يفعله البشر. فنظرية الألعاب تعبر عن الطريقة التي يمكن أن يتصرف بها الناس وكأنها حل لمعادلة رياضية. فهي تسلم بوجود اللاعبين الذين يتصرفون بطريقة شديدة المنطقية، والقادرين على حل أعقد المشاكل على الفور. ولكن هذا الوصف يبدأ في التعبير عن عدم واقعيته إذا أصبحت نظرية الألعاب أداة فعلية لتفسير تصرفات الناس في الواقع؛ إذ يستطيع عباقرة الرياضيات أمثال ناش، وفون نيومان حل تلك المسائل على الفور، أما معظمنا، فلا يستطيع. فمثلًا، تخبرنا نظرية الألعاب أن لعبة الشطرنج لا تستحق أن تُلعب لأن نتيجتها محددة مسبقًا من الناحية النظرية؛ إذ إن بإمكان أحد اللاعبين فرض نتيجة معينة. ومع ذلك، لا نعرف أيهما الذي سيفرضها. ولا نعرف ما إذا كانت النتيجة المفروضة ستكون بالفوز أم بالتعادل. وبالتأكيد لا نعرف أي سلوك ستسلكه اللعبة. ولكن الأمر الوحيد الذي نعرفه هو أن النتيجة المفروضة ممكنة من الناحية النظرية. أما من حيث التطبيق، فلا يمكن لأقوى اللاعبين (سواء كان حاسبًا آليًّا أو بشرًا) معرفة هذه الاستراتيجية المُثلى. وأيضًا من حيث التطبيق، فإن نتيجة لعبة الشطرنج أبعد ما تكون عن كونها محددة مسبقًا. فأي فائدة تلك التي نستمدها من نظرية تخبرنا أن الشطرنج لعبة تافهة فقط إذا كنا جميعًا أذكياء بما يكفي لمعرفة كيف نلعبها؟ لم يكن هذا بمنزلة الاعتراض الشديد على نظرية الألعاب. فمن الممكن صنع نموذج للأخطاء وللنسيان وللمعلومات الخاطئة أو لأي من أسباب الفشل الأخرى من جانب اللاعبين، التي تحول دون تصرفهم حسب معايير جون فون نيومان المرتفعة التي يستحيل الوصول إليها. والمشكلة هي أنه كلما زادت الأخطاء التي تحتاج لأن تؤخذ بعين الاعتبار، زاد تعقيد نظرية الألعاب وقلت فائدتها. فمن المفيد دائمًا للمتخصصين في نظرية الألعاب أن يستخدموا في عملهم الخبرة العملية إلى جانب النظرية البحتة لأن اللعبة إذا تعقدت إلى درجة يستعصي على اللاعبين فهمها، صارت النظرية تقريبًا عديمة الفائدة من حيث التطبيق؛ لأنها لن تخبرنا بأي توقعات عن سلوك اللاعبين. وكانت الصعوبة — التي يواجهها أيضًا المزايدون في العديد من المزادات بما فيهم مزادات بيع تراخيص الطيف الترددي — هي أن الضحيتين لم يكن لديهما فكرة عن قيمة ما يقدمون العطاءات من أجله. نعم، كان يعرف كل منهما جزءًا من قيمته؛ لأن كلا منهما كان يعرف المبلغ الذي تحتوي عليه محفظته، ولكن كان كلاهما يجهل ما تحتوي عليه محفظة الآخر. بالمثل، كان المشتركون في مزاد تراخيص الطيف الترددي يواجهون مشكلة شبيهة؛ إذ كانت كل شركة مزايدة لديها توقعاتها وخططها التقنية الخاصة، ولكن كانت كل شركة تعلم أن الشركات المزايدة الأخرى ربما لديها رؤى وخطط مختلفة. فالاستراتيجية المُثلى تحاول استغلال أية معلومات تكشفها عطاءات اللاعبين الآخرين، ولكن هذا ليس بالأمر السهل. (سيضمن أحد حلول لعبة المحفظة استمرار اللاعب في المزايدة إلى أن يصل إلى ضعف المبلغ الموجود بمحفظته. وسيفوز بالمزاد اللاعب ذو المحفظة التي تحوي نقودًا أكثر، ولكنه سيدفع أقل مما تحويه المحفظتين معًا. فالمزايدة بشدة تزيد من مخاطرة دفع الكثير من المال). كان عليهم مواجهة مشكلتين خطيرتين في هذه المهمة: أولًا: تجنب التعرض للخداع بواسطة المزايدين المخادعين، مثلما حدث للسلطات في الولايات المتحدة. ثانيًا: حتى إذا لم يستطيعوا الوصول إلى الاستراتيجية المُثلى في مزادات الآخرين التي لم يستعدوا لها، فكيف يمكنهم توقع تصرفات مجموعة من رجال الأعمال في ضوء نظرية الألعاب؟ وحتى إذا تصرف رجال الأعمال هؤلاء بطريقة غير متوقعة، فمن بوسعه أن يقرر ما يمكن أن يحدث؟ كان جون ماينارد كينز — أكثر علماء الاقتصاد في القرن العشرين تأثيرًا — يتوق إلى اليوم الذي لا يصبح فيه علماء الاقتصاد علماء نظريات فحسب، وإنما «أشبه بأطباء الأسنان» بحيث يستشيرهم الناس في مشاكلهم اليومية ليعطوهم النصائح المباشرة. ولكن لم يصل علم الاقتصاد إلى تلك المرتبة بعد. فأي عالم اقتصاد يأمل في أن يفيد المجتمع ولو بنصف القدر الذي يفيده به طبيب الأسنان، يجب أن يزيد من صلابة النظريات الاقتصادية بمنحها جرعات مكثفة من الدروس القاسية التي يزخر بها واقع الحياة، مثل: غش اللاعبين، أو ارتكاب المزايدين للأخطاء، أو مسألة الأخذ بالمظاهر. فالمزادات مثلها كمثل لعبتي البوكر والشطرنج اللتين لا تسيران دائمًا بالطريقة التي يتوقعها واضع نظرية اللعبة. تساعدنا نظرية الألعاب على توقع حدوث بعض المشكلات مثل الغش في المزاد في الولايات المتحدة، والمشكلات الأخرى مثل عدم ظهور رد فعل الجمهور في نيوزلندا في التحليل النظري تجاه مزادات فيكري التي أجرتها الحكومة. فالاقتصاديون الذين يطمحون لأن يصبحوا مثل أطباء الأسنان عليهم التفكير بإمعان والتعلم من أخطائهم، وبمرور الوقت، وبعد عناء، سوف تكتشف أخطاء جديدة. عندما بدأت حكومة المملكة المتحدة تفكر في إقامة المزادات لبيع حقوق استخدام الطيف الترددي، كانت تتخذ خطوة جريئة. فبعد نجاح المزادات الأولى، تدهور حال المزادات الأمريكية؛ لأن نظرية الألعاب التي استخدمت في تنظيمها لم يفهمها إلا القليلون. كما تسببت الحكومة النيوزلندية في أن جعلت نفسها محط سخرية الجميع، ولم تكن هي الوحيدة التي فعلت ذلك، إذ أقامت أستراليا هي الأخرى المزادات لبيع تراخيص البث التلفزيوني، وغفلت عن ثغرات في قواعد المزايدة استغلها المزايدون أسوأ استغلال، لدرجة أن الوزير المسئول اضطر إلى تقديم استقالته. لماذا إذن فكرت بريطانيا في إقامة المزادات، بالرغم من المخاطرة التي تنطوي عليها؟ أرادت حكومة المملكة المتحدة — تمامًا مثل الحكومة الأمريكية — أن تبيع التراخيص للشركات القادرة على استخدامها بصورة مُثلى، وأن تحقق منها أعلى سعر في الوقت ذاته. وبالطبع كان هناك هدف آخر لم تفصح عنه ألا وهو تجنب حدوث أي خطأ يسبب الإحراج لمسئولي الحكومة والسياسيين على حد سواء. وبالنسبة لممولي الضرائب في نيوزلندا والولايات المتحدة الأمريكية، فإن المزاد الذي يحقق بعض المال أفضل بالتأكيد من منح التراخيص دون مقابل. أما بالنسبة لرجال السياسة، فإن توزيع الأصول العامة بدون مقابل يعتبر وسيلة رائعة لكسب الأصدقاء والحلفاء. ولذلك، فإن خبراء المزادات عليهم الدفاع عن وجود المزادات بكل قوتهم. وسيعتمد دفاعهم على نظرية الألعاب التي تظهر بوضوح تأثير المزادات. ويعد التأكد من أن التراخيص يحصل عليها الأشخاص المناسبون؛ إحدى المشكلات الدقيقة. ولمّا كانت الحكومة توزع عددًا محدودًا من التراخيص، فسيكون إهدارًا فادحًا للموارد أن تحصل على التراخيص شركة مثل تيم هارفورد دوت كوم وهي إحدى شركات فقاعة الإنترنت ليس لديها أي خبرة أو قدرة ذات صلة تمكنها من استخدام الأصول الثمينة. إذ إنه من الضروري أن يحصل على التراخيص تلك الشركات التي ستستخدمها في تقديم الخدمات بأفضل جودة وبأقل تكلفة. لذا فإن المنافسة بين الشركات عندئذ هي التي ستحدد الأسعار. ما أفضل طريقة إذن للتعرف على الشركات الأكثر كفاءة؟ يمكنك ببساطة أن تسألهم ولكن الشركات سوف ترد على سؤالك بنوع من التعالي، وربما بانفعال وتبجح، وسيلوح لك بعضهم بخبرتهم، وسيلوح بعضهم الآخر إلى استخدام أحدث التقنيات. ولكن هل يقول أي منها الحقيقة؟ فالكلام سهل كما اتفقنا من قبل. وثمة طريقة أخرى تبدو أفضل ألا وهي تعيين خبراء متخصصين ليقرروا أي الشركات جديرة بالحصول على التراخيص. ولكن في ظل تكنولوجيا الهاتف المحمول التي تنمو بسرعة البرق، ربما يكون لدى بعض هؤلاء الخبراء مصالح مالية في إحدى الشركات، فقلما تجد خبيرًا ليس له مصالح في تلك الصناعة. وحتى إن وجدت خبيرًا محايدًا، فسيكون لديه خبرة طفيفة في الكشف عن خبايا هذه التجارة، وتحديد الإمكانية الحقيقية للتقنيات المنافسة. توضح نظرية الألعاب كيف يمكن لمزاد بسيط التغلب على كل هذه التعقيدات، وحل المشكلة ببساطة ويسر. ومن أجل تبسيط المسألة، تخيل على سبيل المثال أن الحكومة قررت أن تبيع ترخيصًا واحدًا في مزاد بسيط يشبه المزاد العلني التقليدي الذي يقدم فيه المزايدون عطاءاتهم بصوت عال، وتستمر العطاءات في الزيادة، وهنا يكمن فارق واحد فقط إذ إن أي مزايد لا يغادر قاعة المزاد يكون لديه استعداد لدفع العطاء المرتفع الذي وصل إليه المزاد. أما من يجد نفسه غير قادر على دفع هذا العطاء فلا بد أن يغادر قاعة المزاد، ولا يعاود الدخول إليها. فمن الأسهل على الخبراء في نظرية اللعبة تحليل هذا النوع من المزادات المختلفة اختلافًا طفيفًا وإن كانت تعكس بدقة الوضع في العديد من المزادات التي يجري فيها بيع التراخيص. وعلى كل شركة مزايدة أن تجري تقييمًا مباشرًا لقيمة الترخيص الذي تحاول الحصول عليه. وكلما كانت أفكارها مبتكرة، وكلما قلت تكلفة التقنيات التي تستخدمها، زادت الأموال التي يمكنها جنيها إذا فازت بالترخيص في المزاد. وبالطبع، لا يمكن لأي شركة أن تتوقع توقعًا دقيقًا الأرباح التي ستعود عليها إذا حصلت على الترخيص، ومع ذلك يظل التقييم الذي تجريه كل شركة لنفسها أفضل بكثير من ذلك الذي يجريه لها أي خبير خارجي. وعندما يبدأ المزاد، ويبدأ السعر في الارتفاع، يبدأ المزايدون ينسحبون من المزاد بمجرد أن يتعدى السعر المطلوب في الترخيص القيمة التي يقدرونها له. وأول المنسحبين هم ممثلو الشركات التي لا تثق في تقنياتها وخططها التجارية. فإذا ارتفع السعر كثيرًا دون أن يغادر أي شخص قاعة المزاد، يعرف كل مزايد أن الآخرين واثقين من توقعاتهم للسوق بشكل عام. (وهذا يوضح الفرق بين هذا المزاد والمزادات التقليدية في دار سوثبي للمزادات التي يستحيل فيها أن تفرق أثناء إجراء المزاد بين المزايد وبين الذي يجلس ليتفرج). فإذا غادر بعض المزايدين قاعة المزاد مبكرًا على نحو مفاجئ، فلا بد أن يضع المزايدون الآخرون هذه النقطة في اعتبارهم ويراجعون «الفروض» التي يضعها كل منهم. فهذا المزاد يلخص بإتقان الحكمة الجماعية لكل المزايدين. وفي مثل هذه المزادات، لا يتواجد أحد في وضع يسمح له بالكذب. فالكلام سهل كما اعتدنا، ولكن المزايدة مُكلفة. فلن تنسحب شركة ما وما زال السعر المطروح أقل من توقعها لقيمة الترخيص، ولن تستمر شركة في المزايدة إذا ارتفع السعر كثيرًا عن قدرتها. ومن جهة فإن المزاد يشبه لعبة البوكر التي تحدث عنها فون نيومان: إذ يقدم المزايدون عطاءاتهم بحرص؛ نظرًا لأن أموالهم تكون في خطر. ولكن من جهة أخرى فهو لا يشبه لعبة البوكر على الإطلاق؛ لأن المزاد يجعل مسألة الخداع من المستحيلات. يجبر المزاد كل مزايد على قول الصدق بشأن تقديره الشخصي لقيمة الترخيص. وفي الوقت نفسه، يعرض المزاد الرؤية الجماعية لكل المزايدين بحيث تمكنهم من تعديل آرائهم الشخصية وفقًا لها. وهناك ما هو أكثر من هذا، فبينما يقوم المزاد بهذا الدور فإنه يجمع المال. تُظهر نظرية الألعاب أيضًا أن هذا المزاد البسيط بمنزلة آلة توليد النقود تتفوق على كثير من الطرق البديلة للتفاوض عند بيع سلعة ما. لا يبدو هذا الأمر جليًّا. أحد البدائل بالنسبة إلى البائع هي أن يجري مزادًا يحدد فيه سعرًا نهائيًّا لا يقبل البيع بأقل منه (قد يكون مُعلنًا، أو سريًّا)؛ أو أن يتفاوض سرًّا مع عدد من المشترين في وقت واحد، وأن يكذب بشأن كيف جرت المفاوضات مع الآخرين؛ أو أن يقدم عرضه تباعًا لكل مشتر لمرة واحدة ولا يكرره بطريقة «اقبل العرض كما هو أو ارفضه». أو يمكن حدوث أشياء أخرى بخلاف ما سبق. فكيف يمكن للبائع أن يختار طريقة لعقد صفقة تحقق له أعلى ربح وهو لديه كل هذه المجموعة المحيرة من الاحتمالات؟ كما ركز البحث أيضًا — بالإضافة إلى فكرته الأساسية أن المزادات تحقق بالفعل أرباحًا أعلى — على اهتمام خبراء المزادات بما يجب أن يكون من المسلمات، ألا وهو أنه إذا أردنا نجاح المزاد فلا بد من توافر الكثير من المزايدين الجادين. لم يدخر الفريق البريطاني لتنظيم المزاد بالتأكيد أي جهد للتأكد من أن المزايدين الجادين سيتواجدون بالمزاد. وبحلول مارس عام ٢٠٠٠، أصبح المزاد جاهزًا لإجرائه بعدما سجلت به ثلاث عشرة شركة، بعد سدادهم مبلغ ٥٠ مليون جنيه إسترليني كتأمين دخول المزاد، ثم بدءوا في تقديم العطاءات عن بعد بواسطة الإنترنت. وظل فريق الخبراء المنظمين لهذا المزاد يعلنون عنه مسبقًا لمدة تزيد عن العام واثقين أن بريطانيا أول دولة أوروبية تقيم مزادًا لتراخيص الجيل الثالث للهواتف المحمولة. وكانت النتيجة تبشر بإجراء مزاد على درجة عالية من المنافسة. وكان الفريق يركز بهوس على التفاصيل. واختبر نظام المزاد عن طريق محاكاته على الحاسب الآلي، وأيضًا باختبارات طلبوا فيها من بعض الطلاب في لندن تمثيل أدوار التنفيذيين بشركات الاتصالات. حتى إنهم وصلوا إلى أدق النقاط في المزاد ليمحوا فرصة وجود أية ثغرات. كما أعطوا لأنفسهم خيار تأجيل المزاد إذا ظهر أي أمر يدعو للشك. وبالرغم من كل هذا الاستعداد، لم يكن أحد متأكدًا في الواقع مما إذا كان المزاد سينجح أم لا، أو ما إذا كان الأمر سيكون عملًا أخرق آخر من الأعمال الخرقاء لخبراء الاقتصاد. ونُظِّم المزاد ليتم على جولات قصيرة، تستغرق كل منها نصف الساعة تقريبًا، ويتعين على المزايدين فيها تقديم العطاءات الجديدة أو الانسحاب. أما المزايدون الذين يختارون عدم تقديم عطاء مُلزِم فليس أمامهم إلا الانسحاب من المزاد، وسُمح لكل مزايد بإمكانية «التخلي عن دوره في تقديم العطاءات» لثلاث مرات قبل الانسحاب النهائي من المزاد. وكان يتم عقد جولتين يوميًّا أو أكثر إذا استراح المزايدون لعملية المزايدة. وفي ظل البث الفوري لكل جولة من هذه الجولات على الإنترنت، كانت فعاليات هذا المزاد تحدث على مرأى ومسمع من العالم بأكمله. أشارت التوقعات الأولية إلى أن المزاد سيحقق كثيرًا من المال؛ ربما يؤدي إلى ربح مليارين، أو ثلاثة مليارات من الجنيهات الإسترلينية، وهو المبلغ الكافي لتخفيض ضريبة الدخل في المملكة المتحدة بمقدار بنس واحد في العام. ومع أن التوتر كان واضحًا على أعضاء الفريق فقد غمرتهم السعادة لانضمام تسع شركات جديدة إلى الشركات الأربع الشهيرة المشاركة بالفعل، وتوقعوا للمزاد أن يحقق نجاحًا. وأرجعوا جزءًا من اهتمام تلك الشركات الجديدة المنضمة إلى المزاد إلى حقيقة أن المزاد كان يعرض خمسة تراخيص للبيع. وكان المهندسون يعتقدون في البداية أن الموجات الهوائية لا تتسع إلا لتخصيص أربعة تراخيص فقط تعمل على أطوال موجية من الطيف الترددي متجاورة بحيث إن كل ترخيص منها يغطي الدولة بأكملها. ولكن في ظل وجود الشركات الأربع الشهيرة في المزاد الذي يعرض للبيع أربعة تراخيص، سيكون من السهل معرفة أيهم ستفوز بأي ترخيص، لهذا لن يعبأ مزيد من الشركات بالاشتراك في المزاد؛ ليوفر على نفسه الخسارة. ولهذا تنفس خبراء الاقتصاد في هذا المشروع الصعداء عندما توصل مهندسو الاتصالات إلى أن الطيف الترددي يكفي لترخيص آخر. وكان هذا الترخيص، الذي كان يسمى «الترخيص أ»، مخصصًا للشركات الجديدة التي لم يسبق لها العمل في سوق الهواتف المحمولة في المملكة المتحدة آنذاك. وكانت فكرة المزاد تدور حول أن المنافسة من أجل الحصول على «الترخيص أ» ستؤدي إلى رفع سعر التراخيص الأربعة الأخرى. وأن أي شركة لا تجد نفسها في المقدمة سيكون عليها إما زيادة قيمة عطائها أو الانسحاب. ولكن طالما أن الشركات مستمرة في تقديم العطاءات القانونية للحصول على ترخيص معين، يمكن أن تحولها للمزايدة على ترخيص آخر إذ إن الشركات بإمكانها تقديم العطاءات مقابل أي ترخيص يبدو أنه يتمتع بأعلى قيمة في حينه. ويعني هذا أن المنافسة الحامية على «الترخيص أ» جعلت المنافسة على باقي التراخيص تشتد هي الأخرى، فكلما زاد سعر «الترخيص أ» عن أسعار التراخيص الأخرى، جعل ذلك التراخيص الأخرى تبدو كصفقة رابحة وعندئذ تشمر الشركات الجديدة عن سواعدها وتعلن تحديها للشركات المعروفة، لكي تفوز بالتراخيص التي كانت الشركات المعروفة تريد الفوز بها. وعندما تزيد الشركات المعروفة السعر، يعود الخاسرون للمنافسة على «الترخيص أ» مرة أخرى. ومع أن المزاد على خمسة تراخيص في وقت واحد أمر يصعب شرح آلية عمله، إلا أنه يمكن للمزايد ببساطة أن يصل إلى أفضل استراتيجية للمزايدة. ولمّا كان المزايدون لا يعرفون مطلقًا متى سينتهي المزاد، كان لا بد أن يتأكدوا من أنهم يشعرون دائمًا بالارتياح في ظل أوضاعهم الحالية. وأفضل استراتيجية للوصول إلى هذا الارتياح هي فحص كل التراخيص، ثم تقديم عطاء جديد عالٍ مقابل أي ترخيص يبدو أفضل التراخيص قيمة. أما إذا لم يبدُ أن أيًّا من التراخيص يتمتع بقيمة جيدة آنذاك، فإن الخطوة المناسبة عندئذ هي الانسحاب. ربما تساعد بساطة هذا المزاد على شرح السبب وراء قرار العديد من الشركات تقديم العطاءات. فبعكس بطولة العالم للبوكر أو لعبة المحفظة، فإن هذه اللعبة مفهومة حتى لأبسط العقول. تخيل أنك تبيع منزلك في مزاد طويل استمر لعدة أسابيع. وسمعت قصصًا عن فشل المزادات الأخرى، وتخشى أنه بدلًا من أن يجلب لك المزاد مبلغ ٣٠٠٠٠٠ دولار الذي تتوقعه، ينتهي بك الأمر مثل جارك سيئ الحظ، مطلقًا ومفلسًا. ويمر عليك أول أسبوع في عذاب. ثم يبدأ السعر يزيد ببطء، ويبدأ ضغط دمك يرجع إلى معدله الطبيعي. وفي النهاية، يصل العطاء إلى مبلغ ٢٥٠٠٠٠ دولار. حينها يرتاح بالك لمعرفة أن حالك لن يسوء كثيرًا في كل الأحوال. وبعد بضعة أيام يصل العطاء إلى مبلغ ٣٠٠٠٠٠ دولار لترتسم البسمة على شفتيك. فمنذ هذه اللحظة، أي عطاء يقدم أعلى من هذا المبلغ سيعتبر زيادة لم تكن متوقعه؛ فمن يدري، ربما تحصل على ٣١٠٠٠٠ دولار أو على ٣٢٠٠٠٠ دولار أو حتى على ٣٥٠٠٠٠ دولار. ويستمر السعر في الارتفاع ليصل إلى ٣٢٠٠٠٠ دولار، ثم إلى ٣٥٠٠٠٠ دولار، ثم إلى ٤٠٠٠٠٠ دولار، ثم إلى ٥٠٠٠٠٠ دولار. فكيف حالك حينئذ؟ لا يمكنك التصديق بالطبع. فهذا التغيير غير المتوقع في الأحداث يشبه ما حدث في مزاد المملكة المتحدة لموجات الطيف الترددي، فيما عدا أن المراهنات كانت أكبر عشرة آلاف مرة، فلم تكن ٣٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني، بل كانت ٣ مليارات جنيه إسترليني. فقد استمرت عملية تقديم العطاءات تجري بسلاسة ويسر لمدة أسبوع؛ وأدت قاعدة الاستمرار في تقديم العطاءات لاستمرار إجمالي إيراد المزاد في الارتفاع. وبعد حوالي خمس وعشرين جولة من المزايدات وصل سعر كل ترخيص إلى مبلغ ٤٠٠ مليون جنيه إسترليني، يجب على كل مشتر دفعها. وبعد خمسين جولة وصل إجمالي إيراد المزاد إلى ٣ مليارات جنيه إسترليني، وكانت الحكومة تأمل أن يزيد هذا المبلغ عن ذلك. (حينها بدأت مبالغ التأمين التي دفعتها الشركات المزايدة تبدو ضئيلة مقارنة بهذا الرقم، حتى مع وصولها إلى مبلغ ١٠٠ مليون جنيه إسترليني). ولكن ثمة أمر غير مألوف كان يحدث، ألا وهو أن المزايدين كانوا لا يزالون في المزاد ولم ينسحبوا، حيث استمرت الثلاث عشرة شركة في تقديم العطاءات، وظلت أسعار التراخيص ترتفع وترتفع دون وجود أية علامة تفيد أنها ستتراجع. وبينما كان المزاد ما زال قائمًا، بدأت الصحافة في الاهتمام به. وبدأت صور فريق تنظيم المزاد تظهر على صفحات الجرائد. وحاول الصحفيون تفسير ما كان يفعله هذا الفريق بالضبط ليستمر المزاد هكذا، ولكن بدأ الجميع يدركون أن هذا المزاد تحديدًا به شيء مميز. ووصلت الجولات إلى الجولة الستين ليبلغ إجمالي الإيراد ٤ مليارات جنيه إسترليني. ثم وصل في الجولة السبعين إلى ٥ مليارات جنيه إسترليني. وفي الجولة الثمانين وصل إلى ٧ مليارات جنيه إسترليني. حتى إن شهر مارس انقضى وما زال السعر مستمرًّا في الزيادة. أما منظمو المزاد، فالتزموا الصمت عن إبداء رأيهم فيما كان يحدث، ولكنهم خلف الأبواب المغلقة كانوا متحمسين ومتوترين. ثم ما لبث أن أصبح المزاد ضحية لنجاحه بسبب استمراره لفترة طويلة جدًّا. كانت سوق الأسهم الأمريكية آنذاك تشهد حالة من العصبية الشديدة بسبب تعرضها لأزمة، وكان السؤال هو: ماذا سيحدث لو امتد تأثير انهيار سوق الأسهم الأمريكية إلى المملكة المتحدة ليقضي بذلك على ثقة المزايدين في السوق وتتسبب في توقف المزاد توقفًا مفاجئًا؟ وفجأة بدا مبلغ اﻟ ١٠٠ مليون جنيه إسترليني ضئيلًا. فقد ينسحب المزايدون من المزاد، وقد تكتسب عملية المزايدة المزيد من السرعة. ثم اتضح أن الأمر لا يدعو لمثل هذا القلق. هكذا وبعد ثلاث وتسعين جولة بالمزاد دون انسحاب أي من المزايدين، فقد المزاد خمسة مزايدين في ثماني جولات على مدار ثلاثة أيام ليتبقى بالمزاد ثمانية مزايدين فقط. فلماذا تعثرت عملية المزايدة فجأة بهذا الشكل؟ ربما كانت المكابرة هي السبب؛ إذ لم تكن أي شركة ترغب في الانسحاب قبل الأخرى، ولكن بمجرد انسحاب شركة كريسينت، انسحبت بعدها على الفور الشركات الأخرى التي كانت تنتظر هذه الفرصة. وللمتخصصين في نظرية اللعبة تفسير آخر. فالمزايدون كانوا يتعلم بعضهم من عطاءات بعض ما تساويه قيمة تراخيص الجيل الثالث هذه. وكانت هذه إحدى مميزات تنظيم المزاد بهذه الشفافية، وكان البديل المعروف لهذا النظام هو مزاد الأظرف المغلقة حيث يقدم كل مزايد عطاءه في مظروف يحتوي على عطاء وحيد. ولكن مثل هذا المزاد يترك كل مزايد يخمن وحده في الظلام، مما قد يؤدي إلى أن تغدو عملية المزايدة أكثر تحفظًا، وتحقق الحكومة منها الربح القليل. أما في المزاد المفتوح، فحتى عندما وصلت المزايدة إلى سعر أعلى مما يتوقع الجميع، كان يغدو بإمكان كل شركة مزايدة أن ترى العروض الكبيرة التي تقدمها الشركات الاثنتا عشرة الأخرى، وبالتالي تكتسب ثقة أكبر في قيمة هذه التراخيص. ولمّا كان لكل شركة خطة أعمالها ومبيعاتها وتقنياتها الخاصة، فقد كان الأمر تخمينيًّا ولكن شفافية هذا المزاد ساعدت على تجميع الإشارات عن طبيعة هذه الخطط ووضعت المعلومات في متناول يد كل مزايد (كما وضع المزاد أيضًا المعلومات في متناول يد الحكومة وحقق في الوقت نفسه دخلًا وفقًا لهذا الأساس. وهذا شيء جميل). بعث انسحاب شركة كريسينت إشارة إلى المزايدين الآخرين عن شعور هذه الشركة أن التراخيص لا تستحق المزايدة بأكثر من هذا. ومن ثم، وضع المزايدون الآخرون شكوك تلك الشركة في اعتبارهم، وكانت تراودهم أيضًا في نفس الوقت أفكار بشأن الانسحاب. وهكذا، كلما انسحبت شركة من المزاد، تأكد خبر أن المزايدة ارتفعت زيادة تفوق الحد. وبالطبع كانت الشركات المنسحبة تسير مع التيار فحسب، ولكن تذكر أنه كانت هناك أسباب وجيهة وراء سير التيار. فقد نُظم هذا المزاد بهذه الشفافية لينقل المعلومات بين المزايدين. لهذا لا عجب أنهم كانوا ينظرون إلى الحقائق نفسها ويتوصلون إلى نفس النتائج. فإذا كنت ستبيع منزلك البالغة قيمته ٣٠٠٠٠٠ دولار في مزاد يفوق التوقعات مثل هذا المزاد، ستنهي الصفقة وبجيبك ٢,٢٥ مليون دولار، وعليك أن تقرص نفسك في الصباح التالي لتتأكد أنك لم تكن تحلم. لو كانت تراخيص الجيل الثالث للهواتف الخلوية باهظة الثمن للغاية، ستفرض الشركات على عملائها مبالغ أكبر. حقًّا يبدو الأمر مقنعًا ولكن إذا تمهلت للحظة وفكرت كخبير اقتصادي وسألت نفسك: إذا كانت تراخيص الجيل الثالث رخيصة الثمن للغاية، هل ستطلب الشركات أسعارًا أقل من عملائها؟ وماذا لو كانت الحكومة تمنح تلك التراخيص مجانًا، هل ستقدم الشركات الخدمات لعملائها مجانًا؟ وإذا كانت الحكومة تدفع لشركات الاتصالات كي تخلصها من تلك التراخيص، هل ستعطي الشركات كل عميل من عملائها منحة نقدية مع خدماتها اللاسلكية المجانية؟ لقد علمنا من الفصلين الأول والثاني أن الشركات تطالب العملاء بأقصى سعر ممكن تحت أي ظرف. وعلمنا أيضًا أن قدرتها على فعل ذلك يحددها ما تملكه من قوة الندرة. أما العامل الحاسم في مزادات تراخيص الطيف الترددي في المملكة المتحدة فهو توفر خمسة تراخيص؛ فوجود خمس تراخيص لا يكفي لأن يمنح كل شركة قوة الندرة الكافية لتمكنها من المطالبة بأسعار مرتفعة للغاية. فلو لم يتوفر إلا ترخيصان فقط، لزادت قوة الندرة وزادت الأسعار عن ذلك بكثير. أما إذا كان المتاح عشرين ترخيصًا فستقل قوة الندرة وتنخفض الأسعار. فالمسألة مسألة قوة الندرة، وليست مسألة أسعار التراخيص، التي تحدد بعد ذلك الأسعار للعملاء. وفي المملكة المتحدة، كانت الندرة تكمن في كمية الطيف الترددي المتاحة: إذ كانت التراخيص الخمسة هي أقصى عدد يمكن للمهندسين توفيره. فالعميل لا يهمه كم بلغ ثمن الترخيص، ولكن هذا الثمن يهم دافعي الضرائب الذين يودون أن تحصل الحكومة على المال الوفير مقابل هذا المورد القومي المهم، ويهم أيضًا حملة الأسهم في شركات الاتصالات الذين يودون أن تدفع شركاتهم أقل المبالغ الممكنة. ذكرنا في الفصل السابق كل شيء عن انهيار سوق الأسهم، الذي بدأ (على طريقة الفلاش باك) يظهر للعيان خلال سلسلة المزادات الأوروبية للجيل الثالث للهواتف الخلوية. وكانت شركات الاتصالات أكثر من عانى خلال هذه الأزمة، وقد أُعلن عن خسائرهم كثيرًا. ففي أوروبا وحدها، خسرت شركات الاتصالات ٧٠٠ مليار دولار متمثلة في انخفاض قيمة أسهمها في سوق الأسهم خلال العامين والنصف التاليين لأول مزاد للجيل الثالث للهواتف الخلوية.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/8/
سر فقر الدول الفقيرة
ولست متأكدًا من أول مَن أطلق على المدينة لقب «الإبط»، ولكن لن أندهش إذا كانت وزارة السياحة الكاميرونية نفسها هي التي أطلقته. فكما نعرف أن معظم وزارات الدفاع بالعالم مسئولة عن شن الهجوم على الدول الأخرى، وأن وزارات العمل مهمتها الإشراف على طوابير العاطلين من الشعب، أما وزارة السياحة الكاميرونية، فهي لا تخالف هذا العرف النبيل فوظيفتها هي إثناء السائحين عن زيارة بلدها. وحذرني زميل لي أن سفارة الكاميرون في لندن ستحاول أن تضع أمامي كل عائق ممكن، كأن تطلب مني مثلًا الذهاب إلى باريس للحصول على التأشيرة السياحية. بيد أنني لم أتكبد كثيرًا من العناء؛ لأنني كان لي صديق يعيش في الكاميرون، دفع رشوة تعادل أجر موظف كاميروني في نصف يوم ليبعث لي دعوة. دفعت متسلحا بهذه الدعوة ما يعادل أجر موظف كاميروني في خمسة أيام لأحصل على تأشيرة الدخول في عملية تطلبت ثلاث زيارات فقط للسفارة، وبعض التذلل من جانبي. وهذا يكشف سر عدم التقائي أنا ورفقائي في هذه الرحلة بسائحين كثيرين طوال الأسابيع الثلاثة التي قضيناها في الكاميرون. ولا أريد أن أرجع كل الفضل في تنفير السائحين من المجيء إلى الكاميرون إلى وزارة السياحة؛ إذ إنها مهمة تحتاج تعاون فريق عمل بأكمله. فوفقًا لمنظمة الشفافية الدولية، تعد الكاميرون أحد أكثر الدول فسادًا في العالم. وكشفت استطلاعات الرأي عام ١٩٩٩ أنها نفسها أكثر الدول فسادًا. أما عندما زرتها عام ٢٠٠١، فكانت قد تراجعت لتغدو خامس أكثر الدول فسادًا، الأمر الذي تعتبره حكومتها تحسنًا احتفلت به كثيرًا. وإذا تمعنت في التفكير للحظات، علمت أن الفوز بلقب «أكثر الدول فسادًا في العالم» أمر يتطلب الكثير من بذل بعض الجهد. ولمّا كانت منظمة الشفافية الدولية ترتب الدول حسب النظرة الدولية للفساد، كانت الاستراتيجية الرابحة للكاميرون هي التركيز على إجبار رجال الأعمال الأجانب على دفع الرشا مثلما يحدث في المطار. ولكن جهود السلطات الكاميرونية قد تشتت لأن الدولة فاسدة بشدة على كافة المستويات، ولا يقتصر الأمر على التعامل مع الأجانب فحسب. إذن فربما عدم التركيز هو ما جعلها تسقط من فوق عرش الفساد. بيب: «أنت لا تراني، ولكن لدي مقاعد خاوية في السيارة.» بيب: «أراك، ولكن ليس لدي مقاعد خاوية في السيارة.» بيب: «لا تركب معي، فأنا ذاهب في اتجاه مختلف.» بيب: «سأقبل ما تدفعه، هيا اركب.» بيب: «بعد دقيقة سأنحرف لأتفادى مطب، وقد أصدمك بالسيارة، ابتعد!» صحيح اعتادت شوارع دوالا على أن تسير بها الحافلات التي لم تعد تستطيع السير في هذه الشوارع المتهالكة. لذا، تعد سيارات الأجرة كل ما تبقى من وسائل المواصلات، التي جميعها سيارات قديمة متهالكة من ماركة تويوتا، تحمل أربعة ركاب في المقعد الخلفي، وثلاثة في المقعد الأمامي، ولونها أصفر تمامًا مثل تاكسيات نيويورك، وملصق على كل منها شعارات مميزة مثل «الله أكبر»، أو «توكلنا على الله»، أو «الله يُسيرها». إن نتائج الرفاهية البشرية المرتبطة بمسائل مثل هذه هي نتائج مذهلة. فبمجرد أن يبدأ المرء في التفكير في أحدها، يصبح من الصعب عليه التفكير في أية مسألة أخرى. اعتاد علماء الاقتصاد على الاعتقاد أن الثروة الاقتصادية جاءت من مزيج من «الموارد التي صنعها الإنسان» (كالطرق، والمصانع، والآلات، وأنظمة الاتصالات)، و«الموارد البشرية» (كالعمل الجاد، والتعليم) و«الموارد التقنية» (كالمعرفة التقنية، أو الآلات فائقة التكنولوجيا). ويبدو جليًّا أن الدول الفقيرة أضحت دولًا غنية بعدما استثمرت المال في مواردها الطبيعية، وطورت مواردها البشرية والتقنية عن طريق التعليم وبرامج نقل التكنولوجيا. ما الخطأ إذن في هذه الصورة؟ لا خطأ حتى الآن. فالتعليم، والمصانع، والبنية التحتية، والمعرفة التقنية هي موارد بالفعل متوفرة بكثرة في الدول الغنية وتفتقر إليها بشدة الدول الفقيرة. ولكن الصورة هكذا ليست كاملة: فالبازل ينقصه أهم قطعه فيه. وأول دليل على أن ثمة نقص في هذه الصورة التقليدية هو المعنى المتضمن بها، هو أن الدول الفقيرة كان عليها مواكبة الدول الغنية منذ نصف قرن أو يزيد. فكلما كانت متخلفة عنها بعدد سنوات أكبر، تحتم عليها مواكبتها أسرع؛ لأن الدول ذات البنية التعليمية أو التحتية الضعيفة، تحصل فيها الاستثمارات الجديدة على مميزات كبيرة. أما الدول الغنية، فلا يجني الاستثمار الجديد فيها إلا الربح الضئيل: ويسمي الاقتصاديون هذا الأمر بقانون «تناقص الغلة». فمثلًا، إذا رُصفت وعُبدت بعض الطرق في الدول الفقيرة، فسوف تفتح الباب نحو التجارة أمام مناطق جديدة تمامًا؛ في حين أن رصف بعض الطرق في الدول الغنية لن يساهم فقط سوى في تخفيف بعض الزحام. فتجد مثلًا أن خطوط الهاتف عند مدها للدول الفقيرة تكون لها أهمية عظيمة، أما في الدول الغنية، فيستخدم الأطفال الهواتف الجوالة في المدارس ليتبادلوا إرسال الرسائل النصية في الفصل. بالمثل، يتسبب بعض الاهتمام بالتعليم في الدول الفقيرة في إحداث طفرة؛ بينما في الغالب لا يجد معظم الحاصلين على شهادات أكاديمية في الدول الغنية الوظائف. وبالتأكيد فاختراع الدول الغنية للتكنولوجيا يكون مسألة أشق من مجرد قيام الدول الفقيرة بنقلها؛ فمواطنو دوالا مثلًا يمكنهم التمتع بسيارات الأجرة دون انتظار ظهور شركة كاميرونية مثل جوتليب دايملر تعيد اختراع محرك الاحتراق الداخلي من جديد. وعندما تنظر إلى بلاد مثل تايوان، أو كوريا الجنوبية، أو الصين، التي تتضاعفت دخولها كل عشر سنوات أو أقل، تجد نظرية المواكبة نافذة المفعول. ولكن ما زال العديد من الدول الفقيرة لا ينمو بوتيرة أسرع من الدول الغنية؛ وفي حقيقة الأمر فإنها تنمو نموًّا بطيئًا، أو — كما في حالة الكاميرون — تزداد فقرًا. وفي محاولة علماء الاقتصاد العثور على قطعة البازل المفقودة، مزجوا بين نموذج «تناقص الغلة» وبين نموذج آخر يأخذ في اعتباره «تزايد الغلة»، وكان مفاد النظرية الجديدة أنه أحيانًا عندما تزيد الموارد، تزيد سرعه النمو: فالهواتف مفيدة إذا كان الجميع يملكونها، والطرق مفيدة إذا كان الجميع يملك السيارات؛ ويغدو من الأسهل اختراع التكنولوجيا إذا كان سبق لك اختراع الكثير من قبل. تكشف لنا هذه المسألة عن السبب في ثراء الدول الغنية، وتخلف الدول الفقيرة عنها بكثير، إلا أنها لا تفسر كيف تقوم دول مثل الصين، وتايوان، وكوريا الجنوبية — ناهيك عن بتسوانا، وشيلي، والهند، وموريشيوس، وسنغافورة — بملاحقة ركب الدول الغنية. فهذه الدول الواثبة — بخلاف اليابان، أو الولايات المتحدة، أو سويسرا — حققت أسرع معدلات نمو اقتصادي على ظهر هذا الكوكب، والتي كانت نفسها تعاني من فقر مدقع منذ خمسين عامًا. وكانت تنقصها الموارد التي صنعها الإنسان، والموارد البشرية، والتقنية، وحتى الموارد الطبيعية أحيانًا. ثم شقت رحلتها نحو الثراء منذ ذلك الحين، فقامت خلالها بتطوير التعليم، والتكنولوجيا، والبنية التحتية. ولم لا؟ فقد باتت التكنولوجيا أكثر توفرًا، وتزداد تكاليفها انخفاضًا، فهذا هو ما يجب أن يتوقعه خبراء الاقتصاد من كل دولة نامية. ففي عالم تتناقص فيه الغلة، تحصل أكثر الدول فقرًا على أقصى استفادة من التكنولوجيا الحديثة، والبنية التحتية، والتعليم. ولتنظر إلى كوريا الجنوبية على سبيل المثال التي نجحت في الحصول على التقنيات الحديثة بعدما حثت الشركات الأجنبية على الاستثمار فيها، أو بيع حقوق استخدامها. لم يكن الأمر مجانيًّا: فبجانب دفع رسوم استخدام التقنيات، كانت الشركات المستثمرة ترسل الأرباح التي حققتها إلى أوطانها. أما المكاسب التي تعود على كل من العمال الكوريين، والمستثمرين، في صورة نمو اقتصادي، فكانت أكبر خمسين مرة من الرسوم والأرباح التي خرجت من الدولة. وبالنسبة إلى التعليم والبنية التحتية، فلما كانت الغلة تبدو مرتفعة للغاية، كان لزامًا توافر المستثمرين المستعدين لتمويل مشروعات البنية التحتية، أو إقراض الأموال للطلاب أو حتى للحكومة التي توفر التعليم المجاني. وكان لزامًا على البنوك المحلية والأجنبية أن تتسابق على منح القروض للمواطنين لمساعدتهم على الالتحاق بالمدارس، أو إنشاء طرق، أو محطات طاقة جديدة. كما كان لزامًا على الفقراء، أو على الدول الفقيرة، أن يكونوا سعداء للغاية للحصول على تلك القروض، وهم على ثقة أن عوائد الاستثمار ستكون مرتفعة، وأن سدادهم لتلك القروض لن يكون بالأمر الصعب. وحتى إن لم يحدث أي من هذا لأي سبب كان، فإن البنك الدولي، الذي أُسس بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها تحت هدف واضح هو إقراض الدول من أجل التنمية وإعادة الإعمار؛ يقدم قروضًا للدول النامية تقدر بمليارات الدولارات سنويًّا. ومن الواضح أن عدم توافر المال اللازم للاستثمار ليس هو القضية وإنما القضية هي إما لا توجد استثمارات، أو أنها لا تحقق العائد الذي تتوقعه منها النماذج التقليدية. بينما كانت سيارتنا ترتطم بالسيارات الأخرى، وتترنح في بطء لتشق طريقها من بين جموع الناس من المشاة، كنت أحاول أن أعرف مِن السائق «سام» المزيد عن هذه الدولة. وسألته: «متى كانت آخر مرة أُصلحت فيها هذه الطرق يا سام؟» رد سام: «منذ حوالي تسعة عشر عامًا.» وسألته: «ألا يشكو الناس من الطرق؟» رد: «يشكون، ولكن لا شيء يتغير. فالحكومة تقول إنه ليس لديها المال لإصلاحها. ولكن هناك المال الوفير الذي يأتي من البنك الدولي، ومن فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا، ولكن مسئولي الحكومة يضعونه في جيوبهم. ولا ينفقونه على الطرق.» «هل توجد انتخابات في الكاميرون؟» «نعم، توجد انتخابات. فالرئيس بيا يُعاد انتخابه دائمًا بأغلبية أصوات ٩٠٪.» «هل يصوت له ٩٠٪ من الشعب؟» «لا، فهو لا يتمتع بأي شعبية. ومع ذلك، ما زال يفوز بأغلبية أصوات ٩٠٪.» ولا يحتاج المرء لقضاء وقت طويل في الكاميرون ليدرك كم يمقت الشعب الحكومة. فمعظم نشاط الحكومة يبدو أنه قد أعد على نحو واضح خصيصًا لسرقة المال من شعب الكاميرون. أذكر أنني قد حُذرت بشدة من فساد الحكومة، ومن أن المسئولين في المطار سيحاولون أن يريحوني من النقود التي أحملها معي، حتى إنني كنت متوترًا من ذلك الشأن أكثر من توتري خشية إصابتي بالملاريا، أو من التعرض لهجوم بغرض السرقة تحت تهديد السلاح في أحد الشوارع الخلفية بمدينة دوالا. ومع ذلك، ينظر العديد من الكاميرونيين لرجال السياسة والموظفين الحكوميين بنظرة متفائلة، لأنهم يقدمون الخدمات للشعب ويفعلون كل ما في وسعهم لمراعاة مصالح الدولة. وهناك آخرون متشائمون يرون أن العديد من رجال السياسة غير مؤهلين، ودائمًا ما يفضلون فرص إعادة انتخابهم على مصلحة الشعب نفسه. تخيل إذن أن دكتاتورًا لصًّا تولى زمام السلطة لمدة أسبوع، أي بالفعل سيكون هناك قاطع طريق وجيشه المتنقل الذي يزحف على البلاد، وينهب منها كل ما يريده، ثم يغادر. وإذا افترضنا أنه ليس بحاقد، ولا بصافي القلب، ولكنه شديد النفعية. فما الدوافع التي تردعه عن نهب كل خيرات البلاد؟ الإجابة لا توجد أي دوافع تردعه … إلا إذا كان يخطط أن يعود أدراجه العام المقبل. ولكن تخيل أن هذا اللص المتجول أعجبه المناخ في بقعة معينة وقرر الاستقرار فيها، وبنى قصرًا، وحث جنوده على استغلال الشعب الذي استوطن أراضيه. وعلى الرغم من هذا السوء والظلم، فإن الوضع الاقتصادي للسكان المحليين ربما سيتحسن بعدما قرر الدكتاتور البقاء؛ إذ إن الدكتاتور الذي يتسم بالأنانية المحضة سيدرك على الفور أنه لا يمكنه تدمير الاقتصاد، وترك الناس يتضورون جوعًا، إذا كان يخطط للمكوث في البلاد، لأنه إذا استنزف كل مواردها لن يتبقى له ما يسرقه في العام المقبل. من هنا جرى النظر إلى الدكتاتور الذي يستولى على أرض ما على أنه قائد مرغوب فيه أكثر من ذاك الذي يتنقل باستمرار بحثًا عن ضحايا جدد ينهبهم. ربما يبدو الأمر غير ذي صلة بالموضوع تمامًا، إلا أننا يمكننا أن نأخذ من علم الأحياء نموذجًا عن رجل الاقتصاد السياسي: تميل سُمية الفيروسات والبكتيريا إلى الانخفاض كثيرًا بمرور الوقت، لأن سلالاتها الأشد سمية تهلك بسرعة. أذكر أن مرض الزُهري، مثلًا، اكتُشف في أوروبا أول مرة في أواخر القرن الخامس عشر، ووُصِف على أنه مرض فتاك للغاية يقتل ضحاياه بسرعة. ولكن استراتيجية هذا المرض ليست بالاستراتيجية الناجحة إذ إن من مصلحة الفيروس ألا يترك ضحاياه يموتون، أو على الأقل لبعض الوقت، حتى يتسنى له الانتشار، وإيجاد مزيد من الضحايا. أما سلالات فيروس مرض الزهري المتحولة التي باتت تقتل المصابين بسرعة أقل، فكانت أكثر نجاحًا، وأطول حياة من السلالات الأشد فتكًا. لازمت ذهني تلك الفكرة عن هذا التحول الذي يشهده الفيروس عندما كنت أفكر في الرئيس بيا، إذ لا يمكنني تأكيد أن وصف أولسون للدكتاتور النفعي ينطبق عليه. فإذا كان مثلما وصف أولسون، لن يصب في مصلحته أخذ الكثير من الشعب الكاميروني، فإن فعل ذلك، لن يتبقى له ما يأخذه العام المقبل. وكلما زاد شعوره بالأمان على كرسيه، لن يرغب أبدًا في قتل الدجاجة التي تبيض له بيضة ذهب. بل يستوجب عليه ترك الاقتصاد الكاميروني يعمل كي يظل يسرق منه دومًا، تمامًا مثل المرض الذي يعتمد وجوده على الأجسام التي يبليها. يكشف هذا عن أن القائد الذي يثق في بقائه في السلطة لمدة عشرين عامًا سوف يعمل على إصلاح الاقتصاد أكثر من ذاك الذي يود الهروب بعد عشرين أسبوعًا. ربما تكون العشرون عامًا التي يتولى فيها زمام الحكم «الدكتاتور المنتخب» خير من عشرين عامًا تتوالى فيها الانقلابات الواحد تلو الآخر. فهل نهتف: «يعيش الرئيس بيا؟!» ليس معنى هذا أن مانكور أولسون في نظريته كان يتوقع عدم ممارسة الأنظمة الدكتاتورية المستقرة إلا الأفعال الرامية لمصلحة بلادهم. بل قصد أنهم حقًّا سيلحقون الخراب بالاقتصاد، ولكن بصورة أقل من الأنظمة غير المستقرة. أما قادة الدول أمثال بيا الواثقون من فوزهم الدائم في الانتخابات، فلا ينفكون عن إلحاق الأذى دائمًا بشعوبهم، واقتصاد بلادهم. فإذا سايرنا هذا الافتراض المبسط وقلنا إن بيا لديه السلطة المطلقة لتوزيع دخل الكاميرون، ربما سيقرر أن ينهب نصفه تقريبًا كل عام في صورة «ضرائب» تذهب في حسابه الشخصي في البنك. وبالتأكيد سيكون هذا حدثًا مشئومًا لضحاياه بالطبع، كما سيكون حدثًا مشئومًا أيضًا للنمو الكاميروني طويل المدى. هب أن تاجرًا صغيرًا يحاول استثمار مبلغ ١٠٠٠ دولار يشتري بها مولد طاقة جديد لورشته، ويتوقع أن يدر له استثمار مثل هذا مبلغ ١٠٠ دولار سنويًّا، أي عائد ١٠٪، الذي يعد عائدًا جيدًا. ولمّا كان الرئيس بيا سيستولي على نصفه، فسينخفض الرقم إلى رقم آخر غير جذاب ألا وهو ٥٪. من هنا يقرر رجل الأعمال عدم خوض هذا الاستثمار لتضيع بذلك عليه فرصة المكسب، كما تضيع على الرئيس بيا. وينطبق نفس هذا المثال المتطرف على الظاهرة التي ناقشناها في الفصل الثالث ألا وهي أن الضرائب تحقق اللافعالية. صحيح أن الضرائب التي يفرضها الرئيس بيا تعسفية وباهظة، إلا أن تأثيرها الأساسي على الاقتصاد سيكون مشابهًا في طبيعته. بالتأكيد قد يكون للرئيس بيا استثماراته الخاصة لتشجيع التجارة كأن يشق الطرق، أو يبني الجسور، تلك الاستثمارات التي تكلف الكثير على المدى القصير، إلا أنها تساعد الاقتصاد على النمو مانحًا الفرصة إلى بيا كي يسرق فيما بعد، ولكن الجانب الآخر من المشكلة سوف يحدث أيضا: فقد يسرق بيا نصف الغلة فقط التي قد لا تكفي لحثه على توفير البنية التحتية التي تحتاجها الكاميرون. فعندما تولى بيا الحكم عام ١٩٨٢، ورث معه الطرق المتهالكة تمامًا التي تعود إلى العصر الاستعماري. فإذا كان قد ورث دولة بدون أي بنية تحتية، لكان من مصلحته أن يشيد بنية تحتية جيدة نوعًا ما. ولكن بما أن البنية موجودة بالفعل، احتاج بيا لوضع تقدير عمّا إذا كانت هذه البنية تستحق الإصلاح، أو أنه يستطيع ببساطة أن يعيش على تراث الماضي. وفي عام ١٩٨٢، ربما يكون ظن أن الطرق قد تتحمل حتى فترة التسعينيات، وهي الفترة التي كان يتوقع أن يظل في السلطة لحين بلوغها. وبناءً على هذا المبدأ، قرر العيش على رأس مال الماضي، ولم يشغل باله بإنشاء أي بنية تحتية لشعبه. فطالما كان يوجد منها ما يكفي ليظل في الحكم، لماذا يعبأ وينفق المال الذي يمكن أن يذهب مباشرة إلى حسابه الشخصي الذي يعده لما بعد تقاعده؟ ومع ذلك فالنظام كان سيحقق نتائج أفضل كثيرًا لولا السيطرة الخبيثة للحكومة. وأحيانًا يكمن حل المشكلة في تجاهلها ببساطة. فمثلًا، يمر الطريق الأسرع من مدينة بويا إلى مدينة باميندا، الذي ليس بالضرورة خط السير المستقيم، خلال المنطقة التي تتحدث الفرنسية في الكاميرون ذات الطرق الأفضل. فإذا أردت الوصول أسرع عليك أن تسلك الطريق شرقًا لمدة ساعتين، ثم شمالا لمدة ساعتين، ثم غربًا لمدة ساعتين. وهذه الطريقة أسرع بكثير من القيادة في خط مستقيم شمالًا على الطرق المروعة التي تمر خلال المنطقة التي تتحدث الإنجليزية في الكاميرون؛ إذ إن حكومة بيا تتجاهل مراعاة مصالح مناطق الأقلية التي تتحدث الإنجليزية والتي ليس لها نفوذ سياسي. يشكو سكان مناطق الأقلية التي تتحدث الإنجليزية من أنه عندما قام المتبرعون بتمويل بناء طريق الكاميرون السريع، لم تفعل الحكومة سوى إرسال إيصالات استلام المبالغ لهم ولم تقم ببناء الجزء الذي يمر بالقسم المتحدث بالإنجليزية. أما العائق الثاني في هذا الطريق المستقيم، فهو الأعداد الكبيرة من الحواجز التي يقيمها رجال الشرطة المستأسدون، الثملون في معظم الأحيان، لإيقاف كل سيارة «ميني باص»، ومحاولة انتزاع الرشا من ركابها بأقصى ما في وسعهم من جهد. صحيح تخيب معهم هذه الطريقة عادةً، ولكنهم من حين إلى آخر يصممون على نجاحها. يذكر صديقي أندرو أنهم أنزلوه مرة من الحافلة، وتعرض لمضايقاتهم لعدة ساعات. وأخيرًا كانت حجتهم للحصول على رشوة منه أنه لم يكن معه شهادة تطعيم ضد الحمى الصفراء، التي يحتاجها المرء عند دخول البلاد، ولكن ليس عند ركوب الحافلة. وشرح له الشرطي باستفاضة أن الكاميرون لا بد من حمايتها من هذا المرض ولكن ثمنُ زجاجتين من الجعة أقنعه أن الوباء قد قُضي عليه بالفعل، ثم لحق أندرو بالحافلة التالية بعد ثلاث ساعات. وهذا أقل فعالية بكثير من النموذج الذي طرحه مانكور أولسون، إذ إن أولسون نفسه اعترف أن نظريته — في أكثر صورها تطرفًا — لم تدرك الحجم الهائل للضرر الذي تُبتلى به الشعوب من الحكومات الفاسدة. فالرئيس بيا يريد أن يظل مئات الآلاف من قوات الشرطة والجيش سعداء، وكذلك العديد من موظفي الحكومة، ومعاونيه الآخرين. وإذا كان بيا يحكم في ظل نظام حكم ديكتاتوري «مثالي» لكان قد فرض أقل الضرائب ضررًا بأي مقدار يراه ضروريًّا، ثم يوزع العوائد على الأتباع والمؤيدين. ولكن اتضح أن هذا الأسلوب غير ملائم لأنه يتطلب توافر مزيد من المعلومات، ومزيد من الهيمنة على الاقتصاد أكثر مما يمكن أن تفعله حكومة فقيرة ليبقى خيارها الوحيد فساد واسع النطاق تجيزه الحكومة. والفساد لا يحقق الظلم فحسب، بل إنه مصدر إهدار فادح أيضًا. فرجال الشرطة يقضون أوقاتهم في مضايقة الركاب حتى يحصلوا منهم على عوائد متواضعة. والتكاليف هائلة. فتجد قوة شرطة بأكملها منهمكة في انتزاع الرشا غافلة عن القبض على المجرمين. ورحلة السيارة التي تستغرق أربع ساعات أضحت تستغرق خمس ساعات. أما الركاب، فيضطرون لاستخدام وسائل مكلفة لحماية أنفسهم: فلا يحملون معهم إلا النقود القليلة، ويقللون من أسفارهم، أو يسافرون في أوقات الذروة من النهار أو يحضرون معهم نسخًا إضافية من كل المستندات التي يحتاجونها في محاولة منهم لتجنب التعرض لعمليات ابتزاز الرشا. صحيح أن حواجز الطرق، وضباط الشرطة المجرمين يعتبران أحد أشكال الفساد الجلية. ولكن ثمة ما يشبه حواجز الطرق في كل أركان الاقتصاد الكاميروني، ألقي البنك الدولي الضوء عليها عندما بدأ مؤخرًا في جمع البيانات عن قوانين العمل البسيطة، واكتشف البنك أن بدء مشروع صغير لا يتم إلا عندما يدفع صاحب المشروع رسومًا تقترب من دخل المواطن الكاميروني العادي في سنتين. (حتى إن ما أنفقته للحصول على الفيزا كسائح يعد مبلغًا تافهًا إذا قورن بهذا الرقم). ويتكلف شراء وبيع العقارات ما يقترب من خُمس قيمتها. ولكي تجعل المحاكم تنفذ القانون فيما يخص فاتورة لم يتم دفع قيمتها، فقد يستغرق الأمر حوالي عامين كما قد يتكلف ما يزيد عن ثلث قيمة الفاتورة، ويتطلب اتخاذ ثمانية وخمسين إجراءً منفصلًا. تعتبر هذه القوانين السخيفة من الأنباء الطيبة للبيروقراطيين الذين يضعونها موضع التنفيذ؛ إذ إن كل إجراء لا يخرج عن كونه فرصة لانتزاع رشوة. وكلما كانت عملية القيام بالإجراءات أكثر بطئًا، زادت فرص دفع الأموال لتحريكها أسرع، الأمر الذي يسفر عن تأييد عدد غفير من مسئولي الحكومة للرئيس بيا بشكل أكبر ليدعم به بقاءه في السلطة. إن كل ما تقوم به الحكومة من قطع للطريق، والفساد المنتشر، والقوانين القمعية التي وضعت لتسهيل ابتزاز الرشا كلها عناصر من القطعة المفقودة من لغز النمو والتنمية. وأذكر أن رجال الاقتصاد ممن يعملون في قضايا التنمية كانوا يلتفون حول شعار «الأعراف مهمة» طوال السنوات العشر الماضية تقريبًا. ومن الصعب بالطبع أن تصف ما هو «العرف»، حتى إنه من الأصعب تحويل العرف السيئ إلى آخر جيد. ولكن ثمة تقدم في ذلك الشأن آخذ في الحدوث، فنظرية مانكور أولسون عن الحكومة قاطعة الطريق تساعدنا على الفهم على نحو مبسط، كيف يمكن أن تؤثر أنواع الحكومات المختلفة على دوافع كل أفراد الشعب، بالرغم من أنها تعطينا فكرة ضئيلة فقط عن كيفية تحسين وضعنا الراهن. ويعطينا قياس البنك الدولي للإجراءات الرسمية البيروقراطية فهمًا ممتازًا لأحد أنواع الأعراف ألا وهو قوانين العمل البسيطة. ويوضح لنا كيف يمكن لبعض الدعاية البسيطة أن تعمل على تطوير بعض هذه الأعراف. فمثلًا، بعدما أعلن البنك الدولي حقيقة أن أصحاب المشروعات في إثيوبيا لا يمكنهم البدء قانونيًّا في تنفيذ مشروعاتهم دون دفع ما يعادل راتب أربع سنوات لنشر إعلان رسمي عن بدء نشاط شركاتهم في الصحف الحكومية، استجابت الحكومة الإثيوبية أخيرًا وقررت إلغاء تلك القوانين. وبعدها على الفور قفز معدل تسجيل الشركات الجديدة بحوالي ٥٠٪. وللأسف، ليس من السهل دائمًا دفع الحكومات الفاسدة لتُغير أساليبها. فمع أنه يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم أن الأعراف الفاسدة هي مفتاح لغز فقر الدول النامية، فمعظم الأعراف يصعب وصفها في ظل نموذج جذاب مثل نموذج مانكور أولسون أو حتى في ظل بيانات جُمعت بدقة من جانب البنك الدولي، فمعظم الأعراف البائسة تجدها بائسة بطبيعتها. وبالرغم من تصميمه المبتكر، إلا أني كنت متأكدًا أن ما سأشاهده في المكتبة الجديدة المبهرة سوف يدوم في ذاكرتي أكثر من المبنى نفسه. وفي موقعه الذي يجعله عرضة لحرارة الشمس الحارقة في فصل الجفاف في الكاميرون، من الصعب على الرائي من أول وهلة ملاحظة المشكلة التي يخلفها سقف يبدو ككتاب مفتوح عملاق. ولكنك يمكن أن تتناسى مثلما تناسى المهندس المعماري للسقف أن الكاميرون بها موسم لسقوط الأمطار. فحينما تمطر السماء في الكاميرون فهي تمطر لخمسة أشهر متواصلة، وتنهمر بقوة حتى إن المصارف والقنوات الهائلة الحجم المخصصة لتصريف مياه الأمطار سرعان ما تفيض. وعندما يلتقي هذا النوع من المطر مع سقف غير مزود ببالوعات صرف يتحول السقف نفسه إلى بالوعة صرف تصب الماء على القاعة ذات المدخل المسطح، فحينئذ تعرف أنه قد آن الأوان لوضع الكتب في أغلفة من البلاستيك. والسبب الوحيد في أن كتب المدرسة ما زالت موجودة حتى الآن هو أنها لم توضع يومًا في المبنى الجديد؛ فقد كانت أمينة المكتبة تأبى باستمرار طلب مديرة المدرسة بنقلها من المكتبة القديمة إلى المكتبة الجديدة. من هنا فهمت أن مديرة المدرسة كانت رافضة بشدة وجودي عندما خطوت إلى داخل مبنى المكتبة الجديد لأرى الخراب، كانت معظم أجزاء المكتبة قد تدمرت. احتوت الأرضية على بقع ناتجة عن أعداد لا تحصى من البرك الموحلة التي تسببت بها مياه الأمطار. وكان الهواء يحمل رائحة عفنة، تجعلني أنظر إليها وكأنها كهف رطب من كهوف أوروبا وليس مبنى حديثًا عند خط الاستواء. كما كان الجص يخرج من الجدران بحيث أصبح المنظر أشبه بلوحة جدارية بيزنطية يعود تاريخها إلى ألف عام مضى، مع أن المبنى لا يتجاوز عمره الأربع سنوات فقط. يا له من إهدار فادح للموارد. فبدلًا من بناء تلك البناية الجديدة، كان يمكن للمدرسة شراء أربعين ألف كتاب جيد، أو شراء أجهزة الحواسب الآلية التي يمكن وصلها بالإنترنت، أو تمويل منح دراسية للأطفال الفقراء. فأي من هذه البدائل كان سيعد أفضل على نحو لا يضاهى من هذا المبنى الجديد غير الصالح للاستخدام. هذا بخلاف حقيقة أن المدرسة لم تحتج يومًا إلى مبنى جديد للمكتبة من الأساس، فالمبنى القديم يؤدي مهمته على أكمل وجه، ويمكنه استيعاب كتب تزيد ثلاث مرات عن الكتب التي تقتنيها المدرسة، كما أن به عازلًا ضد الماء. السبب وراء تصميم المكتبة غير المناسب هو أن وجود المكتبة لم يكن ضروريًّا، ففي النهاية لم يكن أحد يهتم بما إذا كان المبنى مناسبًا من الناحية المعمارية أم لا، فلم يكن هناك داع له. ولكن إذا لم يكن هناك مغزى من وجود المكتبة، فلماذا بُنيت في المقام الأول؟ دائمًا يُنسب إلى نابليون قوله: «إياك أن تنسب إلى التآمر أمورًا يمكن أن يُعزى حدوثها إلى عدم الكفاءة.» وهذه هي النتيجة الطبيعية: فعدم الكفاءة هي كبش فداء سهل لما يحدث في الكاميرون. فكل ما يراه السائح في هذه البلد يدفعه إلى أن يهز كتفيه وينسب فقر الكاميرون إلى حمق شعبها. وتبدو المكتبة دليلًا دامغًا على هذا ولكن الحقيقة أن الشعب الكاميروني ليس أكثر ذكاء أو أكثر غباء من باقي الشعوب. إذ تجد الأخطاء التي تعود للغباء واسعة الانتشار في الدولة إلى درجة أن عدم الكفاءة لا يمكن أن يكون السبب المناسب الذي نبحث عنه، فثمة شيء يؤدي هذه المهمة على نحو يخضع لخطة منظمة. وأكرر من جديد إننا في حاجة لمراجعة حوافز صناع القرار. ثانيًا: لم يكن هناك من يراقب نفقات مديرة المدرسة؛ إذ لم يكن أعضاء هيئة التدريس يحصلون على العلاوات، أو الترقيات التي تعتمد على الكفاءة، وإنما تلك التي تعتمد تمامًا على قرارات المديرة. ولمّا كانت المدرسة مرموقة ذات ظروف عمل جيدة بالنسبة للمعلمين، لم يفكروا في التخلي عن وظائفهم فيها، مما يعني أن علاقتهم بالمديرة يجب أن تظل جيدة. وفي الواقع، كان الشخص الوحيد الذي لديه القدرة على عصيان المديرة هو أمينة المكتبة التي لا تخضع للمُساءلة إلا من قِبَل المقر الرئيسي للمنظمة التطوعية البريطانية في لندن. صحيح أنها انتقلت إلى العمل في المدرسة بعد بناء المكتبة، ولكنها على الأقل جاءت في الوقت المناسب لتحول دون نقل مجموعة الكتب إليها وتدميرها. أما مديرة المدرسة، فإما أنها كانت شديدة الغباء بحيث لم تدرك أن الماء يفسد الكتب، أو أنها لم تكن تكترث كثيرًا بشأن الكتب، وأرادت ببساطة أن توضح أن المكتبة بها بعض الكتب. ويبدو أن الاحتمال الثاني أرجح. ولمّا كانت الأموال تحت إمرتها، ولا يستطيع أحد الاعتراض على تبذير الأموال بإنفاقها على بناء مبنى ثانيًا للمكتبة، كانت مديرة المدرسة تسيطر على المشروع سيطرة تامة. حتى إنها طلبت إلى أحد طلاب المدرسة السابقين أن يصمم لها المبنى، ربما لتوضح نوعية التعليم الذي تقدمه هذه المدرسة، وبالفعل نجحت في إثبات شيء ما وإن لم يكن الشيء الذي قصدته. ولكن مهما كان المهندس المعماري يفتقر إلى الخبرة أو الكفاءة، فإن عيوب التصميم كان يمكن اكتشافها إذا كان لدى أي شخص يعنيه الأمر اهتمام حقيقي بمسألة التيقن من أن المكتبة تؤدي الغرض منها كمكتبة. ولكن لم يكن هذا محور اهتمام أي من أصحاب المناصب، بل كان اهتمامهم كله مُنصبًّا على وضع «شيء ما» يؤهل المدرسة لأن تصبح جامعة. لنتأمل هذا الموقف: مال يُمنح بسبب شبكة العلاقات الاجتماعية وليس الحاجة؛ ومشروع نُفذ لغرض الوجاهة وليس للاستخدام، عدم وجود مراقبة أو مساءلة، وتعيين مهندس معماري لغرض التظاهر بواسطة شخص غير مهتم بجودة العمل. النتيجة المتوقعة: مبنى كان من الأفضل ألا يتم بناؤه في المقام الأول، ولكن بُني أيضًا بطريقة سيئة. والمغزى من هذه القصة هي أن المسئولين الطموحين الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة هم في الغالب السبب وراء التبذير في الدول النامية، حتى إن الواقع أكثر قتامة من هذا. فالمسئولون الطموحون الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة والذين يشغلون مناصب حكومية، سواء كانت مناصب كبيرة أو صغيرة، موجودون في كل مكان في العالم. صحيح أنه في كثير من البلدان تنجح القوانين والصحافة، والمعارضة الديمقراطية في وضع هؤلاء تحت السيطرة ولكن المأساة في الكاميرون هي أنه لا يوجد شيء يمكن أن يضع المصلحة الشخصية تحت السيطرة. يعطي نظام التعليم الكاميروني المسئولين عنه نوعًا من الدوافع غير الصحيحة مفادها أن تعليم الأطفال آخر ما يمكن أن يتربحوا من ورائه، وعليه، فهو آخر ما يركزون عليه. عندما سمعت عن هذه الدراسة ظننت أن بإمكاني تخمين مفادها. كان يبدو جليًّا أن التصميمات الحديثة، ومواد البناء، والهندسة، والتمويل الضخم؛ يجب أن تخلق نظام ري أفضل من جموع المزارعين الذين يستخدمون الطمي والعصي، أليس هذا صحيحًا؟ نعم غير صحيح. نمتلك الآن معرفة جيدة ونعرف أن مشروعات السدود الكبيرة نادرًا ما تتناسب مع الظروف الداخلية في هذه البلدان، والحقيقة أن «السد الصغير كان أفضل»؛ إذ إن السُبل التي كان يتبعها أبناء البلد، والمعرفة التقليدية التي تتوارثها الأجيال على مدار السنين كانت أفضل كثيرًا، أليس هذا صحيحًا؟ لا، هذا غير صحيح أيضًا. ما يحدث في نيبال أكثر إثارة بكثير من تلك الفروض المفرطة في التبسيط. نجح أوستروم في الكشف عن مفارقة واضحة، يذهب أول جزء منها إلى أن السدود الحديثة التي صُممت وبُنيت بحرفية تتسبب في خفض كفاءة وفعالية أنظمة الري. أما الجزء الثاني من المفارقة، فيذهب إلى أنه عندما يدفع المتبرعون لبناء قنوات الري، أو لتعزيزها بالمواد الحديثة، فإنها تبنى بطريقة تحسن من نظام الري، وتوصل مزيدًا من الماء لمزيد من البشر. فلماذا يمكن للمتبرعين شق قنوات ري ذات كفاءة، ولا يمكنهم بناء سدود ذات كفاءة؟ بالتأكيد هناك شيء يحدث أكثر تعقيدًا من المناقشة البالية بين الخبرة الفنية الحديثة والمعرفة التقليدية. تتراءى الحقيقة أكثر لمن يحاول تحليل دوافع جميع المعنيين بالأمر. لنبدأ بالفكرة الواضحة من أن أي مشروع يكون لديه فرصة كبيرة للنجاح إذا كان منفذوه هم من سيستفيدون من نجاحه. وعلى الفور يكشف هذا لنا النقاب عن السبب وراء الميزة التي تتمتع بها الطرق التقليدية الموجودة بالفعل، ألا وهو ليس لأن هذه الطرق التقليدية تكشف عن حكمة الأصالة (التي قد تكون سببًا بالفعل)، ولكن لأن من صممها، وبناها، وقام بإصلاحها، هم المزارعون أنفسهم الذين يستخدمونها. فبعكس السدود، والقنوات الحديثة التي صممها المهندسون الذين لن يتضوروا جوعًا إذا فشلت هذه السدود، والذين أسند إليهم هذه المهمة موظفون حكوميون لا تتأثر وظائفهم بالنجاح أو الفشل في عملهم، والذين منحوا التمويل من مسئولين في مؤسسات مانحة تميل إلى تقييم أدائهم بالإجراءات وليس بالنتائج. من هنا، يبرز لنا على الفور السبب في أن المواد الأفضل، والتمويل الضخم لا يؤديان بالضرورة إلى النجاح. صحيح أن كل هذا يبدأ في تفسير السبب في أن من يأمرون بتنفيذ المشروعات الكبيرة لا يهتمون بنفس القدر الذي يهتم به الفلاحون بمسألة إنشاء مشروعات فعالة وغير مكلفة، ولكنه لا يفسر اكتشاف أوستروم أن السدود الممولة بالتبرعات لا تزيد الأمور إلا سوءًا، كما أنه لا يفسر أيضًا السبب في أن قنوات الري الممولة بالتبرعات تؤدي وظيفتها على أكمل وجه بغض النظر عمّا إذا كان من يأمرون بتنفيذها مهتمين بأن تؤدي الغرض منها أم لا. ولفهم السبب، يجب علينا التفكير في المزارعين أنفسهم. فلا أحد إلا المزارعين يهتم بصدق بصيانة نظام الري بمجرد بنائه، وهذه ليست بمعضلة، فقبل بناء أي نظام ضخم للري الحديث، كان لزامًا على المزارعين القيام بأعمال الصيانة للأنظمة التقليدية. فإذا كان بوسعهم صيانة الأنظمة القديمة، ألا يسعهم صيانة الأنظمة الجديدة أيضًا؟ تتطلب الصيانة القيام بمهمتين أخريين كبيرتين هما الحفاظ على سلامة السد وتنظيف القنوات من أي عوالق. ويتطلب هذا الكثير من العمل الشاق الذي لن يكترث المزارعون بالقيام به ما لم يشعروا بالمنافع، وهذا الأمر من المحتمل أن يؤدي إلى مشكلة؛ فبينما يرغب كل المزارعين في سلامة السد، فإن المزارعين المجاورين للسد لا يهتمون كثيرًا بما يحدث لقنوات الصرف التي تقع بعيدًا عنهم. فلماذا عليهم أن يهتموا؟ ومن حسن الحظ، توصلت معظم المناطق الزراعية في نيبال إلى اتفاقية تعاون؛ ففي الوقت الذي تختلف فيه التفاصيل فإن المبدأ العام هو أن يظل المزارعون الذين تقع أراضيهم في اتجاه مجرى النهر يساعدون في صيانة السد مقابل تلقيهم المساعدة في صيانة القنوات. وهذا جيد حتى الآن. فإذا دفعت إحدى المنظمات المانحة المال من أجل إنشاء قناة خرسانية جديدة، فستتحول الأمور نحو الأفضل؛ فالقنوات الجديدة خير من القديمة، وتنقل ماء أوفر، وتتطلب أعمال صيانة أقل. ولكن إذا دفعت هذه المنظمة المانحة مبلغًا كبيرًا من أجل بناء سد جديد، فسينهار كل شيء. ليس لأن السد نفسه سينهار، ولكن العكس. فلأن السد الخراساني يحتاج لأعمال صيانة أقل بكثير من السد العادي، لن تفلح حينئذٍ اتفاقية التعاون التي كانت تحافظ على صيانة نظام الري بأكمله. وستنهار الصفقة المتوارثة. فالمزارعون القاطنون أعلى النهر لن يستمروا في تنظيف القنوات مقابل حصولهم على مساعدة المزارعين أسفل النهر في صيانة السد؛ فالمزارعون القاطنون أعلى النهر لم يعودوا في حاجة إلى المساعدة، ولهذا فإن المزارعين أسفل النهر لم يعد لديهم ما يقدمونه من جانبهم في هذه الصفقة. من هنا باءت العديد من أنظمة الري الحديثة في نيبال بالفشل لأنه على الرغم من أن الخصائص الفنية للنظام ربما تكون قد شهدت تحسنًا فإن الخصائص البشرية للنظام لم يجرِ التفكير فيها والتعامل معها على الإطلاق. يعتبر هذا المثال من نيبال دليلًا آخر على أنه إذا عجز المجتمع عن توفير الدوافع المناسبة للتصرف على نحو منتج، فلن ينقذه من الفقر أي قدر من البنية التحتية الفنية. فمشروعات التنمية غالبًا ما يأمر بتنفيذها أناس لديهم اهتمام كبير بنجاحها وليس اهتمام كبير بالرشا والتقدم الوظيفي. فإذا كانت كفاءة المشروع تحظى بأقل قدر من الاهتمام، فلا عجب إذا لم يحقق أهدافه المفصح عنها. وحتى وإن حقق المشروع أهدافه «الحقيقية» ألا وهي إثراء البيروقراطيين، وحتى إذا كان المشروع من تلك المشروعات التي سيجري تنفيذها إن كان هدفها الحقيقي هو التنمية، فسوف تفسد الرشا وغيرها من الوسائل الملتوية الأخرى كل شيء. دائمًا ما ينصب اهتمام المعنيين بالتنمية على مساعدة الدول الفقيرة لتصبح أكثر ثراء بتحسين نظام التعليم الأساسي، والبنية التحتية مثل الطرق والتليفونات، وهذا بالتأكيد تفكير رشيد. ولكن لسوء الحظ أن كل هذا ما هو إلا جزء ضئيل فقط من المشكلة. اكتشف علماء الاقتصاد — الذين تدارسوا الإحصاءات، وعنوا بدراسة البيانات غير المألوفة مثل الدخل المالي الذي يحققه الكاميرونيون في الكاميرون والذي يحققه الكاميرونيون المهاجرون إلى الولايات المتحدة — أن التعليم والبنية التحتية والمصانع لا تفسر السبب في الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ربما تكون حالة الفقر في الكاميرون تضاعفت بسبب نظام التعليم السيئ للغاية، وبسبب بنيتها التحتية المذرية. ولذلك فإذا كان من الجائز توقع أن تكون الكاميرون أفقر أربع مرات فقط من الولايات المتحدة، فسنجد أنها أفقر منها بخمسين مرة. والأهم من ذلك، لماذا لا نرى الشعب الكاميروني يحاول أن يفعل شيئًا حيال ذلك؟ ألا تستطيع المناطق الكاميرونية تحسين مدارسها؟ ألا تزيد المنافع عن التكاليف؟ ألا يقدر رجال الأعمال الكاميرونيون على بناء المصانع، واستيراد التكنولوجيا، والبحث عن الشركاء الأجانب … وجني الثروة من كل هذا؟ من الواضح أن الإجابة لا. أوضح مانكور أولسون أن حُكم اللصوص يعوق النمو في الدول الفقيرة. فإذا كان الرئيس لصًّا، فقد لا يسبب الهلاك بالضرورة لشعبه، بل إنه قد يفضل دفع عجلة الاقتصاد حتى يحصل على نصيب كبير من كعكة أكبر. ولكن بوجه عام فإن أعمال السلب والنهب سوف تنتشر، إما لأن الدكتاتور غير متأكد من طول الفترة التي سيظل فيها في الحكم، أو لأنه يبغي السماح لأتباعه بالسرقة لكي ينعم بتأييدهم المستمر. وتحت سفح هرم الثروة، تفشل التنمية لأن قواعد المجتمع وقوانينه لا تشجع المشروعات أو الأعمال التجارية التي ستكون للصالح العام. فأرباب العمل لن يمارسوا أعمالهم التجارية بشكل رسمي (لصعوبة ذلك) وبالتالي لا يدفعون الضرائب؛ ومسئولو الحكومة يطلبون تنفيذ مشروعات لا معنى لها، إما بهدف الوجاهة أو بهدف إثراء أنفسهم، وتلاميذ المدارس لا يمانعون من الحصول على مؤهلات غير مفيدة. وليس من الجديد أن نسمع عن الدور المهم لكل من الفساد والدوافع غير المناسبة، ولكن ربما من الجديد أن نكتشف أن مشكلة الأنظمة والقوانين الملتوية لا تشرح فقط بعضًا من السبب وراء الهوة بين الكاميرون والدول الغنية، وإنما تشرح السبب بأكمله. فالدول أمثال الكاميرون تجد حالها أقل بكثير من إمكانياتها وطاقاتها حتى لو أخذنا في الاعتبار بنيتها التحتية الضعيفة، أو استثماراتها ضئيلة، أو حدها الأدنى من التعليم. ولكن الأسوأ من هذا أن شبكة الفساد تحيط بكل جهد لتطوير تلك البنية، وجذب الاستثمار، والارتقاء بمستوى التعليم. سيغدو نظام التعليم في الكاميرون أفضل متى توفر للأفراد الدافع لتلقي التعليم الجيد، وإذا كان من يمسك بزمام السلطة حكومة مختارة من قبل الشعب لكفاءتها، وأن يجري الحصول على الوظائف وفقًا لمعايير المستوى الجيد والمهارات الحقيقية، وليس وفقًا للعلاقات الشخصية. كما ستظفر الكاميرون بتقنيات أفضل، ومزيد من المصانع العاملة متى كان مناخ الاستثمار سليمًا سواء بالنسبة للمستثمرين المحلين أو الأجانب، ومتى كانت الأرباح لا تنهبها الرشا والروتين. ويمكن أن يجري استغلال القدر الضئيل الذي تملكه الكاميرون من التعليم، والتكنولوجيا، والبنية التحتية على نحو أفضل إذا كان المجتمع قائمًا على إثابة الأفكار الجيدة الخلاقة. ولكن ليست هذه طبيعة هذا النظام. لم نصل بعد إلى رأي مناسب يمكنه تحديد ما ينقص الكاميرون أو ما ينقص في الحقيقة الدول الفقيرة في العالم. ولكن بدأت تلوح لنا فكرة عنه، إذ يسميه البعض «رأس المال الاجتماعي»، وأحيانًا «الثقة». ويسميه آخرون «حكم القانون»، أو «الأعراف». ولكن كلها ليست إلا مجرد مسميات. فما يزيد مشكلة الكاميرون تعقيدًا هو أن حالها مقلوب رأسًا على عقب — مثلها في ذلك مثل العديد من الدول الفقيرة — بحيث إن معظم مواطنيها يحبون القيام بالأعمال التي تسبب الضرر للآخرين سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. أما دوافع كسب الثروة بأي طريقة، فهي أمور تعتمد على عقولهم مثلما اعتمدت على السقف في مكتبة المدرسة. لقد أصيبت الحكومة أولًا بانهيار المعايير، ثم ابتلي به المجتمع بأسره. فلا مغزى من الاستثمار في أي من الأعمال التجارية لأن الحكومة لن تحميك من اللصوص. (فقد تتحول أنت أيضًا وتصبح لصًّا). ولا مغزى لدفع فاتورة هاتفك لأنك إذا لم تدفع، لن ينجح في مقاضاتك أحد. (فلا مغزى إذن من افتتاح شركة تليفونات). ولا مغزى من تلقي التعليم لأن الوظائف لا توزع بناءً على الكفاءة. (كما لن يمكنك الحصول على قرض لتكمل تعليمك لأن البنوك لا يمكنها تحصيل القروض، والحكومة لا توفر المدارس الجيدة). ولا مغزى كذلك من إنشاء شركة استيراد لأن موظفي الجمارك سيكونون هم المستفيدين (لهذا لا تجد إلا قدرًا ضئيلًا من التجارة، وتحصل إدارة الجمارك على قدر غير كاف من المال، مما يجعلها تلهث بحثًا عن الرشا). والآن ها قد بدأنا نفهم قدر أهمية المشكلة، ويمكننا البدء في دفع الأمور نحو الأفضل. ولكن مقاومة الحلول متأصلة في طبيعة المشكلة؛ ولهذا فإن معالجتها عملية شاقة بطيئة. لا يستسيغ عقلنا فكرة فرض الديمقراطية بالقوة، وحتى إذا فعلنا ذلك، فستتولد أنظمة لن تُكتب لها الاستمرارية. صحيح أننا لا نحب أن تضيع معونات التنمية وسط الروتين، ولكن التيقن من أن الأموال تذهب إلى أماكنها الصحيحة أمر يلتهم الوقت التهامًا. بالتأكيد لا يمكن حل هذه المشاكل بين عشية وضحاها، ولكن بعض الإصلاحات البسيطة — التي يصاحبها قدر يسير من الإرادة من جانب رجال السياسة — يمكنها تحويل الدول الفقيرة مثل الكاميرون للسير في الاتجاه الصحيح. وأحد الإصلاحات البسيطة هي تقليل الروتين بما يفسح الطريق أمام المشروعات الصغيرة لتعمل في إطار قانوني وهو الأمر الذي يسهل على أصحابها التوسع والحصول على قروض. أما الإصلاحات القانونية الضرورية فهي مألوفة؛ فمع أنها تعتمد دائمًا على حكومة نزيهة وواعية، فإنها لا تحتاج إلا وزيرًا يضع عقله وقلبه في المكان الصحيح بدلًا من أمل حدوث إصلاح دائم بجهاز الحكومة بأكمله.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/9/
جعة، وبطاطس مقلية، وعولمة
ثم بدأ شيء غريب يحدث في القرن الخامس عشر، أخذ الطمي يغمر نهر زوين، ولم يعد باستطاعة السفن الكبيرة الوصول إلى المراسي في بروج. وانتقلت الرابطة الهانزية إلى مدينة أنتويرب شمال الساحل، وسرعان ما انغمست بروج في حالة من الركود، وبعد أن افتقدت الحيوية، على هذا النحو أُطلق عليها اسم «بروج الميتة». وأضحت اليوم قطعة مُتحفية جذابة. ولكونها محفوظة بكامل معالمها القديمة، تجدها تعج بالنشاط فقط بسبب السائحين المتلهفين على زيارة كبسولة زمنية ألا وهي مدينة تجارية من مدن القرن الخامس عشر جميلة ومزدهرة جفّتْ ثروتها ونماؤها مع جفاف النهر. ثمة درس صغير مستفاد نخرج به من القصتين المتناقضتين لمدينتي بروج وأنتويرب ألا وهو أنك إذا أردت أن تصبح غنيًّا، فمن الأفضل أن تبني روابط وثيقة بينك وبين العالم. أما إذا فضلت عدم التغيير، فمن الأفضل أن يكون لديك مرفأ مغطى بالطمي. وإذا أردت أن تصبح غنيًّا مع عدم التغيير، فسوف يخيب أملك. إن أكثر الأمثلة وضوحًا على الارتباط المتزايد للاقتصاد العالمي أن تجد المنتجات الأجنبية متاحة في شكل مألوف لك، الأمر الذي يعد نعمة ونقمة في الوقت ذاته: فهو نعمة لأنه بات من الممكن أن ينعم المرء بمجموعة أكبر من متع الحياة دون الاغتراب بعيدًا عن المكان الذي نشأ فيه. ونقمة لأنك عندما تسافر إلى بلد أجنبية تجد الأماكن التي من المفروض أن تراها لأول مرة مألوفة جدًّا بالنسبة لك، فمن ماكدونالدز في موسكو إلى ستاربكس في شنغهاي، ألا نصير بذلك متشابهين؟ لقد أضحى العالم بأسره كتلة واحدة متنامية من العولمة. فالتجارة مع الأراضي الأجنبية التي كانت في يوم من الأيام حِكرًا على مدن مثل فلورنسا، والبندقية، وبروج؛ أمست الآن لا تخلو منها بقعة على سطح الأرض. وينطبق الأمر ذاته على الثقافات، والتكنولوجيا، والأنظمة الاقتصادية، وكل ما تزخر به أسواق العالم من منتجات. فمن ناحية، سوف تستمر في أن يأخذ بعضها شكل بعض في شتى بقاع الأرض؛ ومن ناحية أخرى، سيكشف المكان الواحد عن تنوع رهيب واختلاط جديد مثير سيشهد عليه كل من سيستمتع بالطعام الإثيوبي في واشنطن العاصمة، أو بوجبة الساشيمي اليابانية في أنتويرب، أو بالكاري البنجلاديشي في لندن. وستستغرق عملية الدمج الاقتصادي والثقافي الوقت الطويل، تمامًا مثل عملية التداخل العرقي. وبالإضافة إلى ذلك فسوف يظهر بشكل مستمر أفكار وتقنيات جديدة. فالعولمة لن تتسبب يومًا في أن نصير كلنا متشابهين، بسبب ظهور الأفكار الجديدة، التي تضيف المكونات الطازجة لخليط الدمج الاقتصادي الذي يحتاج الوقت لكي ينضج. فالذين يخشون حدوث توّحد عالمي بغيض لا بد أن يتذكروا أن الأفكار الجديدة، سواء كانت مقبولة أو غير مقبولة، ستظل في ظهور مستمر أسرع مما يمكن لهذا الخليط أن يتشربها. ربما أكون قد خرجت بحديثي عن الثقافة والأجناس عن حدود اختصاصي، لذلك يجدر بي العودة مرة أخرى إلى علم الاقتصاد حيث توجد «ميزتي المقارنة». لذا فأنا أعرف متى تتم هزيمتي. فلماذا أكتب كتابًا عن الاقتصاد في حين أن البروفيسور ويلسون يمكنه أن يكتب كتابًا أفضل؟ الإجابة هي بسبب الميزة المقارنة التي لولاها لألف البروفيسور ويلسون كتبًا في الاقتصاد، وأنا على تمام اليقين أنه لن يفعلها. وندين بفكرة الميزة المقارنة لديفيد ريكاردو، نجم الفصل الأول. فإذا لجأت أنا والبروفيسور ويلسون إليه كوكيل لأعمالنا، سينصح كلًّا منا بالآتي: «إذا ألفت كتبًا في الأحياء يا تيم، ربما لن يباع منها إلا نسخة واحدة سنويًّا، وهي النسخة التي ستشتريها زوجتك. ولكن كتابتك في علم الاقتصاد مقبولة، وأتوقع أن تبيع منها خمسة وعشرين ألف كتاب كل عام إذا استمررت في الكتابة. أما أنت يا بروفيسور ويلسون، فإن كتبك الاقتصادية ربما تحقق مبيعات تبلغ خمسمائة ألف نسخة كل عام إذا استمررت في الكتابة: ولكن لماذا لا تصب كل اهتمامك على إصدار الكتب في علم الأحياء وتبيع عشرة ملايين؟» صحيح أن إدوارد ويلسون يكتب أفضل مني عشرين مرة في علم الاقتصاد، ولكن كما نصحه ديفيد ريكاردو، فهو مركز جهده على الكتابة في علم الأحياء، وهو المجال الذي يمتاز فيه عني عشرة ملايين مرة. فنصيحة ريكاردو لكلينا لم تخرج عن الحس السليم: إذ إن ويلسون يستوجب عليه اختيار طريقه المهني ليس استنادًا على ما يجيده أكثر مني، وإنما استنادًا على ما يجيده على الإطلاق. في الوقت ذاته، سأتجه أنا إلى كسب عيشي من الكتابة في علم الاقتصاد، ليس لأني أفضل من يكتب في هذا المجال، ولكن لأن الكتابة في الاقتصاد أكثر ما أجيده على الإطلاق. وقد تثير نصيحة ريكاردو الجدل متى تعلقت بالتجارة مع الصين، وتجد أنصار مذهب حماية الإنتاج الوطني يهتفون «الأجور في الصين أقل من أجورنا بكثير»، ويقولون: «إنهم قادرون على صناعة أجهزة التلفاز، ولعب الأطفال، والملابس، وكل الأغراض الأخرى بتكلفة أقل بكثير مما يكلفنا نحن. لهذا، يتحتم علينا حماية مصانعنا المحلية بفرض ضريبة على المنتجات الصينية، أو حتى بمنعها بالكامل.» وهذا ما نفعله، فالولايات المتحدة تدافع عن مصالح شركاتها الأمريكية (وليس الشعب الأمريكي) عن طريق سد الباب في وجه الواردات الصينية بقوانين «مكافحة الإغراق». والإغراق، وفقًا لهذه القوانين، يعني بيع المنتجات بأثمان زهيدة. ولكن الحقيقة أن هذا ليس إغراقًا، وإنما منافسة. فمن المستفيد عندما يتم منع الأثاث الصيني مثلًا من دخول البلاد لأن سعره رخيص بطريقة «غير عادلة»؟ ربما مصنعو الأثاث الأمريكي أنفسهم، وليس بالتأكيد الأمريكي العادي الذي يبغي شراء الأثاث. في غضون ذلك، لا يقدر العديد من الأوروبيين على تحمل تكلفة أجهزة التلفاز حديثة الطراز الكبيرة عالية النقاء بسبب محاولة الاتحاد الأوروبي اليائسة لمنع وصولها من الصين. أما الصلب، الذي يتجاوز إنتاج الصين منه الآن إنتاج الولايات المتحدة واليابان معًا، فقد خضع مؤخرًا لتعريفات جمركية غير شرعية فرضتها الولايات المتحدة، وأما الزراعة فهي تخضع لمزيد من الحماية. أليس هذا ضروريًّا لصد ما يمكن أن يتحول إلى طوفان من السلع الأجنبية الرخيصة التي ستغرق تحتها صناعتنا المحلية؟ كلا ليس ضروريًّا. فالولايات المتحدة عليها أن تنتج السلع والخدمات بغضّ النظر عمّا إذا كانت منتجاتها أرخص من المنتجات الصينية أم لا، وإنما بالتركيز على أكثر الصناعات التي تجيدها على الإطلاق. كان ريكاردو يرى أن القيود التجارية — سواء كانت في صورة دعم للمزارعين الأمريكيين، أو سن القوانين المُنظِّمة لصناعة المنسوجات، أو فرض ضريبة على أجهزة التلفاز — تعود بالخسارة على الصين والولايات المتحدة معًا. إذ لا يهم إذا ما كان الصينيون أفضل منا بكثير — نحن الأمريكيين — في صناعة كل أنواع البضائع، إذ يجب عليهم التمسك بإنتاج أي منتج يكون اقتصادهم فعالًا في إنتاجه. وفي الوقت ذاته، بينما نبدو (ظاهريًّا) أننا الأسوأ في صناعة كل شيء، علينا أن نتمسك بإنتاج أدنى السلع سوءًا التي ننتجها. وهي نفس الفكرة التي طرحتها روح ديفيد ريكاردو عليَّ وعلى البروفيسور ويلسون: فقد أكون أسوأ منه في ناحية ما، ولكن عليّ أن أتابع سيري في إنتاج كتب الاقتصاد في حين يتابع ويلسون سيره في إنتاج كتب علم الأحياء. ومع ذلك، فإن القيود التجارية التي تطبقها الدول لا تخرج عن كونها قيودًا لهذا النسق البديهي. قد يساعد المثال التالي على إقناع من لم يقتنع بعد: دعنا نفرض أن العامل الأمريكي بإمكانه إنتاج مثقاب في نصف ساعة، أو تلفاز ذي شاشة مسطحة في ساعة بينما بإمكان العامل الصيني إنتاج المثقاب في عشرين دقيقة، والتلفاز في عشر دقائق. يبدو جليًّا أن إنتاج العامل الصيني يعادل إنتاج ويلسون. (الأرقام في هذا المثال ليست خيالية فقط، بل بعيدة تمامًا عن الواقع. فمن المحزن للصينيين أن العمال في الدول النامية أقل إنتاجية بكثير من العمال في الدول المتقدمة، إذ تبقى لديهم القدرة على المنافسة فقط لأن أجورهم أقل بكثير؛ والواقع أن العلاقة بين الأجور المنخفضة والإنتاجية المنخفضة علاقة اطراد وثيقة). وإذا لم يتم التبادل التجاري بين الصين وأمريكا، فسيستغرق الأمر تسعين دقيقة في الولايات المتحدة لإنتاج التلفاز ذي الشاشة المسطحة والمثقاب لتثبيته في الحائط. وسيستغرق الأمر في الصين نصف ساعة لإنتاج كليهما. فإذا نجح أنصار مذهب الحمائية أو مذهب حماية الإنتاج الوطني، فسيبقى هذا الحال على ما هو عليه. إذا لم يكن هناك قيود تجارية، فكلا البلدين سيتمكنان من التبادل التجاري فيما بينهما، الأمر الذي سيعود عليهما بالنفع. فالعامل الصيني يصنع تلفازين في عشرين دقيقة، والعامل الأمريكي يصنع مثقابين في ساعة. فإذا تبادلا تجاريًّا المثاقيب مقابل أجهزة التلفاز، فسيغدو النفع العائد على كل منهما أكبر من ذاك الذي يعود عليهما في الوضع السابق بعدما وفر كل منهما ثلث وقته. والطبيعي أنه بعد أن أصبح العامل الصيني أكثر كفاءة فسيكون بوسعه إما العمل عدد ساعات أقل أو يربح المزيد من المال. ليس معنى هذا أن العامل الأمريكي يتكبد الخسارة بسبب التجارة، وإنما العكس هو الصحيح. صحيح أن العامل الصيني لو أُسند إليه العمل لساعات إضافية، فسوف ينجز نفس العمل الذي أنجزه العامل الأمريكي طوال الأسبوع. ولكن لماذا عليه أن يمارس عمله بهذا السخاء المفرط؟ فالصينيون لا يصدرون أجهزة التلفاز للولايات المتحدة من فرط طيبة قلوبهم؛ بل إنهم يفعلون ذلك لأن الأمريكيين يرسلون إليهم سلعًا أخرى في المقابل (المثاقيب الافتراضية في المثال السابق) حتى إذا كان الصينيون أفضل منهم في تصنيع هذه السلعة أيضًا. وبعكس الاعتقاد الشائع، لن تتسبب التجارة الخارجية يومًا في فقداننا لوظائفنا، أو تجعلنا نستورد كل شيء من الخارج، ولا نقوم بتصدير شيء قط. فلو كان هذا صحيحًا، لما كنا نمتلك ما نشتري به وارداتنا في المقام الأول. ولكي توجد التجارة الخارجية في المقام الأول، كان لزامًا على الناس في الولايات المتحدة أن يصنعوا شيئًا ما يبيعونه للعالم الخارجي. ومما يبعث على الدهشة لدى بعض الناس أن علم الاقتصاد يعني بدراسة العلاقات المتشابكة للأشياء: فالسلع والأموال لا تظهر وتختفي فجأة، إذ لن يقبل أحد خارج الولايات المتحدة الدولارات كأساس للتعاملات النقدية لو لم تكن الولايات المتحدة تصدر السلع التي يمكن شراؤها بالدولار. والحقيقة أن في عالمنا الأكثر تعقيدًا، لا يتم تبادل الدولارات بالرنمينبي، أو تبادل المثاقيب بأجهزة التلفاز بطريقة مباشرة، وإنما تقوم الولايات المتحدة بتصدير المثاقيب للسعوديين الذين يبيعون النفط لليابانيين، الذين يبيعون الروبوتات للصينيين، الذين يبيعون أجهزة التلفاز لنا نحن الأمريكيين. ربما نقترض الأموال مؤقتًا — والولايات المتحدة تفعل ذلك الآن — أو ننشئ أصولًا مثل مصانع إنتاج المثاقيب، ونبيع تلك المصانع بدلًا من بيع المثاقيب نفسها. ومع ذلك فإن التدفق غير المباشر للعملات ستتساوى قيمته تمامًا في النهاية. فالولايات المتحدة يمكنها تحمل تكلفة الواردات فقط إذا قامت في النهاية بإنتاج الصادرات كمقابل لما تحصل عليه من واردات. وينطبق الأمر نفسه على سائر الدول. تخبرنا نظرية ليرنر أن تضييق الخناق على استيراد أجهزة التلفاز من الصين لحماية العمالة الأمريكية العاملة في تصنيع أجهزة التلفاز؛ يوازي تضييق الخناق على تصدير المثاقيب الأمريكية لحماية العمالة الأمريكية العاملة في تصنيع أجهزة التلفاز. وفي الحقيقة فإن صناعة أجهزة التلفاز الأمريكية لا تنافس بحق صناعة أجهزة التلفاز الصينية على الإطلاق؛ إنما هي منافسة ضد صناعة المثاقيب الأمريكية نفسها. فإذا أثبتت صناعة المثاقيب أنها أكثر فعالية، فلن تجد صناعة أجهزة التلفاز من سبيل للنجاة، تمامًا مثلما لم تجد حياة ويلسون المهنية الواعدة للكتابة في مجال الاقتصاد متنفسًا أمام مهاراته الأكثر تفوقًا في مجال علم الأحياء. وهذا من دون شك يجعلنا نبصر القيود التجارية من زاوية جديدة. ومع ذلك لا يثبت هذا أن القيود التجارية تسبب أي ضرر: ففي النهاية، أليس من الجائز أن ترجح كفة المنافع التي تسببها القيود التجارية لصناعة أجهزة التلفاز الأمريكية عن كفة الضرر الذي سيحل بصناعة المثاقيب؟ تجيبنا نظرية الميزة المقارنة لديفيد ريكاردو بالنفي. فكما نعرف، يمكن لكل من العمال الصينيين والأمريكيين في ظل التجارة الحرة أن يعملوا لعدد ساعات أقل مما كانوا سيعملونه في ظل تجارة مكبلة بالقيود، لأنهم باتوا ينتجون نفس الكمية في وقت أقل. ويجيبنا الإدراك السليم القائم على التجربة العملية بالنفي أيضًا، قارن مثلًا بين اقتصاد دولتي كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، أو النمسا والمجر. ولكي يكون بين يديك دليل على مدى أفضلية الاقتصاد الليبرالي المفتوح المتحرر عن الآخر المنغلق، لاحظ أنه في عام ١٩٩٠ بعد انهيار سور برلين أضحى المواطن النمساوي العادي أكثر ثراءً ما بين مرتين إلى ست مرات أكثر من المواطن المجري العادي (اعتمادًا على كيفية قياس الثراء). وتجد المواطن العادي في كوريا الجنوبية مُترفًا مُنعمًا في حين تجد نظيره في كوريا الشمالية يتضور من الجوع. فقد بلغت كوريا الشمالية من الانغلاق ما جعل من الصعب وضع صورة تقريبية لمدى ما تعانيه من فقر. ولا يعني أي من هذا أن التجارة الحرة مفيدة للكل. فمنافسة البضائع الأجنبية الرخيصة أو الأفضل جودة لا تقدر على طرد كل صناعاتنا المحلية خارج السوق، وإلا لن يمكننا تحمل تكلفة شراء المنتجات الأجنبية في المقام الأول. ولكنها ستخل بتوازن اقتصاد بلادنا. فإذا عدنا إلى مثال المثاقيب وأجهزة التلفاز، فمع أن الصينيين خير من الأمريكيين في صناعة هاتين السلعتين؛ نجد أننا نحن الأمريكيين لم نبرح ننتج المثاقيب من أجل تجارتنا الخارجية مع الصين، بل إننا أصبحنا ننتجها بضعف ما كنا ننتجه أكثر من أي وقت مضى. أما صناعتنا لأجهزة التلفاز، فلم يعد لها وجود. فما يُعد خيرًا لصناعة المثاقيب، يُعد شرًّا بالنسبة لصناعة أجهزة التلفاز، التي ستفقد عِمالتها وظائفها وسيتوجب عليهم محاولة اكتساب المهارات الجديدة وإعادة توظيفهم في قطاع صناعة المثاقيب وبالطبع الكلام أسهل من الفعل في مثل هذه الظروف. إذ صحيح أنه سيعود النفع على الولايات المتحدة بشكل مُجمل، ولكن سيفقد بعض الأمريكيين وظائفهم في سبيل تحقيق ذلك، وسيلعن الخاسرون التجارة الحرة وسيطالبون بفرض القيود على استيراد أجهزة التلفاز الصينية، الأمر الذي أدركنا للتو أنه يعد مساويًّا للمطالبة بفرض القيود على المثاقيب المصدرة. هل ألحقت الطفرات التكنولوجية الأذى بالبعض؟ نعم، من دون شك. هل أسبغت الفقر على بريطانيا بأكملها؟ سؤال ليس له محل من الإعراب. وبدون الحط من قدر المعاناة الهائلة التي تعرض لها من فقدوا أعمالهم خلال مسيرة التقدم التكنولوجي فمن الواضح أن هذا التقدم قد جعل حالنا أفضل كثيرًا. وفي مجتمع متمدن تقدمي، لا يكمن الحل في حظر استخدام التكنولوجيا الحديثة، أو في كبح جماح التجارة، ولا يكمن كذلك في تجاهل النكبة التي حلت على من شردتهم التكنولوجيا والتجارة من عملهم، ولا في أي شيء من هذا القبيل، وإنما يكمن في السماح للتقدم بالاستمرار وفي الوقت نفسه منح المتضررين بسببه الدعم وتعليمهم مهارات جديدة تؤهلهم لاكتساب وظائف جديدة. ربما يبدو في الأمر غلظة وقسوة. ففي نهاية الأمر، حتى لو تعلق الأمر شخص واحد يرغب في وظيفة ولا يجدها فسوف يعاني مأساة شخصية. ومع ذلك تجد أن جماعات المصالح التي تعارض التجارة الحرة من أجل تحقيق أغراضهم الخاصة تعظم كثيرًا من تأثيرات التجارة. ففي الفترة ما بين عامي ١٩٩٣ و٢٠٠٢، فقدت حوالي ٣١٠ ملايين وظيفة في الولايات المتحدة وظائفهم، في حين خرجت إلى النور خلال نفس الفترة أكثر من ٣٢٧ مليون وظيفة. وكان مقدار الزيادة في عدد العاملين عام ٢٠٠٢ حوالي ١٨ مليون مقارنة بعام ١٩٩٣. وفي اﻟ ٣١٠ مليون مرة التي فقد فيها شخص وظيفته، نجد أن هذا الشخص يستحق منا التعاطف والمساعدة بغض النظر عمّا إذا كان للمنافسة الأجنبية يد في تشريده من العمل أم لا. وسواء كانت التجارة هي المتهم أم لا، لا ينفك الاقتصاد السليم عن فقدان الوظائف طوال الوقت، وخلق غيرها باستمرار أيضًا. فقولك إن التجارة تجعل دولًا مثل الولايات المتحدة أكثر ثراءً شيء، وقولك إن العولمة مفيدة شيء آخر. لن تتسع هذه الصفحات للتطرق إلى كل ما قيل عن العولمة، ولكن هذا الفصل القصير قد يتسع لمعالجة اتهامين شائعين متعلقين بالعولمة: أولهما: أن العولمة أمر سيئ لكوكبنا، والثاني: أنها أمر سيئ لفقراء العالم. نحتاج أولًا أن نكون إلى حد ما أكثر وضوحًا فيما يتعلق بمعنى كلمة العولمة دون الخوض في تفاصيل فنية كثيرة. حتى إذا نحينا جانبًا الظواهر غير الاقتصادية مثل انتشار المواد التلفزيونية الأمريكية، والطهي الهندي، والفنون القتالية اليابانية؛ نجد الساحة متسعة أمام دمج الدول اقتصاديًّا، فضلًا عن دمجها تجاريًّا. يمكنني أن أسرد لك على الأقل قائمة بخمس اتجاهات مميزة في ذلك الصدد، ألا وهي: تجارة السلع والخدمات، وهجرة الناس، وتبادل المعرفة التقنية، و«الاستثمار الأجنبي المباشر» والمقصود به بناء أو شراء المصانع والشركات في الخارج، والاستثمار عبر الحدود في الأصول المالية كالأسهم والسندات. تخلط العديد من المناقشات الدائرة حول العولمة كل تلك الاتجاهات بعضها ببعض. وفي مخاطرة يمكن أن أتهم من خلالها بالإفراط في التبسيط، دعنا ننحي ثلاثة منها جانبًا، ألا وهي: الهجرة، وتبادل التقنيات، والاستثمارات عبر الحدود في الأصول المالية. وذلك ليس لأنها غير ذات أهمية، ولكن لأنها ليست النقاط التي يفكر فيها الناس عندما يتحدثون عن العولمة. فالهجرة مثلًا تثير الجدل لأسباب أخرى قد ترجع إلى مرض رهاب الغرباء أو محاباة النفس دون الغير. ومن ناحية أخرى، يعترض قليلون على انتشار المعرفة التقنية والعلمية السلمية. أما الاستثمارات عبر الحدود في الأصول المالية، فتعد مادة للمناقشات الفنية الطويلة بين علماء الاقتصاد؛ فمع أنها فرصة كبيرة لكل من الأغنياء والفقراء فإنها فرصة محفوفة بالمخاطر. ومن أجل المساحة ليس إلا، لن نخوض في مزيد عن هذه الاتجاهات الثلاثة. تخبرنا كل من نظرية الميزة المقارنة، والإدراك السليم، والتجربة أن التجارة مفيدة للنمو الاقتصادي؛ وأن الاستثمار الأجنبي المباشر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتجارة، وهو الآخر مفيد للنمو، وهما الأمران اللذان لا تتمتع بهما الدول الأشد فقرًا. قد يكون هذا تبسيطًا مبالغًا للأمور، إلا أنه عادل نوعًا ما. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، لا تزال تبحث بعض الأسئلة عن إجابة، مثل: ما تأثير التجارة والاستثمار الأجنبي على البيئة؟ وما تأثير الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة على المضطرين لقبول ما يسمى بالوظائف في المؤسسات المستغلة ذات ظروف عمل شديدة القسوة، وأجور ضعيفة؟ دعنا نُجب عن السؤال الخاص بالبيئة أولًا. لقد رأينا في الفصل الرابع كيف يزودنا المفهوم الاقتصادي للتأثيرات الخارجية بأداة فعالة للغاية لتقدير حجم مخاطر الأضرار البيئية، وكيف تمنحنا ضريبة التأثير الخارجي الحل. وبالفعل يعي العديد من علماء الاقتصاد — وربما معظمهم — مخاطر الإضرار بالبيئة، ويودون التحرك للحفاظ على البيئة. ومع ذلك فإن الصلة بين التجارة والإضرار البيئية لم تخضع للفحص الدقيق، ولكن هناك ثلاثة أسباب باعثة على القلق: أولها، فكرة «السباق نحو القاع»: أي هرولة الشركات إلى الخارج لإنتاج السلع في ظل قوانين بيئية أكثر تساهلًا وأقل تكلفة، بينما تشجعها على ذلك الحكومات العاجزة بتشريع هذه القوانين المتراخية. وثانيها، التحريك المادي للبضائع والسلع يستنفد على نحو محتوم الموارد ويسبب التلوث. أما ثالث باعث للقلق فهو أنه إذا كانت التجارة تشجع النمو الاقتصادي فلا مناص لها من إلحاق الأذى بكوكبنا. ومع أن بعض تلك المخاوف يستند إلى أسباب معقولة، فإن فكرة إضرار التجارة بالبيئة تستند إلى فكر واهٍ ودليل ضعيف. ربما تكون صادقة من الناحية النظرية. فالشركات القادرة على إنتاج السلع بتكلفة أقل ستنظر إلى الأمر من منظور الميزة المقارنة. بالإضافة إلى كونها قادرة على الانتقال من بلد إلى آخر بسهولة في عالم غلبت عليه التجارة الحرة. من هنا يغدو «السباق نحو القاع» أمرًا جائزًا. مرة أخرى، نجدنا بصدد أسباب تجعلنا نشك أن تلك المخاوف من نسج خيالنا فقط: إذ إن القوانين البيئية ليس لها تكلفة عظيمة بعكس إيجاد العمالة وتوظيفها. فلو كانت المعايير البيئية الأمريكية صارمة بحق، لماذا تنفق أكثر الشركات الأمريكية تلويثًا ٢٪ فقط من إيراداتها على معالجة التلوث؟ وفي حقيقة الأمر فإن الغالبية تنفق أقل من هذا بكثير. وعندما تخرج الشركات للعمل بالخارج فإنها تفعل ذلك سعيًا وراء العمالة الرخيصة وليس سعيًا وراء ملاذ آمن تنفث فيه ملوثاتها. كما أن الشركات لا تقوم بالتلويث على سبيل التسلية؛ إذ تكون أحدث تقنيات التصنيع في الغالب أوفر ثمنًا وأقل تلويثًا في الوقت ذاته. فمثلًا، ترى فعالية استخدام الطاقة توفر المال، وتحد من التلوث. وهذا هو المبعث وراء نظرة العديد من الشركات للأداء البيئي باعتباره جزءًا لا يتجزأ من مراقبة الجودة والتصنيع الجيد الفعال. وحتى إذا كان من الممكن توفير بعض التكاليف عن طريق خفض النفقات على البيئة، فالعديد من المؤسسات تبني المصانع في كل مكان بالعالم باستخدام أحدث وأنظف التقنيات التي ستأتي بها من العالم المتقدم، وذلك ببساطة لأن هذا النوع من التوحيد القياسي يوفر التكلفة. دعنا نرسم قياسًا تمثيليًّا كالآتي: إذا فرضنا أن رقائق الحاسب الآلي التي كانت تُصَّنع منذ عشرة أعوام لا تزال تنتج بكميات كبيرة، فسيغدو إنتاجها أقل تكلفة، وأقل تعقيدًا من الرقائق الحديثة، ومع ذلك لن تأبه الشركات المُصنِّعة بهذه الحقيقة. فسوف يبيت من الصعب الآن على المرء شراء حاسب آلي قديم حتى إذا كانت هذه هي إرادته المحضة. نفس المنطق نستدل منه على أن الشركات تأمل في تقديم معايير بيئية عالية لإرضاء موظفيها وعملائها. لذلك … فإن «السباق نحو القاع» جائز من الناحية النظرية؛ ولكن ثمة دوافع وجيهة للارتياب في حدوثه على أرض الواقع. فإذا نحينا النظرية جانبًا، فماذا عن الحقائق؟ أولًا، يقل بكثير احتمال توجه الاستثمار الأجنبي في الدول الغنية إلى القطاعات الصناعية الملوثة مقارنة بالاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة. ثانيًا، يُعد الاستثمار الأجنبي في الصناعات الملوثة القادم إلى الولايات المتحدة أسرع أنماط الاستثمار الأجنبي نموًّا. وفي المقابل، يُعَد الاستثمار الأجنبي في الصناعات النظيفة أسرع أنماط الاستثمار الأمريكي نموا خارج الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، فإن الدول الأخرى تحمل الصناعات القذرة إلى الولايات المتحدة في الوقت الذي تحمل فيه الولايات المتحدة الصناعات النظيفة إلى شتى أرجاء العالم. ربما تكون قد أغمضت عينك قليلًا عندما قرأت الفقرة السابقة. فبالنسبة لمن يعاني ضميرهم البيئي من الخمول، لا تخرج تلك الإحصاءات عن كونها ضربًا من ضروب الجنون. ولكنها لا تبدو بهذا الجنون عندما تفكر في أن الدول الفقيرة تنتج سلعًا مثل الملابس، ولعب الأطفال، والقهوة، في حين أن الصناعات الملوثة على نحو خطير مثل الإنتاج الكيميائي الضخم تتطلب مستويات عالية من المهارة، وكذلك بنية تحتية متينة — وطالما أن الكثير من رأس المال مرتبط بهذه المسألة فالأمر يتطلب أيضًا الاستقرار السياسي. فلماذا تجازف الشركات بنقل مصانعها إلى إثيوبيا لتوفير حفنة دولارات على حساب البيئة؟ ويأتينا من معايير التلوث في الصين، والبرازيل، والمكسيك مؤشر آخر على الأداء البيئي للاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة، إذ يصل ٦٠٪ من الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة إلى هذه الدول الثلاث. يوضح الشكل التالي كيف أنه عندما تطور الاقتصاد الصيني تقلص تلوث هواء المدن الصينية، سواء ليناسب السوق الصينية أو ليستفيد من العمالة الرخيصة والتصدير إلى باقي أنحاء الكرة الأرضية. والوضع في البرازيل والمكسيك يتشابه كثيرًا مع الوضع الصيني. لا يهدف هذا إلى إجلال الاستثمار الأجنبي دون سواه؛ إذ فرضت حكومة الصين قيودًا بيئية أكثر شدة بعد تعاظم ثروتها في نفس الوقت الذي وصل فيه إليها الاستثمار الأجنبي. وكما قلت فإنه من الصعب تسوية حكايات «السباق نحو القاع» من هذه الصورة. فحكايات الرعب هذه ملائمة تمامًا لأنصار مذهب حماية البيئة الباحثين عن طرق جديدة لمحاباة الصناعات المتميزة على حساب كل من العملاء والدول النامية على حد سواء. والزراعة الكثيفة هي قضية واضحة على نحو مدهش، إذ لن يتم حل كل المشكلات البيئية تلقائيًّا بمفعول التجارة الحرة، وأحد الأمثلة على ذلك الزراعة الأحادية: كزراعة الأرز فقط، أو البن فقط، أو القمح فقط. فمثل هذا النقص في التنوع الحيوي يجعل المحاصيل أكثر عرضة للتعرض لآفات وتقلبات الطقس. قد يبدو هذا الحل معارضة للتجارة الحرة، فاتساع نطاق التجارة يحث الدول على التخصص في محاصيل معينة تتمتع فيها هذه الدول بميزة مقارنة، بيد أن القيود التجارية هي طريقة كريهة للتعامل مع مشكلة الزراعة الكثيفة. فأولًا، يحظي كل من التنوع الحيوي المحلي، والتنوع الحيوي العالمي بالأهمية. أما التنوع الحيوي الوطني فهو ليس ذا صلة؛ إذ إن المشاكل البيئية لا ترى الحدود السياسية. فعند الحد الذي يصل فيه نقص التنوع الحيوي إلى مُسمى مشكلة، يكمن الحل في التنظيم البيئي المباشر: ألا وهو جراحة المنظار الاقتصادية التي تحدثنا عنها في الفصل الخامس. ويصبح أمل أن تحل القيود التجارية المشكلة؛ أمرًا مثيرًا للسخرية. أما الهاجس الأخير، فهو أن التجارة ليست بغيضة في حد ذاتها، ولكنها تقود إلى نمو اقتصادي يبعث على الإضرار بالبيئة: فهي تجعل الناس أكثر ثراءً، وهو ما يدمر البيئة. وهذا الهاجس يسترعي بعض الاهتمام. إن أكثر المشكلات البيئية المُهلكة بالتأكيد في يومنا هذا — وربما أكثرها تهديدًا للمستقبل في ظل مشكلة تغير مناخ الأرض — هي المشكلات التي يبتلي بها الناس الأشد فقرًا في العالم؛ ومنها مثلًا مشكلة التلوث المحلي المنبعث من أفران حرق الخشب، التي تسبب العمى وأمراضًا في الجهاز التنفسي تسبب الوفاة؛ ومنها أيضًا مياه الشرب غير الآمنة التي تقتل الملايين. وعلاج هذه المشكلات البيئية هو النمو الاقتصادي، ويمكن للتجارة المساعدة في هذا الشأن. وتزداد الملوثات الأخرى، مثل الجسيمات التي تنتقل عبر الهواء والمنبعثة من عوادم السيارات، مع زيادة ثراء الناس، لبعض الوقت. وفي الظروف العادية، يصبح التلوث أقل خطورة بعدما يبلغ دخل الفرد حوالي ٥٠٠٠ دولار (كما في المكسيك)، لأن المواطنين من هذه النقطة سيغدون أثرياء بما يكفي لتحمل نفقات المعايير البيئية المتطورة، ولسوف يطالبون بتطبيقها. تساعد التجارة على نهوض كلا الصعيدين إما عن طريق غير مباشر بزيادة النمو، أو عن طريق مباشر، لأن التجارة الحرة في الدول الأفقر ارتبط وجودها بانتهاء الدعم الممنوح للصناعات الكبيرة التي تتسبب في إلحاق عظيم التلوث بالبيئة مثل صناعة البتروكيماويات، وصناعة الصلب، بالإضافة إلى استيراد التقنيات الجديدة الأكثر نظافة. إن استهلاك الطاقة، وما تخلفه من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وخطر تغير مناخ الأرض — ما برح يتزايد بعد وصول دخل الفرد إلى ٥٠٠٠ دولار. وهذا راجح، إلا أننا لسنا متيقنين من أن دول العالم الغنية قد بلغت النقطة التي يوشك فيها متوسط استهلاك الفرد من الطاقة على التخلي عن الزيادة. ففي النهاية، تزداد سياراتنا وكل أجهزتنا الكهربائية المنزلية الأخرى فعالية عامًا بعد عام، وعندما يمتلك كل منا سيارتين، ومنزلًا كبيرًا مكيفًا يغدو من الصعب تخيل من أين سنحصل على مزيد من الطاقة. إذا كنا صادقين، فإن التعلل بأن التجارة تبعث على النمو الاقتصادي، الذي يبعث بدوره على تغير مناخ الأرض، يؤدي بنا إلى نتيجة قاسية، ألا وهي ضرورة قطع كل روابطنا التجارية لضمان بقاء الصينيين، والهنود، والأفارقة فقراء. والسؤال هو عمّا إذا كان من الممكن لأي كارثة بيئية، حتى مشكلة تغير المناخ الخطيرة؛ أن توقع نفس التكلفة البشرية التي يوقعها الإبقاء على ثلاثة مليارات من البشر أو أربعة في فقرٍ يضنيهم. وسؤال مثل هذا السؤال شأنه شأن الإجابة عليه. هل يعني هذا أن الأقدار شاءت لنا الاختيار بين الجوع الجماعي، وبين معركتنا البيئية الفاصلة؟ لا على الإطلاق. ثمة الكثير مما يمكن أن نساعد به البيئة دون استخدام المنهج المضاد الذي يحد من التجارة. فضرائب التأثيرات الخارجية حدت بالفعل من انبعاثات غاز الكبريت في الولايات المتحدة (وستفعل الأمر ذاته في الصين أيضًا). ويمكن توظيفها كذلك للحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ولمكافحة تغير المناخ؛ فإذا طلبنا من قادتنا إحالة هذا الأمر إلى لجنة تشريعية، فقد يمكننا إنجازه. كما أنه قد لا يكون باهظ التكلفة كما نتخيل. يمكننا البدء بالتوقف تمامًا عن دعم الوقود الحفري. فألمانيا، مثلًا، وهي الدولة المولعة بإنجازاتها البيئية، والمؤيدة بحزم لاتفاق كيوتو بشأن تغير المناخ، تدفع لكل عامل في مناجم الفحم ٨٦,٠٠٠ دولار لتحمي بذلك صناعتها للفحم من المنافسة الدولية. ما الذي سنجنيه من هذه الهجمة البيئية على التجارة الحرة؟ ها قد رأينا أن السباق نحو القاع لا وجود له، وأن الصناعات الملوِّثة ما تزال موجودة على نحو أساسي في الدول الغنية قبل الدول الفقيرة، وأن المعايير البيئية تشهد نهوضًا في الصين، والبرازيل، والمكسيك التي هي أكبر مقاصد الاستثمار الأجنبي في الدول الفقيرة، وأن الإجراءات الحمائية كالتي تُفرض على الزراعة، والصلب، والفحم التي تستند أحيانًا إلى مبررات بيئية هي في الواقع تلحق بالبيئة جسيم الضرر، وأن الضرائب المفروضة على وقود المركبات متوافقة مع التجارة الحرة وأنها أفضل كثيرًا في خدمة البيئة من القيود التجارية، وأن أخطر المشاكل البيئية على الأقل حتى يومنا هذا سببها الفقر وليس الثروة. أما الحركة المُناصِرة للبيئة، فيجب عليها المعارضة بشدة والمطالبة بتجارة دولية حرة على الفور. وربما نجدها تفعل هذا يومًا ما. يا له من حذاء رياضي جميل! لكن، ألا يشعرك ولو بقليل من الذنب؟ تحديًا لاحتفال مصانع نايكي بالحرية، وعرضها الذي يقول: إذا رغبت في صنع حذائك على النحو الصحيح، فاصنعه بنفسك؛ لم يسعني إلا التفكير في العاملين بالمصانع المكتظة في آسيا وأمريكا الجنوبية الذين يصنعون بالفعل أحذية نايكي. وتحديًا لمصانع نايكي، طلبت زوجًا من الأحذية تحت الطلب عليه جملة «مؤسسة مستغلة». مع أن رجال الاقتصاد نظروا إلى المسألة على أنها أمر طريف، لكن نايكي لم تنظر إليها بهذا الشكل وبالتالي لم يحصل جونا بيريتي على حذائه الذي طلبه. لن يأتي الحل لمشكلة الفقر هذه عن طريق مقاطعة الأحذية والملابس التي تصنَّع في الدول النامية. بل على العكس، فعندما فتحت دول مثل كوريا الجنوبية ذراعيها للشركات متعددة الجنسيات، شقت طريقها نحو الثراء ببطء ولكن بثقة. وعندما شرعت الشركات متعددة الجنسيات في إنشاء مزيد من مصانعها، باتت تنافس بعضها بعضًا للحصول على العمال الأكثر مهارة. وارتفعت الأجور، ليس لأن الشركات أصبحت أكثر سخاءً، وإنما لأنه لم يكن لديها خيار آخر لجذب العمال المهرة. أما الشركات المحلية فهي تتعلم أحدث تقنيات الإنتاج، وتصبح من الشركات الكبرى الموفرة لفرص العمل أيضًا. وأصبح العمل في مصنع واكتساب المهارات اللازمة يلقى جاذبية أكثر وأكثر لدى الناس، وتحسَّن التعليم. وتتسبب هجرة سكان القرى إلى المدينة في رفع أجور الذين يظلوا بالريف إلى مستوى أفضل نوعًا ما. ولما كان من الأسهل فرض الضرائب على العمالة الرسمية، فقد ارتفع دخل الحكومة وتحسن مستوى البنية التحتية، والرعاية الطبية، والمدارس. وتراجع الفقر، وارتفعت الأجور على نحو لا يمكن إيقافه. فبعد تعديله وفقًا للتضخم، ارتفع دخل العامل الكوري العادي ليصير أربعة أضعاف ما كان يحصل عليه والده منذ خمسة وعشرين عامًا. وتعد كوريا الآن رائدة في التكنولوجيا العالمية، وغنية بما يكفي لتدعم زراعتها شأنها شأن باقي دول العالم الغنية. وقد رحلت منها المؤسسات المستغلة إلى مكان آخر. من الصعب ألا يتأثر المرء بالأحوال في المؤسسات المستغلة. والسؤال هو كيف نتخلص منها؟ يعتقد معظم خبراء الاقتصاد أن المؤسسات المستغلة نافعة من ناحيتين: أولاهما، أنها بمنزلة وضعٍ أفضل مقارنةً ببدائلها المباشرة. والأخرى، أنها درجة على السلم نحو شيء أفضل. عُرف عن هاري ترومان أنه كان يبحث عن رجل اقتصاد يتحدث من وجهة نظر واحدة بحيث يعجز عن قول «ومن ناحية أخرى» بعد أن يعطيه المشورة. ذكر رونالد ريجان ذات مرة، وهو الذي كان لديه أفضل من يكتبون له الخطب؛ ضرورة وجود نسخة من لعبة أسئلة خاصة برجال الاقتصاد «تحتوي على مائة سؤال وثلاثة آلاف إجابة». إن خبراء الاقتصاد لا يتفقون دائمًا، ولكن يندر أن تجد خبير اقتصادي غير متحمس لمزايا التجارة الحرة. ويفيد الرأي المتشابه المُجمع عليه بين علماء الاقتصاد أن التجارة الدولية الحرة تمثل تقدمًا عظيمًا، وأنه حتى إذا أبت الدول الأخرى تخفيف وطأة القيود التجارية، فسيكون بنا من الحماقة ما يكفي إذا لم نخفف وطأة القيود التي نضعها نحن. يرى علماء الاقتصاد أن للتجارة الحرة فوائد جمة. فمثلًا، عندما رضخت اليابان لرغبة الولايات المتحدة في فتح موانئها للتجارة في خمسينيات القرن التاسع عشر في أعقاب عقود من العزلة، بدأت اليابان في تصدير الحرير والشاي إلى سوق عالمية متلهفة مقابل القطن والملابس الصوفية التي كانت زهيدة الثمن دوليًّا ولكن باهظة الثمن في اليابان. ومن ثم، زاد دخلها القومي بمقدار الثلثين. ومؤخرًا، اعتُبرت جولة المفاوضات التجارية في أورجواي، التي قللت القيود التجارية في العالم منذ العام ١٩٩٤؛ السبب في زيادة الدخل العالمي بحوالي ١٠٠ مليار دولار. فإذا تقلصت التعريفات الجمركية على السلع الزراعية والصناعية والخدمات بمقدار الثلث، فسوف يرتفع المكسب إلى ٦٠٠ مليار دولار، أي حوالي ٢٪ من الدخل العالمي. أما إزالة جميع القيود التجارية، فسوف تحقق أكثر من ٦٪ من الدخل العالمي. وتقلل هذه الأرقام بالطبع من تقدير المنافع، إذ إنها لا تعبر إلا عن المكاسب المباشرة الناجمة عن نقل أرخص البضائع من الأسواق العالمية إلى الأسواق المحمية: وبناء عليه يكون هذا تطبيقًا مباشرًا لنظرية ديفيد ريكاردو للميزة المقارنة. وتتضارب ميزات أخرى مع الاعتقاد الشائع بأن التجارة صديقة للشركات متعددة الجنسيات، فالتجارة الحرة تقضي أيضًا على قوة ندرة الشركات الكبيرة بتعريضها للمنافسة الدولية. فهي تشجع استخدام طرق العمل الجديدة، والتقنيات الأكثر تقدمًا. ويعتقد بعض الناس أنها تروج للسلام بمنحها الدول ذات العلاقات التجارية أسبابًا قوية كي لا يحارب بعضها بعضًا. فإذا كانت التجارة الحرة تتمتع بالفعل بكل هذا الكم من الفوائد، فلماذا لا يزال بالعالم العديد من القيود التجارية؟ لماذا لا يحاول السياسيون كسب أصوات الناخبين بسهولة عن طريق تقليل القيود التجارية؟ لماذا كان يتحتم إجبار اليابانيين على تنفيذ السياسة التي ضاعفت دخل الدولة بأكملها؟ للأسف لا تخل معظم الأمم، الغنية منها والفقيرة، من جماعات المصالح، التي تتمتع بسلطة تختلف باختلاف الدول، يكون لديها أسبابها لمعاداة التجارة الحرة. تميل التعريفات الجمركية إلى فرض تكلفة ضئيلة مستترة على معظم أنحاء البلاد، في صورة أسعار مرتفعة، وتميل كذلك إلى فرض تكلفة إضافية على الأجانب، الذين ليس لديهم أصوات انتخابية. وبالطبع لتلك التعريفات فوائد جوهرية مقتصرة على مجموعة محدودة من الناس الذين يكونون في الغالب تابعين لقطاعات ذات نقابات منظمة وشركات كبيرة. فمتى تزود المصوتون بالمعلومات الكافية والفهم الشامل للنظرية الاقتصادية، فسوف يخسر هؤلاء الحمائيون في الانتخابات الديمقراطية. ولكن إذا لم يكن لدى المواطنين الفهم الكافي لما تفرضه عليهم تلك التعريفات من تكلفة، فبالنظر إلى التأثير الضئيل الذي تحدثه أي تعريفة بعينها على أي ناخب بعينه، فإن التعريفة ربما لن تخطر ببال الناخبين — خاصة إذا كانت الحملة من أجل القيود التجارية تستتر في صورة حملة ضد المؤسسات المستغلة. قد تتعرض جهود الإصلاح للإحباط عن طريق كسل وعصبية المصوتين قليلي المعلومات، في حين أن جماعات المصالح تعي جيدًا رغبتها في التربح من الحماية ويجدون الأمر يستحق أن يخصصوا له التمويل السخي وجهود جماعات الضغط للدفاع عن مصلحتهم المحدودة. ويستوجب ألا تتمتع جماعات المصالح الخاصة في ظل نظام ديمقراطي سليم إلا بقدر محدود من القوة يكون أقل من ذاك الذي يتمتعون به في الأنظمة الديمقراطية الهشة، أو في الأنظمة غير الديمقراطية على الإطلاق، مثل الكاميرون. فإذا كانت القيود التجارية يعزى جزء من سببها إلى جماعات المصالح، فإنا نتوقع للدول التي ترسخت فيها الديمقراطية أن يكون لديها قيود تجارية قليلة. وتؤيد الإحصاءات هذا الاستنتاج، ففي عام ١٩٩٩، بلغ متوسط التعريفات الجمركية بالولايات المتحدة ٢,٨٪، وبلغ في الاتحاد الأوروبي ٢,٧٪، وفي النمر المتنامي كوريا ٥,٩٪، وفي الأرجنتين، التي يطلق عليها النموذج المثالي للإصلاح الاقتصادي، ١٠,٧٪. وفي الأنظمة الاقتصادية العملاقة في الصين والهند ١٥,٧٪، و٢٩,٥٪ بالترتيب. وقد علمنا من قبل أن دولة الكاميرون الصغيرة البائسة لم تتخلص من الفقر والفساد بفرضها تعريفة جمركية متوسطها ٦١,٤٪. ويبدو أنه حتى إذا كنا قادرين على ممارسة الضغط على رجال السياسة لفعل الصواب للجميع بتقليل التعريفات الجمركية، فإن مسئولية مشابهة تقع على عاتق حكومات تلك الدول الفقيرة. فلماذا يبقون على التعريفات التي تلحق الضرر بمواطنيها؟ ربما لأن العزلة الدولية نافعة للاستقرار السياسي. فالقائد السياسي فيديل كاسترو، صاحب أطول فترة رئاسة في العالم، بالتأكيد أصبح رئيسًا مدى الحياة نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على بلاده، والتي كان لها تأثير مُغاير للنتيجة التي كانت مرجوة منها. كما أن حكم صدام حسين بدا أقوى من أي وقت مضى بعد انقضاء عشر سنوات من العقوبات الاقتصادية، حتى إن خلعه تم بقوة خارجية، وليس بتغيير داخلي. أما دول مثل ميانمار وكوريا الشمالية، فهي دول منبوذة دوليًّا بسبب حكوماتها الثابتة ثباتًا محبطًا لا يتغير. دَعَمَ آليات السيطرة السياسية نظام صارم من القوانين، التي حاولت أن تخفض إلى الحد الأدنى أي تغيير اجتماعي، أو سياسي، أو اقتصادي بين السكان بصورة عامة … ومن المحتمل أن التأثيرات الأجنبية الضارة قد انخفضت إلى حدها الأدنى بعد عام ١٦٤٠ عندما قطعت الدولة كل ما يربطها بالعالم الخارجي. وبينما نجحت تلك المقاييس الدقيقة في حفظ حكم أسرة توكوجاوا طوال قرنين ونصف القرن تقريبًا إلا أنها لم تأمل مطلقًا في منع كل التغييرات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية من الحدوث … وأدى استئناف الاتصال الأجنبي مع الولايات المتحدة والقوى الامبريالية الأوروبية إلى جلب أزمة إلى البلاد على نحو سريع … ومنذ عام ١٨٥٣ في أثناء الأزمة حول طلب الولايات المتحدة بإنشاء العلاقات الرسمية … سرعان ما أصيبت سلطة توكوجاوا بكبوة هائلة. حاولت جماعات المصالح تعريف السياسة التجارية للولايات المتحدة، وإن تفاوت نجاحهم في ذلك. فقيود التعريفات الجمركية يستوجب أن يوافق عليها الكونجرس الذي يدافع ممثلوه عن مصالح جمهورهم من الناخبين، ويطالبون بحمايتهم سواء كانوا يعملون في الزراعة في ولاية «أيوا»، أو في صناعة الصلب في بنسلفانيا، أو صناعة السكر في فلوريدا، أو صناعة السيارات في ميتشيجن. وبالمتاجرة بالأصوات فيما بينهم، تمكنوا من الحصول على موافقة الكونجرس على التعريفة تلو الأخرى، فإذا عاد رئيس الدولة من بعض المفاوضات التجارية وفي يده اتفاقية تحد من القيود التجارية تجدهم يرفضون التصديق عليها. يميل رؤساء الدول بكل الحماس إلى تأييد التجارة الحرة لأنهم يحتاجون الأصوات الانتخابية للأمة بأسرها، لهذا يقل نزوعهم إلى محاباة ضرب محدد من ضروب الحماية. فعندما أقنع الرئيس روزفلت الكونجرس بعد عام ١٩٣٤ بمنحه والرؤساء المستقبليين للولايات المتحدة حق الموافقة مسبقًا على الاتفاقيات التجارية، انكمشت معدلات التعريفات الجمركية في الولايات المتحدة من حوالي ٤٥٪ حتى ١٠٪ في عقدين. وبعد أن ألقيت على عاتق الرئيس مسئولية السياسة التجارية، استمر المعدل في الانخفاض. لا مناص من أن قادة الدول ليس لديهم مناعة ضد سياسات جماعات المصالح: إذ إن تفضيل مصلحة جمهور الناخبين في فلوريدا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة يضمن الحماية لمُصنِّعي السكر على حساب باقي الأمة. إذ ما من نظام يسمى بالنظام السياسي المثالي، ولكن الأنظمة الديمقراطية تميل إلى محاباة التجارة أكثر من الأنظمة الأخرى، لأن تقليل القيود التجارية يستفيد منه المواطن العادي. وللأسف يربح بعض الناس أكثر من البعض الآخر. فأنا أنعم بحال جيد، وكذلك البلجيكيون، أما التيموريون فلا، فحالهم كان سيصبح أسوأ لولا التجارة، ولكن لا يكفي هذا ليجعلنا نتجاهلهم وننسى أمرهم. ولا يجدر بنا السهو عن أن أحد الأسباب وراء سهولة إنتاج المزارعين الفقراء للبن هو أن البن لا يُزرع في فرنسا أو فلوريدا، وعليه لا يهتم المزارعون الأغنياء بالاعتراض على فرض تعريفات جمركية عالية. أما البن الخام، فهو لا يخضع نسبيًّا للقيود التجارية، لذا فإن أحد تأثيرات القيود التجارية المفروضة على اللحم والأرز والحبوب هي أن المزارعين في الدول الفقيرة يجبرون على زراعة محاصيل مثل البن وهو الأمر الذي لا يمكن أن يساعدهم جميعًا. ولمّا كان البن مجال عمل يسهل دخوله، فإنني أود أن أتنبأ بشيء ما، ألا وهو أن مزارعي البن لن يصبحوا أثرياء قط إلى أن يصبح معظم من حولهم أغنياء. فإذا أصبحوا أغنياء في حين ينغمس في الفقر باقي المزارعين والعاملين في المؤسسات المستغلة، فسيحولون نشاطهم إلى زراعة البن هم الآخرون. وستشهد أسعار البن العالية انخفاضًا إلى أن يحصل العمال بالمؤسسات المستغلة ذوو الياقات الزرقاء على أجور جيدة من عمل تصنيعي يتطلب مهارة، ومن ثم لن ينظروا حينئذ لمزارع البن الثري على أن مهنته مهنة جذابة. وعلينا أن نستوعب أن المبادرات التي تركز بدقة على «بن التجارة العادلة»، أو «الملابس غير المصنعة في المؤسسات المستغلة» لن تسهم قط بأي تحسن جوهري في حياة ملايين الناس. فبعضها يتسبب بالفعل في إلحاق الأذى بهم، مثل حملة المطالبة بمنع مدينة نيويورك من شراء أطقم الثياب الموحدة من الدول الفقيرة. أما غيرها مثل الأنواع العديدة من البن التي تحمل علامة التجارة العادلة، فمن الأرجح أن تحسن دخل بعض منتجي البن دون التسبب في كثير من الأذى. ولكن هذه المبادرات لا يمكنها إصلاح المشكلة الأساسية ألا وهي إنتاج البن بكميات مفرطة. فمع أدنى تلميح بأن زراعة البن ستصبح مهنة جذابة، سينهال عليها البائسون ممن ليس لديهم أي بدائل أخرى. وفي الحقيقة، فإن التنمية واسعة النطاق في الدول الفقيرة سترفع من مستويات معيشة الأفراد الأشد فقرًا، وترفع كذلك أسعار البن، وتحسن الأجور، وتحسن ظروف العمل في مصانع الأحذية. هل مثل هذا النوع من التنمية واسعة النطاق وارد الحدوث؟ من دون شك، فمليارات الناس في العالم النامي باتوا الآن أكثر ثراءً مما كان عليه آباؤهم من قبل. وما برح متوسط عمر الإنسان ومستوى التعليم يزداد، حتى في الدول التي لم تشق طريقها نحو الثراء بعد. يعزى جزء من السبب إلى التجارة الحرة، أما الأسباب الكاملة فيطول شرحها. أما بالنسبة لدفع اقتصاد نامي نحو الارتفاع بقوة، فلا مناص من وضع العديد من الإصلاحات المختلفة في مواضعها الصحيحة. ثمة دولة واحدة في العالم نجحت في تحقيق كل هذا على نحو سريع لشعبها الكبير، وانطلقت لتحقيق ما حققته من أسوأ نقطة بداية عرفها التاريخ. وهي الدولة التي سنختم بها رحلتنا الاقتصادية.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/10/
كيف أصبحت الصين غنية
ها أنا أصيح: «يا إلهي.» تعجبت زوجتي فران: «يا للعجب!» قلت: «متى كانت آخر مرة زرت فيها شنغهاي؟» قالت: «منذ عشر سنوات.» فكرت للحظة: «ترى كم كان عدد أمثال تلك البنايات منذ عشر سنوات؟» قالت: «أترى ناطحة السحاب هذه؟» قلت: «أتقصدين ذلك المبنى الإداري المكعب ذا الأربعين طابقًا؟» قالت: «لا، المبنى الأسفل منه.» وأشارت إلى بناية ذات اثني عشر طابقًا مبنية بالطوب الأحمر، وقد جعلتها البنايات الحديثة الأخرى تبدو كالقزم بجوارها. قلت: «نعم، رأيتها.» قالت: «هذه كانت أعلى بناية منذ عشر سنوات.» صحت: «يا للعجب.» يا له من طموح مثير للبهجة. ففي غضون عشر سنوات فقط نجح أهل شنغهاي في صنع محاكاة واضحة لحي مانهاتن. فماذا كان سيفعل أهل نيويورك لو كانوا مكانهم؟ لا أدري. لقد جعلنا الصينيون نبدو نحن سكان لندن كقرويين ساذجين. ومع ذلك فالأمر مختلف تمام الاختلاف. فالصين ظلت أفقر من الكاميرون أغلب فترات القرن العشرين. وفي عام ١٩٤٩، عندما برزت إلى الوجود جمهورية الصين الشعبية، تمزقت أكبر دولة في العالم بفعل الحرب الأهلية، وتولى زمام حكمها نظام دكتاتوري شيوعي. وفي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، لقي الملايين من أفراد شعبها حتفهم في مجاعة أحدثتها السياسات الفاشلة التي كانت تنتهجها الحكومة. وفي الستينيات، قضت الثورة الثقافية على نظام التعليم الجامعي حينما أجبرت المواطنين المتعلمين على العمل في الأرياف. وبعد هذا كله، كيف أصبحت الصين الدولة صاحبة أعظم نجاح اقتصادي في التاريخ؟ كان القطار نفسه أول مفتاح: فقد كان غاية في الراحة، وأسرع، وأكثر انضباطًا من القطارات التي تركتها ورائي في إنجلترا. وبدا جليًّا أن طرق الصين وشبكة قطاراتها في حالة رائعة. أما ثاني المفاتيح فهو أنه من الواضح أن الصينيين لديهم نظام تعليمي ممتاز؛ إذ تلقيت هزيمة ساحقة في لعبة الشطرنج على يد شاب لم يتعد حدود الأدب بعد فوزه علىَ وهو حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاقتصاد ولم يغادر الصين قط، بيد أنه كان يتحدث الإنجليزية على نحو معقول، وكان يُحسن اختيار الكلمات. وثالث المفاتيح هو أنه على الرغم من ازدحام القطار، لم يكن بينهم إلا عدد قليل من الأطفال أو عائلات ذات أعداد كبيرة. والواقع أن سياسة «الطفل الواحد» التي تنتهجها الصين خلقت مجتمعًا يمكن أن تجد فيه المرأة وقتًا للعمل، وتجد معظم الشعب من متوسطي العمر، فلا هم بشيوخ ولا هم بأطفال، ممن يدخرون للمستقبل. وقد قدمت هذه المدخرات الهائلة ما يلزم من مال للاستثمار في الطرق والقطارات إلى غير ذلك من المرافق. تمتلك الصين، على أقل تقدير، الموارد البشرية، والبنية التحتية، ورءوس الأموال التي تتطلبها الأنماط التقليدية للنمو الاقتصادي. ومع ذلك، فلم يبدو دائمًا أن هذه الموارد قد استخدمت على نحو جيد؛ ونحن نعلم بالفعل أن هذه الموارد سوف تهدر ما لم توجد الدوافع المناسبة لاستغلالها. وإذا كانت السياسة الصناعية بمنزلة مسرحية هزلية، فقد كانت السياسة الزراعية بمنزلة مأساة تراجيدية. فقد انتزعت «القفزة العظيمة للأمام» العديد من الفلاحين من عملهم في الحقول للعمل في هذه الأفران، أو في أعمال الخدمة العامة مثل السدود والطرق. كما طلب ماو إلى الشعب قتل الطيور التي تقتات على الحبوب، فانفجر طوفان من الآفات الحشرية نتيجة لهذا التصرف. حتى إن ماو نفسه أعاد تصميم التقنيات الزراعية الصينية، فجعل نثر البذور يتم بطريقة قريبة جدًّا من بعضها البعض، وجعل بذرها على عمق أكبر لزيادة كثافة المحاصيل. ولكن ما حدث هو أن الأرز الذي زرعت حباته قريبة جدًّا من بعضها لم يتمكن من النمو، وفي الوقت نفسه، ومن أجل الرغبة في إسعاد الزعيم ماو، كان المسئولون في الحزب الشيوعي يقدمون عروضًا زائفة — أشبه بالعروض المسرحية — عن نجاح الزراعة والصناعة. وعندما سافر ماو بالقطار ليمتع عينيه بثمرات نجاح سياسته، بني المسئولون المحليون أفران الصلب بعضها إلى جوار بعض بطول شريط القطار، وجلبوا شتلات الأرز من أماكن تبعد أميالًا لإعادة زرعه، بنفس الكثافة المحددة رسميًّا في التقنيات الزراعية الخاصة، وفي حقول متجاورة. ولم تكن لتفلح تلك التمثيلية دون استخدام المراوح الكهربائية لتوزيع الهواء، وحماية شتلات الأرز من التعفن. وبالطبع تراجع إنتاج المحاصيل، ولكن حتى ذلك كان من الممكن عدم النظر إليه ككارثة إذا لم يكن هناك هذا الإصرار الحكومي على أن هذه السياسة يمكن أن تأتي أُكلها. فعندما أثار وزير الدفاع في اجتماع وزاري قضية تعرض الشعب الصيني للمجاعة، عوقب وطلب منه أن يكتب في نفسه «نقدًا ذاتيًّا». أما المسئولون الأقل نفوذًا الذين أنكروا وجود فائض إنتاج في الدولة، فقد عُذبوا. فبينما كانت المحاصيل تتلف، ضاعفت الصين، كدليل على نجاحها، صادراتها من الغلال في الفترة من عام ١٩٥٨ إلى عام ١٩٦١. وفي مقاطعة هينان — التي نمر عليها الآن في راحة بعد خمسة وأربعين عامًا فقط من تلك الأحداث — كانت مخازن الغلال تحوي طعامًا كافيًا للشعب، إلا أنها ظلت مغلقة لأن الوضع الحكومي الرسمي يفيد بوجود فائض في الغلال. وفي الوقت نفسه فقد لقي الناس حتفهم جوعًا وهم محاصرون بالثلوج خارج هذه المخازن. وبينما تركت بعض الجثث دون دفنها، فقد أكل بعض اليائسين من الأحياء جثث الموتى من عائلاتهم؛ وكلا الأمرين غير مألوف. تراوحت تقديرات أعداد الموتى بسبب المجاعة فيما بين عشرة ملايين إلى ستين مليون ضحية، أي ما يقارب عدد سكان إنجلترا، أو عدد سكان ولاية كاليفورنيا وتكساس مجتمعين. والمفارقة هي أن مسئولي الحكومة الصينية بعد اعترافهم فيما بعد بموت ثلاثين مليون شخص، ألقوا باللوم على سوء الأحوال الجوية. وقبل أن يعتلي دينج كرسي السلطة، كانت الزراعة الصينية تُنظم على المستوى المحلي عبر مزارع جماعية بحيث تتكون كل مزرعة من عشرين أو ثلاثين عائلة من المزارعين. وكان الأجر الذي يحصل عليه الناس يقاس ﺑ «نقاط العمل» التي كانت تمنح بِناءً على إنتاج المزرعة ككل. وهكذا لم تكن هناك فرصة كبيرة لتحول الفرد نحو الأفضل سواء عن طريق بذل الجهد الإضافي، أو عن طريق الإبداع. ونتيجة لذلك لم يكن هناك لا جهد إضافي ولا إبداع. وقامت الحكومة أيضًا بشراء وإعادة توزيع الغذاء من المناطق التي يفيض إنتاجها منه، ولكنها كانت تفعل ذلك بسعر متدنٍ للغاية متسببة بذلك في الأمر الذي حط من همة المزارعين في العديد من المناطق الخصبة، ومنعهم من تحقيق أقصى استفادة من أراضيهم الزراعية. عمل الكثيرون من العمال القرويين لفترات مؤقتة، وكانت المفارقة أن النظام الذي أضعف الزراعة في الصين هو نفسه النظام الذي وضع من أجل زيادة الإنتاج الزراعي بها وجعلها دولة تتمتع بالاكتفاء الذاتي من الغذاء. وكان نصيب المواطن الصيني من الحبوب ضئيلًا عام ١٩٧٨ نفس ضآلته في منتصف الخمسينيات، أي قبل «القفزة العظيمة للأمام». ولم يكن لدى دينج كثير من الوقت لمثل هذه الحماقة فبدأ على الفور في تنفيذ برنامج إصلاحي أعلن فيه أن «الاشتراكية لا تعني الفقر» ولأجل تحسين الزراعة، كان عليه أن يضع يده على الدوافع الصحيحة؛ إذ بدأ برفع السعر الذي كانت تدفعه الحكومة للمزارعين مقابل محاصيلهم بمقدار الربع تقريبًا. وارتفع السعر المدفوع للمحاصيل الفائضة بنسبة تزيد عن ٤٠٪، وقد ساعدت بالفعل على تحفيز المزارعين بالأراضي الخصبة لإنتاج مزيد من المحاصيل. وفي الوقت ذاته، قامت بعض المزارع الجماعية بتأجير الأراضي الزراعية من الباطن إلى أسر صغيرة. وبدلًا من وضع القيود كالمعتاد، سمحت الحكومة بالابتكار لترى ما إذا كان سيثبت نجاحه أم لا، تمامًا مثلما يسمح اقتصاد السوق بتجارب ضيقة النطاق. وهكذا فقد أصبح لدى الأسر التي تؤجر الأرض من المزارع الجماعية كل الدوافع التي تحثها على العمل الجاد، وابتكار طرق أكثر ذكاءً لإنجاز العمل؛ لأنهم باتوا يحصلون على أجرهم مباشرة عبر نجاحهم. وسرعان ما زاد إنتاج المحاصيل، وانتشرت التجربة: ففي عام ١٩٧٩ كانت نسبة المزارع الجماعية التي تستخدم «نظام المسئولية الأسرية» ١٪ فقط، ولكن بحلول عام ١٩٨٣ تحولت نسبة ٩٨٪ منها إلى هذا النظام. وارتبطت تلك الإصلاحات بعدد من مظاهر أخرى للتحرر: سُمح لسعر التجزئة للغلال بالزيادة، وبالتالي زاد الدافع لإنتاج ما كانت هناك حاجة إليه مسبقًا. وخُففت القيود على التجارة الداخلية بين الأقاليم وبعضها، وبات لكل إقليم إمكانية التمتع بميزته النسبية. وبعد ذلك رفع نظام حصص الإنتاج بالكامل. وكانت النتائج مثيرة: فقد زاد الإنتاج الزراعي بنسبة ١٠٪ سنويًّا خلال النصف الأول من الثمانينيات من القرن العشرين، والأكثر إثارة أن أكثر من نصف هذه الزيادة لم يكن سببها العمل الجاد أو استخدام مزيد من الميكنة الزراعية وإنما كان سببها استخدام طرق فعالة في الزراعة والحصاد. وفي الحقيقة فقد عزوت زيادة الإنتاج لحد كبير إلى نظام المزارع الجماعية. وفي الخمسة أعوام التالية لهذه الإصلاحات، تضاعف متوسط الدخل الحقيقي للمزارعين. وهكذا فقد كان دينج وليس ماو هو الذي حقق القفزة العظيمة للأمام بفضل استخدام قوة الأسواق والأسعار. لم يكن من الممكن أن تقتصر رحلة الإصلاحات على الأرز وحده، حيث عمل النجاح الذي حظيت به الإصلاحات الزراعية على خلق التأييد الشعبي والقوة الدافعة لدينج حتى يستمر. وهكذا فقد وجب تحويل الاهتمام إلى باقي الأنشطة الاقتصادية — وإلى مدن مثل مدينة زينجزو. ليست مدينة زينجزو بالمدينة المبهرة كمدينة شنغهاي. فهي قبيحة ومزدحمة ومعزولة نوعًا ما مع أنها نقطة تقاطع رئيسية للقطارات، وقد قضينا بها قرابة الأسبوع، ولم نر وجهًا أجنبيًّا واحدًا. ومع ذلك فإن زينجزو بطريقتها الخاصة لا تقل إبهارًا عن شنغهاي. فهي مدينة نائية عن العالم الغربي في حجم مدينة لندن، وقد وصفها الدليل السياحي الذي أحمله وصفًا رقيقًا بأنها «نموذج مُوسَّع للتخطيط المدني المعيب». أما أدنى ما يمكن أن تبرزه لنا زينجزو، فهو امتداد ثورة الصين الاقتصادية لما وراء المقاطعات الساحلية. وترى فيها البنايات شاهقة الارتفاع ذات الأربعين طابقًا مُطلة في ثبات على محطة القطار الشاسعة، وتجد عددًا كبيرًا من البنوك الحديثة، والمتاجر الضخمة ذات الأقسام المتعددة، والفنادق، والجسور الخراسانية القاسية. كما ترى الإعلانات في كل مكان. كانت هناك حاجة لاستثمارات ضخمة من أجل إنشاء مثل هذه المباني والسكك الحديدية والطرق. يطلق خبراء الاقتصاد اسم «رأس المال» على الطرق والمصانع والمنازل والمباني الإدارية التي تنشأ نتيجة للاستثمار، وبطبيعة الحال فإن كل مظاهر التنمية المستدامة تحتاج إلى رأس مال. يمكن أن يكون مصدر رأس المال من المستثمرين الأشخاص، وطنيين أو أجانب، الراغبين في جني الأرباح من وراء استثماراتهم. أو قد تكون الحكومة مصدره إما عن طريق فرض الضرائب على المواطنين واستثمار العوائد، أو بموجب برنامج ادخار إجباري. تخبرك الفطرة أنك إذا كنت تبغي أن تصير في الغد أكثر ثراءً مما أنت عليه اليوم، يجدر بك استثمار الأموال بدلًا من إنفاقها على السلع والخدمات التي ستتمتع بها في التو واللحظة. يمكنك أن تستثمر المال في الحصول على تعليم أو بشراء منزل أو بوضعه في حساب مصرفي. فإذا كان استهلاكك اليوم قليلًا لأنك تستثمر المال بأي طريقة من هذه الطرق، فلسوف تغدو أكثر ثراءً في الغد، هذا إذا كانت استثماراتك ناجحة. (بناء الأفران اللافحة في الحديقة الخلفية للمنزل لن يجدي نفعًا وكذلك بناء مكتبة يسرب سقفها الماء.) لم يكن لدى حكومة الصين الاشتراكية أية مشكلة تحول دون حصولها على رأس المال. فبينما لا يمكن لنظام السوق أن يتخذ ببساطة قرار زيادة الادخار والاستثمار، فإن النظام الاقتصادي الاشتراكي يمكنه. يأتي رأس المال من برامج الحكومة؛ فكل المدخرات تقريبًا تأتي إما من الحكومة أو من الشركات التي تمتلكها الحكومة. وفي كلا الحالتين فإن المال يُحَصَّل من جيوب المواطنين؛ وتستثمره الحكومة نيابة عنهم. توفَّرَ أيضًا قدر كبير من رأس المال: كان ثلث الدخل القومي يجري ادخاره بدلًا من إنفاقه، وهو الدخل الذي يساوي تقريبًا ضعف نظيره في الكاميرون. في البدء تمكنت الصين من الحصول على عوائد جيدة جدًّا من رأس المال هذا. وعندما كانت المهمة الأساسية تقتضي إعادة بناء البنية التحتية الأساسية والصناعية في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، كان استثمار مبلغ ١٠٠ يوان يضيف ٤٠ يوان للناتج السنوي الصيني، وهو عائد مذهل بالطبع إلا أنه لم يكن مفاجأة. كانت المهام التي واجهت الحكومة الصينية واضحة بما يكفي وخاصة مهمة إصلاح ما أعطبته الحرب والثورة. أما ما كان ضروريًّا، فهو أن تشرع الحكومة في إعطاء التوجيهات. ثم برزت المشكلة لاحقًا. فحتى بعدما نَحَّتْ جانبًا الفوضى التي سببتها القفزة العظيمة للأمام والثورة الثقافية، وجدت الصين نفسها عاجزة أكثر فأكثر عن الحصول على مكاسب مالية من الاستثمارات التي قامت بها. فعند وفاة ماو عام ١٩٧٦، كان استثمار مبلغ ١٠٠ يوان يضيف ١٨ يوانًا فقط لإجمالي الناتج السنوي الصيني. وكان ذلك أقل فعالية بمقدار النصف عما كانت عليه قبل ذلك التاريخ بعشرين عامًا مضت. ولمّا كانت الحكومة والشركات الحكومية يستثمران سويًّا قدرًا هائلًا من دخل الدولة، كان يعد هذا النقص في فعالية الاستثمار إهدارًا مُعرقِلًا. قد يتوصل أحد المراقبين المتعاطفين إلى أنه لا مفر من تراجع العوائد بعد الاستثمارات الواضحة التي أقيمت. قد ينطبق هذا على أحدث الاقتصاديات مثل اليابان والولايات المتحدة، ولكن في عام ١٩٧٦ كانت الصين لا تزال تعاني الفقر الشديد. كانت هناك فئة قليلة فقط تمتلك السيارات وتتمتع بخدمات الهاتف والكهرباء أو المياه الجارية. وفي مثل هذه الدولة الفقيرة، يمكن للاستثمارات المناسبة أن تحقق عوائد مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا عن طريق توفير مثل هذه الخدمات التي تعتبر من أساسيات الحياة الحديثة. كانت هناك وفرة في الاستثمارات الفعالة التي يمكن تنفيذها إلا أن الدولة لم تكن تعرف كيفية تنفيذها. ومع ذلك فلم يكن هذا يهم ما دامت الرؤية واضحة بشأن الذي تطلب من شعبها أن يفعله أو يبنيه أو يزرعه. ولكن مع تعاظم عدد السكان، أضحت التكنولوجيا في تقدم، ودخلت الاستثمارات التي طال انتظارها قيد التنفيذ، وباتت الاقتصاديات الشيوعية تغيب أكثر وأكثر عن ذاكرة نظام السعر. تتغير اقتصاديات السوق الحقيقية سريعًا، ففي كوريا الجنوبية، كان من ٨٠٪ إلى ٩٠٪ من العمال، والأراضي، ورأس المال يعملون أو يُستخدمون لأغراض مختلفة في السبعينيات من القرن العشرين أكثر مما كان يحدث عام ١٩٦٠ عندما كان يمثل الإنتاج الزراعي نسبة ٤٥٪ من الاقتصاد ويمثل التصنيع نسبة ١٠٪. ولكن بحلول مطلع السبعينيات، تفوق الإنتاج الصناعي على نظيره الزراعي. والأكثر أهمية في هذا الشأن هو أن العمال، داخل هذين القطاعين، كانوا يتدربون ثم يعاد تدريبهم حيث كانت الشركات كثيرًا ما تفتتح أبوابها للعمل ثم تتوقف عن العمل فيما بعد. اعتادت الشركات العاملة في مجال التصدير في كوريا على تصنيع لعب الأطفال، والملابس الداخلية، إلا أنها الآن تقوم بتصنيع رقائق الذاكرة الإليكترونية والسيارات. فلو كان أحد المخططين بحكومة كوريا الجنوبية قد حاول إدارة الاقتصاد بناءً على معلومات عفا عليها الزمن تعود إلى عام ١٩٦٠، لكانت النتيجة كارثة، ولكن لحسن الحظ أن أحدًا لم يفعل هذا في كوريا الجنوبية. وفي حقيقة الأمر فقد تركت تلك الحماقة ليرتكبها الكوريون الشماليون. فالأنظمة الاقتصادية الموجهة حكوميًّا، بدءًا من كوريا الشمالية، وحتى الاتحاد السوفييتي والصين؛ تنقصها ببساطة المعلومات اللازمة التي تجعلها تواصل اتخاذ القرارات الصحيحة. وبعكس الكاميرون، التي ليس لدى أفرادها وشركاتها كثير من الدوافع للاستثمار، لم يكن لدى الصين تحت حكم ماو أية مشكلة مع الدوافع، فقبل كل شيء، كان لقادتها سلطة الحياة والموت على أتباعهم، ولكن الدوافع وحدها ليست كافية. أوضح لنا الفصل الثالث أن العالم الصادق الذي تخلقه الأسواق يسفر عن نتائج جيدة، ليس فقط لأنه يوفر الدوافع، وإنما لأنه ينتج المعلومات عن تكاليف ومنافع كل أنواع السلع والخدمات استنادًا إلى نظام الأسعار. صحيح وفرت الأنظمة الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي والصين أقوى الدوافع التي يمكن تخيلها، إلا أنها لم توفر المعلومات الضرورية لاستخدام هذه الحوافز الاستخدام الأمثل. وبدلًا من الاستجابة لمطالب الأسواق العالمية، مثلما فعل الكوريون الجنوبيون، استجابت الصين لمطالب ماو، ألا وهي بذر بذور المحاصيل قريبة جدًّا بعضها من بعض، وقتل الطيور، وإذابة الأدوات المعدنية لصناعة أدوات جديدة مشابهة. ومن أجل الحصول على أي استفادة مالية من الأموال الهائلة لرأس مال الاستثمار المتاح، شرعت الحكومة الصينية في التحول التدريجي إلى نظام السوق. وبينما مهدت الإصلاحات الزراعية الناجحة الطريق فقد تبعتها إصلاحات مركبة وعميقة التأثير طبقت على الاقتصاد بأسره. وبعد خمسة عشر عامًا من تولي دينج زمام السلطة، تضاعفت العوائد من الاستثمار بأربعة أضعاف: فكان ينمو الناتج الصيني السنوي بمقدار ٧٢ يوانًا عن كل استثمار يبلغ ١٠٠ يوان، وكان كل استثمار يغطي تكاليفه بعد ٥٠٠ يوم فقط من الشروع في تنفيذه. ولم يكن هذا لأن الحكومة قللت استثماراتها وانتقت أفضل المشروعات فقط. وإنما العكس، فقد كانت مستويات الاستثمار مرتفعة في السبعينيات. فلا عجب إذن أن ينمو الاقتصاد نموًّا مذهلًا. ولكن كيف تحققت هذه العوائد المرتفعة من الاستثمار؟ مثلما كان الحال في النظم الاقتصادية في الكتلة الشيوعية، كان يمسك بزمام القطاع الصناعي بالصين مجموعة من المُخططِين. وكانت الخطة الموضوعة تقتضي مثلًا أن ينتج مصنع ما للصلب كمية محددة من الصلب على أن يستخدم بعد ذلك لأغراض معينة، وعلى أن الكمية المعيارية من الفحم (لإنتاج طن من الصلب، قيل إن الأمر يحتاج إلى ٠,٨ طن من الفحم) سوف يتم توصيلها لمصنع الصلب لكي يواصل عملية الإنتاج، وهكذا. وكانت الحسابات المطلوبة غاية في التعقيد، حتى إنها كانت تفترض أن صغار البيروقراطيين كانوا ينقلون المعلومات الصادقة عن التكاليف والجودة. (كان لدى الجميع دافع للشكوى من أن الآلات والمواد التي يستعملونها غير كافية وتفتقر إلى الجودة، كل هذا حتى مع ضخامة إنتاجهم وتفوقه. فدون العالم الصادق يستحيل الكشف عن القصة الحقيقية.) ومع ذلك، فإذا نحينا جانبًا نزوات ماو المثالية القاتلة، يمكن أن يُكتب لمثل هذا النظام تحقيق نجاح لا بأس به لفترة ما؛ لأنه في كل عام يكون لدى المخططين خطة العام الأسبق لترشدهم. ومع نمو الاقتصاد وتجدده، فإن عملية تعديل متطلبات الإنتاج والقيام باستثمارات رأسمالية على نحو حصيف أصبحت صعبة أكثر فأكثر؛ وهذا هو السبب في أن عوائد رأس المال في الصين كانت أقل بكثير عام ١٩٧٦ عنها في الخمسينيات من القرن العشرين. فنظام السوق كان سيبلي بلاءً أفضل، ولكن خلقه لم يكن بالأمر السهل. فالأسواق لا تعمل على النحو الأمثل دون وجود المؤسسات التي تدعمها؛ إذ يحتاج الناس في اقتصاد السوق إلى البنوك من أجل القروض التجارية، وإلى قانون للعقود لحل الخلافات، وإلى ثقة في أن أرباحهم لن تُصادر. ومثل هذه المؤسسات لا يمكن إنشاؤها بين عشية وضحاها. وفي الوقت ذاته، ينخرط العديد من العمال في النظام الاقتصادي الاشتراكي في أنشطة غير مُنتجة، وقد يئول بهم الحال ببساطة إلى الموت جوعًا ما لم تحدث عملية التعديل تدريجيًّا، أو ما لم يحصلوا على نوع ما من التعويض. كانت تلك المشكلات شديدة الخطورة على القطاع الصناعي في الاقتصاد؛ لأنه كان على ارتباط وثيق بنظم التخطيط، وكان الجهازَ الذي تستخدمه الحكومة لجلب المدخرات، كما كان مصدرًا لأكبر استثمارات الحكومة. إذا كان دينج قد قرر أن يتخلى عن الخطة، ويتحول إلى نظام السوق في غمضة عين؛ فإن النتيجة المحتملة كانت ستكون خطوة صعبة نحو وضع حقوق الملكية، وانهيارًا للقطاع المالي (لأن كثيرًا من البنوك التي تديرها الحكومة منحت القروض التي لن يمكن سدادها أبدًا)، وانتشارًا للبطالة، بل وحتى الموت جوعًا. كان من المفهوم أن الأمور كلها ربما كانت ستئول سريعًا إلى الأفضل ولكن هذا لم يحدث (تسبب «العلاج بالصدمة» الذي انتهجه الاتحاد السوفييتي السابق في التسعينيات في انهيار اقتصادي.) بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الإصلاحات المتطرفة كانت ستضر العديد من جماعات المصالح — بما في ذلك تلك الأعداد الهائلة من المواطنين العاديين — وكانت من الممكن أن تصير مستحيلة سياسيًّا. إن دينج، الذي نحّاه ماو عن العمل السياسي مرتين ومع ذلك عاد ليقود الدولة، استوعب جيدًا أهمية المصداقية السياسية. لذا فإن دينج وأقرانه المُصلحين ذوي الفكر المشابه انتهجوا استراتيجية أكثر حذرًا. ففي عام ١٩٨٥ تجمد حجم «الخطة»، ولم تنمو مستويات الإنتاج التي حددتها الحكومة مع نمو الاقتصاد، وفي المقابل، سُمح للشركات والمصانع المملوكة للدولة أن تفعل ما تشاء بالإنتاج الزائد. ووجدت مصانع الفحم التي تتسم بفعالية الإنتاج أن مصانع الصلب الفعالة تبغي شراء المزيد من الفحم لتصنع المزيد من الصلب، الذي ستشتريه شركات البناء الفعالة. أما الشركات غير الفعالة التي حاولت أن توسع نشاطها فقد ذهبت جهودها أدراج الرياح …. لقد تبين أن هذه الاستراتيجية أثبتت نجاحها لعدة أسباب: أولًا: كان يسهل فهمها، وكان الالتزام بتجميد حجم الخطة أمرًا معقولًا. فمثل هذا الالتزام الجدير بالثقة كان مهمًّا: فإذا حاول واضعو الخطة باستمرار توسيع وتحديث الخطة في ضوء المعلومات التي تظهر من السوق الثانوية؛ فإن هذه السوق سرعان ما تتوقف عن تقديم معلومات نافعة. فمديرو المصانع الذين أدركوا أن أي تغييرات ناجحة يقومون بها سوف تمتصها سريعًا خطة العام المقبل؛ لم يبتعدوا عن الاختيارات الآمنة. ثانيًا: لمّا كان هناك حفاظ على ثبات الخطة، كان هناك ضمان بتحقيق قدر من الاستقرار، فالعمال أصحاب الوظائف يمكنهم الاحتفاظ بوظائفهم. وكان ثمة ضمان ألا تنحدر الأمور إلى الأسوأ. أما إذا نتج عن الخطة نمو اقتصادي، فإن هناك احتمالًا أن تسمو الأمور إلى الأفضل. تشبث الكثيرون بذلك الاحتمال الأخير، وفضلوا العمل في ظل الظروف السيئة، والمكوث لساعات طويلة في مصانع النسيج، حتى وإن كان لزامًا عليهم الاغتراب عن عائلاتهم، والسفر لآلاف الأميال ليعودوا أدراجهم إلى عملهم السابق عندما كانوا يحاولون كسب عيشهم — أو عندما يفشلون في ذلك — في الأراضي الزراعية الهامشية المجدبة. ثالثًا: عملت السوق بالضبط في المكان الذي كانت في حاجة لأن تعمل فيه ألا وهو على الهامش. تذكر أن التكاليف والفوائد الحدية (الهامشية) هي ما يهم بالضبط من أجل فعالية الاقتصاد. تخيل مدير مصنع وهو يحاول اتخاذ قرار بشأن إنتاج طن إضافي من الصلب قد يمكنه من تحقيق الأرباح. فإذا عرف تكلفته الحدية (وهي تكلفة إنتاج طن إضافي من الصلب)، وعُرض عليه سعر السوق (الذي يعكس الفوائد العائدة على شخص آخر مقابل الطن الإضافي)، فلسوف يتخذ القرار المناسب، أي أنه سينتجه إذا كان السعر أعلى من التكلفة الحدية. وستُسبغ الفعالية على إنتاج المصنع. ولا يهم ما سيحدث لما تبقى مما تم إنتاجه من الصلب طالما كان حجم الإنتاج يتسم بالفعالية. فكل تسعة من عشرة أطنان يمكن إنتاجها وتوزيعها في ضوء الخطة، ولكن يبقى السؤال عن الفعالية يحوم حول هذا الطن العاشر. وفحوى ذلك أن الشركات الفعالة توسع نشاطها لتلبية الطلب الإضافي، مثل إنتاج الطن الحادي عشر والثاني عشر بعد إنتاجها الطن العاشر. إذ ينبع هذا الطلب من توسع قطاعات الاقتصاد، التي كانت تحتاج بالفعل إلى إمداد، ولاسيما من المُخططين. وعلى المديرين تحقيق الربح وإعادة استثماره، والتسلح بدوافع للتأكد من ربحية الاستثمارات. وفي المقابل، تقيد نمو الشركات التي تتسم باللافعالية. فطالما لا تنفك الحكومة تقدم لها الدعم في ضوء هذه الخطة (توقفت تدريجيًّا عن القيام بذلك في التسعينيات)؛ فسوف يسير نهجها على نفس الوتيرة مدى الحياة. ولمّا كان اقتصاد الصين تضاعف أكثر من أربعة أضعاف عام ٢٠٠٣ عن ما كان عليه عندما تجمدت الخطة عام ١٩٨٥، انكمشت سريعًا الأهمية النسبية لتلك الشركات. وخرج الاقتصاد — بالمعني الحرفي للكلمة — عن الخطة. ها قد عرفنا أن نظام السوق يحجم قوة ندرة الشركات والمؤسسات التجارية؛ إذ إن معظمها يواجه منافسة، وتنمو لدى قطاعات الاقتصاد التي لا تحتد بها المنافسة نزعة لجذب المنافسة بمرور الوقت. فالمنافسة والدخول الحر للشركات الجديدة إلى السوق، الذي يحد من قوة ندرة الشركات الموجودة بالفعل؛ يدفع الإنتاج الفعال دفعًا قويًّا نحو المضي قدمًا، وكذلك الأفكار الجديدة واختيار المستهلك. وبعد ذلك، وفي عام ١٩٩٢، لم يتعدَ إنتاج شركات القطاع الخاص والشركات الأجنبية ١٤٪ فقط من الإنتاج الصناعي، في حين أخذت الحكومة على كاهلها إنتاج نصف الإنتاج الآخر تقريبًا. أما باقي الإنتاج، فلم يُنسب معظمه إلا «للمؤسسات التجارية للقرى والمدن الصغيرة». ولم يكن مبعث المعجزة الصينية الاقتصادية هو الخصخصة في واقع الأمر؛ إذ لم يكن يهم إلى من ترجع ملكية الشركات، ولكن كانت الشركات في وضع يجبرها على المنافسة في سوق حرة نسبيًّا، مقلصة بذلك قوة الندرة، آتية بالمعلومات والدوافع إلى عالم الصدق. وفي الغالب، يمكن قياس ما لهذا من تأثير. تذكر أننا في الفصل السابق اكتشفنا سويًّا أن الأرباح العالية علامة على قوة الندرة. فمتى شرع دخول المنافسة الجديدة القوية في محو قوة ندرة شركات القطاع العام؛ فسيكون من المتوقع أن تتجه معدلات الربح إلى مصيرها المحتوم ألا وهو الانخفاض. وهذا ما تشهده أرض الواقع بالضبط. فالشركات الصينية في الثمانينيات باتت تتمتع بمعدلات ربح مرتفعة للغاية: إذ شهد العديد من القطاعات معدلات ربح تزيد عن اﻟ ٥٠٪ (فبالنسبة لنظام اقتصادي يتمتع بتنافسية عادلة، لا يتوقع المرء أن يزيد معدل الربح عن ٢٠٪، وأحيانًا أقل). وتفاوتت الأرباح كثيرًا من قطاع إلى آخر استنادًا على نظام الأسعار الاعتباطي الموضوع في الخطة، إذ شهد قطاع تكرير النفط معدل ربح يبلغ ١٠٠٪ تقريبًا، في حين شهد قطاع التعدين ٧٪ فقط. وفي كل الأحوال، كانت الحكومة تصادر الربح لإعادة استثماره. وبينما بدأت تأثيرات العواقب السيئة لحركات الإصلاح الاقتصادية في الظهور، بدأت الأرباح تنخفض؛ كما بدأت أيضًا تتقارب عندما وجدت أكثر القطاعات المدرة للأرباح نفسها في أشرس منافسة مع الشركات الأجنبية، والخاصة، والحكومية. وخلال التسعينيات، انحدرت معدلات الربح بمقدار يزيد عن الثلث؛ وفي أكثر القطاعات انتعاشًا انخفضت بمقدار النصف على الأقل. وكان لكل هذا تأثيرٌ رَمَى إلى تقليص الإهدار، ومنح المستهلكين الصينيين عائدًا أفضل مقابل أموالهم، وجعل الصين لاعبًا محتملًا في الأسواق العالمية، وانقشعت قوة الندرة. يستطيع كل من زار الصين في أوائل التسعينيات أن يخبرك أن كل هذا التطور وليد سنوات قليلة. إلا أنه أكبر من مجرد انطباع قصصي، فللإحصاءات نفس الرأي. فالصين لم يكن يتعدى حجمها السمكة الصغيرة في بحر التجارة العالمية حتى عام ١٩٩٠، وكانت صادرات كل من الولايات المتحدة وألمانيا تزيد بمقدار عشر مرات عن صادراتها، وفي العام المنصرم، أضحت الصين رابع أكبر دولة مصدرة في العالم، حتى إن الولايات المتحدة وألمانيا انخفضت صادراتهما عن صادرات الصين بمقدار الضعفين، وهذا ليس محض صدفة، فدخول الصين المباغت إلى ساحة الاقتصادية العالمية فصل من الفصول الأخيرة في عملية الإصلاح الاقتصادي الصيني. لماذا احتاجت الصين إلى العالم؟ فدولة يزيد سكانها عن المليار نسمة تبدو وكأن أفضل وضع لها هو وضع الاكتفاء الذاتي. كان اقتصاد الصين ضئيلًا عام ١٩٧٨ — إذ كان يقل حجمه عن حجم اقتصاد بلجيكا — حينها أدرك المعنيون بالإصلاح أن الانخراط مع العالم يمكن أن يفيد، وكان لهذا الأمر ثلاث مميزات: أولاها: أن الصين سيغدو بإمكانها مد الأسواق العالمية بالسلع التي تحتاج إلى عمالة كثيفة، مثل: لعب الأطفال، والأحذية، والملابس. وثانيها: أن العملة الأجنبية التي تدرها تلك الصادرات سيتم إنفاقها على المواد الخام، وعلى التكنولوجيا الجديدة للمساعدة في تطوير الاقتصاد. وأخيرًا: عندما يدعون المستثمرين الأجانب للمجيء إلى بلادهم، سيغدو بإمكان الصينيين تعلم تقنيات الإنتاج والعمل الحديثة منهم، وهو أمر عظيم الأهمية لبلد كانت شيوعية لعشرات الأعوام. وفي العام الماضي، نجحت كل من الصين وهونج كونج في جذب أكثر من ٤٠٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى دول العالم النامي. (بينما جذبت الهند، العملاق الآسيوي الآخر، ما يزيد بقليل عن ٢٪). وكما تناولنا في الفصل التاسع، فإن أحد مميزات هذا النوع من الاستثمار أنه يغذي الاقتصاد برأس المال الذي لا يمكن نزحه متى شعر المستثمرون بعدم الراحة، الأمر الذي وقع للدول المجاورة للصين أثناء أزمة العملات الآسيوية عام ١٩٩٧ حينما سُحبت سريعًا في ذعر جماعي تلك الاستثمارات المالية البحتة مثل القروض. صحيح أن الاستثمار الرأسمالي يزيد من قدرة الاقتصاد المستقبلية، ولكن كما رأينا بالفعل، لم تكن الصين في حاجة إلى الأجانب لتزويدها برأس المال، وإنما كانت الخبرة هي التي تهم: الخبرة على سبيل المثال في مراقبة الجودة أو في الإدارة العملية لعدد هائل من البشر والمعدات. قامت كل من الشركات الأمريكية واليابانية باستثمارات في مجالي النقل والإلكترونيات في الصين، دافعة إياها إلى صناعة التكنولوجيا عالية الجودة. يمكنك أن ترى نتيجة تلك الاستثمارات متى اطلعت على الإحصائيات، فالصين الآن أكبر المنتجين لمعظم الأجهزة الإلكترونية التي تهم المستهلك؛ فأكثر من نصف إنتاج العالم من مشغلات أقراص الدي في دي والكاميرات الرقمية تصنعه الصين. يمكنك أيضًا أن ترى تأثير ذلك إذا تجولت في الصين ذاتها. أذكر مثلًا أنني عندما كنت أستقل إحدى الحافلات في مدينة زينجزو رأيت أناسًا حولي يتحدثون في آلة متقدمة لم أرها من قبل، والتي لم تصل إلى موطني حتى بعد شهور. فالمستثمرون الأجانب الذين جعلوا تلك التكنولوجيا ممكنة يأملون الحصول على عائد جيد من استثماراتهم، ولكن يبدو جليًّا للعيان أن كثيرًا من المال قد بقي في جيوب المستهلكين الصينيين. وللاستثمارات الأجنبية أثر مهم لكي تتابع الإصلاحات الصينية سيرها إلى الأمام. فالشركات الأجنبية لم تجلب معها رأس المال فحسب، ولم تجلب كذلك الخبرة والاتصال باقتصاد العالم فحسب، بل إنها لم تنفك عن منافسة حركات الإصلاح السابقة بدخولها في منافسة مع الشركات الصينية المحلية دافعة إياها نحو تحسين وتطوير فعاليتها. فإذا كان الاستثمار الأجنبي يعد بمنزلة هدية للاقتصاد، فكيف إذن فعلتها الصين وجذبته على ذلك النحو؟ لماذا لم تنل الهند كل هذه الأموال بدلًا منها؟ لماذا لم يكن للكاميرون نصيب هي الأخرى؟ لا شك أن الحظ لعب لعبته، فبعكس الكاميرون، تجتذب الصين، التي تتمتع بسوق محلية متنامية بسرعة وثبات؛ المستثمرين الأجانب. فلم يتمكن قائد كاميروني، مهما كانت موهبته، من محاكاة هذا، بل كان للقدر مشيئة أخرى إزاء الكاميرون. ومع ذلك، لم يكن للحظ دور في اهتمام الصينيين بالتعليم — وهو أحد الجوانب المشرقة في ميراث سنوات الشيوعية — وهو ما جعل الصين بحلول عام ١٩٧٨ ترزح تحت مخزن عملاق لعمالة مدربة من المحتمل أن تكون ذات إنتاجية عالية، تنتظر أن تغمر الاقتصاد بالموهبة عندما يتفجر سد الاقتصاد المتحكم. فقد أضاعت الكاميرون على نفسها فرصة تعليم أبنائها في السبعينيات عندما كانت الدولة أكثر ثراءً مما هي عليه اليوم. ولكن كان للهند هي الأخرى سوق محلي متنامٍ وقوة عاملة متعلمة، حتى وإن لم يكن التعليم بها متاحًا بقدر كبير مثلما كان في الصين. وبالرغم من أن الإحصاءات تكشف عن هستيريا سائدة بشأن إسناد الأعمال إلى شركات أجنبية، إلا أن ذلك لم يكن وحده كافيًا لجذب الاستثمار الأجنبي. ولدى الصين مميزات أخرى طبيعية لا تملكها الهند. فعملية الائتلاف الاقتصادي الدولي المُوجعة في أغلب الأحيان تمت على نحو أكثر سلاسة وفعالية بسبب روابط الصين بهونج كونج وتايوان اللذين كانتا تتمتعان كلاهما بنظام اقتصادي مندمج دوليًّا وناجح، في الوقت الذي كانت فيه الصين في منأى عن أسواق العالم، وعلى اختلاف أنظمتهما الاقتصادية، كان ثمة روابط وثيقة من أنساب وصداقات بين رجال الأعمال في الأنظمة الثلاثة الاقتصادية. وعوضت تلك الروابط ضعف النظام القانوني الصيني في أوائل سنوات الإصلاح. فقد كانت الصين (ومازالت) تكدح لتحسين هيكلها التجاري لحقوق الملكية وقانون العقود، الذي تحتاجه كافة الأنظمة الاقتصادية الناجحة. فمن دون ذلك الهيكل يغدو من الصعب التحلي بالثقة عند القيام بالمشروعات. فكيف تثق أنك لن تقع ضحية احتيال شركائك في المشروع؟ كيف تشعر بالأمان إذا كان مسئولو الحكومة قادرين على مصادرة أرباحك أو أملاكك؟ أما بالنسبة لأصحاب المشروعات في هونج كونج وتايوان، فإن العلاقات الشخصية كانت تعني أنهم قادرون في معظم الأحيان على الاعتماد على الوعود وحدها دون عقود قانونية مُلزمة. بالطبع يمكن لعقد مسبق أن يكون أفضل، ولكن تبقى كلمة صاحب المشروع هي الفاصل إذا بدت فرصة الربح جذابة. أما الهند، فقد تخلفت عن الركب الذي سارت فيه هونج كونج وتايوان، بالإضافة إلى افتقارها إلى أدنى اهتمام بالترحيب بالاستثمار الأجنبي. أذكر أن رجل الاقتصاد الهندي البارز جاجديش باجواتي نعت سياسات حكومته في الفترة من الستينيات إلى الثمانينيات على أنها «ثلاثون عامًا من السياسات المتعصبة المطلقة»، بعبارة أخرى، فإن الحكومة أحكمت قبضتها على السوق، وبذلت أقصى ما في وسعها لمنع التجارة والاستثمار. وبالرغم من تقسيمها الاعتباطي غير العادل، تفوقت المناطق الاقتصادية الخاصة في جذب المستثمرين دون قلب موازين الدولة الصينية بأسرها، هذا بالإضافة إلى أنها كانت بمنزلة إشارة إصبع إلى حيث يجب أن يمتد الإصلاح. وعندما أثبتت القوانين السارية على الشركات الأجنبية نجاحها وتفوقها، أخذ الإداريون يطبقونها على الشركات المحلية داخل المناطق الاقتصادية الخاصة، ثم أخذوا يطبقونها على الشركات المحلية خارج المناطق الخاصة. ونظرت المقاطعات الساحلية الأخرى إلى اقتصاد مقاطعتي فوجيان وجوانجدونج التي باتت تتقلب في الازدهار والنعيم؛ وبدأت تطالب بامتيازات مشابهة. وسواء كانت تلك القوانين غير عادلة أو ملتوية فإنها قد شُذبت وصُقلت مع رفض المستثمرين الأجانب أي تحيز من أي نوع للشركات المحلية، في حين ضيقت الشركات المحلية الخناق على أي تحيز من أي نوع أيضًا للشركات الأجنبية عندما غسلت أموالها في هونج كونج، وجلبتها مرة أخرى على أنها «استثمار أجنبي». وكما هو الحال مع باقي برنامج الصين الإصلاحي، قام الحمقى في الدول الأخرى بنسخها بتقليد أعمى، الذين سرعان ما انحدر اقتصادهم إلى الحضيض. صحيح أنني اخترت عنوان «كيف أصبحت الصين غنية» لهذا الفصل من الكتاب، إلا أنها عبارة مبالغ فيها قليلًا؛ فالصين لم تصبح غنية بعد، ولكنها تعدو في طريقها نحو الثراء أسرع من أي دولة أخرى في التاريخ. ولكن … ماذا في ذلك؟ يصاحب هذا النمو الاقتصادي ثورة هائلة، والصينيون حيارى؛ فالعديد منهم عاطل أو في منأى عن الصين الحديثة، حتى إن مجموعة من عمال «سيشوان» يظنون أن الزعيم «ماو» يدير مصنعًا في الحياة التي يحياها بعد موته، وهذا طبيعي وفقًا للمبادئ الاشتراكية. وتزعم إحدى الروايات أن بعض أفراد هذه المجموعة قتلوا أنفسهم ليلحقوا به. ليس بالأمر الهين أن تكون جزءًا من ثورة، فمن بلغوا مبلغ الشباب بالمناطق الريفية في سبعينيات القرن العشرين عملوا كجزء من مجتمع زراعي، يجمعون «نقاط عمل»، ويفعلون كما يؤمرون، ويذهبون أينما يؤمرون، ويحصلون على الاحتياجات الأساسية التي يوفرها لهم المجتمع والدولة. شبّ أبناؤهم وبناتهم في صين مختلفة في الثمانينيات والتسعينيات. كانت الحياة لا تزال شاقة إلا أن الأموال أضحت متوفرة على نحو أكثر وزادت الخيارات المتاحة زيادة كبيرة جدًّا. أصبحت الأراضي ذات قيمة؛ إذ تحسنت طرق الزراعة، وكان ما يزال هناك حاجة قليلة في المزارع إلى العمال الإضافيين. فعل البعض ما حُرم آباؤهم من فعله؛ باعوا أراضيهم، وانتقلوا إلى المدن بحثًا عن عمل. مزقت الهجرة العائلات والأسر تمزيقًا. وبينما ظهرت فرص جديدة، انهارت مجموعة الخدمات التي كانت تقدمها الحكومة في الماضي لمواطنيها بعدما أصبحت بعض المؤسسات الحكومية لا حاجة لها. ورد الفعل هذا يتماثل في قسوته مع تمني الحكم بالموت جوعًا على كل من يرتدي قميصًا يحمل صورة ماو، ولكنه أقل منطقية. والحقيقة أن وولف كان صائبًا في قوله إن المؤسسات المستغلة أفضل من الويلات التي سبقتها، وأنها خطوة على الطريق نحو غدٍ أفضل. أما «القفزة العظيمة للأمام» لماو، فلم تكن إلا قفزة عظيمة للجحيم. ليس من الظلم أو الخروج عن السياق في شيء أن نقارن الصين الحديثة بالعالم المثالي من وجهة نظر ماو. وإذا دققنا نجد أن الدول الغنية أو تلك التي تعدو مسرعة في طريق الثراء قد اعتنقت الدروس الأساسية في علم الاقتصاد التي تعلمناها في هذا الكتاب مثل: محاربة قوة الندرة والفساد، وتقويم التأثيرات الخارجية، ومحاولة الحصول على أكبر قدر من المعلومات، والحصول على الدوافع الصحيحة، والاتصال بالدول الأخرى، والأهم من هذا كله، قبول فكرة الأسواق، التي تقوم بمعظم هذه المهام في نفس الوقت. أما فقر الكاميرون، فيزهق الأرواح — فالفقر قاتل — كما يسلب الناس استقلاليتهم وقدرتهم على اختيار الخيارات الصائبة فيما يخص شئون حياتهم. فالهند، مع أنها أبلت بلاءً أفضل من الكاميرون فإنها متخلفة كثيرًا عن الصين، وما تزال تعاني فقرًا شوه إلى الآن نصف مليون هندي بمرض الجذام الذي يمكن الاستشفاء منه بثمن زجاجة جعة، بينما قتلت كل من الصين والاتحاد السوفييتي ذواتا المذهب الشيوعي عشرات الملايين بسبب الفشل الاقتصادي التام في أغلب الأحيان، فالأنظمة الاقتصادية لها أهميتها. فالفوارق الواضحة بين الكاميرون والهند أو الصين في عهد ماو، وبين الولايات المتحدة، أو بريطانيا، أو بلجيكا؛ فوارق عظيمة. وفي الخاتمة نقول إن علم الاقتصاد هو علم يعنى بالناس، وهو الأمر الذي عجز علماء الاقتصاد عن شرحه كما ينبغي. كما يعني النمو الاقتصادي توفير حياة أفضل لكل فرد يتمتع فيها بمزيد من الاختيارات وقليل من الخوف، وقليل من المشقة والعناء. أما عن رأيي، فإنني مثل علماء الاقتصاد الآخرين أؤمن بأن المؤسسات المستغلة أفضل من بدائلها، وأنها دون شك أفضل من الموت جوعًا في ظل «القفزة العظيمة للأمام»، أو في كوريا الشمالية «الحديثة». ولكن لو لم أؤمن أيضًا أنها خطوة نحو غدٍ أفضل، فسأتخلى عن كوني مؤيدًا متحمسًا لحركة الإصلاح الصينية. لهذا السبب ابتهجت لآخر الأخبار القادمة من الصين. فالثروة لم تتوزع بالتساوي، ولكنها تتسلل رويدًا داخل البلاد من «ساحل الذهب» لمدينتي شنغهاي وشينتشين. فقد نما اقتصاد الصين الداخلي نموًّا قويًّا جدًّا — بلغت نسبته ٧,٧٪ سنويًّا في الفترة ما بين عامي ١٩٧٨ و١٩٩١. ونما ثلثا المقاطعات الصينية في الفترة ما بين عامي ١٩٧٨ و١٩٩٥ أسرع من أي دولة أخرى على الخريطة. والأدهى من ذلك، أن شعب الصين بات يشعر بالفرق. فبعد أعوام من دفعها الرواتب المنخفضة — بسبب سيل العمالة المهاجرة من الصين — تقلصت أعداد العمال في المصانع في ساحل الذهب. وباتت المصانع المملوكة لأجانب تدفع أجورًا تزيد قليلًا لتنهال عليها العمالة ويتمسك العمال بوظائفهم. فلم يعد من مجال للتملص من زيادة الأجور وتحسين الظروف؛ لأن الصين في ازدهار مستمر. وفي عام ٢٠٠٣، فعلت يانج لي ما فعله العديد من العمال، إذ غادرت مدينتها لتعمل في مؤسسة مستغلة في دلتا بيرل ريفر. وبعد شهر، وبعد العمل ثلاثة عشر ساعة في نوبة العمل الواحدة قررت العودة إلى مدينتها وافتتاح مشروعها الخاص ألا وهو صالون لتصفيف الشعر. تقول: «كل يوم في المصنع كان مجرد عمل في عمل … ولكن حياتي هنا مريحة.» لقد كُتب لوالدها يانج العيش في كنف الثورة الثقافية، وكُتب لجديها العيش في كنف القفزة العظيمة للأمام. أما «يانج لي»، فلها اختيارات حقيقية، فقد عاشت في كنف دولة تعني فيها الخيارات الكثير بالنسبة لنوعية حياتها. فها هي جربت العمل في المصانع، وقررت أنه لا يناسبها. والآن تقول إنها «تستطيع إغلاق الصالون وقتما تشاء». ويعني علم الاقتصاد باختيارات يانج لي.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/38503152/
المخبر الاقتصادي: لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ ولماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟
تيم هارفورد
إنه النسخة الاقتصادية من كتاب The Way Things Work. يمكنك أن تأخذ من هذا الكتاب الشيق مرشدا ليأخذ بيدك إلى علم الاقتصاد، أو أن تأخذ منه مخبرا يكشف لك المبادئ الاقتصادية الكامنة وراء أحداث كل يوم، والتي يميط عنها اللثام بدءا من زحام المرور، وحتى أسعار القهوة الباهظة. «المخبر الاقتصادي» كتاب موجه لكل من يتساءل عن الباعث وراء ضخامة الهوة بين الأمم الغنية والأخرى الفقيرة، أو عن السبب الذي قد تبدو من أجله غير قادر على إيجاد سيارة مستعمله صالحة، أو عن كيفية منافسة سلسلة مقاهي عملاقة مثل مقاهي ستارباكس. يعرض هذا الكتاب الحقيقة الخفية وراء كل هذه الأسئلة وأكثر. إنه تيم هارفورد عالم الاقتصاد الذي صال وجال في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا ليعود أدراجه ويسلط الضوء على الكيفية التي تفرغ بها كل من متاجر السوبر ماركت، وشركات الطيران، وسلاسل المقاهي النقود من جيوبنا. خرق هارفورد الأساطير التي تجثو فوق أكبر خلافاتنا، والتي من ضمنها التكلفة الباهظة للرعاية الصحية؛ إذ أفشى بالباعث الذي من أجله ترسم قوانين حماية البيئة الابتسامة على وجه مُلاك العقارات؛ وأبرز للعيان ما قد ينطوي عليه جني بعض الصناعات للأرباح العالية من أسباب بريئة، في حين تأبى الأرباح العالية التي تحققها صناعات أخرى إلا أن تكون نتاج المؤامرات الآثمة. يحصي لنا هارفورد نسق من المفاهيم الاقتصادية التي تشمل الموارد النادرة، وقوة السوق، والفعالية، والابتزاز السعري، وانهيار الأسواق، والمعلومات الداخلية، ونظرية الألعاب، ويسلط الضوء على حقيقة تحكم تلك القوى في حياتنا اليومية، على غفلة منا في أغلب الأحيان.
https://www.hindawi.org/books/38503152/0.4/
الهوامش
كثيرًا ما يتم الاستشهاد بإجمالي الناتج المحلي كمقياس على صحة وسلامة الاقتصاد بشكل كلي. ومع ذلك، فإن له بعض العيوب الواضحة، فهو يحصي قيمة جميع السلع والخدمات التي يتم إنتاجها في الاقتصاد، إلا أنه لا يحصي قيمة الوقت الذي يقضيه المرء على الشاطئ … وثمة عيب آخر يتمثل في إمكانية تحول الناتج المتزايد إلى أمر جيد أو أمر سيئ. فالطفرة التي تشهدها حركة البناء والتعمير التي خلفت آلافًا من المنازل الجميلة الجديدة أمر جيد، في حين أن الطفرة التي تشهدها حركة البناء والتعمير لتعيد بناء آلاف المنازل القديمة التي دمرها الإعصار ما هي إلا إسراع نحو إرجاع الحال إلى ما كان عليه في السابق. وهما الأمران اللذان يحصيهما إجمالي الناتج المحلي بالتساوي. جعلني جون كاي أثناء تحاوري معه أدرك أن تفسير وجود المطاعم السيئة كمصائد للسائحين أكثر حنكة مما يبدو. فالسائح يمكنه بالطبع أن يدرك الفرق بين المطاعم باهظة الأسعار والأخرى منخفضة الأسعار، تمامًا مثلما يحدث في سوق السيارات، فالمشترون يمكنهم التفريق بين السيارة الفيراري والسيارة الفورد. ولكن في كلتا الحالتين، لا يمكن للمشترين الذين يجهلون المعلومات تمييز الجيد عن الرديء من الأصناف الواحدة: فمثلًا ثمة شطائر برجر جيدة وأخرى سيئة، والأمر نفسه ينطبق على سيارات الفيراري، فعندما تكون مستعملة، تكون أقرب إلى الليمون.
تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة. تيم هارفورد: يكتب في مجلة «فاينانشيال تايمز» في عمود بعنوان: «عزيزي رجل الاقتصاد»، الذي يتطرق فيه لأحدث النظريات الاقتصادية، ويجيب من خلاله على أسئلة القراء بأسلوب بسيط ومرح. ويعمل أيضًا في البنك الدولي الذي يترأس فيه فريق كتابة الخطابات لرئيس الاقتصاديين بالمؤسسة المالية الدولية. وكان يعمل في السابق في كتابة المقالات الافتتاحية بصحيفة «فاينانشيال تايمز»، وعمل من قبل خبيرًا اقتصاديًّا في شركة بترول كبرى، ومدرسًا لمادة الاقتصاد بجامعة أكسفورد. ويعيش الآن في واشنطن العاصمة.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/0.1/
مقدمة
مغامرة مثيرة في الرياضيات البحتة، قصة خيالية عن أماكن غريبة تسكنها أشكال هندسية، أشكال تفكر وتتحدث وتملك كل المشاعر الإنسانية. إنها ليست قصة ساذجة من قصص الخيال العلمي، وهدف هذه القصة هو التعليم، وهي مكتوبة ببراعة فنية، فإذا بدأت قراءتها فلن تستطيع الفكاك من أسرها، وإذا كنت لا تزال تتمتع بشباب القلب ولا يزال حيًّا في قلبك الشعور بالدهشة، فسوف تقرأ دون توقف حتى تصل إلى النهاية شاعرًا بالحزن، لكنك لن تستطيع أن تخمن زمن كتابة القصة ولا ملامح شخصية كاتبها. من المؤكد أن علماء الرياضيات في تلك الأيام السحيقة كانوا يتخيلون فراغات بأي عدد من الأبعاد، وكان علماء الفيزياء أيضًا يعملون في وضع نظرياتهم على أشكال هندسية ذات أبعاد عشوائية، لكن كل هذا كان يتعلق بالنظريات التجريدية، ولم يكن هناك اهتمام شعبي بتفسيرها، بل كان العامة لا يكادون يعلمون بوجودها. والزمن الطاغية هو صاحب السلطان في الأرض المسطحة كما هو في عالمنا، وتزيد أبعادنا بعدًا واحدًا عن أبعاد الأرض المسطحة في وجود النسبية أو عدمه، فما زلنا نملك ثلاثة أبعاد مكانية في مقابل بعديهم، وسكان الأرض المسطحة مخلوقات مرهفة الحواس، يكدرهم ما يكدرنا، وتتحرك مشاعرهم لما تتحرك له مشاعرنا، قد تكون أجسادهم مسطحة، لكن شخصياتهم متكاملة، إنهم أشباهنا؛ إخوتنا، إننا نمرح معهم في الأرض المسطحة، ثم نفيق فجأة في مرحنا لنجد أننا نعيد النظر إلى عالمنا الذي يسير على وتيرة واحدة، وقد اتسعت أعيننا في دهشة؛ دهشة الشباب. نستطيع أن نفر من السجن ثنائي الأبعاد في الأرض المسطحة بأن ننتقل لحظة إلى البعد الثالث ثم نعود على الجانب الآخر من سور السجن، وهذا لأنه بعد مكاني، أما بعدنا الرابع — الزمن — فلا يتيح لنا الهرب من السجن ثلاثي الأبعاد، مع أنه بُعد حقيقي، لكنه يسمح لنا بالخروج من السجن، لأننا إذا انتظرنا بصبر مرور الزمن، فستنتهي مدة عقوبتنا، وننال حريتنا، غير أن هذا لا يعد هربًا، فإذا أردنا الهرب، فعلينا أن نسافر عبر الزمن إلى لحظة تكون أبواب السجن عندها مفتوحة على مصراعيها، أو مهدمة، أو لم تبن بعد، وعندئذ — بعد أن نخطو خارج الأبواب — علينا أن نعود أدراجنا عبر الزمن إلى الحاضر، لكننا لا نستطيع — ولا يستطيع سكان الأرض المسطحة — السفر بهذه الطريقة عبر الزمن. تمر السنوات حافلة بالأحداث، ولا تزال هذه الرواية التي شارفت على السبعين عامًا لم يدركها الهرم بعد، بل ما زالت حية كما كانت دائمًا، تحفة خالدة لا ينضب سحرها تبدو كأنما كتبت لعالم اليوم، إنها — مثل كل فن رفيع — تتحدى الزمن الطاغية.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/0.2/
مقدمة المحرر للطبعة الثانية المنقحة ١٨٨٤
لو أن صديقي المسكين من فلاتلاند (الكون ثنائي الأبعاد: الأرض المسطحة) احتفظ بالطاقة الذهنية التي كان يتمتع بها عندما بدأ كتابة هذه المذكرات لما كنت الآن بحاجة لأن أتحدث بلسانه في هذه المقدمة التي يود من خلالها: أولًا أن يشكر قرَّاءه وناقديه في سبيسلاند (الكون ثلاثي الأبعاد) الذين كان تقديرهم سببًا لإصدار طبعة ثانية من هذا العمل بسرعة لم تكن متوقعة، وثانيًا أن يعتذر عن بعض الأغلاط والأخطاء المطبعية (التي لا يعد مع ذلك مسئولًا عنها بالكامل)، وثالثًا أن يفسر بضعة اعتقادات خاطئة. لكنه لم يعد كسابق عهده، فقد اجتمعت عليه أعوام السجن ووهن الشيخوخة وأعباء السخرية والتكذيب اللذين غالبًا ما يلقاهما؛ فمحت من ذهنه كثيرًا من الأفكار والمفاهيم بالإضافة إلى كثير من المصطلحات التي اكتسبها في زيارته القصيرة لسبيسلاند، ولذلك فقد أنابني عنه في الرد على اعتراضين بعينهما، أحدهما ذو طبيعة فكرية والآخر ذو طبيعة أخلاقية. الاعتراض الأول هو أن سكان الأرض المسطحة عندما ينظرون إلى خط فإنهم يرون شيئًا لا بد أن يكون له سُمك بالإضافة إلى الطول (وإلا ما رأته أعينهم إذا لم يكن سميكًا بعض الشيء)، ومن ثم يجب عليه (يزعمون ذلك) أن يقر بأن أهل بلاده ليس لهم فقط طول وعرض وإنما أيضًا (مع أنها حقيقة شبه مؤكدة) سُمك أو ارتفاع. وهو اعتراض منطقي، وقد يراه سكان سبيسلاند اعتراضًا لا يدحض، حتى إنني أعترف بأنني لم أجد عليه ردًّا عندما سمعته أول مرة، ولكن رد صديقي يقدم إجابة شافية. يبدو لي رد المربع على هذه النقطة مفحمًا، وكم كنت أتمنى أن يكون رده على الاعتراض الثاني (الأخلاقي) واضحًا ودامغًا بالمثل، فقد أثيرت مزاعم أنه مبغض للنساء، وأيَّد هذه المزاعم أولئك اللاتي قضت الطبيعة أن يشكلن النصف الأكبر إلى حد ما من سكان سبيسلاند، وأود قدر استطاعتي أن أدحض هذا الزعم، لكن المربع لم يألف استخدام المصطلحات الأخلاقية لسبيسلاند، ولن أنصفه إذا نقلت حرفيًّا دفاعه عن هذه التهمة، ولذا سأتولى شرح وتلخيص ما قال، وأعتقد أنه في خلال سبع سنوات من السجن قد تغيرت آراؤه سواء فيما يتعلق بالنساء أو فيما يتعلق بالمثلثات متساوية الساقين (أو الطبقات الدنيا)، وهو الآن يميل إلى ما يراه الكرة من أن الخطوط المستقيمة تفوق الدوائر في عديد من الجوانب الهامة، لكنه كمؤرخ ارتبط (ربما أكثر من اللازم) بالآراء السائدة في الأرض المسطحة وفي سبيسلاند (كما قيل له)، وكان المؤرخون (حتى وقت قريب جدًّا) يرون في كتاباتهم أن أحوال النساء — وأحوال السواد الأعظم من البشر — نادرًا ما تستحق الذكر، ولا تستحق بالمرة بحثًا متعمقًا. وفي فقرة أشد غموضًا يعرب الآن عن رغبته في أن يتبرأ من الميل لطبقة الكهنة والميول الأرستقراطية التي ألصقها به بطبيعة الحال بعض النقاد. يعترف الكاتب بالطاقة الذهنية التي حفظت لقلة من الكهنة — طيلة أجيال عديدة — سيطرتهم على أعداد هائلة من أهل بلادهم، ويقدر الكاتب هذه الطاقة الذهنية حق قدرها، لكنه يرى أن الوقائع في الأرض المسطحة تتحدث عن نفسها دون حاجة إلى تعقيب من جانبه، وتؤكد أن الثورات لا يمكن دائمًا إخمادها بالمذابح، وأن الطبيعة عندما حكمت على الكهنة بالعقم، حكمت عليهم بالفشل آخر الأمر، ويقول: «وأرى في هذا سيرًا على الناموس الأعظم لجميع الأكوان؛ ففي حين يرى الإنسان أن حكمته تسير به في طريق ما، ترغمه حكمة الطبيعة على أن يسلك طريقًا آخر، يختلف تمامًا عن الأول لكنه أفضل كثيرًا.» وفي بقية حديثه يرجو الكاتب قراءه ألا يظنوا أن كل التفاصيل الدقيقة في الحياة اليومية في الأرض المسطحة لا بد أن يكون لها ما يناظرها من التفاصيل في سبيسلاند، ويأمل أن يكون عمله في مجمله ملهمًا ومسليًّا لأصحاب القدرات الذهنية المتوسطة والمتواضعة من أهل سبيسلاند، الذين يرفضون — عندما يتحدثون عما يقع خارج حدود خبراتهم من الأمور الهامة — أن يقولوا: «هذا أمر مستحيل» أو «لا بد أن الأمر على هذا النحو، ونحن محيطون به تمامًا.»
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/1/
طبيعة الأرض المسطحة
إنني أطلق على عالمنا اسم الأرض المسطحة (فلاتلاند)، وليس السبب في ذلك أننا نسميه بهذا الاسم، وإنما أردت أن أُقرِّب طبيعة هذا العالم إلى أذهانكم أيها القراء الذين أسعدهم الحظ بالحياة في العالم ثلاثي الأبعاد. تخيلوا صحيفة شاسعة من الورق عليها خطوط مستقيمة ومثلثات ومربعات وأشكال خماسية وسداسية، وغير ذلك من الأشكال الهندسية التي تتحرك هنا وهناك بحرية تامة بدلًا من أن تظل ثابتة في مكانها، وهي تتحرك على السطح أو داخله دون أن تكون لها القدرة على أن ترتفع فوقه أو تهبط أسفل منه، شأنها في ذلك شأن الظلال، ولكنها تبدو ذات كتلة وتشع حوافها ضوءًا. تخيلوا ذلك وسوف ترتسم في أذهانكم صورة أقرب إلى الواقع تصف بلادي وسكانها، وا أسفاه كنت قبل أعوام قليلة أستطيع أن أقول «كَوْني»، ولكن عقلي الآن قد تفتح فأدركت ما لم أكن أدركه من قبل. في بلد كذلك ستدركون على الفور استحالة أن تجدوا شيئًا يجوز وصفه بأنه «مجسم». لعلكم تحسبون أننا نستطيع على الأقل أن نميز بالنظر بين المثلثات والمربعات وباقي الأشكال التي تتحرك هنا وهناك كما ذكرت لكم، ولكن الواقع أننا لا نرى شيئًا من ذلك على الإطلاق، لا نرى ما يكفي على الأقل لتمييز أحد الأشكال عن الآخر، إننا لا نبصر — وليس بمقدورنا أن نبصر — شيئًا عدا الخطوط المستقيمة، وسوف أوضح لكم بعد قليل سبب ذلك. ضع عملة معدنية على سطح منضدة من مناضد عالمكم ثلاثي الأبعاد ثم انظر إليها من أعلى، ستبدو لك دائرية الشكل. والآن تراجع إلى حافة المنضدة واهبط بعينيك شيئًا فشيئًا (حتى تضع نفسك تدريجيًّا في وضع سكان الأرض المسطحة) وستجد أن العملة تتخذ شكلًا بيضاويًّا، وفي النهاية عندما تصبح عيناك في مستوى المنضدة تمامًا (كما لو كنت — إذا جاز التعبير — من سكان الأرض المسطحة) سيختفي الشكل البيضاوي بالكامل ولن ترى إلا خطًّا مستقيمًا. وسيتكرر الأمر في حالة المثلثات والمربعات وغيرها من الأشكال الهندسية المصنوعة من الورق المقوى، فما إن تنظر إليها وعيناك في مستوى المنضدة فلن تبدو لك أشكالًا هندسية وإنما ستراها خطوطًا مستقيمة. تخيل على سبيل المثال مثلثًا متساوي الأضلاع — وهو عندنا تاجر من طبقة رفيعة الشأن، يوضح الشكل الأول (١) صورة التاجر كما ستراها عندما تنظر إليه من أعلى، ويوضح الشكلان الثاني والثالث صورته كما ستراها عندما تدنو بعينيك من مستوى المنضدة أو تصبح في مستواها تقريبًا، أمَّا إذا صارت عيناك في مستوى المنضدة تمامًا فلن تراه إلا خطًّا مستقيمًا، وهكذا نراه في الأرض المسطحة. عندما كنت في زيارة إلى سبيسلاند (العالم ثلاثي الأبعاد) سمعت أن البحارة هناك يمرون بتجربة مماثلة عندما يكونون في عرض البحر ويلوح لهم في الأفق شاطئ أو جزيرة، قد يكون في تلك الأرض النائية خلجان وألسنة من اليابسة تمتد في البحر وأعداد لا حصر لها من شباك الصيد تهبط إلى مياه البحر أو تخرج منها، ولكن الناظر من مسافة بعيدة لن يرى من كل ذلك شيئًا (إلا إذا كانت شمس أرضكم ساطعة فيكشف الضوء والظل معالم تلك المرئيات)، كل ما سيتراءى لعيني الناظر هو خط رمادي متصل فوق سطح البحر. هذا هو ما يبدو لنا تمامًا عندما يقبل علينا واحد من أصدقائنا مثلثي الشكل أو غيرهم في الأرض المسطحة، فليس لدينا شمس أو أي مصدر مماثل للضوء يحدث ظلالًا، ولذا لا تتوافر لنا أي من الوسائل المساعدة على الإبصار المتاحة لكم في سبيسلاند، وإذا دنا منا صديقنا صار خطه أكبر، وإذا نأى عنا صار أصغر، ولكننا نراه خطًّا سواء كان مثلثًا أو مربعًا أو مخمسًا أو مسدسًا أو دائرة أو ما شئت من الأشكال الهندسية، لن يظهر إلا خطًّا مستقيمًا. ربما تتساءلون كيف يتسنى لنا في ظل هذه الظروف أن نميز أصدقاءنا بعضهم من بعض، والإجابة عن هذا السؤال البديهي ستأتي بسهولة في الوقت المناسب عندما أصف لكم سكان الأرض المسطحة، ولكن دعوني أُرجئ الحديث عن هذا الأمر في الوقت الحالي، وأحدثكم حديثًا موجزًا عن المناخ والمنازل في بلادنا.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/2/
المناخ والمنازل في الأرض المسطحة
إن للبوصلة عندنا مثلما لها عندكم أربعة اتجاهات: الشمال والجنوب والشرق والغرب. لكننا لا نستطيع أن نحدد اتجاه الشمال بالأسلوب المعتاد، إذ ليس لدينا شموس أو غيرها من الأجرام السماوية، ولنا في ذلك طريقة خاصة، فإن من ثوابت الطبيعة عندنا أن هناك قوة تجذب الأجسام دائمًا نحو الجنوب، وتكون هذه الجاذبية واهية جدًّا في الأحوال الجوية المعتدلة حتى إن امرأة ذات قوة جسمانية عادية تستطيع أن تقطع رحلة طولها عدة أميال باتجاه الشمال دونما عنت، ومع ذلك فإن المقاومة الناشئة عن قوة الجذب نحو الجنوب تصلح تمامًا لاستخدامها كبوصلة لتحديد الاتجاهات في معظم أنحاء أرضنا. ومن ناحية أخرى تُعد الأمطار عاملًا مساعدًا في تحديد الاتجاهات لأنها تسقط على فترات محددة وتأتي دائمًا من الشمال، وداخل المدن تساعدنا البيوت على تحديد الاتجاهات إذ إن جدرانها الجانبية تواجه في أغلب الأحوال اتجاهي الشمال والجنوب حتى تصد أسقفها الأمطار الآتية من الشمال، أما في الريف — حيث لا توجد أبنية — فإن جذوع الأشجار تساعدنا نوعًا ما في تحديد الاتجاهات. وأقول إجمالًا إننا لا نواجه صعوبة كبيرة — كما يحسب البعض — في تحديد اتجاهاتنا. على أننا في المناطق التي يميل طقسها إلى الاعتدال لا نكاد نستشعر أثر الجاذبية نحو الجنوب، وعندما كنت أسير أحيانًا في السهول المقفرة — حيث لا توجد أشجار أو بيوت أهتدي بها إلى الاتجاه — كنت أضطر من آن لآخر ألا أبرح مكاني لساعات متصلة منتظرًا سقوط المطر حتى يتسنى لي أن أواصل رحلتي. تؤثر الجاذبية بقوة على الضعفاء والمسنين — ولاسيما على ضعاف النساء — أكثر مما تؤثر على الذكور الأقوياء، ولذلك فإن من دلائل الخلق الرفيع عندما تلقى امرأة في الطريق أن تفسح لها دائمًا الجانب الشمالي من الطريق — وهو أمر لا يسهل عليك دائمًا القيام به في لمح البصر إذا كنت بصحة جيدة وفي مناخ يتعذر عليك فيه أن تميز الشمال من الجنوب. ليس لمنازلنا نوافذ، فالضوء يسطع داخل بيوتنا وخارجها على السواء، ليلًا ونهارًا، في كل مكان، ولا ندري من أين يأتي، كانت تلك قديمًا مسألة مثيرة طالما بحثها علماؤنا: «ما هو مصدر الضوء؟»، وجرت محاولات عدة للإجابة عن هذا السؤال لم تثمر إلا عن امتلاء مصحاتنا العقلية بمن حسبوا أنهم قادرون على حل اللغز، وقد فرض المجلس التشريعي ضرائب باهظة على هذا النوع من الأبحاث في محاولة للحد منها بطريقة غير مباشرة، ثم قرر أخيرًا — بعد الفشل الذي منيت به هذه المحاولات — أن يفرض عليها حظرًا كاملًا. وللأسف فأنا الوحيد من سكان الأرض المسطحة الذي يعرف الآن الحل الصحيح لهذا اللغز الغامض، ولكنني لا أستطيع أن أنقل هذه المعرفة ولو لواحد من أبناء وطني، فهم يسخرون مني، أنا الذي أنفرد بامتلاك الحقائق عن العالم ثلاثي الأبعاد وعن نظرية وصول الضوء منه، يسخرون مني كما لو كنت أكثر المجانين خبالًا في هذا العالم. ولكن لندع جانبًا هذه الخواطر المؤلمة ولنعد للحديث عن منازلنا. ولا يسمح ببناء منازل على شكل مربعات أو مثلثات، ذلك لأن زوايا المربعات والمثلثات ذات رؤوس حادة بالمقارنة بزوايا الشكل الخماسي، ولما كانت الحدود الخارجية للجمادات (ومنها المنازل) أخفت بريقًا من الحدود الخارجية للرجال والنساء فهناك خطر لا يستهان به في أن تتسبب رؤوس المنازل المربعة والمثلثة في إصابات خطيرة لمسافر أرعن أو شارد الذهن إذا اصطدم بها فجأة، ولذلك فمنذ القرن الحادي عشر من تاريخنا كان بناء المنازل المثلثة محظورًا بحكم القانون في جميع أنحاء عالمنا، ولم يكن يُستثنى من ذلك غير الحصون ومخازن الذخيرة والثكنات العسكرية وغير ذلك من منشآت الدولة التي ينبغي ألا يقترب منها العامة دون احتراز. وفي ذلك الزمن كان يسمح ببناء المنازل المربعة ولكن كانت تفرض عليها ضريبة خاصة لإثناء الناس عن بنائها، غير أن قانونًا صدر بعد ذلك بثلاثة قرون ينص على أن زاوية الشكل الخماسي هي أصغر زاوية في تصميم المنازل تتفق مع أمن وسلامة المواطنين في جميع المدن التي يزيد عدد سكانها عن عشرة آلاف نسمة. وقد ساند وعي المواطنين وحسن تقديرهم جهود المشرِّعين، والآن — حتى في المناطق الريفية — حلت المباني الخماسية محل الأشكال الأخرى من المباني، ويندر أن يعثر واحد من هواة الآثار القديمة على منزل مربع إلا من حين إلى آخر في المناطق الزراعية المتخلفة النائية.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/3/
سكان الأرض المسطحة
يقدر طول وعرض الفرد البالغ في الأرض المسطحة بنحو إحدى عشرة بوصة بقياساتكم، ولا يتجاوز اثنتي عشرة بوصة. والنساء في الأرض المسطحة خطوط مستقيمة. أما الجنود والطبقة الدنيا من العمال فيكونون من المثلثات متساوية الساقين التي يبلغ طول أحد ضلعيها المتساويين نحو إحدى عشرة بوصة، ولا يتجاوز طول الضلع الثالث (قاعدة المثلث) في معظم الأحوال نصف بوصة، ولذا تتكون عند رؤوس هذه المثلثات زوايا حادة شديدة الخطورة. والواقع أننا لا نكاد نميز هذه المثلثات عن الخطوط المستقيمة (أو النساء) عندما لا تزيد أطوال قواعدها عن جزء من ثمانية أجزاء من البوصة وتكون رؤوسها مدببة، ونسمي هذه المثلثات — كما تسمونها عندكم — مثلثات متساوية الساقين، وسوف أطلق عليها هذا الاسم في الصفحات القادمة. وتتكون الطبقة الوسطى عندنا من المثلثات متساوية الأضلاع. أما أصحاب المهن والأغنياء فهم من المربعات (وهي الطبقة التي أنتمي إليها) والمخمسات. وفوق هذه الطبقة تأتي طبقة النبلاء، وتشمل عدة درجات أدناها هي الأشكال السداسية ثم ترتفع المرتبة بازدياد عدد الأضلاع حتى نصل إلى لقب «عديد الأضلاع» وهي مرتبة رفيعة، وأخيرًا عندما يزداد عدد الأضلاع زيادة كبيرة ويقل طولها حتى يصبح من العسير تمييز المضلع عن الدائرة ينضم المضلع إلى جماعة الدوائر أو الكهنة وهي أرقى الطبقات على الإطلاق. إن من قوانين الطبيعة عندنا أن يزيد المولود الذكر عن أبيه ضلعًا، ولذلك فإن كل جيل يرتقي (عادةً) في سلم التطور والنبالة درجة عن سابقه، وهكذا ينجب المربع مخمسًا والمخمس مسدسًا وما إلى ذلك. غير أن هذه القاعدة لا تسري دائمًا على التجار، ونادرًا ما تسري على الجنود والعمال الذين لا يكادون يستحقون أن يُدعوا «أشكالًا» بشرية لأن أضلاعهم غير متساوية، ولذا لا ينطبق عليهم قانون الطبيعة؛ فيأتي نسل المثلث متساوي الساقين مثلثًا متساوي الساقين، ولكن ليس من المستحيل — حتى بالنسبة للمثلثات متساوية الساقين — أن ترتقي ذريتهم في النهاية على وضعهم المتدني، حيث إنه بعد سلسلة طويلة من النجاحات العسكرية المتتالية والمهارة والجدية في العمل نجد أن الأذكياء من طبقة الحرفيين والجنود تظهر عليهم زيادة طفيفة في طول الضلع الثالث (قاعدة المثلث) ونقص في طول الضلعين الآخرين. والزواج بين أبناء وبنات تلك الفئة الأرقى فكريًّا من بين الطبقات الدنيا ينظمه الكهنة، وغالبًا ما يثمر هذا الزواج ذرية أقرب إلى نموذج المثلث متساوي الأضلاع. وولادة مثلث حقيقي متساوي الأضلاع من آباء متساويي السيقان هو حدث من الأحداث السعيدة في بلادنا التي يحتفل بها الناس في دائرة قطرها عدة أميال. وبعد فحص دقيق يجريه مجلس الشئون الصحية والاجتماعية يسمح للطفل — إذا كان حاصلًا على شهادة رسمية بأنه منتظم الأضلاع — بالانضمام في طقوس مهيبة إلى طبقة الأشكال منتظمة الأضلاع، ويأخذونه على الفور من أبويه اللذين تتنازعهما مشاعر الفخر به والحزن لفراقه، ويتبناه أحد المضلعات المنتظمة التي لم ترزق بذرية، ويتعهد بألا يسمح للطفل منذ ذلك الحين بزيارة بيته السابق أو حتى إلقاء نظرة على أقربائه مرة ثانية، خشية أن يرتد — بفعل المحاكاة غير الواعية — إلى مستواه الموروث وهو لم يزل بَعدُ حديث عهد بالتطور. إن صعود أحد المضلعات المنتظمة من آن لآخر من بين أسلافه الرقيق حدثٌ يتلقاه المجتمع بالترحاب، ليس فقط مجتمع الرقيق الفقراء الذين يرون في هذا الحدث شعاعًا من النور والأمل يبدد بؤس حياتهم القاتل، وإنما أيضًا مجتمع الأرستقراطيين بصورة عامة، إذ أنهم يعون جيدًا أن تلك الفلتات النادرة تلعب دورًا كبيرًا في كبح ثورة الطبقات الدنيا، ولا تكاد تنتقص من امتيازاتهم الخاصة شيئًا في الوقت نفسه. فهب أن الرعاع ذوي الزوايا الحادة كانوا جميعًا بلا أمل أو طموح على الإطلاق، أما كان من المحتمل أن يجدوا في بعض ثوراتهم زعماء لهم من البراعة ما يجعلهم يتغلبون بتفوقهم العددي وقوتهم حتى على حكمة الكهنة من الدوائر؟ ولكن قانون الطبيعة الحكيم قضى بأنه كلما ازداد ذكاء الطبقات العاملة وارتقت معرفتهم وأخلاقهم، مالت زواياهم الحادة (التي تعطيهم تفوقًا في القوة الجسدية) إلى الانفراج بنفس الدرجة حتى تدنو من زاوية المثلث منتظم الأضلاع التي تعد غير مؤذية نسبيًّا، ولذا نجد أن أشد الجنود مَنْعة وبأسًا — وهم أشبه ما يكونون بالنساء في افتقارهم إلى الذكاء — كلما زادت قدراتهم الذهنية التي يحتاجونها لاستغلال قدرتهم الهائلة على الاختراق، تضاءلت لديهم قدرة الاختراق ذاتها. كم هو رائع قانون التوازن هذا، وهو برهان مثالي على التكيف مع الطبيعة، بل أظنه دليلًا على الأصل السماوي للدستور الأرستقراطي للدول في الأرض المسطحة. والاستغلال الحكيم لهذا القانون الطبيعي كثيرًا ما يمنح الدوائر والأشكال عديدة الأضلاع القدرة على قمع الفتنة في مهدها باللعب على أوتار الطموح البشري الجامح الذي لا يعرف حدودًا، فقد يصير العلم أيضًا أداة في يد السلطة، يستطيع أطباء الدولة — باستخدام عمليات الإطالة والتقصير — أن يجعلوا بعضًا من زعماء الثورات الذين يتفوقون على غيرهم في الذكاء متنظمي الأضلاع تمامًا، وهكذا يُسمح لهم على الفور بالانضمام إلى الطبقة الأرستقراطية، ويغري ذلك عددًا كبيرًا ممن لم يرتقوا بعدُ إلى مستوى الذكاء المطلوب، ويراودهم حلم الانضمام إلى طبقة النبلاء، فيدفعهم إلى التوجه إلى مستشفيات الدولة حيث تُحدَّد إقامتهم مدى الحياة، ولا ينفذ حكم الإعدام إلا في واحد أو اثنين من المعاندين الحمقى الذين لا أمل في انتظام أضلاعهم. ويبقى الرعاع البؤساء من المثلثات متساوية الساقين لا تنتظمهم خطة ولا يتقدمهم زعيم، فإما أن يكون مصيرهم السقوط دون مقاومة أمام فرقة من إخوانهم يحتفظ بها الكاهن الأكبر لمواجهة الأزمات المشابهة، أو ينتهي بهم الأمر إلى الانهيار الداخلي بفعل الأحقاد والشكوك التي تتفنن جماعة الكهنة في إثارتها بين صفوفهم، فيقتتلون فيما بينهم ويهلكون أنفسهم بأيديهم. يسجل تاريخنا ما لا يقل عن مائة وعشرين محاولة للتمرد إلى جانب الانتفاضات الصغرى التي يصل عددها إلى مائتين وخمسة وثلاثين، وقد آلت كلها إلى نفس المصير.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/4/
المرأة في الأرض المسطحة
لو أن طبقة الجنود مثلثي الشكل كائنات منيعة، فمن البديهي أن تكون نساؤنا أشد منعة إلى حد بعيد، فلو كان الجندي عندنا يشبه الوتد، فالمرأة تشبه الإبرة، كلها — إذا جاز لنا القول — طرف مدبب، على الأقل عند طرفيها. أضف إلى ذلك قدرتها على أن تختفي عن الأنظار عندما ترغب في ذلك، وسوف تلمس أن الأنثى في الأرض المسطحة كائن لا يستهان به بحال من الأحوال. هنا قد يتساءل بعض القراء من الشباب عن الكيفية التي تستطيع بها المرأة في الأرض المسطحة أن تختفي عن الأنظار، وأظنه أمرًا واضحًا لا يحتاج إلى بيان، ومع ذلك فإن بضع كلمات ربما تفسر الأمر لمن لا يُعمِلون عقولهم. ضع إبرة على المنضدة، ثم انظر إليها من الجانبين على أن تكون عيناك في مستوى المنضدة، سترى عندئذ امتدادها بالكامل، ولكن إذا نظرت إليها من ناحية الطرفين فلن تراها إلا نقطة، وبذلك تختفي الإبرة تقريبًا عن الأنظار. هكذا يكون الأمر مع المرأة عندنا، فعندما ننظر إليها من الجانبين نراها خطًّا مستقيمًا، أما عندما نواجه الطرف الذي يضم الفم أو العين (والعضوان عندنا متطابقان) فلا نرى إلا نقطة شديدة التألق، وإذا واجهنا الطرف الخلفي للجسد لوجدنا أنه يعد بالنسبة لها نوعًا من طاقية الإخفاء؛ لأنه لا يشع ضوءًا كالطرف الأمامي بل يبدو خافتًا تقريبًا كالجمادات. لعلني الآن قد بَيَّنت — حتى لأقل الأفراد ذكاء في سبيسلاند — المخاطر التي نتعرض لها من نسائنا، فلو كانت زاوية أي مثلث من الطبقة الوسطى لا تخلو من خطر، ولو أن الاصطدام بواحد من الطبقة العاملة يسبب جرحًا غائرًا، والاصطدام بواحد من ضباط الجيش يؤدي لا محالة إلى جروح خطيرة، ومجرد لمسة من الطرف المدبب لأحد الجنود تنطوي على خطر الموت، فماذا تكون عاقبة الاصطدام بالمرأة إلا الهلاك المحقق في الحال؟ وعندما تكون المرأة خفية عن الأنظار، أو نقطة خافتة الضوء، فكم سيكون عسيرًا — حتى على أكثرنا يقظة وحرصًا — أن يتجنب الاصطدام بها. لا يجوز لامرأة أن تسير في الأماكن العامة دون إطلاق صيحة السلام باستمرار وإلا تعرضت لعقوبة الإعدام. تُعدَم في الحال أي امرأة تثبت إصابتها بمرض الرَّقاص العصبي أو النوبات العصبية أو نزلات البرد المزمنة المصحوبة بعطس شديد، أو أي مرض آخر يؤدي إلى حركات لاإرادية. وهناك في بعض الدول قانون إضافي يمنع المرأة من السير أو الوقوف في الأماكن العامة دون أن تحرك الطرف الخلفي بشكل مستمر من اليمين إلى اليسار لإظهار وجودها لمن خلفها، وغير ذلك من القوانين التي تجبر المرأة أثناء السفر على أن يتبعها أحد أبنائها أو خدمها من الذكور أو زوجها، أو تجبرها على التزام بيتها إلا أثناء الأعياد الدينية. ولكن كبار حكمائنا من الكهنة ورجال الدولة رأوا أن زيادة القيود المفروضة على المرأة لا تؤدي إلى إضعاف وتقليل السلالة فحسب، وإنما تؤدي أيضًا إلى زيادة كبيرة في جرائم القتل العائلي، حتى إن خسائر الدولة من وراء تلك القوانين المغالية في المحظورات تفوق مكاسبها. فالمرأة كلما انتابتها مشاعر السخط من جراء حبسها بالمنزل، أو من القوانين التي تعوق حركتها خارج بيتها، زاد ميلها إلى التنفيس عن غضبها المكبوت في زوجها وأبنائها، وقد حدث في بعض المناطق — التي لا تتسم باعتدال المناخ — أن أبيدت جماعة الذكور بكاملها في إحدى القرى في ساعة أو ساعتين أثناء ثورة متزامنة للنساء، ومن ثم فالقوانين الثلاثة سالفة الذكر تفي بالغرض في الدول الأفضل من الناحية التنظيمية، وتُعَد بالإضافة إلى ذلك نموذجًا تقريبيًّا للقوانين الخاصة بالمرأة في عالمنا. ونجد في النهاية أن القوانين التي تسنها المجالس التشريعية ليست هي ما يحمينا من النساء، بل مصالح النساء أنفسهن، لأنه على الرغم من استطاعتهن القتل الفوري بواسطة الحركة إلى الخلف، فقد تتهشم أجسادهن الضعيفة إن لم يستطعن تحرير أطرافهن القاتلة من أجساد الضحايا في الحال. وتقف مسايرة العادات السائدة أيضًا إلى جانبنا، فقد أشرت إلى أنه في بعض الدول الأقل تحضرًا لا يسمح للمرأة بالوقوف في الأماكن العامة دون أن تحرك الطرف الخلفي من الجسد من اليمين إلى اليسار. وكانت هذه منذ بداية تاريخنا من العادات الشائعة بين النساء اللاتي يزعمن الأصل الطيب في جميع الدول التي تتمتع بنظام حكم جيد، ويعد خزيًا لأي دولة أن تضطر لأن تفرض بقوة القانون ما ينبغي أن يكون غريزة فطرية في كل أنثى جديرة بالاحترام. الحركة الموجية الإيقاعية — إذا جاز التعبير — للطرف الخلفي من الجسد في سيدات طبقة الدوائر عندنا أمر تحسدهن عليه وتقلده زوجات المثلثات متساوية الأضلاع اللاتي لا يستطعن إلا القيام بأرجحة رتيبة كحركة البندول، وبالمثل تثير حركة نساء المثلثات متساوية الأضلاع بدورها إعجاب زوجات المثلثات متساوية الساقين اللاتي تطمحن إلى الرقي فيقلدنها، مع أن الحركة الخلفية في نساء هذه الطبقة لم تصبح حتى الآن ضرورة من ضرورات الحياة، ومن ثم ففي كل الأسر التي تحظى بالمكانة والشأن تنتشر «الحركة الخلفية» انتشارًا كبيرًا، ويتمتع الأزواج والذكور من الأبناء في هذه العائلات بالحماية، على الأقل ضد الهجمات الخفية. ولا يظنَّن أحدكم أن نساءنا بلا عاطفة على الإطلاق، ولكنهن مع الأسف يخضعن للانفعالات اللحظية ويضعنها فوق كل اعتبار، وهذه بطبيعة الحال ضرورة تنبع من تكوينهن البائس، فليست لهن أي زوايا على الإطلاق، وهن في هذا الصدد أقل شأنًا من أدنى المثلثات متساوية الساقين منزلة، وهن لذلك محرومات تمامًا من نعمة الذكاء، ولا يملكن الفكر ولا رجاحة العقل ولا البصيرة، ولا يملكن إلا النزر اليسير من قوة الذاكرة، ولذلك فغضبتهن لا تعرف حدودًا، وقد عَرَفتُ حالة أبادت فيها امرأة أهل بيتها جميعًا، وبعد نصف ساعة، بعد أن هدأت سورة الغضب وبعد أن أزيلت الأشلاء، كانت تتساءل عما أصاب زوجها وأبناءها! من الواضح إذن أنه ينبغي أن نتجنب إثارة غضب المرأة ما دامت في موضع يتيح لها أن تستدير، وتُصمَّم غرف النساء بحيث لا تمكنهن من الاستدارة، وعندما تكون المرأة داخل غرفتها تستطيع أن توجه إليها ما شئت من قول أوفعل، فهي حينئذ تكون واهنة تمامًا تجاه ما يثير غضبها، ولن تتذكر بعد بضع دقائق ما دفعها في تلك اللحظة إلى تهديدك بالموت، ولن تتذكر الوعود التي ربما تكون قد اضطررت لأن تقطعها على نفسك من أجل تهدئة غضبها. وأقول إننا بوجه عام نتمتع بعلاقات عائلية هادئة، فيما عدا الفئات الدنيا من الطبقات العسكرية، ففيها يتسبب الافتقار إلى اللياقة والحكمة لدى الأزواج أحيانًا في كوارث تفوق الوصف، ولأنهم يعتمدون كثيرًا على أسلحتهم الهجومية المتمثلة في زواياهم الحادة بدلًا من قدراتهم الدفاعية المتمثلة في حسن التقدير والقدرة على التصنع عندما يستدعي الأمر، فكثيرًا ما يدفعهم طيشهم إلى تجاهل مواصفات البناء التي يحددها القانون في غرف النساء، أو إلى إثارة غضبهن في المناطق المكشوفة بعبارات لا تنم عن حسن التقدير ويرفضون أن يسارعوا إلى التراجع عنها، وفضلًا عن ذلك تمنعهم الفظاظة وتبلد المشاعر من قطع تلك الوعود السخية التي يستطيع بها الحكماء من الدوائر تهدئة غضب زوجاتهم في لحظات. والنتيجة مذبحة، ولا تخلو مع ذلك من نفع، لأنها تخلصنا من المثلثات متساوية الساقين الأكثر همجية وإزعاجًا، وينظر كثير من الدوائر عندنا إلى القدرة التدميرية للنساء على أنها واحدة من التدابير الإلهية للحد من الزيادة السكانية والقضاء على الثورة في المهد. ومع ذلك لا أستطيع القول إن مفهوم الحياة العائلية يحظى عند أفضل عائلاتنا من الأشكال منتظمة الأضلاع التي تقترب من الدوائر بنفس المكانة العالية التي يحظى بها عندكم في سبيسلاند، وهناك سلام — إذا استطعنا أن نسمي انعدام المذابح سلامًا — ولكنّ هناك حتمًا اختلافًا في الأذواق والميول، وقد قضت حكمة الكهنة الرصينة بضمان الأمن على حساب راحة الأسرة. في كل بيت من بيوت الدوائر أو الأشكال عديدة الأضلاع هناك عادة لا نعرف متى بدأت — وأصبحت الآن غريزة في نساء الطبقات العليا لدينا — وهي أنه ينبغي على الأمهات والبنات أن يواجهن أزواجهن وأصدقاء أزواجهن بالطرف الأمامي الذي يضم العين والفم، وعندما تدير سيدة من سيدات العائلات الراقية ظهرها لزوجها يعد ذلك نذيرًا من نذر الشر، وقد يفقدها مكانتها، ولكن — كما سأوضح لكم بعد قليل — مع أن هذه العادة تعطي ميزة الأمان، فإنها لا تخلو من مساوئ. في بيوت الرجال من طبقة العمال أو التجار المحترمين — حيث يسمح للمرأة أن تدير ظهرها لزوجها أثناء قيامها بأعمالها المنزلية — تكون هناك على الأقل فترات من الهدوء، لا يرى الرجل فيها زوجته ولا يسمع لها صوتًا، باستثناء الطنين المميز لصيحة السلام الدائمة، ولكن بيوت الطبقات الراقية كثيرًا ما تفتقر إلى السكينة، فرب الأسرة يواجه على الدوام فمها الثرثار وعينها الثاقبة شديدة البريق، ولا يزعجه الضوء بقدر ما يزعجه حديثها الذي لا يتوقف. وتكفي اللباقة والمهارة لتجنب لدغة المرأة ولكنهما لا تكفيان لصدها عن الكلام، ولما كانت الزوجة لا تجد ما يقال، ولا تجد وازعًا من الفطنة أو العقل أو الضمير يردها عن الكلام، فإن عددًا ليس بالقليل يؤكدون أنهم يفضلون التعرض لخطر الوخزة القاتلة من طرفها الصامت عن التعرض لصخب طرفها الآخر مع ما يوفره من الأمان. قد يبدو وضع النساء عندنا مزريًا يثير الشفقة، وهو كذلك بالفعل، فإن الذكر من المثلثات متساوية الساقين قد يتوقع بعض التطور في زاويته، ثم الارتقاء آخر الأمر بطبقته المتدنية بأسرها، في حين لا تستطيع المرأة أن تتطلع إلى تحقيق هذه الآمال، فما دامت قد ولدت امرأة فستبقى كذلك طيلة حياتها، هذا ما قضت به الطبيعة، ويبدو أن قوانين التطور تتوقف عن العمل في حالتها، ولا نملك مع ذلك إلا أن نبدي إعجابنا بحكمة الأقدار التي قضت بأنه ما دامت المرأة بلا أمل فستكون أيضًا بلا ذاكرة تستعيد بها — ولا بصيرة تتوقع بها — المآسي والإهانات التي تعد ضرورة من ضرورات حياتها وواحدة من أساسات تكوين الأرض المسطحة في الوقت نفسه.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/5/
الوسائل التي يتعرف بها أحدنا الآخر
أنتم الذين تتمتعون بنعمتي النور والظلال، أنتم الذين وُهبتم عينين، وأسعدكم الحظ بالتمتع بشتى الألوان، أنتم الذين تستطيعون حقًّا رؤية الزاوية، وتأمُّل المحيط الكامل للدائرة في عالمكم السعيد ذي الأبعاد الثلاثة، كيف أوضح لكم الصعوبة البالغة التي يواجهها أحدنا في الأرض المسطحة في التعرف على هيئة الآخر؟ هل تتذكرون ما أخبرتكم به من قبل؟ إن جميع الكائنات الحية والجمادات في الأرض المسطحة مهما اختلفت أشكالها تظهر لنا في صورة واحدة — أو هي تقريبًا واحدة — ألا وهي صورة الخط المستقيم، كيف نستطيع إذن التمييز بينها إذا كانت كلها تتخذ نفس الصورة؟ وتشمل إجابة هذا السؤال ثلاثة عناصر، فأول وسائل الإدراك هي حاسة السمع وهي أقوى عندنا كثيرًا مما هي عندكم، ونستطيع بها أن نميز أصوات أصدقائنا المقربين، ليس ذلك فحسب، بل إننا نستطيع أيضًا أن نميز بين الطبقات المختلفة — على الأقل الطبقات الثلاث الدنيا: المثلثات متساوية الأضلاع والمربعات والمخمسات — وأما المثلثات متساوية الساقين فأنا أسقطها من حساباتي، ولكن كلما صعدنا في درجات السلم الاجتماعي تزداد صعوبة استعمال حاسة السمع في التمييز، ويرجع ذلك لسببين: أولهما تشابه الأصوات، وثانيهما أن القدرة على تمييز الأصوات صفة من صفات العامة لا تتمتع بها الطبقة الراقية، بالإضافة إلى أنها وسيلة لا نستطيع أن نَرْكَن إليها إذا كان احتمال انتحال الشخصية قائمًا، فأعضاء الكلام تتطور بين أفراد الطبقات الاجتماعية الدنيا تطورًا يزيد على مثيله في أعضاء السمع، حتى إن المثلث متساوي الساقين يستطيع بكل سهولة أن يقلد صوت الأشكال عديدة الأضلاع، ويستطيع — بشيء من المران — أن يقلد صوت الكهنة أنفسهم، ولذلك نلجأ عادةً إلى وسيلة أخرى. يعد استخدام حاسة اللمس — بين النساء والطبقات الدنيا — الاختبار الأساسي للتعرف على الأشخاص بصورة عامة، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالتعرف على الطبقة التي ينتمي إليها الشخص لا هوية الشخص نفسه، وسوف أحدثكم بعد قليل عن الطبقات الراقية، وهكذا فإن «اللمس» عندنا يقوم مقام «التعارف» بين الطبقات العليا عندكم، «ائذن لي أن أسألك أن تتلمس صديقي السيد فلان وأن يتلمسك» لم تزل هذه العبارة القديمة هي المقدمة المعتادة التي يستخدمها الرجال من طبقة النبلاء في بلادنا في المناطق البعيدة عن المدن، على أنه في المدن وبين رجال الأعمال تحذف كلمات «وأن يلمسك» وتختصر الجملة إلى «ائذن لي أن أسألك أن تلمس صديقي السيد فلان»، ومن المفهوم بالطبع أن «اللمس» يفترض أن يكون متبادلًا. ومع هذا فلا يظنَّن القارئ أن عملية «اللمس» عندنا هي نفس العملية المرهقة التي كنتم ستعرفونها عندكم، أو أننا نحتاج إلى تحسس جميع أضلاع أي شخص من الأشخاص لنعرف إلى أي طبقة ينتمي، فقد علمتنا الخبرة والممارسة الطويلة — التي نبدؤها في المدارس ونواصلها في حياتنا اليومية — أن نميز على الفور باستخدام حاسة اللمس بين زوايا المثلث متساوي الأضلاع والمربع والمخمس، ولست بحاجة إلى أن أشير إلى أن الزوايا الحادة للمثلثات متساوية الساقين يسهل تمييزها حتى بلمسة بسيطة، وهكذا لا يحتاج الأمر عادة للمس ما يزيد عن زاوية واحدة من الشخص، وعندما نتحقق من هذه الزاوية نعرف الطبقة التي ينتمي إليها الشخص الذي نخاطبه، إلا إذا كان ينتمي إلى الشرائح العليا من طبقة النبلاء، فهنا يكون الأمر غاية في الصعوبة، حتى إن أستاذًا في الآداب في جامعة وينتبريدج عندنا كان كثيرًا ما يخلط بين المضلعات ذات العشرة الأضلاع والمضلعات ذات الاثني عشر ضلعًا، ونادرًا ما تجد أستاذًا في العلوم داخل أو خارج هذه الجامعة المشهورة يزعم أنه يستطيع أن يميز على الفور ودون تردد بين المضلعات ذات العشرين ضلعًا والمضلعات ذات الأربعة والعشرين ضلعًا التي تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية. إن من يتذكر من القراء المقتطفات التي أوردتها آنفًا من القانون الخاص بالنساء سوف يدرك بسهولة أن مسألة التعريف بالأشخاص عن طريق اللمس مسألة تحتاج إلى شيء من الحرص والحذر، وإلا تسببت الزوايا في إلحاق إصابات يتعذر علاجها بمن يغفل عن هذا الخطر، ويجب — من أجل سلامة اللامس — أن يقف الملموس دون حراك، فإذا أجفل أو تململ في موضعه أو حتى عطس عطسة شديدة، فربما يتسبب عدم توخي الحذر في تعرضه للهلاك، وقد يؤدي ذلك إلى القضاء على الكثير من الصداقات الواعدة في المهد، ولاسيما بين الطبقات الدنيا من المثلثات، فإن عيونهم تقع بعيدًا جدًّا عن رؤوس مثلثاتهم حتى إنهم لا يكادون يلاحظون ما يجري في هذا الطرف القصي من أجسادهم، أضف إلى ذلك أن لهم طبيعة فظة خشنة لا تتمتع بالحساسية للمسة الرقيقة للمضلعات المنتظمة عديدة الأضلاع، فليس بمستغرب إذن أن تتسبب هزة رأس غير مقصودة في حرمان الدولة من إحدى الشخصيات المهمة! كان جدي شخصًا رائعًا، وكان مع انتمائه لطبقة المثلثات متساوية الساقين البائسة واحدًا من أقل أفرادها اختلافًا في الأضلاع، وقد نال بالفعل قبل موته بمدة قصيرة أربعة من بين سبعة أصوات في مجلس الشئون الصحية والاجتماعية لضمه لطبقة المثلثات متساوية الأضلاع، سمعتُ أنه كان يذكر بأسى، والدموع في عينيه، حادثةً من هذا النوع حدثت لجده الرابع الذي كان رجلًا وقورًا من طبقة العمال له زاوية (أو عقلية) قياسها تسع وخمسون درجة وثلاثون جزءًا من الدرجة، ووفقًا لما رواه جدي فإن هذا الرجل — الذي كان لسوء الحظ من أسلافي — كان مصابًا بالتهاب المفاصل، وذات مرة كان أحد الأشكال عديدة الأضلاع يلمسه، وتحرك جدي حركة مفاجئة فطعن الرجل العظيم دون قصد طعنة نافذة، وبذلك تراجعت عائلتنا درجة ونصف الدرجة في طريقها نحو التطور، بسبب الحبس والمهانة التي لحقت بها لمدة طويلة من ناحية، وبسبب الإحباط المعنوي الذي أصاب كل أقارب جدي من ناحية أخرى، وكانت عاقبة ذلك أنه في الجيل التالي سجل عقل عائلتنا ٥٨ درجة فقط، ولم تستعد العائلة مكانتها المفقودة إلا بعد مرور خمسة أجيال، فأصبحت زاويتها ٦٠ درجة كاملة، وتم لها التطور من طبقة المثلثات متساوية الساقين، وكل تلك المصائب المتعاقبة من جراء حادثة واحدة صغيرة أثناء عملية اللمس. أظن أنني أسمع الآن بعضًا من القراء الذين أصابوا حظًّا من التعليم يهتفون: «كيف يتأتَّى لكم في الأرض المسطحة أن تعرفوا أي شيء عن الزوايا أو الدرجات أو الأجزاء من الدرجات؟ إننا نرى الزوايا لأننا في العالم ثلاثي الأبعاد نستطيع أن نرى خطين مستقيمين يتقاطعان في نقطة واحدة، ولكنكم لا ترون في جميع الأحوال إلا خطًّا مستقيمًا واحدًا أو أجزاء من خطوط مستقيمة تقع على استقامة واحدة، فكيف تستطيعون تمييز الزاوية، فضلًا عن قياسها؟» وأقول لهم إننا نستطيع أن نستنتج قياس الزوايا بدقة كبيرة مع أننا لا نستطيع أن نبصرها، فحاسة اللمس عندنا — التي شحذها اعتمادنا عليها وطوَّرها طول تمرُّسنا بها — تمكننا من تمييز الزوايا بدقة تزيد كثيرًا عن دقة حاسة الإبصار عندكم، عندما لا تستعينون بالقوانين الرياضية أو أدوات قياس الزوايا، ولا أستطيع أن أغفل الإشارة إلى أننا نملك وسائل طبيعية تعيننا؛ فمن قوانين الطبيعة عندنا أن عقل المثلث متساوي الساقين يبدأ قياسه بنصف درجة (أو ثلاثين جزءًا من الدرجة)، ويزيد — إذا قدر له أن يزيد — بمقدار نصف درجة في كل جيل حتى يصل إلى تحقيق الغاية المنشودة وهي ٦٠ درجة، وعندها تنتهي حالة العبودية، وينضم المواطن الحر إلى طبقة الأشكال منتظمة الأضلاع. وهكذا تمنحنا الطبيعة نفسها تدريجًا تصاعديًّا أو أبجدية من الزوايا ما بين نصف درجة وستين درجة، وتوضع عينات منها في جميع المدارس الابتدائية على أرضنا، وهناك دائمًا زيادة هائلة في أعداد المثلثات التي تبلغ زواياها نصف درجة وتلك التي تبلغ زواياها درجة واحدة، ويرجع ذلك إلى الانتكاس (التقهقر في السلم الاجتماعي) في بعض الأحيان، والتجمد الفكري والأخلاقي في كثير من الأحيان، بالإضافة إلى الخصوبة الفائقة في طبقات المجرمين والمشردين، وهناك أيضًا زيادة متوسطة في العينات التي تصل زاويتها إلى ١٠ درجات، وكل هؤلاء محرومون من الحقوق المدنية حرمانًا كاملًا، ولا يملك معظمهم من الذكاء ما يكفي حتى للاشتراك في الحروب، وتستخدمهم الدولة في الخدمات التعليمية، ويوضعون داخل الفصول الدراسية في مدارس الأطفال عندنا بعد تقييدهم بالأغلال درءًا لخطرهم، وتستغلهم المجالس التعليمية للمساعدة في تعليم أبناء الطبقة المتوسطة الذكاء واللياقة اللذين تفتقر إليهما هذه المخلوقات البائسة. وفي بعض الدول يُطعِمون هذه العينات من آن لآخر ويسمحون لها بالبقاء أعوامًا عدة، ولكن في المناطق الأكثر اعتدالًا وتنظيمًا وُجد أنه من الأفضل — على المدى البعيد — لمصلحة تعليم الصغار الاستغناء عن الطعام وتجديد العينات كل شهر، وهو متوسط المدة التي تستطيع طبقة المجرمين أن تعيشها دون طعام، وما نوفره في المدارس منخفضة المصروفات بالإبقاء على العينات لمدد طويلة نفقد جزءًا منه بسبب الإنفاق على الطعام والجزء الآخر بسبب تناقص دقة الزوايا التي تفسد بعد أسابيع قليلة من التحسس الدائم، ولا ننسى أن من بين مميزات النظام الأعلى في التكلفة أنه يؤدي — على نحو طفيف ولكنه ملحوظ — إلى خفض التعداد الهائل للمثلثات متساوية الساقين، وهو هدف يضعه كل رجال الدولة في الأرض المسطحة نصب أعينهم على الدوام، ولذلك أجدني أميل بصفة عامة إلى الاعتقاد بأن هذه واحدة من الحالات الكثيرة التي يكون فيها الإنفاق هو خير وسيلة للاقتصاد، ولا يغيب عني مع ذلك أن هناك تأييدًا للنظام الرخيص — كما يسمونه — في كثير من مجالس إدارات المدارس التي تنتخب بالتصويت العام. يجب ألا نشتت أنفسنا بالحديث عن سياسات مجالس إدارات المدارس، وأظنني قد أوضحت بما يكفي أن التعارف عن طريق اللمس عملية يسيرة على عكس ما قد يحسبه البعض، وهي دون شك أجدر بالاعتماد عليها من حاسة السمع، ولكن يبقي — كما أشرت آنفًا — الاعتراض القائم على أن هذه الطريقة لا تخلو من مخاطر. هناك طريقة ثالثة يفضلها الكثيرون من أفراد الطبقات الدنيا والمتوسطة، ويستخدمها دون استثناء جميع أفراد طبقة الدوائر والأشكال عديدة الأضلاع، وأخصص لوصفها الفصل القادم.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/6/
تعرُّف الآخرين باستعمال البصر
أنا الآن على وشك أن أبدو في غاية التناقض، فقد ذكرت في الفصول السابقة أن جميع الأشكال في الأرض المسطحة تبدو لنا خطوطًا مستقيمة، ثم أضفت — تلميحًا أو تصريحًا — أنه من المستحيل أن نستعمل أعيننا للتمييز بين الأفراد من مختلف الطبقات الاجتماعية، ومع ذلك فأنا الآن على وشك أن أشرح للنقاد في سبيسلاند كيف يستطيع أحدنا أن يتعرف الآخر باستخدام حاسة الإبصار. غير أن القارئ لو كلف نفسه عناء الرجوع إلى الفقرة التي ذكرت فيها أن التعرف عن طريق اللمس وسيلة عامة، فسيجد أن هناك تخصيصًا «بين الطبقات الدنيا»، ولا يستعمل التعرف عن طريق البصر إلا بين أفراد الطبقات الراقية وفي المناطق التي يتميز مناخها بالاعتدال. ويعود تواجد هذه المقدرة في مناطق بعينها وبين فئات بعينها إلى الضباب الذي ينتشر معظم أوقات السنة في جميع المناطق عدا المناطق شديدة الحرارة، الضباب الذي تَعدُّونه في بلادكم شرًّا مستطيرًا يحجب جمال الطبيعة ويبذر في النفس بذور الاكتئاب ويؤدي إلى اعتلال الصحة، نراه عندنا نعمةً لا تكاد تقل في قيمتها عن نعمة الهواء نفسه، ومصدرًا للإلهام في الفنون والعلوم، ولكن دعوني أفسر ما أرمي إليه دون مزيد من الإطراء على هذا العنصر النافع. لو كانت أرضنا بلا ضباب لظهرت كل الخطوط واضحةً، ولصار من العسير تمييز أحدها عن الآخر، وهذا في الواقع ما تعانيه تلك الدول التعيسة التي يتسم مناخها بالجفاف والصفاء التامَّين، ولكن أينما وجد الضباب الكثيف صارت الأجسام التي تبعد ثلاثة أقدام — على سبيل المثال — أكثر خفوتًا على نحو ملموس من الأجسام التي تبعد قدمين وإحدى عشرة بوصة، ولذلك فإننا نستطيع عن طريق المشاهدات والتجارب الدقيقة على قياس نسبة الخفوت والوضوح أن نستنتج بدقة كبيرة هيئة الأجسام التي نشاهدها. ولعل مثالًا واحدًا يكون أجدى في إيضاح المعنى المقصود من مجلد من العبارات العامة. لنفترض أنني أرى شخصين يقتربان وأود أن أتحقق من الطبقة الاجتماعية لكل منهما، ولنفترض أنهما تاجر وطبيب — أي مثلث منتظم الأضلاع ومخمس، كيف أستطيع أن أميز بينهما؟ ولعل القارئ يدرك من هذين المثالين كيف تستطيع الطبقات المتعلمة عندنا — بعد مران طويل تدعمه الخبرة — أن تميز بدقة مقبولة بين الطبقات الدنيا والمتوسطة باستعمال حاسة الإبصار، ولو أن النقاد في سبيسلاند استوعبوا هذا المفهوم العام بما يكفي لأن يتصوروا إمكانية حدوثه ولئلا يرفضوا قصتي باعتبارها منافية للعقل، فسأكون قد حققت كل ما أتطلع إليه، ولو خضت في مزيد من التفاصيل لما زدت القارئ غير حيرة، ومع ذلك فقد يستشف بعض القراء من صغار السن أو غير ذوي الخبرة من المثالين السابقين على الطريقة التي أتعرف بها والدي وأبنائي أن استعمال البصر في تعرف الآخرين مسألة يسيرة، ولذا ربما يكون من الضروري أن ألفت انتباهكم إلى أن معظم صعوبات التعرف عن طريق البصر في الحياة الواقعية أكثر دقة وتعقيدًا من ذلك إلى حد بعيد. إلا أنني يجب ألا أطلق لنفسي العنان للاسترسال في الحديث عن هذه الموضوعات. يواجه ذوو التعليم العالي صعوباتٍ كبيرةً عندما يحاولون استخدام حاسة الإبصار للتمييز بين عدد من الأشكال عديدة الأضلاع التي تتحرك في اتجاهات مختلفة — كما في قاعات الرقص والمنتديات — إذا كانوا هم أنفسهم يتحركون أو يستديرون أو يتقدمون أو يتراجعون، وأؤكد لكم أنها صعوبات تستعصي على عقول أعتى المفكرين، وأنها تكفي لتبرير المواهب الغزيرة التي يتمتع بها أولو العلم من أساتذة الهندسة — الاستاتيكية والديناميكية على السواء — في جامعة وينتبريدج الشهيرة، حيث تنتظم دفعات كبيرة من صفوة البلاد في دراسة علم وفن التعرف عن طريق الإبصار، وأحسبه يسيرًا حتى على أدنى علماء الرياضيات منزلة في سبيسلاند أن يتبين صدق كلامي. ولا يستطيع توفير الوقت والمال اللازمين لإتمام دراسة هذا الفن الرفيع الثمين إلا قلة من أبناء أوسع عائلاتنا ثراءً وأعلاها شأنًا، حتى إنني — وأنا عالم في الرياضيات أتمتع بمكانة ليست بالقليلة، وجدٌّ لاثنين من المسدسات الواعدة تامة الانتظام — يصيبني أحيانًا الارتباك الشديد عندما أجد نفسي وسط حشد من الأشكال عديدة الأضلاع من الطبقات العليا، أما بالنسبة لواحد من عامة التجار أو الرقيق فإن هذا المشهد يبدو مبهمًا عسيرًا على الفهم كما سيبدو لك عزيزي القارئ لو أنك انتقلت فجأة إلى بلادي. وأينما وجهت بصرك فلن تستطيع أن ترى في ذلك الزحام شيئًا عدا خط يبدو مستقيمًا ولكن أجزاءه تتفاوت دائمًا في الخفوت والبريق، وحتى لو كنت قد أتممت عامك الثالث في صفوف المخمسات والمسدسات بالجامعة، وصرت في غاية التمكن من الجانب النظري للموضوع، فستجد أنك لا تزال في حاجة إلى أعوام طويلة من الخبرة العملية قبل أن تستطيع التحرك وسط حشد من الطبقة الأرستقراطية دون أن تصطدم بمن هم أرقى منك مكانة، الذين يعد لمسهم منافيًا لقواعد اللياقة، والذين يعرفون — نظرًا لتفوقهم الثقافي والطبقي — كل شيء عن تحركاتك، في حين لا تعرف أنت إلا أقل القليل — أو لا شيء على الإطلاق — عن تحركاتهم، وأقول بإيجاز إنه لكي يلتزم المرء تمام الالتزام بقواعد السلوك في مجتمع الأشكال عديدة الأضلاع ينبغي أن يكون هو نفسه واحدًا منهم، هذا على الأقل ما أفدته من تجاربي. من المذهل إلى أي مدى يتطور فن — أم أسميه غريزة — التعرف البصري بالمداومة على ممارسته وتجنب استخدام عادة اللمس، كما هو الحال عندكم فيما يتعلق بالصم والبكم، فما إن يُسمح لهم باستخدام لغة الإشارة والإيماءات فلن يكتسبوا مطلقًا فن قراءة حركات الشفاه، وهو أكثر صعوبة ولكنه أيضًا أكثر أهمية من لغة الإشارة، كذلك الأمر عندنا فيما يتعلق بالإبصار واللمس، فمن يلجأ في سني حياته الأولى إلى الاعتماد على اللمس فلن يتمكن قط من إتقان الإبصار. ولذلك لا يشجعون استعمال «اللمس» بين أفراد الطبقات الراقية أو يحظرونه بالكامل، ويرسلون أطفالهم من المهد إلى مدارس خاصة تقتصر على أبناء النخبة بدلًا من إلحاقهم بالمدارس الابتدائية العامة، وفي جامعتنا الشهيرة يعد استخدام اللمس جريمة كبرى يُعاقب عليها في المرة الأولى بالطرد المؤقت من الجامعة وفي المرة الثانية بالفصل النهائي. غير أن فن التعرف البصري يعد بين أفراد الطبقات الدنيا ترفًا بعيد المنال، فلا يتحمل واحد من عامة التجار أن يدع أبناءه يقضون ثلث حياتهم في دراسة علوم نظرية، ومن ثم يُسمح لأبناء الفقراء باستخدام اللمس منذ الطفولة، وبذلك يكتسبون نضجًا ونشاطًا مبكريْن، ويتفوقون في ذلك على أنصاف المتعلمين من شباب طبقة الأشكال عديدة الأضلاع الذين يتسم سلوكهم بالخمول والافتقار إلى النضج وفتور الهمة، ولكن عندما يُتِم أولئك الشباب في النهاية دراستهم الجامعية، ويصبحون على استعداد لوضع ما تعلموه نظريًّا موضع التطبيق، فإنهم يتغيرون تغيرًا نستطيع أن نصفه بأنه ولادة جديدة، ويستطيعون في جميع الفنون والعلوم والأنشطة الاجتماعية أن يفوقوا أقرانهم من المثلثات بشوط كبير. ولا يرسب في الاختبار النهائي أو امتحانات التخرج في الجامعة إلا عدد قليل من طبقة الأشكال عديدة الأضلاع، والواقع أن حال تلك الأقلية الفاشلة يرثى له، ترفضهم الطبقات الراقية وتزدريهم الطبقات الدنيا، فليست لديهم الملكات التي أنضجها طول التمرس والتي يتمتع بها الحاصلون من الأشكال عديدة الأضلاع على شهادات إتمام الدراسة الجامعية وشهادات الماجستير، بالإضافة إلى أنهم لا يملكون النضج والمواهب المتعددة التي يتمتع بها الشباب من طبقة التجار، فتغلق في وجوههم أبواب العمل الحكومي والمهن التخصصية، ومع أن معظم الدول لا تمنعهم من الزواج، فإنهم يجدون صعوبة كبيرة في العثور على الزيجات المناسبة، إذ أثبتت التجربة أن ذرية هؤلاء البؤساء غير ذوي الموهبة تأتي عادة ذرية بائسة، إن لم يظهر عليها اختلاف في الأضلاع. ومن بين هذه العينات التي لفظها مجتمع النبلاء أتى زعماء الثورات والفتن الكبرى في الماضي، وهم يسببون أذى بالغًا حتى إن عددًا متزايدًا من رجال الدولة من أنصار الفكر الحديث يرون أن الرحمة الحقيقية تقتضي القضاء عليهم بالكامل، بسن قانون ينص على أن يعاقب كل من يرسب في امتحانات التخرج من الجامعة إما بالسجن مدى الحياة أو بالإعدام بالقتل الرحيم. وأجدني أتطرق إلى الحديث عن مسألة اختلاف الأضلاع، وهو أمر من الأهمية بحيث يتطلب إفراد فصل خاص له.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/7/
الأشكال مختلفة الأضلاع
لقد افترضتُ طيلة الصفحات السابقة أن كل البشر في الأرض المسطحة مضلعات منتظمة، أي أن لهم بنية منتظمة، وهو أمر ربما كان يجب أن أوضحه منذ البداية كفرضية أساسية، وأعني بذلك أن المرأة لا تكون خطًّا فحسب، بل خطًّا مستقيمًا، وأنه يجب أن يكون للحرفي أو الجندي ضلعان متساويان، وللتاجر ثلاثة أضلاع متساوية، وللمحامين (وهي الطبقة التي أنتمي إليها) أربعة أضلاع متساوية، وبوجه عام تكون جميع الأشكال عديدة الأضلاع ذات أضلاع متساوية. وتعتمد أطوال الأضلاع بطبيعة الحال على عمر الفرد، فالأنثى عند الولادة يبلغ طولها نحو بوصة، ويصل طول المرأة البالغة إلى قدم واحد، أما بالنسبة للذكور من جميع الطبقات فنستطيع أن نقرب الأمر فنقول إن مجموع أطوال أضلاع الذكر البالغ يصل إلى قدمين أو أكثر قليلًا، ولكننا لسنا الآن بصدد الحديث عن أطوال أضلاعنا وإنما عن تساوي الأضلاع، ولا يحتاج المرء أن يجهد عقله ليدرك أن الحياة الاجتماعية بكاملها في الأرض المسطحة تقوم على فرضية أساسية وهي أن الطبيعة أرادت لجميع المضلعات أن تكون ذات أضلاع متساوية. لو أن أضلاعنا كانت غير منتظمة لكانت زوايانا غير متساوية، وبدلًا من أن يحتاج المرء إلى تلمُّس زاوية واحدة أو تقدير قياسها باستعمال النظر حتى يستطيع تحديد هيئة الآخر، فسيتحتم عليه أن يتحقق من كل زاوية على حدة باستخدام حاسة اللمس، لكن الحياة أقصر من أن نقضيها في هذا التخبط المضني، ثم إن علم وفن التعرف عن طريق الإبصار كان سيختفي على الفور، وما كان استخدام حاسة اللمس — باعتباره فنًّا — ليدوم لمدة طويلة، وستصبح العلاقات الاجتماعية محفوفة بالمخاطر إن لم تكن مستحيلة على الإطلاق، وسينتهي عهد الثقة والفطنة، ولن ينعم أحد بالأمان حتى في أبسط العلاقات الاجتماعية، وفي المجمل لو أن أضلاعنا كانت غير منتظمة لاندثرت الحضارة وسادت الهمجية. هل أثب بالقارئ وثبات واسعة حتى أصل به إلى هذه الاستنتاجات الواضحة؟ من المؤكد أن لحظة من التفكير ومثالًا واحدًا من حياتنا العادية سوف يقنعان الجميع بأن نظامنا الاجتماعي قائم على انتظام الأضلاع، أو تساوي الزوايا، فإذا لقيتَ على سبيل المثال اثنين أو ثلاثة من التجار في الطريق، وبنظرة خاطفة إلى زواياهم وأضلاعهم التي يخفت بريقها بسرعة تحققت من أنهم من طبقة التجار، فإنك تستطيع أن تدعوهم إلى بيتك لتناول الغداء، تستطيع أن تفعل ذلك الآن بثقة تامة، لأن الجميع يعرفون — بنسبة خطأ لا تتعدى بوصة واحدة أو اثنتين — المساحة التي يشغلها المثلث البالغ، ولكن تخيل لو أن رأس التاجر (المثلث المنتظم) تجر من ورائها متوازي أضلاع يصل قطره إلى اثنتي عشرة بوصة أو ثلاث عشرة بوصة، ماذا ستفعل مع هذا المسخ الذي لا يتسع لمروره باب بيتك؟ ولكنني أُهين ذكاء القراء بسرد تفاصيل لا بد أنها واضحة تمامًا لكل من يحظى بالعيش في سبيسلاند، فمن المؤكد أن قياس زاوية واحدة لن يكون كافيًا في ظل هذه الظروف العصيبة، فلن يفعل المرء في حياته شيئًا عدا تلمس أو تفحص المحيط الخارجي لمعارفه، ويكفي ما نلاقيه من صعوبات في تجنب التصادم وسط الزحام، وهي صعوبات تستعصي حتى على ذكاء ذوي العلم من المربعات، ولكن لو لم تكن لدينا القدرة على حساب انتظام أضلاع أي من المضلعات في مجتمعنا، لسادت الفوضى والاضطراب، ولتسببت أقل موجة من الهلع في إصابات خطيرة، وربما خسائر كبيرة في الأرواح إذا تصادف وجود نساء أو جنود. وهكذا تنحاز قابلية التكيف والطبيعة كلتاهما إلى تأييد الانتظام في الأضلاع، ولم يتخلف القانون عن اللحاق بهما في هذا التأييد، فإن «اختلاف الأضلاع» عندنا يعادل الانحطاط الخلقي والميل إلى الإجرام عندكم، أو يزيد عنهما، ونتعامل معه على هذا الأساس، والواقع أننا لا نَعْدَم بعضًا من مروجي المتناقضات الذين يؤكدون أنه ليست هناك علاقة حتمية بين اختلاف الأضلاع والانحراف الخلقي، ويقولون إن المضلع مختلف الأضلاع لا يلقى منذ ميلاده إلا الازدراء من أبويه، والسخرية من إخوته، والاستخفاف والريبة من المجتمع، وهو إلى ذلك مستبعد من جميع الوظائف التي تنطوي على المسئولية والثقة والأنشطة النافعة، وتراقب الشرطة تحركاته كلها عن كثب حتى يصل إلى سن الرشد فيضع نفسه رهن الفحص، فإن وُجِد أنه يتجاوز هامش الانحراف أُعدِم، وإلا حُبِس في أحد المكاتب الحكومية كموظف من الدرجة السابعة، ممنوع من الزواج، مُكرَه على تحمل المشاق في عمل مضن مقابل راتب زهيد، مُرغم على أن يحيا حياته بالكامل — حتى تناول طعامه وشرابه — في مكان عمله، ولا يأخذ عطلته إلا تحت رقابة مشددة، فما العجب إذن من أن تؤدي هذه العوامل إلى إفساد أفضل الناس طبعًا وأنقاهم سريرة، وتملأهم بالسخط والمرارة! ولا تقنعني كل هذه الحجج على منطقيتها — كما لم تقنع أكثر الحكماء من رجال الدولة عندنا — أن أسلافنا قد جانبهم الصواب عندما جعلوها حقيقة ثابتة في الدستور أن اختلاف الأضلاع لا يتفق مع أمن الدولة. لا شك أن حياة المضلع مختلف الأضلاع حياة شاقة، ولكن مصالح الأغلبية تستدعي هذه المشقة، فلو أن رجلًا ذا رأس مثلث وجسد عديد الأضلاع سُمِح له بالبقاء وإنجاب ذرية تزيد عليه في اختلاف الأضلاع، ماذا سيكون مصير فنون الحياة؟ هل نقوم بتعديل المنازل والأبواب والكنائس في الأرض المسطحة لتتلاءم مع هذه المسوخ؟ هل يجب على موظفي التذاكر عندنا قياس محيط كل رجل قبل أن يسمحوا له بدخول المسارح أو قاعات المحاضرات؟ هل يُعفَى المضلع مختلف الأضلاع من الخدمة العسكرية؟ وإذا لم يُعْف فكيف نمنعه من جلب الدمار إلى صفوف رفاقه؟ يا لها من إغراءات لا سبيل إلى مقاومتها تلك التي تلح على هذا المخلوق وتدفعه دفعًا إلى الخداع والاحتيال! وكم هو هيِّن عليه أن يدخل متجرًا من المتاجر بمقدمته عديدة الأضلاع وأن يطلب أي كمية من السلع من أحد التجار الذين يحسنون الظن بالآخرين. دع أولئك الذين ينادون «بحب الإنسانية» المزعوم يتوسلون ما شاءوا لإلغاء قانون العقوبات الخاص بالمضلعات مختلفة الأضلاع، فأنا لم ألق بعد مضلعًا مختلف الأضلاع يحيد عن الصفات التي أرادتها له الطبيعة؛ النفاق وبغض الإنسانية وارتكاب كل ما تتيحه له قدراته من ألوان الأذى. على أنني لا أميل (في الوقت الحاضر) إلى تطبيق الإجراءات شديدة الصرامة التي تتبناها بعض الدول، حيث يعدمون على الفور المواليد الذين تنحرف زاويتهم بمقدار نصف درجة عن القياس الصحيح، فقد كافح بعض من أبرع رجالنا وأعلاهم شأنًا في طفولتهم في ظل انحرافات وصلت إلى خمسة وأربعين جزءًا من الدرجة، وربما زادت على ذلك، وهم رجال يتمتعون بعبقرية حقيقية، ولو أنهم فقدوا حياتهم الثمينة لكانت تلك خسارة لا تعوض للدولة، وقد حققت الفنون العلاجية إلى جانب ذلك بعضًا من أروع إنجازاتها في عمليات الضغط والإطالة والقطع والوصل وغير ذلك من العمليات الجراحية التي تعالج الاختلاف في الأضلاع كليًّا أو جزئيًّا، وأنا لذلك أؤيد حلًّا وسطًا بألا نضع خطًّا فاصلًا محددًا أو نهائيًّا، ولكن إذا بدأ الهيكل في اتخاذ شكله النهائي، وقرر المجلس الطبي أن الشفاء أمر بعيد الاحتمال، فأقترح في هذه الحالة القضاء على الذرية مختلفة الأضلاع بإعدامهم بالقتل الرحيم دون ألم.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/8/
عادة التلوين قديمًا
لو أن القارئ تابعني باهتمام حتى الآن فلن يندهش حين أقول إن الحياة في الأرض المسطحة رتيبة نوعًا ما، ولا أقصد بالطبع أنها تخلو من المعارك والمؤامرات وحوادث الشغب والانقسامات الداخلية وغيرها من الظواهر التي يفترض بها أن تجعل من التاريخ مادة مثيرة، ولا أنكر أيضًا أن المزيج الغريب من مشكلات الحياة ومسائل الرياضيات يحفز الذهن باستمرار للخروج بفرضيات، ويعطي فرصة للتحقق من صحتها في الوقت نفسه، هذا المزيج يعطي حياتنا نكهة لا تستطيعون أنتم في سبيسلاند إدراكها، إنني أتحدث الآن من الناحية الجمالية والفنية عندما أقول إن حياتنا تتسم بالملل، بل إنها مملة جدًّا فنيًّا وجماليًّا. وكيف لا تكون كذلك وكل أفق المرء، وكل المناظر الطبيعية، والأماكن الأثرية، واللوحات، والزهور، ليست إلا خطًّا مستقيمًا واحدًا، لا تنوُّع فيه عدا درجات من التألق والخفوت؟ لم يكن الأمر دائمًا على هذا النحو، إذ تذكر الروايات القديمة — لو صدقت هذه الروايات — أن أجدادنا في عصور موغلة في القدم قد تمتعوا بنعمة اللون، وأنه أضفى على حياتهم رونقًا عابرًا دام لستة قرون أو يزيد، وكان فرد واحد — وهو مخمس اختلفت الروايات في اسمه — قد اكتشف بمحض الصدفة العناصر التي تتكون منها الألوان البسيطة واكتشف طريقة بدائية للتلوين، ويقال إنه بدأ أول الأمر بزخرفة منزله، ثم عبيده، ثم والده، ثم أبنائه، ثم أحفاده، ثم انتهى بنفسه، وحازت النتائج إعجاب الجميع، وتُجْمِع معظم المراجع الموثوق بها على تسميته بكروماتيستس، وحيثما كان كروماتيستس يتحرك بهيكله الملون كان يثير اهتمام الجميع على الفور ويحوز احترامهم، ولم يعد أحد بحاجة إلى لمسه، ولم يعد أحد يخلط بين مقدمة جسده ومؤخرته، وأصبح جيرانه يلاحظون كل تحركاته بسهولة دون أن يجهدوا قدراتهم الحسابية، ولم يعد أحد يزاحمه أو يتأخر في إفساح الطريق له، ولم يعد بحاجة إلى بح صوته بالكلام الذي نستخدمه — نحن المربعات والمخمسات عديمة اللون — لنعلن به عن وجودنا عندما نتحرك وسط حشد من الغوغاء من المثلثات متساوية الساقين. انتشرت هذه الظاهرة كالنار في الهشيم، فقبل أن يمر أسبوع واحد كان كل مربع ومثلث في المنطقة قد حذا حذو كروماتيستس، ولم يصمد إلا قلة من المحافظين من المخمسات، ولم يمر شهر أو شهران حتى كانت عدوى هذا الابتكار قد انتقلت إلى المضلعات ذات الاثني عشر ضلعًا، ولم يكد ينقضي العام حتى كانت تلك العادة قد انتشرت بين الجميع فيما عدا صفوة النبلاء، ومن نافلة القول أن أضيف أن هذه العادة قد انتشرت في مدة قصيرة من المنطقة التي يقطن بها كروماتيستس إلى المناطق المحيطة، وبعد مرور جيلين لم يعد أحد في الأرض المسطحة عديم اللون عدا النساء والكهنة. بدا هنا أن الطبيعة ذاتها تقيم حاجزًا وتعارض انتقال الابتكارات إلى هاتين الطبقتين، وكان تعدد الأضلاع المبرر الأساسي لدى المبتكرين. «إنما جعلت الطبيعة تمايز الأضلاع من أجل تمايز الألوان» — هذه هي السفسطة التي تناقلتها الألسن في تلك الأيام والتي تبدلت بها ثقافة مدن بأكملها في كل مرة إلى ثقافة جديدة، ولكن من الواضح أن هذا المبدأ لم ينطبق على الكهنة والنساء، فليس للنساء إلا ضلع واحد، ولذا نقول طلبًا للدقة إنهن — من ناحية تعدد الأضلاع — بلا أضلاع على الإطلاق، أما الكهنة فلو صدق زعمهم بأنهم دوائر تامة الاستدارة وليسوا مجرد مضلعات عديدة الأضلاع تنتمي إلى طبقة عالية لها عدد لانهائي من الأضلاع متناهية الصغر، فإنهم يتباهون بما تقر به النساء ويأسفن له، ألا وهو إنهم أيضا بلا أضلاع، إذ منحتهم الطبيعة محيطًا خارجيًّا مكونًا من خط واحد، ولذلك لا تنطبق عليهم المسلَّمة المزعومة القائلة «إن تمايز الأضلاع جُعِل من أجل تمايز الألوان»، وفي الوقت الذي افتتن فيه الجميع بزخرفة الجسد ظل الكهنة والنساء بعيدين عن تلويث أجسادهم بالألوان. صفها بالفجور أو انعدام الأخلاق أو الفوضوية أو الابتعاد عن المنهج العلمي، أطلق عليها ما شئت من النعوت، ولكن تلك الأيام العتيقة لثورة الألوان كانت من الناحية الجمالية عصرًا لطفولة الفن في الأرض المسطحة، طفولة لم يكتب لها للأسف أن تنضج إلى مرحلة الرجولة بل لم تبلغ زهرة الشباب. كانت الحياة في ذلك الوقت لذة في ذاتها لأن الحياة تعني النظر، حتى في الحفلات الصغيرة، كان النظر إلى المدعوين متعة من المتع، وقد برهن ثراء التنوع اللوني للحضور في الكنائس والمسارح في أكثر من مناسبة أنه يشتت انتباه أعظم المبشرين والممثلين، ولكن يقال أيضًا إن أكثر المناظر سحرًا وأخذًا بالألباب هو مشهد العرض العسكري الذي يعجز اللسان عن وصف روعته. مشهد صفوف الجند التي تضم عشرين ألفًا من المثلثات متساوية الساقين وهي تستدير فجأة فتختفي قواعدها قاتمة السواد ليحل محلها البرتقالي والبنفسجي اللذان يميزان ضلعيها المتساويين، وجنود المثلثات متساوية الأضلاع بألوانهم الثلاثة: الأحمر والأبيض والأزرق، وجنود المدفعية من المربعات بألوانهم: البنفسجي الفاتح، والأزرق الزاهي، والأصفر الغامق، والبني المحمر، وهم يدورون بسرعة بالقرب من مدافعهم ذات اللون القرمزي، أما المخمسات والمسدسات ذات الخمسة ألوان والستة ألوان التي تندفع هنا وهناك وتنطلق عبر الميدان فهم يعملون جراحين، وأخصائيين في علم الهندسة، ومعاونين للضباط، وربما كان كل هذا كافيًا ليضفي مصداقية على الرواية المشهورة التي تحكي عن واحد من الدوائر بهره الجمال الفني للقوات التي يقودها، فطرح جانبًا عصا المارشالية وتاجه الملكي، وأعلن أنه منذ ذلك الحين سيستبدل بهما ريشة الرسام، ولا بد أن رقي الحس الجمالي في تلك الفترة قد أحدث أثره في مستوى اللغة والمفردات التي سادت خلال تلك المدة، حتى إن ثراء اللغة والفكر قد ظهر في الكلام العادي لعامة الناس إبان ثورة الألوان، وإننا حتى الآن ندين لذلك العصر بأفضل إنتاجنا الشعري وبما بقي من موسيقى الكلمات في لغتنا الحديثة التي صارت أميل إلى لغة العلم.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/9/
المشروع العالمي لقانون الألوان
كانت الفنون العقلية في غضون ذلك تتراجع بسرعة كبيرة. فما عاد أحد يمارس فن التعرف البصري؛ إذ لم تعد هناك حاجة إليه، وسرعان ما أصبحت علوم الهندسة والاستاتيكا والديناميكا وغيرها من العلوم المشابهة غير ذات أهمية، إلى أن أُهملت وحُقِّر شأنها حتى في جامعتنا، وسرعان ما آل فن التعرف عن طريق اللمس إلى نفس المصير في مدارسنا الابتدائية، وأعلنت طبقة المثلثات متساوية الساقين أنه لم تعد هناك حاجة إلى العينات البشرية ولم يعد يستخدمها أحد، ورفضوا دفع الضريبة المعتادة من طائفة المجرمين لخدمة التعليم، وكانت المثلثات متساوية الساقين تزداد كل يوم عددًا وغطرسة؛ إذ قويت شوكتهم بعد أن أزاحوا عن كاهلهم العبء القديم الذين كان يحقق غرضين في نفس الوقت، فكان من ناحية يروض طبيعتهم الوحشية ومن ناحية أخرى يقلل أعدادهم الهائلة. وعامًا بعد عام ازداد إيمان طبقات الجنود والحرفيين بأنه ليست هناك فوارق كبيرة بينهم وبين أرقى طبقات الأشكال عديدة الأضلاع، بعد أن ارتفعوا إلى مرتبة المساواة بهم، وتمكنوا من التغلب على كافة المصاعب وحل جميع مشكلات الحياة — الاستاتيكية والديناميكية على السواء — باستخدام عملية التعرف اللوني البسيطة، ولم يكتفوا بالتدهور الطبيعي الذي آل إليه فن التعرف البصري، فتجرءوا على المطالبة بفرض حظر قانوني على جميع أشكال «الفنون الأرستقراطية والاحتكارية»، ومن ثم إلغاء جميع المنح المخصصة لدراسة التعرف البصري، والرياضيات، واللمس، ونظرًا لأن اللون — الذي صار صفة ثابتة عندهم — قد ألغى الحاجة إلى الفوارق الأرستقراطية، فسرعان ما بدءوا يصرون على أن القانون يجب أن يسير في نفس الطريق، وطالبوا منذ ذلك اليوم بالاعتراف بالمساواة التامة بين جميع الأفراد وجميع الطبقات والتسوية بينهم في الحقوق. وتمادى زعماء الثورة في مطالبهم عندما وجدوا أن الطبقات العليا قد أصابها التذبذب والتخبط، فطالبوا في نهاية الأمر بأن تُعرِب جميع الطبقات على السواء عن تقديرها للون بخضوعها للتلوين، ولم يستثنوا من ذلك الكهنة ولا النساء، وعندما أثيرت الاعتراضات على أساس أن الكهنة والنساء بلا أضلاع، أجابوا بأن الطبيعة وقانون التكيف قد اتفقا على أنه لا بد في كل إنسان أن يتميز النصف الأمامي (أي النصف الذي يضم العين والفم) عن النصف الخلفي، ولذلك قاموا في اجتماع عام وطارئ لجميع الدول في الأرض المسطحة بطرح مشروع قانون يقترحون فيه تلوين النصف الذي يحوي العين والفم في جميع النساء باللون الأحمر، وتلوين النصف الآخر باللون الأخضر، واقترحوا أيضًا إجراء العملية نفسها على الكهنة حيث يُلوَّن نصف الدائرة الذي تتوسطه العين والفم باللون الأحمر، ويستعمل اللون الأخضر في تلوين نصف الدائرة الآخر أو الخلفي. لم يخل هذا الاقتراح من دهاء، والحق أنه لم يصدر عن أي من المثلثات متساوية الساقين، لأن كائنًا على هذه الدرجة من التدني لم يؤت عقلًا يؤهله لاستيعاب هذا النموذج من نماذج الدهاء السياسي، ناهيك عن تدبيره، وإنما صدر عن أحد الدوائر غير المنتظمة الذي أنقذه التسامح الأحمق من الإعدام في طفولته، وحفظ له حياته، ليجلب في آخر الأمر الدمار على بلاده، والهلاك على أعداد لا حصر لها من أتباعه. فمن ناحية كان الهدف من هذا الاقتراح كسب تأييد النساء من جميع الطبقات لبدعة اللون، فعندما يخصص للمرأة نفس اللونين المخصصين للكهنة فإن أنصار الثورة يضمنون لها أنها — في أوضاع معينة — لن يختلف مظهرها عن مظهر الكاهن، وأنها سوف تلقى لذلك التكريم والاحترام اللائقين، وهو مطمح سيجذب دون شك أعدادًا غفيرة من النساء. ولكن ربما يتعذر على بعض القراء إدراك إمكانية التطابق المظهري بين الكهنة والنساء في ظل القانون الجديد، ولهؤلاء أوضح الأمر في بضع كلمات. تخيل امرأة صُبِغ جسدها بالألوان وفقًا للقانون الجديد، وذلك بتلوين النصف الأمامي (أي النصف الذي يحوي العين والفم) باللون الأحمر، وتلوين النصف الخلفي باللون الأخضر، وانظر إليها من أحد الجانبين، من المؤكد أنك سوف ترى خطًّا مستقيمًا نصفه أحمر اللون ونصفه الآخر أخضر اللون. لكم أن تتخيلوا كم كان هذا الأمر جذابًا بالنسبة للنساء، فقد كانت السعادة تغمرهن وهن يترقبن البلبلة التي ستنشأ عن ذلك، فقد يستمعن في بيوتهن إلى أسرار سياسية وكنسية لا يُقصَد إطلاعهن عليها، بل أزواجهن أو إخوتهن، وقد يُصدِرن بعض الأوامر باسم أحد الكهنة من الدوائر. أما خارج بيوتهن فالمزيج اللافت من اللونين الأحمر والأخضر دون إضافة أي ألوان أخرى سيؤدي حتمًا إلى أخطاء لا نهاية لها من جانب العامة، وسيئول إلى النساء كل ما سيفقده الكهنة من توقير المارة. وأما عن الفضيحة التي ستلحق بالكهنة إذا نسب إليهم السلوك الطائش وغير اللائق للنساء، وعما سيعقب ذلك من انهيار للدستور، فليس لنا أن ننتظر من النساء الاهتمام بهذه الاعتبارات، وقد أيدت جميع النساء مشروع قانون الألوان العالمي حتى في بيوت الكهنة. كان الهدف الثاني من مشروع القانون إضعاف معنويات الكهنة أنفسهم شيئًا فشيئًا، فوسط التدهور الفكري الذي كان سائدًا ظلت طبقة الدوائر محتفظة بنقائها وقوتها الذهنية، ولم يحافظ على فن التعرف البصري المقدس غير النبلاء الذين تربوا منذ نعومة أظفارهم في بيوت عائلاتهم من الدوائر على غياب اللون، وتمتعوا بكل مزايا هذا التدريب الرائع للعقل، ومن ثم فحتى اليوم الذي طرح فيه مشروع قانون الألوان ظلت طبقة الدوائر محتفظة بمكانتها، ليس ذلك فحسب بل أكدت زعامتها لبقية الطبقات بامتناعها عن مسايرة ظاهرة الألوان الشائعة. وهكذا قرر هذا الداهية مختلف الأضلاع الذي ذكرت سلفًا أنه المدبر الحقيقي لهذا المشروع الشرير أن يحقق هدفين في نفس الوقت؛ أولهما: أن يحط من مكانة السلطة الحاكمة بإجبار الحكام على التدنس بالألوان، وثانيهما: أن يضيع فرصتهم في ممارسة فن التعرف البصري في بيوتهم، حتى يضعف من طاقاتهم الذهنية بحرمانهم من النقاء وانعدام اللون اللذين يسودان بيوتهم، وما إن تتعرض طائفة الدوائر للتلوث بالألوان حتى تضعف الروح المعنوية بين صفوف الآباء والأبناء من الدوائر، ولن يواجه صغار الدوائر من المعضلات ما ينمي عقولهم عدا التمييز بين آبائهم وأمهاتهم، وهي معضلات كثيرًا ما يفسدها خداع أمهاتهم، مما يؤدي بالطفل إلى فقدان الثقة بكل الاستنتاجات المنطقية، وبذلك يخبو التألق الفكري لطائفة الكهنة شيئًا فشيئًا، وعندها يصبح الطريق ممهدًا نحو القضاء الكامل على القوانين الأرستقراطية والتمايز بين الطبقات.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/10/
قمع فتنة الألوان
دامت الثورة من أجل تأييد المشروع العالمي لقانون الألوان ثلاثة أعوام، وحتى اللحظة الأخيرة في هذه المدة كان يبدو أن النصر سيكون حليف الفوضى السياسية. وأبيد جيش كامل من عديدي الأضلاع الذين التحقوا بالجيش كمجندين على يد جيش يفوقهم عددًا من المثلثات متساوية الساقين، وظلت المربعات والمخمسات على الحياد، والأسوأ من ذلك كله أن بعضًا من أبرع الدوائر سقطوا فريسة للصراعات الزوجية، فالزوجات في كثير من بيوت النبلاء أرهقن أزواجهن بالإلحاح عليهم من أجل التخلي عن موقفهم المعارض لمشروع قانون الألوان، وعندما وجد بعض منهن أن توسلاتهن لن تؤتي ثمارها لجأن إلى المباغتة بالهجوم، وقتلن أطفالهن وأزواجهن الأبرياء، وأهلكن أنفسهن في تلك المذبحة، وتفيدنا السجلات التاريخية أنه خلال تلك الثورة التي دامت ثلاثة أعوام هلك ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين من الدوائر في نزاعات أسرية. كانت الطامة كبيرة، ولم يكن لدى الكهنة خيار إلا الاستسلام أو الهلاك، حتى وقع حادث مفاجئ غير مجرى الأحداث بالكامل، وهو مثال على الحوادث التي لا ينبغي قط أن يتجاهلها رجال الدولة، بل عليهم أن يعدوا العدة لها في أغلب الأحيان، وأن يعملوا على تدبيرها في بعض الأحيان، نظرًا لقدرتها الهائلة على كسب تعاطف العامة. فيُحكى أن واحدًا من أدنى المثلثات متساوية الساقين منزلة لا يزيد قياس عقله بحال من الأحوال عن أربع درجات كان يلهو مصادفة بألوان أحد التجار بعد أن نهب متجره، وأنه لوَّن جسده عمدًا أو دون قصد (فالروايات تختلف في ذلك) بألوان المضلعات ذات الاثني عشر ضلعًا، ثم توجه إلى السوق، وبصوت مصطنع توجه بالحديث إلى فتاة كان قد سعى فيما مضى إلى كسب ودها دون جدوى، وهي ابنة أحد النبلاء الراحلين من عديدي الأضلاع، ونجح في إتمام زواجه منها بعد سلسلة من الخدع التي دبرها وأعانه عليها عدد من المصادفات التي وضعها الحظ في طريقه، وهي أطول من أرويها هنا، كما أعانه عليها حماقة غير مفهومة وإهمال للمحاذير المعتادة من جانب أقارب العروس، وقد قتلت الفتاة البائسة نفسها بعدما اكتشفت حقيقة الخدعة التي كانت ضحية لها. عندما ذاع نبأ هذه الكارثة بين البلاد ثارت النساء ثورة عارمة، وتغيرت نظرتهن تمامًا لمشروع قانون الألوان بسبب تعاطفهن مع الضحية البائسة، وإمكانية وقوع مثل ذلك لهن أو لأخواتهن أو بناتهن، وأعلن عدد ليس بالقليل منهن انتقالهن إلى جبهة المعارضة، ولم تكن الأخريات بحاجة إلا إلى دفعة طفيفة للقيام بإعلان مماثل، وانتهز الكهنة هذه الفرصة التي سنحت لهم، وعقدوا على وجه السرعة اجتماعًا طارئًا للدول، وجلبوا عددًا كبيرًا من الموالين لهم من النساء إلى جانب الحرس المعتاد من السجناء. ووسط حشد غير مسبوق صعد الكاهن الأكبر في تلك الأيام — وكان يدعى بانتوسيكلاس — ليتلقاه مائة وعشرون ألفًا من المثلثات متساوية الساقين بعاصفة من الصفير والصياح، ولكنه أسكتهم عندما أعلن أن الكهنة منذ ذلك الحين سوف يتبنون سياسة تقوم على التنازل، وأنهم سوف يقرون مشروع قانون الألوان نزولًا على رغبة الأغلبية، وفي الحال هدأ الاحتجاج الصاخب وتحول إلى تصفيق، ودعا الكاهن الأكبر كروماتيستس الذي تزعم الفتنة إلى مركز القاعة ليتلقى نيابة عن أتباعه فروض الولاء من السلطة الحاكمة، ثم ألقيت بعد ذلك كلمة جاءت آية من آيات البلاغة، واستغرقت قرابة يوم في إلقائها، ولا تستطيع الكلمات أن توجز ما بها من بلاغة. وكست وجهه ملامح الجدية والحيادية عندما أعلن أنهم لمَّا كانوا قد قرروا آخر الأمر الالتزام بالإصلاح أو التجديد، فيجدر بهم أن يلقوا نظرة أخيرة على الملامح العامة للموضوع، مساوئه وميزاته على السواء، وبدأ يتعرض شيئًا فشيئًا إلى ذكر المخاطر التي سيكون التجار وأصحاب المهن والنبلاء عرضة لها، وعند ذلك تعالت همهمة المثلثات متساوية الساقين، ولكنه نبههم إلى أنه مستعد — مع كل هذه المآخذ — للموافقة على مشروع القانون إذا وافقت عليه الأغلبية فسكنت أصواتهم، ولكن كان واضحًا أن الجميع عدا المثلثات متساوية الساقين قد تأثروا بكلماته وأنهم كانوا إما محايدين أو معارضين لمشروع القانون. ثم انتقل في خطابه إلى العمال وأكد أنه لا ينبغي إغفال مصالحهم، وأنه يجب عليهم على الأقل أن يتفكروا جيدًا في العواقب إذا عزموا الموافقة على مشروع قانون الألوان، وذكر أن كثيرًا منهم على وشك الانضمام إلى طبقة المثلثات متساوية الأضلاع، وأن غيرهم ينتظرون لأبنائهم تميزًا لا يستطيعون هم أنفسهم أن يطمحوا إليه، وعليهم الآن أن يضحوا بهذا الطموح، فبعد أن يقر العالم كله قانون الألوان لن يعود هناك أي شكل من أشكال التميز، ولن يستطيع أحد التفريق بين انتظام الأضلاع واختلافها، وسيحل التدهور محل التقدم، وفي بضعة أجيال ستنحدر مكانة العمال حتى تصل إلى مكانة الجنود، أو مكانة المساجين، وستتركز السلطة السياسية في يد الفئة الأكثر عددًا، أي فئة المجرمين، الذين يزيدون عددًا عن طبقة العمال، وسرعان ما سيفوقون بقية الطبقات مجتمعة عددًا عندما تُنتهك قوانين الطبيعة التي تحفظ التوازن. وسرت بين طبقة الصنّاع همهمة خافتة مؤيِّدة، وبدا الانزعاج على كروماتيستس، وحاول أن يتقدم ويوجه إليهم خطابًا، ولكنه وجد نفسه محاصرًا من الحراس ومجبرًا على التزام الصمت، ووجه الكاهن الأكبر بضع كلمات ملتهبة للنساء قائلًا إنه في حالة الموافقة على مشروع قانون الألوان، لن تصبح أي زيجة منذ ذلك الحين آمنة، ولن يسلم شرف المرأة، وسينتشر الغش والخداع والنفاق في كل البيوت، وستنتهي السعادة الزوجية إلى ما انتهى إليه الدستور، إذ سرعان ما ستذهب طيَّ النسيان، ثم صرخ قائلًا: «وقبل كل ذلك، سيأتي الموت.» وعندما نطق هذه الكلمات التي كانت إشارة متفقًا عليها للتحرك، وثب السجناء من المثلثات متساوية الساقين على كروماتيستس البائس وطعنوه طعنة نافذة، وأفسحت الطبقات منتظمة الأضلاع طريقًا بين صفوفها لمجموعة من النساء يتقدمن بثبات — تحت قيادة الكهنة — بأطرافهن الخلفية القاتلة الخفية عن الأنظار، ويتوجهن للهجوم على الجنود الذين لا يستطيعون رؤيتهن، وحذا الصنَّاع حذو سادتهم فأفسحوا طريقًا بين صفوفهم، وفي غضون ذلك كانت كتائب منيعة من المساجين قد احتلت جميع المداخل. لم تدم المعركة — أو بالأحرى المذبحة — طويلًا، فقد أصابت كل هجمات النساء تقريبا أهدافها تحت القيادة العسكرية البارعة للكهنة، واستطاع معظمهن إخراج أطرافهن القاتلة سالمة استعدادًا لمذبحة ثانية، غير أنه لم تكن هناك حاجة إلى ضربة ثانية، فقد أهلك بقية الرعاع من المثلثات متساوية الساقين أنفسهم بأنفسهم، إذ ألجمتهم المفاجأة، وقُتِل قائدهم، وهاجمهم من أمامهم عدو خفي عن الأنظار، وقطع عليهم من ورائهم السجناءُ طريق الفرار، ففقدوا على الفور — كما هو دأبهم — قدرتهم على التفكير، وصاحوا «خيانة»، وكان ذلك إيذانًا بهلاكهم، رأى كل منهم خصمه وشعر بطعنته، وبعد نصف ساعة كان هذا الحشد الهائل قد هلك عن آخره، وامتلأ الميدان بأشلاء مائة وأربعين ألفًا من طبقة المجرمين الذين قتل بعضهم بعضًا، وكأنها تشهد بانتصار النظام. ولم يتوان الكهنة في السعي نحو تحقيق النصر الساحق، فعفوا عن العمال ولكنهم أعدموا القسم الأعظم منهم، وقاموا على الفور باستدعاء ميليشيات المثلثات متساوية الأضلاع، وعقدوا محكمة عسكرية أعدموا فيها من المثلثات كل من وجدوا سببًا مقنعًا للاشتباه في اختلاف أضلاعه، دون أن يُجري المجلس الاجتماعي قياسات دقيقة، وقامت حملات للتفتيش على منازل الجنود والحرفيين في سلسلة من الزيارات امتدت إلى كل المناطق واستمرت لمدة عام، وجرى خلال تلك المدة تطهير منظم لكل المدن والقرى والضياع من الفائض من الطبقات الدنيا الذي تسبب فيه إهمال دفع الضريبة المعتادة من الجناة إلى المدارس والجامعات، وخرق بقية القوانين الطبيعية التي يشتمل عليها دستور الأرض المسطحة، وهكذا عاد التوازن بين الطبقات من جديد. ومن نافلة القول أن أذكر أن استعمال الألوان قد أُلغي منذ ذلك الحين، وصارت حيازتها من المحظورات، حتى إن التلفظ بأية كلمة تشير إلى اللون صار جريمة يُعاقَب عليها بعقوبة مشددة، إلا إذا كان الفاعل واحدًا من الكهنة أو حملة الدرجات العلمية من أساتذة العلوم، ويقال إن استخدام اللون لم يزل مباحًا من آن لآخر في شرح بعض المسائل المعقدة في الرياضيات، وذلك فقط في جامعتنا وفي بعض الفصول الدراسية المتقدمة التي تقتصر على النخبة والتي لم أحظ بحضورها بصفة شخصية، وليس لدي ما أقوله في هذا الشأن إلا ما يتردد من شائعات. والآن لم يعد للون وجود في بقية أنحاء الأرض المسطحة، ولم يعد من بين الأحياء من يتقن فن صنعه إلا شخصًا واحدًا هو الكاهن الأكبر في كل عصر من العصور، وليس له أن يبوح بسره إلا ساعة احتضاره، ولا يبوح به إلا لخليفته في منصبه، ولا يعمل في إنتاج الألوان إلا مصنع واحد، وكل عام يعدمون العمال ويستبدلون بهم عمالًا جددًا، خشية أن يقوم أحدهم بإفشاء السر، وحتى في هذه الأيام لم يزل الأرستقراطيون عندنا يرتعدون فرقًا وهم يستعيدون ذكرى تلك الأيام السحيقة لثورة المشروع العالمي لقانون الألوان.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/11/
الكهنة
لقد حان الوقت للتوقف عن الاستطراد في هذه المذكرات الموجزة عن طبائع الأشياء في الأرض المسطحة والانتقال إلى الحدث الأساسي في هذا الكتاب، وهو اكتشافي لأسرار الكون ثلاثي الأبعاد. هذا هو موضوع الكتاب، ولم يكن كل ما سبق إلا مقدمة. لهذا السبب أجدني مضطرًّا إلى إغفال أمور كثيرة أحسب أن تفسيرها يهم القارئ، مثل: كيف نحرك أجسادنا أو نوقفها عن التحرك مع أننا بلا أقدام؟ وكيف نقيم أبنية ثابتة مصنوعة من الخشب أو الطوب أو الحجارة مع أننا بلا أيدي؟ وليس باستطاعتنا أن نضع أساسات للمباني كما تفعلون عندكم، أو أن نستفيد من الضغط الجانبي للتربة. كيف تتكون الأمطار في المساحات الفاصلة بين المناطق المختلفة عندنا بحيث لا تمنع المناطق الشمالية الأمطار من الوصول إلى المناطق الجنوبية؟ ما طبيعة التلال والمناجم؟ والأشجار والخضروات؟ ما طبيعة المواسم والمحاصيل؟ ما أبجديتنا؟ وما طريقة الكتابة التي نستخدمها لتتناسب مع ألواح الكتابة التي نصنعها على شكل خطوط؟ أجدني مضطرًّا للتغاضي عن كل تلك التفاصيل ومئات غيرها من تفاصيل وجودنا المادي، وأنا لا أذكرها الآن إلا لأوضح للقراء أن الباعث على إغفالها ليس نسيانًا من الكاتب، وإنما احترامًا منه لوقت القارئ. لا بد أن القارئ ينتظر قبل أن أبدأ الحديث عن الموضوع الأساسي بعض الملاحظات الأخيرة عن أركان الدستور وحماته في الأرض المسطحة، أولئك الذين يتحكمون في سلوكياتنا ويسيطرون على أقدارنا، أولئك الذين يحظون بتقدير العالم بأسره، بل تقديسه، هل من الضروري أن أوضح أنني أقصد الدوائر أو الكهنة؟ أرجو — عندما أطلق عليهم لفظ الكهنة — ألا تفهموا أن هذه الكلمة تعني عندنا ما تعنيه عندكم، فالكهنة عندنا هم الذين يتولون الإشراف على كل الأعمال والفنون والعلوم، وتوجيه المعاملات التجارية والقيادة العسكرية، وفنون البناء، والهندسة، والتعليم، وإدارة شئون الدولة، وسن التشريعات، والأخلاق، وعلوم الدين، وفي حين أنهم لا يفعلون شيئًا بأنفسهم، فهم من يقفون وراء كل الأعمال العظيمة التي يقوم بها الآخرون. يظن الجميع أن كل من يطلق عليه لقب دائرة هو في حقيقة الأمر دائري الشكل، ولكن المعروف بين أفراد الطبقات المتعلمة أنه لا يوجد بين الدوائر دائرة حقيقية، بل كلها أشكال عديدة الأضلاع، لها عدد لانهائي من الأضلاع المتناهية في الصغر، وكلما زاد عدد الأضلاع، زاد المضلع قربًا من الاستدارة، وعندما يصبح عدد الأضلاع كبيرًا جدًّا — ثلاثمائة أو أربعمائة ضلع على سبيل المثال، لن يصبح باستطاعة أي منا، مهما كانت لمسته بالغة الحساسية، أن يشعر بزاوية المضلع عديد الأضلاع، وترجع الصعوبة أيضًا — كما أوضحت من قبل — إلى أن التعرف عن طريق اللمس أمر لا تعرفه الطبقات الراقية من المجتمع، ويُعَد لمس الكهنة إهانة صارخة، والامتناع عن استخدام اللمس في الطبقات الراقية من المجتمع يحفظ للكهنة حجاب الغموض الذي يغلفون به طبيعة محيطهم، ونظرًا لأن متوسط محيط الفرد من الدوائر يصل إلى ثلاثة أقدام، ففي مضلع ذي ثلاثمائة ضلع لن يزيد طول كل ضلع عن جزء من مائة جزء من القدم، أو جزء من عشرة أجزاء من البوصة، وفي مضلع ذي ستمائة أو سبعمائة ضلع، لن يزيد طول الضلع إلا قليلًا عن قطر رأس الدبوس عندكم، ودائمًا ما نفترض — من باب التهذيب — أن عدد أضلاع الكاهن الأكبر في كل عصر هو عشرة آلاف ضلع. لا يرتبط ارتقاء ذرية الكهنة في السلم الاجتماعي — كما هو الحال بين أبناء الفئات الدنيا من الطبقات المنتظمة — بقانون الطبيعة الذي يحدد زيادة عدد الأضلاع في كل جيل بضلع واحد، فلو كان الأمر كذلك لكان حساب عدد أضلاع الكهنة مسألة يسيرة لا تتطلب أكثر من معرفة شجرة العائلة واستخدام علم الحساب، ولكان من المحتم أن يكون الحفيد رقم أربعمائة وسبعة وتسعين للمثلث متساوي الأضلاع مضلعًا ذا خمسمائة ضلع، ولكن واقع الأمر غير ذلك، فناموس الطبيعة يفرض قانونين متناقضين فيما يتعلق بتكاثر الدوائر؛ أولهما: كلما ارتقت السلالة في سلم التطور ازداد معدل التطور، وثانيهما: أن خصوبة السلالة تقل بنفس النسبة التي زاد بها معدل التطور، وبذلك يندر أن نجد ابنًا ذكرًا في منزل مضلع ذي أربعمائة أو خمسمائة ضلع، ويستحيل أن تجد اثنين، ومن المعروف أن ابن المضلع ذي الخمسمائة ضلع يكون ذا خمسمائة وخمسين ضلعًا أو قد يصل إلى ستمائة ضلع. ويتدخل العلم أيضا ليساعد في عملية تطور الطبقات العليا، فقد اكتشف أطباؤنا أن أضلاع الطفل عديد الأضلاع تكون صغيرة لينة بحيث يسهل كسرها وإعادة تشكيل هيكله بالكامل بدقة عالية، حتى إن مضلعًا ذا مائتين أو ثلاثمائة ضلع قد يستطيع في بعض الأحيان أن يثب مائتين أو ثلاثمائة جيل، ولا يحدث ذلك في كل الأحوال لأن العملية محفوفة بالمخاطر، ونستطيع لذلك أن نقول إنه في خطوة واحدة قد ضاعف عدد أسلافه وارتقي بذريته. كم من طفل واعد تنتهي حياته في هذه التجربة التي لا يكاد معدل نجاحها يتجاوز واحدًا من كل عشرة، غير أن هؤلاء الآباء عديدي الأضلاع الذين يعيشون على هامش طبقة الدوائر يغالون في طموحهم أشد المغالاة، حتى إنك لا تجد واحدًا منهم يتوانى عن الزج بطفله الأول في مؤسسات الدوائر للطرق العلاجية الحديثة قبل أن يتم شهره الأول. ويتحدد بعد مرور عام نجاح أو فشل التجربة، وأغلب الظن أن الطفل بنهاية هذا الوقت سيكون قد أضاف شاهد قبر آخر إلى مجموعة الشواهد التي تعج بها مقبرة المؤسسة العلاجية الحديثة، ولكن في أحيان نادرة يعود الطفل محمولًا في موكب سعيد إلى والديه اللذين تملؤهما السعادة والفخر، فلم يعد ولدهما عديد الأضلاع بل دائرة، على الأقل هكذا يدعونه من باب التهذيب. وحالة واحدة لهذا النجاح تحفز أعدادًا هائلة من الآباء عديدي الأضلاع على التضحية بأبنائهم في تجارب مماثلة تتفاوت في نتائجها.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/12/
مذهب كهنتنا
أما عن مذهب كهنتنا فأستطيع أن ألخصه في قاعدة واحدة وهي «اعتن ببنيتك الخارجية»، فكل تعاليمهم سواء السياسية أو الكنسية أو الأخلاقية تهدف إلى تطوير بنية الفرد والجماعة، مع التركيز بطبيعة الحال على بنية الدوائر، وهو الهدف الذي تتضاءل إلى جانبه بقية الأهداف. يرجع الفضل إلى الكهنة في دحض البدع القديمة التي أدت بالرجال إلى إهدار طاقاتهم وعواطفهم على المبدأ الفاسد القائل بأن سلوك الإنسان يخضع لإرادته، وكان بانتوسيكلاس — الكاهن العظيم الذي ذكرت من قبل أنه هو من تولى قمع ثورة الألوان — هو أول من هدى البشرية إلى أن بنية الرجل هي التي تصنعه، ولو أنك — على سبيل المثال — وُلِدت مثلثًا متساوي الساقين ذا ضلعين غير متساويين، فمن المؤكد أنك سوف تنحرف عن جادة الطريق ما لم تعالج هذا الخلل في واحدة من مستشفيات المثلثات متساوية الساقين. وبالمثل لو أنك من المثلثات أو المربعات أو حتى واحدًا من الأشكال عديدة الأضلاع وولدت مصابًا باختلاف في الأضلاع، فعليك أن تتوجه إلى إحدى مستشفيات الأشكال منتظمة الأضلاع لعلاج هذا الخلل، وإلا كانت نهايتك في سجن الدولة، أو على يد الجلاد. عزا بانتوسيكلاس جميع الآثام والنقائص — بدءًا من أبسط التصرفات المنافية لقواعد السلوك القويم حتى أبشع الجرائم — إلى نوع من الانحراف عن الانتظام التام في بنية الجسم، وإن لم يكن هذا الانحراف عيبًا خلقيًّا فربما كان ناشئًا عن تصادم وسط الزحام، أو إهمال أداء التمارين الرياضية، أو الإفراط فيها، أو قد يكون ناشئًا عن تغير مفاجئ في درجة الحرارة سبَّب انكماشًا أو تمددًا في جزء من الأجزاء الحساسة سريعة التأثر في الهيكل الخارجي للجسم، ولذا انتهي الفيلسوف اللامع بانتوسيكلاس إلى أن حسن السلوك وانحرافه ليسا مقياسًا موضوعيًّا للمدح أو الذم في تقدير العقلاء، فلماذا تمتدح — على سبيل المثال — أمانة المربع الذي يدافع بإخلاص عن مصالح موكِّله في حين أن عليك في الواقع أن تمتدح بدلًا من ذلك دقة زواياه القائمة؟ وعلى الجانب الآخر، لِمَ تلوم مثلثًا متساوي الساقين على الكذب أو السرقة في حين أنه يجب عليك أن تأسى لاختلاف أضلاعه الذي لا أمل في علاجه؟ وأرى أن هذا المذهب صحيح تمامًا من الناحية النظرية، غير أن به ثغرات من الناحية العملية، فلو أن أحد الأوغاد من المثلثات متساوية الساقين زعم أنه لا يملك منع نفسه عن السرقة بسبب اختلاف أضلاعه، فعليك أن تجيبه أنه لهذا السبب بالتحديد — لأنه لا يستطيع كف نفسه عن إيذاء جيرانه — فأنت أيضًا بوصفك قاضيًا لا تملك إلا أن تحكم عليه بالإعدام، وهذا هو فصل الخطاب. على أنه في النزاعات الأسرية الصغيرة التي لا يكون الحكم بالإعدام واردًا فيها يوقعنا تطبيق نظرية بنية الجسم أحيانًا في بعض المآزق، فمن آن لآخر يؤثر الارتفاع المفاجئ في درجة الحرارة سلبًا على محيط أحد حفيديَّ المسدسين، ويتخذ من ذلك حجة لتبرير عصيانه، ويقول إنني يجب ألا ألقي باللوم عليه بل على بنية جسده التي لا يقويها إلا وفرة من أفضل أنواع الحلوى، وتصيبني الحيرة عندما أواجه هذا المأزق؛ فلا أراه منطقيًّا أن أرفض أحكامه، ولا أراه عمليًّا أن أقبلها. وأرى من جانبي أن للتعنيف الشديد أثرًا خفيًّا في تقوية البنية الجسدية لأحفادي، مع أنني أعترف بأنني لا أملك مبررات منطقية لهذا الاعتقاد، وعلى أي حال فلست وحدي من يتخلص من هذا المأزق بهذه الطريقة، إذ إنني أجد أن كثيرًا من أعلى الكهنة منزلة — الذين يشغلون مقاعد القضاة في دور القضاء — يلجئون إلى المديح والتوبيخ في تعاملهم مع المضلعات المنتظمة وغير المنتظمة، وأعلم بحكم خبرتي أنهم عندما يوبخون أبناءهم في بيوتهم تنتابهم الحماسة وهم يتحدثون عن الصواب والخطأ، كما لو كانوا يعتقدون أن لهذه الكلمات كيانًا ملموسًا، وأن للإنسان القدرة على اختيار أي منهما. وفي إصرارهم الدائم على تطبيق سياستهم التي تجعل من بنية الجسم فكرة أساسية في كل العقول، يناقض كهنتنا جوهر الوصايا التي تحكم في عالمكم العلاقة بين الآباء والأبناء، فعندكم يعلمون الأطفال احترام آبائهم، أما عندنا — فإلى جانب الكهنة الذين هم محل تقدير العالم بأسره — يعلمون الرجل أن يحترم الذكور من أحفاده إذا كان له أحفاد، وأن يحترم الذكور من أولاده إن لم يكن له أحفاد، ومع ذلك فالاحترام هنا لا يعني التدليل بحال من الأحوال، ولكن يعني احترام مصالحهم العليا إلى حد التقديس، ويعلمنا الكهنة من الدوائر أن من واجب الآباء أن يقدموا مصلحة أبنائهم على مصلحتهم الشخصية، وبذلك يزيدون رفاهية الدولة بكاملها بالإضافة إلى رفاهية ذريتهم. يبدو لي أن الثغرة الوحيدة في نظام الكهنة تكمن في علاقتهم بالنساء، هذا إذا كان يجوز لمربع متواضع مثلي أن يتحدث عن نقاط ضعف في أي أمر يتعلق بالكهنة. لما كان الحد من المواليد مختلفي الأضلاع أمرًا في غاية الأهمية لمجتمعنا، فإن أي امرأة كان أسلافها يعانون نوعًا من اختلاف الأضلاع لا يمكن أن تكون زوجة مناسبة لرجل يرغب في أن ترتقي ذريته بخطى ثابتة في السلم الاجتماعي. إن عدم انتظام الأضلاع في الذكور مسألة تخضع للقياسات، ولكن النساء كلهن خطوط مستقيمة، ولذا فهن جميعًا يظهرن منتظمات إذا جاز لنا القول، وعلينا هنا أن نبتكر وسيلة أخرى للتحقق مما أدعوه عدم الانتظام الخفي في بنيتهن، أي التشوهات التي يحتمل أن تظهر في ذريتهن، ونعتمد في ذلك على سجلات النسب التي تتولى الدولة مسئولية حفظها والإشراف عليها، ولا يسمح للمرأة بالزواج ما لم يكن لديها سجل نسب موثق. لعلكم تظنون أن رجلًا من طبقة الدوائر يعتز بنسبه، ويرجو أن يأتي من ذريته من قد يشغل يومًا ما منصب الكاهن الأكبر، سيكون أحرص الناس على أن يتخير زوجة لا تشوب نسبها شائبة، ولكن الواقع خلاف ذلك، فيبدو أن الحرص على اختيار زوجة تحمل صفة انتظام الأضلاع يقل كلما ارتقى الرجل في المرتبة الاجتماعية، فلا شيء يغري مثلثًا متساوي الساقين — يطمح أن يكون ابنه مثلثًا متساوي الأضلاع — بالزواج من امرأة كان أحد أسلافها مصابًا بخلل في الأضلاع، ولكن المربع أو المخمس الذي يثق بأن عائلته تتقدم بخطى ثابتة على طريق الارتقاء لا يتحرى أبعد من خمسمائة جيل، ولا تبالي المسدسات والمضلعات ذات الاثني عشر ضلعًا كثيرًا بسجل نسب الزوجة. أما الرجل من الدوائر فيتعمد الزواج من امرأة كان جدها الثاني مختلف الأضلاع، وذلك بسبب البريق الذي تتمتع به، أو بسبب صوتها المنخفض الذي نراه صفة رائعة في المرأة. وكما لنا أن نتوقع فهذه الزيجات التي لا يحكمها العقل تكون عقيمة، إن لم تأت بذرية تعاني خللًا أو نقصانًا في الأضلاع، لكن هذه الأضرار ليست رادعة بما يكفي، ففقدان بضعة أضلاع من أحد المضلعات الراقية أمر لا نلحظه بسهولة، ويعالج أحيانًا بجراحة ناجحة في المؤسسة العلاجية الحديثة كما ذكرت في الفصل السابق، ويميل الكهنة كثيرًا إلى الإيمان بأن العقم واحد من ثوابت التطور، غير أنه لو لم يوضع حد لهذه الكارثة، فقد يتسارع معدل التناقص التدريجي في طبقة الدوائر، ولن يمر زمن طويل حتى يتداعى دستور الأرض المسطحة عندما تعجز سلالة الدوائر عن أن تقدم كبيرًا للكهنة. أرى أن عليَّ أن ألفت الأنظار إلى أمر آخر يتعلق بعلاقتنا بنسائنا، مع أنني لا أستطيع أن أذكر له علاجًا سهلًا، فقبل ثلاثمائة عام أصدر الكاهن الأكبر قرارًا ينص على أنه ينبغي ألا تُعامل النساء على أنهن مخلوقات عاقلة، ويجب ألا يتلقين أيًّا من العلوم العقلية، إذ إنهن يفتقرن إلى العقل ويتمتعن بفيض من العواطف. وكان من جراء ذلك أن حرمت النساء من تعلم القراءة، وتعلم مبادئ الحساب اللازمة لعد زوايا أزواجهن وأبنائهن، ولذا تراجعت القدرات الذهنية للنساء في كل جيل تراجعًا ملموسًا، ولا يزال هذا النظام القائم على عدم تعليم الإناث سائدًا. وأخشى ما أخشاه — ولا أقصد بقولي إلا خيرًا — أن الأمد قد طال بهذه السياسة حتى أضرت بالرجال. فعاقبة ذلك أن علينا — نحن الرجال — الآن أن نحيا حياة مزدوجة؛ نتحدث بلغتين، بل لعلنا أيضًا نعيش بعقليتين، فمع النساء نتحدث عن «الحب» و«الواجب» و«الصواب» و«الخطأ» و«العطف» و«الأمل» وغيرها من المفاهيم العاطفية المنافية للعقل التي لا وجود لها في الواقع، ولا تفيدنا هذه الأوهام إلا في السيطرة على العواطف الزائدة عند النساء، ولكن بيننا نحن الرجال، وفي كتبنا، نستخدم مفردات مغايرة تمامًا، بل تكاد تكون لغة أخرى، فيصبح «الحب» «حرصًا على المنفعة»، ويصبح «الواجب» «اضطرارًا» أو «تحقيقًا لمصلحة»، وعلى هذا النحو تتغير بقية الكلمات. ثم إننا فضلًا عن ذلك نستخدم مع النساء لغة تشي بالاحترام الكامل لجنسهن، حتى إنهن يؤمنَّ إيمانًا كاملًا بأن الكاهن الأكبر نفسه لا يحظى عندنا بنفس التقدير الذي يحظين به، ولكننا لا نراهن إلا كائنات حرمت نعمة العقل، ولا نتحدث عنهن في غيابهن إلا على هذا النحو، عدا الصغار منا. حتى إن ما نبديه أمام نسائنا من الدين يختلف اختلافًا تامًّا عما نظهره في أي مكان آخر. ومبعث خوفي الآن هو أن ثقافة الازدواج هذه — في اللغة والفكر على حد سواء — تعد عبئًا ثقيلًا على صغارنا، خصوصًا عندما يُنزَعون في الثالثة من عمرهم من أحضان أمهاتهم، ويُؤمرون بمحو اللغة القديمة من عقولهم، وألا يرددوها إلا على مسامع أمهاتهم ومربياتهم، وأن يتعلموا المفردات والمصطلحات العلمية. وأظن أنني ألمس ضعفًا في استيعاب الحقائق الرياضية في الوقت الحالي مقارنة بما كان يتمتع به أجدادنا من ذكاء متوقد منذ ثلاثمائة عام. ولن أتطرق للحديث عن الخطر الذي قد يتهددنا إذا استطاعت امرأة أن تتعلم القراءة خلسة وأن تنقل لبنات جنسها حصيلة قراءتها المتأنية لكتاب واحد من الكتب الشائعة، ولن أتطرق إلى الحديث عما قد يؤدي إليه طيش الصبية أو تمردهم من كشف لأسرار لغة المنطق أمام أمهاتهم. وخوفًا على عقلية الرجال من أن يعتريها ضعف أو وهن، أرفع هذا الالتماس المتواضع إلى السلطات العليا لكي تعيد النظر في القوانين التي تنظم تعليم المرأة.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/13/
كيف تراءت لي في المنام الأرض الخطية
حدث ذلك في اليوم قبل الأخير من عام ١٩٩٩ من زمننا، وكان أول أيام العطلة الدراسية الطويلة، وكنت قد أمضيت الوقت حتى ساعة متأخرة في ممارسة هوايتي المفضلة، وهي علم الهندسة، ثم أخلدت إلى النوم ولم تزل تلح على عقلي مسألة لم أنته من حلها، وفي الليل رأيت حلمًا. رأيت أمامي عددًا هائلًا من الخطوط المستقيمة الصغيرة (حسبت بطبيعة الحال أنها من النساء) تنتشر بينها كائنات أخرى أصغر منها تظهر على هيئة نقاط لامعة، وتتحرك كلها جيئة وذهابًا في نفس الخط المستقيم وبنفس السرعة حسبما بدا لي. وكانوا عندما يتحركون تنبعث منهم من آن لآخر أصوات كثيرة مختلطة كزقزقة العصافير، ولكنهم كانوا أحيانًا يتوقفون عن الحركة، وعندئذ كان يسود الصمت. ودنوت من أكبر من ظننتهن من النساء، وبادرتها بالكلام ولكنني لم أتلق أي رد، وحاولت مرة ثانية وثالثة ولكن دون جدوى، وعندما نفد صبري إزاء ما بدا لي وقاحة لا تحتمل، وضعت فمي في مواجهتها لأعترض حركتها، ورفعت صوتي بالسؤال مرة ثانية: «ما الذي يعنيه هذا التجمهر يا امرأة؟ وهذه الزقزقة الغريبة المختلطة؟ وهذه الحركة الرتيبة جيئة وذهابًا في نفس الخط المستقيم؟» كان واضحًا أن هذا المسكين الجاهل الذي لقَّب نفسه بالملك مقتنع بأن هذا الخط المستقيم الذي يعيش فيه ويدعوه مملكته هو العالم كله، بل الكون بأسره، ولم يكن يدري شيئًا عما هو خارج هذا الخط المستقيم لأنه لا يستطيع أن يتحرك خارجه أو أن يرى أي شيء خارجه، ومع أنه سمع صوتي عندما خاطبته أول مرة، فإن الصوت كان غريبًا على مسامعه فلم يرد، لأنه على حد تعبيره «لم ير إنسانًا، وسمع صوتًا كأنما يخرج من أحشائه»، وحتى اللحظة التي وضعت فيها فمي في عالمه لم يرني ولم يسمع شيئًا عدا أصوات مختلطة تصطدم بما حسبتُه جانبه، وأسماه هو أحشاءه أو معدته، ولم يكن لديه حتى الآن أدنى فكرة عن المنطقة التي أتيت منها، فكل ما هو خارج عالمه — أو خطه — لم يكن في نظره إلا فراغًا؛ لا ليس فراغًا، لأن الفراغ يعني ضمنًا الفضاء، لنقل إذن إن خارجه العدم. ورعيته جميعًا لا يتحركون إلا في هذا الخط المستقيم ولا يجاوزونه بأبصارهم، فهو كل عالمهم، وليست هناك حاجة لأن أضيف أن كل أفقهم محدود في نقطة، ولا يستطيع أي منهم أن يرى شيئًا عدا نقطة، وتستوي في ذلك كل المرئيات: الرجال والنساء والأطفال والجمادات، كل منها لا يزيد في نظر سكان الأرض الخطية عن نقطة، ولا يستطيعون تمييز الجنس أو العمر إلا عن طريق الصوت. ولما كان كل فرد يحتل بالكامل الطريق الضيق — إذا جاز التعبير — الذي يتكون منه عالمهم، ولا يستطيع أحدهم أن يتحرك جهة اليمين أو جهة اليسار ليفسح الطريق للعابرين، فلا يمكن لواحد من سكان الأرض الخطية أن يتخطى الآخر، فما داما متجاورين فسيبقيان كذلك إلى الأبد، إن علاقة الجوار عندهم تشبه علاقة الزواج عندنا، يظل الجيران جيرانًا حتى يفرق الموت بينهم. إن هذه الحياة التي لا يرى المرء فيها إلا نقطة، ولا يتحرك إلا في خط مستقيم، بدت لي كئيبة بما يفوق الوصف، واندهشت إذ لاحظت الحيوية والبهجة اللتين تميزان الملك، وتساءلت إن كان ممكنًا في ظل هذه الظروف التي لا تلائم العلاقات الأسرية أن يتمتع الناس بعلاقات زوجية طبيعية، وترددت لبعض الوقت في أن أوجه لجلالته سؤالًا حول أمر على هذه الدرجة من الحساسية، ولكنني استجمعت شجاعتي آخر الأمر وسألته فجأة عن صحة عائلته، فأجابني: «إن زوجاتي وأبنائي يتمتعون بالصحة والسعادة.» أذهلني رده، لأنني — كما لاحظت في الحلم قبل أن أدخل الأرض الخطية — لم أر بجوار الملك إلا رجالًا، فقلت له: «معذرة ولكنني لا أستطيع أن أتصور كيف تستطيع جلالتك في أي وقت من الأوقات أن تدنو من الملكات في حين أن بينك وبينهم ما لا يقل عن نصف دستة من الأشخاص، وأنت لا تستطيع أن تخترقهم ببصرك ولا أن تمر من جانبهم، هل لا يعد التجاور في الأرض الخطية ضروريًّا للزواج وإنجاب الأطفال؟» أجاب الملك: «كيف تسأل سؤالًا بهذا السخف؟ لو كان الأمر كما تقول لخلا الكون من سكانه في وقت قصير، لا ليس التجاور ضروريًّا كي تتحد القلوب، وإنجاب الأطفال مسألة أكثر أهمية من أن تترك رهنًا لتصادف الجوار. لا يمكن أن تكون غافلًا عن ذلك، ومع ذلك إذا كان يَسرُّك تَصنُّع الجهل فسوف أعلمك كما لو كنت طفلًا صغيرًا في الأرض الخطية، اعلم إذن أننا نعتمد في إتمام الزواج على الصوت وحاسة السمع.» «أنت تعلم دون شك أن لكل رجل عينين وفمين، أو صوتين، صوت من طبقة الباص في أحد طرفيه وصوت من طبقة التينور في الطرف الآخر. يجب ألا أذكر ذلك ولكنني عجزت عن تمييز طبقة التينور عندك طوال حديثنا»، فأجبته بأنني لا أملك إلا صوتًا واحدًا، وأنني لم أكن أعلم أن لجلالته صوتين. قال الملك: «هذا يؤكد انطباعي عنك أنك لست رجلًا، وإنما مسخًا أنثويًّا ذا صوت من طبقة الباص، وأذنًا لم تتدرب قط، ولكن لنواصل حديثنا.» «يفرض علينا قانون الطبيعة مرة في منتصف كل أسبوع أن نتحرك جيئة وذهابًا بحركة إيقاعية أقوى من حركتنا المعتادة، تستغرق الوقت الذي تحتاجه أنت لتعد حتى مائة وواحد، وفي منتصف هذه الرقصة الجماعية، عندما تصل في العد إلى واحد وخمسين، يتوقف جميع سكان العالم دفعة واحدة، ويطلق كل منهم أفضل أنغامه وأرقها، وفي هذه اللحظة الحاسمة تتم زيجاتنا كلها. كم يكون التآلف رائعًا بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من الأصوات، بين التينور والكونترألتو، حتى إن المتحابين يتعرف أحدهما في الحال نغمة الاستجابة التي يطلقها محبوبه الذي أهداه إياه القدر عبر مسافة تصل إلى عشرين ألف ميل، ويجمع الحب شمل ثلاثتهم مخترقًا حواجز البعد الواهية، وتنتج عن مثل هذا الزواج ذرية تتكون من ثلاثة من الذكور والإناث الذين يتخذون أماكنهم في الأرض الخطية.» فقلت: «ماذا! دائمًا ثلاثة؟ فهل لا بد أن تضع إحدى الزوجتين دائمًا توءمًا؟» فأجاب الملك: «نعم أيها المَسْخ غليظ الصوت، وإلا كيف يمكننا أن نحفظ التوازن بين الجنسين لو لم تكن نسبة المواليد من الإناث إلى المواليد من الذكور هي اثنين إلى واحد؟ هل تجهل أبجدية الطبيعة؟» ثم تَملَّكه الغضب فتوقف عن الكلام، ومضى بعض الوقت حتى استطعت أن أستحثه على مواصلة حكايته. «ولا تحسب أن كل أعزب منا يجد شريكتي حياته عند أول محاولة للتودد في هذا الكورال العالمي للزواج، فمعظمنا — على العكس من ذلك — يكرر ذلك مرات كثيرة، وقليلة هي القلوب التي يصادفها حسن الحظ في أن تتعرف على صوت شريكها، وأن تحلق في عناق متبادل تام التناغم. وتطول فترة التودد مع معظمنا، وقد يتناغم صوت الرجل مع واحدة من زوجتيه المرتقبتين دون الأخرى، وقد لا يتناغم في أول الأمر مع أي منهما، وقد لا يتآلف السوبرانو مع الكونترألتو تآلفًا تامًّا، وتقضي الطبيعة في مثل هذه الحالات بأن يلتقي المحبون الثلاثة في الحفل الغنائي الأسبوعي ويزداد التناغم والتآلف بينهم، وفي كل مرة يجربون فيها أصواتهم أو يكتشفون فيها نشازًا جديدًا يسعى من يعاني نقصًا إلى تعديل صوته طلبًا للكمال، وبعد محاولات كثيرة ومساع نحو الكمال، يتحقق الهدف المنشود، ويأتي في النهاية يوم يقام فيه الكورال المعتاد للزواج في الأرض الخطية، ويجد المتحابون الثلاثة بغتة أنهم في تناغم تام، ثم — قبل أن يدري أي منهم — يندمج ثلاثتهم في عناق صوتي مزدوج، وتسري في الطبيعة بهجة لهذا الزواج الجديد والمواليد الثلاثة الجدد.»
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/14/
كيف حاولت عبثًا أن أشرح طبيعة الأرض المسطحة
رأيت أن الوقت قد حان لأهبط بالملك من سماء نشوته إلى أرض المنطق السليم، وقررت أن أحاول أن أكشف له لمحات من الحقيقة، عن طبيعة الأشياء في الأرض المسطحة، وهكذا بدأت على هذا النحو: «كيف تميز جلالتك ملامح وأماكن رعاياك؟ فقد لاحظت بحاسة الإبصار قبل أن أدخل مملكتك أن بعضًا من شعبك من الخطوط المستقيمة، والبعض الآخر من النقاط، وأن بعضًا من الخطوط أكبر من غيرها»، فقاطعني الملك قائلا: «إن ما تتحدث عنه مستحيل، فلا بد أنك رأيت حلمًا، لأن تمييز الفارق بين الخط والنقطة — كما هو معروف للجميع — أمر مستحيل في طبيعة الأشياء، ولكن يمكن تمييزه عن طريق حاسة السمع، وتستطيع أن تتحقق تمامًا من شكلي على هذا النحو، انظر إليّ، أنا أطول الخطوط في الأرض الخطية، يزيد حجمي على ست بوصات …» فتجرأت على مقاطعته قائلًا: «بل طولك»، فأجاب: «أيها الأحمق، الحجم هو الطول، ثم إياك أن تقاطعني مرة ثانية وإلا توقفتُ عن الكلام.» اعتذرت إليه، ولكنه استمر في التوبيخ قائلًا: «ما دام القول لا يجدي معك، فسوف تسمع بأذنك كيف أستطيع باستخدام صوتَيَّ أن أنقل صورتي لزوجتَيَّ اللتين تبعدان عني الآن ستة آلاف ميل وسبعين ياردة وقدمين وثمان بوصات، وإحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، أنصت ها أنا أنادي عليهما.» أطلق زقزقة ثم استأنف حديثه شاعرًا بالرضا عن نفسه: «إن زوجتَيَّ تستقبلان الآن أحد صوتَيَّ يتبعه الآخر مباشرة، وتدركان أن الصوت الثاني يصلهما بعد فاصل زمني يقطع فيه الصوت مسافة طولها ٦,٤٥٧ بوصة، وهكذا تستنتجان أن أحد فميّ يبعد عن الآخر بمقدار ٦,٤٥٧ بوصة، وتعرفان بذلك أن طولي هو ٦,٤٥٧ بوصة، ولكنك سوف تدرك بالطبع أن زوجتَيَّ لا تقومان بهذه العمليات الحسابية في كل مرة تسمعان فيها صوتي، فقد قامتا بها مرة واحدة عندما تزوجنا، ولكن بمقدورهما إجراءها في أي وقت، وأستطيع بنفس الطريقة أن أقدر طول أيّ من رعاياي من الذكور باستخدام حاسة السمع.» فقلت: «ولكن ماذا لو استخدم رجل أحد صوتيه ليقلد صوت امرأة؟ أو أخفى نبرات صوته الجنوبي بحيث لا يميز أحد أنه صدى الصوت الشمالي؟ ألن تسبب هذه الخدع إزعاجًا كبيرًا؟ ثم أليس لديكم وسائل لكشف مثل هذه الخدع بأن تأمروا المتجاورين من رعاياكم بلمس أحدهم الآخر؟» كان ذلك سؤالًا في غاية الغباء، لأن حاسة اللمس ما كانت لتفي بالغرض، ولكنني كنت أرمي من وراء سؤالي إلى أن أثير ثائرة الملك، وقد نجحت في ذلك تمامًا. «ماذا!» صرخ الملك في فزع، «أوضح مقصدك»، فأجبته: «التحسس، التلامس، الاتصال»، فقال: «إذا كنت تقصد باللمس شدة التقارب حتى تتلاشى المسافات الفاصلة بين الفردين، فاعلم أيها الغريب أن عقوبة هذه الجريمة في بلادنا هي الموت، والسبب واضح، فإن البنية الجسدية الضعيفة للمرأة عرضة لأن تتهشم من جراء هذا التقارب، ويجب على الدولة أن تحميها من ذلك، ولما كان من العسير تمييز النساء من الرجال باستخدام حاسة الإبصار، فالقانون ينص على أنه لا يجوز الاقتراب من النساء أو الرجال إلى الحد الذي يلغي المسافة الفاصلة بين الفرد ومن يجاوره.» «وما الهدف الذي سيتحقق من وراء هذا التجاوز في القرب الذي تأباه الطبيعة ويحرمه القانون، وتسميه أنت اللمس؟ لاسيما أن كل ما نسعى إليه من وراء هذه العملية الهمجية الخشنة يمكن أن يتحقق على نحو أكثر دقة وسهولة باستخدام حاسة السمع، أما عن خطر الخداع الذي تتحدث عنه فليس له وجود، لأن الصوت هو جوهر كيان كل منا، ولا يستطيع المرء أن يغيره كيفما يشاء، ولكن لنفترض أنني أمتلك القدرة على المرور عبر الأجسام الصلبة، وأنني أستطيع بذلك اختراق رعاياي، واحدًا بعد الآخر، حتى لو كان عددهم مليارًا، وأن أتحقق من حجم كل منهم والمسافات الفاصلة بينهم باستخدام حاسة اللمس، كم من الوقت والطاقة سيتبددان في هذه الطريقة الخرقاء التي تفتقر إلى الدقة! في حين تكفي الآن لحظة من الإنصات لأعرف بها التعداد والبيانات الإحصائية، المحلية والمادية والنفسية والروحية لكل الكائنات الحية في الأرض الخطية، أصغ! ليس عليك إلا أن تصغي!.» وعند ذلك، صمت هنيهة وكأنما غمرته النشوة وهو يرهف السمع، ولكن الصوت لم يزد في مسامعي على زقزقة خافتة لعدد لا حصر له من الجنادب. فأجبته: «الحق أن حاسة السمع لديك تنفعك نفعًا عظيمًا، وتعوض كثيرًا من جوانب النقص لديك، ولكن إذا أذنت لي في القول فإن حياتكم في الأرض الخطية مملة إلى حد الرثاء، ألا أرى شيئًا عدا نقطة! ألا يكون باستطاعتي حتى أن أرى خطًّا مستقيمًا! ليس ذلك فحسب، بل ألا أعرف ما هو الخط المستقيم! خير لي ألا أكون مبصرًا على الإطلاق من أن يكون كل ما أبصره قليلًا إلى هذا الحد. أعترف بأنني لا أمتلك قدرتكم على التمييز عن طريق السمع، ولا أرى في الحفل الكبير الذي يضم أهل الأرض الخطية جميعًا — والذي تستمتعون به أيما استمتاع — غير زقزقة أو تغريد جماعي، ولكنني على الأقل أستطيع أن أميز باستخدام البصر بين الخط والنقطة، ودعني أبرهن لك على ذلك، فقبل أن أدخل إلى مملكتك مباشرة، رأيتك تتحرك حركة إيقاعية من اليسار إلى اليمين ثم من اليمين إلى اليسار، وكان بجوارك جهة اليسار سبعة رجال وامرأة، وجهة اليمين ثمانية رجال وامرأتان، أليس هذا صحيحًا؟» فأجبته: «ليس هذا ما أقصده، فإلى جانب حركتكم جهتي الشمال والجنوب، هناك حركة أخرى أسميها من اليمين إلى اليسار.» وبدأت عندئذ في تحريك جسدي خارج الأرض الخطية، وظل الملك يصيح: «أنا أراك، أراك ساكنًا، أنت لا تتحرك» وذلك لأن جزءًا من جسدي ظل في أرضه وفي مجال إبصاره، ولكنني عندما أخرجت جسدي بالكامل خارج خطه صرخ بأعلى صوته: «لقد اختفت، لقد ماتت»، فأجبته: «لم أمت، لقد خرجت فقط من الأرض الخطية، أي خارج الخط المستقيم الذي تدعوه الكون، وأنا الآن في الكون الحقيقي، حيث أستطيع أن أرى الأشياء على حقيقتها، وفي هذه اللحظة أستطيع أن أرى خطك، أو جانبك أو جذعك كما يحلو لك أن تسميه، وأستطيع أيضًا أن أرى الرجال والنساء إلى الشمال وإلى الجنوب منك، وسوف أحصي الآن عددهم، وأصف لك ترتيبهم، وأطوالهم، والمسافات الفاصلة بينهم.» وعندما قمت بذلك آخر الأمر صرخت منتصرًا: «هل أقنعك ذلك أخيرًا؟»، ثم دخلت من جديد الأرض الخطية متخذًا نفس موقعي السابق. ولكن الملك أجاب: «لو كنتَ رجلًا منطقيًّا — مع أنني أرتاب بعض الشيء في كونك رجلًا لأنك تمتلك فيما يبدو صوتًا واحدًا، ولكن لو كانت لديك ذرة من منطق، لاستمعت إلى صوت العقل، أنت تطلب مني أن أصدق أن هناك خطًّا آخر إلى جانب ذلك الذي أدركه بحواسي، وأن هناك نوعًا آخر من الحركة غير تلك التي أراها كل يوم، وأنا بدوري أطلب منك أن تصف بالكلمات أو تبين عن طريق الحركة ذلك الخط الآخر الذي تتحدث عنه، ولكنك بدلًا من أن تتحرك تمارس نوعًا من الحيل السحرية للاختفاء ومعاودة الظهور مرة أخرى، وبدلًا من أن تقدم لي صورة واضحة لعالمك الجديد، تخبرني فقط بأعداد وأطوال نحو أربعين من حاشيتي، وهي حقائق يعرفها أي طفل في عاصمتنا، هل هناك ما هو أكثر جنونًا أو وقاحة من ذلك؟ اعترف بحماقتك أو ارحل عن أرضي.» أحنقني عناده، وأثار غضبي مجاهرته بأنه يجهل نوعي، فأفلت مني زمام الكلمات، وصحت قائلًا: «أيها المخلوق مختل العقل! أنت تظن نفسك نموذج الكمال في الكون، ولكنك في حقيقية الأمر أكثر المخلوقات نقصًا وخبالًا، وتزعم أنك قادر على الإبصار، والحقيقة أنك لا تبصر شيئًا عدا نقطة، وتتباهي بقدرتك على أن تستدل على وجود الخط المستقيم ولكنني أستطيع رؤية الخطوط المستقيمة، وأستدل على وجود الزوايا والمثلثات والمربعات والمخمسات والمسدسات وحتى الدوائر. وما حاجتي إلى مزيد من الكلمات؟ يكفيني أنني النموذج الكامل لكيانك الناقص، أنت مجرد خط، وأنا اتحاد عدد من الخطوط يسمونها في بلادي مربعًا، ومع أنني أتفوق عليك تفوقًا لا حد له، فإنني لا أحتل مكانة عالية بين كبار النبلاء في الأرض المسطحة، الأرض التي أتيت منها لزيارتكم، مؤملًا أن أمحو ظلام جهلكم.» وعندما سمع الملك هذه الكلمات تقدم نحوي بصيحة متوعدة كما لو كان يتهيأ لقتلي، وفي نفس الوقت اتحدت أصوات أعداد هائلة من رعاياه في صيحة حرب واحدة، وما زالت تتعالى صيحتهم حتى ظننت أنها فاقت آخر الأمر صيحة جيش قوامه مائة ألف من المثلثات متساوية الساقين، وهدير مدفعية ألف من المخمسات، وقفت في مكاني مشدوهًا بلا حراك، ولم أستطع أن أتكلم أو أتحرك لأتفادى الهلاك الوشيك، وما زالت الضوضاء تزداد صخبًا، ودنا مني الملك، ثم أعادني جرس الإفطار إلى الواقع في الأرض المسطحة فأفقت من نومي.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/15/
زائر من سبيسلاند
ومن الأحلام أعود إلى الحقائق. وكان أبنائي الأربعة وحفيداي اليتيمان قد أخلدوا إلى النوم في حجراتهم، ولم يبق معي إلا زوجتي لنكون معًا في وداع الألفية الحالية، ولنحتفل بقدوم الألفية الجديدة. كنت مستغرقًا في التفكير، أدير في ذهني كلمات كان أصغر حفيديَّ قد نطق بها بطريقة عفوية، وهو مسدس واعد صغير السن ذو ذكاء نادر وزوايا تامة الانتظام، وكنت أشترك مع أعمامه في إعطائه الدرس العملي المعتاد في التعرف عن طريق البصر، وكنا ندور حول أنفسنا بسرعة كبيرة تارة ثم ببطء تارة أخرى، ونسأله عن مواقعنا، وأسعدتني إجاباته جدًّا حتى إنني قررت أن أكافئه بإعطائه بضع أفكار في علم الحساب، وتطبيقاتها في علم الهندسة. فقلت وقد ضايقتني مقاطعته بعض الشيء: «اذهب للنوم، لو أقللت من التكلم بالترّهات، لوعى عقلك مزيدًا من المنطق السليم.» وهكذا توارى حفيدي خجلًا، وجلست هناك إلى جوار زوجتي، محاولًا أن أستعيد أحداث عام ١٩٩٩ وأن أفكر فيما يحمله عام ٢٠٠٠ من احتمالات، ولكنني لم أستطع أن أتخلص بالكامل من الأفكار التي أثارتها ثرثرة المسدس الصغير متوقد الذكاء، ولم يكن باقيًا إلا بضع ذرات من الرمال في الساعة الرملية، وانتبهت من هذه الأفكار فقلبت الساعة الرملية جهة الشمال للمرة الأخيرة في الألفية الحالية، وقلت بصوت عال «إن الصبي أحمق.» وشعرت في الحال بوجود شخص في الغرفة، وسرت في جو الغرفة نسمة باردة، صاحت زوجتي: «ليس الصبي أحمق، وإنك تخالف الوصايا بإهانة حفيدك على هذا النحو»، ولكنني لم ألق لها بالًا، ونظرت حولي في كل اتجاه ولكنني لم أر شيئًا، وكنت مع ذلك أحس بوجود هذا الشخص، وارتعدت إذ شعرت بتلك النسمة الباردة مرة ثانية، فوثبت من مقعدي. سألَتْ زوجتي: «ماذا دهاك؟ ليس هناك تيار هواء، عماذا تبحث؟ لا شيء هناك.» حقًّا لم يكن هناك شيء، وعدت إلى مقعدي، وكررت ما قلته من قبل: «هذا الصبي أحمق، إن مكعب الرقم ثلاثة لا يمكن التعبير عنه هندسيًّا»، وعلى الفور سمعت صوتًا يقول: «ليس الصبي أحمق، ومكعب الرقم ثلاثة له مغزى هندسي واضح.» سمعت أنا وزوجتي هذه الكلمات، مع أنها لم تدرك لها معنى، ووثب كلانا باتجاه الصوت، وفزعنا فزعًا شديدًا إذ أبصرنا أمامنا جسدًا! وبدا للوهلة الأولى أنه جسد امرأة تواجهنا بجانبها، ولكنني عندما أمعنت النظر ظهر لي أن الطرفين يخفت ضوؤهما بسرعة أكبر من أن يكونا طرفا امرأة، وكدت أجزم بأنها دائرة لو لم يكن حجمها يتغير بطريقة تستحيل على الدوائر أو غيرها من الأشكال المنتظمة التي لقيتها في حياتي. لكن زوجتي لم يكن لديها ما لدي من الخبرة ورباطة الجأش لتنتبه لهذه الصفات، وبالطيش والغيرة العمياء المميزين للنساء وثبت على الفور إلى استنتاج أن امرأة دخلت البيت عبر فتحة صغيرة، وصاحت: «من أين دخلت هذه المرأة هنا؟ لقد وعدتني ألا يكون في بيتنا الجديد فتحات للتهوية»، فأجبتها: «وليس فيه بالفعل أي فتحات للتهوية، ولكن ما الذي جعلك تظنين أن هذا الغريب امرأة؟ فأنا أري بقدرتي على التعرف البصري …»، فقاطعتني زوجتي قائلة: «أنا لا أملك البال الرائق للتعرف البصري، «اللمس هو خير برهان»، و«إن خطًّا مستقيمًا تلمسه بنفسك خير من دائرة لا تراها إلا بعينك»»، وهما من الأمثال الشائعة بين النساء في الأرض المسطحة. أجبتها وأنا أخشى أن أثير غضبها: «حسنًا، لو لم يكن هناك مفر من ذلك، فعليك أن تطلبي التعرف إليها»، فتقدمت زوجتي باتجاه المرأة الغريبة قائلة بصوت غاية في الرقة: «ائذني لي يا سيدتي أن أتعرف إليك وأن تتعرفي إلي باللمس …»، ولكنها تراجعت فجأة وصاحت: «إنها ليست امرأة، وليس هناك أثر لزاوية واحدة، هل يمكن أن أكون قد أسأت الأدب إلى هذا الحد مع واحد من الكهنة ذوي المنزلة الرفيعة؟» أجاب الصوت: «أنا بالفعل دائرة نوعًا ما، وأكثر اكتمالًا من أي دائرة في الأرض المسطحة، ولكنني — بتعبير أكثر دقة — اتحاد كثير من الدوائر في كيان واحد»، ثم أضاف بنبرة هادئة: «إنني يا سيدتي أحمل لزوجك رسالة يجب ألا أسلمها إليه في حضورك، فإذا أذنت لنا أن ننتحي جانبًا بضع دقائق …»، ولكن زوجتي ما كانت لتنصت لهذا العرض الذي يسبب إزعاجًا لزائرنا المهيب، وأكدت للكاهن أن موعد نومها قد مر منذ وقت طويل، وأعادت الاعتذار مرات كثيرة عما ارتكبته من حماقة، ثم أوت في النهاية إلى غرفتها. ألقيت نظرة سريعة على الساعة الرملية، كانت ذرات الرمل الأخيرة قد تساقطت، وبدأت الألفية الثالثة.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/16/
كيف حاول الغريب عبثًا أن يكشف لي بالكلمات أسرار سبيسلاند
وما إن تلاشى صوت صيحة السلام لزوجتي بعد أن غادرتْ الغرفة حتى بدأت أدنو من الغريب لألقي عليه نظرة عن كثب وأدعوه إلى الجلوس، ولكن مظهره أذهلني فوقفت مكاني بلا حراك ولم أنبس بكلمة. لم تكن تبدو عليه ملامح لأي زوايا، ومع ذلك كانت مساحته ودرجة بريقه يتغيران كل لحظة على نحو لم أره من قبل في أي مضلع من المضلعات التي قابلتها في حياتي، وخطر لي أنني ربما أكون قد لقيت لصًا أو قاتلًا، أحد المشوهين من المثلثات متساوية الساقين، الذي اصطنع صوت أحد الكهنة، ونجح بطريقة ما في دخول البيت، وكان في تلك اللحظة يستعد لطعني بزاويته الحادة. كان من الصعب أن أعتمد على التعرف البصري نظرًا لغياب الضباب في غرفة الضيوف والجفاف الملحوظ الذي تميز به ذلك الفصل، خصوصًا أنني كنت أقف على مقربة. وإذ أفقدني الخوف صوابي، اندفعت إلى الأمام قائلًا بطريقة تفتقر إلى اللياقة: «أرجو أن تأذن لي يا سيدي …» وتحسسته، كانت زوجتي محقة، لم يكن هناك أثر لزاوية واحدة، لا أثر لخشونة أو تفاوت، لم ألق طيلة حياتي دائرة تفوق هذه الدائرة اكتمالًا. ظل الغريب ساكنًا وأنا أتحرك من حوله، أبدأ من عينه ثم أعود إليها مرة ثانية، كانت بنيته تامة الاستدارة ولم يكن هناك مجال للشك في ذلك، ثم دار بيننا حوار سأحاول أن أسجله كما أتذكره، ولن أسقط منه إلا بعضًا من اعتذاراتي الكثيرة، فقد كان يغمرني الخزي والخجل لأنني ارتكبت إساءة اللمس بحق واحد من طبقة الدوائر. بدأ الغريب هذا الحوار وقد بدا عليه شيء من التبرم من طول عملية التعارف. لم أستطع أن أرى صعودًا، ولكنه أخذ يتضاءل في المساحة شيئًا فشيئًا حتى اختفى في النهاية، أغمضت عيني وفتحتها مرة أو مرتين لأتأكد من أنني لا أحلم، ولكن لم يكن ذلك حلمًا، لأنني سمعت صوتًا مكتومًا لا يأتي من اتجاه محدد، سمعته قريبًا من قلبي يقول: «هل اختفيتُ بالكامل؟ هل اقتنعتَ الآن؟ سوف أعود الآن إلى الأرض المسطحة تدريجيًّا، وسترى أن دائرتي تزداد اتساعًا تدريجيًّا.» سيدرك جميع القراء في سبيسلاند بسهولة أن ضيفي الغامض كان يتحدث بصدق وبساطة، ولكن لم يكن ما قاله أمرًا بسيطًا على الإطلاق بالنسبة لي مع أنني خبير بعلم الرياضيات في الأرض المسطحة، وسيوضح الشكل التقريبي السابق لكل طفل في سبيسلاند أن الكرة في صعودها إلى المواضع الثلاث الموضحة لا بد أن تظهر لي — أو لأي من سكان الأرض المسطحة — في هيئة دائرة، وأنها ستكون تامة المساحة أول الأمر، ثم تقل مساحتها، ثم لا تكاد تزيد آخر الأمر عن نقطة، ولكنني لم أدرك لذلك سببًا مع أنني رأيت الحقائق بعيني، وكل ما استطعت أن أفهمه هو أن هذا الكائن الدائري قد انكمش ثم اختفى، ثم عاود الظهور وأخذ في زيادة مساحته بسرعة. وعندما عاد إلى حجمه الطبيعي أطلق تنهيدة عميقة لأنه عرف من صمتي أنني عجزت تمامًا عن فهمه، والحق أنني كنت الآن أقرب إلى الاعتقاد بأنه ليس دائرة على الإطلاق، وإنما مشعوذ على درجة عالية من البراعة، أو لعل حكايات العجائز القديمة عن السحرة لم تكن كلها خيالًا. لبث صامتًا برهة ثم تمتم: «لم تبق إلا وسيلة واحدة قبل أن ألجأ إلى الفعل، عليّ أن أجرب طريقة القياس»، ثم صمت طويلًا مرة ثانية قبل أن يستأنف الحوار. كنت الآن على وشك أن أثب على زائري وأقذف به إلى الفضاء، أو خارج الأرض المسطحة، أو إلى أي مكان يخلصني منه، ولكنني أجبته كاظمًا غيظي: «وما طبيعة هذا الشكل الذي سيتكون بهذه الحركة التي تصر على أن تشير إليها بكلمة ’لأعلى‘؟ أظن أنك تستطيع أن تستعمل لوصفها لغة الأرض المسطحة.» فصرخت: «أيها المسخ، لن أتحمل مزيدًا من ترهاتك سواء كنت ساحرًا أو مشعوذًا أو حلمًا أو شيطانًا، فإن أحدنا سوف يموت»، ثم اندفعت نحوه.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/17/
كيف لجأ الغريب إلى الأفعال بعد أن أعيته الكلمات
لم يُجْد ذلك نفعًا، فقد اندفعتُ نحو الغريب بأشد زواياي القائمة صلابة، واصطدمت به اصطدامًا عنيفًا، ضاغطًا بقوة تكفي لتدمير أي دائرة عادية، ولكنني شعرت به ينزلق ببطء مبتعدًا عني وعجزت عن إيقافه، لم يتحرك جهة اليمين ولا جهة اليسار، ولكنه بطريقة أو بأخرى تحرك خارج العالم، وتلاشى تمامًا، وظللت مع ذلك أسمع صوت هذا الدخيل. هرعت إلى الخزانة وفتحت بابها بعنف، كان أحد السجلين قد اختفى، وبضحكة ساخرة ظهر الغريب في الركن الآخر من الغرفة، وفي نفس الوقت، ظهر السجل على أرضية الغرفة فالتقطته، لم يكن هناك أدنى شك في أنه السجل المفقود. أصابني الرعب، وظننت أنني قد فقدت عقلي، ولكن الغريب واصل الكلام قائلًا: «عساك تكون قد عرفت الآن أنه لا تفسير لهذه الظواهر سوى ما قلت لك. إن ما تدعونه مجسمات ليس في حقيقة الأمر إلا أشياء مسطحة، وما تدعونه الفضاء ليس إلا مستوى شاسعًا. أنا أحيا في الفضاء، وأتطلع من أعلى إلى بواطن الأشياء التي لا ترون منها إلا حدودها الخارجية، وبوسعك أنت أيضًا أن تغادر هذا المستوى إذا استطعت فقط أن تستجمع إرادتك. إن حركة بسيطة لأعلى أو لأسفل سوف تجعلك ترى كل ما أراه.» «كلما أخذتُ في الصعود لأعلى وابتعدتُ عن المستوى الذي تعيشون فيه، استطعتُ أن أرى أكثر، ولكنني بطبيعة الحال أرى الأشياء أصغر من حجمها الحقيقي، على سبيل المثال أنا الآن آخذٌ في الصعود، أرى جارك سداسي الأضلاع وعائلته في غرفهم المتعددة، وأرى — على بعد عشرة أبواب — المسرح والمتفرجين وقد خرجوا لتوهم، وأرى على الجانب الآخر أحد الكهنة في غرفة مكتبه يجلس إلى كتبه، والآن أعود إليك، ولكي أعطيك دليلًا دامغًا ما رأْيُك أن ألمسك لمسة طفيفة جدًّا في معدتك؟ إنها لن تسبب لك أذى بالغًا، والألم الطفيف الذي ستشعر به لا يضاهي ما سيعود عليك من نفع عقلي.» وقبل أن أتفوه بكلمة احتجاج شعرت بألم حاد في أحشائي، وبدا كأن ضحكة شيطانية تنبعث من أعماقي، وبعد وقت قصير سكن الألم المبرح، ولم يخلف وراءه إلا وجعًا خفيفًا. عاود الغريب الظهور، وقال وحجمه آخذ في الازدياد: «ها قد عدت، أرجو ألا أكون قد آلمتك بشدة، إذا لم تكن قد اقتنعت حتى الآن فأنا لا أدري كيف أقنعك، فماذا ترى؟» كنت قد اتخذت قراري، فأنا لن أتحمل البقاء تحت رحمة الزيارات العشوائية لهذا الساحر الذي يستطيع بحيله أن يتلاعب بمعدتي ذاتها، لو أنني كنت أستطيع أن أدفعه قبالة الجدار وأشل حركته حتى تأتي النجدة! انقضضت عليه مرة ثانية لأطعنه بزاويتي ودوت في نفس الوقت صرخات استغاثتي لتمزق سكون البيت، وأظن أن الغريب قد هبط لحظة الهجوم عليه أسفل المستوى ثم واجه صعوبة حقيقية في معاودة الصعود، ولكنه على أي حال ظل بلا حراك في حين ضاعفتُ من شدة ضغطي عليه إذ خُيِّل لي أني سمعت صوت اقتراب أحدهم لنجدتي، وواصلت صرخات الاستغاثة. سرت رجفة في جسد الغريب، وخيل إلى أني سمعته يقول: «هذا لن يكون، إما أن ينصت لصوت العقل أو يكون عليّ أن أستعين بآخر وسائل الحضارة»، ثم رفع صوته وهتف متعجلًا: «أنصت إلى، إن ما رأيته محرَّم على الغرباء، عليك في الحال أن تأمر زوجتك بالعودة من حيث أتت قبل أن تدخل هذه الغرفة، إن عقيدة الأبعاد الثلاثة لا تجوز مخالفتها على هذا النحو، ولا يجوز أن أضحي بثمرة ألف عام من الانتظار بهذه الطريقة، تراجع! تراجع! ابتعد عني وإلا كان عليك أن تذهب معي — من حيث لا تدري — إلى أرض الأبعاد الثلاثة!» فصرخت: «أيها الأحمق المجنون! أيها المسخ! لن أطلق سراحك أبدًا، سوف تلقى جزاء خداعك.» دوى صوت الغريب قائلًا: «هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟ فلتلق إذن جزاء ما فعلت: سأنتزعك من عالمك. واحد، اثنان، ثلاثة! قضي الأمر!»
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/18/
كيف وصلت إلى سبيسلاند وماذا رأيت هناك
تملكني رعب لا أستطيع أن أصفه بالكلمات، وساد ظلام، ثم أحسست بدوار وغثيان وبدأت أبصر، لكن لا كما اعتدت أن أبصر، ورأيت خطًّا لا يمت للخطوط بصلة، ورأيت فضاء لا يشبه الفضاء الذي أعرفه، حتى أنا لم أكن أنا. وعندما عاد إلي صوتي صرخت قائلًا: «إما أنني قد جننت أو أن هذا هو الجحيم»، فجاءني صوت الكرة وهو يقول بنبرة هادئة: «ليس جحيمًا ولا جنونًا، إنها المعرفة، إنها الأبعاد الثلاثة، افتح عينك مرة ثانية وحاول أن تنظر بثبات.» نظرتُ، ورأيت عجبًا، رأيت عالمًا جديدًا، فقد تجسد أمامي كل ما حلمت به واستنتجته وخمنته من الكمال الدائري، وكان ما حسبته مركز جسد الغريب واضحًا أمام عيني، ولكنني مع ذلك لم أر قلبًا أو رئتين أو شرايين، وإنما شيئًا جميلًا متجانسًا لا أستطيع تصويره بالكلمات، ولكنكم — قرائي في سبيسلاند — تسمونه سطح الكرة. وسجدت في عقلي أمام معلمي، وصحت: «أنت يا من جعله الخالق مثال الجمال والحكمة، كيف أرى باطنك دون أن أرى لك قلبًا أو رئتين أو شرايين أو كبدًا؟» فأجابني: «أنت لا ترى ما تحسب أنك تراه، فإنك لا تستطيع — ولا يستطيع أي كائن آخر — أن يرى أعضائي الداخلية، لأنني أنتمي إلى نوع من الكائنات يختلف عن سكان الأرض المسطحة، ولو كنتُ دائرة لاستطعتَ أن ترى أحشائي، ولكنني — كما أخبرتك من قبل — أتكون من عدد كبير من الدوائر، أي اتحاد الكثير في كيان واحد، وهو ما يسمونه هنا كرة، وكما أن الحدود الخارجية للمكعب تتخذ هيئة مربع، فالحدود الخارجية للكرة تتخذ هيئة دائرة.» أذهلتني كلمات معلمي الغامضة، ولكنها لم تعد تثير ثائرتي، وتطلعت إليه في إعجاب صامت يرقى إلى التقديس، فاستأنف حديثه وقد اكتسب صوته مزيدًا من الهدوء قائلًا: «لا تنزعج إذا لم تستطع أول الأمر أن تفهم الأسرار الغامضة في سبيسلاند، فسوف تتكشف لك شيئًا فشيئًا، ولنبدأ بإلقاء نظرة على الأرض التي أتيتَ منها. لنعد معًا إلى سهول الأرض المسطحة بعض الوقت، وسأريك شيئًا طالما فكرتَ فيه وحَسَبتَه ولكنك لم تره بعينك قط، سأريك الزاوية»، فصحت: «مستحيل!»، ولكنه تقدمني فتبعته كأنني أحلم، حتى أوقفني صوته مرة أخرى وهو يقول: «انظر هناك، وتطلع بعينك إلى بيتك الخماسي، وجميع سكانه.» نظرت لأسفل فرأيت بعيني تفاصيل المنازل التي كنت حتى ذلك الوقت لا أستطيع إلا أن أحدسها بعقلي، وكم كان الحدس مشوهًا وباهتًا إلى جانب الواقع الذي أراه الآن! كان أبنائي الأربعة نائمين في هدوء في الغرف الواقعة جهة الشمال الغربي، وحفيداي اليتيمان في الغرفتين الواقعتين جهة الجنوب، وكان الخدم وكبيرهم وابنتي نائمين في غرفهم المستقلة، ولم يبق مستيقظًا إلا زوجتي التي أرقها غيابي فغادرت حجرتها وأخذت تذرع الردهة جيئة وذهابًا وهي تترقب عودتي، والخادم أيضًا أيقظته صرخاتي فتوجه إلى غرفة مكتبي بحجة التحقق مما إذا كنت قد سقطت مغشيًّا علي هنا أو هناك وأخذ ينقب في خزانتي، استطعت حينئذ أن أرى كل ذلك رأي العين لا أن أحدسه فقط، وعندما دنونا أكثر وأكثر استطعت أيضًا أن أرى محتويات خزانتي، كما رأيت صندوقَي الذهب والسجلين اللذين ذكرهما الكرة. تحركت مشاعري إذ رأيت حزن زوجتي، وهممت بأن أقفز إلى أسفل لأطمئنها، ولكنني وجدت أنني عاجز عن الحركة، وقال لي معلمي: «لا تقلق بشأن زوجتك، فلن نتركها طويلًا نهبًا للقلق، وفي غضون ذلك سنلقي نظرة شاملة على الأرض المسطحة.» أحسست من جديد بأنني أصعد في الفضاء، وكان الأمر كما قال الكرة من قبل، فكلما ابتعدنا عن الشيء الذي ننظر إليه، اتسع مجال الرؤية، كانت مدينتي كلها تمتد أمام ناظري منمنمة، وظهرت لي بواطن بيوتها وجميع ما بها من أحياء، واصلنا الصعود ويا للعجب! أفصحت لي الأرض عن أسرارها، وتجلت لي أعمق أعماق المناجم وأغوار الكهوف. واستشعرت رهبة لمرأى أسرار الأرض ترفع عنها الحُجُب أمام عيني المتواضعة، فقلت لرفيقي: «انظر، لقد صرتُ كالآلهة، فالحكماء في بلادي يقولون إن رؤية كل شيء — أو الرؤية المطلقة كما يسمونها — صفة لا يتصف بها إلا الخالق وحده»، كست صوت معلمي مسحة من التهكم وأجاب: «أحقًّا ذلك؟ إذن فاللصوص والقتلة في بلادي آلهة جديرون أن يعبدهم حكماؤكم، لأن كلًّا منهم يرى ما تراه الآن، ولكن حكماءكم جانبهم الصواب، كن على يقين من ذلك.» نظرتُ ورأيتُ على مبعدة بناء هائلًا عديد الأضلاع عرفت أنه قاعة الاجتماعات العامة للدول في الأرض المسطحة، تحيط به خطوط كثيفة من المباني خماسية الأضلاع متعامدة بعضها على بعض، عرفت أنها طرق، وأدركت أنني أقترب من الحاضرة العظيمة. قال معلمي: «فلنهبط هنا.» كان الصبح قد بزغ، وكنا في الساعة الأولى من اليوم الأول من عام ألفين من زماننا، ولم يَحِد كبار الكهنة في المملكة — كما هو دأبهم — عن نهج أسلافهم، فعقدوا اجتماعًا سريًّا مهيبًا، مثلما اجتمعوا في الساعة الأولى من اليوم الأول من عام ألف، ومثلما فعلوا في الساعة الأولى من اليوم الأول من عام صفر. وكان شخص ما يقرأ الآن محاضر الاجتماعات السابقة، وعرفت على الفور أنه أخي، وهو مربع تام التماثل يعمل كبيرًا للكتبة في المجلس الأعلى، وكان مدونًا في هذه المحاضر في كل مرة ما يأتي: «لقد قام شرذمة من أصحاب النوايا الخبيثة بإثارة اضطرابات في بلادنا، وزعموا أنهم قد تلقوا وحيًا من عالم آخر، وأقدموا على تنظيم مظاهرات أدت بهم وبالآخرين إلى الخروج عن حدود العقل، ولما كان الأمر كذلك فقد قرر المجلس الأعلى بالإجماع أنه في اليوم الأول من كل ألفية توجه تعليمات خاصة إلى رؤساء أقسام الشرطة في جميع أنحاء الأرض المسطحة للقيام بالآتي: إجراء عمليات بحث دقيقة عن هؤلاء الغاوين، وإعدام من كان منهم من المثلثات متساوية الساقين من جميع الدرجات دون إجراء الفحص الرياضي، وجلد وسجن أي مثلث متساوي الأضلاع، وإرسال أي مربع أو مخمس إلى مستشفى الأمراض العقلية، واعتقال أي فرد ينتمي إلى بقية الطبقات الاجتماعية وإرساله مباشرة إلى العاصمة حتى يقوم المجلس بفحصه وإصدار حكم بشأنه.» وبينما كان المجلس يصدر للمر ة الثالثة قراره الرسمي قال لي الكرة: «أنت الآن تسمع مصيرك، فلن ينتظر الرسول المبشر بعقيدة الأبعاد الثلاثة إلا الموت أو السجن» فأجبته: «لا، لقد اتضح الأمر لي الآن، وتجلت لي طبيعة الفضاء الحقيقي، وأحسب أنني أستطيع شرحها لطفل صغير، ائذن لي أن أهبط إليهم الآن وأنير عقولهم» قال الكرة: «ليس بعد، سيحين الوقت المناسب لذلك، والآن عليّ أن أقوم بمهمتي، انتظر في مكانك» ثم قفز ببراعة كبيرة في بحر الأرض المسطحة (إذا جاز لي أن أسميه بهذا الاسم)، وهبط في منتصف حلقة المجتمعين من أعضاء المجلس، وصاح: «لقد أتيت لأعلن لكم أن هناك أرضًا ذات أبعاد ثلاثة.» رأيت كثيرًا من الشباب من أعضاء المجلس يتراجعون، وقد ظهر عليهم الهلع، عندما ظهر أمامهم القطاع الدائري للكرة وأخذ في الاتساع، ولكن الكاهن الأكبر لم تبد عليه أي أمارة من أمارات الدهشة أو القلق، وإثر إشارة منه تحرك ستة من المثلثات متساوية الساقين من ست جهات مختلفة وانقضوا على الكرة، وصاحوا: «لقد تمكنا منه، كلا، أجل، لم يزل تحت السيطرة! إنه يفلت! لقد أفلت!» وتوجه الرئيس بالخطاب إلى حديثي العهد من الكهنة في المجلس وقال: «ليس هناك ما يدعو للدهشة، فإن السجلات السرية — التي لا يطلع عليها أحد سواي — تخبرني أن حدثًا مشابهًا قد وقع في بدايتي الألفيتين الماضيتين، وأنتم بالطبع لن تتحدثوا عن هذه الترهات خارج المجلس.» ثم رفع صوته واستدعى الحراس وقال: «ألقوا القبض على رجال الشرطة، وكمموا أفواههم، أنتم تعرفون ما عليكم أن تقوموا به.» وهكذا أرسل رجال الشرطة التعساء ليلقوا مصيرهم بعد أن جعلهم سوء طالعهم رغمًا عنهم شهودًا على سر من أسرار الدولة لا يجوز لهم إفشاؤه، وتوجه بالخطاب مرة ثانية لأعضاء المجلس فقال: «أيها السادة، أما وقد اختتمنا أعمال مجلسنا، فلم يبق إلا أن أتمنى لكم عامًا سعيدًا.» وقبل أن يرحل أعرب للكاتب — أخي تعيس الحظ — عن خالص أسفه لأنه مضطر لأن يحكم عليه بالسجن المؤبد من أجل الحفاظ على السرية، وسيرًا على نهج من سبقوه، وأضاف أنه إذا لم يذكر أي شيء عن الحدث الذي وقع ذلك اليوم، فسوف يبقون على حياته.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/19/
كيف أراني الكرة أسرارًا أخرى في سبيسلاند، وكيف ظللت مع ذلك متعطشًا إلى المزيد، وإلام انتهى ذلك
عندما رأيت أخي المسكين يقاد إلى السجن حاولت أن أثب إلى حجرة المجلس للتدخل من أجله، أو لكي أوجه له على أقل تقدير كلمة وداع، ولكنني وجدت أن حركتي لم تعد مرهونة بإرادتي، وأنني خاضع تمامًا لإرادة معلمي، الذي قال وقد غلف الأسى نبرات صوته: «لا تبتئس لما حدث لأخيك، ربما تجد فيما بعد متسعًا من الوقت لتعبر عن تعاطفك معه، اتبعني.» وصعدنا في الفضاء مرة أخرى، وقال الكرة: «لم أعرض عليك حتى الآن شيئًا عدا الأشكال المسطحة وأجزاءها الداخلية، والآن عليّ أن أعرِّفك بالمجسمات، وأوضح لك التصميم الذي بنيت عليه، انظر إلى هذا العدد الكبير من البطاقات مربعة الشكل، أترى؟ أنا الآن أضعها واحدة فوق الأخرى — لا كما كنتَ تظن واحدة إلى الشمال من الأخرى، وإنما واحدة أعلى الأخرى، وهأنذا أضع بطاقة ثانية وثالثة، انظر إنني أصنع مجسمًا من عدد كبير من المربعات المتوازية، وها أنا قد انتهيت منه، وجعلت ارتفاعه مساويًا لطوله وعرضه، ويسمى هذا المجسم عندنا مكعبًا.» فأجبته: «معذرة يا سيدي ولكنه يبدو لي مضلعًا غير منتظم وقد ظهرت أجزاؤه الداخلية واضحة للعيان، أو بمعنى آخر، أنا لا أظن أنني أرى مجسمًا، بل مستوى كالذي نراه في الأرض المسطحة، لا يميزه إلا تشوه في الأضلاع يعد من السمات المميزة لعتاة المجرمين، حتى إن مرآه فقط يؤذي عيني.» قال الكرة: «حقًّا إنه يبدو لك مسطحًا لأنك لم تعتد تأثير الضوء والظل وزوايا الرؤية، تمامًا مثلما يبدو المسدس في الأرض المسطحة خطًّا مستقيمًا لمن لا يعرف فن التعرف عن طريق البصر، ولكن هذا في الواقع أحد المجسمات، وستعرف عندما تتحسسه.» ثم عرفني بالمكعب، ووجدت أن هذا الكائن البديع لم يكن بالفعل مسطحًا، وإنما مجسمًا ذا ستة أوجه وثماني نقاط طرفية يسمونها زوايا مجسمة، وتذكرت ما قاله الكرة من أن مثل هذا المخلوق يتكون من حركة المربع في الفضاء موازيًا لنفسه، وأسعدتني فكرة أن يكون مخلوق متواضع مثلي بطريقة ما سلفًا لذرية على هذا القدر من البهاء. غير أنني لم أستطع بعدُ أن أدرك تمامًا ما يعنيه معلمي بكلمات «الضوء» و«الظل» و«زاوية الرؤية»، ولم أتردد في أن أستوضحه الأمر. ومع أن تفسير الكرة لهذه الأمور تفسير محكم لا لبس فيه، فإنني لو قدمته هنا لكان لسكان سبيسلاند باعثًا على الملل، لأنهم يعرفون مسبقًا هذه الأشياء، ويكفي أن أقول إنه فسر لي كل شيء بتعبيراته الواضحة، وبتغيير أوضاع الأشياء ودرجات الإضاءة، وبالسماح لي بتحسس أشياء مختلفة حتى جسده المقدس، إلى أن صرت في النهاية قادرًا على التمييز بسهولة بين الدائرة والكرة، وبين الأشكال المسطحة والمجسمات. كانت تلك نقطة القمة في تاريخ حياتي العجيبة الحافلة بالأحداث، كأنما رقيت إلى الفردوس، وعليّ من الآن فصاعدًا أن أروي قصة الخروج الحزين من الفردوس، الخروج المفجع الذي لم أكن أستحقه على الإطلاق، لماذا نشعل في الناس الظمأ إلى المعرفة ثم نقتل فيهم طموحهم، بل نعاقبهم عليه؟ صعب على نفسي أن أستعيد ذكرى مذلتي، غير أنني سأتحمل كما تحمل بروميثيوس — بل أكثر من ذلك — آملًا أن أنجح بطريقة أو بأخرى في بث روح الثورة في قلوب جميع البشر من المسطحات والمجسمات؛ الثورة على جمود الفكر الذي يحدد أبعادنا ببعدين أو ثلاثة أبعاد أو أي عدد يقل عن اللانهائية. فلتذهب كل الاعتبارات الشخصية إلى حيث ألقت، سأواصل حتى النهاية كما بدأت دون مزيد من الانحراف عن الموضوع الأساسي ودون انتظار النتائج، سالكًا درب التاريخ الذي لا يعرف المحاباة، سوف ألتزم الدقة في تسجيل الكلمات والحقائق — وهي منقوشة في عقلي نقشًا — دون أن أبدل فيها حرفًا، وسيكون قرائي هم الحكم بيني وبين القدر. وظل الكرة يلقنني دروسه ويعلمني بنية جميع المجسمات المنتظمة: الأسطوانات والمخاريط والمجسمات الهرمية، والمجسمات ذات الخمسة أوجه والستة أوجه وذات الاثني عشر وجهًا، والكرات، ولكنني تجرأت على مقاطعته، لم يكن ذلك لأنني سئمت من المعرفة، بل على العكس تمامًا، لأنني كنت أتوق إلى جرعات أكبر مما كان يقدمه لي. فقلت: «معذرة يا من يجب بعد الآن ألا ألقبه برمز الجمال المطلق، ولكن هل لي أن أرجوك أن تسمح لخادمك بإلقاء نظرة على باطنك.» وأعود فأقول ألم تعلمني يا سيدي أن الخط المستقيم تحده نقطتان، وأن المربع تحده أربعة خطوط، وأنه — قياسًا على ذلك — لا بد أن يكون المكعب محدودًا بستة أوجه؟ وتأمل مرة ثانية هذا التتابع الذي يؤكد ما أقول (٢، ٤، ٦)، أليست هذه متوالية حسابية؟ ألا يعني ذلك أن الذرية المقدسة التي ستأتي من المكعب المقدس في الأرض رباعية الأبعاد لا بد أن يحدها ثمانية مكعبات؟ ثم ألا «يتفق ذلك اتفاقًا تامًّا مع القياس» كما علمني سيدي؟ تأمل يا سيدي لقد آمنت إيمانًا قائمًا على الحدس دون أن أعرف الحقائق، وأتوسل إليك أن تؤكد أو تنفي توقعاتي المنطقية، وإذا كنتُ مخطئًا فسوف أسلم ولن أعود بعد ذلك إلى الحديث عن البعد الرابع، ولكن إذا كنتُ محقًّا فسوف يستمع سيدي إلى صوت العقل. لذلك أسألك إن كان قومك قد شهدوا من قبل هبوط كائنات من رتبة تفوق رتبتهم، ودخولهم الغرف المغلقة — كما دخلت أنت غرفتي — دون أن يفتحوا بابًا أو نافذة، وظهورهم واختفاءهم كما يشاءون، وأنا مستعد لأن أراهن بكل شيء على إجابة هذا السؤال، أجب بالنفي وسألتزم الصمت من الآن فصاعدًا، فقط أعطني ردًّا. لم أدر متى كان يجب على أن أسكت عن الكلام، وعبثًا كرر الكرة بصوته الهادر أمره لي بالتزام الصمت، وتوعدني بأفظع العواقب إذا واصلت الكلام، ولكن لم يكن شيء قادرًا على الوقوف أمام سيل طموحاتي الجامحة. ربما أكون قد أخطأت، ولكنني كنت منتشيًا بجرعات الحقيقة التي سقانيها بيده. ولم يطل الأمر كثيرًا، إذ قطع سيل كلماتي صوت ضجة عنيفة دوت في نفس الوقت داخل جسدي وخارجه، واندفعتُ في الفضاء بسرعة عجزتُ معها عن الكلام. كنت أهبط إلى أسفل بسرعة هائلة، وعلمت أن قدري المحتوم هو العودة إلى، الأرض المسطحة وألقيت نظرة أخيرة — نظرة لن أنساها ما حييت — على هذا القفر المسطح الذي سيغدو من جديد كل عالمي، رأيته ممتدًا أمام ناظري قبل أن يسود الظلام، ثم انتهي كل ذلك بصوت كهزيم الرعد. وعندما ثُبتُ إلى رشدي، كنت قد عدت ثانية مربعًا زاحفًا من العامة، أجلس في حجرة مكتبي بالبيت، وأنصت إلى صيحة السلام المميزة لزوجتي إذ تقترب.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/20/
كيف جاءني الكرة في المنام ليشد من عزمي
لم يكن لدي إلا لحظة للتفكير، ولكنني أحسست تلقائيًّا أن عليَّ أن أكتم ما حدث عن زوجتي، ولم يكن الباعث على ذلك خوفي من أن تذيع سري، ولكنني كنت أعرف أن أي امرأة في الأرض المسطحة ستعجز عن فهم التجارب المثيرة التي مررت بها، ولذلك حاولت أن أطمئنها بقصة مختلقة فحواها أنني سقطت دون أن أنتبه عبر الفتحة المؤدية إلى القبو، وأنني ظللت هناك راقدًا فاقد الرشد. إن قوة الجاذبية نحو الجنوب في بلادنا واهية جدًّا، ولا بد أن قصتي كانت تبدو عجيبة وأقرب إلى الاستحالة، حتى بالنسبة لامرأة. ولكن زوجتي لم تجادلني في الأمر، فقد كان ذكاؤها يفوق إلى حد بعيد متوسط ذكاء أترابها من النساء، كما أنها لاحظت أنني كنت منفعلًا على نحو لم تألفه، وهكذا أصرت على أنني مريض وأنني بحاجة إلى الراحة. وأسعدني أن وجدتُ ذريعة كي آوي إلى غرفتي لأعيد — في هدوء — تأمل ما حدث. وعندما خلوت آخر الأمر إلى نفسي، غالبني النعاس، ولكنني حاولت — قبل أن أغمض عيني — أن أتصور البعد الثالث في مخيلتي، وخاصة الطريقة التي يتكون بها المكعب من حركة المربع، لم تكن الصورة واضحة كما كنت أتمني، ولكنني تذكرت أن الحركة لا بد أن تكون «لأعلى، لا جهة الشمال»، وعزمت عزمًا أكيدًا على أن أحفظ هذه الكلمات كوسيلة ستقودني حتمًا — إذا فهمتها حق الفهم — إلى الحل، وهكذا ظللت أكرر هذه الكلمات «لأعلى، لا جهة الشمال» كأنها تعويذة سحرية حتى استغرقت في نوم عميق منعش. ورأيت في نومي حلمًا، رأيتني مرة ثانية إلى جانب الكرة، وعرفت من تألق ضوئه أن ثورته علي قد هدأت وأنه قد صفح عني. كنا نتجه معًا صوب نقطة متألقة ولكنها متناهية في الصغر، ولفت معلمي انتباهي إليها، وعندما دنونا منها شعرت أن طنينًا خافتًا ينبعث منها، طنينًا يشبه طنين الذباب عندكم في سبيسلاند، ولكنه أقل شدة إلى حد بعيد. كان هذا الطنين خافتًا حقًّا حتى إنه لم يصل لآذاننا — مع السكون التام للفراغ الذي كنا نحلق فيه — حتى توقفنا على مسافة من تلك النقطة تبلغ عشرين ذراعًا تقريبًا. قال معلمي: «انظر هناك، لقد عشتَ في الأرض المسطحة، ورأيتَ في المنام الأرض الخطية، ومعي حلقتَ إلى أعالي سبيسلاند. والآن — حتى تكتمل خبرتك — أقودك إلى أسفل، إلى أدنى منازل الكون … إلى مملكة الأرض النقطية … إلى هاوية بلا أبعاد.» «تأمل هذا المخلوق البائس، إن هذه النقطة كائن لا يختلف عني أو عنك، ولكنه أسير هذه الهاوية التي ليست لها أبعاد. إن هذا الكائن يحيا في عالم يقتصر عليه وحده … في كون لا يشاركه فيه سواه، إنه لا يستطيع أن يتخيل مخلوقًا آخر غيره … لا يعرف شيئًا عن الطول أو العرض أو الارتفاع؛ وأنَّى له العلم بتلك الأشياء؟! إنه لا يعرف حتى رقم اثنين، وليست لديه أي فكرة عن الجمع، لأنه هو في ذاته كل الكون بكل ما في الكون … إنه — في حقيقة الأمر — لا شيء، ولكن تأمل رضاه التام عن ذاته، وتعلم من ذلك درسًا: إن الرضا عن الذات مرادف للانحطاط والجهل، وطموح المرء خير له من قناعة زائفة تعمي عينيه وتغُل يديه، والآن أنصت.» توقف معلمي عن الكلام، وسمعتُ صوتًا صادرًا من ذلك المخلوق الضئيل ذي الطنين، صوتًا خفيضًا رتيبًا، ولكنه طنين واضح، كصوت الفونوغراف عندكم في سبيسلاند، واستطعت أن أميز هذه الكلمات: «يا لنعيم الوجود الأبدي! إنه سيد الكون بلا منازع.» فقلت: «من الذي يقصده هذا المخلوق التافه بذلك؟» فرد الكرة: «يقصد نفسه، ألم تلحظ من قبل أن الأطفال ومن لم يشبوا عن طور الطفولة من الكبار — الذين يشعرون أنهم مركز الكون — يتحدثون عن أنفسهم بضمير الغائب؟ ولكن أرهف السمع.» واصل ذلك المخلوق الضئيل مناجاته لذاته فقال: «إنه ملء الكون كله، وهو في ذاته الكون كله، يتحرك لسانه بما يجول بخاطره، وتسمع أذناه ما يتحرك به لسانه، وهو وحده صاحب الفكر والسمع والكلام، وهو وحده الفكرة والكلمة والصوت المسموع، إنه الأوحد، وهو كل الكائنات، يا له من نعيم … نعيم الوجود!» فقلت: «ألا تستطيع أن توقظ هذا الكائن الضئيل من غفلته؟ أخبره بحقيقته كما أخبرتني، أظهر له الحدود الضيقة للأرض النقطية، واذهب به إلى كون أسمى.» قال معلمي: «ليس هذا بالأمر الهين، جرب بنفسك.» وعندئذ صحت بأعلى صوتي مخاطبًا النقطة: «صه، اخرس أيها المخلوق الحقير. إنك تحسب نفسك سيد هذا الكون وواحده، ولكنك لا شيء على الإطلاق، وليس ما تدعوه كونك إلا ذرة في الخط المستقيم، وليس الخط المستقيم إلا ظلًّا إلى جانب …» فقاطعني الكرة قائلًا: «صمتًا، صمتًا، لقد قلتَ ما يكفي، والآن أنصت، وتأمل وقْع خطبتك الرنانة على ملك الأرض النقطية.» كان وهج الملك قد بلغ أقصى تألقه بعدما سمع كلماتي، وكان ذلك دليلًا واضحًا على أنه ظل على ما كان عليه من الإعجاب بذاته، ولم أكد أتوقف عن الكلام حتى عاد إلى أنشودته من جديد، فقال: «يا له من نعيم؛ نعيم الفكر. ما الذي يعجز عقله عن تحقيقه؟! تعود إليه أفكاره شاهدة على عظمته، فيزداد غبطة! يشتعل التمرد لينتهي بانتصاره! يا لها من قدرة إبداعية إلهية تلك التي يمتلكها! يا له من نعيم … نعيم الوجود!» قال معلمي: «أرأيت ضآلة ما صنعته كلماتك؟ ما دام الملك يستطيع أن يفهمها بطريقة ما، فسوف يظنها كلماته، لأنه لا يستطيع أن يتصور في الكون كائنًا سواه، وسوف يزهو بتنوع فكره كمثال على قدرته الإبداعية، لندع رب الأرض النقطية ينعم في جهله، ظانًّا أنه الموجود في كل مكان والعالم بكل شيء، فلن يستطيع أي منا أن يخلصه من غروره الأجوف.» وفي طريق عودتنا بعد ذلك إلى، الأرض المسطحة أصغيت إلى صوت صاحبي وهو يوضح لي مغزى رؤياي، ويحثني على الطموح، ويوصيني أن أعلم الآخرين الطموح، واعترفَ بأنه غضب عندما أخبرته أول الأمر أنني أطمح إلى الوصول إلى ما وراء البعد الثالث، ولكنه قد ازداد علمًا منذ ذلك الحين، ولم يقف كبرياؤه حائلًا دون اعترافه بزلته أمام تلميذه، ثم أخذ يلقنني أسرارًا أعلى من تلك التي شهدتها، وأراني كيف تتكون (المجسمات العلوية) عن طريق حركة المجسمات، وكيف تتحرك (المجسمات العلوية) لتكوِّن مجسمات أخرى، وكل ذلك على نحو «يتفق اتفاقًا تامًّا مع القياس»، كل ذلك بوسائل بسيطة يسيرة يسهل فهمها حتى على النساء.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/21/
كيف حاولت أن أعلم حفيدي نظرية الأبعاد الثلاثة، وإلى أي مدى نجحت في ذلك
استيقظت من نومي مبتهجًا، وأخذت أفكر في المستقبل المبهر الذي ينتظرني، وخطر ببالي أن أمضي على الفور وأبشر في جميع أرجاء الأرض المسطحة، وهذا التبشير بعقيدة الأبعاد الثلاثة يجب أن يشمل الجميع حتى الجنود والنساء، وكنت على وشك أن أبدأ بزوجتي. وما إن توصلت إلى قرار بشأن خطة العمل، حتى سمعت أصواتًا في الطريق تأمر بالصمت، ثم أعقبها صوت مدوٍ. كان صوت المنادي يخطب في الناس، وإذ أصخت السمع استطعت أن أتبين فيما يقول كلمات قرار مجلس الكهنة الذي يقضي باعتقال وسَجن أو إعدام كل من يضلل عقول الناس بالباطل ويزعم أنه قد تلقى وحيًا من عالم آخر. تدبرتُ الأمر، كان هذا خطرًا لا يستهان به، ورأيت الأفضل أن أتجنبه بألا أتعرض لذكر ما جاءني من وحي، وأن ألتزم بطريقة الشرح العملي التي تبدو في النهاية وسيلة سهلة ناجحة، ولن أخسر شيئًا بالتخلي عن الوسائل السابقة. كانت عبارة «لأعلى، لا جهة الشمال» هي مفتاح البرهان كله، وكانت تبدو لي واضحة تمامًا قبل أن أخلد إلى النوم، وعندما استيقظت من النوم كانت الرؤيا لم تزل ماثلة في ذهني، وكانت العبارة واضحة لي كمبادئ الحساب، ولكنها — بطريقة ما — لم تعد تبدو بذلك الوضوح، وفي هذه اللحظة تمامًا دخلت زوجتي الغرفة، في الوقت المناسب، ولكنني قررت — بعد أن تبادلنا بضع كلمات في محادثة عادية — ألا أبدأ بها. ولكن كان عليَّ — بادئ ذي بدء — أن أشبع فضول زوجتي بطريقة أو بأخرى، فقد كانت بطبيعة الحال ترغب في أن تعرف شيئًا عن الأسباب التي جعلت الضيف الغامض يطلب هذا اللقاء السري، وعن الطريقة التي دخل بها إلى البيت. ودون الدخول في تفاصيل القصة المعقدة التي قصصتها عليها — ويؤسفني أن أقول إنها قصة لا تتفق مع الحقيقة على النحو الذي يرضى عنه قرائي في سبيسلاند — فإنني أستطيع أن أقول راضيًا إنني نجحت في النهاية في إقناعها بالعودة في هدوء إلى واجباتها المنزلية، دون أن تفلت مني أي كلمة تشير إلى عالم الأبعاد الثلاثة. وبعد ذلك أرسلت على الفور في طلب حفيدي، لأنني — اعترافًا بالحق — شعرت أن كل ما رأيته وسمعته يتبخر من عقلي بطريقة غريبة، كأنه صورة ضبابية من حلم داعب مخيلتي، وكنت أتوق إلى اختبار مهارتي في أن أكسب إلى صفي أول المريدين. وعندما جاء حفيدي أغلقت باب الغرفة بإحكام، ثم جلست إلى جواره وتناولت دفاتر الرياضيات، أو الخطوط كما تسمونها، وأخبرته أننا سنستأنف درس الأمس، شرحت له من جديد كيف تتحرك النقطة في بعد واحد لتصنع خطًّا مستقيمًا، وكيف يتحرك الخط المستقيم في بعدين ليصنع مربعًا، ثم اصطنعت الضحك وقلت: «والآن أيها الشيطان الصغير، لقد زعمتَ أن المربع قد يتحرك بطريقة ما «لأعلى، لا جهة الشمال» ليصنع شكلًا هندسيًّا آخر — نوعًا من المربعات العليا — في أبعاد ثلاثة، أعد علي ثانية ما قلتَ أيها العفريت الصغير.» عندئذ سمعنا صيحة المنادي تتردد من جديد في الطريق «اسمعوا وعوا»، وكان يذيع على الناس قرار المجلس، وتلقى حفيدي هذا الموقف بسرعة بديهة لم أكن مهيأً لها، فقد كان — على صغر سنه — حاد الذكاء، وكان قد نشأ على التقديس الكامل لسلطة الكهنة، ظل الصغير صامتًا حتى خفت صوت آخر كلمات القرار، ثم انفجر في البكاء وقال: «أيا جدي الحبيب، لقد كنت أمزح ليس إلا، ولم أكن أقصد أي شيء على الإطلاق، ولم نكن نعرف وقتها أي شيء عن القانون الجديد، وأظن أنني لم أذكر أي شيء عن البعد الثالث، وأنا على يقين أنني لم أنطق بكلمة واحدة عن «لأعلى، لا جهة الشمال»، فأنت تعلم أن هذا محض هراء، كيف يتحرك جسم ما لأعلى دون أن يتحرك جهة الشمال؟ لأعلى، لا جهة الشمال! لو أنني لم أزل بعدُ رضيعًا لما كنت بهذا الغباء، يا للسخف!!» ثم استغرق في الضحك. فقلت محنقًا: «ليس سخفًا على الإطلاق، خذ هذا المربع على سبيل المثال»، والتقطتُ مربعًا متحركًا كان في متناول يدي، وواصلت الكلام قائلًا: «وها أنا أحركه كما ترى، ليس جهة الشمال ولكن … أجل، أحركه لأعلى … ويعني ذلك جهة الشمال، ولكنني أحركه في اتجاه ما … ليس على هذا النحو بالتحديد، ولكن بطريقة ما …» وعند ذلك أنهيت كلامي نهاية بلا معنى إذ أخذت أحرك المربع حركة عشوائية بلا هدف، فانفجر الصغير ضاحكًا بصوت عال، وقال إنني لا أعلمه وإنما أمازحه، ثم فتح الباب وركض خارج الغرفة، وبذلك انتهت أولى محاولاتي لإقناع تلميذ بعقيدة الأبعاد الثلاثة.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/47249605/
الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد
إدوين إبوت
منذ ظهورها عام ١٨٨٤ سحرت رواية «الأرض المسطحة: قصة خيالية متعددة الأبعاد» القراء والعلماء على السواء وبهرتهم بمزجها الإبداعي بين الواقع والخيال، ومع أنها تبدو للوهلة الأولى أداة ذكية لتعليم مبادئ الرياضيات والعلوم، إلا أن النظرة المتعمقة تُظهر أنها تجربة أدبية ممتعة تحفز العقل، وتسخر الرواية على لسان بطلها من المجتمع الفيكتوري الذي كان في ذلك الوقت نهبًا لرياح التغيير. كانت رواية الأرض المسطحة لمدة تربو على قرن كامل مصدرًا للإمتاع والإلهام ولا زالت حتى الآن تتمتع بمكانتها المستحقة في التاريخ الأدبي والعلمي والفلسفي، وهي تحلق بالقراء في عالم الخيال دون أن يبرحوا أماكنهم.
https://www.hindawi.org/books/47249605/22/
كيف حاولت بعد ذلك أن أنشر نظرية الأبعاد الثلاثة بوسائل أخرى، وماذا كانت النتيجة
لم يشجعني ما لقيته من إخفاق مع حفيدي الصغير على أن أنقل السر إلى آخرين من أفراد عائلتي، ولكنه لم يحملني أيضًا على اليأس من النجاح، كل ما حدث أنني رأيت أنني يجب ألا أعتمد اعتمادًا كليًّا على العبارة المفتاحية «لأعلى، لا جهة الشمال»، وأن عليَّ — بدلًا من ذلك أن أحاول البحث عن وسيلة إيضاحية تضع أمام العامة صورة واضحة للأمر برمته، وكان من الضروري أن ألجأ إلى الكتابة من أجل تحقيق هذا الهدف. لذا مكثت شهورًا في عزلة أكتب بحثًا حول أسرار الأبعاد الثلاثة، ولكنني لم أتحدث عن بعد مادي تجنبًا للوقوع تحت طائلة القانون، ما أمكن ذلك، وإنما تحدثت عن أرض للخيال يستطيع المرء — نظريًّا — أن يطل منها على الأرض المسطحة، وأن يرى بواطن كل الأشياء في الأرض المسطحة في آن معًا، أرض يعيش بها كائن افتراضي يحيط به — إذا جاز التعبير — ستة مربعات، وتحده ثماني نقاط طرفية. ولكنني في تأليف هذا الكتاب وقفت عاجزًا أمام تعذر رسم الأشكال اللازمة لتحقيق ما أرمي إليه، فليس لدينا في الأرض المسطحة ألواح للكتابة وإنما خطوط، يجمعها كلها خط مستقيم واحد، ولا يميز بينها إلا الطول والبريق، ولذلك فعندما انتهيت من البحث (الذي أسميته: «من الأرض المسطحة إلى أرض الخيال») لم أكن متيقنًا من أن الكثيرين سيفهمون مقصدي. في هذه الأثناء كانت حياتي كئيبة، فقدت كل المباهج سحرها، كانت كل المشاهد تعذبني وتغريني بالخيانة الصريحة، لأنني لم أستطع أن أقارن بين ما رأيته في بعدين بما هو عليه بالفعل لو رأيته في ثلاثة أبعاد، ولم أكن أستطيع منع نفسي من رفع صوتي بهذه المقارنات. أهملت عملائي وعملي الخاص لأتفرغ للتفكر في الأسرار التي شاهدتها يومًا بعيني، والتي لا أستطيع مع ذلك أن أبوح بها لأحد، والتي أجد في استعادتها مشقة تزداد يومًا بعد يوم. وذات يوم، بعد مرور أحد عشر شهرًا على عودتي من سبيسلاند، حاولت أن أرى مكعبًا وأنا مغمض العين، ولكنني فشلت في ذلك، ومع أنني نجحت فيما بعد، فإنني لم أكن حينئذ متيقنًا (ولم أكن متيقنًا بعد ذلك قط) أنني رأيت المجسم الأصلي. وأصابني هذا باكتئاب أكثر من ذي قبل، وحثني على القيام بخطوة ما، ولكن في أي اتجاه؟ لم أكن أدري. كنت أحس بأنني على استعداد للتضحية بحياتي في سبيل القضية، لو أنني أستطيع بذلك أن أقنع الآخرين، ولكنني أخفقت في إقناع حفيدي الصغير، فكيف أستطيع أن أقنع أكثر الكهنة ذكاء وأعلاهم مرتبة في بلادي؟ وكنت مع ذلك أفقد في بعض الأحيان السيطرة على نفسي فأتفوه بكلمات خطيرة، وكانوا يرونني بالفعل مارقًا إن لم أكن خائنًا، وكنت أعي تمامًا خطورة موقفي، ولكنني لم أكن أستطيع في بعض الأحيان أن أمسك لساني — عن الانفجار أحيانًا في سيل من الكلمات التي تثير الريبة وتحرض نوعًا ما على الفتنة، حتى بين أعلى طبقات الدوائر والأشكال عديدة الأضلاع. فعندما كان يثار — على سبيل المثال — الحديث حول مسألة التعامل مع هؤلاء المخابيل الذين يقولون إنهم مُنِحوا القدرة على رؤية بواطن الأشياء، كنت أستشهد بواحد من الكهنة القدامى كان يقول إن العامة دائمًا يرون أن الأنبياء وأصحاب الفكر مخابيل. ولم أكن أستطيع منع نفسي من آن لآخر من استخدام بعض التعبيرات مثل: «العين التي تبصر بواطن الأشياء» و«أرض الرؤية المطلقة»، حتى إنني استخدمت — مرة أو مرتين — الكلمات المحرَّمة «البعد الثالث والبعد الرابع». وكان خاتمة هذه الأفعال الطائشة في اجتماع لرابطة المفكرين، كان الاجتماع منعقدًا في قصر الحاكم نفسه، وكان واحد من الحمقى يقرأ بحثًا معقدًا عرض فيه للأسباب الدقيقة التي جعلت العناية الإلهية تقضي بأن تكون الأبعاد محدودة في بعدين، والأسباب التي جعلت الرؤية المطلقة صفة للخالق وحده. وتخليت تمامًا عن الحذر حتى إنني رويت بدقة أحداث رحلتي مع الكرة إلى الفضاء ثلاثي الأبعاد، وإلى قاعة الاجتماعات في الحاضرة الكبرى، ثم عودتنا إلى الفضاء مرة أخرى، وعودتي إلى بيتي. وتحدثت عن كل ما رأيت وسمعت في الحقيقة أو في الرؤيا، وكنت أدَّعي — أول الأمر — أنني أصف أحداثًا خيالية وقعت لشخص خيالي، ولكن سرعان ما دفعني حماسي إلى تمزيق الأقنعة الزائفة كلها. وأخيرًا، وفي ختام واحدة من خطبي الحماسية، دعوت مستمعيَّ جميعهم إلى طرح التعصب جانبًا والتحول إلى الإيمان بالبعد الثالث. ومن نافلة القول أن أذكر أنني قد اعتُقلت في الحال، واستُدعيت للمثول أمام مجلس الكهنة. وفي الصباح التالي، وقفت في الموضع نفسه الذي وقفت فيه إلى جانب الكرة منذ ما لا يزيد على بضعة أشهر، وأُذن لي أن أحكي قصتي كاملة من البدء حتى النهاية دون أن يقاطعني أحد أو يوجه لي أي أسئلة. ولكنني عرفت نهايتي منذ اللحظة الأولى، لأن رئيس المجلس عندما لاحظ أن مجموعة من الطبقة الراقية من رجال الشرطة — لا تكاد زاويتهم تقل عن خمس وخمسين درجة — تتولى الحراسة، أمرهم بالانصراف قبل أن أبدأ دفاعي، واستبدل بهم مجموعة من طبقة أدنى تتراوح زاويتهم بين درجتين وثلاث درجات. وكنت أعرف جيدًا ما يعنيه ذلك؛ إنني سأقاد إما إلى السجن أو الإعدام، وسيكتمون عن الناس قصتي عندما يتخلصون ممن استمع إليها من المسئولين، ومن ثم كانت رغبة الرئيس أن يستبدل بذوي المكانة من الضحايا، ضحايا لا وزن لهم. هل أستطيع أن أوضح الاتجاه الذي قصدته بكلماتي: «لأعلى، لا جهة الشمال»؟ هل أستطيع باستخدام الرسم الهندسي أو الوصف (دون أن ألجأ إلى عد أضلاع وزوايا خيالية) أن أوضح الشكل الذي أطلقت عليه اسم المكعب؟ فأعلنتُ أنني ليس عندي ما أضيفه، وأن عليَّ أن ألزم طريق الحق، الذي ستعلو رايته حتمًا في النهاية. قال الرئيس إنه يتفق معي تمامًا في الرأي، وأن التزام الصدق هو خير ما أفعله. وأعلن أنني سأقضي ما بقي من حياتي بين جدران السجن، ولكن لو شاء الحق أن أخرج من سجني وأبشر للعالم كله، فعليَّ أن أومن بأن إرادة الحق نافذة. ولن يُفرض عليَّ في السجن أن أتحمل من المكاره إلا ما هو ضروري لمنعي من الهرب، وما لم أضحِّ بهذه المزية بإساءة السلوك، فسيسمح لي من آن لآخر أن ألتقي بأخي، الذي سبقني إلى السجن. مضت سبع سنوات، ولم أزل سجينًا محرومًا من الصحبة البشرية — إذا استثنيت زيارات أخي المتباعدة — فيما عدا حراسي، إن أخي واحد من أفضل المربعات، يتميز برجاحة العقل والتفاؤل والمودة الأخوية، ولكنني أعترف بأن لقاءاتنا الأسبوعية كانت تصيبني — على الأقل من أحد الجوانب — بأسى شديد، فقد كان أخي حاضرًا عندما ظهر الكرة في قاعة اجتماعات المجلس، ورأى قطاعات الكرة وهي تتغير، وسمع ما قاله الرئيس عندئذ للكهنة لتفسير هذه الظواهر، ومنذ ذلك الحين، لم يكد يمر أسبوع طيلة السنوات السبع دون أن أحكي له الدور الذي اضطلعت به في هذا الظهور، ودون أن أصف له جميع الظواهر في سبيسلاند وصفًا دقيقًا، وأذكر له البراهين القائمة على القياس التي تثبت وجود المجسمات، ولكنني لا أجد مناصًا من الاعتراف المخجل بأن أخي لم يع بعد طبيعة الأبعاد الثلاثة، ويجاهر علانية بتكذيبه بوجود الكرة. وأجدني — من ثم — بلا أتباع على الإطلاق، ولا أرى غير أن ما أوحي إليَّ في الألفية كان بلا جدوي. كان بروميثيوس يرسف في الأغلال في سبيسلاند لأنه أهدى النار للفانين، ولكنني أنا — بروميثيوس الأرض المسطحة المسكين — قابع هنا في السجن دون أي مبرر على الإطلاق. غير أنني أحيا على أمل أن تجد هذه المذكرات — بطريقة ما — طريقها إلى عقول البشر في بعد ما، وأن تحرض جيلًا من المتمردين على الثورة على تحديد الأبعاد.
إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م. إدوين إبوت: عالم وأستاذ ومتخصص في اللاهوت نشرت له كثير من المؤلفات، ولكن تبقى «الأرض المسطحة» أشهر مؤلفاته. وُلِد إبوت عامَ ١٨٣٨م، والتحق في سن الثانية عشرة بمدرسة سيتي أوف لندن، وسرعان ما أظهر تفوقًا، ولا سيَّما في الرياضيات، وحصل عام ١٨٥٧م على منحة من جامعة كامبريدج حيث ركز على الدراسات الكلاسيكية. رُسِم إبوت قسيسًا عام ١٨٦٣م، لكنه ظل يتكسب عيشه من عمله معلمًا، ونال في عمله سمعة طيبة. وتوفي عامَ ١٩٢٦م.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/0.1/
الافتتاحية
لست أقدم تعاليم جديدة للبشرية؛ فالحقيقة واللاعنف قديمان قدم التاريخ. تتسم كلمات غاندي تلك، المنقوشة على أحد جدران مؤسسة الساتياجراها التي أسسها في أحمد آباد، بالدقة والتواضع الجَم. ولا شك أن مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين وهب حياته لهما ليسا بمستحدثين، فلطالما أكدت عليهما جميع التعاليم الأخلاقية والدينية العظيمة، إلا أنه كان يمتلك شيئًا جديدًا تمامًا ليعلمه للبشرية عن هذين المبدأين، ألا وهو كيفية تطبيقهما على نطاق واسع لممارسة مقاومة سلمية وفعالة أطلق عليها اسم «الساتياجراها». اختار غاندي «قصة تجاربي مع الحقيقة» عنوانًا فرعيًا لكتابه. فقد ذكر أنه نظرًا لأن حياته تتألف من تلك التجارب فقط، فسيكون سردها بمنزلة كتابة سيرته الذاتية. وكما يفعل العالم، خاض غاندي تجاربه بواسطة تعمد إدخال أفكار وأساليب معيشة، وتحديات وقيود جديدة على حياته أو حياة الآخرين، ثم دراسة نتائجها وأخذها في الاعتبار من أجل أي دراسة مستقبلية. ويشير غاندي إلى تلك التجارب على مدار الكتاب، مثل تجاربه الغذائية ووسائل التعامل مع المرض والممارسات الروحانية ونماذج الحياة الجماعية والتحزب السياسي. وسرعان ما تخلى عن بعضها، وأجرى تعديلات على البعض الآخر، في حين تبنى أخرى لأمد طويل. علاوة على ذلك، ساعدت تجارب غاندي في اختبار شخصيته ذاتها وتوجيهها إلى اتجاهات رأى صحتها. وكثيرًا ما ترد الكلمتان: «تجربة» و«اختبار» في وصفه لتلك التجارب. فيعرض كيف يمكن لجوانب حياته الأكثر دقة وطبيعية وأحيانًا خصوصية أن توفر له فرصة لاختبار ذاته. ولا يلمح غاندي إلى ما يمنع القراء من النظر إلى حياتهم كحياة تقبل هي الأخرى الاختيار والتجريب، الأمر الذي يمكنهم من المشاركة في تغيير شخصي واجتماعي مذهل على حد سواء. تتناول بعض تجارب غاندي الأولى تغيرًا شخصيًّا بحتًا، كما حدث في محاولته اتباع نظام غذائي يشتمل على اللحم لينبذه في النهاية. أو في سعيه، مراهقًا، وراء أساليب عملية لدرء الشر بالخير، وتضمنت أيضًا تجاربه مع زوجته كاستوربا التي تزوجها عن عمر يناهز الثالثة عشر. يسترجع غاندي في سيرته الذاتية بألمٍ الدفعَ به إلى الزواج في ذلك السن المبكر، وإلى العاطفة والغيرة المتحكمة والرغبة في السيطرة على زوجته في السنوات الأولى لزواجهما. ويصف بالتفصيل جهوده الرامية للعزوف عن ممارسة الجنس وتحول علاقتهما إلى علاقة تعتمد اعتمادًا أكبر على المشاركة والرفقة. إن تجارب غاندي الشهيرة في المجال الجماعي والتربوي والسياسي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمساعيه للتغير على المستوى الشخصي. وبغض النظر عن الاختلاف بين تجاربه في تلك المجالات المتعددة، يرى غاندي أنه لا يمكن الفصل بينها لأنها جميعًا في الأصل تجارب أخلاقية. وأنها اندمجت جميعًا تحت مظلة نمط من أنماط البحث والتجريب أكثر شمولًا: وهو البحث المستمر، وفقًا لنشأته وخبراته، في المبادئ التي يمكن أن يتبناها أو ينبذها على المستوى الأخلاقي — مثل المعاملة الظالمة للمنبوذين في الهند. وفي الوقت ذاته، كان دائمًا ما يفكر في المبادئ التي يمكن أن يتقبلها من تعاليم الديانات الأخرى، مثل المسيحية والإسلام، والمبادئ التي يجب عليه التخلي عنها. وكانت كتابة «السيرة الذاتية»، أخيرًا، في حد ذاتها تجربة تضمنت جميع التجارب الأخرى الخالدة في الذاكرة وأعادت تدبرها. عند النظر إلى حياة غاندي وأهميتها لنا، ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين وبعد مرور ما يقرب من خمسة عقود على وفاته؛ نجد أنه ينبغي علينا أن نتبنى نفس الاتجاه إلى التجريب، واختبار أي التجارب يمكن أن تتجاوز الفحص الدقيق من عدمه، وأيها يمكن أن تخضع للتعديل لتتناسب مع الظروف المستحدثة. فيمكننا أن ننتقي من آرائه كما انتقى هو من آراء الآخرين. فعلى سبيل المثال، علينا أن نؤكد، أسوة به، على مبدأي الحقيقة واللاعنف المتلازمين إذا ما أخذنا منهجه في فض النزاعات والتغير الاجتماعي على محمل الجد. وذلك لا يعني أن علينا أن نتفق معه بيقين تام فيما يتعلق بآرائه الذاتية، والتي تتصف في بعض الأحيان بالمغالاة، حول الغذاء أو الحياة الجنسية أو العادات الصحية. وليس لزامًا علينا أن نلتزم بالحقائق الاقتصادية التي توصل إليها، والتي تم تبسيطها وصياغتها على نحو رديء حتى في عهده. ويحق لنا ألا نأخذ بمعارضته لجميع وسائل تنظيم الأسرة وإن قبل منها العزوف عن ممارسة الجنس، وذلك ما كان هو نفسه سيفعله إذا ما عاش ليشاهد النمو السكاني غير المسبوق الذي تشهده الهند والعالم بأسره. حتى وإن رغبنا في نبذ بعض آراء غاندي أو تعديلها، تبقى سيرته الذاتية قيمةً لما أسهمتْ به من تقديم سبيل جديد للمقاومة الجماعية للظلم. علاوة على ذلك، يمكننا الاستفادة من ثلاثةٍ من المبادئ العامة الأخرى التي تركها لنا، والتي ستؤدي دورًا مهمًّا في العقود القادمة لا يقل أهمية عن الدور الذي أدته في عهده. وربما كان غاندي سيقول لنا إن تلك المبادئ هي الأخرى «قديمة قدم التاريخ» مثل مبدأي الحقيقة واللاعنف اللذين سعى إلى تعزيزهما، إلا أنه يتناول تلك المبادئ في سيرته الذاتية على نحو قوي أخاذ. إن أول تلك المبادئ يتمثل ببساطة في إيمانه القوي بأن البشر جميعًا يمكنهم تخطيط حياتهم وتوجيهها وفقا للغايات الأسمى، بغض النظر عن مدى شعورهم بالضآلة أو الضعف. لقد عاش غاندي منذ طفولته مقتنعًا بأن قراراته المتعلقة بأسلوب حياته ذاتُ أهمية، وأنه يمتلك القدرة على جعلها تتوافق مع ما يراه صوابًا. أما المبدأ الثاني فيعنينا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ نظرًا لما نشهده من وحشية تُرتكب ضد المدنيين باسم العرقية والدين — كما حدث في يوغسلافيا السابقة وفي العديد من دول العالم، ولا سيما الهند، مسقط رأس غاندي. إن غاندي يقدم نموذجًا لشخص متعمق في ميراثه الثقافي والديني، ولا يزال معارضًا تمامًا لجميع صور التعصب الاجتماعي والعرقي والديني. وقد أصر على أن وسائل الشر لا تفسد الغايات التي تهدف إلى تحقيقها وتحط من قيمتها فحسب، بل تحط من قدر الأشخاص الذين يلجئون إليها. إن التغلب على الرغبة الملحة في اللجوء لمثل تلك الوسائل يبلغ ذروة الصعوبة عندما يروم الإنسان إصلاح ما أفسده الظلم. ويرجع سبب «انتشار سم الكراهية في العالم» إلى ندرة الالتزام بالقاعدة السلوكية «ابغض الخطيئة وليس مقترفها» (الجزء الرابع — الفصل التاسع).
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/0.2/
مقدمة مترجم النسخة الأصلية
نُشرت أول طبعة من السيرة الذاتية لغاندي في مجلدين، نُشر المجلد الأول منها في ١٩٢٧م والثاني في ١٩٢٩م. وسرعان ما نفدت خمس طبعات من النسخة الأصلية المكتوبة باللغة الجوجراتية والتي طرحت بسعر روبية، وبيع منها ما يقرب من ٥٠٠٠٠ نسخة. وكان سعر ترجمة الكتاب باللغة الإنجليزية (التي صدرت كطبعة مكتبات فقط) يمثل عائقًا أمام القارئ الهندي. فكانت الحاجة إلى طبعة رخيصة الثمن. ويصدر الكتاب الآن في مجلد واحد. ومن الملاحظ أن النسخة المترجمة إلى الإنجليزية، في أثناء صدورها تباعًا في جريدة «يانج إنديا»، قد حظيت بمراجعة غاندي، وحظيت الآن بمراجعة دقيقة. أما من الناحية اللغوية فقد حظيت بمراجعة صديق موقر اشتهر، في جملة ما اشتهر به، بكونه باحثًا بارزًا في اللغة الإنجليزية. وقبل أن يشرع في المهمة، اشترط ألا أبوح باسمه لأي سبب كان. وقد قبلت الشرط، الذي يزيد حتمًا من إحساسي بالامتنان له. وقد ترجم صديقي وزميلي بياريلال الفصول من الخامس والعشرين إلى الثالث والأربعين من الجزء الخامس في أثناء وجودي في باردولي في وقت إجراء تحقيق باردولي الزراعي الذي أجرته لجنة برومفيلد في ١٩٢٨-١٩٢٩م.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/0.3/
المقدمة
منذ أربع أو خمس سنوات، وافقت على كتابة سيرتي الذاتية بناء على طلب عدد من أعز رفقائي. شرعت في الكتابة، لكنني لم أكد أنتقل إلى الصفحة الثانية حتى اندلعت أعمال الشغب في بومباي وتوقف العمل. ثم توالت سلسلة من الأحداث التي انتهت بسجني في سجن ييرافدا. طلب مني السيد جيرامداس، الذي كان أحد زملائي بالسجن، أن أنحي كل الأمور جانبًا وأنهي كتابة السيرة الذاتية، لكنني أخبرته بأنني وضعت لنفسي برنامجًا للدراسة بالفعل، ولن يمكنني التفكير في أي شيء آخر حتى انتهاء ذلك البرنامج. وكان من المفترض أن أنتهي من كتابة السيرة الذاتية لو أنني أكملت مدة سجني في ييرافدا، ولكن أُطلق سراحي قبل عام من انتهاء المدة. أعاد السيد أناند الاقتراح، فشعرت بميل لكتابة السيرة الذاتية في جريدة نافاجيفان، لا سيما وقد انتهيت من كتابي عن تاريخ الساتياجراها في جنوب أفريقيا. وأراد السيد أناند أن أكتبها بصورة مستقلة بغية نشرها ككتاب. لكن لم يكن لديَّ وقت فراغ كافٍ، ولم يكن في استطاعتي إلا كتابة فصل واحد أسبوعيًّا. فلقد كان عليَّ الكتابة في النافاجيفان كل أسبوع، فلماذا لا أكتب سيرتي الذاتية؟ وافق السيد أناند على اقتراحي، وانهمكت في العمل. ساورت الشكوك صديقًا مشهودًا له بالتقى، فأفضى إليَّ بشكوكه في اليوم الأسبوعي الذي كنت ألتزم فيه الصمت، فقال: «ماذا دفعك لخوض هذه المجازفة؟ إن كتابة السيرة الذاتية أمر يقتصر على الغرب. ولا أعرف أحدًا في الشرق قام بكتابة سيرته الذاتية إلا من تأثر منهم بالغرب. وماذا عساك تكتب؟ ألن تتسبب في تضليل من يتبعون مبادئك، سواء التي تتلفظ بها أو تكتبها، إذا ما نبذت في المستقبل بعض المبادئ التي تتبناها اليوم أو قمت بتعديل الخطط التي وضعتها في الوقت الحالي؟ ألا تعتقد أنه من الأفضل ألا تكتب سيرتك الذاتية الآن بأي حال من الأحوال؟» تأثرت بقدر ما بقول صديقي، لكنني لم أرغب في كتابة سيرة ذاتية بمعنى الكلمة، بل كنت أرغب في ذكر قصة تجاربي المتعددة مع الحقيقة. ونظرًا لأن حياتي تتكون من تلك التجارب وحدها، فستأخذ القصة شكل سيرة ذاتية. لكنني لن أنزعج لو أن كل صفحة من صفحات الكتاب تتناول تجاربي فقط. أعتقد، أو أشبع غرور نفسي بالاعتقاد، أن القارئ سيستفيد من ذكر كل تلك التجارب متصلة. وإن خبراتي في مجال السياسة أصبحت معروفة الآن، ليس في الهند فحسب، بل في العالم «المتحضر» بدرجة ما. لا أجد أن تلك التجارب السياسية ذات قيمة عظيمة، بل أجد أن لقب «مهاتما» الذي منحتْني إياه أقل منها قيمة. وكثيرًا ما كان يجعلني ذلك اللقب أشعر بالأسى، ولا أذكر أنه سبق وأدخل عليَّ السرور قط، لكنني، بلا شك، أود ذكر تجاربي الروحانية التي لا يعلمها أحد سواي. لقد استمددت من تلك التجارب القوة التي ساعدتني على العمل في مجال السياسة. ونظرًا لكون الخبرات روحانية حقًّا، فلا يوجد مجال لتمجيد الذات، بل يمكن لتلك الخبرات فقط أن تزيد من تواضعي. فكلما تذكرت الماضي وأمعنت في أحداثه، ازداد شعوري بقصوري. ولن تتضمن القصة إلا المسائل الدينية التي يمكن للصغار والكبار على حد سواء استيعابها. إن استطعت أن أروي تلك المسائل بروح نزيهة ومتواضعة، فسيجد فيها الكثير من أصحاب التجارب زادًا يساعدهم في سعيهم المتواصل. ولا أزعم أن هذه التجارب قد وصلت إلى حد الكمال بأي صورة من الصور. وشأني في هذه التجارب شأن العالم الذي يجري تجاربه بأكبر قدر من الدقة والروية والتدقيق، ومع ذلك لا يدعي مطلقًا وجود حقيقة مطلقة في استنتاجاته بل يضعها دائمًا موضع الشك. لقد قمت بعملية استبطان عميقة لأفكاري ودوافعي ومشاعري، وفتشت في أعماق نفسي، وقمت بدراسة كل حالة نفسية وتحليلها. إلا أنني لا أزعم وجود أي حقيقة مطلقة أو غير مطلقة في استنتاجاتي. ولا أزعم إلا حقيقة واحدة، ألا وهي أن تلك الاستنتاجات تبدو لي صحيحة تمامًا وتبدو نهائية في الوقت الحاضر، ولو أنها غير صحيحة، لما جعلتها أساسًا لأفعالي. لقد أجريت عملية القبول والرفض في كل خطوة قمت بها وكنت أتصرف وفقًا لذلك. وما دامت أفعالي لا ينبذها عقلي ولا قلبي، فيجب أن أتمسك بشدة باستنتاجاتي الأصلية. ولو كنت أريد تناول مبادئ نظرية لا غير، لما كتبت سيرة ذاتية. لكن نظرًا لأن هدفي ذكر العديد من التطبيقات العملية لتلك المبادئ، أطلقت على كتابي اسم «قصة تجاربي مع الحقيقة». وبالطبع سيتضمن ذلك تجاربي مع اللاعنف والتحكم في شهوات النفس وغيرها من المبادئ التي يرى البعض أنها تختلف عن الحقيقة، لكنني أرى أن الحقيقة هي المبدأ المطلق الذي تندرج تحته شتى المبادئ الأخرى. إن الحقيقة لا تعني صدق الكلمات فحسب، وإنما صِدْقَ الفكر أيضًا، ولا تعني الحقيقة النسبية التي ندركها فحسب، بل الحقيقة المطلقة والمبدأ الخالد، ألا وهو الإله. هناك العديد من الصفات التي تنسب للإله نظرًا لأن قدرته تتجلى في العديد من المظاهر، التي تملؤني بالدهشة والرهبة، بل تذهلني في بعض الأحيان، ولكنني أُجلُّ الإله كحقيقة فحسب، ولم أجد الإله بعد لكنني لا أزال أبحث عنه، وأنا على استعداد لبذل كل عزيز وغالٍ من أجل ذلك البحث، حتى إنني قد أبذل حياتي إذا لزم الأمر. ونظرًا لعدم تمكني من التوصل إلى تلك الحقيقة المطلقة بعد، يجب أن أظل متمسكًا بالحقيقة النسبية كما تتراءى لي، وفي غضون ذلك، يجب أن تكون تلك الحقيقة النسبية دليلي ودرعي الواقي. وقد كان ذلك الطريق الأسرع والأيسر مع صعوبته وضيقه، وكونه حادًّا كشفرة الموسى، حتى إن أخطائي الفادحة بدت لي تافهة لالتزامي بهذا الطريق؛ فقد أنقذني ذلك الطريق من الإخفاق، حيث سرت وفقًا للهدى الذي تراءى لي. كنت أرى في سعيي خلف الحقيقة ومضات خافتة من الحقيقة المطلقة، الإله. ويومًا بعد يوم بدأ ينمو لديَّ الاعتقاد بأن الإله هو الحقيقة الوحيدة وما عداه سراب. ومن شاء فليتتبع كيف نما لديَّ ذلك الاعتقاد وليشاركني في خبراتي وفي اعتقادي، إن استطاع. وتولد لديَّ اعتقاد آخر يستند إلى أسباب منطقية، هو أن ما ينطبق عليَّ يمكن أن ينطبق حتى على طفل صغير؛ إذ إن وسائل البحث عن الحقيقة تتميز بالبساطة بقدر ما تتميز بالتعقيد، وقد تبدو تلك الوسائل مستحيلة تمامًا لشخص متغطرس، لكن ممكنة تمامًا لطفل بريء. إن الساعي خلف الحقيقة يجب أن يكون أكثر تذللًا من التراب. إن العالم يسحق التراب تحت أقدامه، لكن الساعي خلف الحقيقة ينبغي أن يكون من التواضع بمكان حتى يسحقه التراب ذاته. ووقتها، ووقتها فقط، يمكن أن يرى وميضًا من نور الحقيقة. إن الحوار بين فاسيشتا وفيشفاميترا يوضح تلك الحقيقة بإسهاب، وتسهب الديانة الإسلامية والمسيحية أيضًا في تأييدها. وإذا ما لمس القارئ في أيٍّ من صفحات الكتاب لمحاتٍ من كبرياء، فعليه حينها أن يظن أن هناك ما يشوب مسعاي، وأن ومضات نور الحقيقة تلك ليست إلا سرابًا. فليهلك مائة ممن هم على شاكلتي، لكن لتبقَ الحقيقة سائدة. ودعونا لا نحط من قدر الحقيقة ولو قيد أنملة بسبب البشر الخطائين مثلي. أدعو الإله ألا يأخذ أحد نصيحتي التي سأوردها في الفصول التالية على أنها إلزامية، بل يجب النظر إلى التجارب على أنها أمثلة توضيحية يمكن لكل شخص في ضوئها إجراء تجاربه الخاصة وفقًا لميوله الشخصية وقدراته. وأنا على يقين من أن تلك الأمثلة التوضيحية، في مداها المحدود، ستكون نعم العون للقارئ، نظرًا لأنني لن أخفي أو أزيف أي حقائق بغيضة يجب أن أخبر القارئ بها. فأنا أتمنى أن أُطلع القارئ على جميع أخطائي وعيوبي. فليس هدفي الإطراء على نفسي، بل وصف تجاربي فيما يتعلق بعلم الساتياجراها، وسأكون قاسيًا كالحقيقة في حكمي على نفسي، وأريد من الآخرين أن يكونوا كذلك. ويجب أن أهتف، وأنا أحاسب نفسي بهذا المقياس، بأبيات الشاعر سورداس: إنني أعاني عذابًا متواصلًا لاستمرار بعدي عن الإله، الذي أعلم جيدًا أنه هو الذي خلقني، وأن حياتي بيده. وأعلم أن ما يحول بيني وبين الإله هو الهوى الذي بداخلي، إلا أنني لا أستطيع التخلص منه. والآن يجب أن أختم هذه المقدمة، فلا يسعني تناول السرد الفعلي للقصة إلا في الفصل التالي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.1/
المولد والنسب
تزوج كابا غاندي أربع زيجات متتالية، فكلما أفقده الموت زوجة تزوج بأخرى. وقد رزق من زوجتيه الأولى والثانية بفتاتين، ورزق من زوجته الرابعة، بوتليباي، بفتاة وثلاثة أبناء كنت أنا أصغرهم. كان والدي محبًّا لعشيرته ويتسم بالصدق والشجاعة والكرم، لكنه مع هذا كله كان سريع الانفعال. ويمكن القول إنه كان يميل إلى الملذات الشهوانية بدرجة ما، حيث إنه تزوج زواجه الرابع وكان عمره قد جاوز الأربعين. كان والدي مستقيمًا، وقد عُرف بنزاهته التامة داخل العائلة وخارجها، وكان ولاؤه للولاية معلومًا للجميع. فحينما أهان مساعد المعتمد البريطاني أمير راجكوت، رئيس والدي، قام بالرد عليه، الأمر الذي أثار حفيظة مساعد المعتمد البريطاني، فطلب أن يعتذر والدي عما بدر منه، لكن كابا رفض الاعتذار فكانت النتيجة أنه ظل محتجزًا لبضع ساعات، فلما لمس مساعد المعتمد البريطاني منه العناد، أمر بإخلاء سبيله. لم يشغل والدي نفسه قط بجمع الثروة، وقد ترك لنا عند وفاته قدرًا يسيرًا من الأملاك. كانت والدتي تتمتع برجاحة عقل شديدة، وكانت على دراية بجميع شئون الدولة، وكانت سيدات البلاط الملكي يُقررْنَ بذكائها. كنت كثيرًا ما أرافقها، مستغلًّا كوني في طور الطفولة، ولا أزال أتذكر العديد من المناقشات المثيرة التي جرت بينها وبين الأرملة والدة الأمير. وُلدت في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول ١٨٦٩م في بورباندار، التي تُعرف أيضًا باسم سودامابوري، حيث أمضيت طفولتي. وأتذكر دخولي المدرسة، واجتيازي جداول الضرب بشق الأنفس. ولا أتذكر من هذه الأيام إلا قيامي، شأني شأن بقية الأولاد، بنعت المعلم بشتى الألفاظ البذيئة، وهذا يدل على قصور قدراتي الذهنية وضعف ذاكرتي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.2/
الطفولة
لا بد أنني كنت في السابعة من عمري عندما رحل والدي عن بورباندار متجهًا إلى راجكوت ليصبح عضوًا في محكمة راجاسانيك، وقد ألحقني بمدرسة ابتدائية في راجكوت، وما زلت أتذكر تلك الأيام جيدًا، لا سيما أسماء المعلمين الذين درَّسوا لي وغيرها من التفاصيل. وكما كان الحال في بورباندار، لم يكن هناك أمر جدير بالذكر فيما يتعلق بدراستي، فقد كنت طالبًا متوسط المستوى. وانتقلت من هذه المدرسة إلى مدرسة الضاحية، ثم إلى المدرسة الثانوية حين بلغت الثانية عشرة من عمري، ولا أذكر أني قد كذبت قط في تلك الفترة القصيرة، سواء على معلميَّ أو زملائي. لقد كنت شديد الخجل وكنت أتحاشى الرفقة، فلم يكن لي رفيق سوى كتبي ودروسي. واعتدت أن أكون في المدرسة مع قرع جرس بداية اليوم الدراسي، وأن أعود راكضًا إلى المنزل فور انتهائه. وقد كنت أركض فعلًا إلى المنزل لأنني لم أكن أطيق التحدث إلى أي شخص، وكنت أخشى — إلى حد بعيد — سخرية الآخرين. ومع كل ما حدث، فلم تؤثر تلك الواقعة مطلقًا على الاحترام الذي أكنه لمعلمي، فقد كان من طبيعتي ألا أنتقد نقائص مَن هم أكبر مني. وقد نمى إلى علمي فيما بعد الكثير من نقائص ذلك المعلم، ومع ذلك ظل احترامي له كما هو. وذلك يرجع إلى أنني تعلمت تنفيذ أوامر من هم أكبر مني، وليس إحصاء معايبهم. ويعلق بذاكرتي حادثتان أخريان تعودان لنفس الفترة، فبصورة عامة، كنت أكره قراءة أي كتاب بخلاف الكتب المدرسية، وكان عليَّ أن أؤدي الواجبات المدرسية نظرًا لأنني كنت أكره أن أخدع معلمي بقدر كرهي لتكليفه إياي بفروض مدرسية، ولذلك، كنت أؤدي تلك الواجبات، لكن دون تركيز في أغلب الأحيان. ولذلك، حتى عندما كنت أعجز عن إنجاز واجباتي بصورة لائقة كان من المستحيل أن أطلع على أي كتب أخرى. وبطريقة ما وقعت عيني على كتاب كان قد اشتراه والدي، ويحمل اسم «شرافانا بيتريباكتي ناتاكا» (وكان مسرحية تتحدث عن برِّ شرافانا بوالديه)، وقد قرأت ذلك الكتاب بشغف شديد. وقد قدم إلى بلدتنا، تقريبًا في المدة ذاتها، مجموعة متجولة من مقدمي العروض المسرحية. وقد رأيت شرافانا، في أحد المشاهد، وقد حمل والديه الكفيفين على كتفيه بواسطة حبل في أثناء رحلة الحج. ترك كل من الكتاب والمشهد لديَّ انطباعًا لا ينسى، وقد حدثت نفسي قائلًا: «هذا نموذج يحتذى.» ولا يزال مشهد حزن وَالِدَيْ شرافانا لموته حيًّا في ذاكرتي. لقد تأثرت كثيرًا بالموسيقى العذبة التي استمعت إليها، حتى إنني لعبت تلك الموسيقى على آلة الكونسيرتينا التي كان والدي قد اشتراها من أجلي. وهناك واقعة مماثلة تتعلق بمسرحية أخرى، في تلك المدة كان والدي قد أذن لي بمشاهدة مسرحية تؤديها إحدى الفرق المسرحية، وقد سلبتني لبي تلك المسرحية التي تحمل اسم «هاريش تشندرا»، فلم أملَّ أبدًا من مشاهدتها، ولكن السؤال: كم مرة يمكن أن يسمح لي والدي بمشاهدتها؟ لقد استحوذت عليَّ المسرحية، ومن المؤكد أنني أديتها لنفسي عددًا لا حصر له من المرات، وقد كنت أسأل نفسي ليلًا ونهارًا: «لماذا لا نكون جميعًا صادقين مثل هاريش تشندرا؟» وكانت أفضل قيمة غرستها داخلي المسرحية هي التمسك بالحقيقة وخوض جميع المحن التي مر بها هاريش تشندرا. لقد آمنت بقصة هاريش تشندرا تمامًا، وغالبًا ما كانت الفكرة ككل تدفعني إلى البكاء، ويخبرني عقلي الآن بأن هاريش تشندرا لا يمكن أن يكون شخصية تاريخية، إلا أنه هو وشرافانا يمثلان لي حقيقة حية، وأنا على يقين من أنني سأتأثر إذا ما قرأت هاتين المسرحيتين الآن بنفس القدر الذي تأثرت به فيما مضى.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.3/
الزواج طفلًا
كم كنت أود ألا أكتب هذا الفصل، لكن ليس بوسعي إغفال هذا الجانب مهما كان حجم المرارة التي أتجرعها وأنا أكتب هذه السطور، وإن كنت أدعي أنني من أنصار الحقيقة فليس بوسعي أن أفعل خلاف ذلك، فمن واجبي أن أذكر زواجي في سن الثالثة عشرة بغض النظر عن الألم الذي قد أعانيه. حين أنظر إلى الأطفال الذين تقترب أعمارهم من ذلك العمر ممن هم تحت رعايتي، وأتذكر زواجي؛ أشعر بالشفقة على نفسي وبرغبة في تهنئتهم على النجاة من المصير الذي واجهته، فأنا لا أرى أي سبب أخلاقي يدعو إلى ذلك الزواج المبكر الذي ينافي المنطق. أرجو ألا يخطئ القارئ الفهم، فقد كنت متزوجًا ولم أكن خاطبًا. فهناك في كاثياوار نوعان من الطقوس: الخِطبة والزواج، والخِطبة هي وعد أولي بالزواج بين والد الفتى ووالد الفتاة، ويمكن الرجوع عنه، ولا يترتب على وفاة الفتى أن تصبح الفتاة أرملة، فهو اتفاق بين الآباء فحسب، وليس للأبناء شأن به، وفي أغلب الأحوال لا يعلم الأطفال عنه شيئًا. ويبدو أن والدي قد خطب لي ثلاث مرات دون علمي، حيث علمت بوفاة فتاتين كان والدي قد خطبهما لي. ومع ضعف ذاكرتي، فإنني أتذكر أن خطبتي الثالثة تمت وأنا في السابعة من عمري، لكنني لا أتذكر أن أحدًا أخبرني بذلك. وسوف أتحدث في هذا الفصل عن زواجي الذي أتذكره بكل وضوح. كنا ثلاثة إخوة، وكان أخونا الأكبر متزوجًا. فقرر الكبار أن يزوجوني أنا وأخي الآخر الذي يكبرني بسنتين أو ثلاث، وابن عمي الذي كان يكبرني بعام تقريبًا، وأن يكون ذلك في يوم واحد. ولم يأخذوا بعين الاعتبار سعادتنا، ولا حتى رغباتنا. فقد كان الأمر يتعلق بمصلحتهم وتوفيرهم للأموال. إن الزواج عند الهندوس ليس بالأمر الهين؛ فوالدا العروسين غالبًا ما يشرفان على الإفلاس بسبب حفل الزفاف، فيهدران أموالهما وأوقاتهما، فالأمر يستغرق شهورًا للقيام بالاستعدادات، من إعداد الملابس والزخارف، وتوفير الأموال اللازمة للمآدب. ويحاول كل منهما التفوق على الآخر في عدد أصناف الأطعمة المقدمة وتنوعها، وتقوم النساء بالغناء، بغض النظر عن جمال أصواتهن أو قبحها، حتى تبح أصواتهن، ويمرضن. وكان ذلك يسبب إزعاجًا للجيران، الذين كانوا يتحملون بدورهم كل تلك الجلبة والصخب بهدوء، ويتحملون كل القاذورات الناتجة من بقايا الاحتفالات. ويرجع ذلك إلى أن الجيران كانوا على علم بأنه في يوم ما سيتصرفون على نفس النحو. وقد رأى الكبار أن يتخلصوا من كل ذلك الصخب في يوم واحد وبصورة واحدة، بحيث ينفقون مبالغ أقل ويحققون منفعة أكبر. ويرجع ذلك في نظرهم إلى أنه يمكن إنفاق الأموال بسخاء إذا كانت ستنفق في ليلة واحدة وليس في ثلاث ليالٍ مختلفة. لقد كان والدي وعمي كبيرا السن، وكنا آخر أولادهم غير المتزوجين، وعلى الأرجح كانت غايتهم أن يشهدوا آخر أسعد لحظات حياتهم. ونظرًا لكل هذه العوامل، جرى الاتفاق على إقامة زفاف ثلاثي. وكما سبق أن ذكرت استغرقت الاستعدادات للعرس عدة شهور. وقد كانت تلك الاستعدادات هي الشيء الوحيد الذي أعلمنا بالحدث المنتظر. أعتقد أن الزواج كان لا يعني لي سوى ارتداء الملابس الأنيقة وقرع الطبول ومراسم الزفاف والمآدب الفخمة واللعب مع فتاة لا أعرفها، أما الرغبة الجسدية فجاءت لاحقًا. وقد رأيت أن أسدل الستار على هذا الموضوع المخزي، فيما عدا بعض التفاصيل التي تستحق الذكر، والتي سوف أتعرض لها فيما بعد، وذلك مع أن تلك التفاصيل ليست وثيقة الصلة بالفكرة الرئيسية التي كانت تدور بخلدي عند كتابة هذه القصة. وهكذا، انطلقنا أنا وأخي من راجكوت إلى بورباندار. وهناك بعض التفاصيل المضحكة التي وقعت في أثناء المراسم التمهيدية للعرس، مثل تلطيخ أجسادنا بمعجون الكركم، لكن يتعين عليَّ التغاضي عن مثل هذه التفاصيل. كان والدي يشغل منصب ديوان، لكنه لم يكن مجرد موظفٍ حكوميٍّ لأنه كان موضع تقدير أمير الولاية. وحتى اللحظة الأخيرة، لم يكن الأمير موافقًا على سفر والدي. ولكن عندما وافق، أمر لوالدي بعربة خاصة بأربع عجلات تجرها الخيول لتكون تحت تصرفه حتى يوفر يومين من زمن الرحلة، ولكن الأقدار شاءت غير هذا. إن بورباندار تبعد ١٢٠ ميلًا عن راجكوت، أي أن الرحلة كانت ستستغرق خمسة أيام بواسطة العربة، وقد استغرقت الرحلة من والدي ثلاثة أيام فقط، لكن العربة انقلبت في اليوم الثالث، مما تسبب له في إصابات بالغة، عندما وصل والدي كانت الضمادات تغطي جسده كله، ولقد أدت إصابته إلى ضياع جزء كبير من شغفنا بالحدث المرتقب، لكن كان علينا أن نقيم المراسم. فكيف يمكن أن يتغير موعد الزواج؟ على كل حال، أنستني سعادتي الطفولية بالزواج الحزن على إصابة والدي. لقد كنت بارًّا بوالديَّ، ولكنني كنت مولعًا أيضًا بالمشاعر الحسية. ومع ذلك، كان عليَّ أن أتعلم أنه يجب التضحية بكافة أنواع السعادة والملذات من أجل خدمة والديَّ. وسوف أروي فيما بعد حادثة أخرى لا تزال عالقة في ذاكرتي، مع أنها كانت في صورة عقاب لرغباتي الشهوانية. يتغنى نيشكولاناند قائلًا: «لا يدوم التخلي عن الأشياء المادية طويلًا دون التخلي عن الشهوات مهما حاول المرء.» وكلما أنشدت هذه الأغنية أو استمعت إلى كلماتها، تذكرت تلك الحادثة المؤلمة وشعرت بالخجل يغمرني.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.4/
ممارسة دور الزوج
ولكن درس الإخلاص هذا كان له أثر مشئوم أيضًا. حدثت نفسي قائلًا: «إذا كنت سأخلص لزوجتي، فيجب عليها هي أيضًا أن تخلص لي.» فجعلت تلك الفكرة مني زوجًا غيورًا، وتحول واجب إخلاصي لها ببساطة إلى حقي في الحصول على إخلاصها المطلق. ولتحقيق ذلك الإخلاص المطلق، كان عليَّ أن أتمسك بحقي هذا بقوة ويقظة. بالطبع لم يكن هناك ما يدعوني للشك في إخلاص زوجتي، لكن الغيرة عمياء. كان عليَّ أن أراقب تحركاتها باستمرار، فكانت لا تستطيع الخروج دون إذني، وغرست هذه المسألة بذور الشجار المر بيننا. وكانت القيود التي فرضتها عليها بمنزلة السجن، ولكن كاستوربا لم تكن من الفتيات اللاتي يمكن أن يتحملن مثل ذلك السجن، فقد حرصت على أن تخرج وقتما شاءت، وكلما فرضت عليها مزيدًا من القيود، تصرفت هي بمزيد من الحرية، مما زاد من غضبي. فأصبح امتناع كلٍّ منا عن محادثة الآخر روتينًا يوميًّا لحياتنا، ولا عجب فقد كنا مجرد أطفال. وأجد أن تصرف كاستوربا بهذه الطريقة كان طبيعيًّا جدًّا في ظل القيود التي فرضتها عليها، فكيف تتحمل فتاة بسيطة مثلها أي قيود تمنعها من زيارة المعبد أو زيارة صديقاتها؟ وإذا كنت أملك الحق في فرض القيود عليها، أليس من حقها هي أيضًا أن تفرض عليَّ قيودًا؟ لقد أدركت كل هذه الأمور الآن فقط، ولكن آنذاك كان عليَّ النجاح في فرض سيطرتي كزوج. لا أريد أن يظن القارئ أن حياتنا كانت مسلسلًا من التعاسة المطلقة؛ فقسوتي على زوجتي كانت بدافع الحب، فقد كنت أطمح في أن أجعلها مثالية، وأن تحيا حياة نقية وأن تتعلم ما لديَّ من علم وأن تتوحد حياتنا وأفكارنا. لا أعلم ما إذا كان لدى كاستوربا مثل ذلك الطموح، فقد كانت أمية، إلى جانب أنها كانت بطبيعتها بسيطة ومستقلة ومحافظة ومثابرة، على الأقل حين تتعامل معي. وكانت متقبلة لجهلها، ولا أذكر أن دراساتي استطاعت قط أن تحفزها كي تخوض نفس تجربتي، ولذلك أعتقد أن طموحي كان أحادي الجانب. لقد كانت عاطفتي موجهة إلى امرأة واحدة فقط، وكنت أرغب في أن يكون الشعور متبادلًا، ومع أن ذلك الشعور لم يكن متبادلًا فإن الحياة لم تكن شقاءً دائمًا لأن الحب كان موجودًا على الأقل من طرف واحد. يجب أن أعترف أنني كنت مغرمًا بها، حتى وأنا في المدرسة، اعتدت أن أفكر فيها وكان دائمًا ما يراودني حلول الليل ولقاؤنا المقبل، لم أكن أحتمل البعد عنها، وقد اعتدت أن أجعلها مستيقظة لساعات متأخرة من الليل وأنا أحدثها بكلام غير ذي قيمة. لو لم يصاحب هذه العاطفة الفياضة التزام شديد بالواجب، لكان من الممكن أن أقع فريسة للمرض والموت المبكر أو أن أغرق في ظلمات حياة مليئة بالهموم. كان عليَّ أن أقوم بواجباتي صباح كل يوم. وكان من المستحيل أن أكذب على أي شخص، الأمر الذي أنجاني من الكثير من المصائب. سبق أن ذكرت أن كاستوربا كانت أمية. وكنت أتوق لتعليمها، ولكن الحب الشهواني لم يُبقِ لي وقتًا كي أعلمها. فمن ناحية لم تكن ترغب في التعلم، ومن ناحية أخرى كان عليَّ أن أعلمها ليلًا، لم أكن أجرؤ على أن أقابلها في حضور الكبار، ولا أن أحدثها بالطبع. كانت كاثياوار حينذاك تتبنى، ولا تزال بقدر ما، عادةَ حجب النساء (البُردة)، التي أراها غريبة وعقيمة وهمجية، ومن ثَمَّ، لم تكن الظروف مواتية لتعليمها. ويجب أن أعترف أن أغلب جهودي لتعليم كاستوربا في شبابنا باءت بالفشل، وعندما تحررت من أسر الشهوة، كنت قد انخرطت بالفعل في الحياة العامة التي لم تترك لي الكثير من وقت الفراغ. وفشلت أيضًا في تعليمها بواسطة معلمين خصوصيين، ونتيجة لذلك، لا تستطيع كاستوربا حاليًّا إلا كتابة بعض حروف قليلة وبصعوبة، بالإضافة إلى فهم اللغة الجوجراتية البسيطة. وأنا على يقين بأنه لو كان حبي لها خاليًا تمامًا من الشهوة، لأصبحت امرأة متعلمة الآن. ويرجع ذلك إلى أنني كنت سأستطيع حينها أن أقهر كرهها للدراسة، فلا شيء يستعصي على الحب الطاهر. سبق أن ذكرت إحدى الوقائع التي حدثت لي وأسهمت بقدر ما في إنقاذي من مصائب الحب الشهواني، وقد وقع حدث آخر يستحق الذكر أثبت لي — بجانب العديد من الأمثلة الأخرى — أن الإله ينجي أصحاب الدوافع النبيلة في النهاية. تسيطر على المجتمع الهندي عادة أخرى تحد إلى درجة ما من شر عادة تزويج الأطفال الوحشية، وتتمثل هذه العادة في أن الوالدين لا يسمحان للزوجين الصغيرين بالبقاء معًا لفترة طويلة. فتقضي الفتاة المتزوجة ما يزيد على نصف الوقت في منزل والدها، كما كان حالي مع زوجتي، ففي الخمس سنوات الأولى من زواجنا (من سن الثالثة عشرة إلى الثامنة عشرة)، لم نعش معًا فترة تزيد على ثلاث سنوات في مجموعها، وكنا نادرًا ما نكمل ستة أشهر معًا دون استدعاء والديها لها، لقد كان ذلك الأمر يضايقنا كثيرًا في تلك الأيام ولكنه مع هذا كان درعًا لحمايتنا. وعند بلوغي سن الثامنة عشرة، رحلت إلى إنجلترا مما أدى إلى مدة طويلة وصحية من الانفصال. وحتى بعد عودتي من إنجلترا، كنا نادرًا ما نمضي معًا فترة تزيد على ستة أشهر حيث إنني كنت أتنقل بين راجكوت وبومباي. ثم كانت دعوة جنوب أفريقيا، وكنت وقتها قد تخلصت تمامًا من الشهوة الجسدية.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.5/
في المدرسة الثانوية
كما ذكرت فيما سبق، كنت أدرس في المدرسة الثانوية حين تزوجت، وكنت وأخواي ندرس في المدرسة ذاتها، وكان أخي الأكبر يسبقني في الصف الدراسي بكثير، أما أخي الذي تزوج في نفس يوم زفافي فكان يسبقني بصف دراسي واحد. ونتيجة لزواجنا، تخلفنا عن المدرسة سنة كاملة، ولكن الزواج كان له أثر أكثر سلبية على أخي حيث إنه ترك الدراسة نهائيًّا، وهناك الكثير من الشباب يعانون نفس محنته، فلم يسر التعليم والزواج جنبًا إلى جنب إلا في المجتمع الهندي المعاصر. أذكر أنني لم أكن أُقدِّر ما لديَّ من قدرات، وكنت أدهش كلما حصلت على جائزة أو منحة دراسية، لكنني كنت أدافع عن تفوقي بغيرة شديدة، كنت أذرف الدمع إذا شاب تفوقي شيء ولو شائبة ضئيلة، لم أكن أحتمل استحقاقي للتعنيف أو أن يرى المعلمون أنني أستحق التعنيف. تحضرني واقعة تلقيت فيها عقابًا بدنيًّا، ولم يكن العقاب هو ما آلمني، ولكن استحقاقي لذلك العقاب؛ فقد أخذت أبكي بمرارة، وكانت تلك الواقعة في أثناء دراستي في الصف الأول أو الثاني. وقد حدثت لي واقعة أخرى في دراستي بالصف السابع، وكان السيد دورابجي إدولجي جيمي يشغل منصب مدير المدرسة آنذاك، وقد كان السيد دورابجي معروفًا بين الطلبة بكونه شخصية نظامية ومنهجية، وبكونه معلمًا جيدًا. وقد جعل التربية الرياضية والكريكت إلزامية على الأولاد في الصفوف المتقدمة، وكنت أمقت رياضة الكريكيت أو كرة القدم، ولم أشارك قط في أي منهما قبل أن تصبح إلزامية. وكان خجلي أحد الأسباب التي منعتي من المشاركة في تلك الرياضة، وقد اتضح لي الآن أنني كنت مخطئًا؛ فقد كان لديَّ مفهوم خاطئ حينها مفاده أن التربية الرياضية لا علاقة لها بالتعليم. أما الآن فأنا على يقين من أن التربية الرياضية يجب أن تحظى كمادة أساسية في برامج التعليم بنفس الاهتمام الذي تحظى به التربية الذهنية. ولكنني مع ذلك لم أتضرر نتيجة لامتناعي عن التدريبات، ويرجع ذلك إلى قراءتي في بعض الكتب عن فوائد السير لمسافات طويلة في الهواء الطلق، فأصبح السير من عاداتي التي لا أزال أحرص عليها، وقد منحتني ممارستي لرياضة السير بنيةً قويةً بقدر ما. لقد اتهمني بالكذب! وهو الأمر الذي آلمني بشدة، كيف كان لي أن أثبت براءتي؟ لم يكن بيدي حيلة، فبكيت بحرقة، وأيقنت حينها أن الشخص الصادق يجب أن يتحلى أيضًا بالالتزام. كانت هذه الواقعة أول وآخر حادثة أهمل فيها في المدرسة. وعلى ما أتذكر، نجحت في النهاية في إلغاء الغرامة التي كان قد فرضها عليَّ، وأُعفيت من التدريب أيضًا، حيث إن والدي كتب إلى مدير المدرسة بنفسه يخبره بحاجته إليَّ في البيت بعد انتهاء المدرسة. لم أتأثر نتيجة لإهمالي للتدريبات، ولكنني لا أزال مع ذلك أدفع ثمن إهمالي لشيء آخر. فلا أدري من أين تكونت لديَّ فكرة أن الخط الجيد في الكتابة لا يمثل جزءًا ضروريًّا من عملية التعليم. على كل حال، لقد لازمتني هذه الفكرة حتى رحلت إلى إنجلترا. وعندما رأيت فيما بعد ما يتمتع به المحامون والشباب الذين وُلدوا وتلقوا تعليمهم في جنوب أفريقيا من خط جميل في الكتابة، شعرت بالخجل من نفسي، وندمت على إهمالي لتحسين خطي في الكتابة. إن الخط السيئ يشير إلى عدم تلقي تعليم كامل. وحاولت بعد ذلك العمل على تحسين خطي في الكتابة، لكن بعد فوات الأوان، فلم أستطع قط أن أصلح ما أفسده تقصيري في شبابي. فليأخذ كل شاب وفتاة عبرة مما حدث لي وليعلموا أن الخط الجيد في الكتابة هو جزء لا يتجزأ من التعليم. وأعتقد أن على الأطفال تعلم فن الرسم قبل تعلم الكتابة. يجب أن يتعلم الطفل الحروف بالمشاهدة كما يتعلم غيرها من الأشياء المادية، مثل الزهور والطيور وغيرها. ويجب أن يتعلم الكتابة بعد أن يتعلم رسم الأشياء المادية، ولسوف يكتب وقتها بخط جميل. حدثت واقعتان أخريان في أيام الدراسة يستحقان الذكر في هذا السياق، سبق أن ذكرت أنني أضعت سنة دراسية بسبب زواجي، لكن معلمي أرادني أن أعوض تلك السنة بتخطي صف دراسي، وهو امتياز يُمنح غالبًا للطلبة المجتهدين. وبناءً على ذلك، قضيت ستة أشهر فقط في الصف الثالث ثم انتقلت إلى الصف الرابع بعد الامتحانات التي تعقبها العطلة الصيفية، وأصبحت اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس في معظم المواد الدراسية بداية من الصف الرابع، فوجدت نفسي في ضياع تام. كان علم الهندسة مادة جديدة ومن الصعب عليَّ تعلمها، وزاد تدريسها باللغة الإنجليزية من صعوبة الأمر. لقد كان المعلم يشرح المادة بصورة جيدة، لكنني لم أستطع متابعته، وكنت في أحيان كثيرة أفقد الأمل وأفكر في العودة إلى الصف الثالث محدثًا نفسي بأن تكديس مواد سنتين دراسيتين في سنةٍ واحدةٍ أمرٌ بالغ الطموح. ولكنني إن فعلت ذلك فلن أجلب العار على نفسي فقط، بل على المدرس الذي وثق باجتهادي وأوصى بنقلي إلى الصف التالي، وأدى خوفي من ذلك الخزي المضاعَف، إلى استمراري في الصف ذاته. عندما وصلت إلى مسلمة إقليدس الثالثة عشرة بعد جهد مضني، تجلت لي بساطة المادة. فأي مادة تتطلب من الشخص استخدامًا بسيطًا لقدراته الاستدلالية، لا يمكن أن تعتبر صعبة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الهندسة سهلة وممتعة. ومع ذلك، وجدت أن تعلم اللغة السنسكريتية مهمة أصعب؛ ففي الهندسة لم أكن أحفظ شيئًا، أما في اللغة السنسكريتية فكنت أرى أن عليَّ حفظ كل شيء عن ظهر قلب. وقد بدأت في دراسة هذه المادة بداية من الصف الرابع أيضًا. وعند دخولي الصف السادس، كنت مثبط الهمة. كان المدرس شديدًا في تعامله معنا ويثقلنا بالواجبات المدرسية، وكان هناك نوع من المنافسة بين مدرس اللغة السنسكريتية ومدرس اللغة الفارسية، فقد كان مدرس اللغة الفارسية متساهلًا، واعتاد الطلبة أن يتحدثوا عن سهولة اللغة الفارسية وبراعة مدرسها ومدى مراعاته للطلبة. استهوتني «السهولة» التي كانوا يتحدثون عنها، فجلست في يوم من الأيام في فصل اللغة الفارسية، الأمر الذي أحزن مدرس اللغة السنسكريتية بشدة، فدعاني إلى جانبه وقال لي: «كيف نسيت أنك ابن لأب من أتباع الإله فيشنو؟ ألن تتعلم لغة ديانتك؟ أخبرني إذا كنت تواجه أي صعوبة، فأنا أريد أن أعلمكم اللغة السنسكريتية قدر استطاعتي، وكلما تعمقتَ في هذه اللغة اكتشفت أمورًا ممتعة. يجب عليك ألا تحبط، عُدْ واجلس في حصة اللغة السنسكريتية!» لقد شعرت بالخجل من تلطفه معي، ولم أستطع تجاهل تأثره. والآن أشعر بالعرفان بالجميل لمدرسي كريشنا شانكر بانديا، فلولا القدر اليسير من اللغة السنسكريتية الذي تعلمته حينذاك، لكان من الصعب عليَّ الاطلاع على أي من كتبنا المقدسة. في الحقيقة، أشعر بندم عميق لعدم إلمامي باللغة بطريقة أفضل لأنني أدركت منذ ذلك الحين أنه يجب على كل فتى وفتاة ينتمون إلى الهندوسية أن يمتلكوا معرفة سليمة باللغة السنسكريتية. في رأيي، ينبغي أن تحتوي مناهج التعليم العالي على اللغات الهندية والسنسكريتية والفارسية والعربية والإنجليزية، وذلك بالطبع بالإضافة إلى اللغة المحلية. ولا داعي لأن تثير هذه القائمة من اللغات المخاوف؛ فلو أصبح التعليم لدينا نظاميًّا ولا يعاني الطلاب فيه عبء تعلم جميع المواد الدراسية بلغة أجنبية، لكان من السهل عليهم تعلم جميع هذه اللغات وكانوا سيجدون في تعلمها متعة مطلقة. فالمعرفة العلمية بلغة، تجعل معرفة غيرها من اللغات أسهل نسبيًّا. في الواقع، يمكن أن نعتبر اللغات الهندية والجوجراتية والسنسكريتية لغة واحدة، والفارسية والعربية أيضًا لغة واحدة، فهناك علاقة وطيدة بين اللغتين الفارسية والعربية، مع أن اللغة الفارسية تنتمي إلى عائلة اللغات الهندوأوروبية (الآرية)، وتنتمي اللغة العربية إلى عائلة اللغات السامية. وترجع هذه العلاقة إلى أن كلتا اللغتين وصلتا إلى أوجهما عن طريق نهضة الإسلام. لم أعتبر اللغة الأردية لغة مستقلة حيث إنها تبنت قواعد النحو الخاصة باللغة الهندية، وتتكون مفرداتها بصورة رئيسية من مفردات اللغتين الفارسية والعربية. وعلى من يرغب في تعلم اللغة الأردية بطريقة سليمة، أن يتعلم اللغتين الفارسية والعربية، ويجب أيضًا على من يرغب في تعلم اللغة الجوجراتية أو الهندية أو البنغالية أو الماراثية بصورة سليمة أن يتعلم اللغة السنسكريتية.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.6/
حدث مأساوي
من بين أصدقائي القليلين في المدرسة الثانوية، كان هناك — في فترات مختلفة — اثنان يمكن أن أعتبرهما صديقين حميمين. لم تستمر واحدة من هاتين الصداقتين طويلًا مع أنني لم أتخل عن أصدقائي قط. لقد تركني صديقي الأول لأنني صادقت الآخر. تلك الصداقة الأخيرة أعتبرها مأساة في حياتي، فقد دامت طويلًا وعشتها بروح المصلح. كان رفيقي هذا في الأصل أحدَ أصدقاء أخي الأكبر وكان زميلًا له في الصف الدراسي، وكنت على دراية بمساوئه، ولكنني كنت أرى فيه صديقًا وفيًّا. حذرني كل من والدتي وأخي الأكبر وزوجتي من رفقته، ومنعني كبريائي من الإنصات إلى تحذير زوجتي، لكنني لم أجرؤ على معارضة رأي أمي وأخي الأكبر. ومع ذلك، دافعت عن نفسي أمامهم قائلًا: «أعلم أن به ما ذكرتم من مساوئ، لكنكم لا تعلمون فضائله. لا يمكنه أن يضلني عن طريق الصواب، لأن علاقتي به هدفها أن أُقَوِّم معوجه، وأنا على يقين من أنه سيصبح إنسانًا عظيمًا عندما أصلح من سلوكياته. أرجوكم لا تقلقوا بشأني.» لا أعتقد أن دفاعي قد أقنعهم، لكنهم قبلوا تبريري للموقف، وتركوني أسلك الطريق الذي اخترته. وبعد ذلك، اكتشفت أنني أخطأت في تقدير الأمور؛ فلا يمكن للمصلح أن يكون على علاقة وثيقة بالشخص الذي يسعى إلى إصلاحه، فالصداقة الحقيقية تعتمد على تطابق أرواح نادرًا ما يوجد في هذا العالم. ولن تكون ذات قيمة أو تدوم سوى بين الطبائع المتآلفة. ويؤثر الأصدقاء بعضهم في البعض، فلا يوجد إذن سوى مجال ضئيل للغاية للإصلاح. وأرى أنه يجب تجنب الصداقات المستأثرة التي تحول دون مصادقة سائر البشر، فالإنسان يميل إلى الرذيلة أكثر منه إلى الفضيلة. والشخص الذي يتخذ من الإله صديقًا له، عليه أن يظل وحيدًا أو أن يتخذ العالم كله صديقًا له. رأيي هذا قد يحتمل الخطأ، لكن أثبتت لي التجربة أن جهودي لترسيخ صداقة وطيدة باءت بالفشل. كانت هناك موجة من «الإصلاح» تجتاح راجكوت في الوقت الذي تعرفت فيه إلى صديقي هذا، وأخبرني صديقي بأن هناك العديد من مدرسينا يأكلون اللحم ويشربون الخمر سرًّا. وقد ذكر لي العديد من الأسماء لأناس مشهورين في راجكوت، وأخبرني أنهم ينتمون لنفس تلك المجموعة. وأخبرني أيضًا أن من ضمن هذه المجموعة طلبة من المدرسة الثانوية. لقد أذهلني ما أخبرني به صديقي وجعلني أشعر بالألم. وسألت صديقي عن السبب وراء ذلك كله، فأجابني قائلًا: «نحن شعب ضعيف لأننا لا نأكل اللحم، ويقدر الإنجليز على حكمنا وإخضاعنا لأنهم يأكلون اللحم. بالطبع تعلم كم أحتمل المشقات، بالإضافة إلى كوني عداءً سريعًا، كل ذلك لأنني آكل اللحم. إن آكلي اللحوم لا يصابون بالبثور أو الأورام، وحتى إذا أصيبوا بها فلا تلبث أن تلتئم بسرعة. إن مدرسينا وغيرهم من الأشخاص البارزين ممن يأكلون اللحم ليسوا بمغفلين، بل هم على علم بفوائد اللحم، ويجب عليك أنت أيضًا أن تفعل مثلهم، فلا شيء أفضل من التجربة، جرب أكل اللحم وسوف ترى القوة التي سيمنحك إياها.» هذه القائمة من الدفاعات عن أكل اللحوم لم أتلقَها في لقاء واحد، وإنما هي خلاصة جدال طويل ومفصل كان يحاول صديقي أن يفرضه عليَّ من وقت إلى آخر. اقتنع أخي بوجهة النظر تلك، وانضم إلى تلك المجموعة، ومن ثَمَّ كان يدعم وجهة نظر صديقي. بالطبع كنت أبدو ضئيل الجسم مقارنة بأخي وصديقي هذا، فقد كانا أكثر شجاعة وقوة وجرأة. لقد فتنتني مناقب صديقي هذا، فقد كان يستطيع العَدْو لمسافات طويلة وبسرعة فائقة، وكان ماهرًا في القفز الطويل والوثب العالي. وكان يستطيع تحمل أي قدر من العقاب البدني، وكان كثيرًا ما يستعرض مناقبه أمامي، وكنت أنبهر به كأي إنسان ينبهر عند رؤية الصفات التي تنقصه في غيره، وتبع ذلك الانبهار رغبة في أن أصبح مثله؛ فقد كنت لا أستطيع القفز أو الركض مثله. فلماذا لا أكون بنفس قوته؟ علاوة على ذلك، كنت جبانًا. فقد كان يغشاني الخوف من اللصوص والأشباح والأفاعي، ولم أكن أجرؤ على الخروج في الليل خشية الظلام، وكان من الصعب أن أنام في الظلام لأنني كنت أتخيل الأشباح تتقدم نحوي من اتجاه، واللصوص من اتجاه آخر، والأفاعي من اتجاه ثالث، وهكذا لم أكن أستطيع النوم دون إضاءة الغرفة، وكيف أستطيع أن أبوح بمخاوفي لزوجتي التي تنام بجانبي، ولم تكن طفلة بل على أعتاب مرحلة الشباب؟ كنت أعلم أنها أكثر شجاعة مني، مما جعلني أشعر بالخزي. ولم تكن زوجتي تخاف الأفاعي أو الأشباح، وكان يمكنها الذهاب حيثما شاءت في الظلام. وكان صديقي يعلم عني كل جوانب الضعف هذه، وكان يخبرني أنه يستطيع الإمساك بأفعى حية بيده، وأن يهزم اللصوص، وأنه لا يهاب الأشباح. وبالطبع كان ذلك كله ثمرة أكله للحم. كان هناك أبيات هزلية للشاعر الجوجراتي نارماد شائعة بين الطلبة، تقول: هذا كله كان له أثر مباشر عليَّ. لقد تكونت لدي قناعة تدريجية بأن أكل اللحم أمرٌ حسن، وأنه سيجعلني قويًّا وشجاعًا، وأنه إن واظب الشعب كله على أكل اللحم، فسوف نقهر الإنجليز.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.7/
حدث مأساوي (تابع)
ثم جاء اليوم المنتظر، وإنني لأجد صعوبة في وصف حالتي حينها وصفًا دقيقًا. فمن ناحية، كانت هناك حماستي «للإصلاح» وحداثة فكرة القيام بتحول خطير في طريق حياتي، ومن ناحية أخرى، كان هناك شعوري بالخجل نتيجة الاختباء كاللصوص للقيام بذلك العمل. لا أدري أي الأمرين كان ذا أثر أكبر عليَّ. أخذنا نبحث عن منطقة منعزلة على ضفاف النهر، وهناك رأيت للمرة الأولى في حياتي «اللحم»، وأُحضر الخبز أيضًا. ولكنني لم أستمتع بأي منهما، فقد كان لحم الماعز صلبًا كالصخر، فلم أستطع أن أتناوله، وكنت مريضًا فاضطررت للكف عن الأكل. لقد عانيت في تلك الليلة كثيرًا. فظل يراودني كابوس كلما غفوت، كان يتراءى لي كأن عنزة حية تثغو بداخلي، فكنت أستيقظ فَزِعًا وأشعر بالندم يغمرني، ولكنني كنت أحدث نفسي بأن أكل اللحم إنما هو واجب، مما كان يدخل عليَّ بعض السرور. لم يكن صديقي من النوع الذي يستسلم بسهولة. فقد بدأ يطهو أنواعًا متعددةً من الأطعمة الشهية من اللحم، ويقدمها بصورة جميلة. وتغير مكان العشاء من المنطقة المنعزلة على ضفاف النهر إلى مبنى المجلس التشريعي بما يحويه من صالة الطعام والطاولات والكراسي، ولقد استطاع صديقي أن يصل إليه بترتيب الأمر مع رئيس الطهاة هناك. وقد كان لذلك الإغراء جليل الأثر عليَّ. فقد تجاوزت بغضي للخبز ورأفتي بالماعز وأصبحت من محبي أطعمة اللحوم، بل أصبحت محبًّا للحم ذاته. وقد استمر هذا الوضع لقرابة العام، ولكننا لم نحظَ إلا بحوالي ست ولائم على مدار العام. ويرجع ذلك إلى أن مبنى المجلس التشريعي لم يكن متاحًا في جميع الأيام، ويرجع أيضًا إلى صعوبة إعداد أطعمة اللحم باهظة الثمن بصورة متكررة، ولم أكن أمتلك المال اللازم لدفع مقابل هذا «الإصلاح»، ولذلك كان على صديقي دائمًا أن يجد المال الكافي. لا أعلم من أين كان يأتي بالمال، لكن ما يهم في الأمر هو أنه كان يأتي به لعزمه على تحويلي إلى آكل للحوم، ولكن موارده المالية كانت محدودة، لذلك كانت تلك الولائم قليلة وتقام على فترات متباعدة. وكلما واتتني فرصة الانغماس في مثل هذه الولائم السريَّة، كان يستحيل أن أتناول العشاء في البيت، وكانت والدتي تطلب مني تناول عشائي، وعندما كنت أمتنع عن تناول الطعام، كانت تسألني عن السبب، فكنت أجيبها قائلًا: «لا أشعر برغبة في تناول الطعام اليوم، وأشعر بتوعك في معدتي.» كنت أشعر بتأنيب الضمير وأنا أحيك هذه الأكاذيب، كنت أعلم أنني أكذب، وأنني أكذب على والدتي ذاتها! وكنت أعلم أنه عندما يعرف والداي أنني أصبحت من آكلي اللحوم، سيصابان بصدمة شديدة، وكان علمي بذلك كله ينهش قلبي. حدثتني نفسي قائلة: «إن أكل اللحم أمر مهم، وكذلك تَبَنِّي فكرة «الإصلاح»، ولكن خداع المرء لوالديه والكذب عليهما أسوأ من الامتناع عن أكل اللحم؛ ولذلك، عليَّ أن أمتنع عن أكل اللحم ما داما على قيد الحياة، وسآكل اللحم كما أشاء فقط إذا واراهما التراب، وبعد أن أصبح حرًّا. وحتى ذلك الحين، سوف أمتنع عن أكل اللحم.» أخبرت صديقي بالقرار الذي توصلت إليه، ومن وقتها لم أعد أتناول اللحم، ولم يعلم والداي قط أن اثنين من أبنائهما أصبحا من آكلي اللحوم. إن ما دفعني للامتناع عن أكل اللحم هو صدق رغبتي في عدم الكذب على والديَّ، لكنني لم أتخل عن صديقي. وقد عادت حماستي لفكرة إصلاح صديقي عليَّ بالمتاعب، لكنني لم أكن على دراية بتلك الحقيقة. وكانت تلك الصداقة ذاتها ستؤدي بي إلى خيانة زوجتي، لكنني نجوت بالكاد، فقد اصطحبني صديقي في يوم من الأيام إلى أحد بيوت الدعارة، وأدخلني بعد أن أخبرني ببعض النصائح والتوجيهات الضرورية، وكان كل شيء معدًّا سلفًا، فقد تكفَّل صديقي بدفع الأجر المطلوب بالفعل، وألقيت بنفسي بين براثن الرذيلة، لكن الإله حماني من نفسي برحمته الواسعة. لقد جلست بجانب المرأة على فراشها في وكر الرذيلة هذا دون حراك، كأن عيناي قد عصبت ولساني قد عقد، وبالطبع، نفد صبر المرأة، وطردتني وهي تنهال عليَّ بالسباب المقذع، وحينها شعرت أن رجولتي قد جُرحت، وتمنيت لو أن الأرض انشقت وابتلعتني من شدة خجلي، لكنني بعد ذلك توجهت إلى الإله بالشكر لإنقاذي من براثن الرذيلة. وأذكر على مدار حياتي أنني تعرضت لأربع وقائع من هذا النوع، وفي معظم تلك الوقائع كانت نجاتي تأتي نتيجة حظي الحسن وليس قوة إرادتي. إذا ما نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر أخلاقية بحتة، نجد أن جميع تلك الأحداث تعتبر زلات أخلاقية، فقد كانت لديَّ الرغبة الجنسية التي لا تقل إثمًا عن ممارسة الجنس. ومن وجهة النظر الدنيوية العادية، يعتبر المرء الذي ينجو من ارتكاب خطيئة، ناجيًا. وقد نجوت بهذا المعنى فقط. هناك بعض الأفعال التي تكون النجاة منها بمنزلة حادثة سعيدة لكل من الشخص الذي نجا والأشخاص من حوله، وفور أن يعود المرء إلى رشده، يشكر الإله على تخليصه منها برحمته. ومن المعروف أن المرء كثيرًا ما يركن إلى الإغواء مهما قاومه، ولكننا نعلم أن العناية الإلهية كثيرًا ما تتدخل لتخلصه بغض النظر عن أهوائه. كيف يحدث كل ذلك؟ إلى أي مدى يكون الإنسان حرًّا وإلى أي مدى يتأثر بالظروف؟ ما مدى تدخل الإرادة الحرة وأين دور القدر في الأحداث؟ إن جميع هذه الأسئلة تمثل لغزًا محيرًا وستظل كذلك إلى الأبد. نعود إلى سرد القصة، فأذكر أن كل هذه الأحداث لم تفتح عينَيَّ على الشر الذي يعود عليَّ من تلك الصداقة، ونتيجة لذلك كان في انتظاري المزيد من الأحداث المؤلمة، حتى اكتشفت بعض زلاته التي لم تخطر لي ببال على الإطلاق، لكنني سوف أذكر تلك الزلات فيما بعد؛ للحفاظ على السرد الزمني للأحداث. على كل حال، هناك أمر واحد يجب عليَّ أن أذكره الآن لأنه يتعلق بهذه المرحلة، كانت علاقتي بصديقي هذا، بلا شك، أحد أسباب خلافاتي مع زوجتي، وكنت زوجًا وفيًّا وغيورًا في الوقت ذاته، وكان صديقي يشعل نيران الغيرة والشكوك تجاه زوجتي، ولم أكن أشك مطلقًا في صدقه. لم ولن أسامح نفسي أبدًا على الألم الذي كنت أسببه لزوجتي نتيجة لإصغائي لكلام صديقي. ربما لا توجد امرأة يمكن أن تتحمل كل هذه الصعاب غير الزوجة الهندية، ولذلك أعتبر المرأة تجسيدًا لمعنى التسامح. إذا ما اتُّهم خادم بغير حق، فسيترك وظيفته، وكذلك إذا اتُّهم ابنٌ فسيفرُّ من منزل والده، وأيضًا إذا اتُّهم الصديق فسيُنهي تلك الصداقة. أما الزوجة إذا ما شكَّت في زوجها، فستلزم الصمت، ولكن إذا شك فيها زوجها، فستكون نهايتها. فأين يمكن أن تذهب؟ لا تستطيع الزوجة الهندية أن تطلب الطلاق في المحاكم، فالقانون لا يحميها. ولا أستطيع أن أنسى أو أن أغفر لنفسي ما سببته لزوجتي من تعاسة.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.8/
السرقة والتكفير عنها
أرى أنه يجب عليَّ أن أروي بعض حالات الضعف التي مررت بها أثناء مدة أكل اللحم تلك والمدة التي سبقتها أيضًا، والتي تعود إلى وقت ما قبل زواجي أو بعد زواجي بوقت قصير. كنت أنا وقريب لي مولعَين بالتدخين، ولم يكن حبنا للتدخين بدافع اقتناعنا بوجود فائدة للتدخين أو لإعجابنا برائحة السجائر مثلًا، وإنما ببساطة كان نتيجة لاعتقادنا بأن انبعاث سحاب الدخان من أفواهنا يشعرنا بالسرور. اعتاد عمي أن يدخن السجائر، وعندما رأيناه يدخن، ظننا أنه يجب علينا أن نحذو حذوه، وكنا لا نملك المال، ومن ثَمَّ بدأنا في سرقة أعقاب السجائر التي يلقيها عمي. لم تكن أعقاب السجائر متوفرة باستمرار، ولم تكن تبعث دخانًا كثيفًا، فبدأنا نسرق قطع النقود النحاسية من جيب الخادم كي نشتري السجائر الهندية. ولكن كان ما يحيرنا دائمًا هو المكان الذي سنحتفظ فيه بالسجائر. وبالطبع كنا لا نستطيع أن ندخن في حضور الكبار. ولقد استطعنا أن نعتمد لبضع أسابيع على تلك النقود التي سرقناها. وعندما سمعنا أن سيقان إحدى النباتات مسامية ويمكن أن تستخدم للتدخين كالسجائر، حصلنا عليها وبدأنا في تدخينها. ولكننا لم نكن قانعين بمثل هذه الأشياء، بدأت رغبتنا في الاستقلال تؤلمنا، وكنا لا نستطيع احتمال فكرة الحصول على إذن من الكبار قبل القيام بأي عمل. في نهاية الأمر، ومع كرهنا التام لذلك، قررنا الانتحار! أدركت حينها أن الإقدام على الانتحار ليس بقدر سهولة التفكير فيه. ومنذ ذلك الحين، وأنا قلَّما أتأثر عند سماعي لشخص يهدد بالانتحار، أو لا أتأثر بالمرة. أدت فكرة الانتحار بصورة أساسية إلى إقلاعنا عن عادة تدخين أعقاب السجائر وعن سرقة نقود الخادم من أجل شراء السجائر. ومنذ بلوغي، لم أرغب في التدخين وطالما اعتبرت التدخين عادة همجية وقذرة وضارة بالصحة، ولم أستطع قط أن أفهم سبب الرغبة العارمة في التدخين التي تسود العالم؛ فأنا لا أستطيع تحمل السفر في عربة مليئة بالمدخنين، فهذا يصيبني بالاختناق. ولكن هناك سرقة ارتكبتها فيما بعد وكانت أشد خطورة من سالفتها، فقد سرقت قطع النقود النحاسية من الخادم عندما كان عمري اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو ربما أقل، أما هذه السرقة فقد ارتكبتها في سن الخامسة عشرة. هذه المرة، كان أخي آكل اللحم يرتدي سوارًا تتدلي منه قطعٌ ذهبية فسرقتُ قطعةً منها، وكان أخي مدينًا بمبلغ خمس وعشرين روبية، وكان مع ذلك يرتدي في ذراعه سوارًا من الذهب الخالص، ولم يكن من الصعب أن أنتزع جزءًا ضئيلًا منه. لقد ارتكبت السرقة وأديت دين أخي، لكن الأثر الذي خلفته السرقة عليَّ كان فوق طاقتي، وقررت عدم السرقة مرة أخرى أبدًا. وفكرت في الاعتراف لوالدي بما حدث، ولكنني لم أجرؤ على إخباره، ولم يكن رجوعي عن إخباره بالسرقة نتيجة خوفي أن يضربني، فلا أذكر أنه ضرب أيًّا منا، وإنما كان ذلك نتيجة لخوفي عليه من الألم الذي سيصيبه، مع ذلك، شعرت أن عليَّ أن أتحمل المخاطرة، فلا تطهير من الإثم دون اعتراف صريح به. في نهاية الأمر، قررت أن أكتب الاعتراف وأسلمه إلى والدي طالبًا منه العفو عني، فكتبت الاعتراف على قطعة من الورق وسلمته إياها بنفسي، لم تكن هذه الورقة مجرد اعتراف مني بذنبي، وناشدت والدي فيها أن يعاقبني بالجزاء الذي يتناسب وذنبي، وختمت اعترافي برجائي له ألا يعاقب نفسه على جريمتي. وقد أخذت عهدًا على نفسي بألا أسرق بعد ذلك أبدًا. كانت فرائصي ترتعد وأنا أسلم والدي الاعتراف، كان والدي وقتها يعاني الناسور وكان أسير الفراش، الذي كان لوحًا خشبيًّا بسيطًا، فسلمته الورقة وجلست في الجهة المقابلة للفراش. قرأ والدي الورقة مباشرة دون توقف، ورأيت دموعه المتلألئة تسيل على خديه مبللة الورقة، وأغلق والدي عينيه للحظة وأخذ في التفكير، ثم مزق الورقة. وبعد أن كان قد اعتدل في جلسته لكي يقرأها، عاد ليستلقي. لقد بكيت أنا الآخر، فقد كنت أشعر بمدى تألم والدي، ولو كنت رسامًا، لصورت ذلك المشهد بالكامل اليوم، فلا يزال المشهد حيًّا في ذاكرتي. طهرت دموع والدي المتلألئة المليئة بالحب قلبي، ومحت خطيئتي. ولا يستطيع أن يفهم هذا الحب إلا من عاشه كما تقول الترانيم: كان هذا درسًا واقعيًّا في مذهب الأهيمسا. في ذلك الوقت لم أكن أرى فيما فعله والدي إلا حب الأب لابنه، لكنني الآن أعلم أن ما فعله كان تطبيقًا خالصًا للأهيمسا. فعندما تصبح هذه الأهيمسا شاملة، تعمل على تغيير كل شيء تقترب منه، ولا يكون هناك حدٌّ يقيد قواها. لم يكن هذا النوع من المغفرة السامية من طبائع والدي، كنت أظنه سيغضب مني ويسبني بكلمات جارحة ويضرب جبينه حزنًا، ولكن على عكس ذلك كان هادئًا للغاية، الأمر الذي يعود في رأيي إلى اعترافي الصريح، فأطهر اعترافٍ ذلك الذي يكون صريحًا، ومتضمنا لوعد بعدم العودة إلى ارتكاب تلك الخطيئة، والذي يُدلي به أمام الشخص المستحق له، وأنا على يقين بأن اعترافي جعل والدي يثق بي تمامًا، وأنه زاد من حبه لي إلى أقصى مدى.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.9/
وفاة والدي والخزي المضاعف
كنت آنذاك في السادسة عشرة من عمري، وكان والدي كما ذكرت طريح الفراش إثر إصابته بالناسور، وكنت أنا ووالدتي وخادم كبير السن نقوم على خدمته. كنت أقوم بمهام التمريض، ولا سيما تضميد جراحه، وإعطائه الأدوية، وتركيبها في المنزل عند الضرورة. كنت أقوم بتدليك ساق والدي كل ليلة ولا أذهب إلى فراشي إلا عندما يطلب مني هو ذلك، أو بعد أن يغلبه النعاس. لقد كنت أعشق قيامي بهذه الخدمة، ولا أذكر أنني قد غفلت عنها قط. وكنت أقسم كل وقتي — بعد أداء الواجبات اليومية — بين المدرسة وخدمة والدي. وكنت أخرج للتنزه ليلًا فقط إذا سمح لي والدي بذلك أو عندما يشعر بتحسن حالته. كنت وزوجتي في تلك المرحلة في انتظار ميلاد طفلنا الأول، وهو الأمر الذي أراه اليوم خزيًا مضاعفًا؛ فمن ناحية، لم أستطع التحكم في شهوتي، وهو ما كان ينبغي لي فعله إذ لا أزال طالبًا. ومن ناحية أخرى، تغلبت شهوتي على واجبي تجاه دراستي، بل أثَّرَت فيما هو أعظم من ذلك؛ بري بوالدي، فقد كان شرافانا مَثَلي الأعلى منذ طفولتي. ففي الوقت الذي كانت فيه يداي مشغولتين بتدليك ساقَيْ والدي كنت أسبح بخيالي نحو غرفة النوم كل ليلة، وحدث هذا في زمن كان الدين والطب والمنطق على حدٍّ سواء يمنعون ممارسة الجنس. كنت أشعر بالبهجة عند الانتهاء من مهامي، فأهرع مباشرة إلى غرفة النوم بعد أن أنحني إجلالًا لوالدي. كانت حالة والدي في تلك الأثناء تتدهور يومًا بعد يوم، وجرَّب المتخصصون في علم الطب الهندي (آيورفيدا) جميع الدهانات الطبية، واستخدم الأطباء اللاصقات الطبية، واستخدم الدجالون المحليون عقاقيرهم السرية، وقد قام جراح إنجليزي بفحص والدي، وأوصى بخضوع أبي لعملية جراحية، بعد أن فشلت جميع الوسائل العلاجية الأخرى، ولكن طبيب العائلة رفض خضوع والدي للعملية في هذه السن المتقدمة. كان ذلك الطبيب متخصصًا ومشهورًا، فرجح رأيه في النهاية على رأي الجراح الإنجليزي. وتخلينا عن فكرة إجراء العملية، واشترينا أنواعًا شتى من الأدوية ولكن دون جدوى. أعتقد أنه إذا كان الطبيب قد وافق على إجراء العملية لكان ذلك سيساعد على شفاء جروح والدي بسهولة، فقد كان الجراح الذي من المفترض أن يجري العملية من الجراحين المشهورين في بومباي. ولكن كان للإله مشيئة أخرى، فعندما يحين الأجل، لا يستطيع أي أحد مهما كان أن يفكر في العلاج الصحيح. عاد والدي من بومباي ومعه جميع الأدوات اللازمة للعملية، ولكن لم يكن لذلك قيمة وقتها. يئس والدي من العيش لمدة أطول، فقد كانت حالته تنتقل من سيئ إلى أسوأ، حتى طُلب منه في نهاية الأمر أن يؤدي جميع احتياجاته الأساسية في السرير. لكنه أبى أن يفعل ذلك، وكان دائمًا يصر على أن ينزل عن سريره مع الإجهاد الذي كان يتعرض له. فقد كانت أحكام النظافة الخارجية في طائفتنا صارمة. هذه النظافة أساسية بلا شك، ولكن الطب الغربي توصل إلى أن جميع احتياجاته الأساسية — بما في ذلك الاستحمام — يمكن أن تؤدى في الفراش، ودون أدنى إزعاج للمريض، ومع الإبقاء على السرير دائمًا نظيفًا. ينبغي لي أن أعتبر هذه النظافة تتوافق تمامًا مع ديانة الإله فيشنو. كنت أندهش من إصرار والدي على مغادرة السرير، ولم أملك إلا الإعجاب بذلك. ثم جاءت الليلة المشئومة، كان عمي في ذلك الوقت في راجكوت. أذكر أنه حضر إلى راجكوت إثر علمه باشتداد المرض على والدي. كان والدي وعمي شديدا التعلق ببعضهما. كان عمي يصر على الجلوس بجوار سرير والدي طوال اليوم، والنوم بجانب سريره بعد أن يطلب منا الذهاب للنوم. لم يكن أحد يتوقع أن تلك هي الليلة الموعودة، لكننا كنا نعلم بالطبع أن حياة والدي في خطر. كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف أو الحادية عشرة مساء، وكنت أدلك والدي، فعرض عليَّ عمي أن يدلكه بدلًا مني، فشعرت بالسعادة وذهبت من فوري إلى غرفة النوم. وكانت زوجتي المسكينة قد عاجلها النعاس، لكن كيف لها أن تنام وأنا موجود؟ فأيقظتها. ولم تمر سوى خمس أو ست دقائق حتى قرع الخادم الباب، فهببت مذعورًا، فحدثني الخادم قائلًا: «استيقظ، إن المرض قد اشتد على والدك.» كنت أعلم بالطبع أن والدي شديد المرض، لذلك حدست وقتها ما وراء هذه الجملة من معان، فقفزت من على سريري، وسألته: «ما الخطب؟ أخبرني!» فأجابني قائلًا: «لقد توفي والدك.» انتهى كل شيء! لم أملك إلا أن أشعر بالندم، لقد تملكني شعور عميق بالخزي والألم، وهرولت إلى حجرة والدي، أدركت حينها أنه لولا شهوتي لما كنت عانيت عذاب البعد عن والدي في لحظاته الأخيرة في الدنيا، فقد كان من المفترض أن أكون بجواره وقتها أدلكه، وأن يموت بين ذراعيَّ، ولكن قُدِّر لعمي أن يحظى بهذا الشرف، لقد كان عمي شديد الوفاء لأخيه الأكبر مما جعله يستحق شرف أن يكون آخر من قام على خدمته. كان والدي قد شعر باقتراب موته. فأشار طالبًا ورقةً وقلمًا، وكتب: «أعدوا الطقوس الأخيرة!» وقد انتزع تعويذته من ذراعه، وكذلك قلادته الذهبية المصنوعة من خرز الريحان، وألقاهما جانبًا. ثم ما لبث أن فارق الحياة بعد ذلك بلحظات. كان الخزي الذي أشرت إليه في فصل سابق، هو الخزي من شهوتي التي سيطرت عليَّ حتى في الوقت العصيب الذي توفي فيه والدي الذي كان يحتاج لخدمةٍ يقظة. هذه الواقعة وصمة عار لم أستطع أن أمحوها أو أنساها قط. كنت دائمًا ما أقول لنفسي إنه مع أن بري بوالديَّ لم يعرف أي حدود ومع أنني كنت على استعداد للتضحية بأي شيء من أجلهما، فقد كان هناك ما فاق ذلك البِرِّ الذي لم أجد مبررًا لانهياره؛ وذلك لأن الشهوة كانت مسيطرةً على عقلي في ذلك الوقت؛ ولذلك السبب طالما اعتبرت نفسي زوجًا شهوانيًّا، ولكن مخلصًا. لقد استغرقتُ مدةً طويلةً حتى أتخلص من قيود الشهوة، وقد مررت بالعديد من المحن قبل أن أتغلب عليها. لعلي أذكر قبل أن أختم هذا الفصل أن المولود المسكين الذي أنجبته زوجتي عانى صعوبة في التنفس لما يزيد على ثلاثة أو أربعة أيام، وماذا كنت أتوقع غير ذلك؟ فليعتبر كل زوجين مما حدث لي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.10/
لمحات دينية
درست في سنوات المدرسة، من سن السادسة أو السابعة إلى سن السادسة عشرة، جميع أنواع العلوم ما عدا الدين، ويمكن القول بأنني فشلت في تعلم ما كان يمكن لمدرسيَّ أن يعلموني إياه دون أدنى جهد منهم، لكنني مع ذلك واظبت على التعلم من المصادر الموجودة في البيئة المحيطة بي، وعندما أتحدث عن الدين، فأنا أعني مصطلح «الدين» بمفهومه الواسع، أي إدراك الذات أو معرفتها. كنت كثيرًا ما أذهب إلى معبد هافيلي، نظرًا لأنني ترعرعت في ظل ديانة الإله فيشنو، لكنه لم يرق لي قط، فلم يعجبني تألقه وأبهته، وسمعت أن هناك من يمارسون الرذيلة بداخله، فامتنعت عن الذهاب إليه تمامًا. وهكذا، لم يُفدني الهافيلي بأي شيء. تدبر أحد أبناء عمومتي — وكان من المتحمسين لملحمة «رامايانا» — أمر تعليمي أنا وأخي الثاني «الراما راكشا». لقد حفظناها عن ظهر قلب، وجعلنا من عادتنا أن نرددها في صباح كل يوم بعد الاستحمام. وقد حافظنا على هذه العادة طوال مدة إقامتنا في بورباندار، لكننا غفلنا عنها فور انتقالنا إلى راجكوت، فلم أكن مؤمنًا بها بدرجة كبيرة، لكنني كنت أرددها لشعوري بالفخر لكوني أردد الراما راكشا بنطق سليم. كان الأمر الذي أثر فيَّ بشدة هو قراءتي للرامايانا أمام والدي. قضى والدي فترة من فترات مرضه في بورباندار، حيث اعتاد أن يستمع إلى الرامايانا كل مساء. كان القارئ من أتباع راما المخلصين، وهو لادها مهراج من بيلشفار. وقيل إنه شفى نفسه من الجذام بدون أي عقاقير، وإنما بتقديم أوراق نبات السفرجل إلى تمثال الإله الأعظم في معبد بيلشفار وأخذ ما تناثر منها ثم وضعه على الأماكن المصابة، مع الاستمرار في ترديد اسم الإله راما. وقيل إن إيمانه جعله كاملًا. وهذا الكلام قد يكون صادقًا أو كاذبًا، لكننا آمنا بالقصة على أي حال، وما أجزم به هو أنه عندما شرع لادها مهراج في القراءة، كان جسده خاليًا تمامًا من الجذام، وكان يتمتع بصوت عذب، فينشد المقاطع الشعرية المكونة من بيتين وأربعة أبيات، ويشرحها مستغرقًا في القراءة ويجعل المستمعين إليه يستغرقون معه. كان عمري في ذلك الحين يناهز الثالثة عشرة، لكني أذكر سعادتي عند استماعي لقراءته. لقد غرس ذلك الحدث بذور إخلاصي للرامايانا، في الوقت الحاضر، إنني أعتبر الرامايانا التي كتبها تولاسيداس أعظم كتاب في تاريخ الأدب التعبدي. تعلمت في راجكوت المعلومات الأساسية عن التسامح بين جميع الطوائف الهندوسية والأديان الأخرى، فقد كان والداي يزوران الهافيلي ومعبد الإله شيفا ومعبد الإله راما، وكانا يصحباننا ونحن صغار إلى تلك المعابد أو يرسلاننا إلى زيارتها. وكان كهنة الديانة الجاينية يزورون والدي كثيرًا، بل كانوا يخرجون على أعرافهم بأن يتقبلوا منا الطعام، مع أننا لسنا من أتباع الديانة الجاينية. وكانوا يتجاذبون أطراف الحديث مع والدي حول مختلف الموضوعات الدينية والدنيوية. كانت الديانة المسيحية الاستثناء الوحيد من تسامحي هذا، حيث نما لدي نوع من الكره المبرر تجاهها، اعتاد المبشرون بالمسيحية أن يقفوا في جانب على مقربة من المدرسة ويخوضوا في الحديث مسيئين إلى الهندوس وآلهتهم، لم أستطع تحمل تلك الأفعال، لقد استمعت إليهم مرة واحدة فقط، ولكنها كانت كافية لتثنيني عن تكرار التجربة. وسمعت في ذلك الوقت عن اعتناق شخص هندوسي مشهور الديانة المسيحية. وقد كان حديث المدينة حول اضطراره لأكل لحم البقر وشرب الخمر عند تعميده، واضطراره أيضًا إلى تغيير ثيابه، فأخذ يرتدي زيًّا أوروبيًّا وقبعة، وقد شعرت بالغيظ عند سماعي كل هذه الأشياء. إن أي دين يلزم المرء بأكل لحم البقر وشرب الخمر وتغيير زيه، في رأيي، لا يستحق بلا شك أن يُطلق عليه دين. وعلمت أن ذلك الشخص الذي اعتنق المسيحية حديثًا قد بدأ في الإساءة إلى دين أسلافه والعادات التي ساروا عليها والبلد الذي عاشوا فيه؛ خلقت لديَّ كل تلك الوقائع شعورًا بالكره تجاه الديانة المسيحية. كنت أُكنُّ احترامًا شديدًا لفكر أحد أبناء عمومتي، وهو لا يزال حيًّا حتى وقتنا هذا؛ فعرضت عليه شكوكي، ولكنه لم يتمكن من تخليصي منها، فصرفني قائلًا: «عندما تكبر، ستتمكن من التخلص من تلك الشكوك بنفسك، لا يجب أن تطرح مثل هذه الأمور في تلك السن.» سكت عن الرد على قوله، ولكنني لم أشعر بالراحة. ثم بدا لي أن الفصول التي تتحدث عن الحمية الغذائية والمواضيع المماثلة المذكورة في الكتاب تتعارض مع ممارساتنا اليومية. ولم تختلف الإجابة عن شكوكي حول ذلك الأمر عن الإجابة عن شكوكي السابقة، فقلت لنفسي: «كلما نما عقلي، وكلما قرأت أكثر، سأستطيع أن أدرك الأمور بصورة أفضل.» لم يعلمني المانوسمريتي بأي حال الأهيمسا، وقد بدا أن المانوسمريتي يؤيد القصة التي ذكرتها عن أكل اللحم. كنت أؤمن أن قتل الأفاعي والحشرات فعل أخلاقي، وأتذكر قتلي للبعوض وغيره من الحشرات في تلك السن معتقدًا أن قتلها واجبٌ عليَّ. لكن الكتاب غرس فيَّ أمرًا واحدًا هو الإيمان بأن الأخلاق هي أساس كل شيء، وأن الحقيقة هي جوهر جميع الأخلاق. فأصبحت الحقيقة غايتي الوحيدة، التي أخذت تنمو يومًا بعد يوم، واتسع مفهومي عن الحقيقة. وقد استحوذ على لبي وقلبي مقطع شعري وعظي باللغة الجوجراتية، وأصبحت تعاليمه، المتمثلة في مقابلة الإساءة بالإحسان، نهجًا أسيرُ عليه. فكنت شغوفًا بهذه التعاليم حتى إنني بدأت في تجربتها مرات كثيرة. والآن سأدع القارئ مع هذه السطور الرائعة (في رأيي):
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.11/
استعدادات الرحيل إلى إنجلترا
اجتزت امتحان القبول بالجامعة في ١٨٨٧م، وكان يُعقد في مركزَيْ أحمد آباد وبومباي، ونظرًا للفقر العام الذي كان يسود البلاد، كان يفضل طلاب كاثياوار الذهاب إلى المركز الأقرب والأرخص، وقد اضطرني فقر عائلتي أنا أيضًا إلى اللجوء لنفس الاختيار. كانت هذه أول رحلة أقوم بها من راجكوت إلى أحمد آباد، وكنت بلا رفيق. أراد الكبار أن أستكمل دراستي بالجامعة بعد نجاحي في امتحان القبول، حيث كانت هناك كلية في بهافناجار وأخرى في بومباي. ونظرًا لرخص مصروفات أولاهما، قررت الذهاب إليها والالتحاق بكلية سامالداس. ذهبت إلى بهافناجار، لكنني وجدت نفسي تائهًا تمامًا. وواجهتني الصعاب في كل مكان، لم أستطع متابعة محاضرات الأساتذة، ناهيك عن استمتاعي بها. لم يكن ذلك نتيجة لخطأ من جانبهم؛ فهم من أفضل الأساتذة. لكن المشكلة كانت تتمثل في عدم نضوجي بصورة كافية. وعدت إلى المنزل فور نهاية الفصل الدراسي الأول. تصادفت زيارة مافجي دافي لبيتنا مع قضائي للعطلة الدراسية، وكان مافجي برهميًّا حكيمًا وعالمًا، وكان صديقًا للعائلة وناصحًا لها. وقد استمرت علاقته بعائلتنا حتى بعد وفاة والدي. وفي خضم الحديث سأل مافجي والدتي وأخي الأكبر عن دراستي. وعندما أخبره أخي بأنني أدرس في كلية سامالداس علق قائلًا: «لقد تغير الزمان، ويجب أن تتلقوا التعليم المناسب إذا كان منكم من يأمل في خلافة أبيكم. وبما أن هذا الفتى لا يزال يدرس فيجب أن تتطلعوا جميعًا إليه للحفاظ على منصب أبيكم. سوف يحتاج إلى أربع أو خمس سنوات لكي يحصل على الشهادة الجامعية، التي ستؤهله للالتحاق بوظيفة براتب يصل إلى ستين روبية على أفضل تقدير، وليس الالتحاق بوظيفة ديوان. بالإضافة إلى ذلك، لو فعل مثل ولدي والتحق بكلية الحقوق، فإن ذلك سوف يستغرق منه عددًا أكبر من السنوات، وسيجد وقتها حشدًا من المحامين الذين يتطلعون لشغل وظيفة ديوان. ولذا أرى أن ترسلوه إلى إنجلترا، فابني كيفالرام يقول: إنه من السهل في إنجلترا أن يصبح المرء محاميًا. وسوف يعود بعد مرور ثلاث سنوات، ولن تتجاوز المصروفات أربعة أو خمسة آلاف روبية. أرأيتم الترف الذي يعيش فيه ذلك المحامي الذي عاد لتوه من إنجلترا؟ وكان يمكنه الحصول على وظيفة ديوان لو أراد ذلك. أقترح عليكم إرسال «مهنداس» إلى إنجلترا هذا العام. لدى كيفالرام العديد من الأصدقاء هناك، وسوف يقدم «مهنداس» إليهم، ولن تواجهه أية عقبات.» التفت إليَّ جوشي جي، وهو الاسم الذي اعتدنا أن ننادي به مافجي دافي، بحزم تام وسألني: «ألا تفضل الذهاب إلى إنجلترا على الدراسة هنا؟» رحبت بالاقتراح جدًّا، فقد كنت أود تجنب المواد الدراسية الصعبة؛ فقفزت فور أن لفظ بالاقتراح وأخبرته أنه كلما كان ذهابي إلى إنجلترا أسرع، كان ذلك أفضل. لم يكن من السهل اجتياز الامتحانات بسرعة. فتساءلت: «ألا يمكنني التقدم للالتحاق بكلية الطب؟» قاطعني أخي قائلًا: «إن والدي لم يَمِلْ إلى كلية الطب قط، وكان يَعنيك عندما قال إن أتباع فيشنو لا ينبغي أن يكون لهم شأن بتشريح جثث الأموات. فقد كان والدي يريدك أن تصبح محاميًا.» تدخل جوشي جي قائلًا: «أنا لا أعارض الطب كما كان يفعل والدك، فلا تتعارض تعاليم ديننا مع الطب، لكني أرى أن الطب لن يهيئك لوظيفة ديوان وهو المنصب الذي أريد أن تشغله، بل أن تشغل منصبًا أفضل إن أمكن، وبهذه الطريقة وحدها يمكنك أن تحمي عائلتك الكبيرة. إن الأحوال تتغير بسرعة مع مرور الأيام، والظروف تصبح أكثر قسوةً يومًا بعد يوم.» ثم توجه بالحديث إلى والدتي قائلًا: «يجب أن أنصرف الآن. فكري فيما أخبرتك به. أتوقع أن أسمع منكم في المرة القادمة عن استعدادات الرحيل إلى إنجلترا. لا تترددي في التحدث إليَّ إذا ما احتجت إلى أي مساعدة.» ثم رحل جوشي جي، وبدأتُ أسبح في بحور الخيال. وانشغل أخي الأكبر في التفكير، فكيف سيدبر المال اللازم لدراستي؟ وهل من الحصافة منح الثقة إلى شاب مثلي وتركه يذهب إلى الخارج بمفرده؟ كانت والدتي مضطربة الفكر، فلم تحبذ فكرة مفارقتي لها. وهكذا، حاولت والدتي أن تؤخر سفري قائلة: «إن عمك هو الآن كبير العائلة، ويجب علينا استشارته أولًا. وسندرس الأمر إذا ما وافق.» كان لدى أخي فكرة أخرى. فقال لي: «يمكن أن نلجأ إلى ولاية بورباندار. إن السيد ليلي هو المدير، ويحترم عائلتنا ويقدر عمي، ويمكنه أن يوصي بمساعدة الولاية في تعليمك في إنجلترا.» أعجبتني فكرة أخي، واستعددت للرحيل إلى بورباندار. لم تكن هناك آنذاك سكك حديدية، فكانت الرحلة تستغرق خمسة أيام باستخدام عربة يجرها الثور. ولقد ذكرت سابقًا أنني كنت أتسم بالجبن، ولكن ذلك الجبن قد زال أمام رغبتي العارمة في الذهاب إلى إنجلترا. استأجرت عربة إلى دوراجي، ومن هناك امتطيت ناقة إلى بورباندار كي أوفر يومًا من السفر. وكانت هذه هي المرة الأولى التي أمتطي فيها ناقة. وصلت أخيرًا إلى بورباندار، فحييت عمي ثم أخبرته بالأمر. ففكر مليًّا ثم قال لي: «لا أعلم ما إذا كان من الممكن أن يمكث المرء في إنجلترا دون الإخلال بتعاليم دينه؛ فالأمور التي سمعتها، خلفت لديَّ الشكوك. فعندما أقابل كبار المحامين هؤلاء، لا أجد أي فرق بين حياتهم وحياة الأوروبيين، فهم لا يتقيدون بقيد فيما يأكلونه، ولا تفارق السجائر أفواههم. وهم يلبسون مثلما يلبس الإنجليز دون خجل. وكل ذلك لن يتماشى مع تقاليد العائلة. سوف أذهب قريبًا في رحلة حج وليس في العمر الكثير لأحياه، فكيف أعطيك إذنًا بالذهاب إلى إنجلترا وبأن تعبر البحار وأنا على أعتاب الموت؟ على كل حال، لن أعترض طريقك، إن رأي والدتك هو الفيصل في هذا الأمر، فإذا وافقتْ على سفرك فلترحل، مع تمنياتي لك بالتوفيق. أخبرها أنني لن أعارض سفرك، وأنني سأباركه.» فأجبته قائلًا: «لم أكن آمل في أكثر من ذلك يا عمي. سأحاول الآن إقناع والدتي، ولكن ألن تزكيني لدى السيد ليلي؟» أجابني عمي: «وكيف لي أن أفعل ذلك؟ عل كل حال، السيد ليلي رجل صالح. فاذهب واطلب مقابلته، وأنا على يقين أنه سيلبي طلبك، ويمكن أن يساعدك.» لا أعلم لماذا لم يزكني عمي لدى السيد ليلي، لكني أعتقد أن الأمر كان يتعلق بعدم رغبته بمعاونتي على السفر إلى إنجلترا بصورة مباشرة، لأن ذلك كان في نظره عملًا مخالفًا للدين. بعثتُ برسالة إلى السيد ليلي، الذي طلب مني موافاته في منزله. ولما رآني السيد ليلي وهو ينزل درجات السلم، قال بطريقة حادة: «احصل على شهادتك الجامعية أولًا، ثم احضر لمقابلتي. لا يمكنني مساعدتك الآن.» ثم صعد السلم مسرعًا. لقد بذلتُ جهدًا مضنيًا استعدادًا لتلك المقابلة، وتعلمت بعض الجمل بدقة، وانحنيت له بشدة، وقدمت له التحية بكلتا يدي، ولكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح! لقد فكرت في بيع جواهر زوجتي، وفي اللجوء إلى أخي الأكبر الذي أثق به تمامًا؛ فقد كان أخي كريمًا بصورة مفرطة وكان يحبني كابن له. عدت إلى راجكوت، وأخبرتهم بكل ما حدث في بورباندار، واستشرت جوشي جي، الذي أشار عليَّ باقتراض المال إذا لزم الأمر، فاقترحت بيع جواهر زوجتي، التي قد توفر ألفين أو ثلاثة آلاف روبية، ووعد أخي بإحضار المال بطريقة ما. ومع كل هذا، كانت والدتي لا تزال رافضة لسفري، وقامت بالاستعلام عن الأمر بدقة. هناك من أخبروها بأن الشباب يضلون السبيل في إنجلترا، وآخرون أخبروها أن الشباب يأكلون اللحم، وغيرهم قالوا بأن الشباب في إنجلترا لا يستطيعون العيش دون الخمر. فسألتني: «ما قولك في ذلك كله؟» فأجبتها: «ألا تثقين بي؟ لن أكذب عليك. أقسم لك أنني لن أقرب تلك الأشياء أبدًا. وهل تعتقدين أن جوشي جي كان سيتركني أرحل لو علم أن هذا الخطر يمكن أن يلحق بي؟» ردت والدتي بقولها: «أنا أثق بك وأنت بالقرب مني، لكن كيف أثق بك وأنت بعيد عني؟ أنا في حيرة من أمري ولا أعلم ما العمل. سأسأل بيشارجي سوامي.» كان بيشارجي سوامي في الأصل من طبقة التجار الذين ينتمون إلى مدينة الموديرا، وأصبح الآن كاهنًا في الديانة الجاينية، وقد كان هو أيضًا ناصحًا للعائلة، مثل جوشي جي. وساعدني بيشارجي، وقال لوالدتي: «سآخذ هذا الشاب وأجعله يأخذ العهود الثلاثة، ثم يمكنه الرحيل بعد ذلك.» أدار جوشي جي مراسم أخذ العهود، وتعهدت بعدم شرب الخمر أو أكل اللحم أو إقامة علاقة مع النساء. وأخيرًا، سمحت لي والدتي بالرحيل بعد انتهاء هذه المراسم. أقامت المدرسة الثانوية حفل وداعٍ كنت ضيف الشرف فيه. لم يكن من الشائع أن يذهب شاب من راجكوت إلى إنجلترا. وقد كتبت بعض الكلمات التي تعبر عن شكري، لكنني كنت أتلعثم بشدة وأنا ألقيها. وما زلت أتذكر كيف شعرت بدوار في رأسي وكيف كان ينتفض جسدي كله عندما هممتُ بإلقاء تلك الكلمات. ورحلت إلى بومباي بعد مباركة الأهل لي، وكانت هذه هي رحلتي الأولى من راجكوت إلى بومباي، وقد رافقني فيها أخي. لكن كان لا يزال هناك العديد من الأحداث القاسية في انتظاري، فقد واجهتنا بعض الصعوبات في بومباي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.12/
الخروج على الطائفة
بعد حصولي على مباركة والدتي وموافقتها، رحلت إلى بومباي تاركًا زوجتي مع طفلي الرضيع الذي لم يتجاوز عمره بضعة أشهر، وعند وصولنا إلى بومباي، أخبرنا بعض الأصدقاء أن المحيط الهندي يكون مضطربًا في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز، ونظرًا لكون هذه أول رحلة بحرية أقوم بها، فلن يُسمح لي بالإبحار قبل شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وقد حكى لنا أحد الأشخاص أن باخرة قد غرقت مؤخرًا إثر تعرضها لعاصفة، وكان هذا سببًا في قلق أخي، فرفض المخاطرة ومنعني من الإبحار على الفور. ثم عاد هو إلى راجكوت ليؤدي بعض الأعمال بعد أن تركني مع صديق في بومباي، وترك المصروفات اللازمة لسفري في عهدة صهري، وطلب من أصدقائه أن يقدموا لي كل المساعدة التي قد أحتاجها. ومر وقت إقامتي في بومباي ثقيلًا، وأخذت أحلم باستمرار بذهابي إلى إنجلترا. في تلك الأثناء، ثارت طائفتي بسبب سفري للخارج. فلم يسافر أي من أبناء طبقة التجار الذين ينتمون إلى مدينة الموديرا إلى الخارج من قبل، ولو أردت أن أذهب إلى إنجلترا، فيجب عليَّ أن أخضع للمساءلة! عقدت الطائفة اجتماعًا عامًّا، واسْتُدْعيت للمثول أمامها، ولا أعلم من أين واتتني الشجاعة للذهاب، فمثلت أمام الطائفة دون أن أشعر برهبة ودون أدنى تردد. كانت تربطني بزعيم الطائفة صلة قرابة بعيدة، وكان على علاقة طيبة بوالدي. فبادرني بالكلام قائلًا: «ترى الطائفة أن فكرة ذهابك إلى إنجلترا غير مقبولة، فديننا يحرم السفر إلى الخارج، فقد علمنا أنه من المستحيل الحفاظ على أحكام ديننا هناك، فالشخص يضطر لتناول الطعام والشراب مع الأوروبيين.» أجبته قائلًا: «لا أعتقد أن الذهاب إلى إنجلترا يتعارض مع أحكام ديننا. فأنا أنوي الذهاب إلى هناك كي أستكمل دراستي، بالإضافة إلى ذلك، قد عاهدت والدتي ثلاثة عهود مقدسة تقضي بأن أبتعد عن أكثر ثلاثة أشياء تخافون عليَّ منها. وإني لعلى يقين من أن العهود التي أخذتها على نفسي سوف تحفظني.» فاستدرك حديثه قائلًا: «لكني أخبرك أن من يذهب إلى إنجلترا لا يستطيع الحفاظ على دينه، وأنت تعلم مدى علاقتي بوالدك، ويجب أن تستمع لنصيحتي.» فأجبته: «نعم، أعلم مدى علاقتك بوالدي، وأنك لي بمنزلة أحد أفراد العائلة، لكن هذا الأمر خارج عن إرادتي، ولا أستطيع أن أعدل عن رأيي وأتخلى عن فكرة الذهاب إلى إنجلترا. علاوة على ذلك، لا يرى صديق والدي — وهو العالم البرهمي الذي طالما وثق والدي في رجاحة رأيه — ما يمنع ذهابي إلى إنجلترا. وكذلك وافقت والدتي وأخي على ذهابي.» قال لي: «لكنك بذلك ستخالف أوامر الطائفة!» فأجبته: «لا حيلة لي حقًّا. وأعتقد أنه على الطائفة ألا تتدخل في هذا الشأن.» أثار جوابي سخط زعيم الطائفة، فانهال عليَّ بالسباب، مما جعلني أجلس بلا حراك. ثم نطق بالحكم: «اعتبارًا من اليوم، يعامل هذا الفتى كخارج عن الطائفة. ويعاقب كل من يساعده أو يذهب لوداعه في الميناء بغرامة قدرها روبية وأربع آنات.» لم أتأثر بحكم زعيم الطائفة، واستأذنته بالانصراف. لكنني كنت قلقًا حيال ردة فعل أخي عند سماعه للحكم. ولحسن الحظ، ظل أخي ثابتًا على موقفه وكتب لي مؤكدًا موافقته على رحيلي بغض النظر عن أوامر زعيم الطائفة. عقب هذه الواقعة، أصبحت أكثر تلهفًا للسفر، فماذا سيحدث لو استطاعوا الضغط على أخي؟ وماذا لو حدث أمر غير متوقع؟ وبينما كنت أفكر في هذا المأزق، سمعت أن محاميًا من ولاية جوناجاده مسافر إلى إنجلترا على ظهر سفينة تبحر في الرابع من سبتمبر/أيلول، حيث أصبح محاميًا معتمدًا للترافع أمام المحاكم العليا، فالتقيت بأصدقاء أخي الذين سبق أن طلب منهم الاعتناء بي، وقد طلبوا مني ألا أضيع فرصة السفر مع مثل هذه الرفقة، ولم يكن هناك وقت لأضيعه، فأرسلت إلى أخي تلغرافًا أطلب فيه الإذن بالسفر، وبعد أن أذن لي بالرحيل طلبت من صهري المال، لكنه رفض متعللًا بحكم زعيم الطائفة خوفًا من أن يخرج عن الطائفة. وحينها لم أجد بدًّا من أن أطلب من أحد أصدقاء العائلة أن يقرضني المال اللازم للسفر، على أن يسترد نقوده من أخي لاحقًا، ولم يكن ذلك الصديق من الكرم بأن يوافق على إقراضي المال فحسب، بل حاول التسرية عني أيضًا، وقد جعلني هذا أعبر له عن جزيل شكري على كل ما فعله من أجلي. فاشتريت على الفور تذكرة السفر بجزء من المال الذي اقترضته، ثم بدأت أجهز نفسي للسفر. كنت أعرف صديقًا مرَّ بهذه التجربة من قبل، وكانت لديه الملابس وغيرها من الأشياء اللازمة للسفر. ولم تَرُقْ لي جميع الملابس التي كانت في حوزته، فقد كنت أكره ارتداء رابطة العنق التي أحببتُ ارتداءها فيما بعد، وكنتُ أرى ارتداء السترة القصيرة غير لائق، لكن رغبتي الأسمى في السفر إلى إنجلترا تغلبت على كل ذلك. وحصلت على مؤنٍ تكفيني طوال الرحلة. وحجزت مكانًا بجانب أصدقائي في قمرة مماثلة لتلك التي يجلس بها السيد تريمبك راي مازمودار، المحامي من ولاية جوناجاده، وقد قدمني أصدقائي إليه. كان ذلك المحامي رجلًا ناضجًا وذا خبرة، وفي الوقت الذي كانت لديه فيه معلومات عن جميع دول العالم، كنت أنا ما زلت شابًّا مراهقًا في الثامنة عشرة من عمري دون أي خبرة بالعالم الخارجي. وطمأن السيد تريمبك راي مازمودار أصدقائي. وأخيرًا، أبحرتُ بعيدًا عن بومباي في الرابع من سبتمبر/أيلول.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.13/
وأخيرًا في لندن
لم أشعر بدوار البحر نهائيًّا طوال الرحلة، لكن مع مرور الأيام أصبحت عصبيًّا. وشعرت بالخجل حتى من التحدث إلى الخادم، فلم أكن معتادًا على التحدث بالإنجليزية، وكان جميع الركاب في الدرجة الثانية، ما عدا السيد مازمودار، من الإنجليز، ولم أكن أستطيع التحدث معهم، لأني نادرًا ما كنت أفهم كلامهم، وحتى عندما كنت أفهم ما يحاولون إخباري به، كنت لا أستطيع الرد عليهم. وكنت أكوِّن كل جملةٍ في ذهني قبل أن أنطق بها. ولم أكن أعرف كيفية استخدام الشوكة والسكين، وكنت أجبن من أن أسأل أي الأنواعِ الواردةِ في قائمة الطعام خالية من اللحم، ولهذا السبب لم أتناول الطعام قط على مائدة الطعام، بل كنت أتناوله في قمرتي. وكان طعامي يتكون بصورةٍ أساسيةٍ من الحلوى والفواكه التي أحضرتها معي من الهند. أما السيد مازمودار فلم يواجه أي صعوبة في الانخراط والتعامل مع الجميع. كان يتحرك بحرية على ظهر السفينة، وأختبئ في قمرتي طوال اليوم، ولا أخرج إلى ظهر السفينة إلا في وجود عدد قليل من الركاب. وظل السيد مازمودار يحفزني على التفاعل مع الركاب الإنجليز والتحدث إليهم بطلاقة، وأخبرني بأنه يجب أن يتمتع المحامون بلسان فصيح، وقص عليَّ خبراته القانونية. ونصحني باستغلال كلِّ فرصةٍ يمكنني التحدث فيها بالإنجليزية دون الاكتراث بارتكابي الأخطاء التي لا يمكن تجنبها عند التحدث بلغة أجنبية. ولكن كل ذلك الحديث لم يستطع تخليصي من خجلي. استطاع راكب إنجليزي، كان يكبرني سنًّا، اجتذابي إلى محادثة معه بطريقته اللطيفة في الحديث، فسألني عن نفسي والطعام الذي كنت أتناوله ووجهتي وسبب خجلي وغير ذلك من الأسئلة. ونصحني بتناول الطعام معهم على الطاولة، وسخر من إصراري على عدم تناول اللحم. وقال لي بلطف ونحن في البحر الأحمر: «حتى الآن لا ضرر من التزامك بالامتناع عن اللحم، لكن عليك أن تعيد النظر في قرارك هذا عند وصولنا إلى خليج بسكاي؛ فالطقس شديد البرودة في إنجلترا لدرجة أن المرء لا يمكنه العيش دون تناول اللحم.» فقلت له: «ولكنني سمعت أن الناس في إنجلترا يمكنهم العيش دون أكل اللحم.» فأجابني: «تأكد من أن ذلك ما هو إلا أكذوبة، فلم أسمع قط أن أحدًا قد عاش في إنجلترا دون أن يأكل اللحم. ألا تلاحظ أنني لا أطلب منك شرب الخمر مع أنني أشربه؟ إنما أطلب منك أكل اللحم لأنك لن تستطيع العيش دون تناوله.» فرددت قائلًا: «أشكرك على هذه النصيحة الصادقة، لكنني أخذت على نفسي عهدًا مقدسًا أمام والدتي ألا أقرب اللحم، ولذلك لا أستطيع حتى التفكير في تناوله. وإذا وجدت استحالة العيش في إنجلترا دون تناول اللحم، فسأفضل وقتها العودة إلى الهند على تناول اللحم.» وصلنا خليج بسكاي، لكنني لم أشعر بالحاجة إلى تناول اللحم أو شرب الخمر، وكان قد نصحني البعض بجمع شهادات تثبت امتناعي عن أكل اللحم. فطلبت من صديقي الإنجليزي أن يمنحني شهادة بذلك، وقد منحني إياها بكل سرور، حافظت على هذه الشهادة لبعض الوقت لاعتقادي بأنها ذات قيمة، لكنها فقدت قيمتها عندما اكتشفت لاحقًا أن المرء يمكنه الحصول على مثل هذه الشهادة حتى ولو كان يأكل اللحم. فما فائدة تلك الشهادات إذا لم يثق الآخرون في صدق كلامي؟ كان لديَّ أربعة خطابات توصية: إلى الطبيب بي. جي. ميهتا، وإلى المحامي دالبترام شوكلا، وإلى الأمير رانجيت سينج، وإلى دادبهاي ناوروجي. ونصحنا أحد الركاب على متن السفينة بالإقامة في فندق فيكتوريا بلندن، وعليه توجهت أنا والسيد مازمودار إلى الفندق. لم أكن أحتمل الخجل الذي شعرت به بسبب كوني الشخص الوحيد الذي يرتدي ملابس بيضاء، وشعرت بالغضب عندما أخبروني، عند وصولي إلى الفندق، بأنني لن أستطيع الحصول على أمتعتي من شركة جريندلاي قبل اليوم التالي؛ لأن اليوم كان الأحد. زارني الدكتور ميهتا، الذي كنت قد أرسلت إليه تلغرافًا من ساوث هامبتون، في الساعة الثامنة مساءً من نفس اليوم. ورحب بي بحفاوة، ثم ابتسم عند ملاحظة ملابسي. وكنت ألتقط قبعته من حين إلى آخر أثناء حديثنا، وأمرر يدي عليها لأرى مدى نعومتها، لكن ذلك كان يبعثر نسيجها، فنظر إليَّ بغضب ومنعني من الاستمرار في العبث بقبعته، لكن بعد فوات الأوان. وكانت هذه الواقعة بمنزلة تحذير كي أحترس من أفعالي في المستقبل. وكان ذلك هو الدرس الأول في آداب اللياقة الأوروبية، التي لقنني الدكتور ميهتا مبادئها بالتفصيل وبطريقة لطيفة. فكان يقول: «لا تلمس الأشياء الخاصة بالآخرين! لا توجه الأسئلة في أثناء التعارف الأول كما نفعل عادة في الهند! لا تتحدث بصوتٍ عالٍ! لا تخاطب الناس مستخدمًا كلمة «سيدي» كما نفعل في الهند! فالخدم والمرءوسون فقط يخاطبون أسيادهم بهذه الكلمة.» إلى غير ذلك من النصائح. وأخبرني بأن العيش في الفندق مكلف للغاية، ونصحني بالعيش مع إحدى الأسر. وقد أرجأنا الحديث في هذه المسألة حتى يوم الإثنين. وجدنا أنا والسيد مازمودار أن الإقامة في الفندق مرهقة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعاره. وعلى كل حال، كان السيد مازمودار قد تعرف إلى راكب سندي من مالطا في السفينة. فعرض علينا أن يبحث لنا عن مسكن لنقيم به؛ نظرًا لدرايته بمدينة لندن. وقمنا بسداد فواتير الفندق فور حصولنا على أمتعتنا يوم الإثنين، وانتقلنا إلى المسكن الذي أجَّره لنا الصديق السندي. وأذكر أن فاتورتي بلغت ثلاثة جنيهات إسترلينية، وقد صدمت عندما علمت بالمبلغ؛ فقد كانت الفاتورة مرتفعة مع أنني كنت تقريبًا أتضور جوعًا، فلم أكن أشتهي أيًّا من الأطعمة التي يقدمها الفندق، وعندما كنت أجد لونًا من الطعام غير شهي، كنت أطلب غيره، وكنت أدفع مقابل الاثنين في النهاية. والحقيقة هي أنني طوال هذه المدة اعتمدت على المؤن التي أحضرتها معي من بومباي. لم أشعر بالراحة حتى في المسكن الجديد. وكنت أفكر في منزلي والوطن باستمرار. وكان حب والدتي يلازمني دومًا، فعند حلول الليل، كانت دموعي تسيل على وجنتي. وقد أقضت الذكريات المختلفة التي عشتها بالوطن مضجعي. وكان من الصعب عليَّ أن أشرك أي شخص في معاناتي، وما الفائدة من إشراك أي شخص في تلك المعاناة؟ لم أجد ما يخفف عني محنتي. وبدا لي كل شيء غريبًا: الناس، وأساليب معيشتهم، وحتى منازلهم. لقد كنت حديث عهد بآداب اللياقة الإنجليزية، وكان عليَّ دوما أن أتوقع الأسوأ. فضلًا عن ذلك، كان هناك عبء الالتزام بالوعد بعدم أكل اللحوم، ولم تكن الأطعمة التي أتناولها لذيذة أو شهية. وهكذا وجدت نفسي في اختيار صعب. فلم أكن أطيق العيش في إنجلترا، ولكني مع ذلك كان من المستحيل أن أفكر في العودة إلى الهند، ووجدت صوتًا يهتف بداخلي: «لأنني حضرت إلى إنجلترا بالفعل، فيجب عليَّ إكمال السنوات الثلاث.»
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.14/
اختياري
توجه الدكتور ميهتا في يوم الإثنين إلى فندق فيكتوريا متوقعًا أن يجدني هناك. وعندما علم بمغادرتنا، حصل على عنواننا الجديد ووافانا. لقد تسببت حماقتي في إصابتي بمرض الثعلبة ونحن على متن السفينة، فقد كنا نستخدم مياه البحر في الاغتسال والغسيل، ومن المعروف أن الصابون لا يذوب في مياه البحر، ومع ذلك، استخدمت الصابون كعلامة على التحضر، مما ترتب عليه امتلاء جسمي بالبقع وإصابتي بمرض الثعلبة بدلًا من أن يصبح نظيفًا. وقد عرضتُ إصابتي على الدكتور ميهتا، الذي نصحني بوضع حمض الخليك عليها، ولا أزال أذكر كيف صرخت من أثر الحمض المحرق. تفحص الدكتور ميهتا غرفتي والأثاث الموجود بها، وأبدى استياءه، ثم توجه إليَّ قائلًا: «هذا المكان ليس جيدًا. لقد أتينا إلى إنجلترا كي نكتسب الخبرة من أساليب الحياة والعادات الإنجليزية، ولذلك، عليك أن تعيش مع عائلة إنجليزية. ولكن قبل ذلك، أرى أن تقضي مدة كمتمرن لدى … سوف آخذك إلى هناك.» قبلت عرض الدكتور ميهتا بامتنان، وانتقلت إلى مسكن صديقه، الذي شملني بالرعاية والعطف، وعاملني كأحد أبنائه، ولقنني العادات والتقاليد الإنجليزية، وجعلني أيضًا أعتاد التحدث باللغة الإنجليزية. وبمرور الوقت، أصبح طعامي مشكلةً حقيقيةً، فلم أستطع تذوق الخضروات المسلوقة المطهوة دون ملح أو بهارات، واحتارت ربة المنزل في أنواع الأطعمة التي يمكن أن تعدها من أجلي. كنا نتناول في وجبة الإفطار عصيدة الشوفان المجروش، التي كانت تشعرني بالشبع، أما في وجبتي الغداء والعشاء، فكنت دائمًا أتضور جوعًا. وكان صديق الدكتور ميهتا يحاول باستمرار أن يقنعني بأكل اللحم، لكنني كنتُ دائمًا أذكر العهد الذي أخذته على نفسي، ثم أركن إلى الصمت. كان الغداء والعشاء يشملان السبانخ والخبز والمربى، وقد اعتدت الأكل بنهم، وكانت شهوتي إلى الطعام كبيرة، ولكنني مع ذلك كنت أخجل من طلب ما يزيد على شريحتين أو ثلاث شرائح من الخبز، فكنت أعتقد أن مثل ذلك السلوك غير لائق. بالإضافة إلى ذلك، لم يحتو الغداء أو العشاء على الحليب. ذات مرة، شعر ذلك الصديق بالضيق لِمَا رأى من حالتي، وقال لي: «لو كنت أخي، لطردتك شرَّ طردة. ما قيمة عهد أخذته على نفسك أمام والدتك الأمية التي لا تعلم شيئًا عن ظروف المعيشة هنا؟ فحتى من وجهة النظر القانونية، لا يُعتد بمثل هذا العهد، ولن يكون التزامك به إلا تمسكًا بوهم، وأحذرك من أن هذا العناد لن يجعلك تحقق أي نجاح هنا. لقد اعترفتَ لي بأنك أكلت اللحم من قبل. فهل يُعقل أن تأكل اللحم في وقت لم يكن لك حاجة إليه، وتمتنع عن أكله في الوقت الذي يكون فيه ضرورةً أساسية؟ يا للأسف!» مع كل ذلك، صممت على عنادي. ظل الصديق يحاول إقناعي ليلًا ونهارًا، لكنني كنت دومًا أواجهه بالرفض، وكلما زاد جداله لي، زاد عنادي. كنت أدعو الإله كل يوم أن يحفظني، وقد حفظني بالفعل، ولا أدعي أن ذلك كان نتيجة لمعرفتي بالإله، ولكن كان نتيجة الإيمان الفعال، الإيمان الذي غرست بذرته المربية الصالحة رامبها. نظر لي الصديق مندهشًا، ثم أغلق الكتاب الذي كان يقرأ منه وقال: «حسنًا، لن أجادلك في هذا الأمر بعد الآن.» شعرت حينها بالسعادة، وبالفعل لم يناقشني في الأمر منذ ذلك الحين، ولكن ذلك لم يمنعه من القلق بشأني. كان يدخن السجائر ويشرب الخمر، لكنه لم يطلب مني أن أفعل مثله أبدًا، بل على العكس فقد طلب مني أن أبتعد عن كليهما. إنما كان يقلقه أن يهزل جسدي نتيجة لعدم تناولي اللحم، والذي قد يؤدي إلى شعوري بالغربة في إنجلترا. وهكذا أمضيت مدة تمريني التي استمرت لمدة شهر. كان منزل الصديق الذي كنت أمكث لديه يقع في ريتشموند، ومن ثَمَّ لم يكن من الممكن أن أذهب إلى لندن غير مرة أو مرتين في الأسبوع. ونتيجة لذلك، قرر الدكتور ميهتا والمحامي دالبترام شوكلا أن أنتقل للعيش مع أسرة أخرى؛ فأرسلني السيد شوكلا إلى منزل أسرةٍ إنجليزيةٍ هنديةٍ يقع في ويست كينسينجتون، ووعدتني صاحبة المنزل الأرملة بالاعتناء بي عندما أخبرتها بالعهد الذي أخذته على نفسي، وبدأت إقامتي في منزلها، وكان عليَّ أن أعاني ويلات الجوع هنا أيضًا، لقد أرسلت إلى أهلي ليبعثوا لي بالحلويات وغيرها من الأطعمة، لكني لم أتلق شيئًا بعد، وبدت لي جميع الأطعمة بلا طعم، وكانت صاحبة المنزل تسألني كل يوم عن رأيي في الطعام، لكن لم يكن في وسعها فعل شيء لإرضائي، وكنت لا أزال أشعر بالخجل من طلب طعام يزيد عما يقدم لي، وكان لصاحبة المنزل ابنتان، وكانتا تصران على إعطائي شريحة أو شريحتين إضافيتين من الخبز، وفي الحقيقة كنت أحتاج رغيفًا على الأقل كي أشعر بالشبع. أخذت في قراءة كتاب «سالت» من الألف إلى الياء، وتأثرت بما فيه بدرجةٍ كبيرةٍ، ومنذ أن قرأت هذا الكتاب، يمكنني القول بأنني اخترت أن أكون نباتيًّا بكامل إرادتي. وقد مجدت اليوم الذي أخذت على نفسي فيه العهد أمام والدتي. وكنت فيما مضى أمتنع عن أكل اللحم من أجل الحفاظ على العهد الذي أخذته على نفسي، لكنني كنت في الوقت ذاته أتمنى لو تناولت اللحم بحرية وحثثت غيري من الهنود على أن يحذو حذوي، أما الآن فقد اختلف الوضع، فأصبحت أؤيد النباتية وأصبح نشرها مهمتي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.15/
ممارسة دور السيد الإنجليزي
في غضون ذلك، لم يتوقف صديقي عن القلق بشأني، فقد قاده حبه لي إلى الظن بأنني إذا داومتُ على إصراري على الامتناع عن أكل اللحم، فإن ذلك لن يجعل جسدي هزيلًا فحسب، بل سيجعل مني شخصًا أخرقَ لأنني لن أتكيف مع المجتمع الإنجليزي. وعندما علم باهتمامي بالكتب التي تتناول النظام الغذائي النباتي، خشي أن تلوث تلك الكتب أفكاري، ومن ثَمَّ أضيع حياتي في التجارب وأنسى عملي وأصبح مهووسًا؛ لذلك، كان عليه أن يبذل محاولة أخيرة لإصلاحي، فدعاني ذات مرة إلى المسرح، وقبل حضور المسرحية تناولنا عشاءنا معًا في مطعم هولبورن، وكان أول مطعم فخم أدخله منذ أن تركت فندق فيكتوريا مع أن إقامتي في ذلك الفندق لم تعد عليَّ بخبرة مفيدة. لقد خطط صديقي لاصطحابي إلى ذلك المطعم معتقدًا أن خجلي سيمنعني من طرح الأسئلة؛ فقد كنَّا نجلس على طاولة وسط حشد من الأشخاص الذين يتناولون طعامهم، وكان الحساء هو أول ألوان الطعام الذي قُدم لنا، فتساءلت في نفسي عن مصدره، لكنني لم أجرؤ على سؤال صديقي. فاستدعيت النادل، لكن صديقي سألني بوجه عبوس عن سبب استدعائي للنادل، فأجبته بترددٍ واضحٍ إنني أرغب في الاستفسار عما إذا كان هذا الحساء نباتيًّا أم لا. فصرخ فيَّ بشدة قائلًا: «إنك أخرق لدرجة لا تستطيع بها العيش في مجتمع مهذب. إذا لم تكن قادرًا على التصرف بلياقة، فمن الأفضل أن تنصرف، اذهب وتناول طعامك في مطعم آخر، ثم انتظرني بالخارج.» أسعدني ذلك الاقتراح، فخرجت من المطعم. كان هناك مطعم نباتي قريب لكنه كان مغلقًا، فعدت وقتها دون أن أتناول أي طعام. رافقت صديقي إلى المسرح، ولم يتفوه بكلمةٍ تعليقًا على ما بدر مني في المطعم، ولم يكن لديَّ أنا أيضًا ما أقوله. كانت هذه الواقعة هي آخر مشادة بيننا، ولم تؤثر إطلاقًا على علاقتنا، وكنت أعلم أن جميع محاولات صديقي كانت تتم بدافع حبه لي، وكنت أقدر ذلك. وزاد احترامي له مع اختلافنا في الأفكار والسلوكيات. بعد ذلك قررت أن أخفف عن صديقي، وأن أؤكد له أنني لن أكون أخرق بعد الآن، وأنني سأعمل على أن أكون مهذبًا وأعوض كوني نباتيًّا بتحقيق إنجازات أخرى تجعلني قادرًا على العيش في مجتمع مهذب. ومن أجل ذلك، خضت المهمة المستحيلة التي تمثلت في أن أتصرف كسيد إنجليزي. لكن السيد بيل أطلعني على حقيقة الأمر وأيقظني من غفلتي. قلت لنفسي: «لن أقضي عمري كله في إنجلترا، فما فائدة تعلمي فن الخطابة؟ وكيف كان من المفترض أن يساعدني الرقص في أن أكون سيِّدًا؟ أما آلة الكمان، فكان يمكنني تعلم العزف عليها حتى في الهند.» ففي نهاية الأمر، كنت طالبًا ويجب عليَّ أن أتابع دراستي. وكان عليَّ أن أؤهل نفسي لأصبح عضوًا في إحدى جمعيات القانون المعتمدة بإنجلترا. وإذا كانت شخصيتي تؤهلني لأن أكون سيِّدًا، فسيكون ذلك عظيمًا، وإلا فينبغي أن أتخلى عن ذلك الطموح. تملكتني هذه الأفكار وغيرها من الأفكار المماثلة؛ فبعثت إلى معلم فن الخطابة برسالة أعبر له فيها عن هذه الأفكار، وأطلب منه أن يعفيني من تلقي أي دروسٍ أخرى. وكان مجمل الدروس التي حضرتها معه درسين أو ثلاثة. وكتبت رسالة مماثلة إلى مدرس الرقص. ثم ذهبت إلى مدرِّسة الكمان شخصيًّا وطلبت منها بيع الكمان الخاص بي بأي ثمن. لقد كانت تعاملني بلطف، مما جعلني أخبرها بكيفية اكتشافي أنني كنت أسعى خلف وَهْمٍ زائف، وقد شجعتني على متابعة ما صممت عليه من تغيير حياتي تغييرًا كليًّا. أعتقد أن هذا الهوس لازمني لما يقرب من ثلاثة أشهر. واستمر حرصي في المحافظة على هندامي لسنوات. لكن منذ ذلك الحين أصبحت طالبًا لا غير.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.16/
تحولات في حياتي
لا يجب أن يظن أحد أن تجاربي في الرقص وغيرها من الأشياء كانت مرحلة انغماس في الملذات؛ فحتى في تلك المرحلة سيلاحظ القارئ أنني كنت مالكًا لكل قوى نفسي. فلم تكن فترة هوسي بهذه التجارب مملة؛ نظرًا لأني في تلك الفترة كنت أتأمل أفكاري ومشاعري الفينة بعد الفينة. لقد كنت أسجل جميع مصروفاتي وأحسبها بدقة، حتى القليل منها مثل أجرة المواصلات ورسوم البريد حتى لو كانت قطعتين نحاسيتين من النقود أدفعها ثمنًا للصحف، وكان ذلك الحساب يطاردني كل يوم قبل أن أخلد إلى النوم، وقد لازمتني هذه العادة منذ ذلك الحين. وأعتقد أن الفضل في نجاحي في ترشيد الإنفاق في العديد من الأموال العامة التي أدرتها، والتي كان حجمها يصل إلى مئات الآلاف؛ يرجع إلى تلك العادة. وبذلك، أصبح لدى جميع الحركات التي قدتها فائضٌ ثابتٌ، بدلًا من الديون المتراكمة، فليأخذ كل شابٍّ تجربتي هذه كمثال يقتدي به، فيحرص على أن يحسب كل النقود التي يكسبها أو ينفقها وليتأكد من أنه سيكون رابحًا في النهاية، مثلي. نظرًا لمراقبتي الدقيقة لأسلوب معيشتي، وجدت أنه من الضروري الاقتصاد في مصروفاتي، وهكذا قررت خفض نفقاتي إلى النصف. كانت حساباتي مليئة بالمصروفات التي عليَّ تحملها. فالعيش في منزل أسرة يعني دفعَ فاتورة أسبوعية بصورة منتظمة، وهو ما يشتمل أيضًا على دعوة أفراد الأسرة من حين إلى آخر لتناول العشاء بدافع اللياقة، وكذلك حضور الحفلات معهم. كان يترتب على ذلك إنفاق مبالغ هائلة على وسائل المواصلات، خاصة إذا خرجتُ مع سيدة؛ فالعادات هنا تقتضي أن يدفع الرجل جميع مصروفات المرأة. أما تناول العشاء بالخارج، فكان يعني تكاليفَ إضافية حيث لا يُخصم ثمن الوجبات التي أتناولها خارج المنزل من الفاتورة الأسبوعية. ففكرت في إمكانية توفير جميع هذه النفقات، بالإضافة إلى النفقات التي أهدرها بحجة اللياقة الزائفة. وكانت تلك الفكرة سببًا في اتخاذي قرار الانتقال للعيش في مسكن خاصٍّ بي بدلًا من العيش مع أسرة، وأن أنتقل للعيش من مسكن إلى آخر وفقًا للعمل الذي أشتغل به، ومن ثَمَّ أكتسب مزيدًا من الخبرة في الوقت ذاته، وقد اخترت مسكني بالقرب من العمل، بحيث يمكنني الذهاب إلى العمل مشيًا على الأقدام في نصف الساعة، الأمر الذي وفَّرَ لي أجرة المواصلات. وفيما مضى، كنت أضطر إلى استخدام وسائل المواصلات للذهاب إلى أي مكان، وكنت ألتمس وقتًا إضافيًّا لممارسة رياضة المشي، فجمع النظام الجديد بين رياضة المشي والتوفير، بحيث وفَّرَ لي أجرة وسائل المواصلات وضمن لي المشي لمسافة ثمانية أو عشرة أميال يوميًّا. ويرجع الفضل الرئيسي في عدم إصابتي بالأمراض في أثناء إقامتي بإنجلترا إلى عادة المشي لمسافات طويلة هذه، والتي منحتني أيضًا بنيةً قويَّةً إلى حد ما. استأجرت مسكنًا يتكون من غرفة للجلوس وأخرى للنوم، وكانت هذه هي المرحلة الثانية من التحولات في حياتي، أما المرحلة الثالثة فلم تأت بعد. وفرت لي هذه التغيرات التي طرأت على نمط حياتي نصف نفقاتي، ولكن كيف لي أن أستغلَّ وقتي؟ كانت امتحانات نقابة المحامين لا تتطلب الكثير من المذاكرة، ولذلك كان لديَّ متسع من الوقت. وكانت مشكلتي الأبدية تتمثل في ضعفي في اللغة الإنجليزية، ولا يزال صدى كلمات السيد ليلي (الذي أصبح السير فريدريك فيما بعد) يتردد في أذني: «احصل على شهادتك الجامعية أولًا، ثم احضرْ لمقابلتي.» فكرت في أنني يجب أن أحصل على شهادة أكاديمية بالإضافة إلى طموحي في أن أصبح محاميًا معترفًا به؛ فاستعلمتُ عن الدورات التعليمية بجامعتي أوكسفورد وكامبريدج، واستشرت عددًا من الأصدقاء، فوجدت أن التحاقي بدورات أي من هاتين الجامعتين سيترتب عليه مصروفاتٌ أضخمُ وإقامةٌ أطول في إنجلترا، أشار عليَّ أحد الأصدقاء باجتياز امتحان القَبول بجامعة لندن إذا كنت أرغب في خوض امتحان صعب، وكان ذلك يعني أنه ينبغي لي بذل الكثير من الجهد، ولكنه سيؤدي في نفس الوقت إلى اكتسابي مزيدًا من المعلومات العامة دون نفقاتٍ إضافيةٍ تُذكر، فرحبت باقتراح صديقي، ولكن المنهج الدراسي أرهبني؛ فقد كانت دراسة اللغة اللاتينية بالإضافة إلى لغةٍ حديثةٍ أمرًا إلزاميًّا. فكيف سأستطيع تعلم اللاتينية؟ لكن صديقي قدَّم تبريرًا قويًّا لدراسة اللغة اللاتينية، فقال: «إن اللغة اللاتينية تمثل أهميةً كبيرةً للمحامين؛ فهي تساعدهم على فهم الكتب القانونية، وهناك وثيقةٌ كاملةٌ من القانون الروماني مكتوبةٌ باللغة اللاتينية، علاوة على أن تعلم اللغة اللاتينية سيساعدك على التمكن من اللغة الإنجليزية بصورةٍ أكبر.» فعدت إلى المنزل وقررت أن أتعلم اللاتينية مهما كانت شاقة. ونظرًا لأنني كنت قد بدأت بالفعل في تعلم اللغة الفرنسية، فقد قررت أن تكون الفرنسية هي اللغة الحديثة التي سأدرسها. والتحقت بفصولٍ خاصةٍ للإعداد لامتحانات القَبول، ولم يكن يفصلني عن موعد الامتحانات، التي تعقد كلَّ ستةٍ أشهر، إلا خمسة أشهر، وكانت هذه المهمة مستحيلةً تقريبًا، لكن طموحي أن أصبح سيِّدًا إنجليزيًّا تحول إلى أن أصبح طالبًا مجتهدًا. وضعت جدولًا زمنيًّا دقيقًا لمذاكرتي، لكنني لم أمتلك الذكاء اللازم أو الذاكرة الكافية لتعلم اللغة اللاتينية والفرنسية بجانب المواد الدراسية الأخرى في الوقت المتبقي، فما كان مني إلا أن شققت طريقي في دراسة اللغة اللاتينية بجدٍّ، وكنت حزينًا، لكنني لم أفقد رباطة جأشي. نما لدي ميلٌ للغة اللاتينية، وفكرت في أن اللغة الفرنسية ستتحسن لديَّ إذا حاولت تعلمها مرة أخرى، وقررت أن أختار مادةً جديدةً في مجموعة العلوم، فلم تعد الكيمياء — وهي المادة العلمية التي كنت أدرسها — جذابةً؛ لعدم وجود تجارب عملية، مع أنه من المفترض أن تكون دراستها مشوقةً للغاية. وقد كانت الكيمياء من المواد الإلزامية في الهند، لذلك اخترتها ضمن مواد امتحانات القَبول بجامعة لندن. لكن هذه المرة اخترت مادة الحرارة والضوء بدلًا من الكيمياء؛ لأنني سمعت عن مدى سهولتها، وقد كانت كذلك بالفعل. بذلت جهدًا لجعل حياتي أكثر بساطة في أثناء استعدادي لخوض تجربةٍ أخرى. وشعرت بأن أسلوب معيشتي لا يتماشى مع الموارد المتواضعة لعائلتي. لقد آلمني تخيل صورة أخي المكافح، الذي لم يتوانَ في الاستجابة بكرمٍ إلى طلباتي المتكررة للأموال. ووجدت أن أغلب الذين ينفقون من ثمانية إلى خمسة عشر جنيهًا إسترلينيًّا شهريًّا هم الذين يتمتعون بمنحةٍ دراسيةٍ. وكان أمامي أمثلة على أساليب معيشةٍ أكثرَ بساطة، فقد شاهدت عددًا ليس بقليلٍ من الطلاب الفقراء الذين يعيشون حياةً أكثر تواضعًا من حياتي، وكان أحد أولئك الطلاب يعيش في غرفة في حي الفقراء تُكلِّفُه شلنين في الأسبوع، وكان يشترى وجبات طعامه من أرخص المحلات في المدينة بسعر بنسين للوجبة الواحدة التي تتكون من الكاكاو والخبز. لقد كان من الصعب عليَّ أن أحذو حذوه، لكنني فكرت في الاحتفاظ بغرفةٍ واحدةٍ بدلًا من غرفتين وأن أطهو بعض الأطعمة بنفسي في المنزل، وكان ذلك سيوفر أربعة أو خمسة جنيهات إسترلينية شهريًّا. واطلعت على كتبٍ تتناول المعيشة البسيطة، فتخليت عن الغرفتين واستبدلت بهما غرفةً واحدةً، واشتريت فرنًا، وبدأت أطهو إفطاري في المنزل. وكان إعداد طعام الإفطار لا يستغرق أكثر من عشرين دقيقة، فقد كان عليَّ فقط أن أطهو عصيدة دقيق الشوفان وأن أغلي المياه اللازمة للكاكاو. وكنتُ أتناول الغداء خارج المنزل، وفي وجبة العشاء كنت أتناول الخبز والكاكاو بالمنزل. وهكذا استطعت أن أوفر من نفقاتي حتى أصبحت أعيش بتكلفة يومية تصل إلى شلن وثلاثة سنتات. وكان لديَّ في تلك المدة كمٌّ هائلٌ من الدراسة. لقد وفَّر لي أسلوب المعيشة البسيط الكثير من الوقت، وبالفعل اجتزت امتحانات القَبول. على القارئ ألا يظن أن هذا النمط من المعيشة قد جعل حياتي موحشةً بأي وجه من الوجوه، بل على العكس، فقد ألَّفَ هذا التغيير بين جسدي وروحي. وكما كان هذا التغير أكثر تمشيًا مع إمكانيات عائلتي، كانت حياتي بلا شك أكثر صدقًا، وغمرت روحي سعادة لا توصف.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.17/
تجارب في الأنظمة الغذائية
بعد أن توغلت في البحث في أعماق نفسي، وجدت أن ضرورة التغيير الداخلي والخارجي أخذت في النمو. وفور قيامي بتغييراتٍ في نفقاتي وأسلوب حياتي، بل قبل ذلك، بدأت في تغيير نظامي الغذائي. ووجدت أن مؤلفي الكتب التي تتناول النظام النباتي تعرضوا للقضية بكل تفاصيلها، وتناولوها من الناحية الدينية والعلمية والعملية والطبية. من الناحية الأخلاقية، توصل أولئك المؤلفون إلى استنتاج أن سيادة الإنسان على الحيوانات الدنيا لا تعني أن يفترس الإنسان تلك الحيوانات، بل تعني حمايته لها وأن يكون هناك تعاون متبادل بينهما بالصورة التي يتعاون بها الإنسان مع أخيه الإنسان. وتناولوا حقيقة أن الإنسان لا يأكل للاستمتاع بالأكل، بل ليعيش. فقام بعضهم بالامتناع، ليس عن تناول اللحم فحسب، بل عن البيض وشرب الحليب أيضًا. ومن الناحية العلمية، استنتج البعض أن التكوين الطبيعي للإنسان أثبت أن طبيعته تميل إلى أكل الثمار وليس إلى الطعام المطهو، وأن الإنسان يمكنه فقط أن يتناول الحليب من ثدي أمه، ثم عندما تنمو أسنانه يبدأ في تناول الأطعمة الصلبة. ومن وجهة النظر الطبية، اقترح بعضهم العزوف عن شتى أنواع التوابل والبهارات. ووفقًا لوجهة النظر العملية والاقتصادية، أوضح المؤلفون أن النظام الغذائي النباتي هو الأرخص. وقد كان لكل هذه الأسباب أجلُّ الأثر عليَّ، وقد رأيت هذه الأنواع المختلفة من النباتيين في مطاعم الأغذية النباتية. كانت إحدى الجمعيات النباتية في إنجلترا تمتلك صحيفةً أسبوعيةً خاصةً بها، فاشتركت في الصحيفة الأسبوعية، ثم التحقت بالجمعية، ووجدت نفسي في وقتٍ وجيزٍ عضوًا في اللجنة التنفيذية بها، وهناك تعرفت إلى رواد النظام النباتي. وبدأتْ خبراتي الخاصة في علم الأغذية. توقفت عن تناول الحلوى والبهارات التي أحضرتها معي من الهند. وكان تغيير آرائي وأفكاري سببًا في القضاء على ولعي بالبهارات، وأصبحت أستمتع بالسبانخ المسلوقة دون بهارات، التي كنت لا أشتهيها في ريتشموند. وعلمتني كل هذه التجارب أمرًا بالغَ الأهمية؛ أن العقل هو مركز التذوق الحقيقي وليس اللسان. لا شك أن العامل الاقتصادي كان يشغل خاطري باستمرار. كان هناك في تلك الآونة آراء تنادي بضرر الشاي والقهوة، وتدعو إلى تناول مشروب الكاكاو. وبما أنني مقتنع بأن على المرء أن يتناول الأغذية والمشروبات التي تحافظ على صحته، توقفت عن تناول الشاي والقهوة بصورة عامة، واستعضت عنهما بتناول الكاكاو. كان هناك نوعان من المطاعم التي اعتدت التردد عليهما، أحدهما يقدم أيَّ عدد من الأطعمة يختاره الزبون، ويدفع ثمنًا منفصلًا لكل لون من ألوان الطعام، وكان يتردد على ذلك النوع مِن المطاعم مَن هم على قدْرٍ من الغنى، حيث كان العشاء هناك يكلف قرابة شلن أو شلنين. أما النوع الآخر من المطاعم، فكان يقدم عشاءً يتكون من ثلاثة ألوانٍ من الأطعمة وشريحة خبز بثمن ستة بنسات. وكنت عادةً ما أتناول طعامي في النوع الثاني من المطاعم في المدة التي اتبعت فيها النظام الاقتصادي الصارم. وخضت أيضًا عددًا من التجارب الثانوية إلى جانب التجربة الرئيسية، مثل: الإقلاع عن تناول النشويات في مرحلة ما، والعيش على تناول الخبز والفواكه فقط في مرحلة أخرى، والعيش أحيانًا على الجبن والحليب والبيض. وتستحق هذه التجربة الأخيرة السرد والتوضيح: استمررتُ في هذه التجربة أقلَّ من أسبوعين، فقد دافع المصلح المؤيد للأطعمة غير النشوية عن البيض، وقال معلِّلًا ذلك بأنه لا علاقة للبيض باللحوم. وكان من الواضح أن تناول البيض لا يسبب أي ضرر للكائنات الحية، فاقتنعت بوجهة النظر هذه، وبدأت في تناول البيض بغض النظر عن عهدي لوالدتي، لكن ذلك لم يدم طويلًا؛ فأنا لا أملك الحقَّ في إضافة تفسير جديد إلى العهد، في ظل وجود تفسير والدتي له. فكنت أعلم أنها تؤمن بأن البيض يدخل ضمن أطعمة اللحوم. وفور إدراكي للمعنى الحقيقي للعهد، أقلعتُ عن تناول البيض وتخليتُ عن التجربة ككل. هناك نقطة تتعلَّق بوجهة النظر تلك أرى ضرورةَ ذِكرها: خلال إقامتي في إنجلترا، صادفت ثلاثة تعريفاتٍ للحم، يشير أولها إلى أن اللحم يعني لحوم الطيور والحيوانات فقط. وقد تجنب النباتيون الذين تبنوا هذا التعريف تناولَ لحوم الطيور والحيوانات لكنهم تناولوا الأسماك، ناهيك عن البيض. أما التعريف الثاني، فيشير إلى أن المقصود باللحم هو جميع لحوم الكائنات الحية، ولذا كان السمك يدخل ضمن اللحوم وفقًا لهذا التعريف، لكنه لم يدرج البيض. وأشار التعريف الثالث إلى أن جميع لحوم الكائنات الحية ومنتجاتها تندرج تحت تعريف اللحم، ومن ثَمَّ اشتمل التعريف على البيض والحليب على حد سواء. فإذا تبنيت التعريف الأول، فلن آكل البيض فحسب، بل السمك أيضًا. ولكنني كنت مقتنعًا بأن تعريف والدتي هو التعريف الملزم لي؛ فيجب عليَّ إذا قررت الالتزام بالعهد الذي قطعته على نفسي أن أمتنع عن تناول البيض. كان هذا الأمر شاقًّا نظرًا لأنني علمت أنه حتى في مطاعم الأغذية النباتية هناك العديد من الأطعمة تحتوي على البيض. وذلك يعني أنه لو لم تتوافر لديَّ الخبرة في الحكم على الأشياء، فسأضطر إلى التحقق من مكونات الأطعمة، وهل تحتوي على البيض أم لا، حيث إن العديد من حلوى البودنج والكعك لا تخلو من البيض. ومع أن التزامي بعهدي لوالدتي تسبب لي في هذه المشقة، إلا أنه جعل طعامي بسيطًا. وقد سببت لي تلك البساطة بعض الضيق، حيث اضطررتُ إلي الامتناع عن الكثير من الأطعمة التي كنت أشتهيها. إلا أن هذه الصعاب كانت عابرة، حيث نتج عن التزامي الصارم بوعدي استمتاعٌ داخليٌّ صحيٌّ ولذيذٌ ودائم. ومع ذلك، لم تكن المشكلة الحقيقية قد ظهرت بعد، فقد كانت المشكلة الحقيقية تتعلق بوعدي الآخر. ولكن من يجرؤ على إيذاء من يعيش في حفظ الإله؟ قد تكون بعض الملاحظات حول تفسير العهود أو الوعود ذات صلةٍ في هذا السياق، فلطالما كان تفسير الوعود سببًا في نشأة النزاعات في جميع أنحاء العالم؛ فمهما كان نص الوعد صريحًا، سيحرفه الناس ويغيرونه ليتماشى مع مصالحهم الخاصة. ونجد هذا قائمًا بين جميع الطبقات الاجتماعية من غنيٍّ وفقير، وأميرٍ وفلاح. فالأنانية تعصب أعين الناس، فيخدعون أنفسهم باللجوء إلى الغموض ويحاولون خداع العالم والإله. ومن القواعد الذهبية في العهود أن تقبل بصدق تفسير الطرف الذي تعطيه الوعد. وهناك قاعدة أخرى تقول بقبول تفسير الطرف الأضعف عند وجود تفسيرين للوعد. وعند الإخلال بهاتين القاعدتين، ينشأ النزاع والظلم المتأصلان في الكذب. ويسهل على من ينشد الحقيقة وحده أن يتبع القاعدة الذهبية دون الحاجة إلى طلب مشورةٍ علميةٍ حول تفسير الوعد، فكان تفسير والدتي لتعريف اللحم — وفقًا للقاعدة الذهبية — هو التفسير الحقيقي الوحيد، وليس التعريف الذي تعلمته من خبراتي الأوسع أو معرفتي الأفضل. لقد خضت تجاربي في إنجلترا من وجهة النظر الاقتصادية والصحيَّة. ولم أتناول المسألة من الناحية الدينية حتى رحيلي إلى جنوب أفريقيا، حيث مررت بتجارب شاقةٍ سوف أرويها فيما بعد. ولكن كل هذه التجارب كانت ثمارًا لبذور غُرست في إنجلترا.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.18/
درع الخجل
وكان هناك في اللجنة من شاركني الرأي، لكنني شعرت بأنني مطالب بصورة شخصية بالتعبير عن رأيي، وكانت المشكلة في كيفية تعبيري عن ذلك الرأي. ونظرًا لأنني لم أكن أمتلك الشجاعة للتحدث، قررت كتابة ما يجول بخاطري، فذهبت إلى الاجتماع حاملًا الورقة التي كتبتُ فيها رأيي، ولم أقدر حتى على قراءتها بنفسي، فكلَّف رئيس الجمعية أحدهم بقراءتها. وفي ذلك اليوم رجحتْ كفةُ السيد هيلز على كفة الدكتور ألينسون، وهكذا وجدت نفسي في صفوف الطرف الخاسر في أول معركة أخوضها من هذا النوع، وكان عزائي الوحيد هو علمي بصدق قضيتي. على ما أتذكر، استقلت من اللجنة بعد هذه الحادثة. وظل هذا الخجل يلازمني طوال إقامتي بإنجلترا، حتى عندما كنت أقوم بزيارة اجتماعية، كان وجود ستة أشخاص أو أكثر يلجم لساني. كانت آخر محاولة قمت بها لإلقاء كلمة في إنجلترا في عشية عودتي إلى الهند، ولكن حتى في هذه المرة جعلت من نفسي أضحوكة، فقد دعوت أصدقائي النباتيين إلى تناول الطعام في مطعم هولبورن الذي أشرت إليه في هذه الفصول، وقلت في نفسي: «بالطبع يمكن تناول الطعام النباتي في مطاعم الأطعمة النباتية، لكن لماذا لا نتناول الأطعمة النباتية في المطاعم غير النباتية أيضًا؟» اتفقت مع مدير المطعم على تقديم وجبة نباتية خالصة، ورحب أصدقائي النباتيون بالتجربة الجديدة. إن الاستمتاع بالطبع هو الغرض من جميع المآدب، لكن الغربيون جعلوا إعداد تلك المآدب فنًّا، فهم يحتفلون بتلك المآدب بأبهة شديدة وموسيقى وخطب، ولم تخلُ المأدبة الصغيرة التي أقمتها من بعض تلك المظاهر، فكان يجب إلقاء الخطب في أثناء المأدبة، وعندما حان دوري في التحدث، وقفت لألقي كلمتي، وقد فكرت في إلقاء كلمة موجزة تتكون من بضع جمل، لكنني لم أستطع أن أتخطى الجملة الأولى. قرأت فيما سبق أن أديسون عندما ألقى أول كلمة له في مجلس العموم، أخذ يردد «أعتقد» ثلاث مرات، وعندما عجز عن استكمال كلمته، وقف أحدهم ساخرًا وقال: «لقد اعتقد هذا السيد ثلاث مرات، لكنه مع ذلك لم يصل إلى شيء.» فكرت في إلقاء كلمة طريفة مستعينًا بهذه القصة الطريفة. فبدأت في التحدث، ولكنني لم أستطع المتابعة. فقد خانتني ذاكرتي تمامًا وجعلت من نفسي محلًّا للسخرية. فقلت بعجالة: «أشكركم أيها السادة على تلبيتكم لدعوتي.» ثم جلست على الفور. ولم أستطع تجاوز هذا الخجل إلا في جنوب أفريقيا، إلا أنني في الحقيقة لم أتجاوزه كليًّا؛ فقد كان يستحيل أن أقوم بالارتجال، وكنت أتردد عند مواجهة جمهور غريب، وكنت أتجنب إلقاء الخطب قدر المستطاع. وحتى الآن، لا أعتقد أنه يمكنني أن أجتمع بأصدقائي لنخوض في حديث لا طائل فيه، ولا أميل إلى ذلك. ويجب أن أعترف أن خجلي الفطري لم يمثل لي أي عائق، لكن الأمر لم يخلُ من تعرضي للسخرية في بعض الأحيان، بل على العكس، أعتقد أن ذلك الخجل كان في مصلحتي؛ فقد أصبحت حيرتي عند التحدث — التي كانت في يوم ما مصدر إزعاج لي — مصدر بهجة. وأعظم فائدة عاد عليَّ الخجل بها هي تعليمي الاقتصاد في الكلام، فقد تكونت لديَّ عادة التحكم في أفكاري. وأستطيع أن أجزم أنه نادرًا ما زلَّ لساني أو قلمي. لا يحضرني أنني ندمت قط على أي كلمة قلتها أو مقالة كتبتها. وهكذا نجوت من الكثير من الحوادث المؤسفة وتجنبت إهدار الوقت. علمتني التجربة أن الصمت جزء من الانضباط الروحاني الذي يجب على نصير الحقيقة أن يتسم به، وأن الميل للمبالغة في الحقيقة، أو كتمها، أو تحريفها سواء عمدًا أو بغير عمد؛ هي نقائص بشرية ويجب أن يتحلى الإنسان بالصمت كي يتغلب عليها. فالشخص قليل الكلام، نادرًا ما يخطئ في كلامه لأنه يحسب حساب كل كلمة قبل أن يتفوه بها. ومع ذلك نجد العديد من الأشخاص يتوقون للحديث حيث تنهال مذكرات طلب الكلمة على جميع رؤساء مجالس الإدارة، وعندما يأخذ أحدهم الكلمة، دائمًا ما يتجاوز المدة الزمنية الممنوحة له ويطالب بمد الوقت، ويستمر في الحديث دون إذن. كل هذا اللغو لا يعود على العالم بأي نفع، ولا يزيد على كونه مضيعة للوقت. وفي حقيقة الأمر كان خجلي هو درعي الواقي. فقد سمح لي بالنضوج وساعدني على تمييزي للحقيقة.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.19/
آفة الكذب
فأجابت قائلة: «اسمح لي أن أساعدك، سأشرح لك قائمة الطعام وأخبرك بما يمكنك تناوله.» شعرت بالامتنان، وبالفعل كانت لي خير عون. وكانت هذه الواقعة بداية لتعارف تطور إلى صداقة دامت طوال إقامتي في إنجلترا وما بعد ذلك بمدة طويلة. وأعطتني صديقتي عنوانها في لندن، ودعتني لتناول العشاء في منزلها يوم الأحد من كل أسبوع، وكانت تدعوني في المناسبات الخاصة وتساعدني على التغلب على حيائي، فتعرفني إلى الفتيات وتجعلني أتحدث معهن، وأتذكر من بينهن بوضوح محادثاتي مع فتاة كانت تقيم معها، وكنا كثيرًا ما نجلس معًا بمفردنا. كنت أجد هذا شاقًّا في بادئ الأمر، فلم أكن أستطيع بدء محادثة أو إطلاق النكات، لكنها دلتني على الطريق، فبدأت أتعلم تلك الأمور. وبمرور الوقت، أصبحت أتطلع إلى يوم الأحد ونما لديَّ ميل للحديث مع الصديقة الشابة. أخذت السيدة العجوز تظلل علينا برعايتها يومًا بعد يوم، وكانت مهتمة بلقاءاتنا، ويبدو أنها كانت تفكر في ارتباطنا. فوجدتُ نفسي في مأزق. حدثت نفسي قائلًا: «كم كنت أتمنى لو أنني أخبرت السيدة بأنني متزوج! فحينها لم تكن لتفكر في ارتباطي بصديقتها الشابة. على كل حال، لم يفت الأوان بعد على إصلاح ذلك، فإعلاني الحقيقة يمكن أن يقلل من حدة المشكلة.» منذ التقينا في برايتون، وأنتِ تشملينني بعطفك. لقد اعتنيتِ بي كما تعتني الأم بولدها، واعتقدتِ أنني بحاجة إلى الزواج، ولذلك كنت تساعدينني على التعرف إلى الفتيات، وبدلًا من انتظار تفاقم الأمور، أودُّ أن أعترف لك بأنني لا أستحق كل ذلك العطف؛ فقد كان يجب عليَّ أن أخبرك عندما بدأت في زيارتك بحقيقة زواجي، فعندما علمت أن الشباب الهنود المقيمين في إنجلترا يخفون حقيقة زواجه، لم أملك إلا أن أحذو حذوهم. والآن أقر بأن ما فعلته كان خطأ. وأريد أن أخبرك بأنني تزوجت وأنا لا أزال طفلًا، وقد رزقني الإله بطفل. وما يؤلمني حقًّا هو إخفائي هذه الحقيقة عنكِ طوال هذه المدة. لكنني أشعر بالسعادة الآن حيث منحني الإله الشجاعة كي أكشف لك عن الحقيقة. فهلَّا سامحتِني؟ أؤكد لك أنني التزمت بحدود الأدب مع الفتاة التي تفضلتِ وعرفْتِنِي بها ولم أسئ استغلال الحرية التي منحتِني إياها، فطالما عرفت حدودي التي يجب ألا أتعداها. وأقدر أنك بدورك فكرتِ في ارتباطنا لعدم علمك بزواجي. وأنا الآن أخبرك بالحقيقة لكيلا تتعقد الأمور أكثر من ذلك. وأؤكد لك أنني لن أشعر بالاستياء إذا ما وجدتِ — بعد قراءتك لهذه الرسالة — أنني لم أكن جديرًا بحسن ضيافتك. إن عطفك ورعايتك يغمراني بالامتنان، وبالطبع سيسعدني ألا تغضبي مني وأن تستمري في اعتباري جديرًا بضيافتك، التي لن أتوانى عن فعل أي شيء كي أستحقها، وسأعتبر موقفك هذا مثالًا آخر على عطفك. لقد تسلمت رسالتك الصريحة، وقد شعرنا بالسرور عندما قرأناها واستغرقنا في الضحك. إن الحقيقة التي أخفيتها عنا وتعتقد أنك أجرمت بإخفائها يمكن الصفح عنها، وقد أحسنت في إخبارنا بحقيقة الأمور، ولا تزال دعوتي لك قائمة. سننتظرك الأحد القادم، ونتطلع لسماع قصة زواجك وأنت طفل، والاستمتاع بالتندر عليك. لا أعتقد أن هناك حاجة إلى أن أؤكد لك أن صداقتنا لم تتأثر قطُّ بهذه الواقعة. وهكذا طهرت نفسي من آفة الكذب. ومنذ ذلك الحين وأنا لا أتردد في ذكر زواجي متى اضطرتني الظروف.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.20/
الاطلاع على الأديان
وقد تركت هذه الكلمات عظيم الأثر في قلبي، ولا يزال صداها يتردد في أذني، فوجدت أن قيمة الكتاب لا تقدر بثمن، وقد أخذ هذا الانطباع في النمو حتى أصبحت أؤمن بأن هذا الكتاب هو الأكثر واقعية في تناول معرفة الحقيقة، وقد قدم لي مساعدة جليلة في الأوقات العصيبة. قرأت تقريبًا جميع الترجمات الإنجليزية التي تناولت «الجيتا»، وأرى أن أفضلها ترجمة السير إدوين أرنولد. فقد كان أمينًا في نقل النص، بالإضافة إلى أن ترجمته تبدو كنص إبداعي وليس عملًا مترجمًا. ومع أني قرأت «الجيتا» مع هذين الصديقين، لا أزعم أنني تدارستها وقتها، فلم أبدأ في قراءة الكتاب بصورة يومية إلا بعد مرور بضع سنوات. قابلت، في نفس الوقت تقريبًا، مسيحيًّا صالحًا من مانشستر في فندق يقدم الأطعمة النباتية. وحدثني عن المسيحية، وأخبرته عن ذكرياتي في راجكوت عن المسيحية. وقد آلمه ما قصصت عليه من أحداث. قال لي: «أنا نباتي، ولا أشرب الخمر. ولكن للأسف يتناول الكثير من المسيحيين اللحم ويشربون الخمر، لكن الكتاب المقدس لم يأمرنا بذلك. من فضلك، اقرأ الإنجيل.» قبلت نصيحته، فأحضر لي نسخة من الإنجيل، وأظن أنه كان يبيعه، فاشتريت منه نسخة تحتوي على خرائط وفهرس أبجدي وغيرها من الوسائل الإيضاحية المساعدة. وبدأت في قراءة الكتاب، لكنني لم أستطع قراءة العهد القديم، فقرأت «سفر التكوين»، أما الفصول التي تلته فكانت دائمًا ما تجعلني أشعر بالنعاس. إلا أنني قرأت الأسفار الأخرى بقدر أكبر من الصعوبة ودون اهتمام أو فهم، وذلك فقط لأستطيع القول بأنني قرأت الكتاب. وكذلك أعيتني قراءة «سفر العدد». ومع ذلك، خلَّف العهد الجديد لديَّ انطباعًا مختلفًا تمامًا، خاصة «عظة الجبل» التي أُشرب قلبي حبها. قارنت ما جاء بموعظة الجبل بما ورد في «الجيتا». وكم أسعدني الجزء الذي يقول فيه المسيح: «وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا. ومن أخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا.» فتذكرت قول الشاعر الجوجراتي شامال بات: «أعط وجبةً شهيةً لمن منحك جرعة ماء» وغيره. حاول عقلي الصغير أن يدمج تعاليم الجيتا وكتاب «ضياء آسيا» وتعاليم موعظة الجبل، فكان الإنكار للذات أجلَّ موعظة دينية أعجبتُ بها. ولم أتمكن من الاطلاع على المزيد من الأديان في ذلك الوقت نتيجة لانشغالي بالمذاكرة استعدادًا للامتحانات. ولكن رسخت في ذهني أهمية قراءة المزيد من الكتب الدينية والاطلاع على جميع الديانات الرئيسية. في ذات الوقت تقريبًا، توفي برادلاف، ودفن في مقبرة ووكينج، وشيعتُ الجنازة كما شيعها — على ما أظن — جميع الهنود المقيمين بلندن، وحضر عدد من رجال الدين لتأدية القداس الأخير، وكان علينا انتظار القطار في طريق عودتنا من الجنازة، فقام أحد الملحدين وحاول إحراج أحد رجال الدين قائلًا: «حسنًا يا سيدي، هل تؤمن بوجود الإله؟» قال الرجل الصالح بصوت منخفض: «أجل.» قال الملحد بابتسامة مليئة بالثقة: «وتتفق معي أن محيط الأرض يبلغ ٢٨٠٠٠ ميل، أليس كذلك؟» قال رجل الدين: «بالطبع.» قال الملحد: «إذن أخبرني ما حجم إلهك وأين هو؟» قال رجل الدين: «حسنًا، إننا لو عرفناه حقًّا لعرفنا أنه يسكن قلبي وقلبك.» قال الملحد متوجهًا إلينا وتعلو وجهه نظرة النصر: «لا تسخر مني الآن كأني طفل.» فلزم رجل الدين الصمت بتواضع. كانت هذه الواقعة من الأمور التي زادت من استنكاري للإلحاد.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.21/
راما، نصير من لا نصير له
لقد اكتسبت معرفة طفيفة عن الهندوسية وغيرها من أديان العالم، ومع ذلك، كان عليَّ إدراك أن ذلك لا يكفي لتخليصي من محني، فالمرء لا يعرف ما ينجيه في وقت المحن ولا يملك وقتها أدنى فكرة عنه، فإن كان ملحدًا، فسيعوِّل نجاته على الحظ، وأما إن كان مؤمنًا فسيرجع الفضل في إنقاذه إلى الإله. وقد يعتقد أن دراسته الدينية أو ممارساته الروحانية هي السبب فيما أنعم به الإله عليه. لكنه لا يعلم وقت إنقاذه هل كانت ممارساته الروحانية هي التي أنقذته أم غيرها. وكم ممن يفتخرون بقوة إيمانهم رأوا تلك القوة وهي تخر إلى التراب؟ فالمعرفة بالدين، مقارنة بالخبرة العملية به، ليس لها قيمة في أوقات المحن. شهدت إنجلترا أولى لحظات اكتشافي لحقيقة عبث المعرفة الدينية المجردة من التجربة العملية. ولا أعلم الأسباب التي أنقذتني من محني السابقة، فقد كنت شديد الصغر، لكنني الآن أبلغ من العمر عشرين عامًا، واكتسبت مزيدًا من الخبرة كزوج وأب. عدنا من المؤتمر في المساء. وجلسنا بعد تناول العشاء للعب الورق (الكوتشينة)، فانضمت إلينا مالكة المنزل، وهذا أمر مألوف في إنجلترا حتى في المنازل المحترمة. وأخذ كل لاعب في إطلاق النكات البريئة لتمضية الوقت، لكن رفيقي ومالكة المنزل أخذا في إطلاق المزاحات البذيئة، ولم أكن أدري أن صديقي ماهر في مثل هذه الأمور. راقتني تلك المزاحات، فانضممت إليهما، وما إن هممت بتجاوز حدود الأدب، وتركتُ أوراقَ اللعب وانصرفتُ عن اللعبة، حتى أجرى الإله على لسان رفيقي التحذير المبارك: «من أين يأتي هذا الشر الذي بداخلك يا فتى؟ انصرفْ على الفور!» شعرت حينها بالخزي، فتقبلت التحذير وشعرت بالامتنان لصديقي. وفررت من المكان حين تذكرت عهدي الذي قطعته لوالدتي. وذهبت إلى غرفتي وأنا أرتعد وقلبي يخفق كطريدة فرت من مطاردها. أتذكر أن هذه كانت المرة الأولى التي تثيرني امرأة غير زوجتي. لم أنم تلك الليلة، وراودتني أفكار شتى. فهل يجب عليَّ مغادرة هذا المنزل؟ هل ينبغي لي أن أهرب من المكان؟ أين كان عقلي؟ ماذا كان سيحدث لو لم أتمالك نفسي؟ فقررت من وقتها أن أتصرف بحذر أكبر، وألا أغادر المنزل فحسب بل بورتسماوث كلها. لم يتبق على المؤتمر سوى يومين على أكثر تقدير، فرحلت عن بورتسماوث في الليلة التالية. أما صديقي، فمكث في المدينة لبعض الوقت. لم أكن في ذلك الوقت على دراية بجوهر الدين أو الإله وكيف يتدخل في مصائرنا. واستطعت فقط أن أدرك، بصورة مبهمة، أن الإله هو الذي أنقذني من هذه المحنة، وكان هو الذي طالما أنقذني من جميع محني. أعلم أن عبارة «أنقذني الإله» تحمل معنى أعمق بداخلي الآن، مع أنني لا أزال أشعر بأنني لم أدرك معناها كليًّا حتى الآن، فأنا في حاجة إلى المزيد من الخبرة كي أستطيع فهمها بصورة أكثر شمولًا. لكن ما أدركه حقًّا هو أن الإله أنجاني في جميع المحن التي مررت بها — المحن ذات الطبيعة الروحانية، وكمحام، وعند إدارة المؤسسات، وفي السياسة. عندما كنت أفقد الأمل «وعندما يفشل الأصدقاء في مساعدتي وتتبدد محاولات مواساتي»، كنت أجد العون يأتيني من العدم. التضرع والعبادة والصلاة ليست خرافات، بل هي أفعال حقيقية أكثر واقعية حتى من الأكل والشرب والجلوس والسير. ولن أكون مبالغًا إذا قلت إنها الأفعال الوحيدة الحقيقية وما عداها زائف. تلك العبادة أو الصلاة ليست عبارة عن فصاحة أو ثناء كاذب، بل أفعال تنبع من القلب. وهكذا، إذا ما نجحنا في تطهير قلوبنا بأن «نملأها بالحب، والحب فقط»، ونجحنا في المحافظة على جميع الأوتار في لحن متناغم، «نجدها تذوب في الموسيقى مختفية بذلك عن الأنظار.» فالصلاة لا تحتاج إلى الكلام، لأنها غنيَّة بذاتها عن أي مجهود حسي. ولا يساورني أدنى شك حول كون الصلاة وسيلة ناجحة لتطهير القلب من الأهواء، لكن يجب أن يصاحبها تواضع تام.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.22/
نارايان همشاندرا
زار إنجلترا في ذلك الوقت رجل هندي شهير هو نارايان همشاندرا. وقد علمت أنه يعمل كاتبًا، فقابلته في منزل الآنسة مانينج، العضوة في الجمعية الوطنية الهندية، والتي كانت على علم بعدم قدرتي على التواصل الاجتماعي. فعندما كنت أزورها، كنت أجلس دون أن أتفوه بكلمة، ولا أتحدث إلا إذا خاطبني أحد. فقدمتني الآنسة مانينج إلى نارايان همشاندرا، ولم يكن نارايان يتحدث الإنجليزية. وكان زيُّه غريبًا، يرتدي سراويلًا يعوزه الذوق، ومعطفًا بني اللون متسخًا ورثًّا على الطراز الباريسي. ولم يكن مرتديًا ربطة عنق أو ياقة، وكان يرتدي قبعة من الصوف يتدلى منها زر كبير. وكان ذا لحية طويلة. كان نارايان رشيق القوام، قصير القامة، تغطي البثور الصغيرة وجهه الدائري، وأنفه بين مدببة وغير مدببة. وقد كان يمرر يده باستمرار على لحيته. كان هذا الشخص ذو المظهر الغريب والزي العجيب مميزًا في مجتمع الأناقة. تحدثت إليه قائلًا: «لقد سمعت عنك الكثير، وقرأت بعض كتاباتك، ويسعدني أن تتكرم بزيارتي في منزلي.» كان صوت نارايان أجش إلى حد ما. فقال لي بابتسامة ترتسم على شفتيه: «بالطبع يسعدني ذلك، أين تقيم؟» – «في شارع ستور.» – «إذن نحن جيران. إني بحاجة إلى تعلم اللغة الإنجليزية، فهلا ساعدتني؟» – «يسعدني أن أعلمك كل ما لدي، وسأبذل قصارى جهدي. ويمكنني، إن كنت ترغب، أن آتي إلى منزلك.» – «لا، بل أنا الذي سوف آتي إليك، وسوف أحضر معي كتاب تمرينات على الترجمة.» وهكذا حددنا موعدًا، ثم أصبحنا صديقين مقربين في مدة وجيزة. قال لي بعدم اكتراث تام: «لم أذهب يومًا إلى المدرسة مثلك قط، ولم أشعر قط بالحاجة إلى تعلم القواعد النحوية للتعبير عن أفكاري. حسنًا، هل تعرف اللغة البنجالية؟ أنا أعرفها، فقد سافرت إلى البنجال، فأنا من ترجم أعمال ماهارشي ديفندراناث طاغور إلى اللغة الجوجراتية. وأتمنى أن أترجم كنوز اللغات الأخرى أيضًا إلى اللغة الجوجراتية. وإنك لتعلم أن ترجماتي لا تتسم بالحرفية، بل دائمًا ما أضفي عليها روح النص. بالطبع، يمكن أن يتمكن آخرون، بما لديهم من معرفة أفضل، من تقديم المزيد في هذا المجال، لكنني راضٍ عما حققته دون الحاجة إلى القواعد النحوية. فأنا أعرف اللغة الماراثية والهندية والبنجالية، وبدأت للتو تعلم اللغة الإنجليزية. فكل ما أحتاج إليه هو مجموعة غزيرة من المفردات. ولا تظن أن طموحي سيقف عند هذا الحد، بل أطمح في الذهاب إلى فرنسا وتعلم اللغة الفرنسية؛ فقد علمت أن اللغة الفرنسية غنية بالأدب. وأرغب في الذهاب إلى ألمانيا وتعلم الألمانية.» وهكذا أخذ يتحدث دون توقف، فقد كان يتمتع بطموح لا حد له في تعلم اللغات والسفر. فقلت له: «لعلك سوف تذهب بعد ذلك إلى أمريكا أيضًا؟» – «بالطبع، فكيف أعود إلى الهند دون أن أرى «العالم الجديد»!» – «ولكن من أين لك بالمال؟» – «وما حاجتي للمال؟ أنا لست شخصًا متأنقًا مثلك. فيكفيني أقل قدر من الطعام والملبس. ويمكنني أن أغطي مثل هذه المصاريف من النقود التي أحصل عليها نظير كتبي ومن أصدقائي. أنا دائمًا ما أسافر في الدرجة الثالثة، وعند الذهاب إلى أمريكا سأسافر على ظهر السفينة.» كانت بساطة نارايان همشاندرا فريدة، وكانت تتماشى مع ما يتمتع به من صراحة. ولم يشُبْ تصرفاته أي كبرياء، ما عدا تقديره المفرط لقدرته ككاتب. كتبت الخطاب، وفي غضون يومين أو ثلاثة أيام وصل رد الكاردينال مانينج، وكان يحمل موعد مقابلته. وعليه، قمنا بزيارة الكاردينال. ارتديت حُلة الزيارات المعتادة، أما نارايان فارتدى — كعادته — نفس المعطف ونفس السراويل. حاولت أن أسخر منه، لكنه استهزأ بي قائلًا: «أنتم معشر المتمدنين جبناء. فالعظماء لا ينظرون إلى المظهر الخارجي للشخص وإنما ينظرون إلى قلبه.» دخلنا إلى قصر الكاردينال. ولم نكد نجلس، حتى خرج علينا سيد نحيف طويل القامة وصافحنا. فتقدم نارايان بالتحية قائلًا: «لا أريد أن أضيع وقتك. لقد سمعت الكثير عنك مما أشعرني بضرورة زيارتك والتوجه إليك بالشكر على كل ما قدمت إلى العمال المضربين. ويرجع سبب إزعاجي لك بهذه الزيارة إلى عادتي المتمثلة في زيارة حكماء العالم.» وبالطبع كانت هذه ترجمتي لما قاله باللغة الجوجراتية. فرد عليه الكاردينال قائلًا: «أنا مسرور بزيارتك. وأتمنى لك إقامة سعيدة في لندن، وأن تختلط بالناس هنا. فليباركك الرب!» ثم وقف وودعنا. فرد عليَّ قائلًا: «حسنًا، لقد ركضوا خلفي، لكنني لم آبه بهم، فسكتوا عني.» رحل نارايان إلى باريس بعد أن أمضى بضعة أشهر في لندن. فبدأ في دراسة اللغة الفرنسية، مع ترجمة الكتب الفرنسية في الوقت نفسه. وكنت أعلم من اللغة الفرنسية ما يؤهلني لمراجعة ترجمته، لذلك كان يعرض عليَّ تراجمه لكي أقرأها. ولم يكن ما يفعله ترجمة بمعنى الكلمة، بل كان ينقل فحوى النص. وأخيرًا، عزم نارايان على زيارة أمريكا. واستطاع بالكاد الحصول على تذكرة على ظهر سفينة. وقد حوكم في أمريكا بتهمة «ارتداء ملابس غير محتشمة» عندما خرج ذات مرة مرتديًا قميصًا ودهوتي. لكن بُرِّئَت ساحته، حسبما أذكر.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.23/
المعرض الضخم
أقيم معرض ضخم في باريس في عام ١٨٩٠م. وكنت قد قرأت عن تفاصيل الإعداد له، وكنت أرغب في مشاهدة باريس. فرأيت أن من الأفضل أن أجمع بين الأمرين وأذهب في ذلك الوقت، فأحضر المعرض وأشاهد باريس. وقد جذبني إلى المعرض بصورة خاصة برج إيفل الذي شُيد بأكمله من الحديد، وبلغ ارتفاعه ١٠٠٠ قدم. بالطبع كانت هناك أشياء أخرى جذبتني لزيارة باريس، لكن البرج كان أهمها، حيث إنه من المفترض عدم إمكانية ثبات أي بناء بذلك الارتفاع حتى ذلك الوقت. علمت أن هناك مطعمًا نباتيًّا في باريس، فحجزت غرفة ومكثت سبعة أيام. استطعت ترشيد مصروفاتي بصورة كبيرة سواء في رحلتي إلى باريس أو في زيارتي للمعالم السياحية هناك، فقد كنت أذهب إلى هذه المزارات السياحية سيرًا على الأقدام مستعينًا بخريطة باريس، التي استعنت بها للوصول إلى المعرض. فقد كانت مثل هذه الخرائط كافية لتدل الشخص على الشوارع الرئيسية والأماكن المهمة. في الواقع، لا أذكر عن المعرض إلا ضخامته وتنوعه. لكنني أذكر جيدًا برج إيفل نظرًا لأنني صعدته مرتين أو ثلاث. كان هناك مطعم بالطابق الأول، فأهدرت سبعة شلنات لمجرد نيل شرف القول: إنني تناولت غدائي على مثل هذا الارتفاع الشاهق. لا تزال صورة الكنائس القديمة بباريس مطبوعة في ذاكرتي، فهي تتمتع بفخامة وسكينة لا يمكن نسيانها. ولا يمكن نسيان روعة بناء كاتدرائية نوتردام والزخارف المتقنة للواجهة الداخلية للمبنى وما تحويه من نحوت جميلة. شعرت وقتها أن من ينفق هذه الملايين على مثل هذه الكاتدرائيات المقدسة لا يمكن أن يحتوي قلبه إلا على حب الإله. قرأت الكثير عن أزياء باريس وعبثها، وقد كان ذلك العبث جليًّا في كل شارع بها، لكن الكنائس كانت تقف بارزة بعيدة عن هذه المشاهد. فما إن يدخل المرء إحدى هذه الكنائس، حتى ينسى ما عاناه من ضوضاء وصخب خارجها. وسيجد تصرفاته مختلفة، فسيتصرف بوقار وتبجيل وهو يمر بأحد الأشخاص الراكعين أمام تمثال السيدة مريم العذراء. لقد ظل الشعور الذي أحسست به حينها يلازمني، حتى إنني موقن أن الركوع والصلاة ليسا مجرد خرافات، فلا أتخيل أن تكون تلك الأرواح المخلصة الراكعة أمام السيدة مريم تعبد مجرد تمثال من الرخام. لقد التهبت في قلوبهم نيران الإخلاص الحقيقي، فهم لا يعبدون الحجر وإنما الإله الذي يمثله هذا التمثال. شعرت حينها أنهم لا ينتقصون من عظمة الإله بهذا النوع من العبادة، وإنما يزيدون في تمجيده. وأرغب في أن أذكر ملحوظة حول برج إيفل. إلى الآن لا أعلم الغاية التي يستخدم البرج من أجلها، لكنني سمعت وقتها أن البعض مجده والبعض الآخر انتقده. وكان تولستوي أهم من انتقد تشييده. فقال: إن برج إيفل هو نصب تذكاري يخلد حماقة الإنسان لا حكمته. وزعم تولستوي أن التدخين هو أشر المسكرات؛ حيث إن مدمن التدخين يشرع في ارتكاب جرائم لا يجرؤ السكير أبدًا على اقترافها. فالخمر يجعل من الإنسان مجنونًا، أما التدخين فيحجب عقله ويجعله يبني قلاعًا في الهواء. برج إيفل هو نتاج الإنسان وهو تحت مثل ذلك التأثير. فما الفن الذي يمثله برج إيفل؟ لا يمكن القول بأنه أسهم في إضافة لمسة جمال حقيقية إلى المعرض. اندفعت حشود الناس لمشاهدة البرج وتسلقوه لأنه كان شيئًا جديدًا وفريدًا من حيث حجمه. فكان البرج اللعبة المسلية في المعرض التي ننجذب إليها ما دمنا أطفالًا. وقد كان البرج إثباتًا جيدًا لحقيقة كوننا جميعًا أطفالًا ننجذب إلى الألعاب. إن هذا هو الغرض من برج إيفل.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.24/
«عضو في النقابة»، وماذا بعد؟
لم أتطرق حتى الآن إلى الغرض الذي سافرت من أجله إلى إنجلترا، ألا وهو أن أصبح عضوًا في نقابة المحامين. والآن سأشير إلى هذه الجزئية بإيجاز. كان على الطالب أن يستوفي شرطين قبل أن يصبح محاميًا معترفًا به: أولهما، «الحفاظ على حضور الفصول الدراسية»، وهي اثنا عشر فصلًا دراسيًّا، وهو ما يعادل ثلاث سنوات. والشرط الثاني هو اجتياز الامتحانات. «الحفاظ على حضور الفصول الدراسية» كان يُقصد به حضور ست مآدب على الأقل من أصل أربعة وعشرين مأدبة في كل فصل دراسي، ولا يعني هذا ضرورة تناول الطعام، وإنما تسجيل الحضور في الأوقات المحددة والمكوث طوال مدة المأدبة. وبطبيعة الحال، كان الطلاب يأكلون أفضل أنواع الطعام الذي يُقدم ويتناولون أجود أنواع النبيذ. كانت الوجبة تتكلف من شلنين وستة بنسات إلى ثلاثة شلنات وستة بنسات، وهو ما يعادل روبيتين أو ثلاث روبيات. كانت هذه التكلفة معقولة، فالشخص يمكن أن يدفع المبلغ ذاته للحصول على النبيذ وحده في أي فندق. وقد يمثل هذا الأمر صدمة لنا، من غير «المتمدنين»، في الهند. فكيف تتجاوز تكلفة الشراب تكلفة الطعام؟ لقد صدمت بشدة عند علمي لأول مرة بهذا الأمر، وعجبت من الذين ينفقون كل هذه الأموال على الشراب، لكنني أدركت السبب فيما بعد. كثيرًا ما كنت أمتنع عن تناول أي أطعمة في هذه المآدب، ولكن كان من الممكن أن أتناول الخبز والبطاطس المقلية والكرنب فقط. في بادئ الأمر لم أتناول حتى هذه الأطعمة لأنني لم أشتهِها، لكن فيما بعد أصبحت أستسيغ طعمها، بل واتتني الشجاعة لطلب المزيد من ألوان الطعام. كان الطعام الذي يُقدم لأعضاء مجلس إدارة الجمعية القانونية أفضل من الطعام المقدم للطلبة، فقمت أنا وطالب بارسي بالتقدم بطلب للحصول على وجبات نباتية كتلك التي كانت تُقدم إلى أعضاء مجلس الإدارة، وتمت الموافقة على الطلب وبدأنا في تناول الفاكهة وغيرها من الخضروات من طاولة أعضاء المجلس. لم أدرك حينها أهمية إقامة هذه المآدب في تأهيل الطلبة على نحو أفضل للالتحاق بالنقابة. وفي وقت ما، كان يحضر هذه المآدب عدد قليل فقط من الطلبة، ولذا كانت هناك فرصة أكبر للتحدث إلى أعضاء مجلس الإدارة بالإضافة إلى إلقاء الخطب. وساعد هذا على اكتساب الطلبة معرفة عامة عن الحياة بصورة مهذبة ودقيقة، وساعد أيضًا على تحسين مهارات التحدث لديهم، لكن هذا لم يكن ممكنًا في الوقت الذي كنت أدرس فيه في جمعية القانون، فقد كان أعضاء المجلس وقتها يجلسون على طاولة منفصلة. وأخذت الجمعية تفقد أهميتها تدريجيًّا لكن إنجلترا المحافظة أبقت عليها. كان المنهج الدراسي سهلًا، وكان يطلق على المحامين استخفافًا «محامو المآدب». فكنا نعلم أن لا قيمة فعلية للامتحانات. وكنا نخضع وقتها إلى امتحانين، أحدهما في القانون الروماني والآخر في القانون العام. كان علينا مذاكرة كتب دراسية بعينها لاجتياز تلك الامتحانات، وكان من الممكن قراءتها كتابًا كتابًا، لكن نادرًا ما كان يقرؤها الطلبة. أعرف الكثير من الطلبة الذين استطاعوا اجتياز امتحان القانون الروماني بتصفح ملخصات دراسية تتناول المادة في أسبوعين، واجتياز امتحان القانون العام بالاطلاع على ملخصات تتناول الموضوع في شهرين أو ثلاثة أشهر. كانت أسئلة الامتحانات سهلة، وكان الممتحِنون كرماء للغاية، فكانت نسبة النجاح في امتحان القانون الروماني من ٩٥ إلى ٩٩٪، وأما في الامتحان النهائي فكانت النسبة تصل إلى ٧٥٪ أو ما يزيد على ذلك. وبذلك لم يكن هناك ما يدعو إلى الخوف من الإخفاق. وكانت الامتحانات تُعقد على أربع فترات في العام الدراسي وليس مرة واحدة. فلم يكن الأمر صعبًا. ومع كل ذلك، نجحت في الجمع بينها جميعًا. فرأيت أنه من الضروري أن أقرأ جميع الكتب الدراسية، وذلك لأن عدم قراءتي لها يعتبر خداعًا، وقد أنفقت الكثير من المال على هذه الكتب. قررت أن أقرأ القانون الروماني باللغة اللاتينية، وساعدني على ذلك ما تعلمت من اللغة اللاتينية استعدادًا لامتحان القبول بجامعة لندن. وقد عادت عليَّ هذه القراءات بعظيم النفع عندما رحلت إلى جنوب أفريقيا، حيث كان القانون الروماني الهولندي هو القانون العام. وساعدتني قراءة قوانين الإمبراطور جستنيان الأول على استيعاب قانون جنوب أفريقيا. اجتزت الامتحانات، وأصبحت عضوًا في النقابة في العاشر من يونيو/حزيران ١٨٩١م، وأدرجت اسمي في المحكمة العليا في الحادي عشر من نفس الشهر. وفي يوم الثاني عشر، أبحرت عائدًا إلى الوطن. ومع دراستي في إنجلترا، لم أستطع وضع حد لعجزي وخوفي. فشعرت بأنني غير مؤهل لممارسة المحاماة. أما ذلك العجز فيحتاج فصلًا كاملًا لتناوله.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/1.25/
عجزي
لم يكن من الصعب الالتحاق بالنقابة، لكن المشكلة كانت تتمثل في ممارستي للمهنة، فقد قرأت القوانين، لكنني لم أتعلم كيف أمارس المحاماة. وقرأت أيضًا «أحكام القانون»، لكنني لم أتعلم كيفية تطبيقها عمليًّا، ومن هذه الأحكام: «يحق للشخص استخدام ملكيته، شريطة ألا يضر بملكية الغير.» لكنني لم أعرف كيف أستغل هذا الحكم لصالح موكلي. وقرأت جميع القضايا الرئيسية المتعلقة بهذا الحكم، إلا أن ذلك لم يمنحني الثقة بتطبيقه في الحياة المهنية. إضافة إلى ذلك، لم أكن أعلم شيئًا عن القانون الهندي، فلم يكن لديَّ أدنى فكرة عن القانون الهندوسي أو الشريعة الإسلامية، ولم أتعلم حتى كيفية رفع الدعوى. وكنت أشعر كأني غريق في بحر خضم. سمعت أن السيد فيروزشاه ميهتا من المحامين الذين يزأرون كالأسود في قاعة المحكمة. تعجبت كيف استطاع أن يتعلم التحدث بهذه الفصاحة في إنجلترا! كان يستحيل أن أكتسب مثل خبرته القانونية، لكن ساورتني الهواجس حول ما إذا كنت سأتمكن من كسب عيشي بممارسة مهنة المحاماة أم لا. لقد أعيتني هذه الهواجس والظنون وكنت لا أزال أدرس القانون، أسررت بهذه العقبات إلى بعض أصدقائي، فاقترح عليَّ أحدهم طلب النصيحة من السيد دادبهاي ناوروجي. ذكرت سابقًا في أحد الفصول أنه عند ذهابي إلى إنجلترا كنت أحمل خطاب توصية إلى السيد دادابهاي، لكنني استخدمته في مرحلة متأخرة، فقد اعتقدت أنه لا يصح أن أزعج مثل ذلك الرجل العظيم بمقابلتي. وكنت كلما سمعت عن إلقائه لكلمة، ذهبت واستمعت إليه من أحد أركان القاعة، ثم أرحل بعد أن أملي نظري ومسامعي منه. وقد أنشأ السيد دادابهاي جمعية ليتقرب من الطلبة، واعتدت حضور اجتماعاتها، وأسعدني اهتمام السيد دادابهاي بالطلبة، واحترام الطلبة له. وبمرور الوقت، واتتني الشجاعة لأقدم له خطاب التوصية، فقال لي: «يمكنك طلب النصيحة مني وقتما شئت.» لكنني لم أستغل هذا العرض مطلقًا. فقد كنت أرى أنه من غير اللائق أن أزعجه دون ضرورة ملحة. وهكذا، لم أجرؤ على المخاطرة بقَبول اقتراح صديقي بعرض العقبات التي أواجهها على السيد دادابهاي في ذلك الوقت. ولا أذكر إذا كان صديقي هذا نفسه أو صديق غيره هو الذي نصحني بمقابلة السيد فريدريك بينكت الذي كان من المحافظين، ومع ذلك كان ولعه بالطلبة الهنود خالصًا ويتسم بالإيثار. كان العديد من الطلاب يلجئون إليه طالبين النصيحة، وقد طلبت مقابلته، فوافق، لا أستطيع أن أنسى أبدًا هذه المقابلة. فقد استقبلني كواحد من أصدقائه، وصرف عني شقائي بالضحك. قال لي: «هل تعتقد أنه يجب أن يكون جميع الناس مثل فيروزشاه ميهتا؟ إن أمثال فيروزشاه وبدر الدين قلما تجدهم. تأكد من أن الأمر لا يستلزم مهارة فائقة لتصبح محاميًا متوسط المستوى، فيكفي النزاهة والمثابرة كي تكسب رزقك، وتأكد أنه لا توجد قضايا معقدة. حسنًا، أطلعني على قراءاتك.» رأيت في عينيه خيبة أمل عندما أخبرته بحجم قراءاتي المتواضع. ولكن ما هي إلا لحظات حتى أشرق وجهه بابتسامة مشعة قائلًا: «أنا أدرك مشكلتك، فقراءاتك العامة ضئيلة، ولا تعرف شيئًا عن العالم من حولك، وهذا عنصر أساسي يجب أن يتحلى به كل محام. أنت لم تقرأ حتى عن تاريخ الهند. يجب أن يكون المحامي عالمًا بالطبيعة البشرية، وأن يكون قادرًا على قراءة الشخص من مجرد النظر إلى وجهه. ويجب على كل هندي أن يعرف تاريخ بلاده، وهو الأمر الذي لا يتعلق بممارسة المحاماة، وإنما معرفة عامة يجب أن تحيط بها. أرى أنك لم تقرأ حتى تاريخ «ثورة ١٨٥٧م» لكاي وماليسون. ابدأ على الفور في قراءة ذلك الكتاب، بالإضافة إلى كتابين آخرين لتفهم الطبيعة البشرية.» وقد كان الكتابان هما كتابا لافاتور وشيميلبينيك حول علم الفراسة. كنت ممتنًا للغاية لهذا الصديق الجليل، فكانت تذهب عني جميع مخاوفي وهو معي، لكن ما إن أتركه حتى تعود. وفي طريق عودتي إلى المنزل وأنا أفكر في الكتابين طاردتني عبارة «قراءة الشخص من مجرد النظر إلى وجهه». في اليوم التالي، اشتريت كتاب لافاتور، لكنني لم أستطع شراء كتاب شيميلبينيك لأنه لم يكن متاحًا في المتجر. عندما قرأت كتاب لافاتور وجدته أكثر صعوبة من كتاب سنيل «المساواة»، وغير مشوق إلى حد بعيد. درست فراسة شكسبير، إلا أنني لم أستطع اكتساب مهارة اكتشاف سبب هيامه في شوارع لندن. لم يضف كتاب لافاتور إلى معلوماتي. فنصيحة السيد بينكت لم تقدم لي مساعدة مباشرة، لكن عطفه ساعدني كثيرًا. طُبعت في ذاكرتي طلعته البشوشة ووجهه الباسم، وآمنت بنصيحته حين أخبرني أن فراسة السيد فيروزشاه ميهتا نادرة، وأنه ليس من الضروري التمتع بالذاكرة والقدرة، بل النزاهة والمثابرة يكفيان لصناعة محام ناجح. وقد شعرت ببعض الطمأنينة نتيجة لتوافر هاتين الصفتين فيَّ. لم أتمكن من قراءة كتب كاي وماليسون في إنجلترا، لكنني تمكنت من ذلك في جنوب أفريقيا حيث جعلتها من أولوياتي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.1/
رايشاندباي
ذكرت في الفصل السابق أن البحر كان مضطربًا في ميناء بومباي، وهو أمر كثيرًا ما يحدث في بحر العرب في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز. وكان البحر متلاطم الأمواج طوال الطريق من ميناء عدن. عانى جميع الركاب تقريبًا دوار البحر ما عداي. فقد كنت على ظهر السفينة أراقب الموج العاصف، وأستمتع برذاذ الأمواج. في وقت الإفطار، كنت أجد واحدًا أو اثنين فقط من الركاب يتناولون عصيدة الشوفان المجروش ويمسكون الأطباق بحذر خشية أن تنسكب العصيدة. كانت هذه العاصفة الخارجية رمزًا للعاصفة التي اجتاحتني من الداخل، ويمكنني القول: إن تلك العاصفة الداخلية عجزت عن زعزعتي، وهو ما عجزت عنه العاصفة الخارجية أيضًا. فقد كان عليَّ مواجهة الطائفة، وكان هناك مشكلة البدء في ممارسة المحاماة، التي سبق أن أشرتُ إلى عجزي عنها. ونظرًا لولعي بالإصلاح وممارستي لدور المصلح، ألقيت على كاهلي أعباء ثقيلة لإنجاز بعض الإصلاحات. لكن هذا لم يكن كل شيء، فلقد كان القدر يخبئ لي في جعبته أحداثًا تخطت جميع توقعاتي. حضر أخي لاستقبالي على رصيف الميناء، فتعرف إلى الطبيب ميهتا وأخيه الأكبر. أصر الدكتور ميهتا على استضافتي في منزله، فذهبنا جميعًا إلى هناك. وهكذا، استمرت الصداقة التي بدأت في إنجلترا وتطورت حتى صارت صداقة دائمة بين العائلتين. قدمني الدكتور ميهتا إلى العديد من الأصدقاء، من ضمنهم أخيه شري ريفاشانكار جاجيفان الذي نشأت بيني وبينه صداقة استمرت مدى الحياة. ومن أهم من قدمني إليهم الدكتور ميهتا هو الشاعر رايشاند أو راجشاندرا، وهو صهر أحد إخوة الطبيب ميهتا الكبار وشريك في شركة تجارة الجواهر التي كانت تحمل اسم ريفاشانكار جاجيفان. لم يكن رايشاند قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره آنذاك، لكنني كنت على قناعة تامة منذ أول لقاء لنا أنه رجل ذو شخصية عظيمة وعلم واسع. وكان يعرف باسم «شاتافاداني» (من يمتلك ملكة تذكر الكثير من الأشياء في وقت واحد)، واقترح عليَّ الدكتور ميهتا أن أختبر بعض مهارات الذاكرة التي يتمتع بها، فتحدثت مستنفدًا جميع ما لديَّ من مفردات في جميع اللغات الأوروبية التي أعرفها، ثم طلبت من رايشاند أن يكررها، وكان من المذهل حقًّا أنه أعادها بنفس الترتيب الذي تلوتها به. لقد غبَطته على موهبته لكن دون الافتتان بها. كان ما أذهلني حقًّا هو إلمامه الواسع بالكتب المقدسة وشخصيته النقية وعاطفته المتوهجة لتحقيق الذات. وقد اكتشفت فيما بعد أن هدفه الأوحد في الحياة كان تحقيق الذات. كان دائمًا ما يردد الأبيات التالية للحكيم موكتاناند: بلغت معاملات رايشاندباي التجارية مئات الآلاف حيث كان يعمل خبيرًا في اللؤلؤ والماس، ولم تكن تستعصي عليه أي مشكلة في العمل. لكن كل هذا لم يكن المحور الرئيسي لحياته، إنما كان رؤية الإله وجهًا لوجه. تجد باستمرار — ضمن ما تجد من متعلقات على طاولته — بعض الكتب الدينية ودفتر مذكراته. وكان كلما انتهى من العمل اطلع على هذه الكتب الدينية أو فتح دفتر مذكراته. وتعد معظم كتاباته المنشورة نسخة طبق الأصل من هذه المذكرات. الشخص الذي يبدأ في الكتابة عن جوانب الروح الخفية مباشرة بعد أن ينهي حديثه عن الأعمال التجارية الضخمة، لا يمكن أن يكون رجل أعمال على الإطلاق، بل هو باحث عن «الحقيقة». وهكذا كنت أراه مستغرقًا في السعي خلف الحقائق الإلهية في غمرة الأعمال التجارية، وليس لمرة أو مرتين فحسب بل في أغلب الأحيان. ولم أرَ رايشاندباي يفقد توازنه قط. كانت تربطني به علاقة قوية مع عدم وجود أي منفعة شخصية أو تجارة بيننا تلزمه بالحفاظ على علاقته بي. كنت في ذلك الوقت لا أزال محاميًا بلا موكلين، وكان كلما رآني حدثني عن مسألة دينية، وكنت لا أزال أتخبط حينها ولم يكن لديَّ أي اهتمام حقيقي بالمناقشات الدينية، لكنني مع ذلك وجدت حديثه مشوقًا. ومنذ ذلك الحين قابلت عددًا من الزعماء والمعلمين الدينيين. وحاولت لقاء زعماء الكثير من الديانات، لكنني مع ذلك لم أتأثر بأي منهم مثلما تأثرت برايشاندباي، لقد مستْ كلماته شغاف قلبي. ولقد شعرت بالإجلال العظيم لفكره بنفس القدر الذي شعرت به نحو التزامه الأخلاقي. وكان لديَّ إيمان راسخ بداخلي أنه لن يضللني، وأنه سيفضي إليَّ بأعمق أفكاره. ومن ثَمَّ، كان هو ملجئي في أوقات الأزمات الروحانية. ومع كل هذا الإجلال الذي كنت أكنه له، لم أستطع أن أتخذه معلمًا روحيًّا (جورو)، فقد ظل العرش المخصص لمعلمي الروحي في قلبي شاغرًا واستمر بحثي. أنا أؤمن بالنظرية الهندوسية التي تتناول فكرة المعلم الروحي وأهميته في الإدراك الروحاني، وأعتقد أن المذهب الذي يقول إن المعرفة الحقيقية مستحيلة دون وجود معلم روحي ينطوي على الكثير من الصحة. فيمكن أن يتسامح المرء إذا ما وجد معلمًا متواضعًا للأمور الدنيوية، إلا أنه لا مجال للتسامح عند التطرق إلى الأمور الدينية. فلا يستحق أن يعتلي عرش المعلم الروحي إلا معلم مثالي. ولذلك يجب أن يكون هناك سعي دائم خلف الكمال حتى يجد المرء المعلم الروحي الحق. والسعي اللانهائي خلف الكمال هو حق للجميع، وهو الجزاء الذي ينتظرونه. أما ما تبقى فهو بيد الإله.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.2/
كيف بدأت حياتي
لم أحاول قط الحصول على قبول المجموعة التي رفضت قبول عودتي. ولم أشعر حتى بالاستياء تجاه أي من زعماء تلك المجموعة. ومع أن بعض هؤلاء الزعماء قابلوني ببغض، حرصت على ألا أجرح مشاعرهم. احترمت أحكام الطائفة التي تتناول العزل تمامًا. وبموجب هذه الأحكام، لا يمكن لأي من أقربائي استضافتي، ولا سيما والد ووالدة زوجتي، وحتى أختي وزوجها، فلا يمكنني حتى أن أتناول كوبًا من الماء في منزل أي منهم. وكان أقربائي مستعدين لمساعدتي سرًّا وتجنب الحظر، لكنني لم أشأ أن أفعل في السر ما لا أستطيع فعله في العلانية. ساعدني تصرفي هذا في عدم تعرض الطائفة لي قط، بل إنني حزت إعجاب وكرم غالبية المجموعة التي كان أعضاؤها لا يزالون يعتبرونني معزولًا. بل إن هؤلاء ساعدوني في عملي دون توقع مقابل يعود مني على الطائفة. أعتقد أن كل هذه الأشياء الطيبة ترجع لعدم مقاومتي لقرارهم، فلو كنت ثرت من أجل إعادتي للطائفة أو حاولت شقها إلى أقسام أو استثرت رجالها، لسعوا للانتقام مني. وحينها كنت سأجد نفسي عند عودتي من إنجلترا وسط دوامة من الاهتياج وربما طرفًا في خداع بدلًا من تجنب العاصفة. لم تصبح علاقتي بزوجتي كما كنت أتمنى. فحتى إقامتي في إنجلترا لم تطفئ نيران الغيرة التي تلتهب بداخلي. فاستمرتْ وساوسي وشكوكي فيما يتعلق بكل التفاصيل الصغيرة، ومن ثَمَّ ظلت الأماني التي كنت أنشدها مجرد آمال، فقررت أن تتعلم زوجتي القراءة والكتابة، وأن أساعدها في دراستها، لكن شهوتي حالت دون ذلك، فكان عليها أن تعاني جراء ضعفي. ذات مرة مددت مدة إقامة زوجتي لدى والديها، ولم أوافق على عودتها إلى المنزل إلا بعد أن أجعلها تشعر بالأسى التام، وقد اكتشفت بعد ذلك أن كل ما كنت أفعل إنما هو حماقة مني. سعيت إلى إحداث إصلاح في مجال تعليم الأطفال، فكان لدى أخي أطفال وكان ابني الذي تركته عندما ذهبت إلى إنجلترا قد ناهز الرابعة حينها، وأردت أن أعلم هؤلاء الصغار التدريبات البدنية وأن أجعلهم أقوياء، بالإضافة إلى مساعدتهم بتوجيهي الشخصي، وقد أعانني أخي على ذلك، فنجحت في مسعاي بقدر ما. وكنت أحب رفقة الأطفال، وها هي عادة اللعب والمزاح معهم تلازمني حتى وقتنا هذا، ومنذ ذلك الحين، اعتقدت أنه يمكنني أن أكون معلمًا جيدًا للأطفال. وكانت هناك حاجة ملحة «للإصلاح» الغذائي، كان المنزل يحوي الشاي والقهوة بالفعل، ورأى أخي أنه يجب أن يوفر لي نوعًا من المناخ الإنجليزي عند عودتي، ومن ثَمَّ أصبح استخدام الآنية الفخارية وغيرها من الأشياء التي كنا نستخدمها فقط في المناسبات الخاصة أمرًا مألوفًا، لكن «إصلاحاتي» أضافت اللمسة الأخيرة، فقدمت عصيدة الشوفان المجروش واستبدلت الكاكاو بالشاي والقهوة، لكنه في الواقع أصبح إضافةً إلى الشاي والقهوة. وكان استخدام الأحذية والأحذية طويلة الرقبة شائعًا بالفعل، لكنني أكملتُ إضفاء صبغة الحياة الأوروبية بإضافة الزي الأوروبي. أدى كل ذلك إلى زيادة نفقاتنا، وكان هناك أشياء جديدة تضاف يومًا بعد يوم، ولا عجب إذ إننا قد أسرفنا في النفقات، أو كما يُقال ربطنا فيلًا أبيض على باب منزلنا، ولكن من أين لنا أن نسدد تلك النفقات؟ إن بداية ممارسة المحاماة في راجكوت ستعتبر بلا شك أمرًا سخيفًا. فلم أكن أمتلك إلا معرفة ضئيلة بالنسبة لمحام مؤهل، ومع ذلك كنت أنتظر تلقي مقابل أتعاب يصل إلى عشرة أضعاف أتعابه! لا يمكن أن يوجد موكل بهذه الحماقة كي يوكلني، وفي حالة وجود مثل هذا الموكل، فهل أضيف إلى جهلي الغطرسة والخداع، وأزيد من الدَّين الذي أدين به إلى العالم؟ نصحني الأصدقاء بالذهاب إلى بومباي لبعض الوقت كي أكتسب الخبرة بالمحكمة العليا، وكي أدرس القانون الهندي وأحصل على أكبر قدر من القضايا، فأخذت بهذه النصيحة ورحلت إلى بومباي. كنت أخاطبه قائلًا: «حسنًا رافيشانكار، يمكن أن تكون جاهلًا بكيفية الطبخ، لكنك بالطبع تعرف «السانديا» (الصلاة اليومية) وغيرها.» – «السانديا يا سيدي! المحراث هو السانديا التي نعرفها والمجرفة هي صلاتنا اليومية، فهذا هو النوع الذي أنتمي إليه من البراهمة. أنا أعيش على خدمتك أو أعمل بالزراعة.» وهكذا كان عليَّ أن أصبح معلم رافيشانكار، وكان لديَّ متسع من الوقت، فكنت أقوم بنصف أعمال الطهي وأطلعه على فن الطبخ النباتي الذي تعلمته في إنجلترا. اشتريت فرنًا وبدأت في إدارة المطبخ بمساعدة رافيشانكار، ولم يكن لديَّ ولا لديه هواجس طبقية تحول دون تناول الطعام سويًا، وهكذا استطعنا التواصل بصورة جيدة. والمشكلة الوحيدة التي واجهتنا هي أن رافيشانكار كان قد أقسم على أن يظل متسخًا وأن يحافظ على الطعام غير نظيف! لم أستطع البقاء في بومباي لما يزيد على أربعة أو خمسة أشهر نظرًا لأن العائد الذي كنت أجنيه لم يكن متناسبًا مع النفقات المتزايدة باستمرار. هكذا بدأت حياتي. وجدت أن مهنة المحاماة سيئة، فقد كانت استعراضًا أكثر منها معرفة، وقد شعرت بلعنة المسئولية الملقاة على كاهلي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.3/
القضية الأولى
أثناء إقامتي في بومباي، بدأت دراسة القانون الهندي من جهة، ومن جهة أخرى بدأت تجاربي الغذائية التي انضم إليَّ فيها صديقي فيرشاند غاندي. أما أخي، فقد كان يبذل كل ما في وسعه كي يحصل لي على موكلين. وكان تعلم القانون الهندي مسألةً مملة، فلم أستطع أن أتقدم في دراسة قانون الإجراءات المدنية، على عكس قانون الإثبات. كان فيرشاند غاندي يذاكر من أجل اجتياز امتحان المحاماة، فكان يخبرني بشتى القصص عن المحامين، وكان يقول: «إن براعة السيد فيروزشاه تكمن في معرفته العميقة بالقانون، فهو يحفظ قانون الإثبات عن ظهر قلب ويعرف جميع القضايا الواردة في القسم الثاني والثلاثين. أما بدر الدين طيابجي، فيدهش القضاة بقوته الجدلية المذهلة.» كانت القصص عن مثل هؤلاء المحامين تثبط من عزيمتي. وكان يستطرد قائلًا: «ليس من الغريب على المحامي المعتمد من النقابة أن يظل لخمس أو سبع سنوات دون عمل. وهذا هو ما جعلني ألتحق بالتدريب على المحاماة. سوف تكون محظوظًا إن استطعت أن تستقل ماليًّا في ثلاث سنوات.» كانت المصاريف تتزايد شهرًا بعد شهر. لم أستطع تحمل أن يُنظر إليَّ كمحامٍ خارج المنزل، في حين لا أزال أعد نفسي لأكون محاميًا داخله. لهذا لم أستطع أن أخصص اهتمامي كله لدراستي. نما لديَّ شغف بقانون الإثبات وقرأت كتاب ماين «القانون الهندي» باهتمام بالغ، لكن مع هذا كله لم تُواتِني الجرأة كي أتولى أي قضية. وكنت أشعر بعجز تام كالذي تشعر به العروس في أول يوم لها في بيت زوجها. فأجبت قائلًا: «أنا لست في حاجة إلى أن أصبح مثل هؤلاء المحامين. يكفيني أن أجني ٣٠٠ روبية شهريًّا، فوالدي لم يكن يتحصل على أكثر من هذا.» فقال لي أحدهم: «كان هذا فيما مضى، أما الآن فقد زادت تكاليف المعيشة في بومباي للغاية، ويجب أن تنظر إلى الأمور نظرة عملية.» تمسكت بموقفي، ولم أدفع العمولة، ومع ذلك، حصلت على قضية ذلك الموكل من ممباي. كانت القضية بسيطة، وتقاضيت عنها ٣٠ روبية، ولم تستغرق مني القضية أكثر من يوم. كان هذا أول مثول لي أمام محكمة المطالبات الصغيرة، وكنت المحامي الموكل عن المدعى عليها، وكان عليَّ استجواب شاهد الادعاء، وما إن وقفت حتى شعرت باضطراب جَم، كانت رأسي تدور، وشعرت كأن القاعة بأسرها تدور معها، ولم أستطع التفكير في أي سؤال لأوجهه للشاهد. ضحك القضاة بلا شك، واستمتع المحامون بالمشهد. لكنني كنت قد فقدت القدرة على الرؤية بوضوح، فجلست في مقعدي ونصحت موكلتي باسترداد أتعابها وتوكيل السيد باتل، الذي قبل القضية نظير ٥١ روبية. وبالطبع، كانت القضية بالنسبة له شيئًا لا يذكر. وهرعت خارجًا من المحكمة دون أن أعلم هل ربحت موكلتي القضية أم خسرتها. وشعرت بالخزي وقررت ألا أقبل أي قضية أخرى حتى أتحلى بالشجاعة الكافية. وبالفعل لم أذهب إلى قاعة المحكمة مجددًا إلا بعد رحيلي إلى جنوب أفريقيا. ولم يعد عليَّ قراري هذا بأي نفع، لكنني وبكل بساطة حاولت أن أكون واقعيًّا. فما من أحمق سيوافق على توكيلي بقضية، ليخسرها. كانت هناك قضية أخرى في انتظاري في بومباي، وكان عليَّ أن أكتب مذكرة حول أرض جرى مصادرتها في بورباندار يمتلكها أحد المسلمين، لقد حدثني موكلي كما يحدث الوالد الجليل ابنه، ومع أن قضيته بدت واهية، فقد وافقت على صياغة المذكرة من أجله، وتحمل هو تكاليف الطباعة. كتبت المذكرة ثم قرأتها على بعض الأصدقاء، فأثنوا عليها، وجعلني هذا الثناء أشعر بالثقة بمقدرتي على كتابة المذكرات، وقد كنت قادرًا على ذلك بالفعل. كان يمكن أن يزدهر عملي لو ركنت إلى كتابة المذكرات دون تلقي أية أتعاب، لكن هذا لن يدر عليَّ أي أرباح، لذلك فكرت في أن أشتغل بالتدريس. كانت معرفتي باللغة الإنجليزية جيدة إلى حد بعيد، وكنت أفضل أن أدرسها لطلبة المدارس الذين يرغبون في الالتحاق بالجامعة، وبذلك استطعت أن أغطي جزءًا من نفقاتي. وقعت عيني على إعلان في الصحيفة، ورد فيه: «مطلوب مدرس لغة إنجليزية للعمل لمدة ساعة يوميًّا، براتب ٧٥ روبية.» وكان صاحب الإعلان مدرسة ثانوية مشهورة، فتقدمت إلى الوظيفة وطُلب مني إجراء مقابلة شخصية، فذهبت بمعنويات مرتفعة، لكن مدير المدرسة لم يقبلني في الوظيفة آسفًا عندما علم أنني لم أتخرج بعد. فقلت له: «لكنني اجتزت امتحان القَبول بجامعة لندن، وكانت اللاتينية لغتي الثانية.» فأجابني: «هذا صحيح، لكننا في حاجة إلى شخص يحمل شهادة جامعية.» لم أجد أي حلول أخرى، فشعرت باليأس، وشعر أخي بالقلق، ثم توصلت أنا وأخي في النهاية إلى أنه لا طائل في بقائنا في بومباي مدة أطول. فينبغي أن أستقر في راجكوت، حيث يعمل أخي محاميًا صغيرًا، فقد يستطيع أن يكلفني ببعض المهام المتمثلة في تحرير العرائض والمذكرات. ونظرًا لوجود منزل قائم بالفعل في راجكوت، فذلك سيساعد على توفير الكثير من المال عند ترك منزل بومباي. وهكذا قبلت بالاقتراح وأغلقت مكتبي الصغير بعد قضاء ستة أشهر في بومباي. كنت قد اعتدت الذهاب للمحكمة العليا يوميًّا طوال مدة إقامتي في بومباي، ولكنني لم أتعلم شيئًا. فلم أكن أمتلك المعرفة الكافية كي أستزيد من العلم. وكنت كثيرًا ما أعجز عن متابعة القضايا وأغفو. وكان آخرون يعانون ما أعانيه، الأمر الذي خفف عني وطأة الخجل. وبمرور الوقت، فقدت الإحساس بالخزي تمامًا وتعلمت أن أنظر إلى الغفوة في المحكمة العليا على أنها أمر عادي. إذا كان الجيل الحالي يعاني وجود محامين بلا موكلين كما كنت في بومباي، فأنا أقدم إليهم نصيحة عملية صغيرة عن الحياة. ومع أنني كنت أعيش في مدينة جيرجاوم، كنت نادرًا ما أستقل القطار أو الترام، فقد جعلت من عادتي السير إلى المحكمة العليا، وكانت المسافة تستغرق قرابة خمس وأربعين دقيقة، وبالطبع كنت أعود إلى المنزل سيرًا على الأقدام، فجعلت نفسي تعتاد حرارة الشمس، واستطعت أن أوفر مبلغًا كبيرًا من المال بالسير إلى المحكمة ذهابًا وإيابًا. وذلك بالإضافة إلى حمايتي من الأمراض في حين كان الكثير من أصدقائي يصابون بها. لم أتوقف عن عادة السير هذه حتى بعد أن توافر لديَّ المال الوفير، فقد استمررتُ في السير من وإلى المكتب، وحتى الآن لا أزال أحصد ثمار تلك العادة المثمرة.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.4/
الصدمة الأولى
تركت بومباي يائسًا، واتجهت إلى راجكوت لتأسيس مكتبي الخاص، وهناك أخذت أتقدم على نحو معتدل، لقد عادت عليَّ كتابة العرائض والمذكرات بمتوسط ربح يصل إلى ٣٠٠ روبية شهريًّا. ويرجع الفضل في حصولي على ذلك العمل إلى نفوذ شريك أخي أكثر منه إلى كفاءتي، فقد كان لدى شريك أخي عمل مستقر، لكنه كان يرسل جميع العرائض والمذكرات وغيرها الخاصة بشخصيات ذات شأن أو التي يراها ذات أهمية إلى كبار المحامين، أما أنا فقد كنت أكتب العرائض الخاصة بموكليه من الفقراء. يجب أن أعترف بأنني كنت مضطرًّا للتنازل بعض الشيء فيما يتعلق بأمر العمولة التي رفضت أن أدفعها في بومباي، أخبرني البعض أن الأمر يختلف في الحالتين، ففي حين كانت العمولة تُدفع إلى سماسرة القضايا في بومباي، فهي تُدفع هنا إلى المحامين الذين يسندون إليك القضايا. وقيل لي إن جميع المحامين هنا، دون استثناء، يدفعون نسبة من أتعابهم كعمولة. كانت مناقشة أخي لي في هذا الأمر مفحمة، فقال لي: «ألا ترى أن لديَّ شريكًا آخر، وسوف أميل دائمًا إلى أن أعهد إليك بجميع القضايا التي يمكنك التعامل معها، وسيضعني امتناعك عن دفع العمولة في موقف حرج أمام شريكي، ولأننا نشترك معًا في معيشة واحدة، فإن أتعابك تعد دخلًا مشتركًا لكلينا، وأنا أحصل تلقائيًّا على نصيب منها، لكن أين نسبة شريكي؟ ألن يحصل على عمولته إذا ما أسند القضية إلى محام آخر؟» اقتنعت برأي أخي، وشعرت بأنه إذا كنت سأمارس المحاماة فلا يمكن أن أفرض مبادئي التي تتعلق بالعمولات في هذه القضايا. هكذا أقنعت نفسي، أو دعني أقول خدعت نفسي. ويجب أن أشير هنا إلى أنني لا أذكر دفع أي عمولة في أي قضية أخرى. ومع نجاحي في الجمع بين الأمرين، حدثت لي أول صدمة في حياتي في ذلك الوقت. كثيرًا ما سمعت عن الضباط الإنجليز لكنني لم أقابل أحدهم وجهًا لوجه من قبل. كان أخي يعمل سكرتيرًا ومستشارًا لأمير بورباندار الراحل قبل أن يعتلي العرش، وكان ما يقض مضجع أخي حينذاك اتهامه بإعطاء مشورة خاطئة أثناء شغله لتلك الوظيفة، وصل الأمر إلى المعتمد البريطاني الذي كان متحاملًا ضد أخي، لقد كنت أعرف ذلك الضابط عندما كنت في إنجلترا، وكان يعاملني بلطف إلى حد بعيد، فرأى أخي أن أستفيد من تلك المعرفة وأن أحاول أن ألفت نظره إلى خطأ تحامله عليه، لم ترق لي تلك الفكرة بالمرة؛ فلا ينبغي لي استغلال معرفة سطحية نشأت في إنجلترا، وما النفع من تزكيتي لأخي لدى المعتمد البريطاني إن كان مذنبًا؟ وإذا كان بريئًا، فعليه أن يقدم التماسًا باتباع الإجراءات المعتادة ويرى ما تسفر عنه الإجراءات، لم ترق هذه النصيحة لأخي. فقال لي: «أنت لا تعلم شيئًا عن الحياة في كاثياوار، ولم تعرف حقيقة العالم بعد؛ فالنفوذ وحده له قيمة هنا، ولا يصح أن تتهرب من واجبك كأخ لي، في حين يمكنك تزكيتي لدى ضابط، لك سابق معرفة به.» لم أستطع أن أخذل أخي، فذهبت إلى الضابط على مضض، وكنت أعلم أنه لا يحق لي أن أذهب إليه، وكنت على دراية كاملة بأن هذا يُعد تنازلًا عن احترامي لذاتي، لكنني طلبت مقابلته، وبالفعل ذهبت إليه. حينما جلست معه، أخذت أذكره بمعرفتنا القديمة، ولكن سرعان ما أدركت أن كاثياوار تختلف تمامًا عن إنجلترا، وأن شخصية الضابط تختلف عندما يكون في الخدمة عنها في الحياة اليومية. تذكر المعتمد السياسي البريطاني علاقتنا وأقرها، ولكن ما أخبرته به بعدها جعله يتجمد في مكانه، وكأن لسان حاله يقول: «لا أظن أنك أتيت إلى هنا كي تستغل معرفتك بي، أليس كذلك؟» ومع ذلك، عرضت عليه مشكلة أخي، لكنه كان نافد الصبر. قال لي: «إن أخاك متآمر. لا أريد أن أسمع المزيد، فليس لديَّ متسع من الوقت. إذا كان لدى أخيك أي أقوال يريد أن يدلي بها، فليفعل ذلك عن طريق الإجراءات المتبعة.» كانت إجابته وافية وكنت أستحقها، ولكن أنانيتي عصبت عيني، فاستمررت في رواية قضيتي، فقام المعتمد السياسي من مجلسه وقال: «يجب أن تنصرف على الفور!» فأجبته: «أرجوك، استمع إليَّ.» لكن ردي زاد من غضبه، فاستدعى أحد الحراس وطلب منه أن يخرجني. كنت لا أزال مترددًا عندما دخل الحارس ووضع يده على كتفي وأخرجني من الغرفة. انصرف كل من المعتمد السياسي والحارس، ورحلت وأنا أستشيط غضبًا. فكتبت على الفور رسالة مفادها: «لقد أهنتني، وجعلت الحارس يعتدي عليَّ، وإذا لم تصلح ما حدث، فسأضطر إلى مقاضاتك.» لقد كنت وقحًا في حديثك معي، وقد طلبت منك الانصراف فلم ترضخ لطلبي، ولم يكن هناك بد من أن أطلب من الحارس أن يخرجك، وحتى عندما طلب منك الحارس الانصراف، رفضت، فما كان منه إلا أن استخدم القوة اللازمة لإخراجك، ولك مطلق الحرية في مقاضاتي. عدت أحمل هذا الرد في جيبي وأجر ذيول خيبة الأمل، فشعر أخي بالحزن عندما قصصت عليه ما حدث، ولكنه لم يدر ماذا عساه أن يفعل لمواساتي، فتحدث أخي إلى أصدقائه من المحامين لعدم معرفتي بكيفية مقاضاة المعتمد السياسي، وتصادف وجود السيد فيروزشاه ميهتا في راجكوت في ذلك الحين لحضور قضية ما، ولكن كيف لمحام مبتدئ مثلي أن يقابله؟ فبعثت له بأوراق القضية مع الوكيل الذي أوكل له القضية، ورجوته أن يشير عليَّ في أمري، فأجاب ذلك الوكيل قائلًا: «أبلغ غاندي بأن ما حدث له أمر يتعرض له الكثير من المحامين، إنه حديث الوصول من إنجلترا وسريع الغضب، ولا يعرف طبيعة الضباط الإنجليز. أخبره أن يمزق الورقة ويسكت عن الإهانة إذا كان يريد أن يكسب رزقه هنا ويعيش دون مشاكل؛ فلن تعود مقاضاة المعتمد السياسي عليه بشيء، بل على العكس سوف تدمره. وأخبره أنه ما زال أمامه الكثير ليتعلمه عن الحياة.» ابتلعت النصيحة كأنني أبتلع سمًّا مرًّا، وسكت عن الإهانة، لكنني تعلمت منها درسًا لن أنساه، فقلت في قرارة نفسي: «لن أحاول أبدًا أن أستغل صداقاتي بهذه الطريقة ثانية.» ومنذ ذلك الحين لم أُخِلّ بهذا القرار قط. لقد غيرت هذه الصدمة مجرى حياتي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.5/
الاستعداد للرحيل إلى جنوب أفريقيا
بالطبع كان ذهابي إلى الضابط أمرًا غير لائق، لكنه تلقى كلامي بنفاد صبر وغطرسة تجاوزت خطئي، فمهما كان خطئي فلا يستدعي طردي، فأنا لم آخذ من وقته ما يزيد على الخمس دقائق، ولكنه في هذه المدة الوجيزة لم يستطع أن يتحمل كلامي، وقد كان يمكنه أن يطلب مني الانصراف بلطف، لكن نفوذه جعله جامحًا. وعلمت بعد ذلك أن هذا الضابط لا يتسم بشيمة الصبر، وكان كثيرًا ما يهين زائريه، لقد كان يثور غضبًا من أقل شيء. وكان معظم عملي بطبيعة الحال في المحكمة التي يشرف عليها، ولم أستطع أن أصلح الأمر بيني وبينه أو أرغب في تملقه، ونظرًا لتهديدي بمقاضاته، كان يجب ألا أظل صامتًا. في غضون ذلك، تعلمتُ شيئًا عن الحياة السياسية في البلاد: تتمتع كاثياوار بمجموعة غنية من السياسيين نتيجة أنها تتكون من مجموعة من الولايات الصغيرة، وكانت المؤامرات التي تحاك بين هذه الولايات والمؤامرات التي يقوم بها الضباط من أجل توسيع نطاق سلطتهم جزءًا من الحياة اليومية، وكان الأمراء ينساقون لآراء الآخرين، ومستعدين للأخذ بآراء أي متملق، حتى إن حارس المعتمد السياسي كان يجب تملقه. وكان نفوذ مسئول الحسابات يفوق رئيسه بكثير، فقد كان هو عينه التي يرى بها وأذنه التي يسمع بها وكان أيضًا مترجمه، كانت رغبات مسئول الحسابات بمنزلة قانون، وكان يشاع أن دخله يتعدى دخل المعتمد السياسي، ربما يكون هذا القول مبالغًا فيه، لكنه بلا شك كان يحيا حياة تستلزم راتبًا أكثر مما يتقاضاه، وبدا لي هذا المناخ مسممًا، ولم أعلم كيف أتجنب التعرض للضرر. كنت أشعر بإحباط تام، وقد لاحظ أخي ذلك بوضوح، وقد كنا نؤمن بأن حصولي على وظيفة أخرى سيخلصني من مناخ المؤامرات هذا، ولكن دون الخوض في هذه المؤامرات كان يستحيل أن أطمح في منصب وزاري أو قضائي، وظلت مشكلتي مع المعتمد السياسي تحول دون ممارستي للمحاماة. وقد أدى عدم حصول موكلي على حقوقهم إلى إحساسي بخيبة أمل نسبية حتى في هذه المهمة، لكنني وقفت عاجزًا عن فعل أي شيء، وكان جلُّ ما يمكنني القيام به هو التقدم بالتماس إلى المعتمد السياسي أو الحاكم والذي كان سيرفض الالتماس قائلًا: «ليس لنا حق في التدخل.» لو كانت هناك أي قاعدة تحكم مثل هذه القرارات لاستطعت مساعدتهم، لكن إرادة المستعمر هنا كانت هي القانون، وجعلني هذا كله أستشيط غضبًا. ناقشت العرض المقدم من تلك الشركة مع أخي، لكنني لم أكن متأكدًا هل كانت مهمتي تقتضي توجيه مجموعة المحامين فقط، أم أنني يجب أن أمثل أمام المحكمة، على كل حال، أغراني العرض. قدمني أخي إلى الراحل السيد عبد الكريم جهافيري، الشريك في شركة دادا عبد ﷲ وشركائه — الشركة صاحبة العرض. وقد طمأنني قائلًا: «إن المهمة لن تكون صعبة»، وقال لي: «لن تكون مهمتك صعبة، ولدينا علاقات مع شخصيات أوروبية بارزة سوف تتعرف إليها، ويمكن أيضًا أن نستفيد من معرفتك باللغة الإنجليزية، فكثير من مراسلاتنا تكتب باللغة الإنجليزية. وبالطبع سوف تكون ضيفنا في جنوب أفريقيا، مما يعني أنك لن تتكلف أي نفقات.» فسألته: «ما هي المدة التي تحتاجني فيها للعمل معك؟ وكم سأتقاضى نظير خدماتي؟» – «ما لا يزيد على السنة. وسوف ندفع لك قيمة تذكرة الذهاب والعودة في الدرجة الأولى، بالإضافة إلى مبلغ ١٠٥ جنيهات إسترلينية، مع توفير الطعام والإقامة مجانًا.» وكانت مهمتي هناك لا ترقى إلى منزلة المحامي، بل موظف لدى الشركة، لكنني شعرت بالحاجة إلى الرحيل عن الهند، وأغرتني فرصة رؤية بلد جديد، واكتساب المزيد من الخبرة، وكنت وقتها سأتمكن من إرسال مبلغ ١٠٥ جنيهات إسترلينية إلى أخي كي أساعده في نفقات المنزل، فقبلت العرض دون أي مساومة، واستعددت للذهاب إلى جنوب أفريقيا.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.6/
الوصول إلى ناتال
لم أشعر عند رحيلي إلى جنوب أفريقيا بالأسى الشديد الذي شعرت به عند رحيلي إلى إنجلترا؛ فقد تُوفيت والدتي، بالإضافة إلى اكتسابي لبعض المعرفة بالعالم والسفر. ولم يكن السفر من راجكوت إلى بومباي عليَّ بجديد. لم أشعر بالأسى هذه المرة إلا لفراق زوجتي، وكنا قد رزقنا بطفل آخر عقب عودتي من إنجلترا، ولم يخل حبنا بعد من الشهوة، لكنه تدريجيًّا أصبح أنقى، ولم نُمض معًا إلا وقتًا قليلًا منذ عودتي من أوروبا. ونظرًا لأنني أصبحت معلمها، مع عدم اكتراثي، وأخذت أساعدها على إجراء بعض الإصلاحات، شعرنا بضرورة بقائنا معًا لمدة أطول، ولو حتى لاستكمال هذه الإصلاحات، لكن انجذابي لعرض جنوب أفريقيا جعل الفراق محتملًا. فواسيت زوجتي قائلًا: «لا تقلقي، سنلتقي بعد عام.» ثم رحلت إلى بومباي. كان من المفترض أن يوفر لي وكيل الشركة تذكرة السفر، لكن لم يكن هناك مكان شاغر في السفينة. وإن لم أتمكن من الرحيل الآن، فسأعلق هنا في مومباي. قال لي الوكيل: «لقد بذلنا قصارى جهدنا لتوفير مكان لك في الدرجة الأولى لكننا لم ننجح، فلن يمكنك السفر إلا إذا كنت مستعدًّا للسفر على ظهر السفينة، ويمكن تحضير وجباتك في حجرة الطعام.» أهكذا يكون أول عهدي بالسفر في الدرجة الأولى؟ وكيف يسافر محام على ظهر السفينة؟ نتيجة لذلك رفضت العرض، وساورني الشك حول ما أخبرني به الوكيل، فلا يعقل أن تنفد جميع تذاكر الدرجة الأولى، فأخبرت الوكيل بأنني سوف أحاول الحصول عليها بنفسي، فوافق. صعدت على متن السفينة وقابلت الضابط المسئول، الذي أخبرني بكل صراحة: «عادة لا يكون لدينا مثل هذا الزحام، ولكن نظرًا لأن الحاكم العام لموزمبيق سيسافر على متن هذه السفينة، لا توجد أماكن شاغرة.» فسألته: «أليس هناك أي طريقة لكي أحصل على مكان؟» فأخذ يتفحصني من رأسي حتى أخمص قدمي، ثم ابتسم قائلًا: «هناك طريقة واحدة، يوجد في قمرتي فراش إضافي عادة لا نستخدمه للمسافرين، وأنا على استعداد أن أعطيك إياه.» شكرت الضابط جدًّا ودفع الوكيل مقابل ذلك المكان. ورحلت في أبريل/نيسان من عام ١٨٩٣م مفعمًا بالحيوية منتظرًا تجربة حظي في جنوب أفريقيا. ظلت السفينة في ميناء لامو لما يقرب من ثلاث أو أربع ساعات، فنزلت من السفينة لأشاهد الميناء، ونزل الربان إلى الشاطئ، لكنه حذرني من التأخر عن موعد الإبحار. كان المكان صغيرًا للغاية، وشعرت بالسرور عندما ذهبت إلى مكتب البريد ووجدت الموظفين الهنود هناك، فتجاذبت أطراف الحديث معهم. ورأيت الأفارقة وحاولت التعرف على أساليب معيشتهم التي شدتني للغاية، وقد استغرق هذا بعض الوقت. كنت قد تعرفت إلى بعض الركاب المسافرين على ظهر السفينة، وتوجه هؤلاء الركاب إلى الشاطئ بهدف طهي طعامهم وتناوله في جو يسوده الهدوء، وعندما وجدتهم يستعدون للعودة إلى السفينة لحقت بهم وركبنا في نفس القارب. كان المدُّ قد بلغ ذروته في الميناء، والقارب يحمل ما يزيد على الحمولة المقررة، وكان التيار من القوة بحيث يستحيل إبقاء القارب مربوطًا في سلم السفينة، وكلما لمس القارب سلم السفينة، جعله التيار يرتد مبتعدًا عنها، وقد أُطلقت بالفعل أول صفارة رحيل؛ مما جعلني أشعر بالقلق، وكان الربان يشاهد محنتنا وهو واقف على الجسر، وأمر البحارة بالانتظار لخمس دقائق أخرى. وكان هناك قارب آخر بالقرب من السفينة، قد استأجره صديق لي نظير عشر روبيات، فانتشلني هذا القارب من القارب المكدس الذي كنت على متنه، وكان سلم السفينة قد رُفع بالفعل، مما اضطرني إلى الصعود مستخدمًا حبلًا، وما إن صعدت على ظهر السفينة، حتى انطلقنا. لقد خلفنا بقية المسافرين وراءنا، وحينها أدركت قيمة تحذير الربان لي. كان ميناء التوقف التالي هو مومباسا ثم ميناء زنجبار، حيث توقفنا لوقت طويل، ما يقرب من ثمانية إلى عشرة أيام. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى سفينة أخرى. نَمَتْ بيني وبين الربان علاقة قوية، لكنها اتخذت اتجاهًا سيئًا. ذات مرة دعاني الربان وأحد أصدقائه الإنجليز إلى الخروج في نزهة، فأخذنا قاربه واتجهنا إلى الشاطئ، ولم أكن أدري ما تتضمنه هذه النزهة، ولم يكن الربان على علم بجهلي هذا، فذهبنا إلى بيت تقطنه نساء زنجيات بصحبة أحد القوادين، وحصل كل منا على غرفة، وعندما خطوت بقدمي داخل الغرفة، وقفت مكاني دون أن أتفوه بكلمة وقد أعجز لساني الخزي الذي شعرت به، فالإله وحده يعلم ماذا ظنت بي المرأة المسكينة، وقد خرجت عندما ناداني الربان للانصراف وأنا على نفس الحال الذي دخلت عليه، وقد لاحظ الربان براءتي. في بداية الأمر، شعرت بخزي شديد، لكن ذلك الشعور ما لبث أن زال لأنني كنت أنظر للأمر بنظرة اشمئزاز، ثم توجهت إلى الإله بالشكر لأن مظهر المرأة لم يُثِرْني البتة. لقد كرهت ضعفي وأشفقت على نفسي لعدم تملكي الشجاعة الكافية لكي أرفض الدخول إلى الغرفة. كانت تلك التجربة هي الثالثة من نوعها في حياتي. من الممكن أن يقع الكثير من الشباب السذج في الخطيئة نتيجة خوف زائف من الخجل. لا أستطيع أن ادعي أنني نجوت دون ضرر، لكن كان من الممكن أن أزعم ذلك لو رفضت دخول الغرفة. أشكر الإله الرحيم الذي نجاني من الخطيئة، لقد رسخت هذه الواقعة إيماني بالإله وعلمتني، إلى حد بعيد، أن أنحي جانبًا الخجل الزائف. وكانت المحطة التالية موزمبيق، ثم وصلنا إلى ناتال في نهاية شهر مايو/أيار.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.7/
بعض التجارب
كانت مدينة دربان هي ميناء ناتال، وكان السيد عبد ﷲ في انتظاري بالميناء، وعند وصول السفينة إلى الرصيف، نظرت إلى الناس الذين يصعدون إلى السفينة لمقابلة أصدقائهم، ولاحظت أن الهنود لا يُعاملون بالاحترام اللازم، ولاحظت أن السيد عبد ﷲ يُعامل بطريقة لا تخلو من الغطرسة ممن يعرفونه، ولكم آلمني ذلك، لكن السيد عبد ﷲ كان قد اعتاد الأمر، وكان البعض يرمقني بقدر من الفضول، فقد كانت ثيابي تميزني عن غيري من الهنود، فقد كنت أرتدي معطفًا وعمامة، على غرار العمامة البنجالية. كان السيد عبد ﷲ فخورًا بالإسلام، وكان يحب أن يتحدث عن الفلسفة الإسلامية، وكانت معرفته بالقرآن الكريم والأدب الإسلامي جيدة بوجه عام، وذلك مع جهله باللغة العربية. وقد كان يمتلك فيضًا من الأمثلة الإيضاحية الجاهزة، وأدت معرفتي به إلى اكتسابي معرفة عملية جيدة عن الإسلام، وعندما أصبحت علاقتنا أكثر وثاقة، كنا نجلس في مناقشات مطولة نتناول فيها الموضوعات الدينية. في اليوم الثاني أو الثالث من وصولي، اصطحبني لرؤية محكمة دربان، حيث تعرفت إلى كثير من الأشخاص، وأجلسني بجانب محاميه، لكن القاضي أخذ يحدق فيَّ، وفي النهاية طلب مني نزع عمامتي، لكنني رفضت وغادرت المحكمة. وهكذا كان ينتظرني هنا أيضًا في جنوب أفريقيا العديد من المعارك. أوضح لي السيد عبد ﷲ سبب مطالبة بعض الهنود بنزع عماماتهم؛ حيث يمكن للمسلمين أن يرتدوا مثل هذه العمامات ويحتفظوا بها، لكن يجب على غيرهم من الهنود أن ينزعوها عن رءوسهم قبل الدخول إلى قاعة المحكمة. ونتيجة لهذا كانوا يدعونني «المحامي القولي»، وكان التجار يعرفون باسم «التجار القولي». وهكذا غاب المعنى الأصلي للكلمة «قولي» وأصبحت الكلمة لقبًا لجميع الهنود، ومع ذلك كان التجار المسلمون يبغضون هذا اللقب فيقول أحدهم: «أنا لست «قولي»، أنا عربي» أو «أنا تاجر» وكان بعض الإنجليز المهذبين يعتذرون عن ذلك. كانت مسألة ارتداء العمامة تمثل أهمية كبيرة في ظل تلك الظروف، فاضطرار الهنود لنزع عماماتهم يُعد بمنزلة السكوت عن الإهانة، ففكرت في أنه من الأفضل أن أضع العمامة الهندية جانبًا، وأبدأ في ارتداء القبعة الإنجليزية وبذلك أتجنب الإهانة والمناقشات البغيضة. لكن السيد عبد ﷲ لم يحبذ الفكرة، فقال لي: «سوف يكون لفكرتك أثر سلبي للغاية إذا نفذتها، فستتسبب في زعزعة عزيمة الهنود المتمسكين بارتداء العمامة الهندية. ضف إلى ذلك أن مظهرك يبدو أنيقًا بالعمامة الهندية، أما إذا ارتديت القبعة الإنجليزية فستبدو مثل النادل.» كانت نصيحة السيد عبد ﷲ تتضمن حكمة عملية ووطنية والقليل من ضيق الأفق. فقد كانت الحكمة التي حوتها نصيحة السيد عبد ﷲ جلية من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن ليصر على ارتدائي للعمامة الهندية إلا بدافع الوطنية، أما الإشارة إلى التشبيه بالنادل فتعكس نوعًا من ضيق الأفق. وكان هناك ثلاث طوائف تشكل الهنود العاملين بعقود الأجل، وهي: الهندوس والمسلمون والمسيحيون. وتشكلت الطائفة المسيحية من أبناء الهنود الذين كانوا يعملون بعقود لأجل ممن اعتنقوا المسيحية، وقد كانت أعدادهم ضخمة حتى عام ١٨٩٣م، وكانوا يرتدون الزي الإنجليزي، وكان معظمهم يتكسبون من العمل بوظيفة النادل في الفنادق، وهذه هي الطائفة التي كان يشير إليها السيد عبد ﷲ عندما انتقد القبعة الإنجليزية، وكان العمل نادلًا في الفنادق حينها يعتبر أمرًا مهينًا، ولا يزال هذا الاعتقاد يسيطر على كثير من الأشخاص حتى يومنا هذا. على كل حال، لقد راقتني فكرة السيد عبد ﷲ بصورة عامة، فكتبت إلى الصحف عن الواقعة، ودافعت عن حقي في ارتداء العمامة في المحكمة، ولقد تداولت الصحف الأمر بكثرة، حيث وصفتني الصحف بقولها «زائر غير مرغوب فيه». وهكذا، منحتني هذه الواقعة دعاية غير متوقعة في الأيام القليلة الأولى من وصولي إلى جنوب أفريقيا، ولقد حظيت بدعم البعض، في حين انهال عليَّ البعض الآخر بالانتقاد اللاذع واتهموني بالتهور. لقد حافظت على ارتداء عمامتي حتى نهاية إقامتي في جنوب أفريقيا تقريبًا، وسوف أعرض لاحقًا الوقت الذي قررت فيه عدم ارتداء أي غطاء للرأس على الإطلاق في جنوب أفريقيا والأسباب التي دفعتني إلى اتخاذ مثل ذلك القرار.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.8/
الطريق إلى بريتوريا
لم يمرَّ كثير من الوقت، حتى احتككت بالهنود المسيحيين المقيمين في دربان، فتعرفت إلى مترجم المحكمة، السيد باول، الذي كان كاثوليكيًّا، والراحل السيد سبان جودفري، الذي أصبح بعد ذلك مدرسًا تابعًا للكنيسة البروتستانتية، ووالد السيد جيمس جودفري الذي زار الهند في عام ١٩٢٤م بصفته عضوًا في وفد جنوب أفريقيا. وقابلت الراحل بارسي روستومجي والراحل أدامجي مياخان في ذات الوقت تقريبًا. وكما سنرى فيما يأتي، أصبح هؤلاء الأصدقاء جميعًا على صلة وثيقة بعضهم ببعض مع أنهم لم يتقابلوا من قبل قط إلا أثناء العمل. وبينما كنت أوسع دائرة معارفي، تلقت الشركة خطابًا من محاميها يخبرها بأنه يجب إجراء استعدادات للقضية، وأن على السيد عبد ﷲ أن يذهب إلى بريتوريا بنفسه أو أن يبعث نائبًا عنه. أعطاني السيد عبد ﷲ الخطاب لأقرأه، وسألني عن إمكانية ذهابي إلى بريتوريا. فأجبته: «كل ما يمكنني قوله بعد أن أطلعتني على القضية أنني الآن في حيرة من أمري ولا أعلم ماذا عساي أن أفعل هناك.» فقام وطلب من الكتبة العاملين لديه أن يشرحوا لي القضية. سألني السيد عبد ﷲ: «أين ستقيم؟» فأجبته: «في أي مكان تريدني فيه.» – «إذن سأكتب إلى المحامي التابع لنا هناك وأجعله يدبر مكانًا لإقامتك. وسأكتب إلى أصدقائي من طائفة الميمان المقيمين هناك، ولكن لا أنصحك بالإقامة معهم؛ فالطرف الخصم في القضية له نفوذ كبير في بريتوريا، وسيعود علينا تسرب مراسلاتنا السرية إليهم بأضرار جسيمة، وكلما تجنبت التقرب إليهم، كان هذا أفضل لعملنا.» – «سوف أقيم في المكان الذي سيدبره المحامي، أو سأجد مسكنًا مستقلًّا. لا تقلق، لن أدع مخلوقًا على وجه البسيطة يعلم سرًّا من أسرارنا. لكنني أعزم على ترسيخ علاقتي بالطرف الخصم وأن نصبح أصدقاء، وسوف أحاول إذا أمكن تسوية النزاع دون اللجوء إلى المحكمة؛ فالسيد طيب هو قريبك في نهاية الأمر.» فقد كان السيد طيب حاجي خان محمد أحد الأقرباء المقربين للسيد عبد ﷲ. لقد ذُهل السيد عبد ﷲ إلى حد بعيد عند سماعه فكرة إجراء التسوية، حينها كنت قد قضيت في دربان ما يقرب من ستة أو سبعة أيام، فكان كل منا يعرف الآخر ويفهمه، فلم أعد في نظره «الشخص المترف عديم القيمة». فأجابني: «حسنًا … لا يوجد ما هو خير من تسوية النزاع دون اللجوء إلى القضاء، لكننا أقرباء ويعرف كل منا الآخر حق المعرفة، فالسيد طيب ليس ممن يوافقون على التسوية بسهولة، فسوف يستغل أقل غفلة من جانبنا لينتزع منا كل شيء، ثم يخدعنا في النهاية. لذلك أنصحك بالتفكير مليًّا قبل أن تتخذ أي قرار.» فأجبته: «لا تقلق، لن أتحدث إلى السيد طيب أو إلى أي شخص آخر عن القضية، كل ما سأفعله هو أن أقترح عليه أن نتوصل إلى اتفاق، وبهذا نوفر الكثير من الدعاوى والمقاضاة غير الضرورية.» رحلت عن دربان في اليوم السابع أو الثامن من وصولي إلى جنوب أفريقيا، وكان السيد عبد ﷲ قد حجز لي مقعدًا في الدرجة الأولى، وكانت تضاف خمسة شلنات في حالة الرغبة في الحصول على بطانية، وأصر السيد عبد ﷲ على أن أحجز تذكرة تشتمل على غطاء، لكنني رفضت بدافع العناد والاعتزاز بالنفس، بالإضافة إلى توفير الخمسة شلنات. وحذرني السيد عبد ﷲ فقال لي: «انتبه الآن، هذه ليست الهند، والحمد للإله أننا نمتلك المال الوفير، أرجو منك ألا تبخل على نفسك بأي شيء قد تحتاجه.» فشكرته وطلبت منه ألا يقلق حيال ذلك. وصل القطار إلى مارتزبرج، عاصمة ناتال، في التاسعة مساء. وكانت الأغطية تُقدم إلى الركاب في هذه المحطة، فأتاني أحد العاملين بالخدمة في السكة الحديدية وسألني إذا كنت أرغب في فراش، فأجبته: «شكرًا، لديَّ غطاء.» فرحل العامل. ثم جاء أحد الركاب وتفحصني، فانزعج عندما رأى أنني «ملون». خرج الراكب ثم عاد ومعه واحد أو اثنان من موظفي القطار، لزموا جميعًا الصمت في حين أتاني موظف آخر وقال لي: «تعال معي، يجب أن تذهب إلى العربة المخصصة للملونين.» فرددت قائلًا: «لكنني أمتلك تذكرة بالدرجة الأولى.» فاستطرد الآخر: «هذا لا يهم، يجب أن تذهب إلى عربة الملونين.» – «وأنا أخبرك بأنه سمح لي بالسفر في هذه المقصورة في دربان، وأنا أصر على تكملة الرحلة بها.» فقال الموظف: «لا، لن تفعل. يجب أن ترحل عن هذه المقصورة أو سأضطر إلى استدعاء الشرطة لتلقي بك إلى الخارج.» – «إذن استدع الشرطة، فأنا أرفض الخضوع والخروج طوعًا.» جاء الشرطي وأخذني من يدي ودفعني وأمتعتي إلى خارج المقصورة، فرفضت الانتقال إلى العربة الأخرى، وانطلق القطار. ذهبت للجلوس في غرفة الانتظار ممسكًا بحقيبة يدي وتاركًا بقية أمتعتي حيث أُلقيت، وقد تولت سلطات السكك الحديدية أمرها. كنا في فصل الشتاء، وكان البرد قارسًا في المناطق المرتفعة من جنوب أفريقيا، وكان الطقس في مارتزبرج زمهريرًا؛ حيث تقع المدينة على ارتفاع شاهق، وكان معطفي في حقيبة الأمتعة، لكنني لم أجرؤ على طلبها خشية أن أتعرض للإهانة مجددًا، فجلست وجسمي يرتجف من شدة البرد، وكانت الغرفة مظلمة والوقت قد دنا من منتصف الليل، فجاءني أحد الركاب وأعتقد أنه كان يريد تجاذب أطراف الحديث، لكنني لم أكن في مزاج يسمح بالكلام. بدأت أفكر في واجبي، وقلت لنفسي: «هل أحارب من أجل الحصول على حقوقي أم أعود إلى الهند؟ أم أكمل رحلتي إلى بريتوريا دون الاكتراث بالإهانات التي أتعرض لها، ثم أعود إلى الهند بعد انتهاء القضية؟» سيكون من الجبن أن أهرع إلى الهند دون إنجاز واجبي. فالمشقة التي تعرضت لها كانت سطحية، وما هي إلا إشارة إلى مرض التمييز العنصري المستوطن، يجب عليَّ أن أقضي على هذا المرض غير مكترث بالعقبات أو الشدائد التي يمكن أن تواجهني، سأسعى إلى إصلاح الأوضاع المختلة بالقدر اللازم للتخلص من التمييز العنصري. وهكذا قررت أن أستقل أول قطار متجه إلى بريتوريا. وفي اليوم التالي، أرسلت شكوى مطولة إلى رئيس السكك الحديدية، وأخبرت السيد عبد ﷲ الذي قام بدوره بمقابلة رئيس السكك الحديدية على الفور، وبرر رئيس السكك الحديدية ما فعله موظفو القطار معي، وأخبر السيد عبد ﷲ أنه أعطى تعليماته إلى ناظر المحطة ليتأكد من وصولي إلى وجهتي سالمًا، وأرسل السيد عبد ﷲ إلى أصدقائه من التجار الهنود في مارتزبرج وغيرهم في أماكن أخرى لكي يستقبلوني ويعتنوا بي. وبالفعل استقبلني التجار في المحطة، وحاولوا التخفيف عني بإخباري بما لاقوه من شدائد وصعاب قائلين إن ما حدث لي ليس بالأمر الغريب، وأخبروني بأن من يسافر من الهنود في الدرجة الأولى أو الثانية، عليه أن يتوقع التعرض للمضايقة من قبل موظفي القطار والركاب البيض. وهكذا، قضيت اليوم في الاستماع إلى هذه الحكايات المليئة بالأسى. ووصل قطار المساء، وكانت هناك مقصورة محجوزة من أجلي، فقد حجزت الآن التذكرة التي تشمل الحصول على غطاء والتي كنت قد رفضت شراءها في دربان. وقد أقلني القطار إلى مدينة تشارلز تاون.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.9/
المزيد من المتاعب
وصل القطار إلى تشارلز تاون في صباح اليوم التالي، ولم يكن هناك في تلك الأيام خط سكك حديدية يصل بين تشارلز تاون وجوهانسبرج، وكانت وسيلة المواصلات الوحيدة هي عربة تجرها الخيول وتتوقف ليلًا في ستاندرتون، وكنت أحمل تذكرة للسفر في إحدى هذه العربات، التي لم تلغَ مع تأخر الرحلة يومًا كاملًا في مارتزبرج، وكان السيد عبد ﷲ قد أرسل برقية إلى وكيل شركة العربات بتشارلز تاون. لكن الوكيل كان يبحث عن أي ذريعة كي يؤخرني، لذلك عندما علم بأنني غريب أخبرني بأن تذكرتي ملغاة، لكنني أفحمته بردي، ولم يكن السبب وراء ادعائه إلغاء تذكرتي عدم توفر أماكن، وإنما كان سببًا آخر تمامًا. كان من المفترض أن يجلس جميع الركاب داخل العربة، لكن «قائد» العربة — كما يطلق على المسئول عن العربة — رأى أنه من الأفضل ألا أجلس مع الركاب البيض لأنني ملون وغريب. وكان من المعروف أن ظهر العربة يحتوي على مقعدين أحدهما للسائق والآخر للقائد، لكن في ذلك اليوم جلس القائد داخل العربة وطلب مني الجلوس على مقعده بجوار السائق، وكنت أعرف أن ما فعله القائد يُعد ظلمًا وإهانة، لكنني مع ذلك رأيت أن من الأفضل السكوت عنها. فلم يكن لي أن أفرض نفسي بالجلوس داخل العربة بالقوة، وفي حالة احتجاجي على ما فعله كان يمكن أن ترحل العربة من دوني. وكان ذلك سيؤدي إلى إهدار يوم آخر، والإله وحده يعلم ماذا كان يمكن أن يحدث في اليوم التالي، ومع أنني كنت أستشيط غضبًا من داخلي، فقد جلست بجانب السائق هادئًا. عاد الركاب إلى مقاعدهم وانطلقت الصفارة إيذانًا بانطلاق العربة التي اندفعت مسرعة. كان قلبي يخفق بشدة، وكنت أتساءل هل سأصل إلى وجهتي حيًّا. كان قائد العربة يرمقني بنظرة غاضبة من حين إلى آخر، ثم أشار إليَّ بأصبعه وقال غاضبًا: «احذر، سأريك ما سأفعله بك عندما نصل إلى ستاندرتون.» وجلست في مكاني صامتًا ودعوت الإله كي ينجيني. عندما وصلنا إلى ستاندرتون كان الليل قد أسدل ستائره، وتنهدت مستبشرًا عندما رأيت بعض الهنود، وما إن نزلت عن العربة، حتى أتاني هؤلاء الأصدقاء قائلين: «نحن هنا لاستقبالك واصطحابك إلى محل عمل السيد عيسى حاجي سومار بناء على البرقية التي أرسلها السيد دادا عبد ﷲ.» كنت حينها في غاية السرور، وعند وصولي إلى محل عمله، تجمع حولي السيد عيسى والعاملون لديه، فأخبرتهم بما مررت به أثناء رحلتي، فشعروا جميعًا بشديد الأسف، وحاولوا مواساتي برواية تجاربهم المريرة. كتبت إلى وكيل شركة العربات أشكو إليه مما حدث وأخبرته بتفاصيل الواقعة، ووجهت انتباهه إلى التهديد الذي وجهه لي قائد العربة، وطلبت منه أن يضمن لي أن يدخلني مع غيري من الركاب داخل العربة عند تحركنا في اليوم التالي. فجاءني رد الوكيل: «سوف تستقلون من ستاندرتون عربة أكبر حجمًا وسيتولى مسئولية العربة أشخاص آخرون، ولن يكون الشخص الذي شكوت منه في العربة غدًا، وستحصل على مقعدك داخل العربة مع غيرك من الركاب.» أراحني هذا الرد إلى حد بعيد، وبالطبع لم أكن أنوي مقاضاة قائد العربة الذي تعدى عليَّ، وهكذا انتهى مشهد الاعتداء عند هذا الحد. في اليوم التالي، اصطحبني أحد رجال السيد عيسى إلى العربة، حيث حصلت على مقعد مريح، ووصلت إلى جوهانسبرج في تلك الليلة بسلام. كانت ستاندرتون قرية صغيرة، أما جوهانسبرج فكانت مدينة كبيرة. أرسل السيد عبد ﷲ برقية إلى أصدقائه في جوهانسبرج أيضًا، وأعطاني اسم وعنوان مؤسسة السيد محمد قسام قمر الدين، وأتى أحد العاملين بالشركة لاستقبالي بالمحطة، لكنني لم أره ولم يتمكن هو من التعرف إليَّ، فقررت الذهاب إلى أحد الفنادق، فقد كنت أعرف أسماء كثير منها. فركبت في عربة أجرة وطلبت من السائق توصيلي إلى فندق «جراند ناشونال»، حيث قابلت مدير الفندق وطلبت حجز غرفة. أخذ المدير يتفحصني بعينه للحظة، ثم قال بلطف: «أنا في غاية الأسف، لا توجد لدينا غرف شاغرة.» ثم استأذن وانصرف. فطلبت من سائق العربة أن يقلني إلى شركة السيد محمد قسام قمر الدين، وهناك وجدت في انتظاري السيد عبد الغني الذي رحب بي بحفاوة، ولقد تملكه الضحك عندما سمع بما حدث لي في الفندق، وقال لي: «كيف خيل لك أنه يمكن قبول إقامتك في فندق؟» فسألته: «ولِمَ لا؟» فأجابني: «ستعرف عندما تمكث هنا بضعة أيام، فنحن يمكننا العيش فقط في مثل هذه البلاد، لأننا من أجل كسب المال لا مانع لدينا من السكوت عن الإهانات التي نتعرض لها.» ثم أخذ يروي لي المآسي والصعاب التي يعانيها الهنود في جنوب أفريقيا. وسأروي فيما بعد المزيد عن السيد عبد الغني. قال لي: «هذه البلاد لا تصلح لشخص مثلك، يجب أن ترحل غدًا إلى بريتوريا، وسوف يتعين عليك أن تركب في الدرجة الثالثة؛ فالأحوال في الترانسفال أسوأ منها في ناتال؛ فتذاكر الدرجة الأولى والثانية لا تمنح للهنود أبدًا.» – «من المؤكد أنكم لم تسعوا بجد لإصلاح هذا الأمر.» – «لقد أرسلنا ممثلين عنا، لكن صراحةً لم يرغب رجالنا من الهنود أيضًا أن يكون سفرهم في الدرجة الأولى والثانية قاعدة ثابتة.» أرسلت في طلب لوائح وقوانين السكك الحديدية واطلعت عليها، فوجدت ثغرة في تلك القوانين، وكانت لغة تشريعات الترانسفال القديمة غير واضحة وغير دقيقة، ولا سيما قوانين السكك الحديدية. توجهت إليه قائلًا: «أرغب في السفر في الدرجة الأولى، وإلا فأنا أفضل استئجار عربة للسفر إلى بريتوريا التي تبعد سبعة وثلاثين ميلًا.» لفت السيد عبد الغني نظري إلى الوقت والمال الإضافيين اللذين سيتطلبهما السفر بواسطة عربة مستأجرة، لكنه وافق على طلبي السفر في الدرجة الأولى. وبناء على ذلك، بعثنا برسالة إلى ناظر المحطة ذكرت فيها أنني أعمل محاميًا وأنني معتاد على السفر في الدرجة الأولى. وذكرت أنني في حاجة إلى الوصول إلى بريتوريا في أسرع وقت ممكن، وأنه نتيجة لضيق الوقت لن أستطيع انتظار رسالة منه بل سأستلم رده شخصيًّا في المحطة متوقعًا حصولي على تذكرة في الدرجة الأولى. وبالطبع كان هناك سبب يكمن خلف طلبي استلام رده بصورة شخصية، فلقد رجحت أنه في حالة قيامه بالرد عليَّ كتابة ستكون الإجابة بلا شك بالرفض، خاصة وأنه يحمل في ذهنه صورة المحامي «القولي». أما عندما أقابله بشخصي مرتديًا الزي الإنجليزي وأتحدث إليه، ربما أقنعته بمنحي تذكرة في الدرجة الأولى. فذهبت إلى المحطة مرتديًا معطفًا وربطة عنق، ثم وضعت جنيهًا ذهبيًّا على شباك التذاكر وطلبت تذكرة في الدرجة الأولى. فسألني: «أنت من أرسل لي تلك الرسالة؟» «نعم، هو أنا، وسأكون ممتنًّا للغاية إذا أعطيتني التذكرة؛ فيجب أن أصل إلى بريتوريا اليوم.» ابتسم الرجل، ثم ظهرت على وجهه تعبيرات الأسف وقال: «أنا لا أنتمي إلى الترانسفال، بل أنا هولندي، أقدر ما تشعر به، وأشعر بالتعاطف معك، وأنا فعلًا أريد أن أعطيك التذكرة لكن بشرط واحد، ألا تورطني في الأمر إذا طلب منك موظف القطار أن تنتقل إلى عربة الدرجة الثالثة، فحينها عليك ألا تقاضي شركة السكك الحديدية. أتمنى لك رحلة سعيدة، فأنا أراك حقًّا سيدًا نبيلًا.» حجز لي ناظر المحطة التذكرة، فشكرته وطمأنته. جاء السيد عبد الغني لتوديعي في المحطة، وقد ذُهل عندما علم بما حدث، ولكنه حذرني قائلًا: «أرجو أن تصل إلى بريتوريا سالمًا. أخشى أن موظف القطار لن يدعك بسلام في الدرجة الأولى، وحتى إن فعل، فلن يفعل الركاب.» تبوأت مقعدي في عربة الدرجة الأولى، وانطلق القطار، وجاء موظف القطار للتحقق من التذاكر في جيرميستون، وقد غضب عندما وجدني في عربة الدرجة الأولى، وأشار لي بإصبعه لأنتقل إلى الدرجة الثالثة، لكنني عرضت عليه تذكرتي التي تثبت حقي في الدرجة الأولى، فقال لي: «لا قيمة لهذه التذكرة، اذهب إلى الدرجة الثالثة.» لم يكن معي في المقصورة سوى رجل إنجليزي، فقال لموظف القطار: «لماذا تزعج الرجل؟ ألم تر أنه يملك تذكرة للدرجة الأولى؟ أنا لا أمانع في سفره معي.» ثم توجه لي وقال: «استرح حيث أنت.» أخذ موظف القطار يهمهم قائلًا: «لن أزعج نفسي إذا كنت ترغب في السفر مع «قولي».» ثم رحل. ووصل القطار إلى محطة بريتوريا قرابة الثامنة مساء.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.10/
اليوم الأول في بريتوريا
توقعت أن يكون في انتظاري على المحطة مندوب عن محامي السيد دادا عبد ﷲ، وكنت أعلم أنه لن يكون في انتظاري أي من الهنود؛ نظرًا إلى وعدي الذي قطعته للسيد عبد ﷲ بعدم الإقامة في منزل أي من الهنود. على كل حال، لم يرسل المحامي أحدًا لاستقبالي، وقد علمت فيما بعد أن ذلك يرجع لوصولي يوم الأحد، حيث كان إرساله أي شخص لاستقبالي سيشكل إزعاجًا كبيرًا له، وكنت في حيرة من أمري ولم أكن أدري إلى أين أذهب، وخشيت ألا تقبل الفنادق استضافتي. كانت محطة قطار بريتوريا في عام ١٨٩٣م تختلف تمامًا عنها في عام ١٩١٤م. فقد كان الضوء خافتًا وكان عدد الركاب قليلًا، فتركت جميع الركاب يخرجون، وانتظرت حتى يفرغ الموظف المسئول عن جمع التذاكر كي أسأله عن مكان فندق صغير أمضي فيه الليلة، وإلا سأضطر إلى تمضية الليلة في المحطة، ويجب أن أقر بأنني كنت أرتجف من مجرد فكرة توجيه مثل هذه الأسئلة إليه خشية تعرضي للإهانة. وعندما أصبحت المحطة خالية من الركاب، قدمت تذكرتي إلى موظف التذاكر وبدأت أوجه استفساراتي، فأجابني الموظف بلطف، لكنه لم يقدم لي أي مساعدة تذكر. كان هناك رجل أمريكي من الزنوج واقف بالقرب منا، فقطع حديثنا قائلًا: «أرى أنك غريب تمامًا وليس لديك أصدقاء، تعال معي وسوف أدلك على فندق صغير يملكه أمريكي أعرفه تمام المعرفة، وأعتقد أنه سيقبل استضافتك لديه.» كانت الشكوك تساورني بشأن ذلك العرض، ولكنني شكرته وقبلت بعرضه، وأخذني الرجل إلى فندق «عائلة جونستون»، وأخذ السيد جونستون وتحدث إليه على انفراد، فوافق الأخير على استضافتي تلك الليلة، شريطة أن أتناول عشائي في غرفتي. قال لي السيد جونستون: «أؤكد لك أنني لا أميز بين ألوان البشر، لكن المشكلة هي أن لديَّ نزلاء أوروبيين، وقد يشعرون بالإهانة أو ربما يغادرون الفندق إذا ما سمحت لك بتناول العشاء معهم في غرفة الطعام.» فقلت له: «شكرًا لك على الأقل لاستضافتك لي هذه الليلة، وأنا على دراية بدرجة ما بالأوضاع هنا، وأقدر موقفك ولا مانع لديَّ من تناول الطعام بغرفتي. أتمنى أن أتمكن من تدبر أمري غدًا.» ذهبت إلى غرفتي وجلست منتظرًا العشاء ومتأملًا، فقد كنت وحيدًا تمامًا، ولم يكن عدد نزلاء الفندق بكثير، فتوقعت أن يحضر النادل الطعام سريعًا، لكن ذلك لم يحدث، بل وجدت السيد جونستون أمامي، فقال لي: «لقد شعرت بالخزي عندما طلبت منك تناول طعامك هنا في غرفتك، لذا تحدثت إلى النزلاء وسألتهم عن رأيهم في أن تتناول الطعام معهم في غرفة الطعام، فما كان منهم إلا أن وافقوا على أن تأتي إلى غرفة الطعام وأن تمكث معنا كما تشاء، لذلك، أرجو منك أن ترافقني إلى غرفة الطعام إذا لم يكن لديك مانع، وأن تقيم في الفندق كما تشاء.» شكرت السيد جونستون مرة أخرى، ثم ذهبت إلى غرفة الطعام وتناولت وجبة شهية. وهكذا اصطحبني السيد بيكر إلى منزل تلك السيدة، وقبلت السيدة — بعد أن تحدث إليها على انفراد — أن أنزل بمنزلها مقابل ٣٥ شلنًا أسبوعيًّا مقابل الإقامة والطعام. كان السيد بيكر، بجانب عمله في المحاماة، واعظًا مخلصًا. ولا يزال السيد بيكر حيًّا وهو مشترك الآن في عمل تبشيري بعد أن تخلى عن المحاماة. ويتمتع السيد بيكر بالثراء. وحتى الآن لا يزال الاتصال قائمًا بيني وبينه، وفي جميع رسائله دائمًا ما يؤكد على الموضوع ذاته ألا وهو تفوق المسيحية من أوجه شتى. ويؤكد دائمًا أنه من المستحيل أن يتذوق المرء طعم السلام الأبدي إلا بالإيمان بأن المسيح ابن الإله ومخلص البشرية. وقد سألني السيد بيكر في أول مقابلة لي معه عن معتقداتي الدينية، فقلت له: «أنا هندوسي المولد، لكنني مع ذلك لا أفقه الكثير عن الهندوسية، وما أعلمه عن غيرها من الديانات أقل. في الحقيقة، أنا في حيرة من أمري، فلا أعلم ما عقيدتي أو ما العقيدة التي يجب أن أعتنقها. على كل حال، أعزم على دراسة ديانتي بعناية، بالإضافة إلى الاطلاع على غيرها من الديانات قدر المستطاع.» سر السيد بيكر بما ألقيت على مسامعه من كلمات، فقال لي: «أنا أحد أعضاء مجلس إدارة الإرسالية العامة بجنوب أفريقيا، وقد بنيت كنيسة على نفقتي الخاصة، حيث ألقي المواعظ بصورة منتظمة، أنا لست من أنصار التمييز العنصري، ولي بعض الزملاء الذين أجتمع بهم يوميًّا في الواحدة ونمضي دقائق معدودة في الصلاة وندعو من أجل أن يعم السلام ونور الحق. ويسعدني أن تنضم إلينا في صلواتنا، سيسر زملائي سرورًا عظيمًا لمقابلتك، وأعتقد أنك ستحب رفقتهم أيضًا. علاوة على ذلك، سأزودك بعدد من الكتب الدينية لتطلع عليها، ولكن تذكر أن أجلّ هذه الكتب هو الكتاب المقدس الذي أنصحك بالاطلاع عليه بصورة خاصة.» توجهت إلى السيد بيكر بالشكر ووافقت على الانتظام في حضور صلاة الساعة الواحدة قدر المستطاع. فتوجه إليَّ السيد بيكر قائلًا: «إذن سأكون في انتظارك هنا غدًا في الواحدة، وسنذهب معًا للصلاة.» ثم ودع كل منا الآخر. لم يكن لديَّ الكثير من الوقت للتفكير حينها. فذهبت إلى السيد جونستون لدفع حسابي، ثم انتقلت إلى المسكن الجديد، حيث تناولت غدائي. كانت مالكة المسكن سيدة لطيفة، حتى إنها أعدت وجبة نباتية من أجلي. وما هي إلا أيام معدودات حتى اعتدت المكان وشعرت بالدفء العائلي. كان السيد دادا عبد ﷲ قد أرسل معي رسالة إلى أحد أصدقائه، فعرجت عليه، وعلمت من ذلك الصديق الكثير عن معاناة الهنود في جنوب أفريقيا. وقد أصر على أن أقيم معه، لكنني شكرته وأخبرته بأنني حصلت بالفعل على مسكن، فطلب مني ألا أتردد في طلب أي شيء قد أحتاجه. خيم الظلام، فعدت إلى البيت وتناولت عشائي، ثم ذهبت بعد ذلك إلى غرفتي واستلقيت مستغرقًا في تفكير عميق، ولم يكن لديَّ عمل لأقوم به، وقد أخبرت السيد عبد ﷲ بذلك. ثم فكرت وتساءلت عن سبب اهتمام السيد بيكر بي، وماذا عساي أن أستفيد من التعرف إلى زملائه المتدينين؟ وإلى أي مدى ينبغي لي أن أتعمق في دراسة المسيحية؟ وكيف لي أن أتعلم المزيد عن الهندوسية؟ وكيف لي أن أفهم المسيحية على نحو صحيح إذا لم أكن على علم بديانتي؟ فوصلت إلى استنتاج واحد: أن أدرس جميع المعارف التي تُعرض عليَّ بصورة حيادية، وأن أتعامل مع مجموعة السيد بيكر على النحو الذي يهديني إليه الإله، وينبغي لي ألا أعتنق أي دين آخر حتى أعي ديانتي بصورة كلية. وقد غلبني النعاس وأنا آخذ في التفكير.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.11/
التواصل مع الأصدقاء المسيحيين
وفي الواحدة من ظهر اليوم التالي، ذهبت إلى اجتماع السيد بيكر للصلاة، وقدمني السيد بيكر إلى السيدة هاريس والسيدة جاب والسيد كوتس وغيرهم. ركع الحضور جميعًا على ركبهم للصلاة، فحذوت حذوهم. وكانت الصلاة عبارة عن التوجه إلى الإله بتضرعات لطلب أشياء عدة، كل حسب ما يرغب فيه من أمنيات. وكانت الصلوات المعتادة تتضمن مرور اليوم بسلام أو أن يفتح الإله القلوب لنور الإيمان. وقد كان لي نصيب من الصلاة، فأخذوا يدعون: «إلهنا، أنِر الطريق أمام أخينا الذي انضم إلينا حديثًا، واملأ قلبه بالطمأنينة التي أنعمت علينا بها، ولينجه المسيح كما نجانا، ونحن نتضرع إليك باسم المسيح.» لم تتضمن هذه الاجتماعات أي ترانيم أو أي شكل من أشكال الموسيقى، وكان يذهب كل منا لتناول الغداء بعد التضرع إلى الإله بدعوة خاصة كل يوم، ولم تكن الصلاة تستغرق ما يزيد على خمس دقائق. وقد اعتدت أن أطلع السيد كوتس كلما التقينا يوم الأحد على دفتر أعمالي الدينية في الأسبوع، وكنا نناقش الكتب التي قرأتها والانطباع الذي خلفته لديَّ. واعتادت السيدتان رواية خبراتهما اللطيفة والحديث عن الطمأنينة التي شعرتا بها. كان السيد كوتس شابًّا وفيًّا وصادقًا، وكنا نخرج للمشي معًا، وكان يصحبني لزيارة بعض الأصدقاء المسيحيين. وعندما توطدت علاقتنا، بدأ يعطيني كتبًا من اختياره حتى أضحت مكتبتي تعج بالكتب، لقد أعطاني كمًّا هائلًا من الكتب، وقد وافقت بإيمان تام أن أقرأها جميعًا، وكنا نناقش كل كتاب بمجرد انتهائي من قراءته. لم يكن السيد كوتس ممن يقبلون الهزيمة بسهولة، وكان يكن لي مشاعر جياشة، فعندما رآني ذات مرة أرتدي قلادة الإله فيشنو المصنوعة من خرز الريحان حول عنقي، تألم كثيرًا لاعتقاده بأنها خرافة، وقال لي: «هذه الخرافة لا تناسبك، دعني أحطمها.» – «لا، لن أدعك تفعل هذا، إنها هدية مقدسة من والدتي.» – «هل تؤمن بتلك الخرافة؟» – «لا أعلم حقًّا قيمتها الخفية، ولا أعتقد أن مكروهًا سيصيبني إذا ما نزعتها، لكنني لا أستطيع أن أتخلى عن قلادة أهدتها لي والدتي بدافع الحب وبدافع اعتقادها أن تلك القلادة ستجلب لي الخير دون سبب وجيه. لن أدع أحدًا يمس هذه القلادة، ولكن عندما تبلى وتفنى تلقائيًّا بمرور الزمن، لن أقدم على شراء قلادة أخرى.» لم يقدر السيد كوتس تبريري لتمسكي بالقلادة، فلم يكن لديه أي تقدير لديانتي، وكان يتطلع إلى تحريري من «هاوية الجهل» التي كان يرى أنني واقع بها. وأراد إقناعي بأنني، بغض النظر عن مقدار الحقيقة التي يمكن أن تحويها الديانات الأخرى، لن أنجو إلا إذا اعتنقت المسيحية التي تمثل «الحقيقة المطلقة»، وأن خطاياي لن تمحى إلا بشفاعة المسيح، وأن جميع الأعمال الصالحة التي أقوم بها ليس لها قيمة ما لم أعتنق المسيحية. لم أقابل أي مشاكل في كثير من العلاقات التي كان السيد كوتس مسئولًا عنها، وقد أذهلني خشية معظم الذين تعرفت إليهم من الإله، وفي أثناء لقائي مع هذه العائلة، واجهني أحد المنتمين إلى «الإخوة البلايموث» بمناقشة لم أكن مستعدًّا لها، فقال لي: «إنك لا تدرك الجمال الذي يحويه ديننا، مما سمعت منك، يتضح لي أنه لا تمر لحظة من حياتك إلا وأنت تفكر في الآثام التي اقترفتها، ودائمًا ما تحاول تصحيحها والتكفير عنها، كيف لهذه الحلقة المتواصلة أن تمنحك الخلاص من خطاياك؟ لا يمكنك الوصول إلى الطمأنينة أبدًا بمثل ذلك العمل؟ لقد أقررت بأن كل البشر خطاءون، لكن في المقابل انظر إلى كمال ديننا، فكل محاولاتنا الرامية للتحسن والتكفير عديمة الفائدة، ومع ذلك نحصل على الخلاص في النهاية، كيف لنا أن نتحمل عبء الخطيئة؟ فلا يسعنا إلا أن نلقيها على عاتق المسيح، فهو ابن الرب الذي لم يعرف خطيئة. إنه هو القائل بأن هؤلاء الذين يؤمنون به، لهم حياة أبدية، تتجلى فيها رحمة الرب المطلقة. ونظرًا لإيماننا بأن المسيح سيكفر عنا سيئاتنا، لا تقيدنا خطايانا. لا مفر من الخطيئة، فلا يمكن أن تعيش في هذا العالم دون أن تقترف إثمًا. لهذا عانى المسيح وكفر عن جميع خطايا البشرية، والذين يقبلون افتداءه العظيم وحدهم يمكنهم أن ينعموا بطمأنينة سرمدية. تأمل حياتك المليئة بالقلق، وقارنها بما تعدك به المسيحية من حياة مطمئنة.» فشلت هذه الحجج كليًّا في إقناعي، فأجبت بتواضع: «إذا كان ما أخبرتني به هو المسيحية التي يؤمن بها جميع المسيحيين، فأنا لا أستطيع أن أؤمن بها. فأنا لا أنشد الخلاص من عواقب الخطايا التي اقترفتها، بل أنشد التخلص من الخطايا ذاتها، أو حتى من مجرد فكرة الخطيئة. وحتى أصل إلى غايتي تلك، سأكون راضيًا بالقلق الذي أعانيه.» فاستطرد الرجل قائلًا: «صدقني، لا طائل في مسعاك هذا. أعد النظر فيما قلته لك.» وقد طبق الرجل ما قاله عمليًّا، فقد ارتكب خطيئة عن عمد ليريني أنها لا تزعجه البتة. لكنني كنت أعلم قبل أن أقابل هؤلاء الأصدقاء أنه ليس جميع المسيحيين يؤمنون بفكرة الخلاص على هذا النحو، فالسيد كوتس نفسه كان يخشى الإله، فقد كان قلبه نقيًّا، وكان يؤمن بإمكانية تطهير الذات، وكان يشاركه في إيمانه هذا السيدتان هاريس وجاب، وبعض الكتب التي اطلعت عليها كانت مليئة بالإخلاص. وقد أكدت للسيد كوتس — مع انزعاجه الشديد لما سمع من تجربتي الأخيرة مع ذلك الرجل من جماعة «الإخوة بلايموث» — أن الإيمان المشوه الذي تحدث عنه ذلك الرجل لم يجعلني متحاملًا ضد المسيحية. كانت الصعوبات التي تعترض طريقي تكمن في أمر آخر، ألا وهو التفسير المقبول للإنجيل.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.12/
التواصل مع الهنود
ينبغي، قبل المضي في الحديث عن تواصلي مع المسيحيين، أن أتطرق إلى تجارب أخرى عايشتها في نفس المدة. كانت للسيد طيب حاجي خان محمد مكانة في بريتوريا كتلك التي كان يتمتع بها دادا عبد ﷲ في ناتال، ولم يكن من الممكن قيام حركة شعبية أيًّا كانت دون مشاركته. تعرفت إلى السيد طيب حاجي في الأسبوع الأول من إقامتي في بريتوريا، وأخبرته بعزمي على التواصل مع جميع الهنود المقيمين بها، وعبرت له أيضًا عن رغبتي في دراسة أحوال الهنود هناك، وطلبت مساعدته في هذا، فوافق بكل سرور. كانت الخطوة الأولى في طريق مسعاي هي الدعوة إلى عقد اجتماع موسع يضم جميع الهنود المقيمين في بريتوريا، وعرض صورة لأحوالهم في الترانسفال. عُقد الاجتماع في بيت السيد حاجي محمد حاجي جوساب، الذي كنت أحمل خطاب توصية إليه، وقد كان معظم الحضور من التجار المنتمين إلى طائفة الميمان، بالإضافة إلى حضور بعض الهندوس، وكان عدد الطائفة الهندوسية في بريتوريا ضئيلًا للغاية. ويمكن القول بأن الخطبة التي ألقيتها في ذلك الاجتماع تُعد أول خطبة عامة ألقيها في حياتي. وكنت قد أعددت الموضوع الذي سأتحدث عنه جيدًا، وكان يدور حول الالتزام بالصدق في العمل، فلطالما سمعت التجار يتحدثون عن صعوبة الالتزام بالصدق في التجارة. لكنني لم أكن مقتنعًا بذلك، ولا أزال غير مقتنع، وحتى الآن لا يزال هناك تجار يؤكدون أن الصدق والتجارة لا يجتمعان. فالعمل — كما يزعمون — مسألة دنيوية بحتة، أما الصدق فهو أمر دين، ويستطردون في زعمهم قائلين إن الأمور العملية ليس لها علاقة بالدين، فيدعون أن الصدق مستحيل في مجال التجارة، ويمكن أن يكون الإنسان صادقًا فقط بالدرجة التي لا تضار بها تجارته. أخذت أفند الموقف بشدة في خطبتي، ونبهت التجار إلى واجبهم المضاعف، فقد كان التزامهم بالصدق في دولة أجنبية أعظم شأنًا، لأن سلوك قلة من الهنود هو المقياس الذي يكون على أساسه الحكم على سلوك الملايين من أبناء وطنهم. وجدت أن عادات قومي غير صحية مقارنة بمن حولهم من الإنجليز، فوجهت نظرهم لذلك الأمر، وأكدت على ضرورة إذابة جميع عوامل التفرقة والتمييز بين الهنود من هندوس ومسلمين وبارسيين ومسيحيين وجوجراتيين ومدراسيين وبنجابيين وسند وكاششيين وسوراتيين، وغيرهم. فاقترحت تشكيل جمعية تمثل حلقة الوصل بين الجالية الهندية والسلطات المختصة لمعالجة الصعاب التي يتعرض لها الهنود، وعرضت أيضًا تقديم كل ما يمكنني من وقت وجهد في خدمة هذه الجمعية. تركتْ خطبتي انطباعًا جيدًا لدى الحضور. ثم تبعتها مناقشة، عرض عليَّ البعض فيها تزويدي بحقائق عن أوضاع الهنود في جنوب أفريقيا مما زاد من حماستي. وكان عدد قليل جدًّا من الحضور يفهمون اللغة الإنجليزية، فاقترحت على من لديهم متسع من الوقت تعلم اللغة الإنجليزية انطلاقًا من إيماني بأن هذه اللغة ستكون مفيدة للهنود المقيمين في هذه البلاد. وأخبرتهم بأن الأوان لا يفوت أبدًا على تعلم اللغة، حتى مع تقدم العمر، ثم ضربت لهم الأمثال لأشخاص تعلموا اللغات في الكبر، وتعهدت بالتدريس إذا ما أقاموا حلقة دراسية، أو بتقديم الإرشادات للراغبين منهم في تعلم الإنجليزية. لم تتشكل حلقة دراسية، لكن عبر ثلاثة رجال عن استعدادهم لتعلم الإنجليزية في المواعيد التي تناسبهم، وبشرط أن أذهب إلى أماكن عملهم لألقنهم الدروس، وكان اثنان من الرجال الثلاثة مسلمين، أحدهما حلاق والآخر كاتب، أما الثالث فكان هندوسيًّا يمتلك متجرًا صغيرًا، فوافقت على أن أعلمهم اللغة الإنجليزية بما يتناسب مع ظروفهم. لم أشك للحظة في قدرتي على التدريس، فكان يمكن أن يشعر الرجال الثلاثة بالضجر أو الإجهاد أثناء الدروس، أما أنا فلا. وكنت أحيانًا ما أذهب إلى أماكن عملهم، فأجدهم مشغولين في العمل، ومع ذلك لم يكن صبري ينفد، ولم يعتزم أي من الرجال الثلاثة التعمق في دراسة اللغة الإنجليزية، لكن يمكن القول إن اثنين منهم حققا تقدمًا في ثمانية أشهر، وتعلما ما يكفي من اللغة لإمساك الحسابات وكتابة خطابات العمل المعتادة. أما الحلاق فلم يتخط طموحه تعلم ما يكفيه من اللغة للتعامل مع زبائنه. وقد ساعد تعلم اللغة الإنجليزية اثنين من الرجال على تأمين دخل جيد. كانت نتيجة الاجتماع مثمرة إلى حد بعيد. وتقرر عقد مثل هذه الاجتماعات، حسبما أذكر، أسبوعيًّا أو ربما شهريًّا، وكان انعقادها منتظمًا بقدر ما، وكنا نتبادل فيها الأفكار بحرية، وأصبحت الآن أعرف جميع الهنود المقيمين في بريتوريا وأعرف مشاكل كل منهم، وشجعني ذلك على التعرف إلى المعتمد السياسي البريطاني في بريتوريا، السيد جاكوب دي ويت، وكان السيد جاكوب متعاطفًا مع الهنود، لكن نفوذه كان محدودًا، ومع ذلك فقد وافق على مساعدتنا قدر استطاعته، ودعاني لزيارته متى شئت. أرسلت إلى سلطات السكك الحديدية وأخبرتهم بأن القيود المفروضة على سفر الهنود، حتى في ظل وجود اللوائح الخاصة بالسكك الحديدية، غير مبررة. فجاءني رد مفاده أن تذاكر الدرجة الأولى والثانية ستصرف للهنود الذين يرتدون زيًّا لائقًا، ولم يكن هذا الرد شافيًا، فقد اعتمد على حرية ناظر المحطة في تحديد من «يرتدي زيًّا لائقًا». أطلعني المعتمد السياسي على بعض الأوراق المتعلقة بشئون الهنود، كتلك التي أعطانيها السيد طيب، وعلمت من هذه الأوراق مدى القسوة التي تطارد بها حكومة أورانج الحرة الهنود. فباختصار، يمكن القول بأن إقامتي في بريتوريا مكنتني من إجراء دراسة متعمقة للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للهنود في الترانسفال وأورانج الحرة، ولم أكن أدري وقتها أن تلك الدراسة سوف تعود عليَّ بفائدة عظيمة في المستقبل، وكنت أفكر في العودة إلى الوطن في نهاية العام أو قبل ذلك فور انتهاء القضية، لكن القدر شاء غير ذلك.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.13/
شعورك وأنت «قولي»
كان الهنود في دولة أورانج الحرة محرومين من جميع حقوقهم بموجب قانون خاص صدر عام ١٨٨٨م وربما قبل ذلك، فعلى من يرغب من الهنود في الإقامة بها، أن يعمل نادلًا في الفنادق أو خادمًا فحسب، وكان يُمنع التجار من مزاولة نشاطهم مقابل حصولهم على تعويضات ضئيلة، وقد قدموا شكاوى وعرائض دون جدوى. صدر قانون صارم للغاية في الترانسفال في عام ١٨٨٥م، وأُضيفت تعديلات طفيفة عليه عام ١٨٨٦م. وقد نص القانون المعدل على فرض ضريبة مقدارها ٣ جنيهات إسترلينية كرسم دخول إلى الترانسفال، ولا يجوز للهنود تملك الأراضي إلا في بعض الأجزاء المخصصة لهم، ولكن في حقيقة الأمر لم يكن تملكهم لهذه الأجزاء ملكية حقيقية لعدم تمتعهم بحق الامتياز. وكانت كل هذه الأحكام مفروضة بموجب القانون الخاص بالآسيويين، الذين كانوا يخضعون أيضًا إلى قوانين الملونين، وكانت قوانين الملونين هذه تمنع سير الهنود على الطرق المخصصة للمشاة أو الخروج من منازلهم بعد التاسعة مساء دون تصريح، وكان تطبيق حكم منع الخروج من المنازل بعد التاسعة مساءً مرنًا فيما يتعلق بالهنود، فالهنود من «العرب» كانوا يُستثنون من ذلك الحكم على سبيل المجاملة، وهكذا كان الاستثناء يتوقف على أهواء رجال الشرطة. وقد كُتب لي أن أعاني مرارة الحكمين، فكنت كثيرًا ما أخرج ليلًا مع السيد كوتس للمشي، وكنا عادة ما نتأخر بالخارج حتى العاشرة مساءً، كان السيد كوتس أكثر مني قلقًا حيال إمكانية إلقاء الشرطة القبض عليَّ، وكان يمنح خادميه الزنوج تصريحات، لكن كيف له أن يمنحني تصريحًا أنا الآخر؟ فالسيد يمكنه فقط منح تصريح لخادمه، وحتى في حالة رغبتي في الحصول على تصريح منه، واستعداده لمنحي إياه، لم نكن لنقدم على مثل هذه الفعلة لأن ذلك يُعد احتيالًا. فاصطحبني السيد كوتس أو بعض أصدقائه إلى النائب العام، الدكتور كروس، وتبين أنني والسيد كروس تخرجنا في نفس الجمعية القانونية، وكان من الصعب عليه منحي تصريحًا يسمح لي بالتواجد خارج المنزل بعد التاسعة مساءً، لكنه عبر عن تعاطفه معي، وبدلًا من منحي التصريح أعطاني خطابًا يسمح لي بالتواجد خارج المنزل في أي وقت دون تعرض الشرطة، وكنت أحمل هذا الخطاب أينما ذهبت، وكان عدم اضطراري لاستخدام ذلك الخطاب يُعد من قبيل الصدفة المحضة. دعاني الدكتور كروس إلى منزله، ويمكن القول بأننا أصبحنا أصدقاء، وكنت أزوره أحيانًا، حتى إن الفضل يرجع إليه في تعرفي إلى أخيه ذائع الصيت الذي كان يعمل رئيسًا للنيابة في جوهانسبرج، وقد خضع لمحاكمة عسكرية في حرب البوير بتهمة التآمر على قتل جندي إنجليزي، وقد حُكم عليه بالسجن سبع سنوات، وشطب من نقابة المحامين، إلا أنه قد أُطلق سراحه عقب انتهاء أعمال العنف، ومارس عمله بالمحاماة بعد قبوله مرة أخرى في نقابة محامِي الترانسفال على نحو مشرف. عادت عليَّ مثل هذه العلاقات بالنفع فيما بعد في حياتي العامة، وسهلت الكثير من عملي. كان الشرطي يتغير من وقت إلى آخر، وفي أحد المرات، دفعني الشرطي المسئول وجرني بعيدًا عن الطريق دون سابق إنذار ودون حتى أن يطلب مني الابتعاد عن الطريق، فهالني الموقف كثيرًا. وقبل أن أستفسر عن تصرفه هذا، وجدت السيد كوتس، الذي كان مارًّا من نفس الشارع على ظهر حصان، يهتف قائلًا: «لقد رأيت كل ما حدث يا غاندي. ويسعدني أن أشهد معك في المحكمة إذا ما قاضيت ذلك الشرطي، أعتذر لتعرضك لمثل هذا الاعتداء العنيف.» فأجبته قائلًا: «لا داعي للاعتذار؛ فالشرطي لا يعرف شيئًا، فالملونون جميعًا عنده سواء. لا شك أنه يعامل الزنوج بنفس الطريقة التي عاملني بها، ولقد عاهدت نفسي ألا أقاضي أي شخص لمظلمة تخصني، ولذلك لن أقاضي ذلك الشرطي.» فقال لي: «هكذا أنت دائمًا يا غاندي، لكن أرجو أن تعيد التفكير في الأمر. يجب علينا أن نلقن من هم على شاكلة ذلك الشرطي درسًا.» ثم تحدث السيد كوتس إلى الشرطي وعنفه بشدة، ولم أستطع فهم الحديث الذي دار بينهما لأنهما كانا يتحدثان باللغة الهولندية نظرًا لكون الشرطي من البوير، فاعتذر لي الشرطي مع عدم وجود حاجة للاعتذار، فقد كنت سامحته بالفعل. على أنني لم أسرْ في ذلك الشارع منذ ذلك الحين، فسوف يأتي أشخاص آخرون مكان ذلك الشرطي، ويمكن أن يتصرفوا مثلما تصرف هو لجهلهم بما حدث، فلماذا أخاطر بتعرضي للضرب مرة أخرى من غير داع؟ فاخترت طريقًا آخر للمشي. زادت هذه الواقعة من شعوري بمعاناة الجالية الهندية، فناقشت معهم فكرة رفع دعوى في حالة الحاجة إلى ذلك، بعد رؤية المعتمد السياسي البريطاني لمناقشة هذه القوانين. وهكذا استطعت أن أدرس الأوضاع القاسية التي تعانيها الجالية الهندية عن كثب، ليس فقط من خلال ما قرأته وسمعته ولكن من خلال التجربة الشخصية أيضًا. واتضح لي أن الهنود لا يلاقون الاحترام الملائم في جنوب أفريقيا، وأصبح ذهني مشغولًا أكثر فأكثر بكيفية تحسين هذه الأوضاع. لكن مهمتي الرئيسية في ذلك الحين كانت تقتصر على حضور قضية السيد دادا عبد ﷲ.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.14/
التحضير للقضية
كان العام الذي قضيته في بريتوريا يضم أفضل الخبرات التي عايشتها في حياتي، فهناك توفرت لي الفرصة لتعلم الخدمة العامة وأدركت بعض الشيء مدى قدرتي على القيام بمثل ذلك العمل. وهناك أصبحت الروح الدينية قوة حية بداخلي، واكتسبت معرفة حقيقية بممارسة المحاماة. وتعلمت الأمور التي يتعلمها المحامي الصغير من المحامي الأكثر خبرة، واكتسبت الثقة التي تمكني من النجاح في هذه المهنة. وهكذا تعلمت أسرار النجاح كمحام. كانت قضية دادا عبد ﷲ كبيرة، فقد كانت الدعوى للمطالبة بمبلغ ٤٠٠٠٠ جنيه إسترليني، وكانت القضية مليئة بالحسابات المتداخلة لأنها كانت قائمة على العمليات التجارية، وكان جزء من الدعوى يرتكز على سندات إذنية والآخر على التنفيذ العيني للتعهد بتسليم سندات إذنية. وكان الدفاع يرتكز على القول بأن السندات الإذنية جرى الحصول عليها بالاحتيال وأنه لا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. كانت هذه القضية المعقدة تحتوي على العديد من الوقائع والمسائل القانونية. وقد وكل كلا الطرفين أفضل المحامين، مما أتاح لي فرصة دراسة كيفية عملهم. عُهد إليَّ بإعداد حجة الادعاء للمحامي وفحص الوقائع التي تدعم حجته، وكنت أتعلم الكثير برؤية مقدار ما يقبله المحامي أو يرفضه من عملي، وأيضًا برؤية مقدار استفادة مجموعة المحامين من المذكرة التي يعدها المحامي، ورأيت أن الإعداد للقضية سيجعلني أدرك مدى قدرتي على الفهم وقدرتي على تنظيم الأدلة. لقد كنت شديد التحمس للقضية، حتى إنني كرست كل وقتي لها، فقرأت كل الأوراق المتعلقة بالمعاملات التجارية، وكان موكلي ذا نفوذ واسع وكان يثق بي ثقة مطلقة مما سهل مهمتي للغاية. عكفت على دراسة مسك الدفاتر حتى اكتسبت قدرًا جيدًا من المعرفة في هذا المجال، وتحسنت قدرتي على الترجمة نتيجة لترجمتي للمراسلات التي كان معظمها باللغة الجوجراتية. ذكرت فيما سبق أنني كنت مهتمًّا بالمسائل الدينية والخدمة العامة، وكنت دائمًا ما أخصص بعضًا من وقتي لتلك الأعمال، لكن في هذه المدة لم تكن تلك الأعمال أولى اهتماماتي، بل كانت الأولوية لإعداد القضية، وكنت أعطي الأولوية لقراءة القانون ومراجعة القضايا القانونية عند الضرورة، ونتيجة لذلك أدركت وقائع القضية بصورة ربما لم يدركها بها أي من الطرفين؛ نظرًا لما توفر لديَّ من مستندات تتعلق بكل من الطرفين. تذكرت نصيحة الراحل السيد بينكت التي تقول بأن الوقائع هي ثلاثة أرباع القانون. وقد أكد تلك الكلمات فيما بعد الراحل السيد ليونارد، المحامي المشهور بجنوب أفريقيا. وبدراستي لإحدى القضايا التي كنت أتولاها، رأيت أنه مع أن العدالة في جانب موكلي فإن القانون كان ضده، فلجأت إلى السيد ليونارد طالبًا العون، وقد رأى هو أيضًا أن الوقائع دامغة، فقال لي: «لقد تعلمت أمرًا واحدًا يا غاندي، وهو أنه علينا أن نهتم بوقائع القضية وسوف يهتم القانون بنفسه، دعنا نتعمق أكثر في دراسة وقائع القضية.» فطلب مني التعمق أكثر في دراسة القضية، ثم أُطلعه على ما توصلتُ إليه. بدت لي الوقائع مختلفة تمامًا عندما أعدت دراستها، وعثرت على قضية قديمة وقعت في جنوب أفريقيا تدور حول نفس المسألة، فشعرت بالسعادة وذهبت إلى السيد ليونارد وأخبرته بكل شيء فقال: «حسنًا، سوف نربح القضية لكن علينا أن نضع في عين الاعتبار أي قاض سينظرها.» عندما كنت أعد لقضية دادا عبد ﷲ، لم أكن قد أدركت الأهمية العظمى للوقائع بصورة كاملة، فالوقائع تعني الحقيقة، وما إن نلتزم بالحقيقة فسرعان ما نجد القانون في صفنا بصورة تلقائية، وكان جليًّا أن وقائع قضية السيد دادا عبد ﷲ كانت دامغة للغاية، وأنه يجب أن يكون القانون في جانبه، ولكنني في الوقت نفسه رأيت أن الاستمرار في الدعوى سيؤدي إلى الإضرار بكل من المدعي والمدعى عليه، وهما قريبان وينتمون إلى المدينة ذاتها. ولم يكن أحد يدري المدة التي يمكن أن يستغرقها نظر القضية، ففي حالة استمرار التقاضي في المحكمة، يمكن أن تستمر القضية لأجل غير مسمى ولن يكون ذلك في مصلحة أي من الطرفين، ولذلك كان كل من الطرفين يرغب في حل فوري لهذه القضية، إن وجد. نصحت السيد طيب باللجوء إلى التحكيم، واقترحت عليه أن يستشير محاميه، وأخبرته أنه في حالة التمكن من تعيين محكم يثق به كلا الطرفين، فإن ذلك سيؤدي إلى إنهاء القضية في وقت أسرع. وكانت أتعاب المحامين تتزايد بسرعة حتى إنها كانت تلتهم جميع أموال الموكلين، وهم من كبار التجار، وكانت القضية تستحوذ على وقتهم بأكمله، فلا يتبقى لهم وقت للقيام بأي عمل آخر. وفي غضون ذلك كان الشعور بالبغض يتزايد بين الطرفين، ونما لديَّ شعور ببغض المهنة. كان على محاميّ كلٍّ من الطرفين استثارة الأجزاء القانونية التي تدعم موكليهم. ورأيت للمرة الأولى أن الطرف الذي يربح القضية لا يسترد التكاليف التي تحملها أبدًا. وينص قانون الأتعاب القضائية على مقياس ثابت للتكاليف المسموح بها بين طرف وآخر وأعلى تكلفة هي التكاليف الفعلية بين المحامي والموكل، فلم أستطع تحمل ذلك الوضع، وشعرت أن من واجبي أن أساعد الطرفين وأسوي الأمر بينهما، فبذلت كل ما في وسعي للتوصل إلى تسوية، حتى وافق السيد طيب في النهاية، وعُين محكم لنظر القضية، وفاز بالقضية دادا عبد ﷲ. لكنني لم أكن أشعر برضًى تام، ففي حالة التنفيذ الفوري لحكم التحكيم، سيكون من المستحيل أن يتمكن السيد طيب من سداد المبلغ المحكوم به الذي يبلغ نحو ٣٧٠٠٠ جنيه إسترليني بالإضافة إلى المصروفات. وكان هناك مبدأ ضمني بين الميمان المنتمين إلى بورباندار الذين يعيشون في جنوب أفريقيا، وهو أن الموت أحب إليهم من الإفلاس. وكان السيد طيب يعتزم سداد المبلغ بالكامل، ولم يكن يرغب في الوقت ذاته في الإفلاس. فكانت هناك طريقة واحدة لإنقاذ الموقف، وهي أن يسمح له السيد دادا عبد ﷲ بسداد المبلغ على أقساط، وكان السيد دادا عبد ﷲ مقدرًا لوضع السيد طيب، فقبل بتجزئة المبلغ على بضع سنوات، وكان أمر إقناع السيد دادا عبد ﷲ بقبول تجزئة المبلغ أكثر مشقة عليَّ من إقناعهم باللجوء إلى التحكيم. ما يهم في الأمر أن الطرفين كانا راضيين بما أسفرت عنه التسوية، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع منزلتهم بين العامة، وكانت السعادة تغمرني حينها، فقد تعلمت مهنة المحاماة الحقيقية، وتعلمت اكتشاف الجانب الأفضل من الطبيعة البشرية وأن أتعمق في قلوب البشر، وأدركت حينها أن مهمة المحامي الحقيقية تكمن في الإصلاح بين الخصوم. وهكذا رسخ الدرس الذي تعلمته من القضية في ذهني، حتى إنني قضيت العشرين سنة التالية من ممارستي للمحاماة مشغولًا معظم الوقت بالتوصل إلى تسويات خاصة لمئات القضايا، ولم يجعلني ذلك أخسر شيئًا، ولا حتى المال — وبالطبع لم يجعلني أخسر نفسي.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.15/
الاضطراب الديني
الآن أعود لقص تجاربي مع الأصدقاء المسيحيين، فقد أصبح السيد بيكر قلقًا بشأن مستقبلي، فدعاني لحضور مؤتمر ويلنجتون، حيث ينظم المسيحيون البروتستانت هذه الاجتماعات كل بضع سنوات بهدف التنوير الديني أو بعبارة أخرى تطهير النفس، ويمكن أن نطلق على ذلك النوع من الاجتماعات الإحياء الديني، وقد كان مؤتمر ويلنجتون ينتمي لهذا النوع من الاجتماعات. وكان رئيس المؤتمر القس المبجل أندرو موراي. وظن السيد بيكر أن جو السمو الديني الذي كان يملأ المؤتمر وحماسة الحضور وخشوعهم سيجعلني بلا شك أعتنق المسيحية. كان أمله الأخير يتمثل في تأثير الصلاة، فقد كان يتمتع بإيمان راسخ في الصلاة، وكانت لدى السيد بيكر قناعة راسخة بأن الإله لا يقبل إلا الصلاة المؤداة بإيمان راسخ، وكان يستشهد بذكر أشخاص مثل جورج مولر من مدينة بريستول، الذي كان يعتمد على الصلاة بصورة مطلقة حتى عندما يكون له حاجة دنيوية. استمعت إلى حديثه عن تأثير الصلاة بحياد، ثم أخبرته أنه عندما ينفتح قلبي للمسيحية لن يمنعني من اعتناقها شيء، ولم أتردد للحظة في إخباره بذلك، فلقد اعتادت نفسي أن تتبع صوت ضميري، ولطالما أسعدني أن أتبع ذلك الصوت الذي ينبع من داخلي، فكان من المؤلم ومن الصعب عليَّ عدم الإنصات له. توجهنا إلى ويلنجتون، حيث تعرض السيد بيكر للكثير من المشاكل بسبب اصطحابه «شخصًا ملونًا» مثلي. فقد تعرض إلى عدة مضايقات في مناسبات شتى بسببي، واضطررنا إلى أخذ راحة قصيرة في أثناء الرحلة لأنه كان يوم الأحد ولم يكن السيد بيكر أو مجموعته يسافرون في ذلك اليوم، وبعد جدال طويل وافق مدير فندق المحطة على استضافتي، لكنه مع ذلك رفض بصرامة أن أتناول الطعام في غرفة الطعام، لكن السيد بيكر لم يكن سهل الاستسلام، ودافع عن حقوق النزلاء. كنت أرى معاناته وأشعر بضيقه. مكثت معه في ويلنجتون أيضًا، وشعرت بما يعانيه من مشاكل صغيرة وذلك مع محاولاته المضنية لإخفائها عني. كان المؤتمر يتكون من حشد من المسيحيين المخلصين، الذين أثار انتباهي إيمانهم. قابلت القس المبجل موراي، وكانت معظم الصلوات من أجلي. وقد راقني بعض ترانيمهم نظرًا لعذوبتها. استمر المؤتمر ثلاثة أيام، أدركت فيها إخلاص الحاضرين وأعجبت بهم، لكنني لم أجد سببًا وجيهًا لتغيير ديني، وكان من المستحيل أن أؤمن بأن الخلاص ودخول الجنة مرهون فقط باعتناقي المسيحية، وقد صُدم بعض أصدقائي المسيحيين عندما أخبرتهم بوجهة نظري هذه، لكنني كنت مؤمنًا بها تمامًا. المشكلة الحقيقة كانت أعمق من ذلك، فلم أستطع أن أؤمن بأن المسيح هو ابن الرب الأوحد الذي تجسدت فيه روحه، وأن أولئك الذين يؤمنون به وحدهم سينعمون بحياة سرمدية، فإن كان للرب أن يكون له ولد، فجميعنا أبناؤه، وإن كان المسيح مثل الرب أو هو الرب ذاته، فجميع البشر مثل الرب ويمكن أن يكونوا الرب ذاته. ولم أستطع تصديق أن المسيح افتدى بموته ودمه خطايا البشر جميعًا بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن لو نظرنا للأمر على نحو مجازي فيمكن أن يحمل بين طياته بعض الحقيقة. علاوة على ذلك، تقول المسيحية بأن البشر وحدهم لهم روح أما غيرهم من الكائنات الحية فالموت يعني لهم الفناء التام، لكنني كنت أرى غير ذلك. كان من الممكن أن أتقبل المسيح شهيدًا وتجسيدًا للتضحية ومعلمًا جليلًا، لكن ليس كأكمل إنسان عرفته البشرية. كان موت المسيح على الصليب يمثل عبرة للعالم أجمع، لكنني لم أجد في ذلك أي أثر غامض أو خارق في قلبي. ولم تضف لي سير حياة المسيحيين الصالحين ما يزيد على الذي يمكن أن أحصل عليه من حياة الصالحين في أي دين آخر، فلقد وجدت في حياة آخرين ممن ينتمون لديانات أخرى نفس الإصلاح الديني الذي سمعت المسيحيين يتحدثون عنه. ومن الناحية الفلسفية، لم أجد ما يميز المعتقدات المسيحية، بل وجدت أن الهندوس يفوقون المسيحيين بدرجة كبيرة فيما يتعلق بالتضحية، فكان من المستحيل أن أؤمن أن المسيحية دين كامل أو أنها أكمل الديانات. أطلعت أصدقائي المسيحيين على تلك الأفكار كلما سنحت الفرصة، لكن إجاباتهم لم تكن مقنعة. ومثلما كان أصدقائي المسيحيون يسعون إلى إقناعي باعتناق المسيحية، كان أصدقائي المسلمون يسعون إلى دخولي في الإسلام، فقد ظل السيد عبد ﷲ يحثني على دراسة الإسلام، وكان دائمًا يحكي لي عن عظمة ذلك الدين. كتبت إلى رايشاندباي معبرًا عن الأفكار التي تراودني، وراسلت الكثير من المؤسسات الدينية في الهند وتلقيت ردودًا منها. وكان خطاب رايشاندباي مطمئنًا إلى حد بعيد، حيث أخبرني أن أتحلى بالصبر وأدرس الهندوسية بتعمق أكبر. قال لي في إحدى الجمل التي كتبها في خطابه: «عند النظر إلى المسألة بحيادية، أرى أنه لا توجد ديانة تتمتع بالفكر السامي والعميق الذي تتمتع به الهندوسية أو برؤيتها للروح أو بإحسانها.» ولقد بقيت ممتنًّا لأصدقائي المسيحيين لأنهم جعلوني أخوض في رحلة البحث الديني تلك، مع أنني سلكت طريقًا غير الذي تمنوه، ولن أنسى أبدًا الأيام التي قضيتها معهم. وكان الزمن يحمل لي بين طياته المزيد من هذه العلاقات الجميلة والروحانية.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.16/
وتُقدرون فتضحك الأقدار
لم يكن هناك حاجة لبقائي في بريتوريا بعد انتهاء القضية، فعدت إلى دربان وأخذت أستعد للعودة إلى الوطن، لكن السيد عبد ﷲ لم يكن ليدعني أرحل دون أن يودعني، فأقام حفلة توديع على شرفي في سيدينهام. وعرض عليَّ أن أمضي اليوم كله في سيدينهام، وبينما أنا أقلب صفحات بعض الجرائد التي وجدتها هناك، إذ بخبر في زاوية إحدى الصفحات بعنوان «حق تصويت الهنود»، وكان الخبر يشير إلى مشروع قانون تنظره الهيئة التشريعية، والذي كان يقضي بحرمان الهنود من حقهم في انتخاب أعضاء المجلس التشريعي بناتال، ولم أكن على دراية بمشروع القانون، وكذلك الموجودون بالحفلة. سألت السيد عبد ﷲ عن مشروع القانون، فأجابني: «لا علاقة لنا بهذه الأمور، فلا يعنينا إلا المسائل التي تؤثر على تجارتنا، وأنت تعلم أن جميع تجارتنا الموجودة في حكومة أورانج الحرة قد قُضي عليها، وقد حاولنا الاحتجاج ولكن دون جدوى. نحن ضعفاء بجهلنا، ونطلع على الصحف لمجرد معرفة أسعار السوق اليومية. ماذا نفهم نحن في التشريع؟ فالمحامون الأوروبيون هم عيني التي أرى بها هنا وأذني التي أسمع بها.» فقلت له: «هناك العديد من الشباب الهنود ولدوا وتعلموا هنا، لماذا لا يساعدونكم؟» فأجابني في يأس: «هم لا يكترثون لحالنا، وإحقاقًا للحق نحن أيضًا لا نهتم بمعرفتهم. فاعتناقهم للديانة المسيحية جعلهم خاضعين لرجال الدين من البيض، الذين يخضعون بدورهم للحكومة.» فأدركت حينها الوضع، ورأيت أنه من حقنا المطالبة بانتماء هذه الفئة إلى الهنود. هل هذا هو ما تعنيه المسيحية؟ هل تخلَّوا عن كونهم هنودًا لاعتناقهم المسيحية؟ ترددت في البوح بما يجول في خاطري نظرًا لأنني كنت أستعد للعودة إلى الوطن، فقلت للسيد عبد ﷲ ببساطة: «إقرار هذا القانون سيجعل وضعنا صعبًا، إنه أول مسمار يوضع في نعشنا، ويستهدف احترامنا لذاتنا.» فأجابني: «دعني أخبرك بأصل مسألة حق التصويت هذه، لم نكن على علم بالأمر، لكن السيد إسكومب، وهو من أفضل المحامين لدينا، زرع هذه الفكرة في عقولنا، وهذا ما حدث. كان السيد إسكومب مناضلًا عظيمًا، لكنه لم يكن على وفاق مع مهندس رصيف الميناء، فخشي السيد إسكومب أن يحرمه المهندس من أصواته ويهزمه في الانتخابات، فأعلمنا بوضعنا، وسجلنا أسماءنا جميعًا بناءً على طلبه في كشوف الناخبين، وصوتنا لمصلحته. وهكذا ترى الآن كيف أن قانون حق التصويت لا يمثل أي قيمة لنا. لكننا نعي ما تريد إخبارنا به، فماذا تقترح؟» كان بقية الحضور ينصتون إلى المحادثة باهتمام، فقال أحدهم: «هل أخبرك بما علينا فعله؟ تَعْدِل عن سفرك وتمكث معنا شهرًا آخر وسوف نناضل جميعًا إلى جانبك.» فهتف الجميع: «بالطبع بالطبع، يا سيد عبد ﷲ، يجب أن تمنع غاندي من الرحيل.» كان السيد عبد ﷲ داهية، فقال لهم: «لا يسعني أن أمنعه من السفر، وأنتم مثلي لا تملكون الحق في منعه من السفر، لكنكم على حق، هيا بنا جميعًا نقنعه بالعدول عن السفر والبقاء معنا، لكن عليكم أن تتذكروا جميعًا أنه محامٍ ويجب أن يتلقى أتعابه.» لقد آلمني ذكر السيد عبد ﷲ للأتعاب، فقاطعته قائلًا: «يستحيل أن أقبل أتعابًا نظير القيام بخدمة عامة. يمكنني أن أبقى معكم، إن استطعت، خادمًا لمصالحكم. وكما تعلم يا سيد عبد ﷲ فأنا لا أعرف جميع الأصدقاء الحضور، لكنك إن ضمنت لي تعاونهم فأنا مستعد إلى مد إقامتي شهرًا آخر، ولكن هناك أمر أود أن أطرحه، مع أنني لن أتلقى أي أتعاب عن عملي هذا، سنكون في حاجة لبعض المال للبدء في مهمتنا. فسنحتاج إلى إرسال البرقيات وربما نحتاج لطباعة بعض المطبوعات والقيام ببعض الجولات وربما نحتاج إلى استشارة بعض المحامين المحليين، ذلك بالإضافة إلى احتياجي لبعض المراجع للاطلاع على قوانين البلاد هنا، ولا نستطيع تحقيق كل ذلك دون توافر الأموال، علاوة على أن رجلًا واحدًا لن يستطيع القيام بكل هذه المهام وحده، فيجب أن يتطوع بعض الرجال لمساعدتي.» فَعَلَا صوت الهتاف: «ﷲ أكبر، ﷲ رحيم. سنوفر المال، أما الرجال فلدينا من الرجال ما تحتاج، ما عليك إلا أن توافق على البقاء معنا، وسيكون كل شيء كما تريد.» وبهذا تحولت حفلة الوداع إلى لجنة عمل، فاقترحت الانتهاء من العشاء وغيره من المراسم بسرعة حتى يمكننا العودة إلى منازلنا. ووضعت في ذهني مخططًا للحملة التي سنقوم بها، وتحققت من أسماء الأشخاص المسجلين في كشوف الناخبين، وقررت البقاء لمدة شهر. هكذا دبر الإله حياتي في جنوب أفريقيا، وغرس بذرة النضال من أجل الكرامة الوطنية.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.17/
الاستقرار في ناتال
كان السيد حاجي محمد حاجي دادا يُعد زعيمًا للجالية الهندية في ناتال في ١٨٩٣م. وكان السيد عبد ﷲ حاجي آدم أكبر الأثرياء الهنود، لكن جميع الهنود بما فيهم السيد عبد ﷲ حاجي آدم كانوا يقدمون السيد حاجي محمد عليهم في القضايا العامة، فعُقد اجتماع برئاسته في منزل السيد عبد ﷲ تقرر فيه الاحتجاج على مشروع قانون الحرمان من حق التصويت. وفد كثير من المتطوعين لحضور هذا الاجتماع، ودُعي الهنود المولودون في ناتال، الذين كان أغلبهم من الشباب الهندي المسيحي، وكان من الحضور السيد باول، مترجم محكمة دربان، والسيد سوبان جودفري، مدير إحدى المدارس التبشيرية، وقد كانت مهمتهم جمع أكبر عدد من الشباب المسيحي في الاجتماع، وقد كانوا جميعًا متطوعين. وانضم إلينا كثير من التجار المحليين، ومن الجدير بالذكر انضمام السادة داود محمد ومحمد قسام قمر الدين وأدامجي مياخان وأيه كولاندافيلو بيلاي وسي لاشيرام ورانجاسامي بادياشي وعماد جيفا. علاوة على ذلك، انضم إلينا بالطبع بارسي روستومجي. ومن الكتبة الذين انضموا إلينا، السادة مانيكجي وجوشي ونارسينرام وغيرهم من العاملين لدى دادا عبد ﷲ وشركائه وغيرها من الشركات الكبرى. ولقد فوجئوا جميعًا عندما وجدوا أنفسهم يشاركون في الخدمة العامة، فدعوتهم للمشاركة فيها وكانت تجربة جديدة عليهم. وفي ظل النكبة التي تعرضت لها الجالية، زالت كل الفوارق بين الهنود من غني وفقير، وعظيم ووضيع، وسيد وخادم، وهندوسي ومسلم وبارسي ومسيحي وجوجراتي ومدراسي وسندي، وغيرها من الفوارق التي طالما شتتت شمل الهنود، فأصبح الجميع سواسية ويعملون كأبناء وخادمين للوطن. اجتاز مشروع القانون، أو كاد أن يجتاز، مرحلة المناقشة الثانية بالمجلس، وقد اسْتُخْدِم عدم احتجاج الهنود على مشروع القانون الصارم في الكلمات التي تناولت المسألة دليلًا على عدم أهليتهم للتصويت. شرحت الوضع للحضور، وأول خطوة أقدمنا عليها كانت إرسال برقية إلى رئيس المجلس لطلب إرجاء أي مداولات تتعلق بمشروع القانون، وأرسلنا برقية إلى رئيس الوزراء، السيد جون روبنسون، وأخرى إلى السيد إسكومب بصفته صديق السيد دادا عبد ﷲ. وجاء رد رئيس المجلس سريعًا بأن المداولات بشأن مشروع القانون ستؤجل لمدة يومين، الأمر الذي أضفى على أنفسنا البهجة والسرور. وضعنا صيغة العريضة التي ستقدم إلى المجلس التشريعي، وكان يجب تحرير ثلاث نسخ للمجلس وواحدة للصحافة، وجعلنا العريضة متاحة لجمع أكبر عدد من التوقيعات، وكان لا بد أن ينتهي كل ذلك العمل في ليلة واحدة، فأمضى المتطوعون ممن يعرفون اللغة الإنجليزية وغيرهم الليل بطوله في العمل. كتب النسخة الرئيسية من العريضة السيد آرثر، وهو رجل كبير السن معروف بحسن خطه في الكتابة، أما باقي النسخ فكتبها آخرون إملاء، وبهذا أصبح هناك خمس نسخ جاهزة في وقت واحد. وخرج التجار المتطوعون على عرباتهم أو العربات التي دفعوا ثمن إيجارها لجمع التوقيعات على العريضة، فأُنجزت كل هذه المهام في وقت وجيز، وأرسلنا العريضة، التي نشرتها الصحف وأيدتها، والتي أثرت في أعضاء المجلس. وعند مناقشة العريضة في المجلس، تقدم المؤيدون للقانون بحجج واهية للرد على ما جاء في عريضة الاحتجاج، ومع ذلك كله، صدر القانون. كنا نعلم جميعًا أن إصدار القانون كان أمرًا مُعدًّا مسبقًا، لكن الثورة التي حدثت بثت روحًا جديدة في أفراد الجالية، وجعلتهم يدركون أن الجالية الهندية هي كيان واحد لا يتجزأ، وأن من واجبهم الدفاع عن الحقوق السياسية للجالية بقدر واجبهم المتمثل في الدفاع عن حقوقها التجارية. كان اللورد ريبون وقتها يشغل منصب وزير المستعمرات، وكان من المقرر إرسال عريضة مطولة إليه، لكن المهمة لم تكن بهذه البساطة. انضم إلينا المتطوعون وقام كل منهم بعمله. تعرضت للكثير من المشقة أثناء صياغتي لهذه العريضة، وقد قرأت كل ما كُتب عن الموضوع، وكان دفاعي يرتكز على مبدأ وحجة، فقلت: إننا كنا نتمتع بحق التصويت في ناتال كما كنا نتمتع بنوع من حق التصويت في الهند، وإن من حقنا الاحتفاظ بذلك الحق نتيجة لأن عدد الهنود القادرين على استخدامه ضئيل للغاية. تمكنا من جمع عشرة آلاف توقيع في أسبوعين، ولم يكن جمع مثل ذلك العدد من التوقيعات من جميع أرجاء الإقليم بالمهمة السهلة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار قلة خبرة المتطوعين في مجال العمل هذا، وكنا نختار المتطوعين المؤهلين بعناية لأننا قررنا ألا يوقع أحد على العريضة دون أن يفهم مضمونها كليًّا، وكانت القرى تقع على مسافات متباعدة، ولم يكن في وسعنا إنجاز المهمة إلا بتكريس المتطوعين جل جهدهم لإنجازها، وهذا ما حدث بالفعل، فقد أدى كل منهم عمله بحماسة. ويحضرني وأنا أسطر هذه الكلمات كل من السيد داود محمد والسيد روستومجي والسيد أدامجي مياخان وعماد جيفا، حيث يرجع الفضل إليهم في الحصول على أكبر عدد من التوقيعات. أخذ السيد داود يطوف بعربته طوال اليوم لجمع التوقيعات، وكان كل ذلك بدافع الحب، فلم يطالب أي منهم بأي مال ولو حتى المصروفات التي كانوا ينفقونها من أموالهم، وتحول بيت السيد دادا عبد ﷲ فورًا إلى مكتب عام ومقر للاجتماعات، حتى إن عددًا من المتطوعين المتعلمين الذين ساعدوني وغيرهم كانوا يتناولون طعامهم هناك. وهكذا تحمل كل من ساعد في ذلك العمل جزءًا كبيرًا من المصروفات. أخيرًا قدمنا العريضة، وطبعنا ألف نسخة لتوزيعها، ولأول مرة أعطت هذه العريضة الشعب الهندي خلفية عن الأوضاع في ناتال، وأرسلت نسخًا لجميع الصحف ووكلاء الدعاية الذين أعرفهم. أيدت جريدة التايمز الهندية في مقالتها الافتتاحية المطالب الهندية بقوة، وأرسلت العريضة إلى الصحف ووكلاء الدعاية بإنجلترا ممن ينتمون إلى أحزاب مختلفة، وأيدت التايمز بلندن موقفنا، فبدأت تراودنا الآمال بأنه لن يُصَدَّق على القانون. كان من المستحيل أن أترك ناتال في ذلك الوقت، فقد كان الأصدقاء الهنود يحيطون بي من كل جانب ويلحون عليَّ للبقاء معهم بصورة دائمة، فعبرت لهم عن الصعاب التي أواجهها، وقررت ألا أعيش على النفقات العامة، وشعرت أنه من الضروري أن أحصل على منزل مستقل، ويجب أن يكون ذلك المنزل مناسبًا ويقع في موقع ملائم. وكنت مقتنعًا بأنني لن أستطيع أن أضيف إلى الجالية إلا إذا عشت في المستوى الذي يعيش فيه المحامون عادة. وبدا لي أنه لن يمكنني إدارة مثل هذا البيت بما يقل عن ٣٠٠ جنيه إسترليني في السنة. وهكذا رهنت إقامتي بجنوب أفريقيا بضمان أعضاء الجالية عملًا قانونيًّا يغطي مثل ذلك المبلغ على الأقل، وأخبرتهم بالأمر. فأجابوني: «إننا نريدك أن تحصل على ذلك المبلغ نظير خدماتك العامة، وسنتمكن من جمعه بسهولة، وذلك بالطبع بجانب الأتعاب التي ستحصل عليها نظير عملك القانوني الخاص.» فقلت: «لا أستطيع أن أتقاضى المال نظير الخدمة العامة، فلن يتطلب العمل مني الكثير من مهارات المحاماة، وسيتركز على توجيه المتطوعين إلى ما يجب عمله، فكيف أتقاضى المال نظير ذلك؟ وكثيرًا ما سأطلب منكم الأموال اللازمة للعمل، وإذا كنت سأحصل منكم على هذا المبلغ كراتب فيمكن ألا أطلب منكم مبالغ كبيرة للعمل لأن ذلك قد يضر بمصلحتي. وهكذا سنجد أنفسنا في جمود تام. علاوة على ذلك، آمل في أن تتمكن الجالية من الحصول على ما يزيد على ٣٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا من أجل الخدمة العامة.» – «لكننا نعرفك جيدًا الآن ونحن واثقون بأنك لن تطلب أي أموال لست في حاجة إليها، وإذا كنا نرغب في بقائك معنا، ألا يستوجب ذلك منا توفير نفقاتك؟» – «إنكم تتحدثون على هذا النحو لما تشعرون به من حب وحماسة وقتية. فما أدراني أن يدوم ذلك الحب والحماسة إلى الأبد؟ ووضعي كصديق ومرشد لكم سيجعلني أوجه إليكم بعض الكلمات القاسية، ولا أدري إذا كنتم حينها ستظلون تُكنُّون لي نفس التقدير أم لا. على كل حال، لن أقبل أي أموال نظير الخدمة العامة، ويكفيني أن توافقوا جميعًا على توكيلي في قضاياكم وغيرها من الأعمال القانونية، وذلك لن يكون من السهل عليكم، فأنا محامٍ ملون. ولست موقنًا من استجابة المحكمة لي. وأنا غير متأكد من نجاحي كمحامٍ. وهكذا، ستتعرضون لجانب من المخاطرة إذا وكلتموني في قضاياكم. وسأعتبر حينها أن مجرد توكيلكم لي هو مقابل خدماتي العامة.» نتيجة لذلك الحوار وكلني عشرون من التجار محاميًا لهم لمدة سنة. إضافة إلى ذلك، اشترى لي السيد دادا عبد ﷲ الأثاث اللازم لمنزلي بدلًا من منحي مبلغًا من المال كان يعتزم إعطائي إياه عند سفري. وهكذا استقررت في ناتال.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.18/
نقابة المحامين والملونون
يرمز للمحكمة بكفتي ميزان متساويتين تحملها سيدة غير متحيزة ومعصوبة العينين لكنها مع ذلك حكيمة، ولعل القدر هو الذي عصب عينيها لكيلا تحكم على الناس وفقًا لمظهرهم الخارجي ولكن وفقًا لجوهرهم. ومع ذلك كانت نقابة المحامين في ناتال تسعى لإقناع المحكمة العليا بمخالفة هذا المبدأ ومناقضة الرمز الذي يشير إليها. تقدمت للقَبول محاميًا معتمدًا لدى المحكمة العليا، وكنت أحمل شهادة اعتماد من محكمة بومباي العليا، وقد كنت مضطرًّا لإيداع الشهادة الإنجليزية لدى محكمة بومباي العليا عندما كنت مسجلًا بها، وكان عليَّ إرفاق شهادتَيْ حسن سير وسلوك بطلب القَبول. ونظرًا لاعتقادي بأن مثل هذه الشهادات ستكون لها قيمة أكبر في حالة صدورها عن أشخاص أوروبيين، توجهت إلى اثنين من التجار الأوروبيين المعروفين الذين عرفني عليهما السيد عبد ﷲ. وكان يجب أن يكون من يقدم الطلب عضوًا في نقابة المحامين، وكان هناك قاعدة تقول بأن النائب العام يمكنه أن يقدم الطلب دون دفع رسوم. كان السيد إسكومب، الذي سبق وذكرت أنه المستشار القانوني للسيد عبد ﷲ وشركائه، يشغل منصب النائب العام، فذهبت إليه وطلبت منه أن يقدم الطلب، وهو الأمر الذي لم يتردد في قبوله. فاجأتني نقابة المحامين بإرسال إخطار يفيد معارضتها لطلب قبولي في المحكمة العليا، وكانت إحدى الذرائع التي احتجَّتْ بها هي أن الشهادة الإنجليزية غير ملحقة بالطلب، لكن الاعتراض الجوهري كان يتمثل في أنه عند وضع القوانين الخاصة بقبول المحامين لم يفكر المشرع في إمكانية قبول محامٍ ملون. تدين ناتال بالنمو الذي شهدته للأوروبيين، ومن ثَمَّ كان من الضروري أن يسود نقابة المحامين العنصر الأوروبي. ففي حالة قبول الملونين في النقابة، يمكن أن يتجاوز عددهم عدد الأوروبيين تدريجيًّا وبهذا ينهار الحصن الواقي للأوروبيين. كلفت نقابة المحامين محاميًا لامعًا لتأييد معارضتهم لقبولي، ونظرًا لوجود صلة بينه وبين شركة دادا عبد ﷲ وشركائه، أرسل إليَّ مع السيد عبد ﷲ كي أذهب لمقابلته، وتحدث إليَّ الرجل بصراحة وسألني عن أسلافي، ثم قال لي: «ليس لديَّ أي تحفظات بشأنك، لكنني كنت أخشى أن تكون أحد الساعين خلف الثراء من المولودين في المستعمرة، وزاد من شكي هذا عدم إلحاقك للشهادة الإنجليزية بطلبك، فهناك الكثير من الأشخاص استغلوا شهادات لم يحصلوا عليها، أما شهادات حسن السير والسلوك فلم تمثل لي أي قيمة، فماذا يعرف عنك هؤلاء التجار؟ وما مدى معرفتهم بك؟» فقلت له: «لكنني غريب على الجميع هنا، حتى السيد دادا عبد ﷲ لم أعرفه إلا بعد وصولي إلى هنا.» – «لكنك قلت إنه ينتمي إلى نفس الولاية، وإذا كان والدك رئيسًا للوزراء فهو بلا شك يعرف عائلتك، وبذلك إذا كنت قد قدمت شهادة خطية من السيد عبد ﷲ، لم أكن لأعترض عليها، وكنت سأخبر النقابة بكل سرور أنني لا أستطيع معارضة طلبك.» أثار هذا الحديث حنقي كثيرًا، لكنني كظمت غضبي، فقلت في نفسي: «لو كنت قدمت شهادة دادا عبد ﷲ، لرُفضتْ ولطُلب مني إحضار شهادات من أوروبيين، وما العلاقة بين قبولي محاميًا ومولدي وأسلافي؟ كيف يمكن استخدام أصلي، سواء كان وضيعًا أو مثيرًا للاعتراض، ضدي؟» لكنني تمالكت أعصابي وأجبت: «أنا على استعداد لتقديم الشهادة الخطية التي تحدثت عنها، مع أنني على يقين من أنه لا يحق للنقابة مطالبتي بكل هذه التفاصيل.» ترى المحكمة أن الاعتراض الذي يرتكز على عدم إلحاق المتقدم لشهادته الإنجليزية غير مقبول موضوعًا، في حالة ثبوت تزوير المتقدم للشهادة، فحينها يمكن مقاضاته ويشطب اسمه من لائحة المحامين، فالقانون لا يميز بين البيض والملونين. وعليه لا تجد المحكمة ما يمنع من إدراج السيد غاندي في لائحة المحامين، وبذلك نقبل طلبه بالانضمام إلى نقابة المحامين. سيد غاندي، يمكنك أن تحلف اليمين الآن. وقفت لأحلف اليمين أمام أمين السجل. وما إن انتهيت من اليمين، حتى خاطبني رئيس المحكمة قائلًا: «سيد غاندي، يجب أن تخلع عمامتك الآن، ويجب أن تلتزم بقواعد المحكمة الخاصة بالزي الرسمي للمحامين.» فأدركت ضعفي، وطواعية خلعت العمامة التي رفضت من قبل أن أنزعها أمام محكمة المقاطعة. وليس ذلك بسبب أن اعتراضي على الأمر لم يكن مبررًا، لكن لأنني أردت أن أدخر قواي للمعارك الأعنف، فلا يجب عليَّ أن أهدر قواي النضالية في الإصرار على الاحتفاظ بعمامتي، فقد كنت أستحق قضية أهم للنضال من أجلها. لم يحبذ السيد عبد ﷲ وغيره من الأصدقاء رضوخي لأمر القاضي (فيا ترى هل كان ضعفًا مني؟) كانوا يرون أن عليَّ التمسك بحقي في ارتداء عمامتي أثناء تأدية عملي في المحكمة، وحاولت أن أقنعهم بوجهة نظري، وحضرتني الحكمة التي تقول: «دارِهم ما دمتَ في دارهم.» فقلت لهم: «كان يمكن أن أرفض خلع عمامتي إذا كان الأمر صادرًا من ضابط أو قاض إنجليزي في الهند، لكن كموظف في المحكمة كان سيشينني أن أتجاهل قواعد المحكمة في ناتال.» نجحت في تهدئة الأصدقاء إلى حدٍّ ما بهذه الحجة وغيرها من الحجج المماثلة، لكنني لم أنجح في إقناعهم تمامًا بمبدأ النظر إلى الأشياء من وجهة نظر مختلفة في الظروف المختلفة، ولكن طوال حياتي، علمني إصراري على الوصول إلى الحقيقة أن أقدر روعة الوصول إلى التفاهم، وأدركت فيما بعد أن هذه الروح هي جزء جوهري من الساتياجراها، وكانت غالبًا ما تعني تعريض حياتي للخطر وتحمل سخط أصدقائي، لكن هذه هي طبيعة الحقيقة حيث تجمع بين صلابة الحجر ورقة الزهور. كانت معارضة نقابة المحامين لي بمثابة الدعاية لي في جنوب أفريقيا، حيث شجبت معظم الصحف معارضة النقابة، واتهمتها بالغيرة. وقد أدت هذه الدعاية إلى تسهيل عملي بقدر ما.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.19/
المؤتمر الهندي لناتال
كان عملي بالمحاماة لي وظيفة ثانوية. فكان من الضروري أن أركز على الخدمة العامة لأشعر بأهمية بقائي في ناتال. لم يكن إرسال العريضة التي تتعلق بالحرمان من حق التصويت كافيًا في ذاته. فقد كان يجب الاستمرار في الثورة ضد القانون حتى نؤثر على وزير المستعمرات، ولذلك كان من الضروري تشكيل كيان دائم. تشاورت مع السيد عبد ﷲ والأصدقاء، فقررنا إنشاء منظمة عامة دائمة. ازدحمت غرفة السيد دادا عبد ﷲ الواسعة بشدة في ذلك اليوم. ولقي الحزب استحسان جميع الحضور المتحمسين. كان دستور الحزب بسيطًا، ولكن رسوم الاشتراك فيه كانت مرتفعة. فقد اقتصرت عضوية الحزب على من يقدر على دفع خمسة شلنات شهريًّا. نجحنا في إقناع الأثرياء بالتبرع بأكبر مبلغ ممكن، وكان على رأسهم السيد دادا عبد ﷲ الذي تعهد بدفع جنيهين إسترلينيين شهريًّا. وتعهد شخصان آخران بدفع نفس المبلغ. رأيت أنه ليس من الملائم أن أبخل، فخصصت جنيهًا إسترلينيًّا شهريًّا، ولم يكن ذلك بالمبلغ القليل، لكنني رأيت أنه لن يكون من المستحيل أن أُدبِّر مثل ذلك المبلغ. واستطعت بعون الإله تدبير المبلغ. وهكذا انضم إلينا عدد كبير من الأعضاء ممن استطاعوا دفع جنيه إسترليني شهريًّا. وكان يفوقهم عدد الأشخاص الذين يدفعون ١٠ شلنات. وكان هناك التبرعات التي كنا نقبلها بامتنان. أثبتت التجربة أن الناس لا يدفعون اشتراك الحزب بمجرد طلبه منهم. وكان يستحيل أن نستمر في الذهاب إلى الأعضاء خارج حدود دربان. فأخذت الحماسة التي كانت متقدة في وقت ما في التلاشي بعد ذلك. وحتى الأعضاء المقيمون داخل دربان، كنا نضطر للإلحاح عليهم كي يسددوا الاشتراكات. وكانت وظيفتي كأمين سر الحزب تشتمل على مسئولية تحصيل الاشتراكات. وجدت نفسي في إحدى المراحل مضطرًّا إلى أن أجعل الموظف الذي يعمل معي يشتغل ليل نهار لتحصيل الاشتراكات، مما جعله يشعر بالإرهاق. ورأيت أنه لتحسين الوضع من الأفضل أن تُدفع الاشتراكات مقدمًا بصورة سنوية بدلًا من شهرية. لهذا دعوت لانعقاد اجتماع حزب المؤتمر الهندي لناتال. رحب الجميع باقتراح دفع الاشتراك سنويًّا بدلًا من شهريًّا وتثبيت الحد الأدنى للاشتراك بمبلغ ٣ جنيهات إسترلينية. كان لذلك عظيم الأثر في تسهيل عملية التحصيل. تعلمت منذ بداية الأمر ألا أنفذ أي خدمة عامة باستخدام أموال مقترضة. فيمكن للمرء أن يثق بوعود الآخرين في الكثير من الأمور إلا ما يتعلق منها بالأموال. لم أجد أحدًا يدفع المبالغ التي وعد بها، ولا حتى من الهنود بناتال. ولم يقع الحزب في الديون قط لأننا لم نكن نقوم بأي عمل دون توافر الأموال. أظهر العاملون معي حماسة عظيمة فيما يتعلق بجذب الأعضاء. ويرجع الفضل في ذلك إلى العمل الذي جذب اهتمامهم، وأكسبهم خبرة عظيمة في الوقت ذاته. توافدت الحشود تحمل أموال الاشتراكات عن طيب خاطر. وكانت المهمة الأصعب تتمثل في العمل في القرى المتباعدة داخل البلاد، فلم يكن لدى الناس وعي بالخدمة العامة. مع ذلك، تلقينا دعوات لزيارة أماكن نائية، حيث عرض كبار التجار استضافتنا. لم يكن جمع الأموال هو المهمة الوحيدة المنوط بنا أداؤها. وفي حقيقة الأمر، تبنيت منذ زمن بعيد مبدأ يقول بألا تضع تحت تصرف الفرد أموالًا تزيد عن الحاجة. كانت الاجتماعات عادة ما تعقد مرة شهريًّا أو أسبوعيًّا إذا لزم الأمر. كنا نقرأ محضر الاجتماع السابق، ثم نناقش جميع المسائل والموضوعات. لم يكن لدى الناس خبرة بالمشاركة في المناقشات العامة أو بكيفية الكلام بإيجاز وفي صلب الموضوع. فكان الجميع يتردد بشأن النهوض والتحدث. وشرحت للناس قواعد الاجتماعات، فالتزموا بها واحترموها. لقد أدركوا أن ما يحدث إنما هو تثقيف لهم، واكتسب الكثير منهم القدرة على التفكير والتحدث على الملأ بشأن أمور ذات اهتمام عام، وذلك مع عدم اعتيادهم على الحديث أمام جمهور قط. قررت ألا تطبع دفاتر الإيصالات في البداية، نظرًا لعلمي بأن النفقات الثانوية تستنزف مبالغ ضخمة في بعض الأوقات. كان لديَّ ماكينة نسخ في مكتبي، وكنت أستخدمها في نسخ الإيصالات والتقارير. ولم أبدأ في طباعة تلك الإيصالات والتقارير إلا بعد أن امتلأت خزائن الحزب، وبعد زيادة عدد الأعضاء وحجم العمل. مثل هذا الترشيد يُعد عنصرًا مهمًّا لجميع المؤسسات، مع علمي بعدم الالتزام الدائم به. لهذا السبب رأيت أن من الأنسب أن أتعرض للتفاصيل الخاصة بنشأة مثل هذه المؤسسة الصغيرة والمتنامية. لم يكن الناس يكترثون بالحصول على إيصالات تثبت المبالغ التي دفعوها، لكننا كنا دائمًا ما نصرُّ على إعطائهم تلك الإيصالات. وهكذا كنا نحسب جميع الأموال بدقة، ويمكنني الجزم بأن دفاتر الحسابات لعام ١٨٩٤م لا تزال سليمة وموجودة في سجلات حزب المؤتمر الهندي لناتال. إن الحفظ الدقيق للحسابات من العناصر الرئيسية اللازمة لأية مؤسسة، والتي تفقد المؤسسة دونه سمعتها الحسنة. فمن المستحيل الوصول إلى الحقيقة المجردة دون الإمساك الدقيق بالحسابات. وكانت خدمة الهنود المتعلمين من الذين ولدوا في المستعمرات سمة أخرى تمتع بها الحزب. فقد شُكلت «جمعية الهنود المتعلمين من أبناء المستعمرات» تحت إشراف الحزب. وقد كان الأعضاء في معظمهم من أولئك الشباب المتعلم، وكان عليهم سداد رسم اشتراك زهيد. قامت الجمعية بدورٍ في التعبير عن احتياجات أولئك الشباب وشكواهم، وحثهم على التفكير، وإقامة جسور الاتصال بينهم وبين التجار الهنود، وأيضًا في إفساح المجال لهم لخدمة المجتمع. لقد كانت الجمعية من الجمعيات التي تعتمد على النقاش. كان الأعضاء يجتمعون بصورة منتظمة ويتحدثون أو يقرءون الصحف التي تتناول موضوعات مختلفة. وافْتُتِحَت مكتبة صغيرة تابعة للجمعية. نتيجة لهذا النشاط المضني، نجحنا في اجتذاب العديد من الأصدقاء في جنوب أفريقيا، وفي اكتساب تعاطف جميع الأطراف في الهند. ومهد ذلك طريق عمل محدد أمام الهنود بجنوب أفريقيا.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.20/
بالاسوندارام
رغبة القلب الصادقة والخالصة دائمًا ما تجد طريقها إلى التحقق. كثيرًا ما رأيت هذه القاعدة تتحقق من خلال خبراتي. فقد كانت خدمة الفقراء هي الرغبة التي تملأ قلبي، وكانت دائمًا ما تجعلني بين الفقراء وتمكنني من اعتبار نفسي واحدًا منهم. كان الحزب يضم من بين أعضائه الهنود المولودين في المستعمرات وطبقة الكتبة، إلا أنه لم يصبح بعد في متناول العمال المبتدئين والعاملين بعقود لأجل، الذين لم يكن باستطاعتهم تحمل تكلفة اشتراك الحزب. ولم يكن باستطاعة الحزب إلا أن يحافظ على التواصل معهم عن طريق مساعدتهم. لكن الفرصة أتت في وقت لم يكن الحزب ولا أنا مستعدين لها حقًّا. انغمست في العمل لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر — وهذا الأمر نادر الحدوث — وكان الحزب لا يزال في طور النمو، عندما أتاني رجل من تاميل ممزق الثياب ويحمل بين يديه غطاء للرأس ولديه سنتان مكسورتان وفمه ينزف. وقف الرجل أمامي يرتعش ويبكي، فقد انهال عليه سيده بالضرب المبرح. ولقد علمت كل شيء عنه من أحد الكتبة، وقد كان أيضًا ينتمي إلى تاميل. كان بالاسوندارام — وهو اسم الرجل التاميلي — يعمل بعقد لأجل لدى أحد الأوروبيين المعروفين في دربان. وقد ثار غضب صاحب عمله حتى فقد السيطرة على نفسه وأخذ يضرب بالاسوندارام بشدة حتى كسر له سنتين. أرسلت بالاسوندارام إلى الطبيب، ولم يكن هناك حينها إلا الأطباء البيض. طلبت من الطبيب أن يمنحني شهادة تشخص إصابة بالاسوندارام. حصلت على الشهادة من الطبيب ثم توجهت وبصحبتي بالاسوندارام إلى القاضي، وقدمت إليه الشهادة. سخط القاضي عندما اطلع على الشهادة، وأرسل في استدعاء صاحب العمل للمثول أمام القضاء. لم أرغب البتة في معاقبة صاحب العمل، فكل ما كنت أتطلع إليه هو باختصار أن يُحَرَّر بالاسوندارام من العقد الذي بينهما. فقد قرأت القانون الذي يتناول العمل بعقد لأجل، وعلمت أنه في حالة ترك العامل العادي خدمة سيده دون إشعار مسبق، فإنه يتعرض للمساءلة ويمكن لسيده أن يقاضيه أمام المحكمة المدنية. أما في حالة العامل بعقد لأجل، فكان الأمر مختلفًا تمامًا. فالعامل بعقد لأجل، في ظل الملابسات ذاتها، يمكن مقاضاته أمام محكمة جنائية والحكم عليه بالسجن إذا ثبتت إدانته. وذلك هو سبب قول سير ويليام هانتر عن نظام العمل بعقود لأجل إنه تقريبًا لا يقل سوءًا عن الاستعباد. فالعامل بعقد لأجل يُعتبر ملكية خاصة لسيده، مثله مثل العبد. كان هناك طريقتان فقط لتحرير بالاسوندارام، أولاهما إلغاء المسئول عن شئون العاملين لعقده أو نقله إلى صاحب عمل آخر، وثانيهما إقناع صاحب العمل بتحريره. فذهبت إلى صاحب العمل وقلت له: «أنا لا أريد مقاضاتك أو معاقبتك على ما فعلت. وأعتقد أنك على دراية بمدى قسوة اعتدائك على الرجل. وسأكتفي فقط بأن تنقل العقد إلى صاحب عمل آخر.» فوافق على مطلبي في حينه. ثم ذهبت لرؤية المسئول عن شئون العاملين، الذي وافق بدوره بشرط أن أجد صاحب عمل آخر. وهكذا أخذت أبحث عن صاحب عمل جديد، وكان يجب أن يكون أوروبيًّا نظرًا لعدم جواز توظيف الهنود لعاملين بعقود لأجل. وكانت علاقتي بالأوروبيين في ذلك الوقت محدودة، فالتقيت بأحدهم. وافق الرجل بكرم على أن يقبل بالاسوندارام لديه، فعبرت له عن امتناني لعطفه وكرمه. أدان القاضي صاحب العمل، وسجل تعهده بنقل العقد إلى شخص آخر. ذاع خبر قضية بالاسوندارام حتى وصل إلى جميع العاملين بعقود لأجل، فاعتبروني جميعًا صديقًا لهم. رحبت بهذه الصداقة والفرحة تغمرني. ووجدت فيضًا من العاملين بعقود لأجل يتدفق على مكتبي، واستغللت الفرصة كي أطلع على أحوالهم من مآسٍ وأفراح. وصلت أصداء قضية بالاسوندارام بعيدًا حتى مدراس. وعلم العمال في جميع أنحاء الإقليم، الذين ذهبوا إلى ناتال للعمل بعقود لأجل، بالقضية عن طريق إخوانهم العاملين. لم تحتوِ القضية في ذاتها على أي عوامل استثنائية، لكن فكرة وجود شخص في ناتال يناصر قضية العاملين بعقود لأجل ويعمل من أجلهم علانية هي التي مثلت لهم مفاجأة سارة وبعثت فيهم روح الأمل. لقد ذكرت فيما سبق أن بالاسوندارام قد أتى إلى مكتبي وغطاء رأسه في يده. كان هناك أمر آخر يدعو للشفقة لحالنا، وقد عكس هو الآخر ذلنا. لقد رويت بالفعل قصة اضطراري لخلع عمامتي. فقد فُرض على كل عامل بعقد لأجل وكل غريب هندي أن يخلع غطاء رأسه، أيًّا كان، عند زيارته لشخص أوروبي. ولم تكن التحية بكلتا اليدين كافية. ظن بالاسوندارام أن عليه أن يتبع نفس النهج معي. كانت هذه قضيتي الأولى في مجال خبرتي. شعرت بالمهانة وطلبت منه إعادة ربط وشاحه. ففعل بعد أن وقف مترددًا للحظات، لكنني كنت أرى الفرحة في عينيه. لطالما حيرني أمر البشر، كيف يشعرون بالاحترام عندما يذلون إخوانهم البشر؟
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.21/
ضريبة الثلاثة جنيهات
أصبحت على اتصال بالهنود الذين يعملون بعقود لأجل، ويرجع الفضل في ذلك لقضية بالاسوندارام. في الواقع، كانت الحملة المراد بها فرض ضرائب باهظة عليهم هي السبب الرئيسي لدراستي المتعمقة لأحوالهم. أرادت حكومة ناتال في نفس العام، ١٨٩٤م، أن تفرض على العاملين بعقود لأجل من الهنود ضريبة سنوية مقدارها ٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا. صُدمت عندما علمت بالخبر، فطرحت الأمر للنقاش أمام الحزب. وسرعان ما تقرر التقدم بالمعارضة اللازمة للضريبة. في البداية يجب أن أشرح بإيجاز أصل هذه الضريبة: في عام ١٨٦٠م تقريبًا، شعر الأوروبيون بناتال بحاجتهم للقوة العاملة حيث وجدوا مجالًا واسعًا لزراعة قصب السكر. كان من المستحيل عليهم أن يقوموا بزراعة القصب وصناعة السكر دون الاستعانة بعمالة خارجية. فأهل قبيلة «الزولو» في ناتال لم يكونوا مناسبين للقيام بمثل هذا العمل. بناء على ذلك، أرسلت حكومة ناتال إلى حكومة الهند، وحصلت منها على إذن بتوظيف العمالة الهندية. وقع العمال الهنود عقود عمل في ناتال لمدة خمس سنوات، وكان من المفترض أن يحصلوا على حرية الاستقرار في ناتال متمتعين بجميع حقوق تملك الأراضي بعد نهاية مدة العقد. كان هذا هو العرض المقدم إليهم، فقد تطلع الأوروبيون حينها إلى تحسين الثروة الزراعية عن طريق عمل العمالة الهندية بعد انتهاء عقودهم. فاق الهنود كل التوقعات، فزرعوا كميات ضخمة من الخضروات واستحدثوا زراعة عدد من أنواع الخضروات الهندية. وتمكنوا أيضًا من زراعة الخضروات المحلية بتكلفة أقل. وأضافوا إلى ذلك استحداث زراعة المانجو هناك. ولم تتوقف مجهوداتهم عند الزراعة، بل تطرقوا إلى مجال التجارة، واشتروا أراضي للبناء. فانتقل الكثير منهم من طبقة العمال إلى أصحاب الأراضي والمنازل. ثم حذا التجار الهنود حذوهم، فاستقروا هناك بغرض التجارة. وكان من أول أولئك التجار الراحل السيد أبو بكر أمود، الذي سرعان ما تمكن من تأسيس نشاط تجاري واسع. أثار ذلك حفيظة التجار البيض. فعندما رحب البيض في بادئ الأمر بالعمال الهنود، لم يقدروا مهاراتهم التجارية. كان يمكن أن يحتمل البيض وجود الهنود كمزارعين مستقلين، لكنهم لم يحتملوا منافستهم في التجارة. غرس ذلك كله بذور العداء ضد الهنود. وكان هناك كثير من العوامل التي أدت إلى نمو ذلك العداء، منها أساليب معيشتنا المختلفة وبساطتنا ورضاؤنا بالقليل من الكسب وتجاهلنا لقوانين الصحة وتباطؤنا في تنظيف الأماكن التي نعيش فيها وبخلنا في الإنفاق على إصلاح منازلنا. ذلك بالإضافة إلى اختلاف ديننا. أسهم كل ذلك في إشعال فتيل العداء ضدنا. وقد وجد ذلك العداء منفذًا للتعبير عنه في التشريعات، يتمثل في مشروع قانون سلب حق التصويت من الهنود ومشروع قانون الضريبة على الهنود العاملين بعقود لأجل. وبعيدًا عن التشريعات، تعرضنا بالفعل لعدد من المضايقات. ينبغي عودة العمال الهنود إلى الهند عند انتهاء عقودهم. أو ينبغي توقيع عقد جديد كل سنتين، مع زيادة الأجر عند كل تجديد. وفي حالة رفض العودة إلى الهند أو تجديد العقد، يجب على العامل دفع ضريبة سنوية قدرها ٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا. توجه وفد يضم السيد هنري بينس والسيد ماسون إلى الهند للحصول على موافقة الحكومة على الاقتراح. رفض الحاكم البريطاني حينها، اللورد إلجين، الضريبة المقدرة بمبلغ ٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا، وأقر عوضًا عنها ضريبة رأس تصل إلى ٣ جنيهات إسترلينية. كنت ولا أزال أرى أن الحاكم البريطاني بقراره هذا قد ارتكب خطأ فادحًا، فلم يفكر وهو يمنح موافقته على مثل ذلك الاقتراح في مصالح الهند. ولم يكن لزامًا عليه أن يؤدي خدمة إلى الأوروبيين بناتال بمنحهم مثل هذه الموافقة. على مدى ثلاثة أو أربعة أعوام خضع كل عامل وزوجته وكل ابن تجاوز عمره السادسة عشرة وكل ابنة تجاوزت الثالثة عشرة إلى تلك الضريبة. إن فرض ضريبة سنوية تصل إلى ١٢ جنيهًا إسترلينيًّا على أسرة تتكون من أربعة أفراد — الزوج والزوجة وطفلين — عندما يكون متوسط دخل الزوج ١٤ شلنًا شهريًّا، هو أمر شديد القسوة وغير معمول به في أي مكان آخر في العالم. نظمنا حملة عنيفة للتنديد بهذه الضريبة. فلو أن حزب المؤتمر الهندي لناتال لزم الصمت، لكان من الممكن أن يوافق الحاكم البريطاني على الضريبة حتى بمبلغ ٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا. فقد جاء خفض الضريبة على الأرجح نتيجة لثورة الحزب، لكن هذا ليس أكيدًا. فربما اعترضت الحكومة الهندية منذ البداية على المبلغ، وخفضتها إلى ٣ جنيهات إسترلينية، بغض النظر عن معارضة الحزب. على كل حال، لقد خذلت الحكومة الهندية ثقتنا بها. فقد كان من واجب الحاكم البريطاني، كأمين على مصلحة الهند، ألا يوافق على مثل هذه الضريبة القاسية أبدًا. لكن النصر كان حليف الحق في نهاية الأمر. وقد كانت الشدائد التي مر بها الهنود تعبيرًا عن هذا الحق. لكن الحق لم يكن لينتصر دون إيمان راسخ وصبر عظيم ومثابرة. فلو أن الجالية تركت الكفاح أو تخلى الحزب عن الحملة وخضع للضريبة على أنها أمر حتمي، لاستمر فرض تلك الضريبة حتى الآن، مخلدة خزي الهنود في جنوب أفريقيا، بل خزي الهنود في كل مكان.
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.
https://www.hindawi.org/books/14284174/
غاندي السيرة الذاتية: قصة تجاربي مع الحقيقة
مهنداس كارامشاند غاندي
يُعد غاندي من أكثر الشخصيات الملهِمة في العصر الحديث. يَسرد غاندي في سيرته الذاتية قصة حياته وكيفية تطويره لمفهوم الساتياجراها أو «المقاومة السلمية»، وهي مجموعة من المبادئ التي تقوم على أُسُس دينية وسياسية واقتصادية في آنٍ واحد؛ مُلخَّصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمُحتل؛ من خلال إبراز ظُلمه أمام الرأي العام. وقد كانت الساتياجراها بمنزلة المُحرِّك لنضال الشعب الهندي من أجل الحصول على الاستقلال، ليس ذلك فحسب، بل كانت المُحرِّك الرئيسي للعديد من عمليات المقاومة السلمية في القرن العشرين. لقد كان غاندي يبحث عن الحقيقة المُتجلِّية في الإخلاص للإله، كما عَزا نقاط التحوُّل في حياته والنجاحات التي حقَّقها والتحديات التي واجَهها إلى إرادة الإله. كانت لمَساعيه للتقرُّب أكثرَ من تلك القوة الإلهية عظيمُ الأثر في سعيه نحو الصفاء؛ من خلال الحياة البسيطة، والعادات الغذائية، والتحكم في شهوات النفس، واللاعنف؛ لذلك أَطلق غاندي على كتابه «قصة تجاربي مع الحقيقة»؛ ليكون مَرجعًا لمن يرغبون في اتِّباع نَهجِه من بعده.
https://www.hindawi.org/books/14284174/2.22/
دراسة مقارنة للأديان
كنت إذا ما وجدت نفسي مستغرقًا تمامًا في خدمة الجالية، أرجعت السبب في ذلك إلى رغبتي في تحقيق الذات. لقد اتخذت خدمة المجتمع دينًا لأنني شعرت بأن إدراك الإله لا يتأتى إلا بخدمة الآخرين. وكانت الخدمة تعني لي خدمة الهند لأنها جاءتني من غير أن أسعى خلفها ولأنني مؤهل لها. عندما سافرت إلى جنوب أفريقيا، كنت أبحث عن مفر من المؤامرات التي تحاك في كاثياوار وكنت أرغب في كسب رزقي، لكنني — كما سبق أن ذكرت — وجدت نفسي في رحلة بحث عن الإله وعن تحقيق الذات. لقد أثار أصدقائي المسيحيون شهيتي للمعرفة، التي تحولت إلى نوع من النهم. ولم يكونوا ليتركوني بسلام حتى لو رغبت في تجاهل الأمر. لقد اكتشفني السيد سبنسر والتون، رئيس الإرسالية العامة بجنوب أفريقيا، عندما كنت في دربان. فلقد أصبحت كواحد من أفراد أسرته. وبالطبع ترجع خلفية تلك العلاقة إلى تواصلي مع المسيحيين في بريتوريا. كان السيد والتون يتمتع بأسلوب فريد، فلا يحضرني أنه دعاني ولو مرة لاعتناق المسيحية. لكنه ترك حياته كالكتاب المفتوح أمامي، وتركني أطلع على جميع سلوكياته. كانت زوجته السيدة والتون بالغة الرقة وموهوبة. وكان يروقني موقف هذين الزوجين. كنا نعلم الاختلافات الرئيسية بيننا، ولم يكن أي جدال ليتمكن من إزالتها. ومع ذلك، حتى الاختلافات يمكن أن تكون مفيدة حين يكون هناك تسامح وإحسان وصدق. لقد أعجبت بتواضع السيد والتون وزوجته، ومثابرتهما وإخلاصهما للعمل، وكنت كثيرًا ما ألتقي بهما. وهكذا استطعت اكتساب المزيد من المعرفة عن الديانات المختلفة. أثارت الدراسة تأملي لذاتي وغرست فيَّ عادة الأخذ بأية تعاليم تروقني أثناء دراستي. بدأت ممارسة اليوجا وفقًا لفهمي لما قرأت في الكتب الهندوسية. لكنني لم أتمكن من الاستمرار فيها كثيرًا، فقررت عندما عدت إلى الهند أن ألجأ إلى خبير ليساعدني. إلا أن تلك الرغبة لم تتحقق قط. في الوقت نفسه تقريبًا، تعرفت إلى أسرة مسيحية أخرى. وكنت أحضر إلى كنيسة ويسليان كل يوم أحد بناء على اقتراحهم. وكانوا يدعونني باستمرار لتناول العشاء معهم. على كل حال، لم تؤثر الكنيسة فيَّ بصورة إيجابية، لأن العظات لم تكن مؤثرة وحشود المصلين لم يكونوا شديدي الخشوع. لم تكن أرواح الحضور مخلصة، بل بدا لي أنهم منشغلون بالدنيا ويذهبون إلى الكنيسة للتسلية ومجاراة العادات. وكنت أنعس في بعض الأوقات وأنا بالكنيسة بصورة لا إرادية. كان ذلك يشعرني بالخجل، لكن أصدقائي الذين كانوا يصيبهم ما أصابني، هونوا عليَّ. لم أستطع الاستمرار على هذا المنوال طويلًا، وسرعان ما عدلت عن حضور الطقوس الدينية. قطعت علاقتي بالأسرة التي كنت أزورها كل يوم أحد فجأة. في حقيقة الأمر، يمكن القول بأنني حُذرت من زيارتهم مرة أخرى. وقد حدث الأمر كالآتي: كانت مضيفتي امرأة لطيفة وصافية النفس، لكنها كانت متعصبة. كنا دائمًا ما نناقش موضوعات دينية، وكنت حينها أعيد قراءة كتاب أرنولد «ضياء آسيا». وما إن بدأنا في مقارنة حياة المسيح بحياة بوذا، حتى قلت: «انظروا إلى شفقة جوتاما! لم تكن مقصورة على البشر فحسب، بل شملت جميع الكائنات الحية. ألا يمتلئ قلب المرء منا بالحب عندما يفكر في الحَمَل جاثيًا على ركبتيه والبهجة تملؤه. لا يجد المرء مثل هذا الحب للكائنات الحية في حياة المسيح.» آلمت تلك المقارنة السيدة اللطيفة. كنت أقدر شعورها، فقطعت حديثي، ثم توجهنا إلى غرفة الطعام. كان ولدها، الذي لم يبلغ الخامسة بعد، برفقتنا هو الآخر. طالما شعرتُ بسعادة غامرة وأنا بين الأطفال، وقد كونتُ صداقة طويلة مع ذلك الطفل. سخرت من قطعة اللحم التي كانت في طبق الطفل، وأخذت أمدح التفاحة التي كنت أتناولها. فانضم إليَّ الطفل البريء وأخذ يمدح الفاكهة. لكن الأم فزعت لما حدث. حذرتني الأم، فغيرت موضوع الحديث. وفي الأسبوع التالي، ذهبت لزيارة العائلة كعادتي، لكن ذلك لم يخل من بعض الخوف في نفسي. لم أجد ما يدعو لتوقفي عن زيارتهم، ورأيت أن ذلك غير لائق. لكن السيدة سهلت عليَّ الأمر. خاطبتني قائلة: «سيد غاندي، لا تمتعض من كلامي لكنني مضطرة إلى إخبارك بأنني لا أحبذ صحبتك لطفلي. ففي كل يوم يتردد في تناول اللحم، ويطلب الفاكهة ويذكر ما أخبرته أنت به. أنا لا أستطيع تحمل كل ذلك، فسيضعف بدنه إن امتنع عن تناول اللحم، هذا إذا لم يُصب بالمرض. كيف لي أن أتحمل هذا؟ يجب أن تكون محادثتك معنا نحن الكبار فقط. فكلامك يؤثر بالسلب على الأطفال.» فرددت قائلًا: «يا سيدتي … أعتذر عما بدر مني. أنا أقدر مشاعرك كوالدة، فأنا لديَّ أطفال أيضًا. يمكننا أن ننهي هذا الأمر بسهولة، فما آكله وما أمتنع عن أكله يؤثر على الطفل بصورة أكبر مما أقوله له. إن أفضل طريقة هي أن أتوقف عن زيارتكم. وبالطبع لن يؤثر ذلك على صداقتنا.» فأجابتني براحة واضحة: «شكرًا لك.»
مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين. مهنداس كارامشاند غاندي: السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلالها، وُلد يوم ٢ أكتوبر عام ١٨٦٩م. اشتُهر غاندي بتزعمه المقاومة السلمية للاستبداد من خلال العصيان المدني الشامل. قاد غاندي الهند إلى الاستقلال، وألهم الحركات المطالِبة بالحقوق المدنية والحرية في شتى بقاع العالم، وهو معروف باسم «المهاتما» أي «الروح العظيمة»، ومعروف في الهند أيضًا باسم «بابو» أي «الأب». نال تكريمًا رسميًّا في الهند بوصفه «أبو الأمة»، وتحتفل الهند بيوم ميلاده، الثاني من شهر أكتوبر عطلة رسمية، وأيضًا يحتفل به العالم تحت مسمى «اليوم الدولي للاعنف». تعرض غاندي للاغتيال يوم ٣٠ يناير من عام ١٩٤٨م على يد أحد الهندوس المتعصبين لما استشعر من تعاطف غاندي تجاه المسلمين.