BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/24/
ترجمة (الأستاذ الشيخ سلامة حجازي)
هو الممثل المطرب البارع. والنجم الزاهر الساطع. رافع لواء التمثيل العربي. (الشيخ سلامة حجازي). وُلد المترجم سنة ١٢٧٨ هـ وذلك على التقريب بمدينة الإسكندرية. وبعد أن حضر مبادئ العلوم اشتغل بفن الإنشاد على الأذكار الصوفية. فلما جاز قصب السبق على معاصريه هناك بما كان يودعه في المسامع من طيب ألحانه، لهجت الألسنة بذكره ورفع الناس من قدره وشأنه. حتى وصلت شهرته إلى مسامع رئيس جمعية من جمعيات التمثيل، فسعى إليه وحسن له الدخول في هذا الفن الجليل. شارحًا له فضائله ومزاياه. كاشفًا له عن حسن مستقبله إذا أطاع أمره ولباه. قال له مثلاً: واعلم أن التمثيل أنفع صناعة. وأربح بضاعة. يكسو صاحبه ثوب الجمال والجلال. ويصيره معدودًا من أفاضل الرجال. الذين يرفلون في حلل الرفاهية. ويتنعمون في عيشة راضية. فبفضل تلاوة الروايات يمكنك أن تخرج للناس إبريز البلاغة. وتصوغ لحين الكلام أحسن صياغه. فإذا ما تكلمت رأيت آذانًا صاغية. وقلوبًا واعية. وسيتضح لك صدق قولي أيُّها النبيل. حيثما ترى إخوانك هذه الليلة في التمثيل. بملابسهم الفاخرة، ومحاسنهم الباهرة، وشمائلهم اللطيفة، ونفوسهم الشريفة. وهم يهدون إلى الأسماع أنواع البديع من الأناشيد والألحان. وينزهون الأحداق في حدائق المناظر مع محاسن الأشعار وسحر البيان. فينشرح منك الصدر ويقر الناظر. وتود أن تكون بين النجوم الزواهر. فجنح الأستاذ إلى الطاعة ولبى الطلب. بكل أدب. لعلمه أن ليس أحسن من الخضوع والانقياد. إلى ذوي الدراية والرشاد. فكان أول دور مثله في رواية (مي) — هو (كورياس). مع حضرة أستاذه الأول (سليمان أفندي حداد) الذي مثل أمامه (هوراس). وكان الملعب في تلك الليلة غاصًا بوجهاء القوم من جميع الطوائف وفضلائهم. وشعرائهم وأدبائهم. وكلهم أجمع على رخامة صوت الأستاذ وبزوغ سعده إذا ثبت وثابر على العمل، فأجاب الله سؤلهم وبلغهم رجاءهم والأمل. فأصبح مديرًا لهذا الجوق، وأَنعِم به من رئيس، قد كملت فيه أسباب الظرف. واللياقة واللطف. حلو الشمائل نبيل. وقدره بين الناس أثيث أثيل. فهمه صحيح. ولسانه فصيح. يرى بأول رأيه آخر الأمور. ويهتك عن مبهماتها ظلم الستور. بحكمته يؤلف بين الجمر والماء. كما جمع بين حسن التمثيل مع صعوبته وطيب الغناء. وبالجملة فقد أجمع الناس على تفضيله. في غنائه وتمثيله، ما زال عاقدًا ألوية أهل الألحان، ورئيس الممثلين في كل زمان ومكان. إن شاء الله. ويحق لنا الآن نحن — معشر الشرقيين — الفخر بوجود مثل هذا الجوق الوطني الكبير الذي يضارع أجواق أوروبا الشهيرة — أبقى الله رئيسه وصحبه قدوة حسنة نقتدي بأعماله وتستضيء بنبراسه الجمعيات الشرقيات الأخرى، إنه سميع الدعاء. مجيب النداء. إن كان للمدارس فضل في تربية عقول الناشئة وتشحيذ أذهانهم. وللجمعيات مزية لتيقيظ ذاكرات كبار الطلبة ومتخرجي دور العلوم. وللجرائد فائدة ونفع لنبهاء الأمة ورجال العمل فيها. فللتمثيل الفوائد الممتازة والمنافع العميمة لكل واحد في كل طبقة ووسط، فقد أفادت التجارب والاختبارات أن المرئيات أقرب إلى الحافظة والتصور والمسموعات أوكد آثارًا في النفس، وأكثر إثارة لتأثرها فإذا اجتمع الأمران وازدوج الخبران كان أثراهما أمكن وقعًا وأشد انفعالاً بالنفس التي لا تلبث خافقة ترفرف كالطير وراء حركات المناظر وتغيراتها — وقد عرف سكان العرب للتمثيل هذه المحامد الجميلة فصرفوا لتكثير دورها كل عناية والتفات حتى أصبحت متعددة المحال متنوعة المناظر منبثة في كل النواح. ومنذ العهد الأقرب شعر بالحاجة للتمثل في ترقية النفوس وتعديل الأمزجة واعتدال المشارب — بنو مصرنا العزيزة فشغفوا به وولعوا بكل جديد فيه، خصوصًا منه الغريب الرؤية الحكمي الوضع المهذب المؤدب وعلم كبار رجال هذا الفن من ناس هذا الميل الكبير الفائدة، فاهتموا به ولا كاهتمام حضرة الممثل الوحيد المطرب المجيد الشيخ سلامة حجازي صاحب الشهرة الذائعة والصيت البعيد فإنه طفق — أعانه الله منذ استقلاله بهذه الفن — يجيء لنا بالمستغرب من القصص الحلوة الحديث، المدهشة المناظر ولسنا وحدنا في امتداح هذا النابغة الموسيقي المعجب فقد امتلأت نواحي بلاد القطر من الثناء على اجتهاده والمدح لاهتمامه حتى قال أحد الإفرنج (العارفين بالعربية طبعًا) وقد حضره في تمثيله وأبصره وقت إلقائه التلحينات وهو يترنم بصوته الرخيم وينظر للذي جانبه مستلفتًا إياه إلى انتظامه معه في الإيقاع والتنغيم: لا بد أن يكون لهذا الرجل في دماغه مخان يضبط بأحدهما تصويته ويزن بالثاني أصوات رفقائه، أو يكون الذي يصوت بما نسمعه منه سواه — وليس بعد هذا من حاجة لامتداح، فإن شهادة الأجنبي بعشرة (خصوصًا الغربي في هذه الأيام) ولم نرد أن ما يحمد عليه حضرة الشيخ هو حسن التنغيم فقط، فإنه لم يُنسَ أنه هو بذاته ذاك المؤسس لأول جوق تمثيل في وإنه الذي أدهش بإتقان هذا الفن كل واحد وساق الممثلين بتعاليمه وإرشاده لإحسان الحركة والرشاقة والمهارة في أعمالهم فهو أبو هذا الفن ومبدع وجوده ورئيس فنه في مصر وكل من جاء فتابع بلا ريب لآثاره وممثل لوصاياه. وهذا من حوله من رجال جوقة البارعين قد بلغوا من أعلى هذا الفن قمته حتى صار في قدرة كل واحد منهم أن يظهر بأشكال تذهل الرائين بدون أن يلحظ واحد أنه هو — وهذا غاية في الاقتدار ونهاية في التحكم على الإرادة ومصائر ما يمكن أن يبلغه الممثل في إتقان فنه سواء الشرقي أو الغربي ولا بدع إذا افتخرت الصحافة بالشيخ وجوقه عن لسان بني وطنه المصري ورجت له أن يتقدم في فنه وأن يعرف الناس فضله ومزاياه فيقبلوا عليه ولا يحجبهم عن الرغبة فيه متحيز بذم الورد على احمراره وبحد البدر على أنواره. (تنبيه) لعموم الأجواق العربية — قد أشرت منذ سنتين على حضرة (إسكندر أفندي فرح) حينما رغب إليّ أن أشتغل معه بعد أن انفصل عنه الأستاذ (الشيخ سلامة) بأن يشكل (جوقة موسيقية تركية) لاتحادها تمامًا مع الألحان العربية — وتشتغل مع جوقة الغناء سواء بسواء؛ حيث أكون ربطت القطعة بالنوتة أولاً وأعطيتها للجوقة الموسيقية ثانيًا — فتكون في هذه الحالة كل رواية (أوبرت) — وبعد ذلك يمكنني أن ألحن رواية برمتها (أوبرا) — ودللته على من يكون رئيسًا لهذه الجوقة — وبالفعل جعلني الواسطة بينه وبينه — وبعد أن قمت بهذه المأمورية خير قيام وأعجب بمهارة هذا الأستاذ الذي انتخبته الحضور — ضن بالمصاريف فضرب صفحًا عن هذا العمل الجليل — فلم آلُ جهدًا في أن نبهت إلى هذه الفكرة حضرة صديقي الفاضل الشيخ (سلامة حجازي) — فعسى بهمته الشماء وما عهد فيه من ميله لرقي فنه أن يتمم هذا العمل العظيم الذي شرعت فيه لرقي فنين في الحقيقة هما (التمثيل والموسيقى) وما على من يريد التفرد ويود أن يعمل عملاً عظيمًا يدوّن له في التاريخ هذا الأمر بعزيز، سيّما بعد بذل كثيرًا من المصاريف التي سيجني أكثر منها أضعافًا إن شاء الله إذا أطاع ما يشير به عليه محبوه. ولكي يكون له من جهة أخرى فضل السبق على سواء في إحياء (فن التمثيل) الذي لا يتم ولا تقوم له قائمة إلا إذا حلت في جسمه روح (فن الموسيقى) — وإني لا أخشى أن أقول بصراحة وحرية ضمير بأني مستعد لخدمة أية جمعية تمثيلية في مصر توَّد أن تكون البادئة بهذا العمل — وعسى أن تكون (جمعية المعارف) لأنه من السهل عليها عمله الآن لوجودي رئيسًا لها — ولي أمل وطيد في نجاحها؛ لذكاء شبانها وميلهم إلى الآداب. (تنبيه) اعلم أن ما سنذكره هنا هو عبارة عن الألحان التي تنشدها الجوقة بمناسبات الوقائع التي تتخلل بين الفصول. أما افتتاحاته واختتامته التمثيلية — فنجدُها في كتابي (نيل الأماني — في ضروب الأغاني) بغاية الدقة والتصحيح.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/25/
ترجمة (كامل أفندي الخلعي)
بقلم حضرة الكاتب الأديب، والناثر الأريب، صديقه وتلميذه الفاضل. عبد الله أفندي كامل. هو الموسيقار الأديب، ونابغة مصر الأريب، الذكي اللوذعي، (كامل أفندي الخلعي)، ابن سليمان أفندي الخلعي. من أسرة الخلعي الشهيرة بدمنهور. وُلد المترجم بالإسكندرية لما كان والده ضابطًا بالجيش المصري في يوم عشرين رجب سنة ١٢٩٦ هجرية. وجاء به إلى مصر صغيرًا، فأدخله إحدى المدارس الأميرية. فأشرقت شمس ذلك المفضال. إشراقها في وجه الهلال. وكان يميل إلى مطالعة كل كتاب. ميل الأرض الماحلة لابن السحاب. فكنت تراه حليف رقاع.. أليف محبرة ويراع. قد اطلع على كثير من كتب الأدب، ودرس أشعار العرب. وتصفح وسائل الأدباء. وطالع مقامات البلغاء والفصحاء. فعلق في ذاكرته النثر الفحل. والنظم الجزل. فكان في ذلك كالنحل تروح وتغدو على غصون الأشجار المختلفة الأجناس. فتختار منها أندر الأزهار. وأغرب الأنوار. وتنفث من مجموع ذلك شهدًا فيه شفاء للناس. وأعقب ذلك بمصاحبته لخير من شعر وكتب. ونثر وخطب. العلامة الفاضل الذكي. سما حتلو أفندم (السيد توفيق أفندي البكري) — فصار كاتبًا ليده أزمانًا طويلة وهو له أقرب جليس. وأيمن نديم وأنيس. ثم تنقل تنقل القمر في المنازل. وعاشر العظماء والأماثِل، فتراه يومًا في روضٍ أنيق، ويومًا بحزوي ويومًا بالعقيق. ولما كان علو همته لا يقف عند حد. وليس لصدره ورد. شغِف بفن (الموسيقى) بعد فنيّ الرسم والخط شغف عمر بالثريا. وحارثة بن بدر بالحُميّا. وصافى أهل الفضل في ذلك الفن الجليل. كالموصلي والمغربي وعبد الرحيم وأبي خليل. فأخذ منهم ما أشجى وأطرب، وروى عنهم ما أعجب به وأغرب. فما إسحاق الموصلي في توقيعه على الألحان. ولا إبراهيم بن المهدي في قدرته على تبديد الأحزان. ولا معبد في جلب السرور. ولا زِرياب وقد أهر خفايا القلوب ومكنونات الصدور. بأحسن صوت ولا أتقن في الصناعة. ولا أعلم مجيد هذه البضاعة. من هذا الذي ميَّز الغثَّ من الثمين. وأظهر الشك من اليقين. ولا غرو فالبحر الخضم، إذا فاض لم يحكِه اليم. لعبت في أسرته أيدي الأيام ففرقتهم منه الآمال. بل جد واجتهد. وقيد ما شرد، ورحل إلى البلاد القاصية. والجهات النائية؛ ليستجلي غوامض أسرار هذا الفن النفيس. حتى صار أستاذًا يرجع إليه في المشكلات ويعول عليه في التدريس. متضلعًا من الموسيقى الشرقي قديمها وحديثها، حافظًا لتلحين الموشحات والأدوار المصرية. والشامية والتركية. ما يعجز عن حفظ عشره أكبر موسيقي في الشرق مع الدقة وحسن الإلقاء؛ حتى يخيل للسامع أنه ثمل بين الرياض الغناء. مشهورًا في توليد السرور في قلوب خلصائه حين غنائه. فلا يعتريهم ضجر أو سآمة. بل كأنّ المحل الذي هم فيه فم يفترُّ عن ابتسامة. وحسبك دليلاً قاطعًا، وبرهانًا قويًا ساطعًا، ما في ألحانه من المتانة والطرب. وهي كما شهد لها أئمة الفن والناس غايات الأرب. له كثير من الأفكار السامية والألفاظ الرقيقة. والمعاني السهلة العميقة. ما تشهد له بطول الباع. وسعة الاطلاع. وأنه من فصحاء الأدباء. قال منها في مؤلف مطبوع له هذا التشبيه في الغناء: «اللحن البديع — من مغن مجيد — وعلى آلات الطرب، كالمعنى اللطيف — يكسوه اللفظ الشريف — ضمَّهما بيت بليغ من الشعر». وله في الحكم العصرية. لتهذيب أنفس المسرفين من أبناء الأغنياء في الأزبكية: الأزبكية ملعب يمثل عليه إسراف الوارثين فيظهر الواحد منهم في الفصل الأول من الرواية ملكًا (يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرمًا) حتى إذا ما انتهت *** ظهر في الفصل المضحك أجيرًا يلعن الزمن ويذم الدهر وينشد مع الحكيم. وخاصم مرة صديقًا له فقال: «لا أريد فراقك أبدًا — ولكني سأراك بالنظارة المعظمة معكوسة». وله في الغرام: «الحب طائر يلتقط حبة القلب؛ فالبصير من قتله أو فر منه قبل أن يراه». وقال أيضًا: «لا يحزنك رغبة محبوبك عنك إلى سواك؛ فإنه ملك يتصرف في ملكه كيف شاء فيرضى عن هذا ويسخط على ذاك ولكن الذنب عليك حيث استهواك إلى الدخول في خدمته». وكسا كثيرًا من المعاني الغربية — حللاً عربية. فقال منها: «كان بعض الملوك الفاتحين يسامر إحدى معشوقاته، في فتوحاته، ويذكر لها أنه كم سلب العاقل، واستنزل العصم من المعاقل، وكم ترك فوقا لأرض أرضًا ثانية من الأشلاء، وأذل دولاً شماء وكم هدم معلمًا. وأطاح عرمرمًا. وإن الدنيا طوع يديه، والأفلاك مسخرة إليه. فأجابته أجل أيها الملك الفاتح. والروض النافح. ولكن فتح المعاقل بقاذفة الشؤبوب، أخف من فتح القلوب، وإخضاع أمة من الأعداء، أهون من خداع غانية هيفاء». وقال تحت عنوان (الداء الدفين): — لا يسلو العاشق ما تلذذ به من سلاف كأس الحب، كما لا ينسى ما تجرعه من مرارة آخره في القلب. فإن غدر به معشوقه فدب في قلبه له دبيب الملال. وصار معذبًا بين عزة النفس وذل الحال. لما أمكنه أن يتلوه مع ذلك ولو سُقي السلوان، ولا يطفأ ما اتقد في قلبه من لواعج الأشجان. إلا بأمرين: إذا تغيرت صورة من يهواه، أو اتخذ له عشيقًا سواه. فالأول: إذا رغبت العين أن تتمتع بحقيقة مرآي ما هو مطبوع في القلب. لما أجيبت بغير السلب. وهناك تذهب السكرة، ويتنبه العقل فتأتي الفكرة حاملة لواء النجاة، منقوشًا عليها بمداد الحياة، (من الوجود، يعشق المفقود). والثاني: يتذرع المعشوق الجديد بسلاح عزم العاشق الوطيد. وينقض على المعشوق الأول فيقوض منه الدعائم، وينزعه ليحل محله من قليب قلب الهائم. والعاشق المسكين بين ذلك تتنازعه عوامل الأسى والأسف. ويشوَى كبده على جمر التلف. على ترك معشوقه السابق. وخشيته من اللاحق، وتستمر تلك الثورة في قلبه على قدم وساق. بين الحب والحزن والفراق، حتى يتغلب أخيرًا على نفسه وينبذ الأول ظهريًا، وضعيفان يغلبان قويًّا. فهو كما ترى في شفاء مقيم مهما تنوعت الأسباب، وبلاء عظيم ما دام يجري في عروقه دم الشباب؛ ذلك لأن المعشوق الجديد متى ثبتت قدمه في الدار، فعل ما يهوى ويختار. فران على قلبه. وأخذ بمجامع لبه. وربط جوارحه. وحل جوانحه. وتصرف كسابقه تصرف الملاك على مرأى من المالك. فيتلف معالم عقله ويسد في وجه صاحبه المسالك. فيرفع الدعوى من خصمه إليه، فيحكم له لا عليه. فمثل قلبه في ذلك كالبكر العذراء، إذا تزوجت رجلاً جميل الطلعة والرواء وبعد قليل من الزمان. سامها خسفًا وأذاقها الهوان. وانقلب عليها بعد العزة فاستذلها. وما كفاه قلاها حتى لابس عليها غيرها. فتطلب بالضرورة ما ينقصها من لذة الجماع. وتذهب إلى القاضي ليحكم لها في هذا النزاع، وبعد التثبت من أقوالها. يحكم بانفصالها عن زوجها. وهي مطلقة التصرف ثمت للتأهل بأي رجل تشاء. ممن فوق الغبراء. فلو أمكنها العدول عن تجديد عقد الزواج. وفضلت العزلة عن احتياجها في المستقبل إلى مر العلاج. لأمكن كذلك للعاشق أن يمتنع ثانية عن الغرام. بعد أن أذاقه صنوف الآلام. ولكن أنى له ذلك وبذوره كامنة في قلبه كمون النار في الحجر. والزهر في الشجر. وإرادته ضعيفة من أن تحجر على عينه من صرف إنسانها على كل جميل. أو تخلصه من شبكة الحب إذا أوقعه فيها قلبه العليل. وقال تحت عنوان (النجاة من خطر الهوى): إذا ضاق صدر الصب. وامتلأ بجيش سلطان الغرام فضاؤه الرحب. وعلى حرانه حتى صار كالبركان العظيم. من أُوار حر الجحيم. وغدا قلبُه مصبًا لسوط العذاب. وحطبًا لنار العقاب. وعقله كرة لصولجان الفكر ومأوى للهموم. وطرفه موكلاً يرعى النجوم، فانبرى كمن سبقه بالملائمة على العين. وادعى أنه داعية الأسى والغبن، حيث أعقبت النظرة بعد النظرة. فأوقعت باستحسانها المرثي القلب في الغصة والحسرة. فعاد ثمت ليلهُ نهارًا بالسهاد. ونهاره ليلاً في السواد. وحوصر على باب فمه بكاتم سر الملك وجنده. فأمسى معتقلاً بسلاسل الحيرة في حبس من جلده. فأذعن مرغمًا لإرادة أمره القاضي بأن لا تنبعث أشعته من الظلمات إلى النور. وأن لا يخرج سره المكنون من حيز الخفاء إلى شمس الظهور. وافترسته خلال ذلك لتوانيه في عمله أنياب الفقر. وتوالت عليه كوارث الدهر. قرح إلى قرح. وملح على جرح. فأثقلته صنوف الآلام: آلام الأرواح وآلام الأجسام. وأصبح صريع الغرام مسكينًا. وللنوائب مستكينًا. طرفه يقظان مغضوض. وإبهامه معضوض. وأُسْقِط في يده، ولم يدرِ كيف يهتدي سواء السبيل. ويفر من وجه هذا الظالم وجحفله العريض الثقيل. وينجو من حكم سلطانه المستعبد للأحرار. والمستأثر بذوي الأقدار. والمعطل عما ينفع من المصالح. والمدمى بسلاحه الماضي الجوارح. والمقلب القلب على جمر الغضا وضرام الألم. والمانع عن الاشتغال بالعلوم والحكم. والسائق إلى وليه غمام الغم. والهائم به في وادي الهم. فليهب ويستبد بالعزائم؛ لتشتد منه الدعائم. وينفش على ما سلم في قلبه من سهام العين النجلاء. هذه الحكمة لتكون كإنذار بوشك وقوع معركة شعواء لا تظهر قوة ساعد العقل في ضرب الحسام. إلا في محاربة النفس في ساحة الغرام. أجل: فلا يلبث أن ينتبه العقل من غشيته، ويفيق بعد طول السبات من غفلته وسكرته. ويتألب على النفس المنغمسة في حماة الرذيلة. بعد أن يتدرع بالفضيلة. ويغل في عنق معشوقه سلسلة مساوية إذا تمكن من أسره؛ ليرد ما كاده له إبان ما كان مستسلمًا لأمره. وبعد التحام القتال، واشتباك الطعن والنزال، ومعاناة كبير عناد ومجالدة. ومجادلة ومجاهدة. تضع الحرب أوزارها، فتتبدى عن العين الكليلة عن ذنوب المعشوق ظلمُ أستارها، فترى العقل وقد خرج من تحت النقع مكللاً بإكليل الفوز والظفر. منشورًا فوقه أعلام الفتح والنصر. واضًعا (الغيرة) أصل بلاء العشاق في القيود والأغلال، والشكائم الثقال، ثم يلفظ بها إلى أقصى مكان. ليخطب ودِّ أبيها ليزوجها منه من يرضى لنفسه الصَّغار والهوان. ومن ثَّم يعود إلى برجه آمنًا من العثار مرة أخرى في وهْدَة الخبال والجنون، متحدثًا بنعمة ربه الذي أفرج كربه صاحبه وأنقذه من ريب المنون. وألهمه من فيضه الإلهي الصواب، فاستنبط به دفائن نبات القلوب. واستخرج بصولته ودائع الغيوب. وأودع فيه القوة التي ملكته من عنان مركب ربه وهواه. فكفاه في الحقيقة أعدى أعداه. وسيَّره بسرعة البرق ليلجمه قبل أن يجمع فيهوي به في مهاوي المهالك، ويحيد عن الصراط المستقيم ليسلك أوعر المسالك. وعلى أثر شكره الله. على ما منحه وأولاد. يشعر العاشق براحة البال. وانفراج الأزمة لهزيمة كتائب البلبال. وانبعاث روحه ثانية خالصة من الآثام. بعد أن كانت ملوثة بالغرام. فيبتهل إلى الله بخشوع. ويتضرع إليه بخنوع وخضوع. قائلاً سبحانك لا يأخذك نوم ولا سنه. ولا تحدك الأوهام والألسنة. تنتقم بقدرتك من الباغي. وتفضي بنيل المباغي. نعمك لا تحصى. مع كثرة ما تُعصى. خلقت لنا العقل نبراسًا نستضيء بنوره في خنادس الليالي المواثل. ونفرق بحسامه القاطع بين الحالي والعاطل والحق والباطل. ونسترشد بهديه لتحفظه من طوارئ الحدثان بزيادة التجارب. ونستنقذ بحكمته مما يكدر صفاء العيش من انصباب متاعب المصائب. وانتياب شوائب النوائب، فما ألطف صنعتك في إزالة اللأْواء. وأوسع رحمتك لإدامة الآلاء. لا يفي الشكر لمواهبك بجزائها. ولا بأقل جزء من أجزائها. أحمدك حمد المعترف بفضلك الجليل. المقر بإحسانك الجزيل. على إنجائك لي من فعل هذا الشراب. الممزوج بالزعاف والصاب. بعد أن كنت منه على شفا جُرُف هارٍ. وركوب مطية الدمار. كالمتلذذ في مضجعه باستنشاق الكثير من الأزهار. فتخدر أعصابه بسموم أريجها المعطار. ويقضي على مهل نحبه. ويلقى ربه. ولما قرع باب السماء. بمثل هذا الدعاء. وسأل العفو وطلب الاستغفار. على ما جناه من العزيز الغفار. لاذ بالمتاب. وبعد أن زاغ عن سنن الرشاد آب. فتمسك بأطراف الورع والعفاف. وآلى أن لا يحتسي — ما دام حيًّا — من كأس هذا السلاف. الذي هوى به فأحال صبغة حاله. وكساه أثواب الضنى بذميم خلاله. هذا ولمّا كان لا يمكن الاحتراز من الأقدار. والاحتراس من الفلك المدار. وحيث إن الحب راحته عنا. وبقاؤه فنا. والمرء يذنب ثم يتوب. واللب يعزب ثم يثوب؛ لذلك خلع لباس الجزع وسلم الأمر لله. ونسي ما جنته عليه عيناه. ثم أراد بعد برهة أن ينزه الفكر. في ملعب عجائب الدهر. فنظر من نافذة الاستقامة المشرفة على طريق السلامة. فرأى ثمّ رأى المعشوق خارجًا منه يتعثر في أذياله. ويتضاءل حسنه في أسماله. ينفض عن عطفيه عثير سقوطه من قمة السعادة والعلاء. إلى الدرك الأسفل من هوَّة التعاسة والشقاء. وكأنه به وهو يعض سبابة الندم. والسدم يجول في باطنه فيحرق الإرم. تعسًا لك أيتها النفس.. ما أسرعك في اتباعك فاسد الهوى. وسحقًا لكِ فإنكِ لا تميلين لغير معاشرة من ضل وغوى. فكفِّري عن ذنبك العظيم. وارجعي خاشعة إلى حظيرة ربك الكريم. فيسبل ستار التوبة على نحوس مطالع أيامك. ويغفر لك ما تقدم من ذنوبك وآثامك. واحفظي من الآن زمام الذمام. واصبري في هاجرة هجر عاشقك على الأوام. جزاء نكثك للعهد. وانتهاك حرمة الوفاء والود. واعلمي بأن العدل كل العدل. ما حكم به عليك العقل. وأن من لم يكن حكيمًا. لم يزل سقيمًا. ومن اتخذ الحكمة لجامًا. اتخذه الناس إمامًا. أما من آثر اللذات فقد تورَّط في البلوى. وانتهى من حرم الحرمان إلى الغاية القصوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى. يجمع إلى ذلك آداب الأخلاق ولطف الروح وحسن المعاشرة، وجودة التصور وطيب المسامرة. ووفاء العهد. وثبات الجأش والود. يتكلم بحكمة الشيوخ في سن الشباب. ويغرب إذا حدث في غير موضع الأغراب. ذو أفكار مصيبة. وفراسات عجيبة. وعزم بالثبات ناطق. ولدى الخطوب صادق. يكاد يهدي بأفكاره النجم الثاقب. ويستتبع بآراء فَراسته سهم كل كوكب صائب. أقوى علماء فنه بيانًا وأطلقهم لسانًا. وأخفهم روحًا وأصفاهم نية. وأرقهم طبعًا وأنقاهم في حسن الطوية. وأسخاهم يدًا. وأجزلهم ندى. وأبعدهم في نظر الأشياء مرمى. وأسدهم في المناظر سهمًا. ولولا خوفي من القول بأني أنظر إليه بعين الرضا لأسهبت في المقال. ووفيته حقه في هذا المجال. بذكر محاسنه الغراء التي يطول شرحها. ويعز على البليغ البارع حصرها. ولقد سألته يومًا عن سر تأخر هذا الفن في بلادنا الآن. وهل يمكننا أن نراه وقد صعد إلى ذروة الكمال والإتقان؟ فأطرق زمانًا في الفكرة. وقال هذه الشذرة. بعد أن تنفس الصُّعداء. من كبد حراء. أتنتظر لهذا الفن الراقي وهو لم يزل في المهد. وسيبعث من المهد إلى اللحد. وكيف لا تتوقع الموت لفن، الحكومةُ لا تنظر له بعين الإكبار والإعظام. والأهالي يتكلفون لأربابه السلام. ولو شاءت الأولى لرفعته مكانًا عليًا. ولم يك شيئًا منسيًا. وابتنت له مدرسة ولو بمساعدة الأغنياء. ويجيء رقيّ هذا الفن من الأمراء؛ لأنها الأساس الذي يشيد على دعائمه رقي هذا الفن النفيس. فيتخرج ثمت كل إمام رئيس. ينشد لنا مع رصفائه ما يسمو بالنفس إلى معارج الأبهة والجلال؛ لنتناسى التافه من المقال، ولاكته الألسنة من عبارات العشق وذكر الغواني. وندب على ما بقي في هذا الفن من أحسن المعاني ولقد سمعنا أن بعضهم كان في العصر الأول يقول للمغني: أضحكنا. فلا يزال القوم في ضحك إلى أن يقال له أبكنا. فينتقل بهم ظفرة من الضحك إلى البكاء. أو يسكن أعصاب اثنين التهبت بينهما نيران الغضب والشحناء. فتصلح ضمائرهما ويندمان على ما سلف من الضغينة والجفاء. وترق قلوبهما ويعودان إلى الصفاء والولاء. أو يحرك النفس نحو قواها الشريفة من الجود والحلم والفضيلة في الأعمال. إلى المروءة والعدل والصدق في الأقوال. أو يستعمل لحنًا منومًا يخفف عن المريض ألم العلل والأسقام. فتتخدر أعصابه وتأخذه سنة المنام. إلى غير ذلك من الكيفيات الكامنة في الموسيقى التي يضيق عن شرحها البليغ اللبيق. والفصيح المقول المنطيق. خفض عليك أيها الصديق. ولكن إذا عارضك بعض المعاصرين. أو عصابة من متكلفي السماع المتطفلين. وتصدوا للمعاكسة. والمشغابة والمشاكسة. واعترفوا بأنهم مستحسنون طريقتهم في الغناء. وراضون عنها تمام الرضاء، وما رأيك هذا من سقط المتاع. والحثالة التي تقل بها وجوه الانتفاع. بل ونتيجة القول فيه إلى الضباع. فماذا نقول. في هذا الجهل والفضول؟ والحسود لا يرضيه إلا زوال النعمة. وتثبيط الهمة!! بل نتركهم مع الأيام طالبين لهم الهداية لأقوم سبيل، ولأنفسنا التوفيق لخدمة الأوطان بإحياء هذا الفن الجليل. وإذا كان الجاحظ على علوّ مرتبته في البلاغة وسموّ درجته في العلم. استعاذ بالله من أولئك الذين ما خُلقوا إلا لقرض الأمراض وعض عباد الله بأضراس من الوقاحة وأنياب من الشتم. فقال: من ألف كتابًا فقد عرض عرضه للمفاضح فإن أحسن فقد استهدف. وإن أساء فقد استقذف. فأعوذ بالله من أولئك الثرثارين. الحسدة المتفيهقين. وقال شوبنهاور حكيم الألمان: وإذا كان من شأن أصحاب الفضل والذكاء أن لا يلتفتوا إلى حسد الحساد، ولا يكترثوا بهم ولا يثير فيهم ما يأتونه معهم من آثار العداوة والبغضاء ثائرة الحقد والغيظ، بل تكون معاملتهم دائمًا معاملة الشفقة والمرحمة؛ فإن أهلا لحسد والنقص لا يزدادون إلا عداوة وكراهة ولا يميلون أبدًا إليهم ولا يأنسون إلا بمن يكونوا على منالهم أو أدنى منهم طبقة في قلة الفضل وضعف الذهن، أما إذا وصل صاحب الفضل إلى حسن الذكر وعلو الصيت ونال حقه في زمانه فلا يكون ذلك إلا من باب حسن الاتفاق وتوافق الظروف ومساعدة الأقدار كما جرى ذلك للمرحوم (عبده أفندي الحمولي). وعلى أية حال، فإن حسن الذكر كما يقول عنه أحد القدماء من الحكماء: «لا يفتر عن ملازمة الفضل ملازمة الظلال للأجسام فهو مثلها في حركتها وسيرها فتارة يكون من أمامه وتارة يكون من خلفه — فإن سكت عنك أهل عصرك ولم ينصفوك ولم يشهدوا لك بما أوتيته من الفضل لما يكون بهم من الحسد والنقص أنصفك من يأتي بعدهم وردوا إليك حقك بخلوهم عن كل هوى وغرض ***» وهذا القول من هذا الحكيم القديم يدلنا على أن السعي في إنكار ما ينفع الناس من الفضل والانتصار لما يضر من الجهل داء قديم في نفوس أهل النقص والعجز، وزد على ذلك أن انتشار الذكر بفضل الرجل الفاضل ينقص من أهل طبقته من معاصريه ويحطّ من شأنهم، فهم يسعون ما استطاعوا في كتمان فضله وانتقاص منزلته؛ حتى لا تعلو على منزلتهم ولا تغلب على شهرتهم ولا يروق لمن كان حاصلاً منهم على شيء من حسن الذكر أن يشاركه فيه خلافه ويزاحمه فيه ندُّه.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/0.3/
بسم الله الرحمن الرحيم
أنشأ لنا هذا التقريظ البديع الفائق، ذا اللفظ الشريف والمعنى الرائق. من جمع إلى جمال طلعته كمال الأخلاق والشيم. وحبه الخالص لإحياء الفنون الجميلة من العدم، الأريب الألمعي الفاضل. حضرة (طه أفندي كامل) موقد سبكه، والحق يقال في بوتقة الفصاحة وسكبه في قالب الملاحة. وصاغه بآلات حسن الانسجام. ورصعه بجواهر الكلام. وأخرج غوّاص فكره من بحر المعاني والبيان. فرائد أفكر لم تظفر بها أصناف الآذان. وخرائد أبكار لم تقترعها فحول الأذهان. فاختلب ببهائه القلوب والأرواح. واستلب بروائه الأموال والأشباح. وقد ذكر فيه حفظه الله بدء حظوته بمعرفتنا. وانضمامه إلى سلك تلامذتنا. جعله له قدوة حسنة لأمثاله من الشبان. الذين يميزون ما زان من الأشياء وشان. ويفرقون بين الحسن والقبيح. والفاسد والصحيح. كيما يأخذوا بناصر هذا الفن فيرفعوا به إلى ذروة مجده. ويعيدوا المشرفي إلى غمده. فقد هوى في مصرنا — وايم الله — إلى حضيض الخسة والهوان. وسامه الناس الخسف والخذلان. وما ذلك إلا لانتماء بعض زعانف القوم إلى رحابه. وتكأكئهم على بابه. وإتيانهم ما يخدش سمعته. ويذهب بهجته. وتعويدهم الناس على سماع شنيع الكلام. مما تنبو عن الإصغاء إليه طبيعة كل شريف همام. ألهمنا الله جميعًا إلى ما فيه الخير والصلاح. وهدانا إلى سبيل الفلاح والنجاح. حمدًا لمن تترنم بذكره الأطيار على الأفنان بفنون ألحانها. فتخلب القلوب بشدوها على دقها وعيدانها. وتنوح فتناجي كل مشوق بأنواع الأشواق. وتقرح وتفرح، فتأخذ الأحزان عن يعقوب والألحان عن إسحاق. وتصدح فتصدع قلب كل متيم مشتاق. وتسجع من الصبا لطول شقة النوى؛ فتهيج بلابل العشاق. وصلاة وسلامًا على نبي تتغنى بمديحه المشاة والركبان. صلاة دائمة ما غردت البلابل على الأغصان. (أما بعد) فإن السماع. ينعش الأرواح ويشنِّف الأسماع. وهو كيمياء الطرب وأدم المدام. ولولاه ما طاب لمغرم ادِّكار معشوقه، ولا انعطف معشوق على مستهام. سيَّما إذا كانت الألحان متينة الصناعة. ومؤديها ذو صوت شجى وبراعة. وأصوات المساعدين له مع آلات الطرب في اتحاد واصطحاب. والشموع الباهرة تحترق فيستضيء بنورها الخلان والأصحاب. وحيثما كان مجلس الشرب موضوعًا للاستكثار من اللذات، فالأولى أن يُجمع به من الندماء ما اتصف بالحذق والفطنة والفكاهات، ومعرفة أنواع الغناء والطرب؛ كي يكون له للسماع نوبة وأخرى للحديث والأدب، قال المعتز رحمه الله، وأكرم مثواه: فإذا استكمل الندماء هذه اللطافات، واتصفوا بما تقدم ذكره من الصفات، فقد عقدت الخناصِر على محاضرتهم. وأشير بالبنان إلى منادمتهم ومحاوتهم. وحلا بوجودهم شرب الراح. وجاء السرور بجر ذيل الأفراح. فقام احتفاء بقدومه بين الجميع خطيبٌ الأنس والظرف قائلاً: هلموا بنا؛ فقد طاب مجال القصف والعزف، فالوقتُ معين، وماء الشبيبة مَعين، ونشر البشر فائح، ونور الهناء لائح. وغصن الصبا رطيب. ومطرف اللهو قشيب. فلا تسمع فيه إلا نغمات المثالث والمثاني، ورنات القوارير والفناني. فمن عود يحرك أو يحرق. أو قدح يروب أو يروق. أو شاد يغرد، أو شارب يعربد، أو خد ورد ينشق، أو ورد خد ينشق. فيحتسونها صِرفًا مملوءة من شراب سائغ ذهبي الجلباب، لؤلؤي النقاب، يورد ريح الورد، ويحكي نار إبراهيم في اللون والبرد. يطوف بها سقاة بأيديهم أقداح، تفتح أبواب الأفراح، ما منهم إلا كل غزال أهيف. يفترُّ ثغره عن لؤلؤ رطب وعن قرقف. قد نقش العذار فص وجهه. وأحرق فضة خده. صبيح وسيم. تعرف فيه نضرة النعيم. مشرق بالأنوار. تحج إلى كعبته الأبصار. يترقرق فيه ماء الصبا. ويخفي من لمعه بروق الصبا. نزهة المشتاق، ومرآة لوجود العشاق، سمهريّ القوام ليَّن القد. إذا نطق أخرج جواهر الكلام من بين شفاه كورق الورد. كأنَّ الراح من خده معصورةٌ. وملاحةُ الصورة عليه مقصورة. تتعطف الأغصان سجدًا لعطفه. ويسقي بطرفه أضعاف ما يسقي بكفه. يتهادَى في مشيته كالطاووس، فينفي عن القلب البؤوس. ويميل كالغصن الرشيق؛ ليملأ للندماء كاسات رحيق كالحريق. ويناول للشاربين نقلاً على الراح. من مسكر الفاكهة أو التفاح النفَّاح. فيتلذذ الحضور بالمسموع والمشموم. والمشروب والمطعوم. والاكتفاء بتمتيع النظر إلى الوجوه الحسان. واستنشاق الورد والنرجس والبنفسج والريحان. وبين ذلك قريض ينشد ومِلَحٌ ونوادر، ومجامِر الند تملأ الفضاء بعبير شذاها العاطر. وقمر يبتسم للكون ويتطلع كالحسناء من خلف الغمام. والنيرات السواطع منتثرة حوله كحاشيته وهو بينهم البدر التمام. ولم يزل أولئك القوم بين كمنجة وقانون. وعود وأرغنون، وناي مرقص مطرب. وشاد معجب مغرب. وساق فاتن ودهر موات. وأمر مستمع أقول: خذ وهات. وشمس تدور. على نجوم وبدور. وهم يتمتعون بالملذات في هذا القصر. حتى مطلع الفجر. فيسرح سوام البصر. بين الماء والخضر، إذا مُحي الليل وارتفعت الحجب. وبدا النهار فباخت نار الشهب. واقتنص بازي الضوء غراب الظلام. وفض كافور النور عن الغسق مسك الختام. وظهر وجه النير الأعظم. والسراج الوهاج المقدم. كأنه جذوة أو قطعة من دينار. أو كأس ستر بعضه الحباب. أو حسناء غطت وجهها بنقاب. ثم كشفت أستارها, ألقت على الأفق أنوارها. فضحك لها الزهور في الأكمام. والغصون ترقص على غناء الحمام. فنثر حال اهتزازها من طيب الأزهار. ما يتضوع أريجه في الفضاء وينشر عرقه المعطار. وإذا ما أرجع البصر. إلى جهات أُخر. وجد مرج أفسح من أمل حريص طامع. في جاه غني كريم نافع. وأنزه للأبصار والبصائر. من غض شباب زاه زاهر. ساعده الدهر بعافية ومال وافر. روائحه ألطف من نسيم السَّحَر. ورواشح مائه أعذب من ماء الحياة صفاء بلا كدر. وتغاريد طيوره ألذ في السماع من ثناء الناي على الوتر. والرعابيب تمرح مع أسراب الغزلان. بين غياض النسرين والآس والأُقحوان. والسواقي تجرُّها صفر البقر. بين خرير الماء وحفيف الشجر. فينحدر ماؤها بين الجداول والحياض. ويلتوي ليسقي المزارع والرياض. فينصرف الجمع مما سمع ورأى منشرح الصدر والخاطر. قرير العين والناظر. شملنا الله وإياكم ببره الوافر. ورفده المتابع المتواتر. وأغدق علينا نعمه السابغات، في أسعد الظروف والأوقات. ••• ولقد أسعدني الحظ وحسن الطالع. بما سأسرده على القراء الكرام وأقصه على المسامع: جمعتني الصدفة في نادي أديب من الأدباء، ووجيه من الوجهاء. اشتمل مجلسه العالي على كثير من أهل الأدب، ومحبي لغة العرب، الذي إن نظموا أودعوا أصداف المسامع درًّا. أو نثروا نفثوا في عقد العقول سحرًا. وصرنا نتجاذب أطراف السمر في ذكر أهل البراعة. ونعد مناقب فرسان أصحاب البراعة. ونورد أخبار اللسن. ونروي عنهم كل حديث حسن. أمتع من نسيم السحر. المتعطر بربى الزهر، حتى انتهى بنا الحديث إلى ذكر المغنين والأغاني. بمناسبة ذكر كتاب (الأغاني) فتكلم كل بما دار في خلده. وأفرغ جَعبة محصوله على قدر جهده. وكان في المجلس شاب لم يتكلم بإسهاب إلى قرب انتهاء الحديث. الدائر محوره — وقتئذٍ — على تفضيل أيهما؛ الغناء القديم أم الحديث. فأبدى من الرأي الفصل. والقول الجزل ما كشف لنا به الستار عن وهن التلحين الحديث، وضعف ألفاظه وسخافة معانيه. وأثبت ببراهينه الساطعة حسن الغناء القديم وقوة صياغته ومتانة مبانيه. وما زال ينادمنا بأفصح لسان. ويجلو علينا عقائل أخلاقه الحسان. وينثر جواهر لفظه النظيم. ويزف إلينا ملحًا ألذّ من الزلال على قلب الكليم. حتى جلا عن القلوب الهموم والأوصاب. وأعجب بفصاحته الحضور أيَّما إعجاب. فراقني ما شاهدت من حاله. وأمعنت النظر في مستقبله ومآله. وسألت — همًّا — مَن بجواري، والجالس على يساري: أو تعرف أيها الفاضل هذا الشاب. السالب بمنطقه العذب نهي أولي الألباب: فقال: نعم هو نابغة مصر. ومحيي ما اندرس من معالم فن الموسيقى في هذا العصر. الذي شهدت له أئمة فنه في براعة اختراع الألحان والموشحات. والفوز بالقدح المعلى في وضع الأسفار الأثيرة ونشر جليل المؤلفات. الأديب الموسيقي اللوذعي. (كامل أفندي الخلعي) وجل غرضه الذي يسعى إليه الآن. أن يصل هذا الفن في الشرق إلى درجة الكمال والإتقان، فنراه مكبًا على تحصيل غوامض أسرار هذا الفن النفيس، حتى صار أستاذًا عظيمًا شرقيًا يرجع إليه في المشكلات ويعوّل عليه في التدريس. فرغبت إليه أن يرجوه ليتحفنا بشيء من تلاحينه الخاصة وطيب نغماته. وأن يجود علينا بما منّ الله عليه من جزيل نعمه وهباته. فلبّى الطلب بكل خضوع وأدب. ولم يعتذر بوجود ألم في صوته كأكثر ثقال المغنين إذا استماحهم راغب إنشادَ شيء من التلحين. بلغنا المقصود من سؤالنا. وجمع بيننا وبين آمالنا. فإذا — والحق يقال — صوتٌ شجي رخيم. أشهى إلى الآذان من رجوع العافية إلى جسم السقيم. وأصفى من ماء الغمام. وأضوأ من بدر بالتمام إذا انكشفت عنه حجب الغمام. في حندس الظلام. أغنى بمغانيه النفس بعد فقرها. وأرجع إليها محبوبها بعد طول شوقها. وأهدى الروح إلى الأرواح، وأطرب السمع بضروبه الصحاح، فلا تخلو له قطعة من صنعه. ولا خانه. من متانه. ولا قفله. من حفله. حتى ثملنا طربًا، ومِسنًا تيها وعجبًا. وأخذ بعض الجماعة من الطرب ما يأخذ أهل السكر. فنشروا أعلام الثناء والشكر. وظهرت أسرار السرور. وانشرحت صدور الصدور. خصوصًا مما سمعناه من النغمات غير الملحن عليها في مصر أدوار أو موشحات. (كالتكريز والفر حناك وألبسته نكار. والعجم والبوسليك والسوزناك والحجاز كار). ولم نزل تتمتع منه بالسماع والحديث بكل مطلوب. إلى أن آذنت الشمس بالغروب. فتأهَّب للقيام. فحييناه بالترحاب والإكرام. فخرج والعيون تشيعه. والقلوب معه. فيا له يومًا ما كان أطيبه وأقصره. وسرورًا ما أوفاه وأوفره! مُلكنا فيه زمام التهاني. وحصلنا منه على الآمال والأماني. ولما انفض عقد مجلسنا وانتثر. سرت معه ليُريني آخر مؤلف من مؤلفاته الغرر. فكانت فاتحة الألطاف أن قرأت على غلافه بالحرف الجميل الجليّ: كتاب (الموسيقى الشرقي) فتصفحته تصفح منتقد بصير، عليم بأسرار التأليف خبير. فانشرح صدري بالوقوف على مغانيه. وجال فكري حيث جال في معانيه. وامتلأ قلبي من نوره نورًا. ورجعت به إلى أهلي فرحًا مسرورًا. كتاب يشتمل من أصناف الفوائد. على أصداف الفرائد. حوى من هذا الفن ما لم يحوِه كتاب. وفتح للطالب إلى أقصى المطالب كل باب؛ إذ هو فريد في فنه الفائق. وحيد في جمعه للدقائق. عزيزُ التحقيق. كثير التدقيق. لم ينسج ناسجٌ من المتقدمين على منواله. ولم يسمح الدهر بمثاله. على أن فضل القدماء لا ينكر. والإغضاء عن بيان فضلهم لا يشكر، فنحن إنما بنينا على أساسهم. واهتدينا بنبراسهم. غير أننا إذا وضعناه موضع الكتب القديمة. كنا كمن لا يعرف لهذا الفن قيمه. وإذا قابلناه بما سلف. كنا كمن قابل بين الدرِّ والصدف. والقصدير والذهب. أو الرأس والذنب. ساقني إلى مطالعته بالتدقيق سلاسةُ وضعه. وجودة ورقه ودقة طبعه. وانسجام عباراته، ولطف إشاراته. ومن ثمين ما وجدته فيه الأوزان العربية والتركية. موضوعة بطريقة سهلة المأخذ بالنوتة الإفرنجية. مع قواعد علم التصوير ورصد النغمات. وتعليم أيّة آلة من الآلات. مع تصويرها بالشرح الوافي. والبيان الكافي. بألفاظ وضيّه. ومعانٍ مضيَّه، كذا يجد فيه المطلع من صور مشهوري هذا العصر ما هو غرة في جبين الدهر. وكلها متقنة الوضع، رائقة الصنع. مما تتوق إلى النظر إليه أنفسُ أدباء المطلعين. فيشكرون صنيع المؤلف ويترحمون على مَن مات من فطاحل المغنين — والموشحات مرتبة ترتيبًا جميلاً على هيئة فصول. كأحسن ما يغرفه كبار الفن من أعذب المسموع وألذ المنقول. مع تراجم أهل العصر. والمختار من تلاحين علماء الشام ومصر. مما يعد في الحقيقة بدعة الأمصار. وشرك الخواطر ونزهة الأبصار. على أني لو استعرت فصاحة الأدباء. وأُعطيت بلاغة الخطباء. لما أمكني أن في هذا السفر. حقه من التمداح والشكر. وقصارَى المديح عجزُ الفصيح. وقد هداني أيضًا هذا المؤلف الجليل إلى وجود مجموعة أخرى لهذا الموسيقي النبيل، تشتمل على اثني عشر موشحًا من أمثل ألحانه. وأجمل ما جاد به صوته السليم وفنه الممسك له بعنانه. قد جلاها للناس في معرض المبتدع المخترع. لا الناقل المقترع. وربطها بالنوتة الإفرنجية. ووضع عليها ألفاظها باللغتين العربية والفرنساوية. وهو أول شرقي رفع شأن وطنه في علمه بعمله. وأتى بما لم يأت سابقوه ولا معاصروه بمثله. ولما كان من الواجب على كل حر شريف يحب خير وطنه والإصلاح. أن يرشد إخوانه إلى ما فيه الخير والصلاح فأقول: لا جدال في حسن الغناء القديم ووثاقته. ولا نزاع في متانة تركيبه وصياغته؛ لأنه الأساس الذي اقتاد به المحدثون. وعليه مثل الملحنون. وتناقله الخلف عن السلف في كل قطر ومصر. جيلاً بعد جيل وأهل عصر بعد عصر؛ لأن كل ملحن مجيد لا بد أن يكون استكثر في بدئه من حفظ تراكيبهم. وتحدي أساليبهم. ومحاكاة نغمتهم. والحذاء كما سبق القول على أمثلتهم. كيما تتحصل عن ذلك عنده ملكه التلحين. فتصدر ألحانه خالية مما يشين. ولما كنا في الحقيقة — وإن تقادمت الأيام — سلالة أولئك الأقوام الكرام. فما علينا إلا أن نطلب الخير. بالاقتداء بهم في السير، لنكون لمن بعدنا قدوة. كما كان لنا بذلك السلف الصالح أسوة. ولو انتبه أهل الفن قديمًا لربط موشحاتنا العربية، بالنوتة الإفرنجية. لما انتسخت أكثر عمليات تلحينها. ولما تعب مثل كامل أفندي المذكور في كتابة ألحانه خوف الضياع وتدوينها؛ لأن البيشراوات والبستان والموشحات، هي الجزء الأول. الذي عليه في هذا الفن المعوّل. وما الأدوار إلى قطع صغيرة عديمة القيمة. موضوعة على غير أصول ومحشوة بالمعاني السقيمة — بخلاف الموشحات فإنها محصورة القوانين، صحيحة القسمة في التلحين. تشتمل على ألفاظ أرق من الشمول. ومعان بعيون عقائلها تفتن العقول. وكفى على فضلها دليلاً أننا نسمعها نحن وآباؤنا من قبل. ولم نعف سماعها إذا أعيدت وكررت في كل فصل. وبرهاني (بدري أدر كاس الطلا) بحياتك قل لي أليس كلما كرر شنف الآذان وحلا. ويا (هلالاً غاب عني واحتجب) أترغب فوق أن يزيل عن قلبك الهم والنصب. إلى آخره مما يطول شرحه وتفصيله. ويعسر الآن تأسيسه وتأصيله. وأكبر دور إذا قيل بضع مرات في محفل أو ناد. بحته نفوسنا وصار كالكلام المعاد — وما ذلك إلا لمتانة تلحين الأول وضعف الثاني. يعرف ذلك جيدًا من كان لهذا الفن يعاني. ولكن لما كان المشتغلون بصناعة التلحين في هذا الزمان. لا يمكنهم تلحين الموشحات لصعوبة تركيبها وعدم معرفتهم أسرار الأوزان. تركوها ظهريًًّا ونبذوها منسيًا. وقد عودوا الناس على سماع أدوارهم البسيطة القليلة البضاعة. الخالية من محاسن الإبداع ودقيق الصناعة. واستملحها السامعون لسهولة معانيها. وهم لا يدرون بأنها مسروقة من الموشحات ومشذبة من نواحيها. *** ومن يقيس التراب بالمسجد، والحصى بالزبرجد. أو الصفر بالصفر. والتراب بالسراب. وشتان بين الليل الدامس. والنهار الشامس. وهل يقارن الدر بالحصى. والسيف بالعصا. وكم بين الحق والباطل. والخالي والعاطل. وبين حوت السماء. وحوت الماء! والخلاصة أن الفرق بين الموشحات والأدوار. عند أئمة الفن أو ذوي الأبصار. كالفرق بين ظاهر الثوب المحاك بالحرير المزين بالألوان. وبين باطنه الذي لخسته لا تود أن تراه العينان. *** ولما لم أجد في الشرق الآن من لحن من نوع الموشحات بهذه المتانة الفائقة. والجزالة في الطرب الرائقة الشائقة. غير حضرة الأستاذ المبدع الموسيقى (كامل أفندي الخلعي) فأحببت اعترافًا بما له على هذا الفن من الأيادي البيضاء أن أذكر شيئًا من مناقبه إلى حضرات المطلعين الأجلاء. وعسى أن يجعل جائزتي قبول كتابتي. لتتم سعادتي. *** هذا ولما آن أن ننتهي من هذا الكتاب. وحان نجاز طبعه المستطاب، بسطت يد الإخلاص والولاء، ورفعت أكف الضراعة والدعاء. بدوام بقاء حامي الممالك والبلاد، المحامي عن حوزة الدين صيانة لأرواح العباد، حجة الله على العالمين. وبرهانه القاطع على العتاة الجاحدين، السلطان الأكرم، والمتبوع الأعظم، مولانا (عبد الحميد الثاني). الملك العثماني، فدعوت بنصره. وسعود عصره. راجيًا من الملك المجيد. دوام عزه والتأييد. وأن يهب أمير البلاد، تابعه المعظم، وولي نعمتنا المفخم، الملحوظ بالسبع المثاني. (عباس باشا حلمي الثاني). طول العمر. ودوام اليمن والخير. كما أدعو ببقاء ذات رب المكارم والنعم. والمحاسن العميمة ومعالي الهمم. من ساعدني على طبع كتابي هذا حتى خرج للوجد. يزدهي بأنوار طلعته والسعود، صاحب السجايا الحميدة وجميل المناقب. عطو فتلو أفندم (إدريس بك راغب). وقد ضمنت هذا الإخلاص الأكيد. في هذا النشيد.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/19479368/
مُغَامَرَاتُ ثَعْلَب
كامل كيلاني
تحكي عن مغامرات الأسد «أبو فراس» والثعلب «أبو أيوب»، وما يميز كلًّا منهما.
https://www.hindawi.org/books/19479368/1/
مُغَامَرَاتُ ثَعْلَب
فِي غابَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْبِلادِ الْآهِلَةِ بِالسُّكَّانِ كانَتْ أَجْناسُ الْحَيَوانِ سارِبَةً، كُلٌّ مِنْها يَسْعَى عَلَى رِزْقِهِ. ما مِنْ حَيَوانٍ فِي الْغابَةِ — وَإِنْ كانَ ضَخْمَ الْجِسْمِ، مَهِيبَ الشَّكْلِ — إِلَّا وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ «أَبِي فِراسٍ»، وَأَهْوَنُ شَأْنَا؛ فَهُوَ حَيَوانٌ قَوِيٌّ، لَا يَغْلِبُهُ غَالِبٌ. «أَبُو فِراسٍ» مَلِكُ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ، كانَ مَرْهُوبَ الْجانِبِ، مَخُوفَ الْبَأْسِ. «أَبُو فِراسٍ» كانَ أَسَدًا، لَا تُرَدُّ لَهُ كَلِمَةٌ، وَلَا يُعْصَى لَهُ أَمْرٌ. «أَبُو أَيُّوبَ» كانَ مِنْ حَيَوانِ الْغابَةِ، ثَعْلَبٌ سَرِيعُ الْجَرْيِ وَالنَّطِّ، يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ — بَيْنَ الْوُحُوشِ — فِي الْفِطْنَةِ وَالذَّكاءِ، والْمَكْرِ والدَّهاء. «أَبُو فِرَاسٍ» الْأَسَدُ وَ«أَبُو أَيُّوب» الثَّعْلَبُ، كانا يَصْطَحِبَانِ فِي الْغَدَواتِ والرَّوحاتِ خِلالَ الْغابَةِ. «أَبُو فِرَاسٍ» كانَ يُدْنِي «أَبا أَيُّوبَ» مِنْ مَجْلِسِهِ، وَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيرِهِ مِن حَيَوانِ الْغابَةِ. الْأَسَدُ اتَّخَذَ مِنَ الْثَّعْلَبِ سَمِيرًا أَنِيسًا، وَمُسْتَشارًا أَمِينًا. «أَبُو أَيُّوبَ» الثَّعْلَبُ كانَ بارِعًا فِي الصَّيْدِ، لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ، وَبَرَاعَةِ حِيلَتِهِ. الْمَرانَةُ أَكْسَبَتْ «أَبَا أَيُّوبَ» قُدْرَةً نَادِرَةً عَلَى اصْطِيادِ الْحَيَوَانِ. كانَ يَتَفَنَّنُ فِي ضُرُوبِ الْحِيَلِ، لِكَيْ يُوقِعَ فَرِيسَتَهُ. الْأَسَدُ «أَبُو فِرَاسٍ» مَلِكُ الْوُحُوشِ كانَ يَفُوقُ الثَّعْلَبَ «أَبا أَيُّوبَ» فِي قُوَّتِهِ وَبَطْشِهِ. الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» كانَ يَفُوقُ الْأَسَدَ فِي ذَكائِهِ وَمَكْرِهِ. مَتَى لَاحَتْ فَرِيسَةٌ مِنْ بَعِيْدٍ لَمَحَهَا، وَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي مُطارَدَتِها، حَتَّى يَلْحَقَ بِهَا. الْأَسَدُ حالَفَ الثَّعْلَبَ، وَحَرَصَ عَلَى صُحْبَتِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُ الْوُدَّ؛ لِيَسْتَغِلَّ مَزاياهُ، وَيَسْتَخْدِمَهُ لِمَنْفَعَتِهِ. خَرَجَ الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» يَوْمًا لِلصَّيْدِ، فَظَفِرَ بِفَرِيسَتِهِ، وَفَرِحَ بِهَا كُلَّ الْفَرَحِ. أَسْرَعَ الْأَسَدُ «أَبُو فِرَاسٍ» إِلَيْهِ، يَبْتَسِمُ وَيَتَوَدَّدُ، وَسَأَلَهُ: «مَاذَا أَصَبْتَ يَا «أَبا أَيُّوبَ»؟» أَجابَهُ الثَّعْلَبُ: «هذَا ما أَصَبْتُهُ. أَلَّا تَرَى يا عَمِّي «أَبا فِرَاسٍ»؟ لَقَد اصْطَدْتُ غَزَالًا.» نَظَرَ الْأَسَدُ إِلَى الثَّعْلَبِ بِعَيْنٍ يَبِينُ فِيها الْغَدْرُ، وَقَالَ لَهُ بِصَوْتِهِ الْمُمْتَلِئ الْخَشِنِ: «لِمَنْ هذا الصَّيْدُ يا تُرَى؟» فَطِنَ الثَّعْلَبُ إِلَى أَنَّ الْأَسَدَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ هُوَ بِالْفَرِيْسَةِ، لِيَنْعَمَ بِأَكْلِها وَحْدَهُ. خَشِيَ الثَّعْلَبُ بَأْسَ الْأَسَدِ، أَجابَهُ بِقَوْلِهِ فِي تَمَلُّقٍ: «هذا الصَّيْدُ كُلُّهُ لَكَ يا عَمِّي. لَكَ وَحْدَكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَاكَ. وَهَلْ تَظُنُّ أَنْ يُشَارِكَكِ فِيهِ أَحَدٌ؟!» ظَهَرَتِ الْبَشاشَةُ وَالطَّلاقَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَسَدِ «أَبِي فِرَاسٍ»، وَقالَ لِصاحِبِهِ الثَّعْلَبِ «أَبِي أَيُّوبَ»: «بارَكَ الله فِيكَ يَا ابْنَ أَخِي. أَنْتَ ذَكِيٌّ فَطِينٌ، وَصاحِبٌ أَمِينٌ!» أَقْبَلَ الْأَسَدُ عَلَى الْفَرِيسَةِ. قَبَضَ عَلَى الْغَزالِ بِأَظْفارِهِ. أَعْمَلَ فِيهِ أَنْيابَهُ يَلْتَهِمُهُ. لَمْ يُبْقِ مِنْهُ إِلَّا فُضَالَةً قَلِيلَةً، لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ. رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى الثَّعْلَبِ، وَقَالَ لَهُ فِي عَظَمَةٍ وَكِبْرِياءَ: «لَمْ أَنْسَ حَقَّكَ فِي الْفَرِيسَةِ الَّتِي اصْطَدْتهَا!» قالَ الثَّعْلَبُ: «لا حَقَّ لِي فِي شَيْءٍ مِنَ الْفَرِيْسَةِ! وَلَكِنْ شُكْرًا لَكَ يَا عَمِّي، عَلَى مَا تَفَضَّلْتَ وَأَعْطَيْتَ.» قَالَ الْأَسَدُ: «لا أَظُنُّنِي غَبَنْتُكَ أَوْ جُرْتُ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ شَرِيكِي وَحَلِيفِي، وَلِكُلٍّ مِنَّا حَقُّ مَعْلُومٌ.» قالَ الثَّعْلَبُ: «أَنْتَ حَلِيفٌ شَرِيفٌ، لَا تَظْلِمُ وَلَا تَجُورُ. إِنَّكَ عَادِلٌ كَرِيمٌ. إِنَّكَ أَسَدٌ عَظِيمٌ!» ابْتَهَجَ الْأَسَدُ بِهذا الْمَدْحِ الظَّاهِرِ، وَالثَّناءِ الزَّائِفِ. لَمْ يُدْرِك أَنَّ الثَّعْلَبَ لَمْ يَصْدُقْ فِي الْمَدْحِ وَالثَّناءِ، بَلْ أرادَ السُّخْرِيَةَ وَالاسْتِهْزَاءَ. لَمْ يَفْهَمْ «أَبُو فِرَاسٍ» أَنَّ «أَبا أَيُّوبَ» عَرَفَ الْحَقِيقَةَ وَعَلَّمَتْهُ التَّجْرِبَةُ. الثَّعْلَبُ عَرَفَ أَنَّ الْأَسَدَ يَتَّخِذُ مِنْ قُوَّتِهِ أَداةً لِلِاسْتِغْلالِ. الثَّعْلَبُ تَعَلَّمَ أَنَّ الْأَسَدَ يُصَادِقُهُ وَيُحالِفُهُ، لِمَصْلَحَتِهِ وَحْدَهُ، لَا لِمَصْلَحَتِهِما الْمُشْتَرَكَةِ. أَيْقَنَ الثَّعْلَبُ أَنَّهُ إِذَا ظَلَّ يُحَالِفُ الْأَسَدَ فَسَيَبْقَى الْأَسَدُ يَنْعَمُ بِالأَطَايِبِ، وَيَقْنَعُ هُوَ بِالْفُتاتِ. كَتَمَ الثَّعْلَبُ أَلَمَهُ وَغَيْظَهُ، وَأَقْسَمَ أَلَّا يَرْضَى بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الظَّالِمَةِ، لَنْ يُحَالِفَ الْأَسَدَ، أَوْ يُصَاحِبَهُ. اعْتَزَمَ الثَّعْلَبُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الصَّيْدِ مُنْفَرِدًا، حَتَّى يَخْلُصَ مِنْ ظُلْمِ الْأَسَدِ الْباطِشِ الْمُسْتَغِلِّ. خَرَجَ الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» صَباحَ يَوْمٍ، يَطْلُبُ صَيْدًا. خَشِيَ أَنْ يُصَادِفَهُ الْأَسَدُ فِي طَرِيْقِهِ فَيُلَازِمَهُ، وَيُحْرِمَهُ مَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ. ظَلَّ يَعْدُو مُسْرِعًا، حَتَّى بَلَغَ أَطْرَافَ الْغابَةِ، وَأَصْبَحَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ الْعَامِرَةِ بِالنَّاسِ. وَقَفَ الثَّعْلَبُ يَتَلَفَّتُ؛ يَنْتَظِرُ الْفُرْصَةَ السَّانِحَةَ، لَيَكْسِبَ قُوتَهُ. رَأَى — عَنْ بُعْدٍ — مَرْكَبَةً مَمْلُوءَةً بِالسَّمَكِ. كانَتِ الْمَرْكَبَةُ بَطِيْئَةَ السَّيْرِ، شَمَّ الثَّعْلَبُ رَائِحَةَ السَّمَكِ، فَاشْتَهَاهُ، وَكادَ عَقْلُهُ يَطِيرُ. كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى أَنْ يَظْفَرَ بِقَدْرٍ مِنَ السَّمَكِ، يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ؟ انْتَظَرَ حَتَّى دَنَتِ الْمَرْكَبَةُ مِنْهُ، وَحَاوَلَ أَنْ يَنُطَّ فَوْقَها. كانَتِ الْمَرْكَبَةُ عالِيَةً، لَمْ يَسْتَطِعِ الثَّعْلَبُ أَنْ يَبْلُغَ غَرَضَهُ. سارَتِ الْمَرْكَبَةُ فِي طَرِيقِها. وَقَفَ «أَبُو أَيُّوبَ» حَزِينًا مَهْمُومًا، يَتَحَسَّرُ عَلَى الْفُرْصَةِ الَّتِي فَاتَتْهُ. بَعْدَ قَلِيلٍ أَبْصَرَ الثَّعْلَبُ مَرْكَبَةً أُخْرَى قَادِمَةً، أَعْلَى مِنَ الْمَرْكَبَةِ الْأُوْلَى، وَأَكْثَرَ سَمَكًا مِنْها. فَهِمَ أَنَّهُ إِنْ حاوَلَ النَّطَّ فَوْقَها فَسَتَخِيبُ مُحَاوَلَتُهُ، كَما حَدَثَ فِي الْمَرْكَبَةِ السَّابِقَةِ، لكِنَّهُ أَصَرَّ عَلَى أَلَّا تَفُوتَهُ هَذِهِ الْفُرْصَةُ الثَّانِيَةُ. فَكَّرَ فِي حِيلَةٍ نَاجِحَةٍ، يَصِلُ بِها إلَى مَقْصُودِهِ. اسْتَلْقَى الثَّعْلَبُ فِي طَرِيقِ الْمَرْكَبَةِ. تَظاهَرَ بِأَنَّهُ مَيِّتٌ، لَا حَرَاكَ بِهِ، وَلَا رُوْحَ فِيهِ. أَبْصَرَهُ السَّائِقُ، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ فِي الطَّرِيقِ، لَا يَتَحَرَّكُ، عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْمَوْتِ، فَجَعَلَ يُطِيلُ النَّظَرَ فِيهِ. قَالَ السَّائِقُ لِنَفْسِهِ: «مَا أَجْمَلَ جِلْدَ هَذَا الثَّعْلَبِ! لِمَاذَا لَا أَحْمِلُهُ مَعِي؟ إِنَّهُ مَيِّتٌ، لَا أَخْشَى أَذَاهُ! لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ جِلْدِهِ مِلْحَفَةً تَضَعُها ابْنَتَيِ عَلَى كَتِفَيْها.» قَبَضَ سَائِقُ الْمَرْكَبَةِ عَلَى الثَّعْلَبِ بِيَدِهِ، فِي حَيْطَةً وَحَذَرٍ. ظَلَّ السَّائِقُ يُطَوِّحُ بِالثَّعْلَبِ فِي الْفَضاءِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. لَمْ يَتَحَرَّكِ الثَّعْلَبُ أَقَلَّ حَرَكَةٍ. اطْمَأَنَّ السَّائِقُ إِلَى أَنَّ الثَّعْلَبَ لَيْسَ حَيًّا. قَذَفَ بِهِ إِلَى الْمَرْكَبَةِ. ساقَ الْمَرْكَبَةَ وَهُوَ فَرْحانٌ مُبْتَهِجٌ بِمَا صَنَعَ. رَفَعَ الثَّعْلَبُ رَأْسَهُ قَلِيلًا. رَأَىَ السَّائِقَ مُنْهَمِكًا فِي السِّيَاقَةِ، يَحُثُّ الْحِصانَ عَلَى الْإِسرَاعِ فِي السَّيْرِ. السَّائِقُ مُوَلٍّ ظَهْرَهُ لِلْمَرْكَبَةِ، لَا يُبْصِرُ ما وراءهُ. الثَّعْلَبُ أَصْبَحَ الْآنَ وَاثِقًا أَنَّ السَّائِقَ لَنْ يَراهُ. الثَّعْلَبُ أَقْبَلَ عَلَى السَّمَكِ يَأْكُلُ مِنْهُ مَا شَاءَ. أَكَلَ الثَّعْلَبُ حَتَّى شَبِعَ. لَمْ يَكْتَفِ بِمَا أَكَلَ. ظَلَّ يَقْذِفُ بِالسَّمَكِ فِي الطَّرِيْقِ سَمَكَةً بَعْدَ أُخْرَى. لَمْ يَفْتُرِ الثَّعْلَبُ عَنْ عَملِهِ فِي إِلْقاءِ السَّمَكِ. صَارَ السَّمَكُ — عَلَى طُولِ الطَّرِيقِ — كَأَنَّهُ حَبْلٌ طَوِيلٌ. الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» كانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: «لَقَدْ أَلْقَيْتُ فِي الطَّرِيقِ مِائَةَ سَمَكَةٍ. هذا مِقْدَارٌ كَبِيرٌ. سَيَكْفِينِي وَقْتًا طَوَيلًا. أَنا الْآنَ لَا أَحْمِلُ هَمَّ الطَّعَام.» وَثَبَ الثَّعْلَبُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ، وَذَهَبَ إِلَى مَنْهَلِ الْماءِ لِيَشْرَبَ بَعْدَ أَنِ امْتَلَأَ مِنَ الطَّعامِ. كانَ يُفَكِّرُ فِي صَوابِ رَأْيِهِ، حِينَ قَرَّرَ أَلَّا يُحَالِفَ الْأَسَدَ «أَبا فِراسٍ» الظَّالِمَ الغَاشِمَ. لَوْ أَنَّ الْأَسَدَ صَاحَبَهُ — هذا الْيَوْمَ — لَما اسْتَطاعَ أَنْ يَهنَأَ بِلَحْمِ السَّمَكِ الطَّرِيِّ الطَّيِّبِ. لَنْ يُحالِفَ — يَوْمًا مَا — أَحَدًا مِنْ ذَوِي الْبَطْشِ وَالطُّغْيَانِ. سَيَظَلُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، يَنْشُدُ مَصْلَحَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ، لا يُصادِقُ إِلَّا مَنْ يُصادِقُهُ بِوَفاءٍ وَأَمانَةٍ وَإِخْلَاصٍ، وَلا يُعَاهِدُ إِلَّا مَنْ يُعَامِلُهُ مُعامَلَةَ النِّدِّ لِلنِّدِّ، لا مُعامَلَةَ السَّيِّدِ لِلْعَبْدِ. رَجَعَ «أَبُو أَيُّوبَ» مِنَ الْمَنْهَلِ، بَعْدَ أَنْ شَرِبَ حَتَّى ارْتَوى. أَبْصَرَ ضَبُعًا فِي الطَّرِيقِ تَنْتَهِبُ السَّمَكَ وَتَلْتَهِمُهُ. لَمْ يَسْتَطِعْ صَبْرًا عَلَى عُدْوانِ الضَّبُعِ عَلَى سَمَكِه. قالَ غاضِبًا صائِحًا: «لِماذا اعْتَدَيْتِ عَلَى سَمَكِي، يَا أُمَّ عامِرٍ؟ إِنَّهُ صَيْدِي لِي أَنَا وَحْدِي. لَيْسَ لَكِ فِيهِ حَقٌّ.» اشْتَدَّ عَجَبُ الضَّبُعِ «أُمِّ عَامِرٍ» مِمَّا قالَ الثَّعْلَبُ. الَتَفَتَتْ إِلَيْهِ قائِلَةً: «إِنِّي لَمْ أَنْتَهِبْ مِنْكَ شَيْئًا. هذا سَمَكٌ سَقَطَ مِنْ مَرَكَبَةٍ سَائِرَةٍ. إِنَّهُ حَقُّ لِكُلِّ مَنْ يَجِدُهُ فِي طَرِيقِهِ. أَتُرَاكَ اصْطَدْتَهُ مِنَ الْماءِ بِنَفْسِكَ؟» اشْتَدَّ غَضَبُ الثَّعْلَبِ: «أَبِي أَيُّوبَ» عَلَى صَاحِبَتِهِ الضَّبُعِ: «أُمِّ عَامِرٍ»، وَحَنِقَ عَلَيْها أَشَدَّ الحَنَقِ. لَمْ يَسْتَمِرَّ فِي مُنَاقَشَتِها وَمُجادَلتِها. آمَنَ بِأَنَّ الْمُنَاقَشَةَ لا تَنْفَعُ، وَالْمُجادَلَةَ لا تُجْدِي. فَكَّرَ الثَّعْلَبُ فِي حِيلَةٍ يَنالُ بِها غَرَضَهُ … فَكَّرَ: كَيفَ تَتْرُكُ لَهُ الضَّبُعُ سَمكَهُ، وَلا تُنازِعُهُ فِيهِ؟ قالَ لِلضَّبُعِ «أُمِّ عَامِرٍ»: «أَنا لا أَبْخَلُ عَلَيْكِ بِسَمَكٍ تَأْكُلِينَهُ — وَإِنْ كانَ لِي — وَلكِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَأْكُلي طَعَامًا مِنْ كَسْبِكِ، وَمِنْ ثَمَرَةِ جُهْدِكِ.» قالَتْ لَهُ مَخْدُوعَةً بِكَلامِهِ: «وَبِماذا تَنْصَحُ لِي؟» أَجابَها فِي صَوْتٍ هادِئٍ: «تَنْتَظِرِينَ حَتَّى تَمُرَّ بِكِ مَرْكَبَةُ سَمَكٍ، فَتطْرَحي جَسَدَكِ فِي طَرِيقِها؛ فَيَحْمِلَكِ السَّائِقُ إِلَى الْمَرْكَبَةِ، فَتَأْكُلي مِنَ السَّمَكِ مَا لَذَّ وَطابَ، وَتْفَرُشِي طَرِيقَكِ مِنْهُ بِمَا تَشَائِينَ.» فَرِحَتِ الضَّبُعُ بِما سَمِعَتْهُ مِنْ «أَبِي أَيُّوبَ»، وَاقْتَنَعَتْ بِالْحِيلَةِ الَّتِي عَلَّمَها إِيَّاها. وَقالَتْ لَهُ: «سَأَعْمَلُ بِنُصْحِكَ، وَإِنِّيَ شَاكِرَةٌ لَكَ حُسْنَ رَأْيِكَ. لكِنْ أَخْبِرْنِي: هَلْ فَعَلْتَ أَنْتَ ذلِكَ؟» أَسْرَعَ الثَّعْلَبُ يُجِيْبُ صَاحِبَتَهُ «أُمَّ عَامِرٍ»: «نَعَمْ يا «أُمَّ عَامِرٍ»، اسْتَلْقَيْتُ فِي الطَّرِيقِ مُتَظَاهِرًا بِالْمَوْتِ. طَمِعَ سَائِقُ مَرْكَبَةِ السَّمَكِ فِي جِلْدِي. حَمَلنَي إِلَى الْمَرْكَبَةِ. أَكَلْتُ مِنَ السَّمَكِ حَتَّى شَبِعْتُ، وَرَمَيْتُ مِنْهُ فِي الطَّرِيْقِ ما شِئْتُ … قَفَزْتُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ بَعْدَ ذلِكَ. لَمْ يُحِسَّ السَّائِقُ بِما فَعَلْتُ.» هَزَّتِ الضَّبُعُ رَأْسَها. عَزَمَتْ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ ذلِكَ بَعْدَ وَقْتٍ قَصِيرٍ، سَمِعَتْ صَوْتَ عَجَلاتٍ فِي الطَّرِيقِ عَلَى بُعْدٍ. لَمَحَتْ عَيْنُها مَرَكَبَةً تَقْتَرِبُ، مُحَمَّلَةً بِالسَّمَكِ. قالَ الثَّعْلَبُ لِلضَّبُعِ: «هاكِ مَرَكَبَةَ سَمَكٍ لَمْ تَمُرَّ مِثْلُها مِنْ قَبْلُ. سارِعِي إِلَى الْعَمَلِ بِنَصِيحَتِي. أَنْفِذِي ما أَشَرْتُ عَلَيْكِ بِهِ. اسْتَلْقِي بِجَسَدِكَ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَظَاهَري بِالْمَوْتِ، حَتَّى يَحْمِلَكِ السَّائِقُ إِلَى الْمَرْكَبَةِ.» لَمْ تَعْرِفِ الضَّبُعُ ما خَبَّأَهُ لَها الْقَدَرُ مِنْ وَيْلاتٍ وَنَكَباتٍ، حِينَ تَفْعَلُ ما نَصَحَ بِهِ «أَبُو أَيُّوبَ». انْخَدَعَتْ «أُمُّ عَامِرٍ» بِقَوْلِ الثَّعْلَبِ الْماكِرِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا فِي نُصْحِهِ. اسْتَلْقَتْ فِي طَرِيقِ الْمَرْكَبَةِ الْقَادِمَةِ. حَرَصَتْ عَلَى أَنْ تُغْمِضَ عَيْنَيْها، وَلا تَتَحَرَّك. نَسِيَتْ أَنْ جِلْدَها لَيْسَ كَجِلْدِ الثَّعْلَبِ يَلْفِتُ الْأَنْظارَ، وَيَحْرِصُ النَاسُ عَلَى الْحُصُولِ عَلَيْهِ. نَسِيَتْ أَنْ فِرَاءَها لَيْسَتْ نَاعِمَةَ الْمَلْمَسِ، حَرِيريَّةَ الشَّعْرِ، كَفِراءِ الثَّعالِبِ الَّتِي يَرْغَبُ فِيها النَّاسُ. قَدِمَ سائِقُ الْمَرْكَبَةِ. رَأَى الضَّبُعَ فِي طَرِيقِهِ، مَطْرُوحَةً عَلَى الْأَرْضِ. رَكَلَها بِقَدَمِهِ فِي احْتِقارٍ وَغَيْظٍ. قالَ فِي اشْمِئْزَازٍ: «يا لَكِ مِنْ قَبِيحَةِ الْمَنْظَرِ!» ظَلَّ يَلْكُمُها مُهْتَاجًا نَاقِمًا، وَيَصْرُخُ فَي غَضَبٍ وَحَنَقٍ: «انْهَضِي، أَيَّتُها الدَّابَّةُ الْقَذِرَةُ الْمِكْسالُ. اِذْهَبِي إِلَى حَيْثُ لا تَقَعُ عَلَيْكِ عَيْنَايَ!» أَلْهَبَ جِسْمَها بِعُودٍ غَلِيظٍ مِنْ أَعْوَادِ الشَّجَرِ. لَمْ تُطِقِ الضَّبُعُ صَبْرًا عَلَى احْتِمالِ الضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ. اضْطُرَّتْ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَيْها، وَتَجْرِيَ هَارِبَةً. سارَتْ — فِي طَرِيقِها — تَعْوِي مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ. كانَ الثَعْلَبُ المَكَّارُ يَعْلَمُ أَنَّ الضَّبُعَ «أُمَّ عَامِرٍ» سَيُصِيبُها الْأَذَى مِنَ السَّائِقِ. أَسْرَعَ إِلَى طَرِيقِ «أُمِّ عَامِرٍ» يَتَبَيَّنُ ما حَدَثَ لَها، بَعْدَ أَن اسْتَلْقَتْ فِي طَرِيقِ الْمَرْكَبَةِ. سَأَلَها الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ: ماذا حَدَثَ؟ قَصَّتْ عَلَيْهِ «أُمُّ عَامِرٍ» الْحادِثَ الْمَشْئُومَ. قالَتْ لَهُ: «هكَذا كُتِبَ عَلَيَّ أَنْ أُضْرَبَ حَتَّى أُشْرِفَ عَلَى التَّلَفِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْفَرَ بِسَمَكَةٍ وَاحِدَةٍ.» قَالَ لَها الثَّعْلَبُ، وَهُوَ مُبْتَهِجٌ بِنَجاحِ حِيلَتِهِ: «أوَاثِقةٌ أَنْتِ — يا «أُمَّ عَامِرٍ» — أَنَّكِ رَقَدْتِ ساكِنَةً، فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ، دُونَ أَنْ تَتَحَرَّكِي أَقَلَّ حَرَكَةٍ؟» فَقالَتْ لَهُ الضَّبُعُ: «لَيْسَ فِي هذَا أَقَلُّ شَكٍّ، تَعَرَّضْتُ لِلْمَرْكَبَةِ، وَأَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ، وَلَمْ أَتَحَرَّكْ.» تَظاهَرَ «أَبُو أَيُّوبَ» بِالْعَطْفِ عَلَيْها، وَالتَّوَجُّعِ لَها. قالَ لَها، وَهُوَ يُخْفِي فِي نَفْسِهِ السُّخْرِيَةَ مِنْها: «لَعَلَّ السَّائِقَ لَمْ يَرَ فِي جِلْدِكِ مَا يُغْرِي بِاقْتِنائِهِ! إِذَا صَحَّ هذا — وَهُوَ صَحِيحٌ — فَلَيْسَ هذا خَطَأَكِ. إِنَّهُ سُوءُ حَظِّكِ، أَوْقَعَكِ فِي وَرْطَةٍ، وَقادَكِ إِلَى خَاتِمَةٍ مُحْزِنَةٍ!» قالَتْ لَهُ الضَّبُعُ وَعَيْناها تَذْرِفانِ الدُّمُوعَ: «مِنْ سُوَءِ حَظِّي — يا «أَبَا أَيُّوبَ» — أَنْ أَكُونَ قَبِيحَةَ الشَّكْلِ، لَيْسَ لِي — مِثْلُكَ — جِلْدٌ ثَمِينٌ!» قالَ لَها الثَّعْلَبُ هَازِئًا: «لَيْسَتْ دَمامَةُ الْخِلْقَةِ، وَقُبْحُ الصُّورَةِ، عَيْبًا يَضِيرُ كائِنًا كانَ، مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ إِنْسانٍ. لَيْسَ جَمَالُ الشَّكْلِ، وَحُسْنُ الصُّورَةِ، هُوَ الْمَزِيَّةَ الْوَحِيدَةَ؛ فَإِنَّ هُناكَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَزايا الَّتِي تُعَوِّضُ عَنِ الْحُسْنِ وَالْجَمالِ؛ هُناكَ قُوَّةُ التَّفْكِيرِ، وَحُسْنُ التَّدْبِيرِ. لكِنِ الْعَيْبُ — كُلُّ الْعَيْبِ — أَنْ تَكُونِي — يا أُمَّ عَامِرٍ — غَبِيَّةً حَمْقَاءَ، تُصَدِّقِينَ كُلَّ ما يُقالُ لَكِ، وَلا تتَدَبَّرِينَ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ!» عادَ الثَّعْلَبُ «أَبُو أَيُّوبَ» إِلَى سَمَكِهِ، يَجْمَعُهُ لِيَأْكُلَهُ. تَرَكَ الضَّبُعَ «أُمَّ عَامِرٍ» مَشْغُولَةً بِما تُعانِيهِ مِنْ آلامٍ. ظَلَّتِ الضَّبُعُ — لِغَباوَتِها — حائِرَةً فِي أَمْرِهَا، لَا تَدْرِي حَقِيقَةَ الثَّعْلَبِ «أَبِي أَيُّوبَ»: هَلْ هُوَ مُخْلِصٌ فِي نُصْحِهِ، صَدِيقٌ أَمِينٌ؟ أَوْ هُوَ مُخَادِعٌ سَيِّئُ النِّيَّةِ، عَدُوٌّ مُبِينٌ؟
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/27402868/
التَّـاجِرُ مَـرْمَـرٌ
كامل كيلاني
«مرمر» تاجر أمين من بلاد الصين كان يعيش فيها منذ مئات السنين. مرمر تعيش معه زوجته «ياسمين»، ياسمين سيدة كريمة وبنت ناس طيبين. مرمر وياسمين لهما ابن اسمه «صفاء»، بدأت هذه القصة لما كان عمره ست سنوات.
https://www.hindawi.org/books/27402868/1/
التَّـاجِرُ مَـرْمَـرٌ
«مَرْمَرٌ» تاجِرٌ أَمِينٌ، مِنْ بِلادِ الصِّينِ. كانَ يَعِيشُ فِيها مُنْذُ مِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ. «مَرْمَرٌ» كانَتْ تَعِيشُ مَعَهُ زَوْجَتُهُ: «ياسَمِينُ». «ياسَمِينُ» سَيِّدَةٌ كَرِيمَةٌ، بِنْتُ ناسٍ طَيِّبِينَ. «مَرْمَرٌ» وَ«ياسَمِينُ» لَهُما ابْنٌ اسْمُهُ «صَفَاءٌ». بَدَأَتْ هذِهِ الْقِصَّةُ لَمَّا كانَ عُمْرُهُ سِتَّ سَنَوَاتٍ. أُمُّهُ فَرْحانَةٌ بِهِ، وَأَبُوهُ فَرْحانٌ. طَبْلٌ وَزَمْرٌ وَغِنَاءٌ، فِي الطَّرِيقِ. مَوْكِبٌ كَبِيرٌ، مَرَّ قُدَّامَ الْبَيْتِ. «صَفاءٌ» شافَ الْمَوْكِبَ مِنَ الشُّبَّاكِ. «صَفاءٌ» خَرَجَ مِنَ الْبَيْتِ، يَتَفَرَّجُ. لَمْ يَأْخُذْ إِذْنًا مِنْ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ. اَلْمَوْكِبُ مَشَى، «صَفاءٌ» مَشَى وَراءَهُ. اَلْمَوْكِبُ تَعِبَ، «صَفاءٌ» تَعِبَ مَعَهُ. «صَفاءٌ» تَاهَ، خَرَجَ يُنادِي أُمَّهُ وَأَباهُ. انْقَضَى النَّهارُ، وَجاءَ الْمَساءُ. أَيْنَ أَنْتَ يا «صَفاءُ»؟ اَلْأَبَوانِ مُتَحَيِّران يَنْتَظِرانِ: ماذا يَصْنَعانِ؟ السَّاعاتُ تَمُرُّ والْأَيَّامُ، الشُّهُورُ تَكرُّ والْأَعْوامُ، وَ«صَفاءٌ» غائِبٌ عَنِ الْعُيُونِ، مَجْهُولُ الْمَكانِ، وَ«مَرْمَرٌ» وَ«ياسَمِينُ» غارِقانِ فِى الْأَحْزانِ. «صَفاءٌ» حَبَّ أَبَوَيْهِ وَحَبَّاهُ. هُوَ رَجَاؤُهُما فِي الْحَياةِ. «مَرْمَرٌ» لا يَنْسَى ابْنَهُ الْعَزِيزَ الْوَحِيدَ. «ياسَمِينُ» لا تَنْسَى ابْنَها الْعَزِيزَ الْمَفْقُودَ. «مَرْمَرٌ» سافَرَ إِلَى عاصِمَةِ بِلادِ الصِّينِ. «مَرْمَرٌ» تَعَرَّفَ بِأَحَدِ التُّجَّارِ الْمُسافِرِينَ. «مَرْمَرٌ» وَصاحِبُهُ وَصَلا إِلَى الْعاصِمَةِ. «مَرْمَرٌ» وَصاحِبُهُ اشْتَرَكا فِي تِجارَةٍ واحِدَةٍ. «مَرْمَرٌ» وَصاحِبُهُ اسْتَأْجَرا مَحَلًّا عَظِيمًا. رَبِحَتْ تِجارَتُهُما، الْحَظُّ ابْتَسَمَ لَهُما. «مَرْمَرٌ» كَتَبَ لِزَوْجَتِهِ، يَسْأَلُ عَنْ «صَفاءٍ». «ياسَمِينُ» كَتَبَتْ لِزَوْجِها: لَمْ يَعُدْ «صَفاءٌ»! التِّجارَةُ نَجَحَتْ، الْمَحَلُّ اتَّسَعَ. الْمَكَاسِبُ كَثُرَتْ. «مَرْمَرٌ» وَشَرِيكُهُ فَرْحانانِ بِالنَّجاحِ. اِنْقَطَعَتْ جَواباتُ «ياسَمِينَ» عَنْ «مَرْمَرٍ». «مَرْمَرٌ» حَصَلَ لَهُ قَلَقٌ عَلَى زَوْجَتِهِ وابْنِهِ. «مَرْمَرٌ» لا يَشْغَلُهُ الْمَالُ عَنْ عائِلَتِهِ وَوَطَنِهِ. «مَرْمَرٌ» لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّبْرَ عَلَى الْبُعْدِ. باعَ نَصِيبَهُ فِي الْمَحَلِّ لِشَرِيكِهِ التَّاجِرِ. اسْتَعَدَّ لِلسَّفَرِ، لِيَعُودَ إِلَى أَهْلِهِ. «مَرْمَرٌ» شالَ أَمْتِعَتَهُ، وَسافَرَ إِلَى بَلَدِهِ. واصَلَ السَّيْرَ أَيَّامًا وَلَيالِيَ وَأَسَابِيعَ. قَطَعَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الطَّرِيقِ الطَّوِيلِ. اشْتَدَّ الْحَرُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَسِيرُ ساعَةَ الظُّهْرِ. قَعَدَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، يَسْتَظِلُّ بِها مِنَ الْحَرِّ. غَفَلَتْ عَيْنُهُ، حَلُمَ بِابْنِهِ وَزَوْجَتِهِ. صَحَا مِنْ نَوْمِهِ، قالَ: «الصَّبْرُ طَيِّبٌ». بَصَّ بِعَيْنِهِ، لَقِيَ حِزامًا أَزْرَقَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ. «مَرْمَرٌ» أَخَذَ الْحِزَامَ الْأَزْرَقَ، وَقَلَّبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. يا تُرَى ماذا فِيهِ؟ أَيُّ شَيْءٍ يَحْوِيهِ؟ الْحِزامُ لَهُ جُيُوبٌ كَثِيرَةٌ، مَلْآنَةٌ. أَلْفُ دِينارٍ سَقَطَتْ مِنْ جُيُوبِ الْحِزامِ. «مَرْمَرٌ» لَمْ يَفْرَحْ بِالدَّنانِيرِ الْأَلْفِ. «مَرْمَرٌ» قالَ فِي نَفْسِهِ: «كَيْفَ أَفْرَحُ بِمالٍ لَمْ أَكْسِبْهُ بِجُهْدِي؟ أَيَصِحُّ أَنْ أَكُونَ فَرْحانًا، وَصاحِبُ الْحِزامِ زَعْلانٌ؟» «مَرْمَرٌ» انْتَظَرَ حُضُورَ صاحِبِ الحِزامِ الْأَزْرَقِ. صاحِبُ الْحِزامِ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وُجُودٌ. «مَرْمَرٌ» مَشَى. وَصَلَ إِلَى أَحَدِ الْفَنادِقِ. «مَرْمَرٌ» يَتَمَنَّى أَن يَرُدَّ الْحِزامَ لِصاحِبِهِ. «مَرْمَرٌ» يَتَعَرَّفُ بِتاجِرٍ اسْمُهُ «بَدْرٌ» فِي الْفُنْدُقِ. «مَرْمَرٌ» يَأْتَنِسُ بِحَدِيثِ التَّاجِرِ «بَدْرٍ». «بَدْرٌ» يَدْعُو «مَرْمَرًا» لِلسَّفَرِ مَعَهُ لِزِيارَةِ مَنْزِلِهِ. «مَرْمَرٌ» يُسافِرُ مَعَ «بَدْرٍ»، وَيَباتُ عِنْدَهُ. «بَدْرٌ» يُسامِرُ صاحِبَهُ، يَقُولُ لَهُ: «خَفَّفْتَ عَنِّي أَلَمِي، لِضَياعِ حِزامِي!» «مَرْمَرٌ» يَقُولُ: «كَيْفَ ضَاعَ حِزَامُكَ يا أَخِي؟» «بَدْرٌ» يَقُولُ: «جَلَسْتُ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَخَلَعْتُ الْحِزامَ نِمْتُ قَلِيلاً، وَصَحِيتُ لَمَّا سَمِعْتُ أَصْواتًا مُزْعِجَةً. أَسْرَعْتُ بِالْهَرَبِ، نَجَوْتُ بِنَفْسِي، والْعِوَضُ عَلَى اللَّهِ.» «مَرْمَرٌ» أَخْرَجَ الْحِزامَ الْأَزْرَقَ مِنْ أَمْتِعَتِهِ. «مَرْمَرٌ» قالَ لِصاحِبِهِ: «هَلْ هذا حِزامُكَ؟» «بَدْرٌ» يَشْكُرُ «مَرْمَرًا» عَلَى أَمَانَتِهِ. «بَدْرٌ» يُقَدِّمُ لَهُ مِائَةَ دِينارٍ، مُكافَأَةً لَهُ. «مَرْمَرٌ» لا يَأْخُذُ أَجْرًا عَلَى أَمانَتِهِ. «بَدْرٌ» يَقُولُ: «لَيْتَ لَكَ وَلَدًا أُزَوِّجُهُ بِنْتِي!» «مَرْمَرٌ» يَحْكِى لَهُ قِصَّةَ وَلَدِهِ التَّائِهِ. «بَدْرٌ» يُنادِي: «يا «صَفَاءُ»، تَعالَ سَلِّمْ عَلَى الضَّيْفِ. «مَرْمَرٌ» يَدْهَشُ حِينَ يَرَى «صَفاءً». إِنَّهُ يُشابِهُ وَلَدَهُ، فِي اسْمِهِ، فِي مَلامِحِهِ. «بَدْرٌ» يَقُولُ لِصاحِبِهِ «مَرْمَرٍ»: «مُنْذُ سَنَواتٍ جاءَنِي رَجُلٌ لا أَعْرِفُهُ. طَلَبَ مِنِّي أُسَلِّفُهُ مِائَةَ دِينارٍ. تَرَكَ لِى «صَفاءً» وَدِيعَةً، حَتَّى يَرُدَّ السَّلَفَ. «صَفاءٌ» حَكَى لِى أَنَّ هذا الرَّجُلَ خَطِفَهُ. «صَفاءٌ» أَخْبَرَنِي بِاسْمِهِ، واسْمِ أَبِيهِ. قابَلْتُكَ فِي الْفُنْدُقِ، عَرَفْتُ اسْمَكَ. «صَفاءٌ» يُشْبِهُكَ. لَمْ أَشُكَّ فِي أَنَّ «صَفاءً» هُوَ ابْنُكَ.» «مَرْمَرٌ» مُتَعَجِّبٌ؛ فِي حُلْمٍ هُوَ، أَوْ فِي عِلْمٍ؟! لا يَكادُ يُصَدِّقُ عَيْنَيْهِ، أَوْ يُصَدِّقُ أُذُنَيْهِ. «مَرْمَرٌ» يَسْأَلُ نَفْسَهُ: أَنائِمٌ أَنَا، أَمْ يَقْظانُ؟ «مَرْمَرٌ» يَقُولُ لِصاحِبِهِ: «فِي كَتِفِ ابْنِي عَلامَةٌ». «بَدْرٌ» يَقُولُ: «ما هِيَ الْعَلامَةُ الَّتِي تُمَيِّزُهُ؟» «مَرْمَرٌ» يَقُولُ: «عَلَى كَتِفِهِ شَامَةٌ، هِيَ الْعَلامَةُ.» «صَفاءٌ» يَكْشِفُ عَنْ كَتِفِهِ، تَظْهَرُ الشَّامَةُ! «مَرْمَرٌ» يَحْضُنُ ابْنَهُ «صَفاءً». «بَدْرٌ» فَرْحانٌ، لِفَرَحِ «مَرْمَرٍ» وَابْنِهِ «صَفاءٍ». «بَدْرٌ» يَقُولُ: «أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، كَما أَحْسَنْتَ إِلَيَّ!» «مَرْمَرٌ» يَقُولُ: «نَحْنُ أَخَوانِ عَزِيزانِ، مُنْذُ الْآنَ.» «بَدْرٌ» يَقُولُ: «وابْنُكَ صَفاءٌ أَخٌ لِبِنْتِي رَجاءَ». «مَرْمَرٌ» يَقُولُ: «بِنْتُكَ أَحْسَنُ عَرُوسٍ لِابْنِي.» «بَدْرٌ» يَقُولُ: «اِبْنُكَ خَيْرُ زَوْجٍ لِبِنْتِي.» الزَّواجُ يَتِمُّ، والْكُلُّ فَرْحانٌ. «مَرْمَرٌ» يَعْزِمُ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ. «صَفَاءٌ» وَ«رَجاءٌ» سَعِيدَانِ بِالزَّواجِ. «مَرْمَرٌ» يَسْتَعِدُّ لِلسَّفَرِ، وَمَعَهُ «صَفاءٌ». «بَدْرٌ» يُواعِدُ «صَفاءً» أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ. «مَرْمَرٌ» يَسْتَأْجِرُ مَرْكَبًا فِي الْبَحْرِ. «مَرْمَرٌ» وَ«صَفاءٌ» يُفَكِّرانِ فِي مُعِدَّاتِ الْفَرَحِ. «مَرْمَرٌ» يَقُولُ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَسْرُورٌ: «أَنا رَدَدْتُ الْأَمانَةَ لِصاحِبِها، رَدَّ اللَّهُ لِي وَلَدِي! اللَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.» «مَرْمَرٌ» وَ«صَفاءٌ» يُواصِلانِ السَّيْرَ إِلَى بَلَدِهِما. «مَرْمَرٌ» وَ«صَفاءٌ» يَصِلانِ إِلَى بَيْتِهِما. «يَاسَمِينُ» فَرْحانَةٌ بِلِقاءِ وَلَدِها وَزَوْجِها. «يَاسَمِينُ» كادَتْ تَيْأَسُ مِنْ لِقائِهِما. «يَاسَمِينُ» تَحْمَدُ اللهَ عَلَى نَجَاتِهِما وَسَلامَتِهِما. «مَرْمَرٌ» يُخْبِرُ زَوْجَتَهُ بِما مَرَّ بِهِ فِي رِحْلَتِهِ. «صَفاءٌ» يُحَدِّثُ أُمَّهُ بِقِصَّتِهِ. اَلْعائِلَةُ تَنْتَظِرُ وُصُولَ الْعَرُوسِ: «رَجاءَ». «رَجاءُ»: العَرُوسُ تَصِلُ مَعَ أَبِيها: «بَدْرٍ». «صَفاءٌ» فَرْحانٌ بِوُصُولِ عَرُوسِهِ: «رَجاءَ». «مَرْمَرٌ» وَ«يَاسَمِينُ» يُرَحِّبانِ بِحُضُورِ الْعَرُوسِ. زِفافُ الْعَرُوسَيْنِ يَتِمُّ فِي سُرُورٍ وَهَناءٍ. الْعائِلَةُ أَقامَتِ الْأَفْراحَ واللَّيالِي الْمِلاحَ. صَفَتِ الْأَوْقاتُ، واجْتَمَعَتِ السَّعاداتُ. الْتَقَتِ الْعائِلَةُ بَعْدَ طُولِ الشَّتاتِ. الْخاتِمَةُ سَعِيدَةٌ، والنِّهايَةُ حَمِيدَةٌ، والْحَمْدُ لِلَّهِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/40792927/
الْعُلْبَةُ الْمَسْحُوْرَةُ
كامل كيلاني
قصة تتحدث عن سر العلبة (المسحورة) التي حولت الفتى الخواف إلى فتى شجاع.
https://www.hindawi.org/books/40792927/1/
الْعُلْبَةُ الْمَسْحُوْرَة
فِي أَحَدِ الْبُلْدانِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى شَطِّ النِّيلِ، كانَ رُفْقَةٌ مِنَ الشَّبابِ يَتَلاقَوْنَ فِي أَوْقاتِ الْفَراغِ، فَيَتَحَدَّثُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَتَبادَلُونَ شَتَّى الْمَعْلُوماتِ، أَوْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الْقصَصِ الْمُسَلِّياتِ. كانَ مِنْ بَيْنِ الْفِتْيَةِ الْأَنْدادِ، فَتًى اسْمُهُ: «صادِقٌ». عَرَفَ الْفِتْيَةُ الْأَصْدِقاءُ مِنْ أَخْلاقِ أَخِيهِمْ بِأَنَّهُ خَوَّافٌ. كانَ «صادِقٌ» يَفْزَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَراهُ، أَوْ يَخْطُرُ بِبالِهِ. اَلْعَجِيبُ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ كانَ يَخْشَى الْأَذَى، وَيَتَوَقَّعُ الشَّرَّ، فِي كُلِّ حَرَكَةٍ يَتَحَرَّكُها، وَفِي كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها: صَباحَ مَساءَ! اشْتَهَرَ فِي أَرْجَاءِ الْحَيِّ ما عَرَفَهُ الْأَصْدِقَاءُ مِنْ أَخْلاقِهِ. تَسامَعَ النَّاسُ بِما كانَ يُحْكَى عَنْهُ مِنْ نَوادِرِ جُبْنِهِ، كانُوا يَتَناقَلُونَ هذِهِ النَّوادِرَ الَّتِي تُحْكَى عَنْهُ فِي دَهْشَةٍ وَعَجَبٍ. أَطْلَقُوا عَلَيْهِ — آخِرَ الْأَمْرِ — لَقَبَ: «الْفَتَى الْجَبانُ»، فَأَصْبَحُوا لا يَعْرِفُونَهُ إِلَّا بِهذا الَّلقَبِ، وَلا يُنادُونَهُ إِلَّا بِهِ. لَمْ يَجْرُؤِ الْفَتَى «صادِقٌ» عَلَى أَنْ يُظْهِرَ الْغَضَبَ، حِيْنَ يَسْمَعُ النَّاسَ يُلَقِّبُونَهُ بِهذا الَّلقَبِ الْبَغِيضِ، فَيُنادُونَهُ بِهِ. مَرَّتِ الْأَيَّامُ. وَأَصْبَحَ «صادِقٌ» مُوَظَّفًا كُفْئًا فِي أَحَدِ الْمَصارِفِ. لَمْ يَلْبَثْ «صادِقٌ» فِي الْمَصْرِفِ أَنْ عُرِفَتْ عَنْهُ صِفَةُ الْجُبْنِ. وَكانَ مِنْ بَيْنِ مَنْ يَعْمَلُوْنَ مَعَهُ فِي الْمَصْرِفِ مَنْ يَطِيبُ لَهُمْ أَنْ يَسْتَغِلُّوا تِلْكَ الصِّفَةَ الَّتِيْ عُرِفَ بِها «صادِقٌ»، فَيَنْتَهِزُوا الْفُرْصةَ لِمُشاكَسَتِهِ وَمُعاكَسَتِهِ كُلَّما اسْتَطاعُوا إِلَى ذلِكَ سَبِيلًا. كانَ هؤُلاءِ المُشاغِبُونَ يَجْعَلُونَ هذِهِ الْمُعامَلَةَ نَوْعًا مِنَ التَّسْلِيَةِ. كانَ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى الْعَبَثِ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ مُداعَبَةٌ. حِينًا؛ يَتَرَصَّدُونَ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ، فَيَضَعُونَ فِيهِ دَبابِيسَ تَشُكُّهُ. وَحِينًا يَأْتُونَ بِفَأْرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِالْقُطْنِ يَضَعُونَهَا فَوْقَ كُرْسِيِّهِ، لِيَتَوَهَّمَ أَنَّهَا فَأْرَةٌ حَيَّةٌ، فَيَهْرُبَ مِنْها مُنْزَعِجًا أَشَدَّ الانْزِعاجِ. كانَ «صادِقٌ» يَتَحَمَّلُ السُّخْرِيَةَ مِنْ زُمَلائِهِ صابِرًا، لا يَثُورُ. كانَ يَخْشَى أَنْ تَزِيدَ شَكْواهُ مِنْ مُعاكَسَتِهمْ لَهُ، الانْتِقَامَ مِنْهُ. اخْتارَ أَنْ يُقابِلَ الْأَذَى الَّذِي يَنالُهُ بِالصَّمْتِ، لَعَلَّ زُمَلاءَهُ يَنْتَهُونَ. حَسِبَ النَّاسُ أَنَّ «صادِقًا» أَلِفَ الْجُبْنَ، فَأَصْبَحَ لَهُ طَبْعًا. كانَ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ. كَيْفَ يُتاحُ لَهُ وَهُوَ الْجَبانُ، أَنْ يَكُونَ غَدًا مِنَ الشُّجْعانِ؟! أَيْقَنُوا أَنَّهُ سَيَقْضِي حَياتَهُ كُلَّها ضَعِيفًا خائِرَ الْعَزْمِ. ذاتَ يَوْمٍ خَرَجَ «صادِق» مِنَ الْمَصْرِفِ بَعْدَ انْتِهاءِ عَمَلِهِ فِيهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ ما لا يُطاقُ. فِي هذا الْيَوْمِ اشْتَدَّتْ مُناوَأَةُ زُمَلَائِهِ لَهُ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِهْزاؤُهُمْ بِما يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْجُبْنِ فِي مُخْتَلِفِ تَصَرُّفاتِهِ. لَمْ يَشَأْ «صادِقٌ» أَنْ يَعُودَ إِلَىَ مَنْزِلِهِ — كَما هِيَ عادَتُهُ — لِشِدَّةِ ما بِهِ مِنَ الضِّيقِ، واخْتارَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى شاطِئِ النَّهْرِ. تَخَيَّرَ مَوْضِعًا مِنْ شاطِئِ النَّهْرِ، غَيْرَ قَرِيبٍ مِنْ أَنْظَارِ النَّاسِ، وَجَلَسَ فِيهِ عَلَى انْفِرادٍ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ تَنْفَرِجَ عَنْهُ كُرْبَتُهُ. جَعَلَ يُطِيلُ الْفِكْرَ فِي حالِهِ، وَفِيما يَلْقاهُ مِنْ زُمَلائِهِ، فِي الْمَصْرِفِ، وَمِنَ النَّاسِ فِي الْحَيِّ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ. لَبِثَ «صادِقٌ» كَذلِكَ بَعْضَ وَقْتٍ، ثُمَّ مَضَى يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ طُبِعْتُ — مُنْذُ الْصِّغَرِ — عَلَى هذِهِ الصِّفَةِ لَكُنْتُ آنَسُ بِصُحْبَةِ الزُّمَلاءِ، ومُخالَطَةِ أَهْلِ الْحَيِّ مِنْ حَوْلِي، كَما أَنَّهُمْ كانُوا أَيْضًا يَهَشُّونَ لِلِقَائِي، وَيَأْنَسُونَ بِصُحْبَتِي.» طالَ جُلُوسُ «صادِقٍ» عَلَى هذِهِ الْحالِ، وَهُوَ غارِقٌ فِي تَفْكِيرِهِ. لَمْ يَكُنْ يَدْرِي حَقًّا: ماذا هُوَ صانِعٌ فِي عِلاجِ أَمْرِهِ؟ اِغْتَمَضَتْ عَيْنُ «صادِقٍ» فِي مَجْلِسِهِ بَعْضَ الْوَقْتِ، أَحَسَّ بِأَنَّ يَدًا تَلْمُسُ كَتِفَهُ لَمْسًا يَنُمُّ عَنْ لُطْفٍ وَرِفْقٍ. اِنْتَبَهَ «صادِقٌ» مِنْ إِغْفاءَتِهِ، وَدارَتْ أَنْظارُهُ؛ يَمْنَةً وَيَسْرَةً. رَأَى أَمامَ عَيْنَيْهِ رَجُلًا عالِيَ السِّنِّ، مُتَوَسِّطَ الْقامَةِ، كَبِيرَ الرَّأْسِ، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، مَهِيبَ الْهَيْئَةِ، فَضْفاضَ الثَّوْبِ. كانَ الشَّيْخُ يَبْتَسِمُ لِـ«صادِقٍ»، كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ. قَدَّمَ إِلَيْهِ تَحِيَّةً طَيِّبَةً، وَذلِكَ فِي رِقَّةٍ وَلُطْفٍ وَإِيناسٍ. قالَ الشَّيْخُ الطَّيِّبُ لِلْفَتَى «صادِقٍ»، وَهُوَ يَشُدُّ عَلَى يَدِهِ: «ما لِي أَراكَ غارِقًا فِي التَّفْكِيرِ، مُسْتَسْلِمًا لِلْهَمِّ والْحُزْنِ؟ صارِحْنِي بِخَفِيَّةِ أَمْرِكَ، حَدِّثْنِي: ماذا تَشْكُو يا وَلَدِي؟» اطْمَأَنَّ الْفَتَى «صادِقٌ» إِلَى مُحَدِّثِهِ الشَّيْخ، وَقالَ لَهُ: «ما أَشَدَّ ضِيقِي بِما أَلْقَى مِنْ خاصَّةِ الزُّمَلاءِ، وَمِنْ عَامَّةِ النَّاسِ. لَسْتُ أَدْرِي: كَيْفَ أَصْنَعُ لِكَيْ أَهْرُبَ مِنْهُمْ جَمِيْعًا؛ فَلا يَكادُونَ يَرَوْنَ لِي وَجْهًا، وَلا أَكادُ أَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا؟!» قالَ لَهُ الشَّيْخُ باسِمًا: «لا يَبْلُغَنَّ بِكَ الْيَأْسُ هذا الْمَبْلَغَ. حَدِّثْنِي بِحَدِيثِكَ، لَعَلِّي أَسْتَطِيعُ نَفْعَكَ، أَوْ أُفَرِّجُ كُرْبَتَكَ.» وَقَعَ لِقَاءُ الشَّيْخِ لِـ«صادِقٍ» مِنْ نَفْسِهِ الْقَلِقَةِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ. أَحَسَّ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَراحَةِ الْبالِ حِينَ سَمِعَ مِنْهُ كَلامَهُ. شَرَحَ لِلشَّيْخِ مُجْمَلَ حالَتِهِ الَّتِي لَزِمَتْهُ، وَما جَرَّتْ عَلَيْهِ. تَجَلَّتْ عَلَى فَمِ الشَّيْخِ ابْتِسامَةٌ، وَقالَ لِلْفَتَى مُتَوَدِّدًا: «أَهذا مَصْدَرُ أَلَمِكَ وَسِرُّ حُزْنِكَ؟ لا تَحْمِلْ لِلْأَمْرِ هَمًّا. ما أَنْتَ فِيهِ — يا بُنَيَّ — لا يَدْعُو إِلَى الْيَأْسِ، فَلْيَهْنَأْ بالُكَ، وَلْتَعْلَمْ أَنَّكَ — لا شَكَّ — سَتَسْلَمُ مِمَّا تُعَانِيهِ فِي حَياتِكَ. سَأُهْدِي إِلَيْكَ الْآنَ هَدِيَّةً ثَمِينَةً؛ فَلْتَحْرِصْ عَلَيْها كُلَّ الْحِرْصِ، وَلْتُؤْمِنْ بِأَنَّ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ سَتُحَقِّقُ لَكَ كُلَّ ما تَرْجُوهُ.» تَطَلَّعَ «صادِقٌ» إِلَى الشَّيْخِ فِي شَغَفٍ كَبِيرٍ، وَسَأَلَهُ: «أَيَّةُ هَدِيَّةٍ تِلْكَ الَّتِي سَتُقَدِّمُها لِي يا أَبَتاهُ؟» أَجابَهُ الشَّيْخُ: «هَدِيَّتي إِلَيْكَ عُلْبَةٌ، هِيَ أَثْمَنُ كَنْزٍ عِنْدِي. أَنا ادَّخَرْتُها لِأَمْثَالِكَ مِمَّنْ يَشْكُونَ الضَّعْفَ وَخَوَرَ الْعَزِيمَةِ، لِكَيْ تَشْفِي نُفُوسَهُمْ، وَتَكُونَ خَيْرَ مِعْوانٍ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ.» أَظْهَرَ «صادِقٌ» تَرْحِيبَهُ الشَّدِيدَ بِقَبُولِ هذِهِ الْهَدِيَّةِ الْثَّمِينَةِ، وَأَثْنَى كُلَّ الثَّناءِ عَلَى مُرُوءَةِ الشَّيْخِ، وَشُكَرَ لَهُ عَطْفَهُ وَحَنانَهُ. أَخْرَجَ الشَّيْخُ مِنْ جَيْبِهِ الْأَيْمَنِ عُلَبَةً صَغِيرَةً مُقْفَلَةً، وَقَدَّمَها إِلَى الْفَتَى «صادِقٍ»، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ مُتَلَطِّفًا بِهِ: «تِلْكَ هِيَ الْعُلْبَةُ الَّتِي كُنْتُ وَعَدْتُكَ بِها يا وَلَدِي؛ عُلْبَةٌ صَغِيرَةٌ مَسْحُورَةٌ، لا يَعْرِفُ سِرَّها أَحَدٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ. تَقَبَّلْها مِنِّي — يا بُنَيَّ — هَدِيَّةً خَالِصَةً لَك، عَظِيمَةَ النَّفْعِ.» قالَ الْفَتَى «صادِقٌ» لِلشَّيْخِ، وَهُوَ يَأْخُذُ هَدِيَّتَهُ مِنْهُ: «لَمْ تُخْبِرْنِي — يا شَيْخِي — ماذا تَحْوِي هذِهِ الْعُلْبَةُ الْمُغْلَقَةُ؟! وَماذا أَصْنَعُ — حِينَ أَفْتَحُها — بِما فِي جَوْفِها مِنْ أَشْياءَ؟» أَجابَهُ الشَّيْخُ: «لا تَتَعَجَّلْ فِي الْأَمْرِ. اسْتَمِعْ لِما أَقُولُ: عَلَيْكَ — يا وَلَدِي — أَنْ تَحْتَفِظَ بِهذِهِ الْعُلْبَةِ كُلَّ الاِحْتِفاظِ، وَتَحْرِصَ عَلَيْها كُلَّ الْحِرْصِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُطْلِعَ أَحَدًا عَلَيْها أَبَدًا.» وَسَكَتَ الشَّيْخُ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ كَلَامَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَائِلًا: «هُناكَ أَمْرٌ آخَرُ — هُوَ الْأَهَمُّ — أَنْصَحُ لَكَ أَنْ تَلْتَزِمَهُ،: إِنَّكَ إِنْ خالَفْتَ نُصْحِي أَضَعْتَ الْفائِدَةَ الَّتِي أَنْتَ تَتَمَنَّاها. عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ الْعُلْبَةَ عَلَى حَالِها مُغْلَقَةً، لا تَفْتَحُها بِحالٍ.» قالَ الْفَتَى «صادِقٌ»: «وَماذا يَحْدُثُ إِنْ فَتَحْتُ هذِهِ الْعُلْبَةَ؟» قالَ الشَّيْخُ: «إِنَّ سِحْرَها يَبْطُلُ فَوْرًا إِذا فَتَحْتُها.» قالَ «صادِقٌ»: «أَلا يُتاحُ لِي أَنْ أَعْرِفَ ما تَحْوِيهِ إِلَى الْأَبَدِ؟» قالَ الشَّيْخُ: «بَلَى، إِنَّكَ سَوْفَ تَفْتَحُها وَتَعْرِفُ ما تَحْوِيهِ. مَوْعِدُكَ فِي مِثْلِ هذا الْيَوْمِ مِنَ الْعامِ الْقابِلِ، إِنْ شاءَ الله.» هَزَّ الْفَتَى «صادِقٌ» رَأْسَهُ، وَهُوَ حائِرٌ فِي أَمْرِ الشَّيْخِ وَهَدِيَّتِهِ. قالَ الْفَتَى فِي نَفْسِهِ: «ما انْتِفاعِي بِهذِهِ الْعُلْبَةِ الْمَسْحُورَةِ، إِذا كُنْتُ لا أَفْتَحُها، وَلا أَعْرِفُ ماذا فِي داخِلِها مِنْ أَسْرارٍ؟! وَما أَثَرُها فِي عِلاجِ ما أَنا فِيهِ، ما دُمْتُ لا أَسْتَخْدِمُها؟!» أَدْرَكَ الشَّيْخُ ما يَجُولُ بِخَاطِرِ الْفَتَى نَحْوَ الْعُلْبَةِ، فَقالَ لَهُ: «لا تَشْغَلْ بالَكَ، فالأَمْرُ سِرٌّ، سَتَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ فِيما بَعْدُ، وَلكِنَّ الْفائِدَةَ سَتَتَحَقَّقُ — بِمَشِيئَةِ اللهِ — مُنْذُ الْآنَ، دُونَ تَوانٍ.» واجِبُكَ وَضْعُ الْعُلْبَةِ فِي جَيْبِكَ؛ كُلَّما رَحَلْتَ، وَأَيْنَما حَلَلْتَ. لَنْ تَخْشَى شَيْئًا تُقْدِمُ عَلَيْهِ، ما دامَتْ هذِهِ الْعُلْبَةُ مَعَكَ. سَتَذْهَبُ مَتاعِبُكَ وَآلامُكَ الَّتِي كُنْتَ تَشْكُو مِنْها حَتَّى الْآن. سَتَرَى ما يُدْهِشُكَ، وَما يَمْلَؤُ نَفْسَكَ سُرُورًا وَإِعْجابًا. لَنْ تُصابَ بِسُوءٍ أَبَدًا، ما دامَتِ الْعُلْبَةُ الْمَسْحُورَةُ مَعَكَ. لَنْ يَلْحَقَ بِكِ أَذًى، وَإِنِ اقْتَحَمْتَ النَّارَ، أَوْ غُصْتَ فِي الْبِحارِ!» فَرِحَ «صادِقٌ» حِينَ تَناوَلَ هَدِيَّةَ الشَّيْخِ وَسَمِعَ حَدِيثَهُ. بادَرَ إِلَىَ وَضْعِ الْعُلْبَةِ فِي جَيْبِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى اسْتِقْرارِها فِيهِ. لَمْ يُخامِرْهُ أَدْنَى شَكٍّ فِي أَنَّ الشَّيْخَ وَاثِقٌ مِمَّا يَقُولُ، سَيَظْهَرُ — حَتْمًا — أَثَرُ ما تَحْوِيهِ الْعُلْبَةُ مِنْ سِحْرٍ عَلَى الْفَوْرِ. اَلْفَتَى دَبَّ الْأَمَلُ فِي نَفْسِهِ، بَعْدَ أَنْ وَضَعَ الْعُلْبَةَ فِي جَيْبِهِ. ما أَسْرَعَ أَنْ شَعَرَ بِقُوَّةٍ عَجِيبَةٍ تَسْرِي فِي عُرُوقِهِ وَتَمْتَزِجُ بِدَمِهِ! ما لَبِثَ «صادِقٌ» أَنْ أَصْبَحَ شَخْصًا جَدِيدًا آخَرَ. وَجَدَ أَنَّ جِسْمَهُ قَدِ اسْتَقامَ، بَعْدَ أَنْ كانَ مُقَوَّسًا. وَجَدَ أَنَّ رَأْسَهُ قَدِ ارْتَفَعَ، بَعْدَ أَنْ كانَ مُطَأْطِئًا. أَدْرَكَ الشَّيْخُ حِينَ نَظَرَ إِلَى «صادِقٍ»، وَرَأَى حَالَهُ قَدْ تَبَدَّلَ، أَنَّ الْفَتَى قَدْ آمَنَ بِقَوْلِهِ واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ. وَجَّهَ الشَّيْخُ إِلَيْهِ نَظْرَةً فَاحِصَةً، وَقالَ لَهُ وَهُوَ يَبْتَسِمُ: «لَعَلَّكَ شَعَرْتَ بِأَثَرِ السِّحْرِ يَدِبُّ فِي جِسْمِكَ الْآنَ.» هَزَّ «صادِقٌ» رَأْسَهُ مُؤَكَّدًا، وَأَجَابَ الشَّيْخَ قائِلًا: «نَعَمْ، يا أَبَتاهُ. شُكْرًا لَكِ، عَلَى إِحْسَانِكَ بِي.» الشَّيْخُ وَدَّعَ الْفَتَى مَسْرُورًا، فَمضَى فِي طَرِيقِهِ قَوِيَّ الْعَزْمِ نَشِيْطًا. مَرَّتِ الْأَيَّامُ والْأَسابِيعُ، والْفَتَى «صادِقٌ» يَزْدادُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ، اعْتَدَّ بِشَجاعَتِهِ، وَآمَنَ بِقُوَّتِهِ، فَلَمْ يَعُدْ لِلْخَوْفِ سُلْطانٌ عَلَيْهِ. دَهِشَ أَصْحابُ «صادِقٍ» لِما رَأَوْهُ مِنْ تَغَيُّرِهِ وَتَبَدُّلِ حالِهِ. قَدَّرُوا اسْتِطاعَتَهُ أَنْ يَكْتَسِبَ خِصالَ الشَّجاعَةِ وَالْجُرْأَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ. نَسُوا خِصالَ «صادِقٍ» الْقَدِيْمِ، واحْتَرَمُوا خِصالَ «صادِقٍ» الْجَدِيدِ. عامَلَهُ رُفَقاؤُهُ وَرُؤَساؤُهُ فِي الْمَصْرِفِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ، مُعامَلَةً حَسَنَةً تَتَّفِقُ مَعَ تِلْكَ الْخِصالِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا. كانَ «صادِقٌ» شَدِيدَ الشَّوْقِ إِلَى كَشْفِ سِرِّ «الْعُلْبَةِ الْمَسْحُورَةِ». كانَ شَديدَ الرَّغْبَةِ لِفَتْحِها، لِيَعْرِفَ: ماذا تَحْوِي مِنْ أَسْرارٍ؟ كانَ كُلَّما فَكَّرَ فِي فَتْحِ الْعُلْبَةِ تَذَكَّرَ عَهْدَهُ مَعَ الشَّيْخِ الْكَرِيمِ، الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِ كُلَّ الْإِحْسانِ، وَبَدَّلَ حَياتَهُ قُوَّةً واطْمِئْنَانًا. لَمْ يَشَأ الْفَتَى «صادِقٌ» أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْفُضُولِ الذَّمِيمِ، الَّذِي كانَ يُراوِدُهُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ ذلِكَ الْفُضُولُ الَّذِي يَنْطَوِي — فِي حَقِيقَتِهِ — عَلَى نَقْضٍ لِلْعَهْدِ، وَمُخَالَفَةٍ لِلنُّصْحِ. قاوَمَ «صادِقٌ» فُضُولَهُ، واسْتَعْصمَ بِالصَّبْرِ، وَانْتَظَرَ أَنْ يَحِينَ الْمَوْعِدُ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّيخُ لِفَتْحِ تِلْكَ «اَلعُلْبَةِ الْمَسْحُورَةِ». كانَ «صادِقٌ» فِي بَيْتِهِ سَهْرانَ، وَقَدْ مَضَى شَطْرٌ مِنَ اللَّيْلِ. خَطَر بِبالِهِ أَنْ يَعْرِفَ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْآنَ. قامَ يَبْحَثُ عَنْ ساعَتِهِ، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا فِي الْبَيْتِ مِنْ أَثَرٍ. حاوَلَ «صادِقٌ» أَنْ يَصْبِرَ عَلَى غِيابِ ساعَتِهِ، فَلَمْ يُفْلِحْ. قالَ فِي نَفْسِهِ: «إِنَّ ساعَتِي هِيَ الَّتِي تُعَيِّنُ لِي وَقْتِي، مُحْتاجٌ أَنا إِلَيْها فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فِي النَّوْمِ، فَماذا أَنا صانِعٌ؟ أَنا لا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَحْدِيدَ الْوَقْتِ الَّذِي أَنا فِيهِ!» أَعْمَلَ فِكْرَهُ، فَأَدْرَكَ أَنَّهُ نَسِيَ السَّاعَةَ فِي الْمَصْرِفِ. خَطَرَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْمَصْرِفِ، لِيَسْتَرِدَّ ساعَتَهُ. تَرَدَّدَ «صادِقٌ» — أَوَّلَ الْأَمْرِ — وَالَّليْلُ يُقارِبُ مُنْتَصَفَهُ. ما لَبِثَ التَّرَدُّدُ أَنْ زالَ، فَقَرَّرَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى الْمَصْرِفِ. قالَ فِي نَفْسِهِ: «ماذا يُخِيفُني مِنَ الذَّهابِ إِلَى الْمَصْرِفِ لَيْلًا؟» أَسْرَعَ إِلى ثِيابِهِ فارْتَداها، وَحَثَّ خُطاهُ فِي الطَّرِيقِ. لَمْ يَكَدْ يَراهُ بَوَّابُ الْمَصْرِفِ حَتَّى عَرَفَهُ، فَبادَرَهُ بِقَوْلِهِ: «ما الَّذِي جاءَ بِكَ فِي هذِهِ السَّاعَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنَ الَّليْلِ؟» حَدَّثَهُ «صادِقٌ» بِقِصَّتِهِ، فَفَتَحَ الْبَوَّابُ لَهُ الْبابَ لِيَدْخُلَ. مَضَى «صادِقٌ» تَحْتَ الضَّوْءِ الْخَافِتِ إِلَى مَكْتَبِهِ فِي الْمَصْرِفِ. وَجَدَ السَّاعَةَ حَيْثُ نَسِيَها، وَبَيْنَما هُوَ خارِجٌ سَمِعَ هَمْسًا. أَنْصَتَ «صادِقٌ» إِلَى الْهَمْسِ الْمُنْبَعِثِ مِنْ أَقْصَى الْمَصْرِفِ. أَرْهَفَ أُذُنَيْهِ، وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «ما سِرُّ هذا الْهَمْسِ؟!» قَوِيَ ظَنُّهُ فِي أَنَّ عِصَابَةً مِنَ اللُّصُوصِ داخِلَ الْمَصْرِفِ. لا شَكَّ أَنَّهَا تَسَلَّلَتْ مِن خَلْفِ الْمَصْرِفِ، لِسَرِقَةِ خَزائِنِهِ. اشْتَدَّ عَزْمُ «صادِقٍ» عَلَى أَنْ يُواجِهَ هذا الْمَوْقِفَ. تَحَسَّسَ «الْعُلْبَةَ الْمَسْحُورَةَ» فِي جَيْبِهِ، لِتَمْنَحَهُ الْجُرْأَةَ. فَكَّرَ فِيما يَصْنَعُ، فاسْتَبْعَدَ أَنْ يُواجِهَ الُّلصُوصَ وَحْدَهُ. أَيْقَنَ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ سَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتَّهْلُكَةِ دُونَ جَدْوَى. رَأَى أَنْ يُسْرِعَ إِلَىَ الْبَوَّابِ، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ فِي غَيْرِ ضَجَّةٍ. أَسْرَعَ بَوَّابُ الْمَصْرِفِ إِلَى الشُّرْطِيِّ الْحارِسِ، يُبَلِّغُهُ الْأَمْرَ. لَمْ يَتَوانَ الشُّرْطِيُّ لَحْظَةً فِي الاِتِّصالِ بِشُرْطَةِ النَّجْدَةِ. ما هِيَ إِلَّا دَقائِقُ مَعْدُودَةٌ، حَتَّى أَحاطَ رِجالُ الشُّرْطَةِ بِالْمَصْرِفِ. فاجَئُوا الُّلصُوصَ قَبْلَ أَنْ يُفْلِتُوا، وَقَيَّدُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْحَدِيدِ. ساقُوهُمْ إِلَىَ مَرْكَزِ الشُّرْطَةِ، لِيَلْقَوْا جَزاءَ ما ارْتَكَبُوا مِنْ جُرْمٍ. رَجَعَ «صادِقٌ» إِلَىَ بَيْتِهِ، بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ مُهِمَّتِهِ. لَقَدْ كَشَفَ مُحاوَلَةَ سَرِقَةِ الْمَصْرِفِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى سَلامَتِهِ. كانَ مَمْلُوءَ النَّفْسِ سُرُورًا بِما وُفِّقَ إِلَيْهِ فِي عَمَلِهِ. لَقَدْ رَسَمَ الْخُطَّةَ لِضَبْطِ اللِّصَّيْنِ، قَبْلَ تَنْفِيذِ الْجَرِيمَةِ. لَمْ يَتَمَكَّنِ اللِّصَّانِ مِنْ فَتْحِ خِزانَةِ الْبَنْكِ، وَالْهَرَبِ بِمُحْتَواها. قَصَدَ «صادِقٌ» حُجْرَةَ نَوْمِهِ، وَتَمَدَّدَّ عَلَى فِراشِهِ لِيَسْتَرِيحَ. لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نامَ نَوْمًا هادِئًا، تَتَخَلَّلُهُ أَحْلامٌ بَهِيجَةٌ. اسْتَيْقَظَ «صادِقٌ» مِنْ نَوْمِهِ، وَنُورُ الْفَجْرِ طَالِعٌ. بادَرَ إِلَى أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ صَلاةَ الصُّبْحِ حاضِرَةً. قَبْلَها صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى ما وَفَّقَهُ إِلَيْهِ فِي لَيْلَتِهِ. لَمَسَ «صادِقٌ» الْعُلْبَةَ الْمَسْحُوْرَةَ بِيَدِهِ، وَكَأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِلَمْسِهِ لَهَا عَنْ تَقْدِيرِهِ الْكَبِيرِ لِما أَسْدَتْ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيل، بَدَّلَ عُسْرَهُ وَيَأْسَهُ شَجاعَةً وَتَفاؤُلًا، وَجَعَلَ حَياتَهُ هَناءَةً وَمَسَرَّةً! بَعْدَ أَنْ تَناوَلَ «صادِقٌ» فَطُورَهُ فِي لَذَّةٍ وَارْتِياحٍ ارْتَدَى ثِيابَهُ، وَخَرَجَ إِلَى عَمَلِهِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ، نَشِيطَ الْخُطَى. إِنَّهُ يَتَصَوَّرُ ما سَيَلْقَاهُ بِهِ الرُّؤَسَاءُ وَالزُّمَلاءُ مِنْ تَكْرِيمٍ. ما كَاد «صادِقٌ» يَجْلِسُ إِلَى مَكْتَبِهِ، حَتَّى تَوافَدَ عَلَيْهِ زُمَلاؤُهُ، يُعَبِّرُونَ لَهُ عَنْ إِعْجابِهِمْ بِشَجاعَتِهِ النَّادِرَةِ، وَصَنِيعِهِ النَّبِيلِ، وَما قَدَّمَهُ إِلَى الْمَصْرِفِ مِن خِدْمَةٍ لا يَنْساها لَهُ طُولَ الْحَياةِ. أَخَذَ «صادِقٌ» يَشْرَحُ لَهُمُ الْمُصادَفَةَ السَّعِيدَةَ الَّتِي جَعَلَتْهُ يَقْصِدُ إِلَى الْمَصْرِفِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَقالَ لَهُمْ مُبْتَسِمًا: «أُقَرِّرُ لَكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْفَضْلُ لِي فِي كُلِّ ما حَدَثَ، وَإِنَّمَا الْفَضْلُ كُلُّ الْفَضْلِ لِساعَتِي الَّتِي نَسِيتُها عَلَى مَكْتَبِي، لَوْلاها لمَا أُتِيحَ لِي أَنْ أَقِفَ عَلَى مُحاوَلَةِ سَرِقَةِ الْمَصْرِفِ.» تَضاحَكَ الزُّمَلاءُ لِهذِهِ الْمُلاحَظَةِ الظَّرِيفَةِ، وَقالُوا لِـ«صادِقٍ»: «عَلَيْنا أَنْ نَحْصُلَ مِنْكَ عَلَى هذِهِ السَّاعَةِ الْمُبارَكَةِ، لِكَيْ نَضَعَها فِي مُتْحَفِ الْمَصْرِفِ، اعْتِرافًا بِما لَهَا مِنْ جَمِيلٍ.» بَيْنَما الزُّمَلاءُ تَدُورُ أَحادِيثُهُمْ حَوْلَ هذا الْحادِثِ الَّذِي كَشَفَ عَنْ شَجاعَةِ زَمِيلِهِمْ «صادِقٍ»، وَدَلَّ عَلَى حُسْنِ تَصَرُّفِهِ وَمَبْلَغِ اهْتِمامِهِ وَحِفاظِهِ عَلَى الْمَصْرِفِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ، إِذْ تَلَقَّى «صادِقٌ» دَعْوَةً عَاجِلَةً مِنْ مُدِيرِ الْمَصْرِفِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكْتَبِهِ وَجَدَ فِيهِ رُؤَساءَ الْعَمَلِ فِي الْمَصْرِفِ، وَقَدْ جَمَعَهُمُ الْمُدِيرُ لِيَشْهَدُوا ما سَيَقُولُهُ لِلْفَتَى «صادِقٍ». ما إِنْ دَخَلَ «صادِقٌ» الْمَكْتَبَ حَتَّى وَقَفَ لَهُ مُدِيرُ الْمَصْرِفِ، يُصَافِحُهُ وَيُحَيِّيهِ، وَيَقُول لَهُ: «دَعَوْتُكَ أَمامَ الرُّؤَساءِ، لِأَشْكُرَ لَكَ ما أَسْدَيْتَهُ إِلَى الْمَصْرِفِ مِنْ خِدْمَةٍ جَلِيلَةٍ؛ ثُمَّ لِأَسْأَلَكَ أَنْ تَقُصَّ عَلَيْنا ما حَدَثَ لَكَ بِالتَّفْصِيلِ؟ وَماذا اتَّخَذَتْ مِنْ إِجْراءَاتٍ — فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ — حَتَّى سَلِمَ الْمَصْرِفُ مِنَ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ، وَاسْتِلابِ خَزائِنِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ؟» فَأَخَذَ «صادِقٌ» يَصِفُ أَحْداثَ ما وَقَعَ لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ.. وَبَعْدَ انْتِهاءِ الْحَدِيثِ قالَ مُدِيرُ الْمَصْرِفِ لِـ«صادِقٍ»: «تَقْدِيرًا لِما أَبْدَيْتَهُ مِنْ يَقَظَةٍ وَشَجَاعَةٍ أُعْلِنُ تَرْقِيَتَكَ.» وَمَدَّ مُدِيرُ الْمَصْرِفِ يَدَهُ إِلَىَ ظَرْفٍ مُقْفَلٍ عَلَى الْمَكْتَبِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ إِلَى «صادِقٍ» وَهُوَ يَقُولُ لَهُ مُبْتَسِمًا: «تَقَبَّلْ هذِهِ الْهَدِيَّةَ الرَّمْزِيَّةَ، مُكَافَأَةً لَكَ عَلَى ما صَنَعْتَ.» شَكَرَ «صادِقٌ» لِمُدِيْرِ الْمَصْرِفِ صَنِيعَهُ، وَفَرِحَ بِما نالَهُ مِنْ تَرْقِيَةٍ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ يَجْهَلُ ما يَحْوِي الْظَّرْفُ الْمُغْلَقُ. بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ حُجْرَةِ الْمُدِيرِ فَتَحَ الظَّرفَ مِنْ فَوْرِهِ، فَرَأَى فِيهِ أَوْرَاقًا نَقْدِيَّةً، عِدَّتُها عَشْرُ وَرَقاتٍ وَقِيمَتُها مِائَةُ جُنَيْهٍ. وَمَعَها شَهادَةُ تَقْدِيرٍ مِنَ الْمَصْرِفِ، لِما أَبْدَى مِنْ هِمَّةٍ وَشَجاعَةٍ. لَمْ يَنْسَ «صادِقٌ» وَهُوَ فَرْحانُ بِما تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِالتَّرْقِيَةِ، وَالْجائِزَةِ الْمالِيَّةِ، وبِالتَّقْدِيرِ الْكَرِيمِ: أَنَّ الْفَضْلَ — فِي ذلِكَ كُلِّهِ — يَرْجِعُ إِلَى ما تَحَلَّى بِهِ مِنْ شَجاعَةٍ وَجُرْأَةٍ. فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ: «كَيْفَ كَانَتِ الْحَالُ يا تُرَى، لَوِ الْحادِثُ جَرَى، وَأَنا كَما كُنْتُ فِي أَيَّامِي الْماضِيَةِ: أَخافُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَتَهَيَّبُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَطْلَقُوا عَلَيَّ لَقَبَ: الْفَتَى الْجَبان؟» مَكَثَ «صادِقُ» قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ: «ما أَعْظَمَ مَكْرُمَةَ الشَّيْخِ الَّذِي لَقِيتُهُ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ؛ فَبَعَثَ فِي نَفْسِي الطُّمَأْنِينَةَ، وَأَحْيا فِيها الْأَمَلَ، وَأَهْدَى إِلَيَّ تِلْكَ «الْعُلْبَةَ الْمَسْحُورَةَ»، الَّتِي كانَ سِحْرُها نِعْمَةً وَبَرَكَةً، لا يُوَفِّيها ثَناءٌ وَلا شُكْرٌ!» ظَلَّتْ هذِهِ الْخَواطِرُ تَتَرَدَّدُ فِي نَفْسِهِ، فَاشْتَدَّ شَوْقُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ ما تُخْفِيهِ الْعُلْبَةُ مِنْ أَسْرارٍ، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ، الَّذِي يُتاحُ لَهُ فِيهِ أَنْ يَفْتَحَ الْعُلْبَةَ، وَيَعْرِفَ ماذا تَحْتَوِي عَلَيْهِ. لاذَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَضَضٍ أَسابِيعَ، حَتَّىَ حَلَّ الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ. أَخْرَجَ «صادِقُ» الْعُلْبَةَ مِنْ جَيْبِهِ وَفَتَحَهَا وَنَظَرَ فِيها؛ وَيا لِدَهْشَتِةِ حِينَ أَبْصَرَتْ عَيْناهُ ما احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْعُلْبَةُ! أَتَعْرِفُ ماذا رَأَى فِي الْعُلْبَةِ، الَّتِي حَيَّرَتْ فِكْرَهُ طَوالَ عامٍ. رَأَى بِطاقَةً، عَلَى وَجْهِها صُورَةُ نَسْرٍ، رَمْزًا لِلْجُرْأَةِ وَالشَّجاعَةِ. فِي أَسْفَلِ الْصُّورَةِ قَرَأَ بَيْتَ الشِّعْرِ التَّالِي: وَحِينَ قَلَبَ ظَهْرَ الْبِطاقَةِ قَرَأَ ما هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ: «ارْفَعْ رَأْسَكَ يا أَخِي، وَلا تَكُنْ خاضِعًا ذَلِيلًا. اعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّها مِنَ الْعِزَّةِ، لِتَكُونَ مُواطِنًا كَرِيمًا. حِينَ ظَنَنْتَ أَنَّ الْعُلْبَةَ مَسْحُورَةٌ تَحْوِي قُوَّةً خَفِيَّةً تَحْمِيكَ، أَكْسَبَكَ ذلِكَ الظَّنُّ ما شَعَرْتَ بِهِ مِنْ شَجاعَةٍ وَإِقْدامٍ. أَدْرَكْتَ يا بُنِيَّ الْعَزِيز — بِفَضْلِ هذِهِ الْخِصالِ الْكَرِيمَةِ — ما كانَ مِنْكَ بَعِيدَ الْمَنالِ، وَما كُنْتَ تَحْسَبُ تَحْقِيقَهُ مِنَ الْمُحَالِ. بَعْدَ أَيَّامٍ قَلائِلَ فُوجِئَ «صادِقٌ» بِدَعْوَةٍ مِنْ إِدارَةِ الشُّرْطَةِ تَدْعُوهُ إِلَى الْحُضورِ إِلَىَ مَكْتَبِ الْمَباحِثِ لِاسْتِيضَاحِ بَعْضِ الْأُمُورِ. قُبَيْلَ الْمَوْعِدِ الْمُحَدَّدِ لِمُثُولِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَباحِثِ، حَثَّ «صادِقٌ» خُطاهُ إِلَىَ الْمَكْتَبِ، وَهُناكَ اسْتَقْبَلَهُ الضَّابِطُ بِحَفَاوَةٍ بالِغَةٍ، وَلكِنَّ هذِهِ الْحَفاوَةَ لَمْ تَمْنَعْ ضَابِطَ الشُّرْطَةِ مِنْ أَنْ يُمْسِكَ بِالْقَلَمِ، لِيَكْتُبَ مَا يُجِيبُ بِهِ «صادِقٌ» عَنْ أَسْئِلَةٍ دَقِيقَةٍ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَصْرِفِ لَيْلًا، وَبِما أَحَسَّ بِهِ وَقْتَ الْحَادِثِ، وَبِما اتَّخَذَ مِنْ إِجْراءَاتٍ. وَبَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى ضابِطُ الشُّرْطَةِ تَدْوِينَ أَجْوِبَةِ «صادِقٍ» عَنِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي وَجَّهَها إِلَيْهِ، وَقَفَ الضَّابِطُ الْمَسْئُولُ لِيُصافِحَ «صادِقًا»، وَلِيُقَدِّمَ لَهُ الشُّكْرَ عَلَى هِمَّتِهِ وَشَجاعَتِهِ، وَلِيُثْنِي أَيْضًا عَلَى دِقَّتِهِ فيما أَدْلَى بِهِ مِنْ مَعْلُوماتٍ مُحَدَّدَةٍ. وَخَرَجَ «صادِقٌ» مِنْ دارِ الشُّرْطَةِ، وَمِلْءُ نَفْسِهِ تَقْدِيرٌ لِمُهِمَّةِ رِجالِ الشُّرْطَةِ، وَرِسالَتِها فِي اسْتِتْبابِ الْأَمْنِ، وَالضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي الْعابِثِينَ عَلَى حُقُوقِ الْآمِنِينَ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/28183971/
لُؤْلُؤَةُ الصَّبَاحِ
كامل كيلاني
حكاية النهر الفضي الذي يحول الإنسان الأسود إلى أبيض.
https://www.hindawi.org/books/28183971/1/
لُؤْلُؤَةُ الصَّبَاحِ
فِي قَدِيمِ الزَّمانِ، وَسالِفِ الْعَصْرِ وَالْأَوانِ، كانَتْ هُناكَ فَتاةٌ سَمْراءُ، وَجْهُها حَسَنُ الْمَلامِحِ، وَقامَتُها فارِعَةُ الطُّولِ، وَرُوحُها خَفِيفَةٌ مُؤْنِسَةٌ. وَقَدْ سَمَّوْها مُنْذُ وُلِدَتْ: «لُؤلُؤَةَ الصَّباحِ». عاشَتِ الْفَتاةُ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» فِي رِعايَةِ أَخَوَيْنِ لَهَا، أَحَدُهُما اسْمُهُ: «مَرْجانُ»، والْآخَرُ اسْمُهُ: «كَهْرَمانُ». وَكانَ مُقامُ تِلْكَ الْأُسْرَةِ الطَّيِّبةِ في كُوخٍ صَغِيرٍ، قَرِيبٍ مِنْ أَحَدِ الْأَنْهارِ الْكَثِيرَةِ، في قَارَّةِ «أفْرِيقِيَا» الْمَعْرُوفَةِ. وَلَمْ يَكُنْ ذلِكَ النَّهْرُ نَهْرًا مُتَّسِعَ الْجَوانِبِ، بَلْ هُوَ نَهَرٌ ضَيِّقُ الْأَنْحاءِ، مُظْلِمُ الْأَرْجَاءِ. وَكانَتْ تُحِيطُ بِهِ الْغاباتُ الْمُوحِشَةُ مِنْ جَمِيعِ نَواحِيهِ، فَتَكادُ تَحْجُبُهُ عَنِ الْعُيُونِ وَتُخْفِيهِ. كَانَتِ الشَّمْسُ تَسْطَعُ فَوْقَهُ، وَلكِنَّ الْأَشْجارَ الْعالِيَةَ الْمُتَزاحِمَةَ، تَكادُ تَمْنَعُ ضَوْءَ الشَّمْسِ أَنْ يَنَفُذَ إِلَى صَفْحَتِهِ. فِي هذا النَّهْرِ كانَتِ التَّماسِيحُ تَمْرَحُ، وَهِي آمِنَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ بِما يَسُودُهُ مِنْ هُدُوءٍ وَسُكُونٍ؛ فَلَمْ يَكُنْ يَؤْمُّ هذا النَّهْرَ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، فِي بَعْضِ الْأَحْيانِ، يَمُرُّونَ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ، وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ النَّهْرَ يَغْشاهُ الظَّلامُ، وَأَنّ الشَّجَرَ يَنْمُو عَلَى شَاطِئِهِ دُونَ نِظامٍ، كانَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» لا تَكادُ تَشْعُرُ بِأَنَّ الْحَياةَ بِجانِبِ هذا النَّهْرِ حَياةٌ غَيْرُ طَيِّبَةٍ. وَلَمْ تَكُنْ تَضْجَرُ بِالْمَناظِرِ الْمُوحِشَةِ مِنْ حَوالَيْها؛ بَلْ كانَتْ تُحِسُّ السَّعادَةَ كُلَّها وَهِي تُقِيمُ فِي هذِهِ الْبُقْعَةِ الْخالِيَةِ مِنَ الصَّخَبِ وَالضَّوْضاءِ. لَقَدْ وُلِدَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» فِي هذِهِ النَّاحِيَةِ، وَنَشَأَتْ فِي ذلِكَ الْجَوِّ؛ فَتَعَوَّدَتْ نَفْسُها ما وَقَعتْ عَلَيْهِ عَيْنُها مِنَ الْمَنَاظِرِ، وَأَصْبَحَتْ تَأْلَفُ ذلِكَ كُلَّهُ، وَتَجِدُ فِيهِ عِيشَةً راضِيَةً. امْتَلَأَتْ نَفْسُ «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ» بِحُبِّ الْأَرْضِ الَّتِي قَضَتْ فِيها طُفُولَتَها وَصِباها، وَرَأَتْ فِيها جَمالًا، وَأَحَسَّتْ فِيها بِالسَّعادَةِ، وَذلِكَ لِأَنَّ وَطَنَ الْإِنْسانِ عَزِيزٌ عَلَيْهِ، كَيْفَما كانَتِ الْحَياةُ فِيهِ. وَالْإِنْسانُ لا يَرْضَى بِوَطَنِهِ بَدِيلًا، وَإِنْ كانَ الْبَدِيلُ أَفْضَلَ مِنْهُ. حَقًّا كانَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» فَتاةً طَيِّبَةً، نَبِيلَةَ الْمَشاعِرِ، كَرِيمَةَ الْعَواطِفِ. وَمَنْ طُبِعَتْ نَفْسُهُ عَلَى هذِهِ الصِّفاتِ الْحَمِيدَةِ، يَرْتَبِطُ بِوَطَنِهِ، كَما يَرْتَبِطُ بِأُسْرَتِهِ، وَيُحِسُّ بِأَنَّ وَطَنَهُ جُزْءٌ مِنْهُ، أَوْ أَنَّهُ هُوَ جُزْءٌ مِنْ وَطَنِهِ، لا يَنْفَصِلُ عَنْهُ. وَكانَ أَخَواها: «مَرْجانُ» وَ«كَهْرَمانُ» قَدْ مَرَنَ كُلٌّ مِنْهُما عَلَى الصَّيْدِ وَالْقَنْصِ فِي الْبَرارِي وَالْأَدْغَالِ، وَلكِنَّهُما كانا يَغْدُوَانِ فِي الصَّباحِ وَيَرُوحانِ في الْمَساءِ، أَوْ يَخْرُجَانِ في جُنْحِ اللَّيْلِ وَيَعُودانِ قَبْلَ مَشْرِقِ الشَّمْسِ؛ يَفْعَلانِ ذلِكَ طَوْعًا لِما يُرِيدانِ أَنْ يَقْتَنِصاهُ أَوْ يَصْطاداهُ. فَمِنَ الصَّيْدِ ما يُسْتَطاعُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ فِي وَضَحِ النَّهارِ، وَمِنَ الصَّيْدِ ما لا يُمْكِنُ الْحُصُولُ عَلَيْهِ إِلَّا تَحْتَ أَسْتارِ الظَّلامِ. وَفِي إِحْدَى الَّليالِي، جَلَسَ الْأَخَوانِ إِلَى أُخْتِهما «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ» لِيُخْبِراها بِأَنَّهُما قَدِ اعْتَزَما أَنْ يَقُوما مَعًا بِرِحْلَةِ صَيْدٍ، تَسْتَغْرِقُ بِضْعَةَ أَيَّامٍ وَبِضْعَ لَيَالٍ، وَأَنَّهُما سَيُغَادِرانِ الدَّارَ في مَطْلَعِ الْفَجْرِ، لِلْقِيامِ بِتِلْكَ الرِّحْلَةِ الَّتِي دَبَّرا أَمْرَها، مُنْذُ وَقْتٍ قَرِيبٍ. أَحَسَّتْ «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ» بِأَلَمٍ حِينَ سَمِعَتْ هذا الْخَبَرَ، وَطَفَرَتْ مِنْ عَيْنَيْها الدُّمُوعُ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ مَنْعَ نَفْسِها مِنَ الْبُكاءِ. قالَ لَها أَخُوها «مَرْجانُ»: «تَجَلَّدِي أَيَّتُها الْأُخْتُ الْعَزِيزَةُ.» وَقالَ لَها أَخُوها «كَهْرَمانُ»: «لا تَجْزَعِي لِغَيْبَتِنا.» قَالَتْ لَهُما: «كيْفَ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى الْقَمَرَ يَسْطَعُ في السَّمَاءِ مَرَّاتٍ، في لَيالٍ مُتَوالِياتٍ، دُونَ أَنْ أَراكُما مَعِي في الدَّارِ؟!» مالَتْ «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ» عَلَى أَخَوَيْها، تَقُولُ لَهُما، مُسْتَعْطِفَةً: «لِماذا لا تَجْعَلانِي أُشارِكُكُما في رِحْلَتِكُما الَّتِي سَتَقُومانِ بِها؟» قالَ لَها «مَرْجانُ»: «ماذا لَكِ مِنْ عَمَلٍ في هذِهِ الرِّحْلَةِ؟» وَقالَ لَهَا «كَهْرَمانُ»: «هَلْ نَشْتَغِلُ بِحِمايَتِكِ، أَوْ بِأَمْرِنا؟» قالَتْ لَهُما «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ» في لَهْجَةِ الْمُتَوَسِّلَةِ الضَّارِعَةِ: «سَأَنْتَهِزُ فُرْصَةَ هذِهِ الرِّحْلَةِ لِأَسْأَلَ عَنْ نَهْرٍ فِضِّيٍّ حَدَّثَتْنِي في شَأْنِهِ الْعَجُوزُ «أُمُّ جَعْفَر» الَّتِي تُقِيمُ غيْرَ بَعِيْدٍ مِنَّا.» قالَ «كَهْرَمانُ»: «لَعَلَّكِ يا أُخْتاهُ تَقصِدِينَ قِصَّةَ ذلِكَ النَّهْرِ الَّذِي يَغْتَسِلُ فِيهِ الْإِنْسانُ الْأَسْمَرُ، فَإِذا هُوَ نَاصِعُ الْبَياضِ!» قَالَتْ «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ»: «نَعَمْ، لَقَدْ حَدَّثَتْنِي «أُمُّ جَعْفَرٍ» أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كانُوا يَمُرُّونَ بِذلِكَ النَّهْرِ الْحافِلِ بِالْأَسْرارِ، وَهُمْ كَما وَلَدتْهُمْ أُمَّهاتُهُمْ سُمْرُ الْأَجْسامِ. فَإِذا عَبَرُوا إِلَى الشَّاطِئِ الْآخَرِ وَجَدُوا مَاءَهُ قَدْ غَسَلَ أَجْسادَهُمْ، فَإِذا هِي بَيْضاء!» قالَ الْأَخُ «مَرْجانُ»: «إِنَّ الْعَجُوزِ «أُمَّ جَعْفَرٍ» صُنْدُوقٌ مَمْلُوءٌ بِأَسَاطِيرَ وَخُرَافاتٍ، لا يَكادُ يُصَدِّقُها عَاقِلٌ ذَكِيٌّ.» وَقالَ الْأَخُ «كَهْرَمانُ»: «لا تَنْخَدِعِي بِما قالَتْهُ لَكِ الْعَجُوزُ.» ما زالَ الْأَخَوانِ «مَرْجانُ» و«كَهْرَمانُ» بِأُخْتِهِما، حَتَّى أَقْنَعاها بِأَنْ تَبْقَى في الْبُقْعَةِ، وَأَنْ تَعْدِلَ عَنْ رَغْبَتِها الشَّدِيدَةِ فِي مُرَافَقَتِهما خِلالَ رِحْلَةِ الصَّيْدِ، وَلَمْ يَدَّخِرا وُسْعًا في إِفْهامِها أَنَّ قِصَّةَ «النَّهْرِ الْفِضِّي» قِصَّةٌ مِنَ الْأَسَاطِيرِ الَّتِي يَحْلُو لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَخْتَرِعُوها، وَأَنْ يَخْدَعُوا بِها بَعْضَ الْعُقُولِ السَّاذَجةِ، وَإِنْ كانَتْ بَعِيدَةً عَنِ الْحَقِيقَةِ، لا وُجُودَ لَها فِي الْواقِعِ الْمَشْهُودِ. وَقالَ «مَرْجانُ» لِأَخِيهِ «كَهْرَمَانَ»: «هَلْ تَظُنُّ أَنَّ أُخْتَنا «لُؤْلُؤَةَ الصَّباحِ» قَدِ اقْتَنَعتْ حَقًّا بِما قُلْناهُ لَها، وَأَنَّ فِكْرَها قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ خَيالُ ذلِكَ «النَّهْرِ الْفِضِّي» الْمَوْهُومِ؟» قالَ «كَهْرَمانُ» لِأَخِيهِ: «أَرْجُو ذلِكَ، فَإِنَّ «لُؤْلُؤَةَ الصَّباحِ» ذَكِيَّةٌ فَطِنَةٌ، وَإِذا تَأَثَّرَتْ بَعْضَ التَّأَثُّرِ بِما تَسْمَعُ مِنَ القِصَصِ وَالْخُرافاتِ، فَإِنَّها سُرْعانَ ما تَعُودُ إلى الصَّوابِ.» وَنامَ الْأَخَوانِ فَتْرَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ كِلَاهُما يَتَأَهّبَانِ لِرِحْلَةِ الصَّيْدِ. وَكانَ مِنْ عَادَةِ «مَرْجانَ» أَنْ يَصْقُلَ رُمْحَهُ بِدِهانٍ يَجْعَلُ حَدَّهُ مُرْهَفًا، وَأَنْ يُنْشِدَ الْأُرْجُوزَةَ التَّالِيَةَ، يُنَاجِي بِها الرُّمْحَ، وَهُوَ فَرِحٌ مَسْرُورٌ: ما كادَتِ الشَّمْسُ تُحَيِّي الْكَونَ بِنُورِها، حَتَّى بَدَأَ الْأَخَوانِ رِحْلتَهُما الْمَنْشُودَةَ، الَّتِي تَسْتَمِرُّ بِضْعَةَ أَيَّامٍ وَبِضْعَ لَيالٍ. وَدَّعَ الْأَخَوانِ «لُؤْلُؤَةَ الصَّباحِ»، وَأَوْصَياها بِأَنْ تَكُونَ عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّهِما، في السُّلُوكِ الَّذِي تَتَّبِعُهُ في أَثْناءِ غَيْبَتِهِما. وَمَضَى الْيَوْمُ الْأَوَّلُ، وَ«لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» وَحِيدَةٌ فِي الْكُوخِ. وَما لَبِثَتْ أَنْ ضَجِرَتْ بِالْعُزْلَةِ، وَأَصْبَحَتْ كاسِفَةَ الْبالِ. وَفِي صُبْحِ الْيَوْمِ التَّالِي أَخَذَتْ «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ» تُفَكِّرُ فِي حِكايَةِ النَّهْرِ الْفِضِّي، الَّذِي يَجْعَلُ السَّمْراءَ بَيْضاءَ، مَتَى عبَرَتْهُ! لَقَدْ أَكَّدَتْهُ لَها «أُمُّ جَعْفَرٍ»، وَهِي خَبِيرَةٌ بِالْحَياةِ، وَقَدْ عَرَفَتْ في عُمْرِها الطَّوِيلِ ما لا يَعْرِفُهُ غَيْرُها مِنَ الشَّبابِ، فَإِنَّ الشَبابَ لَيْسَ لَهُمْ في الْحَياةِ إِلّا تَجارِبُ مَحْدُودَةٌ. ماذا يَدْعُو «أُمَّ جَعْفَرٍ» إِلَى أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْها، وَتَقُصَّ عَلَيْها قِصَّةً خُرافِيَّةً لا أَصْلَ لَهَا؟ وَكَيْفَ لا تَكُونُ صَادِقَةً في قِصَّتِها، وَهِي تَعْلَمُ أَنَّ كَذِبهَا مَفْضُوحٌ بَعْدَ حِينٍ؟ اسْتَوْلَتْ هذِهِ الْوَساوِسُ عَلَى نَفْسِ «لُؤْلُؤَةِ الْصَّباحِ»؛ فَاسْتَقَرَّ رَأْيُها عَلَى أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْكُوخِ، وَتَذْهَبَ لِلِقاءِ «أُمِّ جَعْفَرٍ». ذَهَبَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» إِلَى حَيْثُ تُقِيمُ «أُمُّ جَعْفَرٍ» الْعَجُوزُ. اسْتَقْبَلَتْها الْعَجُوزُ بِحَفاوَةٍ، وَرَحَّبَتْ بِحُضُوْرِها أَجْمَلَ تَرْحِيْبٍ. قَالَتْ لَها «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ»: «لَقَدْ حَضَرْتُ إِلَيْكِ، لِأَسْتَوْضِحَ مِنْكِ شَأْنَ «النَّهْرِ الْفِضِّي» الَّذِي حَدَّثْتِنِي عَنْهُ، وَشَوَّقْتِنِي إِلَيْه.» قَالَتْ لَها «أُمُّ جَعْفَرٍ»: «إِنَّهُ يا بُنَيَّتِي نَهْرٌ بَعِيدٌ، يَجْرِي وَراء تِلْكَ الْغابَةِ الْكَبِيرَةِ الْفَسِيحَةِ! وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ أُناسٌ كَثِيرُونَ، وَهُمْ سُمْرُ الْأَجْسامِ، مِثْلِي وَمِثْلُكِ، فَلَمَّا اغْتَسَلُوا فِي مَائِهِ أَصْبَحُوا — مِنْ بَعْدُ — بِيضًا، وَزالَ عَنْهُمْ لَوْنُهُمُ الْأَسْمَرُ.» قَالَتْ لَها الْفَتاةُ: «مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ بِهذا النَّهْرِ يا أُمَّاهُ؟ هَلْ رَأَيْتِ النَّاسَ الْبِيضَ الَّذِينَ مَرُّوا بِهِ، واغْتَسَلُوا في مائِهِ؟» قالَتْ لَها «أُمُّ جَعْفَرٍ»: «لا أَكْذِبُ عَلَيْكِ يا بِنْتاهُ. لَمْ أَرَ «النَّهْرَ الْفِضِّي»، وَلَمْ أَلْتَقِ بِمَنْ وَصَلَ إِلَيْه، لَقَدْ سَمِعْتُ بِهذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ «فَارِسِ الْغابَةِ» الْمُقِيمِ في مَكانٍ قَرِيبٍ. وَطالَمَا حاوَلَ إِقْناعِي بِالذَّهابِ مَعَهُ إِلَى النَّهْرِ، فَلَمْ أُوافِقْ، لِأَنِّي لا أُرِيدُ تَغْيِيرَ لَوْنِي.» عَزَمَتْ «لُؤْلُؤَةُ الْصَّباحِ» عَلَى أَنْ تَبْحَثَ عَنْ «فارِسِ الْغابَةِ»، لِكَيْ يُحَقِّقَ حُلْمَها في الْوُصُولِ إِلَى «النَّهْرِ الْفِضِّي» الْعَظِيمِ. خَرَجَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» مِنْ عِنْدِ «أُمِّ جَعْفَرٍ»، قَاصِدَةً الْمَكانَ الَّذِي وَصَفَتْهُ لَها، حَتَّى تَلْقَى فِيهِ «فَارِسَ الْغابَةِ»، الْخَبِيرَ بِمَوْقِعِ «النَّهْرِ الْفِضِّي» الْعَجِيبِ، لِكَيْ يَدُلَّها عَلَيْهِ. بَعْدَ سَيْرٍ طَوِيلٍ، بَيْنَ الْأَشْجارِ الْعالِيَةِ، والْأَعْشابِ الْكَثِيفَةِ، سَمِعَتْ صَوْتًا يَقُولُ: «مَنْ ذلِكَ الَّذِي يَمْشِي في أَرْضِي؟» صاحَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ»: «إِنْ كُنْتَ «فَارِسَ الْغَابَةِ»؛ فَأَنا أُرِيدُ أَنْ أَلْقاكَ، لِأتَحَدَّثَ إِلَيْكَ في شَأْن «النَّهْرِ الْفِضِّي».» بَرَزَ لَهَا «فَارِسُ الْغَابَة»، فَإِذا هُوَ رَجُلٌ فَارِعُ الْقامَةِ، مَتِينُ الْعَضَلاتِ، عَلَيْهِ دَلائِلُ الْقُوَّةِ، وَما كادَ يَراها فَتاةً في مُقْتَبَلِ الشَّبابِ، حَتَّى سَرَّهُ مَرْآها، فاقْتَرَبَ مِنْها وَحَيّاهَا. قَالَ لَهَا: «مَنْ دَلَّكِ عَلَيَّ؟ وَماذا تَبْغِينَ مِنَ النَّهْرِ الْفِضِّي؟» أَخْبَرَتْهُ بِما دارَ مِنْ حَدِيثٍ بَيْنَها وَبَيْنَ الْعَجُوز «أُمِّ جَعْفَرٍ»، وَأَنَّهَا دَلَّتْها عَلَيْهِ، وَأَبْدَتْ لَهُ رَغْبَتَها في أَنْ يَصِلَ بِها إِلَى «النَّهْرِ الْفِضِّي»، لِتَعْبُرَهُ، وَتَغْتَسِلَ فِيهِ، حَتَّى تَعُودَ بَيْضَاءَ. هَزَّ «فَارِسُ الْغابَةِ» رَأْسَهُ لِلْفَتاةِ، وَأَبْدَى لَها أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِتَحْقِيقِ ما رَغِبَتْ فِيهِ، عَنْ سَمَاحَةِ نَفْسٍ، وَطِيبِ خَاطِرٍ. جَلَسَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» تَسْتَرِيحُ في كُوخِ «فَارِسِ الْغابَةِ»، وَقَدِ اخْتارَهُ في أَرْضٍ طَيِّبَةٍ، تَكْسُوها الْأَزْهَارُ النَّضِرَةُ. بَعْدَ قَلِيلٍ أَقْبَلَ عَلَيْها يَقُولُ لَها: «ما اسْمُكِ؟» أَجابَتْهُ عَلَى الْفَوْرِ، في غَيْرِ تَرَدُّدٍ: «اسْمِي لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ.» قالَ لَها: «كَيْفَ تَرَيْنَنِي في نَظَرِكِ، أَيَّتُها الْفَتاةُ الطَّيِّبَةُ؟» قالَتْ لَهُ: «لَقَدْ أَحْسَنْتَ اسْتِقْبالِي، وَرَحَّبْتَ بِطِلْبَتى، وَهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ رَجُلٌ كَرِيمُ الْخُلُقِ، حَسَنُ الْمُعامَلَةِ.» قالَ لَها: «هَلْ تُعارِضِينَ في أَنْ أَكُونَ زَوْجًا لَكِ إِذَنْ؟» قالَتْ لَهُ: «لَقَدْ جِئْتُكَ لِتَصِلَ بِي إِلَى النَّهْرِ الْفِضِّي.» قالَ لَها: «إِنِي أَخْطُبُكِ إِلَى نَفْسِكِ، لِكَيْ أُحَقِّقَ لَكِ كُلَّ ما تَرْغَبِينَ فِيهِ، دُونَ أَنْ أَعْصِيَ لَكِ أَمْرًا.» قالَتْ لَهُ: «الْحَدِيثُ في أَمْرِ الزَّواجِ مَوْقُوفٌ عَلَى مُوافَقَةِ أَخَوَيَّ: «مَرْجانَ» وَ«كَهْرَمَانَ». أَلا تَعْرِفُهُما؟» قالَ لَها: «لَمْ أَسْمَعْ بِاسْمِهِما مِنْ قَبْلُ، وَلَعلِّي رَأَيْتُهُما.» قالَتْ لَهُ: «نُؤَجِّلُ الْكَلامَ في مَوْضُوعِ الزَّواجِ، حَتَّى نَلْقَى أَخَوَيَّ، وَأَرْجُو مِنْكَ أَلَّا تُحَدِّثَنِي في هذا الْمَوْضُوعِ بَعْدَ الْآنَ.» لَمْ يَجِدْ «فَارِسُ الْغَابَةِ» بُدًّا مِنَ الْإِذْعانِ لِقَوْلِ «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ». رَأَى أَلَّا يُفَاتِحَها مِنْ بَعْدُ في مَوْضُوعِ الزَّواجِ، مُكْتَفِيًا مِنْها بِأَنَّها تَعِيشُ في كُوخِهِ، وَتَقُومُ بِخِدْمَتِهِ، وَتُهَيِّئُ لَهُ عِيشَةً رَاضِيَةً. كَانتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» طاهِيَةً ماهِرَةً، فَكانَ «فَارِسُ الْغَابَةِ» يَخْرُجُ — كُلَّ يَوْمٍ — يَصْطادُ ما يَتَقَوَّتُ بِهِ؛ مِنَ النَّهْرِ سَمَكًا، وَمِنَ الْغابَةِ أَرْنَبًا بَرِّيًّا، أَوْ غَزَالًا، أَوْ ظَبيَةً. لَقَدِ اسْتَمْتَعَ «فَارِسُ الْغابَةِ» بِطَعَامٍ لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهِ فِيما مَضَى مِنْ عُمْرِهِ، إِذْ كانَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» تَتَفَنَّنُ في طَهْيِ ما يُحْضِرُهُ لَها مِنَ الصَّيْدِ، لِكَيْ يَكُونَ شَهِيَّ الْمَذاقِ. وَمَضَتْ عَلَى ذلِكَ أَيَّامٌ، وَكُلَّما سَأَلَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ»: «مَتَى نَبْدَأُ رِحْلَتَنا إِلَى «النَّهْرِ الْفِضِّي» يا «فَارِسَ الْغابَةِ»؟» أَجابَها بِقَوْلِهِ: «النَّهْرُ الْفِضِّي لا يَكُونُ فِضِّيًّا يُعْطِي سِحْرَهُ الْعَجِيبَ لِمَنْ يَعْبُرُهُ وَيَغْتَسِلُ فِيهِ، إِلَّا حِينَ يَكْسُوهُ ضَوْءُ الْقَمَرِ لَيلَةَ التَّمامِ، وَسَيَحِينُ مَوْعِدُها، فَلا تَعْجَلِي!» فَلا تَمْلِكُ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» إِلَّا الانْتِظارَ، عَلَى مَضَضٍ، وَهِي تَأْمُلُ أَنْ يَمُنَّ الله عَلَيْها مِنْ فَضْلِهِ بِالْفَرَجِ الْقَرِيبِ. تَعَوَّدَ «فَارِسُ الْغابَةِ» هذِهِ الْحَيَاةَ الْجَدِيدَةَ، الَّتِي يَحْياها فِي صُحْبَةِ الْفَتاةِ الْوَدِيعَةِ «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ». يَخْرُجُ صَبَاحَ كُلِّ يَوْمٍ لِيَصْطادَ الْغِزْلانَ أَوِ الْأَرانِبَ مِنْ مَسارِها في السُّهُولِ وَالْأَوْدِيَةِ، أَوْ يَأْتِي مِنْ صَيْدِ النَّهْرِ بِما يَتَيَسَّرُ لَهُ، لِكَيْ يَنْعَمَ بِهِ طَعامًا شَهِيًّا، أَنْضَجَتْهُ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ». أَمَّا هِي، فَكانَتْ تَقْضِي يَوْمَها بَيْنَ إِنْضَاجِ الطَّعامِ، وَرِعايَةِ الْأَزْهارِ، وَهِي مَشْغُولَةُ الذِّهْنِ، لا تَدْرِي مَصِيرَها. وَكانَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» تَخْتَلِسُ مِنْ وَقْتِها ساعَةً أَوْ بَعْضَ ساعَةٍ، لِكَيْ تَخْرُجَ إِلَى الْعَراءِ، تُجِيلُ بَصَرَها في كُلِّ الْأَرْجاءِ، لَعَلَّها تَجِدُ أَحَدًا يُفَرِّجُ كُرْبَتَها، أَوْ يَحُلُّ عُقْدَتَها. لَقَدْ أَرْهَقَها التَّفْكِيرُ، فَشَحَبَ لَوْنُها، وَهَزَلَ جِسْمُها، وَبَدا عَلَيْها الْإِعْياءُ، فَلَمْ تَعُدْ تَقْوَى عَلَى مُواصَلَةِ الْعَمَلِ وَالنَّشاطِ؛ فَتَرَاخَتْ في الْقِيامِ بِما كانَتْ تَقُومُ بِهِ في الْكُوخِ. وَأَنْكَرَ ذلِكَ مِنْها «فَارِسُ الْغابَةِ»، فَحَمَلَها إِلَى شَجَرَةٍ عالِيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْكُوخِ، وَرَبَطَها بَيْنَ أَغْصانِها، تَعْذِيبًا لَها. وَتَرَكَها قَائِلًا: «سَتَرَيْنَ عَذَابًا أَشَدَّ، إِذا لَمْ تُذْعِنِي لِأَمْرِي!» لَمَّا رَجَعَ «مَرْجانُ» وَأَخُوهُ «كَهْرَمانُ» مِنْ رِحْلَتِهِما، لَمْ يَجِدا أُخْتَهُما «لُؤْلُؤَةَ الصَّباحِ» كَما تَرَكاها في الْكُوخِ، فَاشْتَدَّتْ دَهْشَتُهُما، وَمَلَأ الذُّعْرُ قَلْبَهُما! وَما أَسْرَعَ أَنْ تَذَكَّرا حَدِيثَ «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ» عَنِ «النَّهْرِ الْفِضِّي»، وَما قالَتْهُ لَها «أُمُّ جَعْفَرٍ» في شَأْنِ ذلِكَ النَّهَرِ، فَذَهَبا عَلَى الْفَوْرِ إِلَى كُوخِها؛ فَأَقْسَمَتِ الْعَجُوزُ لِلْأَخَوَيْنِ أَنَّهَا لا تَعْرِفُ مَصِيرَ «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ»، وَكُلُّ ما تَعْلَمُهُ أَنَّها خَرَجَتْ تَبْحَثُ عَنْ «فَارِسِ الْغابَةِ»، لِيُمَكِّنَها مِنَ الْوُصُولِ إِلَى «النَّهْرِ الْفِضِّي». وَما زالَ الْأَخَوانِ، يَطْوِيانِ أَرْضَ الْغابَةِ، ويَجُوسانِ خِلالَ أَشْجارِها، وَيَنْفُذانِ هُنا وَهُنالِكَ إِلَى مَسارِبِها، حَتَّى سَمِع «مَرْجانُ» أَنِينًا عَلَى بُعْدٍ، فَتَبَيَّنَ فِيهِ صَوْتَ أُخْتِهِ «لُؤْلُؤَةِ الصَّباحِ». سارَعَ الْأَخَوانِ يَجْرِيانَ عَلَى هَدْيِ ذلِكَ الصَّوْتِ، حَتَّى رَأَتْهُما «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ»، وَهِي مُعَلَّقَةٌ في أَغْصانِ الشَّجَرةِ الْعالِيَةِ. ما كادَتْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» تَلْقاهُما حَتَّى الْتَقَطَتْ أَنْفاسَها، وَكانَتْ عَلَى وَشْكِ الاِخْتِناقِ، وَلَمْ يَشْغَلا أَنْفُسَهُما بِسُؤالِها عَمَّا جَرَى لَها، بَلْ كانَ شُغْلُهُما إِنْقاذَهَا مِمَّا هِي فِيهِ مِنْ عَذَابٍ. تاَبَعتِ الْأُسْرَةُ سَيْرَها، مُتَّخِذَةً طَرِيقًا غَيْرَ الطَّرِيقِ الْمَأْلُوفِ، لِكَيْ تَنْجُوَ مِنَ الْهُجُومِ وَالْعُدْوانِ، وَتَبْلُغَ أَرْضَها فِي أَمانٍ. وَكانَ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتارَتْهُ الْأُسْرَةُ مُلْتَوِيًا ضَيِّقًا، مَمْلُوءًا بِالصُّخُورِ الضِّخامِ، وَالْأَحْجارِ الْكِبارِ. وَلَمْ تَكُنِ الْأُسْرَةُ تَعْرِفُ: أَيْنَ يَنْتَهِي بِها ذلِكَ الطَّرِيقُ؟ إِلَّا أَنَّها لَمْ تَجِدْ غَيْرَهُ وَسِيلَةً لِلْخَلاصِ. وَهُنالِكَ وَقَفَ «مَرْجانُ» يَتَرَنَّمُ بِنَشِيدِ الصَّخْرِ، حَتَّى يَجِدَ فِيهِ هُو وَأَخُوهُ وَأُخْتُهُ أنْسًا، وَهُمْ يَسِيرُونَ: ••• ••• ••• ••• ••• تَابَعَ الْأَخَوانِ «مَرْجانُ» وَ«كَهْرَمانُ» سَيْرَهُما، وَمَعَهُما أُخْتُهُما «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ»، إِلَى مَوْطِنِهِمُ الْعَزِيزِ، فَجَلَسَ الْأَخَوانِ مَعَها، يَسْتَوْضِحانِها ما حَدَثَ لَها، بَعْدَ غَيْبَتِهما في رِحْلَةِ الصَّيْدِ. فَلَمْ تُخْفِ عَنْهُما شَيْئًا، وكانَتْ صادِقَةً في حِكايَةِ ما جَرَى، مُعْتَرِفَةً بِأَنَّها أَخْطَأَتْ فِيما أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ، نَادِمَةً عَلَى ما فَعَلَتْ أَشَدَّ النَّدَمِ، مُعْتَزِمَةً أَلَّا تَعُودَ إِلَى مِثْلِ هذا الْخَطَأ مَرَّةً أُخْرَى. وَلكِنَّها مَعَ ذلِكَ قالَتْ لِأَخَوَيْها: «لا بُدَّ لَنا مِنَ الْبَحْثِ عَنِ «النَّهْرِ الْفِضِّي» الَّذِي نَغْتَسِلُ فِيهِ، لِنُصْبِحَ في عِدادِ الْبيضِ!» فَبَادَرَ أَخُوها «مَرْجانُ» يَقُولُ لَها: «ماذا يَعِيبُكِ يا أُخْتاهُ، إِذا لَمْ تَكُونِي بَيْضاءَ؟ لَيْسَ في بَياضِ اللَّوْنِ شَرَفٌ لِلْإِنْسانِ. إِنَّما الشَّرَفُ الرَّفِيعُ بَياضُ الْقَلْبِ، وَصَفَاءُ النَّفْسِ، وَجَمالُ الْخُلُقِ!» وَقالَ لهَا «كَهْرَمانُ»: «لا تَشْغَلِي بالَكِ بِالْخُرافاتِ، ولا تُلْقِي سَمْعَكِ لِلْأَوْهامِ. لَقَدْ أَخْطَأْتِ حَقًّا، وَلكِنَّكِ حَفِظْتِ كَرَامَتَكِ، وَكُتِبَتْ لَكِ السَّلامَةُ وَالنَّجاةُ، وَالْحَمْدُ لله.» وَلَمْ تَعُدْ «لُؤْلُؤَةُ الصَّباحِ» — فِيما بَعْدَ ذلِكَ — تَبْحَثُ عَنِ النَّهْرِ الْخُرَافِيِّ الْمَوْهُومِ، الَّذِي يُحِيلُ سَوادَ الْأَجْسامِ إِلَى بَياضٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/0/
مقدمة
كنا نفرح «بصندوق الدنيا» ونحن أطفال … نكون في لعبنا وصخبنا فيلمح أحدنا «الصندوق» مقبلًا من بعيد فيُلقي ما بيده من «كرة» أو نحوها ويُطْلقها صيحة مجلجلة ويذهب يعدو متوثبًا ونحن في أثره، ونتعلق بثياب الرجل أو مرقعته على الأصح، فما هي بثياب إلا على المجاز، فهذا ممسك بكمه، وذاك بحزامه وآخر يده على الصندوق، وهو سائر وظهره منحنٍ تحت حمله، ولحيته الكثة الغبراء مثنية على صدره، ونحن نتلاغط حوله وتتوثب، حتى يصير بنا إلى الظل، فيضع «الدكة» الخشبية على الأرض فنكون فوقها نتزاحم ونتدافع ونتصايح ونتشاتم قبل أن تستقر على أرجلها، والرجل ساكن الطائر لا يعبأ بنا ولا يولينا نظرة ولا يحفل مَن بقي منا على «دكته» ومَن زُحزح عنها فوقع على الأرض فقام يلعن ويسب أو يبكي ويتوجع، أو يمضي إلى الحائط فيُلصِق به كتفه ويُعمِل يدَه في عينه. ويخلع الرجل الحوامل عن كتفه ويقيمها أمامه ويرفع «الصندوق» ويحطه عليها، فنزحف نحن «بالدكة» إليه ونُدني وجوهنا من العيون الزجاجية الكبيرة، وننظر وننتظر. فإن صاحبنا لا يعجل، ويطول بنا النظر إلى لا شيء. والانتظار على غير جدوى، فنرتد برءوسنا عن عيون الصندوق، ونرفع إليه وجوهنا الصغيرة، فيبتسم ويبسط كفًّا كالرغيف ويقول «هاتوا أولًا» فتندفع الأيدي إلى الجيوب تبحث عن الملاليم وأنصافها فتفوز بها أو تخطئها، فتبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ وتلمع عيون وتنطفئ عيون، وتفتر شفاه وتمط أخرى أو تتدلى، ويُقبِل «المُعدِم» على «الموسر» يستسلفه مليمًا، ويحدث في عالم الصغار ما يحدث في عالم الكبار، من جود وبخل، ومن مسارعة إلى النجدة أو اغتنامها فرصة للانتقام، ومن مساومة ومشارطة ومطل، ومن تعبير بجحود يد سلفت، ومحاسبة على دين قديم، ويرجع المحرومون كاسفين آسفين، أو ناقمين ثائرين، أو راضين غير عابئين، ويقعد السعداء ويُقبِلون على «الصندوق» وقد نسوا إخوانهم، فكأنهم ما خُلقوا ولا كانوا منذ دقائق قليلة أندادًا يتلاعبون ويفرح بعضهم ببعض ويَجِد في قربه الروح والغبطة والأنس، ويَطُل الرجل من عين في جانب «الصندوق» ويدير «اليد» فتبدو لعيوننا المشرئبة صور «السفيرة عزيزة» ربة الحسن والجمال، و«عنترة بن شداد» الذي كان: و«الزير سالم» و«يوسف الحسن». ويكفُّ اللسانُ عن الوصف والتحدث، واليد عن الإدارة والعرض، فقد انتهى «الدور» واستوفينا حقَّنا، فإما «دور» آخر بملاليم جديدة، وإلا فالقناعة كنز لا يفنى. وقد شببت عن الطوق جدًّا، وخلفت ورائي طفولتي التي لا تعود. ولكني ما زلت أمُتُّ إلى طفولتي بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها. كنت أجلس إلى الصندوق وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني نفرٌ من أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر الذي شَبرَ فيافي الزمان، وما له سوى آماله وهي لوافح، ونجم — سوى ذكرى نورها — خافت. لهذا سميتُه «صندوق الدنيا». ولا أزال أجمع له وأحشد، وما فتئ السؤال الأبدي عندي مذ حملت الصندوق على ظهري «ماذا أصور؟» هذه هي المسألة كما يقول «هملت» في روايته الخالدة، والفرق بيني وبين هملت أنه معنيٌّ بالحياة والموت، وبأن يكون أو لا يكون، وبأن يُبقي على نفسه أو يُبخِعها، أما أنا فلا يعنيني شيء من هذا، ولست أراني أحفل بالحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، أو لعل الأصح والأشبه بالواقع أن أقول: إني لا أرى وقتي يتسع للتفكير في هذا. ذلك أني صرت كالذي زعموا أنه كانت له زوجة تُرهِقه بالتكاليف وتُضنِيه بالأعمال التي تعهد إليه فيها وتأمره بأدائها، قالوا: فأشفق عليه صاحبه ورثى له، فأشار عليه أن يطلِّقها لينجو بنفسه من هذا العناء، فطأطأ الرجل رأسه ثم رفعه وقال: «ولكن متى أطلِّقها؟ لا أرى وقتي يتسع لهذا.» كذلك أنا — أنا زوج الحياة الذي لا يستريح من تكاليفها — أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب، ألتهم لقمة وأخط سطرًا أو بعض سطر، وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع، وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته، فأبتسم وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلًا جاءه فنقده تسعة وتسعين جنيهًا فأبى إلا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحُلم ورأى كفَّه فارغة عاد فأطبق جفونه وبسط راحته وقال: «رضينا فهات ما معك.» وأشتاق أن ألاعب أولادي فيصدني أن الوقت ضيق لا ينفسح للعب والعبث، وأن عليَّ أن أكتب، وأرى الحياة تزخر تحت عيني فأشتهي أن أضرب في زحمتها وأسوم سرحها، ولكن المطبعة كجهنم لا تشبع ولا تمل قولة «هات» وأكون في المجلس الحالي بحسان الوجوه رقاق القلوب وبكل ما كان يتحسر «مهيار» على مثلها ويقول: فأُشرِد عنهن وأذهل عن سِحر جفونهن، وأروح أفكر في كلام أكتبه صباح غد، وأشرب فلا أسهو، وأضحك لا أراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرد وأخرج إلى الطرقات أمتِّع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فإذا بي أقول لنفسي: إنَّ كيت وكيت مما تأخذه العين يصلح أن يكون موضوع مقال، فأقنط وأكر راجعًا إلى مكتبي لأكتب … وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أملؤه، كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلًا بفضاء الله يذرعه. وشرُّ ما في الأمر أن يجيء إليَّ صديق فيقول: أقترح عليك أن تكتب في «كيت وكيت» وتحاول أن تفهم أن كيتًا وكيتًا هذين لا يحرِّكان في نفسك شيئًا، ولا يهزان منها وترًا فلا يفهم؛ لأنه — على الأرجح — يظن أن الكتابة لا تكلف المرء جهدًا، وأن القلم هو الذي يجري وحده بما يقطر من مراعفه، وأن العقل والنفس لا دخل لهما فيما يخطه. وإذا ظللت أكتب وأكتب هكذا فماذا يكون؟ لا أقول: إني سأُفلِس، فإن الحياة لا تنفك أبدًا جديدة في رأي العين والعقل، وهي لا تزال تسفر كل يوم عما يحرك النفس، ولكني خليق أن أُجن … نعم، وماذا عسى أن يكون آخر هذا النَّصَب؟ ودعِ الجنون، فلو كان إنسان يُجن من كثرة ما كتب لكان عنواني قد تغيَّر منذ أعوام جديدة، ولكن تعالَ نجرِ حسابًا صغيرًا نُسقِط منه كل ما ليس بالأدبي. أنا أكتب في الأسبوع مقالين، فجملة ذلك في العام تبلغ المائة، وكل مائة مقال تملأ خمسة كتب كهذا، فسيكون لي إذن بعد عشرة أعوام — إذا ظللتُ هكذا — ثلاثون كتابًا غير ما أخرجتُ قبل ذلك، أي إن كتبي أنا وحدي تملأ مكتبة صغيرة يجد فيها القراء ما يشتهون ولا يعدَمون منها متعة أو سلوى، وصاحبها لم يستفد إلا العناء. والبلاء والداء العياء أن تكتب مرة مقالة فكاهية، والطامة الكبرى أن تكون المقالة جيدة، وأن تكون الفكاهة فيها بارعة. لا أمل لك بعد هذا أبدًا … لأن الناس يذهبون ينتظرون منك بعد ذلك أن تطرفهم بالفكاهات في كل مقال آخر. فإذا أخطئوا عندك ما يطلبون من الفكاهة فالويل لك، وأنت عندهم قد أصفيت، أو ضعيف لا تحسن أن تكتب، أو غير موفَّق فيما تحاول، حتى ولو كنت تكتب جادًّا ولا تحاول أن تمزح أو تتفكَّه. والناس معذورون. فإن وطأة الحياة ثقيلة، وما دمتَ قد عوَّدتهم أن تسليهم وتُضحِكهم أو أطمعتهم وأنشأت في نفوسهم الأمل في هذا فماذا تريد أن تتوقع؟ ولكن الناس — أيضًا — خلقاء أن يذكروا أن الحياة قد تكون ثقيلة على الكاتب، وأنه لعل في نفسه جرحًا وفي صدره قيحًا، وأنه عسى أن يكون ممن يودون لو يَضحكون ويُضحِكون غيرهم، ويتمنون لو استطاعوا أن يجعلوا الدنيا جنة رُفاقة البشر، ولكنَّ همومًا تجثم على الصدور تقلِّص الوجه وتطفئ لمعة العين وتحبس البِشر الذي يريد أن ينطلق، وترد الضحكة التي كانت تهم أن تقرقع. لقد صدقتُ فيما كتبتُ به إلى صديق على صورة لي: إلخ إلخ إلخ. وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، كذلك أرجو أن يُقسَم لصندوقي هذا أن يكون — في عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل. وليبنِ غيري القصور، فقد أضناني قطع الصخور، وتفتيت الوعور …
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/1/
شذوذ الأدباء
الناس متفقون على أن الأديب على العموم، والشاعر على الخصوص، صنو المجنون وندُّه وقريعه، وقد لا يقولون ذلك بألسنتهم ولكنهم يقولونه بسلوكهم نحوه، فهم يفترضون فيه الشذوذ عن المألوف ويتوقعونه ولا يستغربونه ويحملون كل ما يصدر عنه على هذا المحمل ويردونه إلى هذا الأصل عندهم، وليس في هذا إكبار منهم له، فإنه بسبيل من سلوكهم نحو صنوف الملتاثين الذين يطلقون عليهم وصف «المجاذيب» كلا الفريقين مقبول عندهم على التسامح والعطف والمرثية، ولو أن الناس رأوا رجلًا يلبس ثيابه مقلوبة، أو يمشي على رأسه وقيل لهم إنه شاعر لاقتنعوا ولبطل العجب، كأن المشي على الرأس شيء يوائم الشاعرية أو هو مما تستلزمه حين يزخر عبابها … عرَّفني مرة أحد الإخوان باثنين من الأعيان كانا معه في مجلس، فكان مما وصفني لهما به أني شاعر، فأبرقت أساريرهما، وغمر البشرُ وجهيهما واستغنيا عن «تشرَّفنا» واعتاضا منها «ما شاء الله» و«سبحان الفتاح» وأقبل عليَّ أحدهما يربت لي ظهري ويمسحه لي بكف كمضرب الكرة ويقول: «أسمِعنا شيئًا» كأنما كنتُ مغنيًا على الربابة، ولو أني كنته لاستحييت أن أجيبهما إلى ما طلبَا على قارعة الطريق، ولشد ما خفت — وهما يلحَّان عليَّ — أن يمد أحدهما يده إليَّ بقرش … وقد يتفق لي أن أكون مع جماعة من الإخوان فأفضي بالملاحظة أو الفكرة، أحسبني وُفقت فيها وكشفت عن أستاذية وبراعة ودقة فلا أكاد أفرغ منها حتى أسمع من أحدهم أن هذا «خيال شاعر»، وليته مع ذلك يعني شيئًا سوى الفوضى والهذيان، وقد أسكت وأشغل نفسي عنهم بشيء أفكر فيه فأنتبه على التغامز. والبلاء والداء العياء أن المرء يتحرَّى أن يجعل سلوكه مطابقًا — على أدق وجه — للعرف والعادة في كل صغيرة وكبيرة، فلا يرى أن هذا يزيده إلا شذوذًا في رأيهم. كان هذا الشذوذ المفروض فيه يبيح لهم أن يشذوا هم معه. كنتُ ليلة مستغرِقًا في النوم — ولعلِّي كنت أغطُّ أيضًا. وإذا بالباب يُقرَع كأن الواقف به قد استقر عزمه على تحطيمه، ففزعت وقمت إلى النافذة أسأل عن هذا الطارق فقال: فلان. فحلَّ العجب والحيرة محل الفزع، ولم يكن فلان هذا ممن أتوقع زيارتهم في النهار فضلًا عن الليل، وفي الصيف فضلًا عن الشتاء ببرده القارس ومطره المنهمر، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فلولا دهشة المفاجأة ولجاجة الرغبة في الوقوف على سر هذه الزيارة المزعجة لقذفته من النافذة بكل ما في الغرفة من أحذية ومخدات، بل لفككت السرير وهشمت له رأسه بأعمدته، من النافذة أيضًا. فقد كان فوق ذلك كله من أثقل خلق الله. ونزلتُ إليه والمصباح في يدي، وفتحت الباب ووقفت في مدخله «حجر عثرة» في سبيله وبودِّي لو أستطيع أن أكون «حجر منيَّة»، فجرى بيننا هذا الحديث: فترك الجواب على هذا وقال: لست أستغرب أن تتركني واقفًا بالباب في هذا البرد وإن كنت قد قطعت إليك أربعة كيلو مترات مشيًا على قدمي، فإن لكم — معاشر الشعراء — لأطوارًا وبدوات غير مأمونة. فأطار صوابي تحميله إياي اللوم على ذنبه، ولم أعد أحفل أهو أقوى مني أم أضعف، فقبضتُ على عنقه وصحتُ به: لقد كان ينبغي أن تمشي إلى جهنم. وسأدفنك حيًّا إذا رأيتك هنا ليلًا أو نهارًا. أسمعت؟ ودفعته عني فانطلق يعدو كالقنبلة. وثَم مَن يراني أنسى شيئًا أو أضعه في غير موضعه أو أُهمل أمرًا أو أطيل الصمت أو أفعل حتى ما يفعله الناس … آكل أو أشرب أو أنام، إلا أحالوا عليَّ الأدب وتخيلوا فيما أنا فاعل أو تارك شذوذًا ملحوظًا حتى ضقت ذرعًا بهذه الحال وصار وكدي أن أقنع كل مَن يتيسر لي إقناعه أني لست بالأديب، وأنَّ قرضَ الشعر لم يكن مني إلا لهوًا وتسلية، وعسى أن أكون أفلحت فليس أمضَّ للإنسان من أن يرى الناس يعدونه غير مسئول.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/2/
الصغار والكبار
قلت لابني عصر يوم، وفي نيتي أن أزجره زجرًا قويًّا عن العبث بكل ما تصل إليه يده: «أتحب أن تخرج معي اليوم؟» وسبقته إلى الباب الخلفي المفضي إلى الصحراء، وقلما كنت أستصحبه لتعذر السير عليه في الرمال، فرمى الكرة ومضى يعدو خلفي ليلحق بي. فلما اطمأن بنا السير شرعت أستقصي معه ما يعلم وما يجهل وما ينبغي أن يعلم، وكانت خلاصة دفاعه — بألفاظي أنا لا بألفاظه هو — أنه يكلف العلم بأشياء عديدة يجد عسرًا في فهمها وإدراكها، مضافًا إلى ذلك أنه لا يدري كيف يمكن أن تعنيه هذه المعارف التي يُطلب منه الإلمام بها؟! وأن كثيرًا مما يشتهي أن يعرفه ويلَذُّ له ويمنعه أن يحيط به، لا يجد مَن يدله عليه. هذا فيما يتعلق بالعلوم والمعارف، أما من حيث السلوك والسيرة، فالمسألة أدق والمشكل أشد تعقدًا، ذلك أنه لا يزال يُلقَّن — في المدرسة وفي البيت — أن للخير والشر آثارًا ونتائج تحيره جدًّا حين يتأملها أو يحاول أن يردها إلى أسبابها، مثال ذلك: أنه غافلنا مرة واقتطف من الكرمة عنقودًا اضطره اقتطافه إلى المخاطرة بالتسلق، وأكله، ولم يكتمني أنه كذب حين سُئل في ذلك فقال: إن العنب كان يثب إلى فمه. ومن العجيب — في رأيه هو — أنه كان في ذلك اليوم أصح وأنشط وأنه لم يصبه سوءٌ ما، وأن الله لم يعاقبه لا على الكذب ولا على أكل العنب خلسة، ولا على الخطأ في كظ معدته وإدخال طعام على طعام. ولم أكن أتوقع من ابني هذه المحاضرة التي باغتني بها وعارض لي فيها الواقع بما في الكتب وما على ألسنة المربين، فحرت ولم أدرِ ماذا أقول له. وتحلل العزم على تأنيبه وألفيتني أفكر في الطفولة وطبيعتها، وفيما نمسخ به هذه الطبيعة بما نحاول من إكراهها عليه وصبها فيه، ثم تملكني روح العبث الذي أنكره عليه والذي كنت أهم أن أزجره عنه، فقعدت على الرمل وأقعدته أمامي وقلت له بعبارة أقرب من هذه إلى مستوى إدراكه: «اسمع. إني أفكر الآن في تأليف كتاب على نمط جديد، كتاب مدرسي ولكنه يخالف كل ما في المدارس من الكتب، كتاب لذيذ ممتع جدًّا، ولكني لا أستطيع أن أضعه وحدي، بل لا بد لي من معين، فما قولك في معاونتي؟ هل تقبل أن تشاركني في تأليف هذا الكتاب؟» فنهض إلى ركبتيه وأقبل على وجهي يربت لي خدي بكفيه الصغيرتين ويسألني وهو يضحك: «يا بابا ماذا تقول؟» أقول: «إني أريد — بمعونتك — أن نصلح هذه الدنيا التي نراها — أنا وأنت — مقلوبة.» قال: «وكيف تفعل ذلك؟ وكيف أساعدك أنا؟ وماذا يسعني؟» قلت: «يسعك شيء كثير جدًّا، فليس كونك صغيرًا بمانع أن يكون لك عمل كبير. ولكن لا تربكني بكثرة الأسئلة، وخير لنا وأنجح لقصدنا أن نتقصَّى الموضوع على مهل. ويجب قبل كل شيء أن أكون واثقًا من استعدادك لمعاونتي ومن أنك ستفكر تفكيرًا جديًّا فيما يستقر عليه رأينا.» فتعهَّد لي بذلك. فقلت له: «أليست شكواك أن الكبار من أمثالي …» – «ليسوا من أمثالك يا بابا …» – «حسن، أليست شكواك أن الكبار — غيري — لا يُحسنون تعليم الصغار أمثالك؟» قال: «نعم.» قلت ماضيًا في كلامي: «وأن الكبار يُلزِمون الصغار سلوكًا يبدو للصغار غير معقول ويعاملونهم معاملة يمكن أن نسميها غير عادلة؟» قال: «نعم. وأنا أقول لك لماذا ينبغي دائمًا أن أنام في الساعة الثامنة، لماذا لا يُسمح لي بالسهر أحيانًا مع الكبار إلى أن أحس بالحاجة إلى النوم؟ وإذا لم أنم كما تريد جدتي — حتى في النهار — فإنها تقول لي: إني ولد عنيد.» قلت: «هذا صحيح، وإذا اتفق أنْ دار أمامك حديث وبدا لك أن تقول كلمة كغيرك من الجالسين، زعموا أن هذا منك قلة أدب وسوء سلوك، أليس كذلك؟» فهزَّ رأسه مرات وهو لا يستطيع النطق من الإغراق في الضحك ومضيت أنا في ملاحظاتي التي شاقته وأعجبته وأرضته فقلت: «وإذا رأوك تلعب بالكرة قالوا لك: إنك شقي وإن اللعب بالكرة غير محمود، وإذا سكتَّ ولم تلعب ولم تتكلم، زعموا أنك سيئ الطبع، أو ادعوا أنك مريض وسقوك على كره منك ملء فنجان من زيت الخروع …» فقاطعني متممًا لي ملاحظاتي: «وإذا كانوا يبحثون عن شيء ولا يجدونه ظنوا أني أنا الذي خبأته، ثم إذا وجدوه حيث وضعوه نسوا أنهم هم الذين فعلوا ذلك واتهموني أنا، وأجادلهم وأبيِّن لهم أن لا دخل لي في ذلك كله، فيختمون حوارهم معي بأنهم تعبوا من الكلام معي كأني أنا لم أتعب أيضًا من سماع كلامهم.» فقلت بدوري مقاطعًا: «وإذا كسروا قلة أو كوبًا لم يسألوا عيونهم لماذا لم ترها؟ كأن عيونهم ليست مكلفة أن تبصر شيئًا أبعد من أنوفهم، بل راحوا يتساءلون عمن وضع القلة هنا. كأن واضعها هو المسئول …» قال: «أما إذا كسرتها أنا فالويل لي من شيطان يجب أن يُحبس في غرفته منفردًا.» قلت: «وإذا كلَّفوك أن تأتي بشيء ولم تجده لأنه ليس في المكان الذي بعثوا بك إليه، أو لأن شخصًا نقله، فإنك تكون في رأيهم ولدًا خائبًا وغبيًّا لا يفهم.» قال: «وأنا دائمًا المخطئ وهم أبدًا على صواب حتى صرت واثقًا أني لا يمكن أن أكون مصيبًا في عمل أو قول، وهذا يحيرني جدًّا ويربكني يا بابا.» قلت: «أظن الآن أن موضوع الكتاب صار واضحًا ظاهر الحدود بيِّن المعالم، وسنقلب فيه المسألة ونجعل الصغار هم العقلاء الحكماء الذين لا يخطئون أبدًا، والكبار هم الأغبياء البلداء الذين لا يصيبون والذين يحتاجون إلى الرقابة والإرشاد والتأديب والزجر.» فطار الغلام من الفرح، ووثب على رجليه وانهال عليَّ تقبيلًا وألحَّ عليَّ بالسؤال: «أصحيح ما تقول يا بابا؟» قلت: «نعم. وسنسميه «المختار في تهذيب الكبار»، ونجعل الصغار هم الذين يبقون في البيت لتدبير شئونه، والكبار هم الذين يذهبون إلى المدرسة ونُلبِسهم ما يلبس التلاميذ والتلميذات الآن من البذلات القصيرة ونقص لجدتك شعرها ونخرجها في قبعة من قبعات البنات الصغيرة ونضع لها على صدرها «مريلة» ونبعث بها إلى المدرسة، وإذا لم تحفظ دروسها عاقبناها بالوقوف ووجهها إلى الحائط، وإذا أكثرت من اللعب حرمناها الحلوى، وإذا لم تنم في الساعة الثامنة عددناها سيئة الخلق عنيدة ولم نخرج بها للرياضة يوم الجمعة.» قال: «ويجب أن نحرِّم عليها اللعب إلا مع لداتها من الجَدَّات نظائرها، وإذا وجدناها تلاعب واحدة من الشوابِّ عاقبناها بالحبس في غرفتها، وإذا جلست ساكتة أو لم تتناول طعامها بإقبال أنمناها في سريرها وجرعناها ملء كوب من زيت الخروع، وإذا كرهت طعمه أو تقززت من مذاقه قلنا لها: إنه يفيدها وإننا نحن نعرف ما يصلح لها وما لا يصلح، وإذا جلست معنا واشتركت في الحديث انتهرناها بنظرة، فإذا لم تكفَّ أفهمناها أن الكبار لا يصح أن يقاطعوا الصغار …» قلت: «وإذا سألتنا — أعني إذا سألت الصغار — عن شيء نجهله قلنا لها: إن هذا الأمر لا تستطيعين فَهْمه وإدراكه الآن، والسيدة المهذبة يجب ألا تُكثِر من الأسئلة أو تحشر أصابعها فيما لا تفهم.» قال: «وإذا أكلت من الشيكولاتة أكثر مما يوافقها لا نأخذها إلى السينما وحرمناها مناظر شارلي شابلن وأضرابه.» ثم رفع إليَّ وجهه وقد بدت عليه أمارات التفكير الجدي وسألني: «ولكن هل نسمح لها بالاختلاط بالرجال وملاعبتهم؟» قلت: «بقدر. وعلى أن يكون لنا — أعني للصغار — حق المراقبة والتدخل إذا وجدنا أن الضرورة تقتضي ذلك.» قال: «والدروس التي نتلقاها الآن ألا يتغير منها شيء؟» قلت: «أكثرها يبقى كما هو، ولكن الموضوع من كتب المطالعة والمحفوظات يتغير؛ لأنه في الأصل مجعول للأطفال، وهذا يعود بنا إلى مشروعنا، فإن الذي أفكر فيه وأريد منك أن تعينني عليه، هو كتاب يحتوي طائفة متخيرة من القصص والموضوعات يتعلم منها الكبار آداب السلوك وما لهم وما عليهم في الحياة، والواجبات المفروضة عليهم نحو الصغار أولياء أمورهم، ولذلك ينبغي أن يُلغى من الكتب أمثال «سمير الأطفال» و«القراءة الرشيدة» للأطفال، فإنها جميعًا لا تصلح لمشروعنا.» قال: «ومَن يؤلف هذه القصص؟» قلت: «أنا وأنت، ولسنا نحتاج إلى تعب كبير؛ لأن الأمر لا يتطلب فيما أقدر إلا تحويرًا قليلًا يجعل القصة للكبار بدلًا من الصغار.» قال: «وهل نطبع الكتاب ونبيعه؟» قلت: «ولمَ نتكلف وضعه إذا لم نطبعه ونبيعه؟» قال: «وهل يشتريه الكبار ويقرءونه؟» قلت: «إذا لم يفعلوا فإن في وسعي أن أوعز إلى نفر من أصدقائي بأن يحملوا في الصحف على الكتاب حملة عنيفة، وبأن يصفوه بأنه مخالف للآداب ومنافٍ لكل ما درجت عليه الإنسانية، وهذا وحده كفيل بترويجه.» قال: «وهل كل ما يخالف الآداب يطلبه الناس؟» قلت: «لا أستطيع أن أقول: نعم أو لا، ولكن الذي أريد أن أقوله هو أن حب الاستطلاع يدفع الناس إلى طلب هذا الكتاب الفريد في بابه.» قال: «وكيف تقرأه جدتي وهي أمية؟» قلت: «إن الأمية الفاشية بين الكبار من أمثال جدتك مما يسوِّغ مشروعنا ويجعله ضروريًّا، أليس الواقع الآن في الأغلب والأعم أن الجهلاء هم الذين يتولون تربية المتعلمين أمثالنا أو توجيههم في الحياة واختيار ما يصلح لهم؟ والأمر ينبغي أن يكون على نقيض ذلك.» قال: «ولكن إذا لم نحسن تدبير المنزل أو إذا لم تُجِدِ الصغيرات مثلًا طهي الطعام وتذمر منه الكبار؟» قلت: «لن يعوزنا كلام نسكتهم به كما يفعلون بنا الآن، وما علينا إلا أن نتهمهم بالبطر والتدلل القبيح ونزجرهم عن ذلك.» فضحك وقال: «إنك ماهر جدًّا يا بابا، ولا بد أن يكون الكبار قد ضايقوك جدًّا في صغرك فأنت الآن تريد أن تنتقم منهم.» ثم ألقى إليَّ نظرة خبيثة وهو يسأل: «هل كان أبوك ثقيلًا يا بابا؟» فتماسكت بجهد وسألته بدوري: «ثقيلًا مثل مَن؟» قال: «لا أعني مثل أحد ولكنه سؤال، فهل أخطأت فيه؟» قلت: «كلَّا، ولم يكن أبي ثقيلًا فيما أذكر، وعلى أنه لم تُتح له معي فرصة كبيرة لذلك، فقد مات وأنا صغير.» ••• وهنا رأيت أن الأحزم أن نعود مخافة أن يسترسل في مثل هذه الأسئلة المحرجة، التي جرها عليَّ التبسط معه في هذا الموضوع. والأطفال — كما يعرف ذلك مَن كابدهم — لا يستطيع المرء أن يتكهن بما يجري في رءوسهم أو يعرف ماذا يتوقع منهم، فإن لهم وثبات غير مأمونة. فنهضت وطلبت منه أن يفكر في الموضوع، وبينما كنَّا عائدَين سألني فجأة: «وأنت يا بابا هل نضعك مع الكبار أم مع الصغار؟» فدفعت الباب ولم أُحِر نطقًا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/3/
الحقائق البارزة في حياتي
تمهيد: حدث منذ عامين، أو نحو ذلك … أن حرمت الجريدة التي كنت أتولى رياسة التحرير فيها، حقًّا، ولا داعي هنا لبيان الموضوع فقد مضى أوانه، وليس هذا على كل حال محله، فكتبت على أثر ذلك مقالًا قويًّا — أو لعل الأصح أن أقول: إنه عنيف — نقلتْه صحيفة فرنسية بفصه ونصه، وبعد يوم وجدت على مكتبي بطاقة «دكتور» يراسل صحيفة نمسوية وكلامًا في ظهر البطاقة حسبته في أول الأمر ألمانيًّا، ثم قيل لي إنه فرنسي، ثم تبين أنه إنجليزي، فاقتنعت ولم أواصل البحث مخافة أن يتضح أنه عربي وأوجز فأقول: إني استقبلت الزميل الفاضل في مكتبي في الساعة التي اتفقنا عليها تليفونيًّا. ولم يتجاوز الفرق بين ما فهمته أنا وما فهمه هو أربع ساعات لا أكثر، فكنت أنا جالسًا أمام مكتبي في الساعة الثالثة مساء ووافاني هو في الساعة السابعة مقدمًا بين يديه اعتذاره من حضوره قبل الموعد بنصف ساعة، ودار الحديث بيننا فأفضيتُ إليه بجواب ما أعتقد مخلصًا أنه سألني عنه، وبإيضاح ما أشكل عليه فَهْمه من موضوع الخلاف السياسي ومواقف الأحزاب في ذلك الوقت وما إلى ذلك مما يتصل به من قريب أو بعيد، واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد ولم يخالجني شك في أن الله أرحم من أن يبلوني بحديث آخر. ولكن المقادير جرت — لسوء الحظ أو لحسنه — بغير ذلك، فعاد الدكتور الفاضل يرجو مني شيئًا آخر لا أقل من أن أتفضل عليه بترجمتي أو تاريخ حياتي، وكان الدكتور أظرف وأكبر من أن أرفض له طلبًا، ولكن تاريخ حياتي! … تصوَّر هذا؟ فأحلته أولًا على ترجمة كنت قد كتبتها منذ سنوات تمهيدًا لمختارات من شعري، وقد نُشر ذلك كله في كتاب «شعراء العصر»، ولكنه اعتذر وقال إنه فَهِم من كلامي أن الترجمة مكتوبة باللغة العربية وأن الكتاب مطبوع في سوريا، ووقته أضيق من أن يسمح له بالسفر إلى ذلك القطر وإن كان لا شك عنده في أنه لو تيسَّر له السفر لألفى الترجمة التي أشير إليها وافية بالغرض، ثم تفضل فذكر لي أنه علم من بعض مَن اتصلت أسبابه بأسبابهم من المصريين أني من رجال المدرسة الحديثة في الأدب، وأن هذا هو الباعث له على الإلحاح عليَّ في الرجاء أن أوافيه بترجمتي، فسرني هذا ورأيت فيه فرصة لانتشار اسمي إلى ما وراء مصر واستفاضة ذكري على ألسنة الغربيين. وتوقعت بعد أن أجيبه إلى سؤاله أن يتقدَّم إليَّ واحد أو اثنان أو ثلاثة من ناشري الكتب في أوروبا يطلبون السماح لهم بترجمة كتبي وإذاعتها في العالم الغربي، فلا يعود المازني بعدُ محتاجًا إلى وظيفة ثقيلة مضنية كرياسة التحرير في صحيفة يومية. ففركت يدي مغتبطًا وقلت له: إني طوع أمره ورهن مشيئته، ولكن بي حاجة إلى يوم أو يومين أجمع فيهما الحقائق البارزة وأحضرها إلى ذهني استعدادًا للإجابة، وفي اليوم المعيَّن تلاقينا فدار بيننا الحديث الآتي: (فبدا عليه الاهتمام ورفع سن القلم عن الورقة ومنحني أذنه — واحترامه أيضًا — وقال، وقد رأى سكوتي ريثما يتم أُهبته: «إني مُصغٍ.») (فوقع القلم من بين أصابعه وهوت يده إلى جانبه وخُيل إليَّ لحظة أنه سيسقط عن كرسيه عجزًا عن احتمال كل هذا المجد، وسرني أن أرى فعل كلامي في نفسه، ولكنها لم تكن سوى لحظة ثم نهض فجأة ومد إليَّ يده، فنهضتُ مثله ومددتُ له يدي وقد ظننت أنه سيستأذن، غير أنه خيَّب أملي وقال): (فهززت يده سرورًا بهذه القربى، وقلت): (فلم يعجبني أن يحشر نفسه في أسرتي بعد أن أخرجته منها ونويت ألا أعُده — فيما بيني وبين نفسي — إلا من سلالة معاتيق جدي قابيل، بيد أني كتمت هذا وقلت مقاطعًا له): (فلم أرتَح إلى هذه المقاطعة التي لا شك عندي في أن الحسد هو المُغرِي بها. كنت أريد أن أغمره بسيل من هذه الحقائق التي ترفع الرأس وتطيل القامة، غير أني قدَّرت أن الفرصة لم تضِع، وأنها لا محالة سانحة، فقلت له: تفضل.) (ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها لأكر إلى مجد أجدادي فقلت): (فاغتنمت هذه الفرصة لأطيِّر له صوابه.) (فضحك وقال: مات ودُفن فماذا تريد؟ أظن أن المسألة واضحة جدًّا فماذا يحيرك فيها؟) (فانطلق يقهقه كأنما كان في جوفه رعد مخزون وصبرتُ عليه حتى فرغتْ الذخيرة، ثم قلت له بلهجة غريبة مرعبة: «هل تستطيع إذا قصصت عليك القصة وأفضيت إليك بالسر أن تنبئني عمن يحدثك الآن، أهو المازني أم مَن كان ينبغي أن يكون خادمه وإن كان أخاه في الرضاعة؟») (فارتبك وبدت عليه دلائل الحَيرة والدهشة وعلا وجهه السهوم. فاغتبطتُ وأقسمتُ لأزيدنه ارتباكًا ولأطيرنَّ من رأسه هذا الولع بتراجم الناس، فقلت: «اسمع يا صاحبي، لقد كان لمرضعتي طفل في مثل سني وكان شديد الشبه بي، وكان يلبس من ثيابي فيزيد الأمر بيننا اختلاطًا، وما أكثر مَن كان يتوهم أننا توءمان، وكثيرًا ما كان يقضي هذا الولد لياليه في غرفتي على أنه أنا، بينما أكون أنا نائمًا مع الخادمة، وهكذا نشأنا، فشببت أنا على أنني المازني وشبَّ هو على أنه الخادم، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك، وما يدريني ويدريك أن الأمر لم يختلط على ظئري وهي تغسلنا في الحمام؟ ولا أطيل. كبرنا نحن الاثنين، المازني وخادمه محمد، أو محمد وخادمه المازني، فما أدري الآن مَن أنا على التحقيق؟ كبرنا إذن وسرق الخادم مرة من الجار فحُبس لذلك بضعة شهور لا أذكر عددها، وعسى أن يكون المازني هو الذي سرق وحُبس خادمه، ربما، ولكن هذا لا قيمة له، فكثيرًا ما كنت أنا أُخطِئ ويُضرب خادمي عني، أو بعبارة أخرى ربما كانت أصحَّ وأقرب إلى الحقيقة، كثيرًا ما كان هو يُخطِئ وأُضرَب أنا عنه، هذا إذا ذهبنا نعتبر الخلط الذي لعله أصاب عنوانينا أو اسمينا.») (فأبرقت أسارير وجهه ولمع السرور في عينيه وقال: لا أحسبك تضن عليَّ بحل هذا اللغز بعد أن أوجعت رأسي بعقده؟) فنهض وانحنى وقال: «أشكرك.» ولم أرَ بعد ذلك وجهه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/4/
اللغة العربية بلا معلِّم
وقفت مرة بباب مكتبة أتأمل معروضاتها من وراء الزجاج، فأخذت عيني كتيبًا صغيرًا يعلِّم الأجانب «اللغة العربية بلا معلِّم» فراعتني هذه الجرأة، وتمثَّل لخاطري ما يكابده الأساتذة من العناء في تدريس هذه اللغة، بل ما نعانيه نحن الذين نزعم أنفسنا أدباء وشعراء من البَرْح والجهد ولا أطيل، اشتريت الكتاب بثمن باهظ ثم انتحيت ركنًا في قهوة ورحت أقلِّبه فإذا هو لا أكثر من ألفاظ ومحادثات باللغة الإنجليزية وما يقابلها باللغة العربية، فتحسَّرت على ما بذلت فيه، وساءلت نفسي: ماذا أصنع به؟ كيف أعوِّض خسارتي؟ والله أكرم من أن يضيع على فقير مثلي ماله إذا صح أن تسمِّي القروش مالًا. فألهمني أن أنتزع منه متعة لا أظن مصريًّا غيري حَلُم بها أو طمع فيها. ذلك أني فرضت — جدلًا — أني (مالطيٌّ) واتخذت هذا الكتاب مرشدًا لي وقلت أتقيد بجمله وعباراته في المحادثات التي أضطر إليها في تجوالي في المدينة. ولما كنت «سائحًا» وشوارع المدينة متداخلة تضل الغريب فقد وجب — طبقًا لمشورة الكتاب — أن أركب «عربة» وأن أحتمل هذا الترف الضروري، ففتحت الصفحة الثانية عشرة حيث الحديث مع سائق العربة ودنوتُ من «الموقف» وأشرتُ بعصا اشتريتها خصيصًا لهذه المناسبة السعيدة، وصحت بلسان ملتوٍ: «أربجي»، فألهب السائق جواديه وعدا إليَّ بهما، فلما صار عندي عُدتُ إلى الكتاب أستوحيه الجملة الثانية التي ينبغي أن تتلو النداء، ثم رفعت إليه رأسي وقلت: «روه هات أربه.» فكأني لطمت الرجل على وجهه. فانطلق يمطرني وابلًا من الكلام لم أفهمه كما هو المفروض؛ إذ كنت غريبًا عن هذه الديار، ولكني تبينت من لهجة الرجل وإشاراته أن المعاني جميلة جدًّا وأن جملتي راقته كما لم يرقه شيء في حياته. وعدت إلى الكتاب أستمليه الجملة الثالثة لعلها تَحُل الإشكال فقلت: «يا أربجي أنت فاضي؟» فرماني بنظرة مغيظ محنق لم أدرِ ما مسوِّغها، ثم رفع طرفه وكفَّه إلى السماء، ثم صاح بالناس فالتفَّ حولي منهم اثنان كلمني أحدهما بالفرنسية فهززت له رأسي فخاطبني باليونانية، فظللت أهز له رأسي، فجرَّب الثاني الإيطالية فأشرت له بإصبعي أن لا. وخفت أن يطول الأمر فرددت عليه بالإنجليزية فاستغرب وجعل يرفعني ويخفضني بعينه. وأوجز فأقول إني حسمًا للنزاع ركبت وقلت للسائق، بعد أن تجاوزت عن جملتين من الكتاب: «طيب اذهب بي إلى المهطة.» فانطلقت العربة، وبديهي أني كنت أوثر مكانًا آخر ولكني كنت مقيدًا بالكتاب، فلما انتهينا لم أنزل وصحت به، نقلًا عن مرشدي: «كم تريد أجرة لك؟» وكان ينبغي أن يقول — طبقًا للكتاب — واحد شلن. ولكنه طلب نصف ريال، فدهشت وبحثت في غلاف الكتاب عن تاريخ طبعه فألفيته ١٩٢٦، فقلت لنفسي لعل الأجور ارتفعت في هذا البلد بعد صدور الكتاب، وكان عليَّ أن أناقشه كما يحتِّم الكتاب فقلت: «لا، هذا كثير.» وكان ينبغي — على ما رسم الكتاب — أن يكون ردُّه على ملاحظتي «كما في التعريفة»، غير أنه بدلًا من أن يفعل ذلك مضى يشتمني ويسبني ويلعن لي آبائي وجدودي وهو آمن مطمئن إلى جهلي بلغته البذيئة على الأقل. فلم أرَ مناصًا من أن أعُدَّ لعناته مرادفة للرد الواجب، ونقلت له من الكتاب «ستة كروش أبيض بس.» فحصبني بملء صحراء من اللعنات والشتائم ثم قال: «هات بقى.» فقال: «القشلة؟ يا خبر أسود يا ناس. تعالوا انظروا هذا يريد أن يدعي أني كسرته …» وهكذا وهكذا مما يستطيع القارئ أن يتصوره ولا حاجة بنا إلى وصفه. ولم أدَّعِ أنا شيئًا من هذا، ولا خطر لي أن أفعل، ولكنه الكتاب استوجب مني أن أذهب إلى القشلة بعد أن حملني إلى المحطة، ولا موجب لهذا ولا ذاك، ولكن هكذا شاء فكان ما أراد، فرأيت الأحزم أن أنتقل إلى الجملة التي تلي «القشلة» فقلت: «طيب اعمل فسهة في البلد.» فلم يدرِ أيشتم أم يضحك. وبعد أن تأملني قليلًا قال: «يا بن … من القشلة للفسحة؟» وبينما كان هو يصعد إلى مقعده كنت أنا أترجل. فالتفت إليَّ مذهولًا، فأنقدته القروش العشرة وقلت له: «لا مؤاخذة لقد كنت أمزح.» فحار كيف يعتذر عن شتائمه ولعناته … سأجرِّب فضل الكتاب في نزوة أخرى استخلاصًا لحقي.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/5/
أشَقُّ المحادثات
محادثة الصُّم أشق شيء بعد محادثة النساء. إذا صح أن الرجل يتحدث أو تُتاح له فرصة الكلام وهناك امرأة. والفرق بين الحالتين — أعني بين محادثة الصم ومحادثة النساء — أن المرء في الحالة الثانية لا يزال يفتح فمه، كلما توهم أن الحظ قد أسعفه بفرصة، ولكنه — فيما أعلم — لا يجاوز التأتأة أو الفأفأة أو غير هذه وتلك مما هو منهما بسبيل، ولا يكاد يزيد على «أ أ أ»، ثم لا يرى معدًى عن إطباق فمه، وهكذا فلو أُتيح لك أن تراه وهو يفتح فمه ثم يطبقه مرة بعد أخرى — دون أن تعلم أن هناك امرأة تتحدر كالسيل — لظننته يتثاءب من فرط الملل والوحدة، وشر ما في الأمر أن المرأة لا تنفك تنكِر على الرجل صمته وتستهجنه منه أو تَعُده دليلًا على أن في نفسه شيئًا من ناحيتها. وليس من الميسور أن يقول الرجل منا لأمه أو زوجته أو أخته أو لأية سيدة محترمة: إن علة صمته أنها هي لا تكفُّ عن الثرثرة. كلَّا، هذا لا سبيل إليه فإن عاقبته أوخم، فهي ورطة كما ترى لا مخرج منها. فرص الكلام معدومة أو هي في حكم المعدومة، والمصارحة مستحيلة والصبر على اللوم والتأنيب والاتهام عسير، فماذا يصنع المرء؟ توهمت مرة أني اهتديت إلى تعليل للصمت المفروض عليَّ والمستهجَن مني في وقت معًا. فقلت لمن كانت تلومني: «ألا تعلمين أني مدرس؟» قالت: «وما دخل هذا؟» قلت: «إذا أكثرتِ من العمل بيديك ألا تتعبان؟» قالت: «نعم ذلك …» قلت: «وإذا مشيتِ بضعة أميال ألا تتعب رجلاكِ؟» قالت: «هذا صحيح ولكن …» قلت: «تمهلي، وإذا تعبت يداك أو رجلاك فكيف تريحينهما؟» قالت: «بالكف عن العمل أو المشي.» قلت: «انتهينا. أنا مدرس وليس لي من عمل طول النهار إلا إدارة لساني في حلقي، فمن حق هذا اللسان أن يستريح بعد الجهد الشاق الذي بذله.» فاقتنعت يومئذٍ، وبعد بضعة أيام كنت جالسًا معها، صامتًا كما هو مفهوم بالبداهة فدنت مني وقالت: «اللسان يتعب، أليس كذلك؟» فأدركتُ أن وراء هذا السؤال أمرًا، وقلت: «نعم. شأنه شأن كل عضو آخر.» قالت: «فما لفلانة المعلمة لا تكفُّ عن الكلام في ليل أو نهار؟» والخلاصة: أنني أشك في أن آدم هو الذي سمَّى الأشياء. وما أظن إلا أن حواء هي التي يرجع إليها الفضل في ذلك، فما أحسبُها تركت له فرصة يفتح فيها فمه ولا سيما إذا ذكرنا أن آدم كان الإنسان الوحيد الذي كانت تستطيع أن تكلمه في الجنة، وأنه لم يكن معها سواه فكيف استطاع أن يجد الوقت اللازم للتفكير فيما يناسب الحيوان والنبات من الأسماء؟! بل ما أظن أن آدم قد أكل من الشجرة المحرمة؛ لأن حواء أغرته أو لأن الشيطان وسعه أن يزين ذلك له، بل لأن الأكل من هذه الشجرة له عواقبه، ومنها الموت وانتفاء الخلود، وتلك وسيلة للخلاص يمكن ارتقابُها مع الصبرِ. فما أعظمها من تضحية يجب أن نذكرها لأبينا الشيخ المسكين! ••• أما محادثة الصم فشيء آخر مختلف جدًّا، هي صياح من جانب وبعثرة من الجانب الآخر، وأعني بعثرة المواضيع التي يمكن أن يدور عليها الحديث زمنًا معقولًا؛ إذ لا سبيل إلى حصر الذهنين في موضوع واحد وقتله — أعني قتل الموضوع — ولنضرب مثلًا: تضع يدك إلى جانب فمك وتصيح في أذن صاحبك: «متى اشتريت هذه النظارة؟» فينظر إليك أولًا كأنما يريد أن يقرأ في عينك أو في وجهك كله ما سمع، ثم يقول بصوت لا تكاد تسمعه ولعله يحسب أنه يصيح مثلك: «أي نعم وزارة المعارف.» فتصيح مرة أخرى وتصنع من كلتا يديك بوقًا لأذنه. «النظارة. النظارة. أنا أسأل عن النظارة.» فيقول: «آه. ربما. ربما. فإن الأزمة حقيقة حادة.» ويخطر لك أن تغيِّر الحديث فتصب هذه الصيحة في أذنه أو تطلقها في الهواء، سيان: «هل قرأت مقالتي الأخيرة؟» فيقول: «لعنة الله عليها لقد كادت تخنقني. وقد غشني مَن مدحها لي.» فتبدي أمارات الدهشة وتلعنه بصوت عادي فيقول: «لا تعجب فإنها جهة مشبعة بالرطوبة، والبعوض فيها كالنحل. كلَّا. لقد شبعت من المنيرة وسأنتقل إلى جهة أخرى.» وهكذا. تنتقل من موضوع إلى موضوع بلا فائدة حتى يبح صوتك. والنساء شرٌّ لا بد منه، وكثيرًا ما تنسيك حلاوتُه مرارته ولكن المرأة الصماء … هنا يحسُن السكوت.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/6/
من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
وكنت أعرف من الكتب أن هناك «دُبَّين» واحد منهما أكبر من زميله، ولكني لم أوفق إلى رؤيتهما في هذا التيه السماوي إلا منذ عهد قريب، وكان شكي يومئذٍ في وجودهما عظيمًا، ولكنه شكٌّ لم أكن أدعَه يندُّ عن صدري إلى لساني ولاسيما إذا كان أحد من المدرسين حاضرًا، تلك جرأة كنت قد تعلمتُ ضبطها وكتمانها بعد أن جرَّت عليَّ ما لا أزال — كلما تذكرت — أرى يدي ترتفع إلى خدي. وشَرْحُ ذلك أنَّا كنا نطالع كتابًا نسيتُ اسمه، فمرتْ بنا هذه الجملة المشهورة: «إن المضطرَّ يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه» وأخذ المدرس يضرب الأمثال، فكبر في عيني هذا «المضطر» الذي يبلغ من مخاطرته ألا يركب إلا الصعب «ويتعمد ذلك» ولا يعبأ شيئًا بالأهوال التي يقذف بنفسه عليها، وأعجبتني هذه الشجاعة وملأت نفسي إجلالًا له، فاشتقت أن أراه وعانيت من إلحاح هذا الشوق أشد البَرْح، فلم يكد المدرس يفرغ من الشرح — وكنت في شغل عنه بتصور «المضطر» وتمثل «الصعب» الذي يُركب — حتى وثبتُ عن الدرج كالقذيفة وقلت بلا استئذان: «أفندي! أفندي!» فتغاضى المدرس عن مخالفتي للأصول المرعية وقال لي وعلى فمه ابتسامة الراضي عن نفسه المطمئن إلى بلوغ غايته من الإيضاح والبيان: «نعم يا عبد القادر؟» فجازيته ابتسامًا بابتسام ولم أكن أقل منه رضًا عن نفسي وفرحًا بالانفراد — دون بقية التلاميذ — بهذه الرغبة الملحة، واغتباطًا بشجاعة النهوض بلا استئذان للإعراب عنها فقلت: «أين يعيش المضطر؟» فتجهَّم وجهه وانزوى ما بين عينيه وطالعتني أمارات الغضب حسبتها دلائل حيرة، فأسفت لتقدمي بهذا السؤال وإحراجي إياه به أمام التلاميذ وقلت لنفسي: إن معلمنا هذا معذور إذا جهل مكان «المضطر» واستعصى عليه الجواب، وأنَّى له أن يعرف — وهو رجل عادي — ذلك «المضطر» الذي لا يبالي بالصعب ويأبى إلا أن يركبه؟ وانتبهت من هذه المناجاة، التي يظهر أنها طالت أكثر مما ينبغي، على التلاميذ يدفعونني وعلى المدرس يصيح بي. «أقول لك تعالَ هنا، ألا تسمع؟» فلم أدَع الابتسام وذهبت إليه وأنا أقول لنفسي: «سيعاتبني الآن على تسرعي وعدم انتظاري انتهاء الدرس لأسأله على انفراد، وسيهمس في أذني عتابه فأهمس في أذنه اعتذاري وأنتظر.» «ماذا تقول؟» بصوت عالٍ. ولم يكن هذا ما توقعته فارتبكتُ، وحدثت نفسي أن هذا مأزق ظريف. أرجو أن أنقذ الرجل ويأبى هو إلا أن يغرق، ورفعت له وجهًا يستطيع أن يقرأ فيه إذا لم يكن أعمى، أني آسف وأني مدرك خطئي وكان عليه أن يُخفِض صوته قليلًا، ولكنه لم يحفل رجائي وتوسلي فصرخ مرة أخرى: «ماذا تقول؟ أجب.» فالتفتُّ إلى التلاميذ كالذي يريد أن يقول: أتسمعون هذا المجنون؟ لستُ ملومًا إذن وأنتم شهودي. ولكني لم أكد أرد وجهي إليه حتى خطر لي كوميض البرق أنه لعله لم يسمع سؤالي فهو يجهل مداه ومبلغ ما ينطوي عليه من الخطر على سمعته ومركزه بين التلاميذ. واستولى عليَّ هذا الخاطر فسرَّني أن فرصة الإنقاذ لم تضِع، فشببتُ عن الأرض ورأيت يُمناي تمتد إلى كتفه لتدنوَ بأذنه إلى فمي، وإذا بي على الأرض أقيسُها إلى آخر الفصل دائرًا حول نفسي ومتخذًا رأسي محورًا، وقعدت أبكي وبي من الغيظ والحقد أكثر مما بي من الألم، ولكن المدرس كان قد لحق بي فكتمت الغيظ ورفعت طبقة البكاء فجأة حتى صار إعوالًا، فجعل يصيح بي: «اخرس يا كلب اخرس. أقول لك اخرس.» ويشفع كل كلمة بلطمة أو لكمة فأزداد إعوالًا. ويظهر أن هذا الصخب نبَّه «الناظر» — وكانت غرفته قريبة منا — فدخل علينا ورأى المدرس متلبسًا بجريمة الضرب — وهي محرمة — وكان الناظر رجلًا طيبًا ساذجًا يخرج الكلام من أنفه أخنَّ أغنَّ ممطوطًا لينًا، وكان صديقًا لأبي — أعني قبل موته — وحديث عهد بالبكوية، وكانت لي عليه دالة بفضل تملقي «بكويته» لا بفضل صداقته لأبي، وكان التلاميذ يعرفون لي هذه الدالة فإذا أرادوا شيئًا بعثوا بي إليه. أوفدوني إليه مرة. فقلت: «يا سعادة البك. نريد أن تأذن سعادتك لنا في الذهاب إلى حديقة الحيوانات.» فاعتدل في مقعده وهزَّ رأسه وهو يقول: «حونات. حونات إيه يا ابني. أسد فك السلاسل نهش عيِّل منكم نبقى نقول يا مين؟ يا ابني يا عبد القادر لا.» فاقتنعت واقتنع التلاميذ بأن الذهاب إلى حديقة الحيوانات خطر ليس بعده خطر. ولا أذكر أني دخلتها إلا بعد أن صرت مدرسًا في المدرسة السعيدية الثانوية وعلى مقربة منها، وإلا بعد أن تحققت أن الأسود تُحبس في أقفاص ولا تُربط بالسلاسل — إن صح أنها كانت تُربط — كما كان الحال على عهد ناظرنا طيب القلب … وأعود إلى «المضطر» وقصتي معه فأقول بإيجاز: إن المدرس — على الرغم من اعتدائه عليَّ وعلى القانون ممثلًا في شخصي المحطم المجرَّح — زعم أني هممت بصفعه. يا للكذب! وأصرَّ على وجوب طردي من المدرسة. ولم تُجدِ دموعي ولا ما أقسمت من الأيمان على أني لم أرتكب هذه الجريمة التي لم تخطر لي على بال قط، وأنني ما أردت إلا الاستفسار عن مكان «المضطر» لأراه، وشهد التلاميذ الملاعين أني رفعت يدي إلى كتف المعلم، فأيقنت أني ضائع لا محالة، ويئست فكففت عن البكاء، وقلت: «أتلقى هذا الظلم بما يستحقه من الاشمئزاز والاحتقار.» وجرني الناظر معه إلى غرفته وشرع يسألني في هدوء وعطف فسردتُ عليه القصة على حقيقتها ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها وأكثرت من «سعادة البك»، وأضفت من عندي كذبة صغيرة فزعمت أن المعلم شتم أبي، وأبي — كما يعلم سعادة البك الناظر — ميت. وفعل التملقُ والأكذوبة فعلهما الذي توقعت فنهض سعادة البك وقال لي بصوت خفيض: «اسمع يا ابني أطردك من باب تيجي من باب. فاهم؟» قلت: «نعم يا سعادة البك»، فتركني وخرج وأسرَّ شيئًا إلى فرَّاش بينما كنت أتوثَّب في الغرفة وأطوي يدي ورجلي في الهواء من فرط الفرح، ثم ناداني فخرجت وبعد قليل حضر المدرس أيضًا فمضى بنا جميعًا إلى الباب الكبير — وكان هناك باب آخر — وقال: «يا عم محمد. افتح البوابة. اخرج من مدرستي. امشِ من هنا. مبسوط بقى يا عم الشيخ …؟» هذا للمدرس. ولا يحتاج القارئ أن أقول له إني درت ودخلت المدرسة من الباب الثاني، وإن المدرس وجدني جالسًا على درجي في اليوم التالي، ولكن القارئ قد ينقصه أن يعلم أن المدرس عاد إلى الشكوى فقال له الناظر: «وماذا أعمل إذا كان هؤلاء الأولاد كالعفاريت ربما كان قد هبط إلى فناء المدرسة من فوق سطوح الجيران.» والآن إلى اللصوص بعد هذا الاستطراد الطويل الذي دعتْ إليه المناسبة العارضة، مناسبة الذكرى الأليمة. فأسرعت ورددت رأسي وتواريت خلف الصخرة التي كانوا جالسين إليها من الناحية الأخرى. وجلست أفكر وقد شاع فيَّ الرعب وكادت عيناي تخرجان. غير أني لم ألبث أن سمعتهم يغنون ويتضاحكون فعاد إليَّ بعض ما عَزَب من الطمأنينة، وتشجعت فدنوت من حرف الصخرة وجعلت أبرز من وجهي بقدر وأخفي بقدر، فألفيتهم على بضعة أمتار، نحوَ عشرة، منهم الضخم الهائل الأنحاء والطويل الهزيل والقصير والبدين، وكان أحدهم يغني والباقون يصخبون حوله ويضحكون ويتندرون عليه ويُركِبونه بألذع أنواع المجون. ويظهر أن هذا استفزه وأحنقه فانتفض عن الأرض ومضى يلعنهم ويقذفهم بأقبح النعوت، فهموا به جميعًا ولكن رجلًا ضخمًا من بينهم حسبته فيلًا صغيرًا صدَّهم وأهاب بهم أن «دعوه لي فإنه طعامي الليلة.» فعلقتُ أنا أنفاسي وقد ملأ الرعب والإعجاب والسرور قلبي، الرعب مما سمعتُ ورأيتُ، والإعجاب بقوته وحذقه، والسرور بما أنا موشك أن أراه بين المتنازلين، وحدثتُ نفسي أني سأشهد منظرًا لن أنساه ما حييت، منظرًا ينطوي — من دواعي الإعجاب والإجلال — على أعظم وأهول مما ينطوي عليه ركوب ذلك «المضطر» للصعب من الأمور. ثم نهض الذي كان يغني وكانوا يسخرون منه، وفي يده «نبوته» لا كما ننهض نحن أبناء آدم، بل كما يطير النسر عن الصخرة، وهوى على نبوته قائمًا على الأرض وهو معتمد عليه ببطنه وناشر يديه ورجليه في الفضاء طلبًا للاتزان، ثم وثب بين صيحات الإعجاب وانطلق يضرب في الهواء بنبوته كما صنع زميله، ويقول كلامًا كهذا: «احنُوا ظهوركم لركوبي ولا تنظروا إليَّ بعيونكم فتذهلوا، إني أحُكُّ جِلدَ رأسي بالبرق، وأُنيِّم نفسي بالرعد، وأُروِّح على وجهي بالعواصف، وإذا ظمئتُ مصصتُ السحاب وإذا جعتُ سار القحط في ركابي. واتقوا أن تنظروا إليَّ فتُبهتوا! إني أحجب الشمس بكفي وأقدُّ من القمر قطعة فينتهي الشهر، وأرتجُّ لِتندكَّ الجبال، احنُوا الظهور لأبي الخوارق!» فصارت روحي في فمي. ونهض الأول وذهبا يتوثبان ويضربان الهواء بنبوتيهما ويصرخان كالشيطان ويتسابَّان بأوجع الكلام حتى غلى الدم في رأسي أنا، وأيقنتُ أن الدماء ستكون أمامي بركة. ثم طيَّر الأول عمامة الثاني بنبوته، فقلتُ قد صرنا إلى الجِد الرائع فالتقطها الثاني بنبوته أيضًا، وضرب عمامة الأول فأطارها عن رأسه فوقعت قريبًا مني، فجرى الأول في أثرها وتناولها وقال «لا بأس، دقة بدقة والبادي أظلم، ولكن هذا لن يكون آخر ما بيننا، فخير لك أن تكون على حذر وأن تجنب طريقي فإني لا أصفح ولا أرحم، وسيأتي اليوم الذي تكفِّر فيه عن ذلك بدمك.» فقال الثاني — أبو الخوارق — إنه مستعد لذلك اليوم، وإنه يُنذِر الأولَ من الآن، فإنه لن يستريح ولن يهدأ له بال إلا إذا خاض برجليه في دمه، وأنه يدعه الآن إكرامًا لأولاده الصغار. وهمَّ كلاهما أن يذهب في طريق، وكانا لا يزالان يتقاذفان بالوعيد والشتائم، ولكن رجلًا قميء الجسم — بالقياس إلى هذين الفيلين — قفز وصاح بهما: «قفا لعنة الله عليكما من جبانين، وإلا أطعمتكما هذه العصا.» ولم يكذب فقد جذب كلًّا منهما بذراع قوية أطعمه التراب، ثم أوسعهما ركلًا برجليه حتى أشبعهما تمريغًا وضربًا، ولم تمضِ دقائق حتى انقلبا كلبين ذليلين عند قدميه. فدوَّى الفضاء بضحكات الجالسين وتهكماتهم، وعانيتُ الأمرين من كتمان الضحك. وبدا لي أن قد آن أن أفكر في الرجوع والهروب من هذه الحيرة، ولكن أحد الذليلين — وأحسبه أبا الخوارق — قام ليغسل وجهه ويديه في العين فرآني، فوقف وصاح «هوا مَن هذا؟» ووثب الباقون فكانوا حولي في أسرع من لمح البصر، وقبل أن أفكر في جواب. وتصايحوا بي فقال الأول: ماذا تفعل هنا؟ قل وإلا أغرقناك في العين. وقال الآخر: شدوا رجليه ومزِّقوه! وقال ثالث: لص بطربوش! ها ها! تعالَ نعلمك: هاتوا الفرشاة لندهن له وجهه باللون الأزرق السماوي من فرعه إلى قدمه. فضحكوا جميعًا وقالوا: «فكرة بديعة» غير أن الرجل القميء الذي مرغ الفيلين في التراب صدَّهم جميعًا وقال: إنه ليس إلا طفلًا؟ ارفعوا عنه أيديكم! ويمينًا لأدفننَّ مَن يلمسه. فوضع أحدهم الجردل وترك الفرشاة تهوي إلى الأرض وتتعفر بترابها، وقال المنقذ: تعالَ إلى النور لنرى ماذا جاء بك إلى هنا، اقعد! كم لك هنا؟ قلت: «دقيقة واحدة.» قال: «ما اسمك؟» ولا أدري لماذا لم أقل اسمي، ولا لماذا أجري لساني بما جرى به، ولكن الذي أدريه أني قلت بلهجة الجاد «أبو الخوارق.» فانفجر القوم ضاحكين ما عدا سميي الذي استعرت منه هذه الكناية، ويظهر أن هذا راق منقذي. فقال: «هذا حسن، ولم أكن أنتظره من طفل مثلك.» ولكنك يا صاحبي كذبت عليَّ حين قلت: «إنك هنا منذ دقيقة، فقل الحق ولا تخف فلن يصيبك سوء.» فأخبرته الحقيقة وتعمدت — وقد اطمأنت نفسي لهذا الوعد — أن ما سمعت ورأيت من الفحلين الجبانين اللذين مرَّغمهما منقذي في التراب؛ لأن أحدهما هو الذي توعَّدني بالإغراق وثانيهما هو الذي أراد أن يدهنني. وهكذا انتقمت لنفسي وأدخلت السرور على نفس منقذي، فرافقني إلى أول الطريق المأنوس ثم أطلقني فمضيت أعدو إلى البيت! وكان هذا أول عهدي «برجال الليل».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/7/
أبو الهول وتمثال مختار
رأيت تمثال «مختار» كما لم يره غيري. ولست أعني أني دخلت في جوفه، أو صعدت إليه، وركبت أبا هوله، أو نظرت إليه بأربع عيون، ولكنما أعني أني لم أكد أقف أمامه وأهمُّ بأن أرفع إليه عيني حتى أحسست طفيليًّا إلى جانبي يتأبط ذراعي، كأنما كنت أعرفه قبل أن يُولد، ويقول لي: إن صانعه «مختار محمد مختار» … فصرفت نظري عن التمثال وانصرفت إلى هذا الذي اختار أن يكون صديقي دفعة واحدة وآثرني على غيري من الواقفين بصحبته وراقني الموقف جدًّا، وقلت له وأنا أفحصه بعيني وأبحث في وجهه عبثًا عن مخايل «النشالين»: سبحان الله! أصحيح ما تقول؟! قال: وهل أنا أكذب عليك؟ سَل مَن شئت من الواقفين. قلت وقد زاد اغتباطي بالموقف: أستغفر الله! فما أعرفك كذبت قبل اليوم. وخطر لي أن أستخلص من هذا الموقف كل ما فيه من متعة فقلت: معذرة، ولكن صاحبه عبد الغفار، هل … فقال بلهجة مَن يريد أن يدركني لينقذني: لا لا لا. مختار … مختار محمد مختار. – معذرة مرة أخرى — مختار — وهل هو صاحبه؟ قال: نعم. فقلت: ومن أين اشتراه؟ قال: اشتراه! إنه هو الذي نحته. قلت: وهل كان هنا جبلٌ نحته منه؟ فضحك ملء شدقيه ثم قال: جبل؟ أي جبل؟ ألست من أهل القاهرة؟ قلت: كلَّا إني من الريف. وهذا أول يوم لي في القاهرة. فزال عجبه ولم يسرني أن أراه يضحك مني أنا الذي يريد أن يضحك منه، غير أنه لم يسعني أن أتراجع بعد أن ذهبت معه إلى هذا المدى، ورددت الحديث إلى مختار فسألته: وهل مختار هذا من قدماء المصريين؟ أقول هل — معذرة إذا كنت غلطت في اسمه مرة أخرى — ولكن هل هو — أعني صاحب التمثال — من قدماء المصريين؟ فافترَّ فمُه عن ابتسامة عطف على كتلة الجهل المجسَّد الذي كان يتأبطه واستل ذراعه، فحمدت الله ووقف أمامي يتأملني وقد شكَّ في أمري على ما أظن، وتوقعت أنا أن أنفجر بالضحك المكتوم فيحدث بيننا ما لا تُحمد — أو ما لا أَحمِد أنا على الأقل — عقباه. فأشرتُ إلى اسم التمثال المكتوب بالخط الكوفي على القاعدة وسألته: ما هذا؟ قال: ألا تستطيع أن تقرأ؟ قلت: أقرأ! وهل هذه كتابة؟ قال: نعم، وماذا كنت تظنها؟ إنها اسم التمثال، نهضة مصر. قلت — وتجهمتُ له — اسمع يا صاحبي. لا يليق بك أن تغشني. فراح يُقسِم بالله أن الأمر كما يقول، وينطق الاسم وهو يشير إلى الحروف بإصبعه. فقلت: وهل هذا خط عبد الغفار … لا لا … مختار. أليس كذلك؟ إن خطه قبيح جدًّا. إن أبلد تلميذ في بلدتنا يكتب خيرًا من هذا الخط ألف مرة. وأحسبني حيرته وأدرت له رأسه بهذه الملاحظة فقد تلعثم، وسرَّني جدًّا أن أشهد ارتباكه، وأقسمتُ لأمطرنه وابلًا من هذه المدهشات، فلم أمهله ريثما يفكر في جواب، بل رميته بسؤال آخر عن المصرية الواقفة إلى جانب أبي الهول: وهل تعرف هذه السيدة؟ فرفع رأسه بسرعة وقال بلهفة: نعم. لا. إنها من التمثال. فقلت: شيء جميل والله! وهل هذه أول مرة تقف فيها هذه السيدة هنا؟ فحملق في وجهي ولم يفهم وضاعت النكتة، واحتجتُ إلى سؤال آخر فقلت: وهل ستظل هذه السيدة واقفة هنا؟ ففتح الله عليه بهذا: يا أخي هذه ليست سيدة. إنها حجر. تمثال. ألا تفهم؟ فقلت: فهمت. فهمت ولكن أتظل هكذا؟ ألا تتعب؟ فقال — ودقَّ كفًّا بكفٍّ: كيف تتعب؟ ألم أقل لك إنها حجر؟ قلت: آه صحيح. وأي حيوان هذا الذي جانبها؟ قال: حيوان؟ هذا أبو الهول ينهض. قلت: وهل كان راقدًا قبل الآن؟ فخُيل إليَّ أنه سيدعني ويجري، ولكني كنت واهمًا فقد ثبت وكان أشجع وأجلد مما ظننته، وقال بصوت خفيض، وفي تؤدة: اسمع. ألم أقل لك: إن اسم التمثال نهضة مصر؟ أجبني. قاطعته وأجبته أن نعم. فقال: فهذا أبو الهول ينهض. يعني أن مصر تنهض. أفهمت الآن؟ قلت: بودي أن أكون فهمت حتى لا أتعبك. ولكن أين مصر هنا؟ قال: أبو الهول يا أخي. قلت: ومَن هذه السيدة الواقفة بجانبه؟ قال: مصر. قلت: هل هما مصران؟ قال: سبحان الله العظيم! لا يا أخي. قلت: لا تؤاخذني. ولكنك أفهمتني أن أبا الهول هو مصر وأن السيدة هي مصر، وقد تعلمت أن واحدًا وواحدًا اثنان. قال: لا لا. إن هذا ليس حسابًا. إن هذه مصر تُنهِض أبا الهول. قلت: أليس معنى ذلك أن مصر تُنهِض مصرًا؟ قال: لقد بدأتَ تفهم. هذا هو المعنى. قلت: ولكني — ولا مؤاخذة — لم أفهم. قال — وهو مغيظ — كيف لم تفهم؟ وبدا لي أن في حديثنا من الجِد أكثر من المقدار الذي يحتمله هو، فعدتُ إلى التَّبالُهِ وسألته: ولكني لا أرى الهرم هنا فهل نقله مختار؟ قال: نقله كيف؟ أين أنت من الهرم؟ قلت: هكذا قرأت في الكتب أن الهرم إلى جانبه أبو الهول فأين ذهب الهرم؟ ويظهر أن نقل الهرم كان أكثر مما يطيق. فلوَّح بيده في وجهي، وتمتم شيئًا لم أفهمه؛ لأني شُغلت بنظارتي التي هوت إلى الأرض وتكسرت عدستها وأولاني ظهره ومضى. بعد هذا الحديث الذي استطبته والذي شغلني عن التمثال وعن الوقوف به أتدبره كما ينبغي، مضيت إلى أهرام الفراعنة، فلما سرتُ عند أبي الهول وددت لو أن صاحبنا معي. إذن لسألته مَن صنع هذا؟ أهو مختار أيضًا؟ وتخيلته وهو يهز كتفيه أمامي — تحت أنفي — ويقول: لا يا أخي. الفراعنة. فأعود أسأله: وهل هم أحياء؟ فيستعيذ بالله من هذا الجهل المطبِق ويقول: أحياء كيف؟ لقد ماتوا منذ آلاف من السنين. فأُبدي له العجب من أن يكونوا أمواتًا كل هذه الآلاف من السنين أسأله: وبأي شيء ماتوا؟ فيقول: لا أدري. لا يدري أحد. فأكر عليه بقولي: أتظن أنهم ماتوا بالطاعون؟ فيقول: لا أدري. ربما. مَن يدري؟ فألحُّ عليه وأقول: أترجح أنهم ماتوا بالكوليرا؟ فيقول بلهجة السأمان: ربما، ربما، قلت لك لا أدري. فلا أدعه ولا أرحمه وأقول: أو لعلهم ماتوا حسرة؟ فيقول، وقد انتفخت مساحره من فرط الضجر: ربما، قلت لك ألف مرة لا أدري، ماتوا والسلام. فأزداد عليه شدة وأسأله: وأبناء الفراعنة ألا يزالون أحياء؟ فينقذني بلفظة «مستحيل» ويعض حروفها بأسنانه، فلا يردعني هذا وأسأله عن أبي الهول وأين القاعدة وأين أبو الهول؟ فيعود إلى كفيه يدق إحداهما بالأخرى، وبعد أن يقضي مأربه ويرفِّه عن نفسه يبينهما لي فأقول: «ما أوقره، وأشد سكونه! وهل هو … هل هو ميت؟» فيهيج برهة ثم يبيِّن لي أنه حجر، أو لا يستطيع معي صبرًا فيلوِّح بذراعه ويمضي عني. ••• كلَّا، تمثال مختار — «محمود» مختار — على براعته لا شيء حين يقيسه المرء إلى أبي الهول الفرعوني، فإنه على هذا الوجه من الكآبة والجد والتشوف والصبر والجلال والنبل، ما ليس له شبه في وجه الإنسان، وهو حجر ولكنه فيما يبدو للعين يفكِّر، ينظر إلى الدنيا حوله ولكن نظرته تتخطاها إلى الفراغ الذي يلفُّها في طياته، وتتطلع إليه فيُخيل إليك أنه يرد عينه إلى الماضي متجاوزًا محيط الزمن وأمواج أجياله وقرونه، أو متراجعًا بها ومطبِقًا بعضها على بعض، حتى تعود وقد امتزجت وآضتْ مدًّا واحدًا عند أُفق القدم، نعم يفكِّر أبو الهول هذا في الحروب التي دارت أرحاؤها في الأزمنة الغابرة، وفي الدول التي شهد قيامها وسقوطها، وفي الأجيال التي رأى مولدها وراقب نهضتها ولاحظ فناءها، وفي المسرات والأحزان والحياة والموت والرفعة والذلة التي دارت بها أربعة آلاف من السنين البطاء. ودَعْ ما أرادوا أن يرمزوا له به، إن كانوا قد قصدوا إلى شيء من ذلك، فما أراه أنا إلا تجسيدًا لتلك الملكة الإنسانية التي يسمونها «الذاكرة» في صورة بارزة محسوسة، وما من أحد عرف أي شعور تحرِّكه في النفس ذكرى الأيام السوالف، وماذا ترسم على الوجه، إلا وهو يستطيع أن يقرأ ذلك كله في هاتين العينين اللتين يديرهما أبو الهول فيما عرفه وشهده قبل أن يُولد التاريخ. وهو لا يقيس الزمن بالسنين، فإنها هُنيْهات، ولا بالأجيال فإنها لحظات، وإنما يقيسه بالدول التي قامت ثم تقوَّضت تحت عينه التي لا تتعب ولا تشبع من النظر، ذلك أن فيه معنى من معاني الخلود، فقد رأى منف وطيبة وشاهد مجدهما، وعاش ليُبصِر الخراب يُعفِّي عليهما ويوكِل بهما البوم والوطاويط، ورأى أبناء إسرائيل يقومون ثم يُسحقون، والأغارقة ينهضون ثم يموتون، ورومية تُشاد ويرتمي ظلها على الأرض ثم تفنى، والعرب يستفيضون في الدنيا أسرع من العاصفة ثم يذهبون في سبيل مَن غَبر. وكما أخذت عينه عظام مئات من الدولات كذلك ستأخذ قبور مئات أخرى قبل أن يفتُر لحظُها وتطبق الجفون. والمرء ينظر إلى أبي الهول الساهد ويفكر في آلاف السنين التي قضاها هنا على حافة الصحراء، فلا يستغرب ولا يخالجه شيء من الشعور بالتنافي بين هذه الدهور الطويلة وبين مقامه هذا، وذلك أن ربضته تشيع في النفس معنى الاستقرار التام. وقد أحسن القدماء بإيثار الربوض له، فإنه جلسة مريحة تقترن في الذهن بمعنى الاستمرار، وليس كذلك «النهوض» كما هو مصور في تمثال مختار، والمرء خليق حين يعود إليه مرة بعد أخرى أن يحس أن لهذا الوضع ما بعده، إما أن يثب إلى الأرض، وإما أن يعود إلى الجثوم والراحة والسهوم مرة أخرى، أما البقاء هكذا يومًا بعد يوم. وشهرًا في إثر شهر، وعامًا في عقب عام، فليس من السهل على العقل أن يأنس إليه ويقتنع به، وقد تكون هذه مزية للتمثال، وعسى أن يكون المقصود بها أنها نبوءة أو أمل أو نحو ذلك. ولست أعيب أو أنقد، فما أعني أكثر من أني حين أنظر إلى التمثال لا أحس أني قد رأيت كل شيء، وقد أتوهم أنه سيثب عن القاعدة إلى الأرض. وهذا الذي عليه أبو الهول الجديد إقعاء لا نهوض، فإن الحيوان — من البعير إلى الهرة — حين يريد أن ينهض، يقوم على رجليه الخلفيتين أولًا ثم الأماميتين، أما القيام على رجليه الأماميتين فحسب، فهذا هو الإقعاء، وهو جلسة للحيوان يتخذها أحيانًا، وأكثر ما يراه الإنسان في الكلاب، حين تقعد ناشرة آذانها راصدة عيونها، وأحسب أن مختارًا إنما آثر هذا الوضع؛ لأن منظر أبي الهول يكون غريبًا ثقيلًا إذا أنهضته على رجليه الخلفيتين، كما ينبغي أن يفعل إذا كان يقصد إلى النهوض، ولعل عذر مختار أن أبا الهول هذا خليط من الإنس والحيوان فله أن ينهض كيف يشاء حتى على رأسه. وهذه الفتاة المنصوبة إلى جانب أبي الهول لا أفهم معناها ولا أدري لماذا يقيمها المثَّال هناك ويضنيها بهذه الوقفة المتعِبة؟ ولو كنت أنا مختارًا لاستغنيت عنها جملة ولاجتزأت بأبي الهول وحده؛ لأنه إذا كان المراد الرمز إلى أن مصر تنهض، فإن أبا الهول بمفرده حَسْبُ مَن شاء أن يرمز إلى ذاك. ولن يركب الجهلُ أحدًا فيتوهم أن المراد به رومية أو قرطاجنة، ففي نهوضه وحده ما يكفي رمزًا لنهوض البلاد التي اقترن اسمه بتاريخها. زد على ذلك أن قيام الفتاة إلى جانبه تخليط؛ وذلك أنها — على ما فهمتُ — رمزٌ لمصر الحديثة. وعلى هذا يكون أبو الهول عنوانًا على مصر القديمة، وكان المعنى — على هذا — أن مصر الحديثة توقِظ مصر القديمة، أو أن مصر القديمة تنهض إلى جانب الحديثة وفي كَنَفها، وكلا المعنيين مستحيل يرفضه العقل ولا يسيغ معناه، وأصحُّ من ذلك أن هناك — أو هنا على الأصح — مصرًا واحدة تاريخها سلسلة متصلة الحلقات، وأنها كانت نائمة أو متفترة أو ما شئتَ غير ذلك، ثم هي الآن تستيقظ أو تنفض عنها غبار القرون وتهم بالنهوض، وهو معنى لا يحتاج إلى هذه الفتاة التي تفسده ولا تؤيده. ولست أستريح إلى وقفة الفتاة فإنها كالعصا، ويُمْناها التي على رأس أبي الهول غريبة في وضعها؛ فإنها لا يسندها في الحقيقة إذا تأملتها إلا أصابُعها، أما ذراعها فكالمعلق في الهواء إن كانت الشملة — أو لا أدري ماذا هي — تحجب هذا التعليق عن عين الناظر، وهي لا تفعل بيُمناها هذه أكثر من هذا الاستناد بأطراف الأصابع دون باطن الراح، ولا أدري لماذا جعلها كذلك ولم يدعها تريح ذراعها؟ ثم ما معنى هذا الوضع؟ وما الذي قصد به إليه؟ أتُراه أراد الإيقاظ؟ فهذه ليست حركة إيقاظ، وليس في وجه الفتاة أدنى التفات إلى الذي بجانبها إن صح أنها تريد أن توقظه. أم تُرى المراد أن مصر الجديدة تحسُر عن وجهها وتبرُز للعالم معتمدةً على مصر القديمة، فإن كان هذا هو المقصود وأحرى به أن يكون؛ فإن رمز النهوض واليقظة هو الفتاة لا أبو الهول، ولا داعيَ إذن لإقامة أبي الهول على رجليه ما دام أن الناهضة سواه، وأنه ليس إلا تُكأة ووسيلة للرمز إلى الاتصال بالماضي، وحينئذٍ يكون المعنى أتم وأقوم بأن يظل أبو الهول هذا رابضًا على العهد به والفتاة حاسرة على جانبه. والخلاصة أن التمثال كان حقيقًا أن يكون أوفى بالغرض فيما أرى لو أن أبا الهول ظل رابضًا إلى جانب الفتاة المعتمدة عليه؛ إشارة إلى اتكاء مصر الحديثة على ماضيها واعتزازها به واستيحائها إياه، أو لو أن التمثال خلا من الفتاة. والأُولى عندي أفضلُ؛ اجتنابًا للإقعاء، وتفاديًا من الوقوع في هذا الغلط. أما التمثال في شكله الحالي فلا أكتم القراء أني أحس كأني أحمله وقاعدته على ظهري. ولا يسوء مختارًا قولي هذا فإنه يعلم أني من أجهل الناس بالفنون، وأن ليس لي من الوسائل المعينة على حسن التقدير سوى رأس واحد وعينين اثنتين ليس إلا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/8/
الحب الأول
كنت صغيرًا لم أدخل — بعدُ — في حدود الشباب، وكان الوقت صيفًا، وأكثر ما أقضي النهار أمام البيت أُلاعب الصبية من لِدَاتي، فمرة نكون قطارًا بخاريًّا مؤلفًا من بضع عشرة قاطرة — ليس بينها مركبة واحدة — ننفخ جميعًا ونقول: «أومف أومف بفو بفو» وأخرى نكون خيلًا تصهل وتتوثب وتضرب الأرض بحوافرها وتزعج المارة وتصطدم بهم، وطورًا نتقاذف بالكرة ونحطِّم بها زجاج النوافذ فيثور السكان ويجلوننا عن الحارة، وتارة نقسِّم أنفسنا فريقين: عصابة من اللصوص وضباطًا، وأحيانًا نعصِب لواحد منا عينيه ونتوارى عنه وينطلق هو وراءنا باحثًا، فمَن لقي منا عصبنا له عينيه بدلًا منه، وهكذا إلى آخر هذه الألعاب الصبيانية إن كان لها آخر يُعرف أو حدٌّ تقف عنده ولا تعدوه. وكنت أنا — بفضل الله — أحمقَهم جميعًا وأشرسهم خُلقًا وأسرعهم إلى الشجار، وكنت إذا ضاربني أحد لا أبالي أين وقعت يدي، ولا أتقي أن أُصيب عينه أو أنفه أو أسنانه، وقد أتناول الحفنة من التراب وأعفِّر به وجهه وأرده كالأعمى، ثم أنهال عليه لطمَا ولكمًا وركلًا. فقد كنت واسع الحيلة كما ترى، فعوَّضني ذلك من ضعفي، وصارت لي بفضله منزلة بين هؤلاء الصبيان. وكانت لي جارة — فتاة صغيرة كالنرجسة في مثل سني — وكنت أكثر ما أراها مطلة من النافذة علينا أو واقفة إلى بابها تنظر إلينا ولا تشترك معنا، ولا أستطيع أن أصفها، فقد بَهِتت صورتُها بعد كل هذه السنين الطويلة، وإن كنت لا أزال أرى لها نوطة في القلب وعَلوقًا بالفؤاد كلما كرَّت بي الذاكرة إلى تلك الأيام، وكانت لا تفتأ تُنكِر مني طيشي ومغامراتي. رأتني مرة مقبلًا على البيت بعد الغروب بقليل، وعلى جلبابي الأبيض طوائف شتى من الأوحال فاستوقفتني وسألتني: «ما هذا؟ ماذا أصابك؟» قلت: اعترضتني حفرة واسعة فأردت أن أعبرها وثبًا فقصر الوثب عن الغاية، فكان ما ترين. قالت: لو فكرتَ قبل أن تثب لعلمت أنك لا تستطيع أن تعبر الحفرة. قلت: ولكني عبرتها. قالت: كلا! لم تعبرها بل وقعت فيها، وهذه ثيابك تشهد عليك. قلت: ولكني اجتزتها والسلام. ألا ترينني أمامك؟ قالت: عنيد ولا خير في الكلام معك. وتركتني. واتفق بعد شهور من ذلك أن لقيتها عائدة إلى بيتها وكنَّا على مسافة مائتي متر منه، فلما صرنا في «الحارة» إذا هي زحلوقة لا تثبت فيها القدم من كثرة الماء المرشوش، ولم يكن ثَم طريق آخر، فأسندتْ يدها على الحائط وناولتني يدها الأخرى، وقلما كنت ألمس يدها. فلما صارت كفُّها في كفي شعرت بشيء من الزهو ممزوج بالغبطة، وخفت على يدها اللينة البضة أن تؤذيها قبضتي — التي خُيل إليَّ أنها قوية — فجعلتُ أصابعي حول رسغها حيث العظام فيما بدا لي أقوى على الاحتمال، وجعلت أخطو بحذر مخافة أن يطير إلى ثوبها النظيف رشاش من الماء القذر، وكانت مضطرة أن تعتمد عليَّ بجسمها، وتلك أول مرة دنت مني أو دنوت منها إلى هذا الحد، وكان شعرها محلولًا ومرسلًا من فوق كتفها على صدرها، فجعلت أُدني أنفي منه وأشمه، ولم يكن معطرًا ولكني كنت أجد له ريحًا طيبة، فلحظتْ ذلك مني وسألتني وقد جذبت يدها قليلًا: «ما هذا الذي تفعله؟» قلت: إني أشمك. قالت: تشمني! إنك أوقح مَن رأيت من غلمان حارتنا. قلت: لست أقصد أن أكون وقحًا، ولكن لشعرك رائحة طيبة فهل من بأس أن أشمه؟ قالت: كلا، لا تفعل. قلت: لقد فعلت وانتهى الأمر. وبعد قليل قلت: «هل تعلمين أن على وجهك وشعرك سبعة، ثمانية نجوم؟» فابتسمت ولم ترد، فقلت ومددت إصبعي وأشرت به: «حقيقة. نجمان على شعرك، هنا وهنا، ونجم على جبينك هنا — ثلاثة — ونجم في كل عين — خمسة — ونجم على طرف أنفك — ستة — واثنان على فمك هنا وهنا — ثمانية نجوم — ليت معك مرآة! إذن لأريتك!» فضحكت، وكنا قد صرنا على الأرض الناشفة فعُدْنا إلى وسط الطريق وسِرْنا، ولكن يدها بقيت في يدي، حتى بلغنا بيتها فشكرتني ودخلت. ومنذ ذلك اليوم صار لهذه الفتاة تأثير في نفسي، لا أعرف له مشبهًا، ولم يخطر لي قط أنه راجع إلى أية عاطفة خارجة عن حياتي العادية، فكنت كلما رأيتها أشعر بشيء من الدهشة ويعاودني الحنين إلى شمها، أعني شمَّ شعرها. ولقد عرفتُ بعد ذلك فتيات كثيرًات أجمل منها أو أفتن، ولكن أخطأت فيهن جميعًا ذلك العبق الذي كانت تستريح إليه حواسي، والذي كان يفتر له جسمي، كانت تغيب عني أسبوعًا وأسبوعين فأنساها، وإن كنت أحيانًا أرى صورتها ماثلة في ذهني وفي أحلامي، وصرت أحب أن أراها وهي لا تراني؛ لأرنو إليها مطمئنًا وأرى شفتيها الدقيقتين تفتران عن ابتسامة خفيفة، وأشتاق أن أساعدها وأحميها كما ساعدتها يوم تخطيت بها تلك الأرض المبللة، وأن أسمعها تشكرني كما شكرتني يومئذٍ. وقلَّتْ على الأيام ملاعبتي للصبيان، وكثرت وقفاتي معها على بابها، ثم غابت أسابيع في قرية فيها بعض أقاربها، فشعرتُ بوحشة لا عهد لي بمثلها، وثقلت الحياة على كاهل صبري، فذهبت أنا أيضًا إلى أقاربي وقضيت عندهم شهرًا كان من أطيب ما مر بي وأحلى وأندى. ثم عُدتُ ولقيتها مساء يوم على باب دارها كعادتها، وكانت مطرقة وفي يمناها عود من ثمر الحناء تقطع بيسراها أكمامه التي لم تنور، وتفركها بأصابعها وتدعها تسقط على الأرض، فدنوت منها وهي لا تحسني ووقفت برهة، ثم قلتُ بصوت خفيض مرتعش: «فيم تفكرين؟» فلم ترفع عينَها ولم تولنِي نظرة واحدة، وقالت وهي مطرقة وأصابعها لا تزال تعبث بما في يدها: «فيم أفكر؟ في مثل هذا، في النور الأصفر تحت أكمامه الخضر، في سحائب التراب على الطريق، في الأُغَيصَان الصغيرة الخضراء النابتة على فروع الشجر، في الأطيار تلقط القش وخيوط الصوف التي ألقيها لها لتحملها بمناقيرها وتصنع منها أعشاشها، في ألوان الفجر على الأشجار والحقول الندية الملتمعة، في الأمساء الصافية الحالية بالنجوم المرتعشة في الغدران يترقرق فيها الماء حول قدمَيَّ المدلاتين.» ثم رفعتْ وجهها إليَّ وقالت: «في هذا أفكر.» وكانت تتكلم بصوت متئدٍ متزن النبرات كأنما تُحدِّث نفسها فدهشت، لا بل بُهِتُّ، ووقفت صامتًا كأنما أستلُّ لساني من حلقي، وظللنا كذلك لا أدري كم، ثم قالت: «والآن سأدخل.» ولكنها كانت بالذي يهم بالدخول أشبه، فوجد لساني الكلام وقلت: «لا تذهبي هكذا بغير تحية أو سلام.» فوقفت مكانها وأمالت ووضعت يدها في خصرها كأن هنا شيئًا يؤلمها فدنوت منها فإذا بلمعة عينيها تنطفئ ووميضها يخبو، فقلت: «ماذا كنت تقولين؟» فلم تجبني ومدت يدها إليَّ بثمر الحناء فقلت: «هذا حسن. تحية طيبة. سأذكرك بها دائمًا. والآن ماذا كنت تقولين؟ أَثَم شيء يحزنك؟» قالت: «أي شيء يحزنني؟ لا شيء.» قلت: «إني أرى هذا في عينيك، في وميضهما ثم انطفأ هذا اللمعان.» قالت وعلى ثغرها الدقيق طيف ابتسامة: «ماذا ترى في عيني؟» قلت، وكأني أُلهِمتُ الألفاظ: «أرى كأنك كنت تنتظرين شيئًا ثم لم يحدث.» فقالت: «فقط؟ لا أكثر؟» قلت: «فقط. وأريد أن أعرف ما هو؟ ولماذا؟» فأطلقت ضحكة صغيرة فضية النبرات، وبدا عليها شيء من السرور وفتحت ذراعيها وقالت: «كلَّا، لعل قلبي أطل من عيني هنيهة كما يطل الطفل من النافذة ثم عاد إلى مكانه …» فابتسمت وقد زدت بها إعجابًا وقلتُ: «وماذا أراد قلبك أن يرى من نافذة عينيك؟» قالت: «ألا تطل أحيانًا من النافذة فتبصر طفلًا يعدو وهو مسرور؟» قلت: «نعم.» قالت: «كذلك القلب أحيانًا يجري أمام العين فرحًا مسرورًا، أظن قلبي فعل ذلك حين رأيت عيني تلمعان.» ثم بعد ثانية أو اثنتين: «والآن دعني أدخل، إن معك هذه الزهرة فاحفظها.» ومضت عني وتركتني واقفًا كالأبله لا أكاد أفقه من كل ما قالت شيئًا وإن كنت قد وعيته كما لم أعِ في حياتي شيئًا غيره. ومر عام وكنا قد انتقلنا إلى بيت آخر، فمررت بدارها يومًا بعد الغروب، كان الباب موارَبًا فرأيتها تسقي أُصَص الزهر في فناء البيت، فوقفتُ أتأملها لحظة وهي تُقبِّل الورد والأزاهير بعد سقيها ورشها، ثم دخلت في رِفق وهمستُ باسمها فلم تسمع، فأعدتُ الهمس فانتبهت كالمذعورة، وقالت: «إبراهيم؟» وكررتْ ذلك. فاقتربتُ منها وقلت: «نعم هل أفزعتك؟» ووقفت. شفتاها مفترقتان، ووجهها تصبغه الحمرة من أثر المفاجأة. ولم أكن أعرف ماذا ساقني إليها سوى أني اشتقتُ أن أراها وأن أقف معها لحظة أحادثها، وقالت: «لقد كان يجب أن أفزع، فما سمعتك تدخل، لكن من الغريب أنك خطرت ببالي وأنا أسقي هذه الأُصَص.» فكدتُ أصيح لا أدري لماذا، وقلت: «أصحيح هذا؟ إنه يسرني.» فقالت: «لم أكن أفكر فيك تفكيرًا يسرك (وضحكت) لقد كنت ساخطة عليك.» فضحكت مثلها وقلت: «ماذا جنى هذا الشقي يا تُرى؟» فقالت: «لست ساخطة لأنك فعلت شيئًا، لقد كنا عندكم أنا ووالدتي وأختي وقضينا النهار كله تقريبًا، وأنت لا أثر لك في البيت، ولا يدري أحد أين ذهبت، وفي وسعك أن تتصور مللي بين السيدات العجائز.» فضحكت مرة أخرى وقلت: «إني أفضل أن ألقاك هنا ويسرني أن أجدك وحدك.» قالت: «وهل كنتَ واثقًا أنك ستلقاني هنا؟» قلت: «كلَّا.» قالت: «إذن لماذا جئت الآن؟» قلت: «لا أعلم، اشتقت أن أراك لا أدري لماذا، فجئت.» ولم أكن أكذب، فما كنت أستطيع أن أعلِّل الشعور الذي يدفعني إليها، ولا جرى ببالي أن أعلله ولكني بهذا التصريح وبالسكون الذي تلاه، شعرتُ أني دنوت خطوة من الحقيقة المجهولة، أو هكذا يُخيل إليَّ الآن، وانعقد لساني فسكت وأعديتُها فسكتت مثلي، وأحسسنا كلانا — فيما نظن — كأن هناك شيئًا جديدًا يخفق به الجو، شيئًا لا يناله إدراك ولا يرقى إليه العقل، غير محسوس كالطيب يحمله النسيم. ومر بخديها طيف من الحمرة ما جاء حتى ذهب ففتحت عليها عيني وأتأرتُها النظرَ، فتراجعت خطوة وهي تقول: «ينبغي أن أدخل.» فوقفتُ أرمقها وهي تدور لتمضي عني، ثم كأنما انشق عني سور فاندفعت إليها ووقفت إلى جانبها، وجعلت أدير لساني في حلقي بلا كلام وقلبي يخفق وتناولت يدها وذهبت بها إلى الباب حيث ظللنا برهة صامتَين، ثم صاحت: «يدي. يدي ستحطمها.» فانتبهت وأطلقت كفَّها وأسِفت، فقالت بصوت عذب: «دعني أدخل بالله.» فتناولت يدها مرة أخرى وعدتُ أطلب أن تغفر لي إيذائي يدها، وقلت: إني لا أستطيع أن أعود إذا لم تقل لي إنها ليست حانقة عليَّ. وكنت أحس أصابعها تتحرك في كفي فقالت: «كيف أحنق؟ لقد نسيت. دعني أدخل.» قلت: «وأعود مرة أخرى لأراك؟» قالت: «نعم.» قلت: «ولا تعجلين بالدخول؟» قالت: «كلَّا، دعني الآن.» ولكني لم أعد لا اليوم التالي ولا الأسبوع التالي ولا الشهر التالي لسبب طبيعي جدًّا هو أني لم أكد أسير إلى آخر الطريق حتى برز لي شاب من الظلام وصاح بي: «ماذا كنت تفعل هناك؟» قلت: «أين؟» قال: «هناك»، وأومأ برأسه وبإبهامه إلى بيتها. قلت: «كنت أزورهم.» قال: «تزورهم؟ هيه؟ تزورهم سأعلمك أن تزورهم مرة أخرى.» ودفعني في صدري فانطرحتُ على الأرض، وقمتُ ألعنه وأسُبه، وأقبل عليَّ ودق رأسي بجميع يده فهويت إلى الأرض على ركبتي، وركلني برجله، وذهب وهو يتوعدني إذا فكرت في العودة إلى هذا الطريق. ولم أكن أعرف هذا الوحش ولا وقعت عيني عليه من قبل، ولم أفهم — إلى هذه الساعة — سرَّ هذا العدوان. فرجعت إلى البيت بصدر موجع ورأس يكاد يكون مهشمًا وعظام مرضوضة. ولزمتُ الفراش أيامًا وخفت بعدها أن أرجع، ثم صرتُ أستحي أن ألقاها مخافة أن تسألني عن سر غيبتي، أو أن تكون قد علمت به. وبعد شهور عدتُ من المدرسة يومًا فإذا هي ووالدتها في بيتنا ففرحت وخجلت، ولما سلمت كانت يدي ترتجف، وعيني إلى الأرض، وذهبت إلى غرفتي فأدركتني في الصالة وقالت: «خذ»، وناولتني عودًا من ثمر الحناء فأخذته في صمت وأدنيته من أنفي، ووقفت أشمه وأشمه وقد غاض معين الكلام وانقطع عني مدده. فلما رأت صمتي وارتباكي قالت: «سنذهب إلى الريف.» فأنطقتني هذه المباغتة وقلت: ستذهبين؟ وكم تظلين هناك؟ قالت: «عامًا. أتستكثر ذلك؟» قلت: «بالطبع، إني آسف جدًّا.» قالت: «ولكنك لا تزال تهرب مني.» فأغضيت عن هذه الملاحظة، وسألتها: «وماذا تنوين أن تصنعي هناك هذا العام؟» قالت: «يا له من سؤال! وكيف يعنيك أن تعرف؟» وضحكتْ فجلت ضحكتها صدري ونفت مخاوفي ونظرتُ إليها معجبًا، وأحسست بالدم يتدفق في عروقي، وبأنفاسي تسرع، وحمل إليَّ النسيم الواني طيبَ شعرها فمددتُ يدي إلى كفِّها، وكانت شفتاها مفترقتين وعيناها في عيني، وصدرها يكاد يلمسني، فألفيت نفسي أنحني عليها وألمس شفتيها بفمي، فصار وجهها كالجمرة، ولكنها لم تتحرك ولا تكلمت، ودار رأسي كالمخمور فتقهقرت خطوة، وهي واقفة كالتمثال، وما أظنها كانت تتنفس أو تفكر، فما رأيت صدرها يتحرك أو أجفانها تختلج: كلَّا لا شيء إلا هذا الجمر في خديها ينبئ أنها حية. وأفاقت ثم أصعدت زفرة كأنما كنت لطمتها ولم أقبِّلها، ثم هتفت بي، فأسرعت وأخذت يديها في كفي، ثم رفعتهما وقبلتهما وقلتُ لها: «أغاضبة أنت؟ قولي إنك لست غاضبة.» فأجابتني بهِزَّة خفيفة لرأسها، فقلت: «لستِ غاضبة. أعلم ذلك، وإلا فما قبَّلتك، تكلمي.» فقالت همسًا: «دعني أذهب إني خائفة.» فقلت: «إنك جميلة. جميلة»، وانهلت على يديها مرة أخرى ألثمهما ظهرًا وبطنًا ثم سحبت يديها ببطء، ووضعتهما على صدرها وقالت وهي تتلعثم وترتجف: «قل لي ما هذا؟» قلت، ووضعتُ يدي على يديها فوق صدرها: «هذا! ألا تعلمين؟ إنه الحُب؟» فتنهدت، وأرخت يديها وتركتهما تهويان وقالت: «سأذكرك دائمًا.» قلت: «كلَّا هذا لا يكفي. سيحبك غيري.» ولم تكد شفتاها تفترقان، وهمست كأنما تتنفس: «سأحبك دائمًا.» وكان هذا آخر لقاء، فقد زوَّجوها في الريف.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/9/
حلاق القرية
وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة، قبل أن تتغلغل المدنية إلى أنأى قراه، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها، فقد عرض عليَّ مضيفي أن أستعمل موساه فأبيت، وقلت: ما دام للقرية حلاق فعليَّ به، فحذَّرني مضيفي وأنذرني ووعظني، ولكنني ركبت رأسي وأصررت أن يجيء الحلاق. فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر «مخلاة شعير» وسلَّم وقعد وشرع يحييني ويحادثني حتى شككت في أمره واعتقدت أن الحلاق شخص آخر، وأن هذا الجالس أمامي ليس سوى «طلائعه»، ولما عيل صبري سألته عن حلاق القرية، فابتسم ومشَّط لحيته بكفِّه وأنبأني أن الحلاق محسوبي (يعني نفسه)، فلعنته في سري وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي؟ أم لا بد أن يضرب بالرمل والحصى أولًا ويصحب الطالع قبل أن يباشر العمل؟ فلم يفهم وأولاني صدغًا كث الشعر وقال: «هيَّا» فظننته أصم وصحت به: «أ … ر … يد أن … أ … ﺣ … ﻟ ﻖ»، فسرَّه صياحي جدًّا، وضحك كثيرًا، وأقبل على «مخلاته» فأخرج منها مقصًّا كبيرًا جدًّا، فدنوتُ من أذنه وسألته: هل في القرية فيل؟ فقال: فيل؟ لماذا؟ فأشرت إلى المقص. فضحك. وقال: «هذا مقص حمير ولا مؤاخذة.» فقلت: «ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحِمارًا تراني؟» ويظهر أن معاشرة الحمير بلَّدت إحساسه فإنه لم يعتذر لي ولا عبئ بسؤالي شيئًا، ثم أخرج موسى من طراز المقص و«مكنة» من هذا القبيل أيضًا، فعجبت له لماذا يجيء إليَّ بكل أدوات الحمير؟ وسألته عن ذلك فقال: إن الله مع الصابرين. وبعد أن أفرغ مخلاته كلها انتقى أصغر الأدوات، وأصغرها أكبر ما رأيت في حياتي. ثم أقبل عليَّ وقال: «تفضل.» قلت: «ماذا تعني؟» قال: «اجلس على الأرض.» قلت: «ولماذا بالله؟» قال: «ألا تريد أن تحلق؟» قلت: «ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟» قال: «وأنا؟» قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير، وهبطت إلى الأرض كما أمر، ففتح موسى كالمِبرَد، فقلت: «إن وجهي ليس حديدًا يا هذا»، قال: «لا تخف إن شاء الله»، ولكني خفت بإذن الله ولا سيما حين شرع يقول: «باسم الله، الله أكبر»، كأنما كنت خروفًا، ويبصق في كفه ويشحذ الموسى على بطن راحته، ثم جذب رأسي، فذعرتُ ونفرتُ ووليتُ هاربًا إلى أقصى الغرفة، فقال: «ماذا؟» قلت: «ماذا؟ أتريد أن تحلق لي بمِبرد، ومن غير صابون؟» قال: «ماذا يخيفك؟» قلت: «يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي لا لتَبرُد لي شعرها.» قال: «يا فندي لا تخف.» ثم قرأ من الكتاب الكريم فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى إلى آخر الآية الشريفة، وأظنُّه أراد أن يَرقِيني بها، فيا لها من حلاقة لا تكون إلا بِرُقية! وأسلمت أمري لله وعدتُ فقعدت أمامه، فنهض على ركبتيه وتناول رأسي بين كفيه وأمال صدغي إليه، ثم وضع ركبته على فخذي ولفَّ ذراعه حول عنقي، فصار فمي مدفونًا في صدره فصِحتُ أو على الأصح جاهدت أريد الصياح لعل أحدًا يسمعني فينجدني، غير أن طيات ثوبه كانت في فمي، أما رائحة الثوب فبحسب القارئ أن يعلم أنها أفقدتني الوعي. ولا أطيل على القارئ. فقد أهوى الرجل بموساه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردني الألم إلى الحياة، وأتاني القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة، ووثبت أريد الباب، ولكنه كان على كبر سنه أسرع مني، وما يدريني لعله كان يتوقع ذلك، وعسى أن يكون المران قد علَّمه أن يكون يقظًا لأمثال هذه المحاورات، فردَّني بقوة ساعده. فتشهدتُ وتذكرتُ قول المتنبي: كلَّا سأسدل الستارَ على هذا المنظر الذي يقشعر منه جلدي على الرغم من كر السنين الطويلة. ثم جاء هذا السفَّاح بطشتٍ يغرق فيه كبش، ووضعه تحت ذقني وصب ماءه على وجهي وفي صدري وعلى ظهري، ليغسل الدم الزكي الذي أراقه، وأخرج من مخلاته «منشفة» هي بممسحة الأرض أشبه، فاعتذرت وأخرجت منديلي وسبقته به إلى وجهي. فهي معركة لا تزال بجِلدي منها ندوب وآثار.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/10/
سِحرٌ مجرَّب
لا أدري كيف أسوق للقارئ حكاية هذه التجربة بحيث لا يتوهم أني أهزل، ولكن الذي أدريه أنه قلَّ بين الصبيان مَن اتفق له ما اتفق لي من التجارب، ولو أنه قُدِّر لي أن أكتب تاريخ حداثتي … ولكني هزيل الصبر، ولعل مما هو حقيق أن يعين القارئ على فهم البواعث التي تغري حدثًا في مثل سني يومئذٍ بما فعلت، أن أقول له: إني نشأت نشأة دينية، وأعني بذلك أن أهلي من أهل الورع والتقوى والصلاح، وأن بيتنا كان في فنائه مصلًّى أو مسجد صغير عامر أبدًا بالمصلين ليلًا ونهارًا. والآن إلى القصة بعد هذا التمهيد الوجيز الذي لم أرَ منه بدًّا اتقاء لسوء التأويل ونفيًا لمظنة المغالاة. عثرت في باكورة حياتي على أوراق مخطوطة استولت على هواي واستبدت بخاطري، وقد اعتقدت يومئذٍ أنها بخط جدي لأبي وإن كنت لا أذكره إلا كالحُلم، فقد مات في طفولتي ولحق به أبي، ولم أره قط يكتب ولا ثبت عندي أن هذا خطه، وكنت أُكبِر جَدي وأُجِل ذكراه لغير سبب سوى ما كان تلاميذه يحدثونني به عن علمه وتبحره وتقواه، فقوى اعتقادي هذا ثقتي بما في الأوراق وثبت يقيني فيها، وكان من عادتي أن أقضي الصيف في الإمام حيث تقيم طائفة كبيرة من أهلي، وكان لأحدهم حمار مليح القسمات لين الخطوات، فكنت أركبه حين أشاء إلى حيث أشاء، وأبى الحظ إلا أن أعشق، وما أكثر مَن عشقت في تلك السنوات الأولى من شبابي. ولقد صدق أخي «العقاد» حين قال يصفني بعد ذلك بأعوام عدة: ولم يكن الحظ يلقيني إلا على كل فتاة «عسيرة البذل» كما يقول الشاعر — ولا أذكر مَن هو — فحِرتُ ماذا أصنع، ولم أرَ أن أستشير أحدًا من الصبيان الذين كنت أختلط بهم؛ لأني كنت أراهم دوني معرفة، ثم تذكَّرت الورقات التي كنت أعتقد أنها مما خلَّف جَدي، فوجدت فيها «فائدتين» طرت بهما فرحًا، فأما الأولى فتقول: «مَن أراد الارتقاء إلى الدرجات العلا فليتطهر ظاهرًا وباطنًا، وليصُم سبعة أيام وليواظب دُبر كل صلاة على هذه الأسماء — يا هادي يا خبير يا متين يا علام الغيوب — ألف مرة، فإنه يُكشف له عن كنز الأرض ويُنادى به في ضمائر الناس، وإنْ أكمل ثلاثة أسابيع في الرياضة كُشف له عن ملكوت السموات والأرض بإذن الله تعالى، وأما صفتها للإخفاء فهي أن تقرأ الآية الشريفة سبعمائة وخمسين مرة، ثم تقول بسم الله الرحمن الرحيم يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ — إلى قوله تعالى: فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ — ثلاثمائة وثلاث عشرة مرة، فلو اجتمع أهل السموات والأرض على أن يبصروك لم يقدروا ويُعمي الله أبصارهم عنك فلا يرونك، وأكثر من ذلك أن يُحَوِّلَ الله قلوبهم إليك بالرأفة والمجد والعطف.» وكان هذا كل ما في الورقة، فأما كنوز الأرض فلم يكن يعنيني منها يومذاك شيء، فما كان لي هوى إلا مع تلك الفتاة، أو رغبة إلا في إلانة قلبها. وأما الكشف عن ملكوت السموات والأرض فشيء مرعب خفتُ أن أعالجه فأُصعق. وأما الاختفاء عن الأبصار فهذا ما سحرني واستولى على لبي، وتشبث به خيالي. ألستُ أستطيع إذا فزت بذلك ووفقت إليه ببركة هذه الفائدة، أن أكون أدنى شيء إلى الفتاة وأن أراها ولا تراني وأتملَّى بحسنها وقربها وهي ذاهلة عني لا تحُسني؟ ألستُ أستطيع بفضل هذا السر الجليل أن أكون حيث أشاء، وأن أفعل ما بدا لي بلا تثريب، لا تراني الأبصار؟ وا فرحتاه! أي شيء أتقي بعد ذلك؟ أي شيء يصعب عليَّ؟ تالله ما أولاني بحمد الله على أن كان لي مثل هذا الجَد الصالح؟ ولكن الورقة لم تذكر الآية التي لا بد من تلاوتها سبعمائة وخمسين مرة، فماذا أصنع؟ حرتُ قليلًا ولكني كنت فتى عمليًّا، فتناولت المصحف الشريف وقلبته حتى وقعت عيني على قوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وأقنعت نفسي بأن كلام الله كله في منزلة واحدة من الجلال، وأن كل آية ككل آية، وليست كلمة منه بأفضل من أخرى غيرها. وما أرى حتى الآن إلا أن منطقي كان مستقيمًا وتفكيري كان سليمًا سديدًا. وأما «الفائدة» الثانية فتقول ما يأتي: «ومَن أراد إقبال الناس عليه بالمحبة والهيبة والتعظيم له في قلوبهم فعليه بقراءة هذه الآية الشريفة عقب الصلاة أربعمائة وخمسين مرة، ثم يتلو بعدها هذا الدعاء الجليل سبعة آلاف مرة، فإنه يحصُل له من الخير ما لا تُدركُه الأفهام وهي هذه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، يا ألله (ثلاثًا)، يا رحمن (ثلاثًا)، يا رحيم (ثلاثًا)، لا تكلني إلى نفسي في حفظ ما ملَّكتني مما أنت أعلم به مني، وامددني برقيقة من رقائق اسمك الحفيظ الذي حفظتَ به نظام الموجودات واكسُني بدرع من كفايتك، وقلِّدني سيفًا من نصرك وحمايتك، وتوِّجني بتاج عزك ومهابتك وكرمك وركِّبني مَركَب النجاة في المحيا وبعد الممات بحق خجش ثطخذ، وامددني برقيقة من رقائق اسمك القهار تدفع عني بها مَن أرادني بسوء من جميع المؤذيات، وتولني بولاية العز يخضع لي بها كل جبار عنيد وشيطان مريد يا الله يا عزيز يا جبار (ثلاثًا)، ألقِ عليَّ من زينتك ومن محبتك وكرامتك ومن حضرة ربوبيتك ما تُبهَر به العقول وتُذَل به النفوس وتخضع له الرقاب وترق له الأبصار وتُبدد دونه الأفكار ويصغر له كل متكبر جبار، وتسخر له كل ملك قهار يا ألله يا ملك يا عزيز يا جبار (ثلاثًا)، يا الله يا واحد يا أحد يا قهار (ثلاثًا)، اللهم سخِّر لي جميع خلقك كما سخَّرت البحر لسيدنا موسى عليه السلام وليِّن لي قلوبهم كما ليَّنت الحديدَ لداود عليه السلام فإنهم لا ينطقون إلا بإذنك، نواصيهم في قبضتك وقلوبهم في يدك تصرفها كيف شئت يا مقلب القلوب (ثلاثًا) يا علام الغيوب (ثلاثًا)، أطفأتُ غضبهم بلا إله إلا الله، استجلبتُ محبتهم بسيدنا ومولانا محمد رسول الله ﷺفَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.» ويكون ذلك في جوف الليل، ثم تصلي ستَّ ركعات فإذا سلَّمتَ تقرأ الدعاء تسعمائة وخمسين مرة، وفي حال قراءتك للدعاء تصور المطلوب بين عينيك كأنك تجذبه إليك، فإذا وفَّيت العدد المطلوب تقرأ هذه الآيات سبعًا وهي يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلهِ، لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي تقرأ هذه الآيات سبعًا وأنت في كل ذلك تُبخَّر بالجاوي واللبان الذكر. ثم طويت الورق ووضعته في جيبي وخرجت إلى السوق، وقد بدأتُ أشعر كأني فوق الناس، أو كأني أمشي في السحاب، واشتريت قليلًا من الجاوي واللبان والفحم، وخرجت على الفتاة وأنا عائد إلى البيت، فلما رأتني أحمل هذه الأشياء ضحكت وقالت «أتُراك صرت خادمًا؟ مبروك إن شاء الله»، فألقيت إليها نظرة عطف مشوبةً بالكِبر، وقلت ملغِّزًا ويدي على جيبي «أترين هذا الجبل؟ — وأشرتُ إليه — سيحمل الليلُ إليك صوتًا منه» ومضيت غير عابئ بضحكها وسُخْرها. ولا أطيل، خلوتُ بقية النهار إلى نفسي حتى فرغتُ مما فرضت «الفائدة الأولى»، ثم قمت بعد العصر بقليل وفي اعتقادي أني قد اختفيت عن أعين الناس، وقصدت إلى حيث الحمار مقيد ففككت القيد وأسرجته وألجمته ووضعت عليه «خُرْجًا» فيه ما يلزمني من مواد البخور وأعواد الثقاب والفحم وسُبحة وموقد صغير وإبريق فيه ماء، ووضعت فوق «الخُرْج» فروة صغيرة لجلوسي، ثم ركبت الحمار بعد أن صار أعلى من البغل وسرت به بين المساكن إلى الجبل، وكان الناس قد ألِفوا مني هذا الخروج، فلم يلتفت إليَّ أحد، ولكني كنت أعجب لهم في ذلك اليوم كيف لا يدهشهم أن يروا الحمار سائرًا وحده وليس عليه راكب؟ وعللتُ ذلك بأن السرَّ الذي أخفاني عن أبصارهم لا بد أن يكون قد امتد إلى الحمار أيضًا فتوارى مثلي عن العيون، فجعلتُ أتلفَّت يمينًا وشمالًا وأضحك، واتفق أني مررت بشيخ كليل البصر وإن كان فيما ترى العين سليم النظر، ولكني لم أكن أعرف ذلك — فحككت له أنفي بسبابتي ورحتُ أُخرِج له لساني وأمطُّ شفتي تحت أنفي، فلما لم أجده التفت إليَّ صفقت من فرط الجذل، ففزِع الرجل قليلًا، فقلت لنفسي سمع الصوت، ولم يرَ الشخص فحَقَّ له أن يفزع، فطغى بي الطرب ولم أعد أطيق هذه المشية الهينة، فضربت الحمار فمضى يعدو بي إلى الجبل. وهناك في سفحه ترجلتُ وربطته إلى حجر على باب كهف صغير كنا — وأعني غلمان الحي — نُقيِّل فيه إذا حميتْ الشمس، وفرشتُ الفروة في جوف الغار ووضعتُ الفحم في المَوقِد، وأشعلتُ فيه النار وتركته للريح قليلًا لتضرمه، واستلقيتُ أنا على الأرض، وانطلقتُ أفكِّر فيما سيكون من أمر الفتاة معي بعد أن أفرُغ من العمل، وجمح بي الخيال فبدا لي كأني في التهليل والتسبيح والدعاء فجاءني رجل وجلس عن يميني لم أرَ في زماني أحسن منه ولا أطيب ريحًا، فقلت: مَن أنت؟ قال: أنا الخِضر جئتك حبًّا في الله عز وجل، وعندي هَدية أريد أن أهديها إليك فقلت: وما هي؟ قال: هي أن تقرأ. فقاطعته وقلت: كفى. كفى. لقد بح صوتي من القراءة فدع هذا وهات لي … ولم يعجبني هذا، فاختصرت الحكاية وجعلتُ الخَضِر يقوم مغضبًا وأنا لا أعبأ شيئًا، وعدلت بالخيال إلى سواه فتصورتُ الفتاة تهُبُّ من النوم مذعورة تلهج باسمي ويهتف بها هاتف أن اخرجي إلى مكان كذا في سفح الجبل، فتخرج في ظلام الليل حافية عارية الرأس في ثياب النوم ولا تزال تجري حتى تبلغ الكهف دامية القدمين من وخز الحصى والرمال، فتقف بالباب وتناديني فأدع القراءة وأصيح: مَن؟ فتقول: فلانة (أو لعل الأحسن أن تقول حبيبتك فلانة). فأقول: «ماذا يجيء بك إلى هنا؟» فتقول: «لم أُطِق صبرًا.» بل أجعلها تقول: «رأيتك في نومي ناظرًا إليَّ محدقًا فيَّ فجذبتني عيناك ولم أزل أسير على ضوئهما حتى جئتُ إليك.» فأقسو عليها وأنتصف لنفسي منها وأؤدِّبها غير أدب الصباح حين تهكمتْ عليَّ وهنأتني بأن صرت خادمًا أقول لها: «ارجعي من حيث جئتِ فما بي حاجة إليك.» فتجثو على ركبتيها وتتوسل إليَّ أن أدعها ولو عند قدمي … ولم يعجبني أن أتصورها تجثو عند قدمي، فقد كنت رقيق القلب مهذب النفس فغيَّرت الموقف واعتضت منه آخر، فشرعت أغازلها تلميحًا لا تصريحًا، وأصف لها جارة دميمة الساقين ضخمة القدمين فتسألني: ماذا تعني؟ فأقول: أعني أن للساق الجميلة سِحْرها. فتقول: «ولكن ماذا يعنيك من ساقَي هذه الفتاة؟» فأقول: «إنها تفسد عليَّ اليومَ كله حين أراهما، وأخشى جدًّا أن تفسد لي صحتي.» فتقول: «إنك مضحِك ولستُ أفهمك.» فأقول: «تصوَّري هذه الفتاة التي سلبتْها الطبيعةُ كل مفاتن المرأة كيف يكون ألمُها لو أن الشهرة (المَوْدَة) كانت تقضي بأن تكون ثياب النساء قصيرة؟ كيف تجرؤ أن تبدي ساقيها لعيون الناس؟!» ثم أُطرِق برهة فتردني إليها بسؤالها عني: ماذا بي؟ فأقول: «بي هذه الطبيعة التي تأبى إلا أن تخرج إلى الدنيا مثل هذا التشويه.» فتقول: «لعل الفتاة سعيدة لا تفطن إلى عيبها.» فأقول: «سعيدة؟ أتكونين أنت سعيدة لو كنت مثلها؟» فتسري في بدنها رعدة خفيفة فأكُرُّ عليها بقولي: «بأي حق تمنحك الطبيعة كل ما حبتك من المفاتن وتسلب تلك المسكينة كل هذا الذي ضنَّت به عليها؟» فتتهلل أسارير وجهها وتقول: «ولكن لعلها لا تكترث لذلك.» فأقول جادًّا: «أين الفتاة التي لا تحفل أن تكون دميمة؟ تصوري ما لا بد أن يصيبها من الألم حين تراك؟» فترفع عينها إليَّ وتحدِّق في وجهي لتقرأ فيه المعنى الذي أرمي إليه والذي يغالطها صوتي في حقيقته وأمضي أنا في حديثي فأقول: «إن كل ما جادت به الطبيعة عليك ينقصها …» فتقاطعني وتقول: «ولكن ما ذنبي أنا حتى تحطِّم لي رأسي بها؟» فأقول معتذرًا: «هل ضايقتك بحديثها؟ إني آسف. ولكن هذه المناظر تستفز نفسي وتثير سخطي كأني وحش.» فتقول: «ألا تظن أنك قد تفيء إلى السكينة والهدوء إذا تركتك وحدك؟» فأنهض وأقول: «لا لا لا! يا لها من فكرة شنيعة!» فتقول: «إنك على ما يظهر …» فأقاطعها وأقول: «سأنسى ساقيها ولا أفكر إلا …» ولكني لم أشأ أن أعترف لها حتى في الخيال ولم يرُقني هذا الحوار وما فيه من اللف والدوران، فغيَّرت المنظر وحوَّلت الصحراء المحيطة بي جنة فيحاء حافلة بالشجر حالية بالزهر، وتصوَّرت نفسي أطوف فيها باحثًا عن فتاتي، ثم إذا بي أرى ثوبها فأمضي إليها على أطراف أصابعي، فيعترضني حاجز من النبات الكثيف الشائك فيخطر لي أن أتسلل إليها حتى أصير إلى جانبها قبل أن تشعر بي، ولكن النبات المتشابك تحيط بي أشواكُه وأنا أعالج اختراقها، وتسمعني هي فتدير وجهها إلى ناحيتي فتراني، فتصبغ الحمرةُ وجهها — ومن عنقها إلى جبينها — ويعبث النسيم بشعرها ويطير على وجهها وكتفيها فتمسحه بكفِّها وتردُّه عن جبينها، ثم تقف ويداها في جانبي خصرها، وشفتاها مفترقتان من المفاجأة، وكأنها تحاول أن تعلق أنفاسها مخافة أن تذهب زفرةٌ بالسرور المباغت الذي شاع في كيانها حين رأتني. ثم تهمس «إبر … اهيم.» فأصيح وأنا أُعالج من أسرِ الأشواك: «لقد سُجنتُ هنا.» فتقول: «لقد قلت لي: إنك لن تأتي قبل أسبوعين ثم هذا أنت.» فأقول «إذا لم تأتي إلى نجدتي فلن أجيء إليك قبل عام.» فتضحك ويسرُّها ما أنا فيه فأصيح بها: «مهلًا ريثما أتخلص.» وأحاول الخلاص فأزيد تورطًا، فتصفق وقد أمتعها منظر اعتقالي وتقول: «لن تنفذ أبدًا من هنا. فارجع. ذلك خير وأسرع.» وتخزني شوكة فأُهيب بها أن تنجدني فتضحك وتقول: «إن منظرك ظريف. ليت هناك مرآة فترى نفسك فيها.» فأضحك من نفسي وأقول لها: «إني لم أمشِ كل هذه المسافة ليكون منظري مضحكًا. وما أراني أستطيع الآن أن أحرِّك إصبعًا فإن الشوك يتلقاني من كل ناحية. بالله نحي هذه الشوكة عن ذقني فإنها تكاد تقتلني.» وترى الدم سائلًا من ذقني فيدركها العطفُ عليَّ، فتنحِّي الشوك بيديها عن وجهي وتضغطه بكفيها فيدنو وجهها مني، وتصبح عيناي في عينيها، وأنفي قبالة أنفها، وفمها أمام فمي، ويقرأ كل منَّا في عيني صاحبه من آيات الحب ما لا سبيل إلى العبارة عنه، ثم يدور رأسها، وتهيم نظرتها وتهوي على فمي بفمها، ويحُطُّ في هذه الساعة عُصيفير على غصن وينطلق يغرِّد. ولما بلغتُ إلى هنا فيما تخيلتُ وبينما أنا أتذوق القبلة التي تصورتُها مطبوعة على فمي، نهق الحمار! فانتبهتُ مذعورًا من حُلمي اللذيذ! ومُحيتْ الصور الفاتنة وانتسختْ الخيالات الأنيقة المعجِبة وردَّني الصوت المنكَر إلى ما جئتُ من أجله، فقمتُ متثاقلًا وفرشت الفروة في أرض الكهف وأطلقت البخور في المَوقِد، وقمت إلى الصلاة، ثم شرعت في التلاوة على نحو ما حتَّمت الورقة. ••• ولا أدري ماذا أصابني، ولكن الذي أدريه أني ظللت أقرأ وأقرأ في جوف الليل وأُطلق بخور الجاوي واللبان، ثم لم أعد أعي شيئًا. ولما قمت في الصباح كان ضوء الشمس قد غمر السهل والجبل، فخرجت من الغار وأنا لا أفهم، وأدرت عيني في كسل وفتور ثم تذكرت الحمار، فجمُد دمي في عروقي، وأحسست العرق البارد يتصبب. أين ذهب؟ وكيف يفك القيد عن أرجله ويحل اللجام عن الصخرة؟ ولا خير في الإطالة فقد سرقه اللصوص وأنا ملقى كالجثة في جوف الغار، بارك الله في جَدي وفوائده …!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/11/
الفروسية
دُعينا مرة — أنا وطائفة من الإخوان — إلى قضاء يومين في ضيعة أحدهم، وكانت قريبة من إحدى الضواحي فركبنا القطار إلى … وهناك وجدنا طائفة شتى من الخيل والبغال والحمير، فتوهمت في أول الأمر أن هناك سوقًا للدواب أو معرضًا لها. ثم علمت أنها لركوبنا. فاخترت من بينها حمارًا صغيرًا وهممت بامتطائه، ولكن صاحب الضيعة وداعينا عزَّ عليه أن يركب «المازني» حمارًا، وجاءني بجواد أصيل وأقسم عليَّ لأركبنَّه. فاستحييت أن أقول له إني أخاف ركوبه، وإنه لا عهد لي بالخيل، ودنوت من بعض الخدم وهمست في أذنه هذا السؤال: «قل لي: كيف تركب هذا الحصان؟» فتأملني مليًّا ثم قال وعلى فمه طيف ابتسامة: «على ذيله!» قلت: «على ماذا؟» وأشاح عني بوجهه. فذهبت إلى الجواد وأدرت عيني في ذيله ثم هززت رأسي وعدت إلى الخادم أسأله: «ألا تظن يا صاحبي أن الأحزم أن أمتطيه قريبًا من العنق لأستطيع عند الحاجة أن أطوقه بذراعي؟» فلم يزد الرجل على أن قال: «ربما» وانصرف عني إلى سواي، وكنَّا جميعًا في هرج ومرج نصيح ونضحك، وكان لا بد أن أفعل شيئًا فناديت مضيفنا وقلت له: «أريد سلَّمًا.» قال في دهشة: «سلَّمًا؟ ما حاجتك إليه؟» قلت: «حاجتي إليه أني أريد أن أصعد إلى ظهر هذا المُجَلِّي يا صاحبي.» فضحك وقال: «أنا أساعدك» ودفعني على ظهر الجواد دفعة خُيل إليَّ أنها ستلقيني على الأرض من الناحية الأخرى. وسرنا مسافة على مَهْل ثم وخز أحدنا دابته فمضت تعدو واستحثَّ آخر مطيته، وانطلق بها وراءه، واقترب مني ثالث وأهوى على جوادي بعصا معه، فوثب الجواد وراح يسابق الريح — أو هكذا خُيل إليَّ — وأنا أعلو وأهبط فوقه، حتى أحسست أن أمعائي ستتقطَّع، وأتلمس بيدي شيئًا أمسكه وأتعلق به فيفلت من قبضتي كل ما تصل إليه، فارتميت على عنقه وطوَّقتها، وجعلت أنادي مَن حولي وأناشدهم الذمة والضمير والمروءة أن يوقفوا هذا الشيطان. وأدرك أحد إخواني العطف عليَّ، فصاح بي «ولكن كيف نوقفه ونحن راكبون؟» فغاظني منه هذا البَلَه ولم يفتني ما في الموقف من فكاهة على الرغم من الألم الذي أعانيه وما أتوقعه إذا ظل الجواد يركض بي، فقلت له: «يا أبله انزل واقبض على ذيل حصاني وشُدَّه.» وكان أحد الخدم قد أدركني وأمسك باللجام ورد الجواد، فما أسرع ما انحدرت عنه، وكأنما أعجبتني جلستي على الأرض، فأخرجت سيجارة وأشعلتها وذهبت أُدخِّن، وجاءني مضيفنا على أتانه فسألني: «أتنوي أن تقعد هنا إلى الأبد؟» فأغضيت عن سؤاله وقلت: «إن بي حاجة إلى الشعور بثبات الأرض بعد كل هذا التقلقل وتلك الزعزعة.» قال: «ولكنك لا تستطيع أن تظل جالسًا هكذا. إن أمامنا سير ساعة.» قلت: «سألحق بكم إذن، أو أرجع إذا كان لا بد من ركوب هذا الزلزال.» قال: «ولكن لا يليق أن تركب حمارًا.» قلت، وقد صار في وسعي أن أضحك: «في وسعك أن تعلِّق ورقة تكتب فيها أنه جواد مُطَهَّم.» قال: «لا تمزح، قم اركب حماري هذا.» قلت: «إذا كان الحمار عاليًا فما الفرق بينه وبين الجواد؟» قال بلهجة اليائس أو المنتقم: «إذن خذ هذا.» وأشار إلى جحش قميء مهين يركبه خادم، لا سرجَ عليه ولا لجام له، فقمت إليه وامتطيته بوثبة واحدة وبلا مُعين. واعترضتنا قناة عريضة عليها ألواح مثبتة تقوم مقام الجسر، وبين الألواح والماء تحتها مترٌ على الأقل، فلما توسَّطها الجحش بدا له أن يقف، وراقه منظر الماء، فأجال فيه عينيه برهة ثم خطا إلى حافة الجسر — ولم يكن له حاجز — ومد عنقه إلى الماء، فظننت أنه قصير النظر وأنه يفعل ذلك ليكون أقدر على رؤية خياله في الماء واجتلاء طلعته البهية في صقاله، ولكنهم قالوا لي: إنه كان يريد أن يشرب. فنزلت عنه وقلت له: «يا عزيزي إن من دواعي أسفي أني مضطر أن أتركك إلى الماء وحدك. فإن ثيابي يفسدها الماء وهي غالية إذا كانت حياتي رخيصة.» ولكنه بعد أن فكَّر قليلًا غيَّر رأيه، إما لأن الصورة التي طالعته في صفحة الماء كانت مضطربة مشوَّهة وعجز الماء عن أداء ما فيها من جمال وروعة، أو لاعتبارات حمارية أخرى لم يكاشفني بها. فأدار وجهه ومضى غير ملتفت إليَّ، غير أني لحقت به بعد أن اجتاز الجسر، وقلت له: «تعالَ لا تهرب مني يا صاحبي» وكنت على ظهره قبل أن يتمكن من الاعتراض أو الاحتجاج أو الإفلات. ويطول بنا الكلام إذا أردت أن أصف كل ما أمتعني به من الفكاهات العملية، فقد كان فيه عناد وصلف، وكان يأبى أن يتوسط الطريق ولا يرضيه إلا أن يحك جنبه في كل ما يلقاه من شجر أو عربة أو حائط، وكان ربما وقف وغرس رجليه في الأرض. ونام. وتعودت منه ذلك وفطنت إلى أنه ذو مزاج مستقل، فكنت أتركه واقفا حتى ينتبه من هذه الإغفاءات، أو يعود إليَّ من سبحات عقله السقراطية، فنستأنف المسير وحسبي وحسب القراء أن أقول لهم: إني أسفت على فراقه لما انتهت الرحلة، وتمنيت لو أن صحبتنا كانت أطول.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/12/
الطفولة الغريرة
أظنني كنت في الرابعة أو الخامسة، فما أذكر على التحقيق كم كانت سني، والطفل عندنا — أعني في بلادنا — لا يفكر، أو على الأصح لا يُسمح له أن يفكر في مثل هذه السن، ويُخيل إليَّ الآن وأنا أدير عيني في تلك الأيام كأن وظيفة الآباء والأمهات كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية. والطفل — كما تعلم الآن — أكثر ما تكون حيويته في أعضائه، فرغبته في الجري والوثب وما إلى ذلك طبيعية، وهو أشد من الكبار صبرًا على ذلك ولجاجة فيه لقلة ما يشغله غيره، وهو جديد في هذه الدنيا، فشوقه إلى معرفتها معقول، ومن هنا مدَّ يده إلى كل ما تقع عليه عينه وتناولِه وتقليبه وتحطيمه أو إفساده، وليس التحطيم أو الإفساد غايته، ولكنها المعرفة، والآباء يشفقون على أشيائهم من مغبة هذا التناول، فيمنعون التجربة ويأخذون على المعرفة طريقها. ولست أذكر أني هممت مرة باللعب إلا زجرني عنه واحد من الكبار، أو مددت يدي إلى شيء إلا نُهيت عن لمسه، وما كان أصعب السكون المُقضَى عليَّ به، بل ما أقل ما كان الجمود يرضيهم! فأنا إذا لعبت «شقي»، وإذا سكنت فلا شك أني مريض! وكان ملجئي الوحيد أبي، هو وحده الذي كان يبدو لي أنه يفهم. وقلما كنت أجالسه لأنه رجل، والرجل في ذلك العصر، مكانه بين الرجال لا بين الأطفال والنساء، حتى الأكل كان يتناوله وحده، أو مع ضيوفه في «منظرة» الرجال. حتى القهوة تُصنع وتُرسل إليه. فهو في منزله وحده، وكل مَن في البيت يخدمه حتى أمي. بل حتى أمه هو. يستيقظ أهل البيت ويكون هو لا يزال نائمًا. فالكلام همس، والسير على أطراف الأصابع، والأطفال يُحملون إلى مكان قصي من تلك الدُّور القديمة الواسعة لئلا توقظه ضوضاؤهم. ثم يفتح عينيه ويتثاءب فينقلب السكون جلبة، هذه تجيء بالطشت والإبريق للوضوء، وهذه تُعِدُّ الشاي، وتلك تهيِّئ الطعام، وكأنما يتعمد كل إنسان أن يُسمِعه صوته ويُثبت له أنه يتحرك في خدمته، فالأصوات عالية، والنداءات متتابعة، «والقباقيب» ملبوسة والأرجل تدُب، ويكون الشيء المطلوب تحت أنف الطالب فيقطع المكان ذاهبًا وآيبًا عشر مرات قبل أن يمد يده إليه، ويصيح وينادي ويسأل عنه كل مخلوق قبل أن يتفضل ويراه، ويحاسب كل مَن في البيت على اختفائه ويتوعَّد ويُنذر، حتى إذا ظهر — وهو أدنى شيء منهم جميعًا — انطلق طالبه المتعامي عنه يصف الإهمال والعمى بما يفتح الله به عليه. ثم تقص هذه الحكاية بتفصيل وافٍ شافٍ لأبي وهو يفطر أو يشرب القهوة على سبيل الاعتذار من الإبطاء، عليه والشكوى من الخدم وسائر أهل البيت، والتذمر من الدنيا وسوء الحظ فيها، والتبرم بهذه المتعبات التي تحفل بها ساعات الليل والنهار. ولا أزال أذكر «علقة» من أجل هذا، وكانت أمي تطلب الطشت من الحمام والإبريق على بابه، فاحتملت الخادمة الطشت وذهبت به ولم ترَ الإبريق، فذهبت تسأل عنه خادمة أخرى أصغر منها وتصيح بها: «أين وضعت الإبريق يا ملعونة؟» فقالت الصغرى في ذلة وخوف: «لم أرَه والله!» فصرخت الكبرى: «كيف لم تريه؟ لقد وضعته بيدي في الحمام فهل أخذه العفاريت؟!» ودفعتها بيدها وأطلقتها لتبحث عن الإبريق فدخلت المسكينة ووقفت بباب الحمام وأسندت كتفيها إلى الحائط ولكنها لم تبحث عن الإبريق، وكان بجانبها على مسافة شبرين منها، بل وقفت تبكي لا كما يبكي الناس، بل بحنجرتها دون عينيها. أعني أنها كانت تُخرِج مثل صوت الباكي المعول ولكن عينيها جامدتان. ودخلت في أثرها الخادمة الأخرى وأمي وراءها. وعلا الضجيج وكثر الكلام، وكنت أنا أشاهد هذا كله وأرى الإبريق، ولكني كنت مفتونًا بهذا الحوار الذي يدور على لا شيء، فلم أدِلَّهم على مكانه، ولو أني تكلمت لضاع صوتي الصغير ولغرق في طوفان هذه الضوضاء، على أني لم ألبث أن شعرت كأن رأسي سيتهشم وعجزت عن احتمال هذه الحال، وبدا لي — لسوء الحظ — أني حقيق بأن يكون لي من احترام النساء للرجال حظ ولو قليلًا قياسًا على ما أراه من إجلالهن لأبي، فصِحتُ بهن، وأمي في جملتهن. «يا للعمى! ألا ترين الإبريق وهو تحت أنوفكن؟ ما هذه الضجة الفارغة؟ لقد أوجعتن رأسي!» فكان جزائي — كما أسلفت — علقة. ••• نعم، كان المنزل جحيم الطفل. فهو مطالب بأن يكون له عقل الكبار واتزانهم وفَهْمهم، ولكنه محروم من مزاياهم ولا يُعامل معاملتهم. وكل شيء يصدر عنه معيب وخطأ. فاللعب عيب، والصمت عيب، والتهويم في المجلس عيب، والأرق عيب، والاستفهام عيب، ولا شيء فيما يرى الطفل محمود مشكور. ماتت بنت خادمتنا — وكانت في مثل سني — ولم أعلم أنها ماتت؛ لأنهم أجلوني عن البيت وأرسلوني إلى عمتي، فلما عُدتُ ولم أجدها سألت عنها لأني افتقدتها، فكان كل مَن أستفسر منه عن اختفائها يتجهَّم لي وينهرني عن السؤال لأنه عيب. فذهبت إلى أبي، وكان حليمًا صبورًا رضي الخلق، فسألته عنها فأخبرني أنها ماتت. فعجبت ولم أفهم كيف تجرؤ أن تموت. فسألني أبي بدوره عن سر عجبي. فقلت له: «لأنها صغيرة.» قال: «ولكن الموت ينزك بالكبار والصغار على السواء.» فألححتُ وقلتُ: «ولكن يا أبي إنها لا تزال صغيرة فكيف يجوز أن تموت؟» قال: «يا بني لا اعتراض على قضاء الله.» قلت مصرًّا: «ولكنها صغيرة وهذا عيب.» فضحك ومسح رأسي بكفه فلم أزد إلا لجاجة وقلت: «يا أبي. هل تسمح لي أن أُفهِمها أن هذا عيب وأنها لا يصح أن تموت؟» قال وقد ضجر على ما يظهر، وإن ظل يبتسم: «يا بني كيف يكون الموت عيبًا؟» قلت مستغرِبًا: «أليس الموت عيبًا؟» قال: «كلَّا. إنها آجال.» فأعجبني أن يكون الموت آجالًا وطرِبت جدًّا. ودنوتُ منه ووضعت كفي على خديه وقلت وقد خُيل إليَّ أني ظفرت بملهاة جديدة: «إذن ليس من العيب أن أموت أنا أيضًا.» فصاح بي: «أعوذ بالله!» واكفهرَّ وجهه لا أدري لماذا «إياك أن تقول كلامًا كهذا مرة أخرى.» لا أدري لماذا! … لقد فهمت … ولكن بعد سنوات، تُرى ألم يكن في الوسع اختصارها. وصار لي أخ صغير. لم أرَه حين جاء لأني أُجليت عن البيت، فلم أكن في استقباله. ولما عُدتُ وأخبروني وسألت عنه من أين جاءوا به، قالوا، أو فهمت أنا منهم: إنه من عند الله، وإن الله هو الذي يرزق الآباء، فاقتنعت ورُحت بعدها أتوقع أن أتلقى كل يوم من عند الله أخًا جديدًا وساءني أن يرزقني الله أخًا لا أختًا. فسألت أبي: لماذا لم يرسل الله لي أختًا بدلًا من هذا الأخ؟ قال: هذه مشيئة الله ولا حيلة لنا فيها. قلت: ولكني أريد أختًا … فقال: ادعُ الله. فلبثتُ بعدها أدعو الله ولاسيما قبيل النوم، وكنت أتوقع في كل مرة أن أصبح فأجد الأخت المرجوة تحت السرير أو في الدولاب أو بجانبي، ولكن الله لم يستجب لي قط. ••• وكان في البيت اثنان لا أراهما أبدًا وإن كان ذكرهما على لسانَي أبي وأمي، وهما «الست» و «الأفندي»، فأبي يقول للخادمة مثلًا قولي كذا أو كذا «للست»، ويتحدث في أوقات شتى ولاسيما حين يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه «الست»، وأمي لا تفتأ تقول «الأفندي قال، أو الأفندي أتى، أو الأفندي خرج» فأعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما؟ وأصعد إلى السطح باحثًا عنهما فلا أجدهما، وأدخل كل غرفة فلا أهتدي إلى أثرهما، وأنزل إلى فناء الدار فلا ألتقي بهما. أين ينامان يا تُرى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبدًا؟ وعلى كثرة ما فكرت في أمرهما وبحثت عنهما لم يفتح الله عليَّ بخير من أنهما لا محالة يلبسان «طاقية الإخفاء»، ولشد ما كان يلج بي الشوق إلى رؤيتهما، يدركني العطف عليهما أيضًا! وكثيرًا ما كنت أقوم من النوم على صوت — لعله موهوم — فأتخيَّل أنهما داخلان، وأرهف سمعي وأنشر أذني في الليل وأفتح عيني جدًّا وأحدِّق في الظلام، وقد قمت على ذراع وربما تسللت إلى كل غرفة لعلي أبصرهما، ناسيًا في سبيلهما مخاوفي وما تثيره الظلمة، في نفوس الأطفال. واتفق مرة أنَّا كنَّا جميعًا جلوسًا في غرفة أبي وكان مريضًا — فدخلت الخادمة فأسرَّت شيئًا إلى أمي، فقالت لها هذه «أخبريه أن الأفندي مريض»، فصعدت روحي إلى حلقي وشعرت بالأسف على «الأفندي» والألم له، والفرح أيضًا؛ لأن مرضه قد يتيح لي أن أراه أخيرًا … ودنوت من أبي — وكنت عليه أجرأ — فابتسم لي ومد يده فوضعها على كتفي فأطرقت برهة ثم رفعت عيني إليه وقلت: «بابا.» قال: «نعم» وجذبني إليه في رفق وعطف. قلت: «كيف صحة الأفندي.» فضحكوا جميعًا، أبي وأمي وجدتي وعمتي و… لا أدري مَن أيضًا. وقبَّلني أبي، ولكنه لم يجبني لا هو ولا سواه. فلم أفهم هذا، وأحسست بالغيظ، ورحت أنظر في وجوههم نظر المحنِق. ثم تولَّني العناد، فعُدت إلى أبي أسأله عن صحة «الأفندي»، فنظر أبي إلى أمي فتناولت هذه يدي وقالت: «عيب، الأولى كانت عفوًا. وقد فاتت ولكن لا يليق أن تكرِّرها.» فكدت أُجن. لماذا يُخفون عني الأفندي والست، وهما يراهما كلُّ إنسان سواي، ويحادثهما على ما يظهر لي مما أسمع؟ لماذا أُحرم وحدي أن أبصرهما وأكلمهما؟! فقلت: «ولكني أريد أن أرى الأفندي.» فقالت أمي: «عيب قلت لك عيب.» وفي هذه اللحظة دخل جَدي على مَهْل، ويظهر أنه سمع أمي تنهرني، وكان شديد الحنو عليَّ فسأل «ما له؟» فقصُّوا عليه الحكاية. فابتسم وأجلسني على ركبتيه ولم يزل بي حتى سرَّى عني، وجفت دموع الغيظ التي كانت تترقرق في جفني فشرحت له المسألة وكشفت له عن جهودي التي بذلتها في الاهتداء إلى «الست والأفندي»، ولم يبقَ في الغرفة أحد لم يضحك مني. ولكني كنت فرحًا بإصغاء جَدي وتشجيعه لي، وما كان يبدو على وجهه من الاغتباط والجذل، فلم أعبأ بالضحك، ولما فرغت سألته: «والآن هل ستخفيهما أنت أيضًا عني؟» قال: «لا. لقد أخطئوا معك يا بني. وكان حقهم أن يدلوك.» واستغنيت بعد ذلك عن البحث والتنقيب، فقد عرفت «الست والأفندي» وضحكت أيضًا لما عرفتهما.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/13/
مقتطفات من مذكرات حواء
هذه المذكرات موضوعة على نسق «مذكرات آدم» للكاتب الأمريكي مارك توين (سامويل كيمينز) وهي تشبهها في الأسلوب الفكاهي، وقد جاريته في أشياء لم أدرِ كيف أخالفه فيها، مثل إنكار آدم أن حواء مخلوقة من ضلع من جنبه، واستغرابه بكاءها — والبكاء أشبه بالأنوثة — وعدم فَهْمه الأمومة إلخ. إلخ. أولًا: أن الخلود يمتنع معه الإحساس الجنسي، وأن قضاء الموت هو الذي يثير هذا الإحساس ويُنشئ غيره أيضًا. ثانيًا: أن المرأة مخلوقة للنوع، فالغريزة الجنسية فيها أقوى منها في الرجل. ثالثًا: أن المرأة أقدَمُ معجم للغة، فهي التي وضعت الأسماء ونحتت واشتقت وصقلت الألفاظ بكثرة الاستعمال. رابعًا: أن الخجل من مقتضيات المعرفة والإدراك. خامسًا: أن الأمومة أقوى وأبرز من الأبوة؛ لأن المرأة هي الأداة لحفظ النوع. وقد تناولت هذه المعاني من قبلُ في مقالات عدة، نُشر بعضها في «حصاد الهشيم»، مثل: «الجمال في نظر المرأة» و«مقتضيات الخلود»، وفي «قبض الريح» مثل: «المرأة واللغة أول معجم وأقدم ديوان»، ومقالات أخرى نشرتها في «السياسة الأسبوعية» ولم تُجمع بعدُ في كتاب. السبت، وجدتُ أن ما أغراني به آدم من كتابة المذكرات اليومية قد شغلني عنه، وأتاح له أن يطوف في الجنة وحده، وهو لا يفتأ يصبحني بالسؤال عن مذكرات اليوم السابق هل دوَّنتها، وينصح لي بأن أكتبها قبل أن أنسى ما حدث، ولا أكاد أشرع في الكتابة حتى أراه ينسل ويذهب لا أدري إلى أين، ومن أجل هذا عقدت النية على ألا أكتب إلا في الليل بعد أن ينام. الاثنين، آدم لغز لا أكاد أفهمه، لم يكن يعرف حتى أن اسمه آدم، ومن قوله أنه لا يشعر بالحاجة إلى اسم ما، ولما قلت له يومًا إن اسمي حواء قال: «ربما!» أليس هذا منه عجيبًا؟ وأعجب من ذلك أني قلت له إن عليه من الآن فصاعدًا أن يدعوني باسمي، فإنه أعذب في أذني من «هش هش» التي لا يزال يفتح فمه بها عليَّ، فقال: إنه يقصد حين يصيح بي «هش هش»، أن أذهب عنه لا أن آتي إليه، وأنه لا يحتاج أن يناديني أو يدعوني لأني لا أكاد أفارقه، فمن العبث أن يكون لي اسم إذا كانت فرصة استعماله لا تعرض أبدًا، فلما احتججت عليه بأن لكل شيء في الجنة اسمه الذي يُعرف به، زعم أني أنا التي اخترعت هذه الأسماء وأطلقتها على مسمياتها، وأنه لا يدري لماذا أجشمه حفظ هذه الأسماء كلها وتصديع رأسه بها، وزاد على ذلك أنه لا يرى هذه الأسماء منطبقة على الأشياء أو موافقة لها، ودليله على هذا أنه ما من حيوان يجيبني حين أدعوه باسمه، ولكن هذا مع ذلك لا يعنيه، وإذا كان يروقني أن أكلِّف نفسي مشقة التسمية فأنا وما اخترت لنفسي، غير أنه يرجو مني ألا أشركه في هذا العبث. وهذه أول مرة سمعت من آدم مثل هذه الكلم فحزَّ في نفسي وآلمني فبكيت وتوجعت، ولشد ما كانت دهشتي حين نهض آدم ودنا مني ورفع وجهي إليه وجعل يتأمل عيني! بل لقد همَّ بأن يضع إصبعه في عيني، فنحَّيت يده عن وجهي وقلت له وقد غيَّض الغيظ والغضب عَبراتي: «ألا تكفيك قسوة لسانك حتى تريد أن تفقأ عيني؟» فادَّعى أنه لا يفهم كلامي وزعم أنه إنما كان يبغي أن يرى من أين يجيء الماء الذي يسيل من هذين الثَّقْبَين في وجهي. وقال: إنه لم يرَ حيوانًا آخر غيري يفيض الماء من ثقوب وجهه، فصدفت عنه وبي من الألم ما لا أُحسِن وصفه. فلم أرَ أنه عَبِئ بصدِّي عنه شيئًا، وطال انتظاري أن يعود إليَّ ليعتذر، فخرجت من الكوخ أطلبه فألفيته ممسكًا هِرة يحاول أن يعصر لها عينيها وهي تجاهد تريد التخلص من قبضته القوية، فاختطفتُها منه وسألته: «ما هذا الذي تصنع؟» فلم يجبني على سؤالي، ورفع إليَّ وجهًا قرأت في أساريره الدهشة والملل وقال: «ها ها! أو جئت ورائي؟» فأعدت عليه السؤال فكان جوابه أنه أراد أن يعرف من أين يجيء الماء إلى هذه الثقوب التي أسميها العيون. فأيقنت أنه لم يكن يروم أن يفقأ عيني، وصفحت عنه وزدت تعلقًا به. الثلاثاء، لا يزال آدم يضحك مني كلما خرجت إلى البركة لأنظر فيها إلى نفسي، ولاسيما بعد أن وقعت فيها وأنا أتأمل خيالي في صقالها. ليته ينظر في مائها الصافي مرة. إذن لكفَّ عن هذه السخرية. وما أنسى يوم قمت فألفيتني راقدة في ظلٍّ وارفة الأظلال لَفَّاء، وكيف ذهبت أعجب لنفسي من عسى أن أكون؟ وأين أنا؟ وماذا جاء بي إلى هنا؟ وكيف كان ذلك؟ وكان على مقربة مني كهف يتدفق منه الماء إلى بِركة. فقصدت إليها وانطرحت على بساط الروض، وجعلت أنظر في الماء وإذا تحت عيني — في جوف الماء — صورة تنحني وترمقني، فتراجعت فارتدت مثلي، فعدت أنظر، فعادت تحدِّق في وجهي بعينين جميلتين يفيض منهما العطف والحب، فلولا صوت رحيم هفا به النسيم إليَّ «إن ما ترين ليس إلا صورتك وخيالك»، لما انصرفت عن الماء إلى هذه الساعة، وإن آدم لقوي وجميل، ولكن ذلك الخيال الذي يتراءى لي في الماء ألين وأعذب. الخميس، كل يوم يبدو لي من آدم خُلقٌ عجيبٌ. كنت ألومه وأشكوه إلى نفسي وأؤنبه على هروبه مني واختفائه بين الأشجار، وأقول له فيما أقول: «إني أنسى كل شيء حين أكون معك، حتى الجنة لا أباليها ولا أحفل ما فيها، وإن نسيم الصبح حين يهبُّ بأصوات العصافير لذيذ، وإنه ليس أطيب من ريا الأرض بعد أن يجودها من السماء هاضب، ولا أرق من مقدم الليل علينا بنجومه الزهر وقمره الساري، ولكن ما من شيء في الأرض ولا في السماء يروقني أو يفتنني إذا لم تكن معي. فالعجب لك كيف تطاوعك نفسك على مجافاتي والفرار مني وأنا بعضك؟» ففتح عينيه جدًّا وقال: «بعضي، ماذا تعنين؟» فقلت: «نعم بعضك! ألست قد خُلقت من ضلع في جنبك الأيسر؟» فوثب إلى قدميه وقال: «من ضلع في جنبي؟ مَن قال هذا؟» قلت: «إنها الحقيقة.» فرفع يده إلى صدره وجعل يمر بأصابعه على ضلوعه ويتحسَّسها بعناية، ثم نظر إليَّ وقال: «هذا غير صحيح. إن ضلوعي كاملة لا نقص فيها وقد عددتها أمامك.» الجمعة، قال لي آدم إن في هذه التي أسميها «جنة عدن» أشياء كثيرة تسترعي النظر والسمع أيضًا، ولكني لا أنتبه إليها؛ لأن لساني لا يكفُّ عن الدوران، وأضاف إلى ذلك أني أنا المخلوق الوحيد الذي لا ينتفع بعينيه وأذنيه. وأني أُفسِد عليه الطواف في «الجنة» وأُحيل المقام فيها كالمقام في «ذلك المكان الآخر.» وقد اغتنمت هذه الفرصة ونبهت آدم إلى أني «أنثى»، وأن عليه أن يكفُّ عن مخاطبتي أو الإشارة إليَّ بضمير المذكر، فهزَّ رأسه وقال: إنه يشك فيما أقول، ولكن الأمر لا يعنيه وإنه سيتحرَّى مرضاتي ما دام أن هذا يسرني، عسى أن يكفَّ هذا الرضا من غَرْب لساني الذي لا ينفك يعترض. السبت، لم أكن أنوي أن أكتب اليوم شيئًا. ولكني عثرت بقصاصة بخط آدم قرأت فيها هذه العبارة: «لقد كانت أيام الأسبوع كلها جُمعًا قبل أن يأتي هذا المخلوق الجديد الذي نفى عني الراحة وهدوء البال …» «بقية الكلام رديئة. ويظهر أن حواء كتبت تعليقها على عبارة آدم بسرعة وانفعال. على أني مع هذا استطعت أن أقرأ الكلام ولكني أعتذر للقراء فإني أعلى بأبينا الشيخ عينًا وأعمق إجلالًا له من أن أسمح بنشر ما خطته أمُّنا المسكينة عنه في ساعة من ساعات الغضب.» الأحد، مواظبة آدم على الكتابة تدهشني، وتعليله لذلك أبعثُ على الدهشة. فهو يقول إنه يقتل الوقت بذلك وينفي عن نفسه الملل. الملل حقًّا؟ ألستُ معه أُونِسهُ؟ الثلاثاء، كان اليوم مطيرًا عاصفًا فامتنع آدم عن الخروج من الكوخ، فتركته ومضيت إلى البِركة، غير أن المطر المنهمر شوَّه صورتي جدًّا، فانكفأت عنها آسفة، وأدركني العطف على جرو صغير وجدته في طريقي فحملته معي إلى الكوخ، ولم أكد أدخل حتى انتهرني آدم وأنبني على ما يسميه حماقة الخروج في مثل هذا الجو والرجوع بقدمين مثقلتين بالأوحال وتوسيخ الكوخ بها. ثم سألني عما أحمل فقلت له: إنه جرو صغير أشفقت عليه من المطر والبرد. فقال: «لستُ أفهم هذا الولع بالحيوانات الصغيرة وضمها إلى صدرك وتقبيلك إياها ومناجاتها بأصوات لا معنى لها، وإزعاجي بعِوائها ونُباحها وموائها.» ثم انتزع مني الجرو وقذف به إلى الخارج. الأربعاء، لست أنسى ما عشت نظرة الاحتقار التي رماني بها اليوم آدم. كنت عند شجرة تين أقذف ثمرها بالحجارة. وحانت مني التفاتة فإذا آدم يرشقني بهذه النظرة كأنه سمرني بها إلى الأرض، ثم دنا مني وهو يقول: «هكذا ترمين»، وتناول حجرًا وراح يقلدني ويتثنى ويتعوج ويلقي الحجر فيقع عند قدميه. وبعد أن شبع من الزراية عليَّ والسخرية مني اعتدل وقال: «هكذا يجب أن تفعلي»، وسدَّد ساعده القوي وقذف الحجر فانطلق من يده يقول «فوو»، وهوى التين إلى الأرض وتركني ومضى. الخميس، يقول آدم إنه أخطأ حين علَّمني «الرماية» كما يسميها ويزعم أن تعليمه إياي أغراني بأشجار الفاكهة، وأني الآن أُفرِط في أكلها، وإننا مهددون بنفاد هذا الغذاء أو «بالقحط» كما يقول على طريقته في المبالغة. وإنه على أي حال لا يتوقع خيرًا من وراء حبي للفاكهة. السبت، مرَّ اليوم بلا حادث يُذكر سوى أن آدم وجدني أتسلق الشجرة المحرَّمة فجذبني بعنف وحذَّرني من الدنو منها. الأحد، قمت من النوم فلم أجد آدم، فذهبت أبحث عنه فلم أهتدِ إلى مخبئه. وهذه رابع مرة يهرب فيها مني. فعدت إلى الكوخ متعبة وارتميت على الفراش الذي صنعته له من ورق التين، إلا في سبيل الله ما كلَّفت نفسي من أجله. الاثنين، لا يزال آدم هاربًا وقد حفيت قدماي. وأقلقني هذا الغياب الطويل الذي لا عهد لي ولا له به. أتَراه ضل الطريق؟ إنه غريب الأطوار فلا يبعُد أن يكون قد خرج من الجنة. الاثنين، بعد أسبوع كامل قضيته في البحث وجدت آدم في أقصى الشمال. لقد بنى له كوخًا صغيرًا هناك، له الله! فلولا الحيَّة دلتني على مكانه … ولكن صبرًا. الثلاثاء، لم أكن أحسب أن الحية تتكلم، وتا الله ما أطيبها وأعذب لسانها وأحلى حديثها. لا أكاد أضمها إلى صدري حين يصافح سمعي قولها «يا فتنة الدنيا ويا أجمل ما في السموات والأرض ويا أم البشر»، ولكن آدم يكرهها ويخافها ويحذِّرني منها، ويقول: إنها نذير سوء، وإن كان لا يكتمني سروره بأن وجدت مَن يحادثني غيره. الأربعاء، كان آدم يتمشى اليوم وهو مطرِق ويداه خلفه، ويتمتم بكلام غير مسموع وليست هذه عادته فما رأيته يفعل ذلك من قبل. فتواريت خلف شجرة أراقبه، فلما دنا مني سمعته يقول لنفسه «وماذا أخشى من الموت إذا أكلنا من الشجرة وحل الموت في الدنيا؟ إن الموت مرغوب فيه من أجل بعضهم على الأقل.» فمَن بعضهم هذا؟ سأسأله عنه. الخميس، قالت لي الحية إنها لم تكن تتكلم ولم يكن لها عقل، ولكنها مرت بشجرة استطابت رائحتها فصعدت إلى أثمارها والوحوش ترمقها وتمد أعناقها فتقصر عن بلوغ الثمر، وكانت جائعة فالتهمت منها ما لا يحسُب الحاسب، فتغيَّر كل شيء في عينها، ووجد لسانها السبيل إلى الكلام، وإن كان قد بقي لها شكلها، فوجهتْ عقلها إلى التفكير والتدبير في كل ما في السماء والأرض وما بينهما، وأضافت إلى ذلك — شكرًا لها — أن كل ما في الدنيا من خير وجمال مجتمع في وجهي الملائكي، وأنها لم ترَ لي نظيرًا، وأن هذا السحر الذي في عيني هو الذي جرأها على الظهور لي وأغراها بإدمان النظر إليَّ. فسألتها عن الشجرة أين هي، فلما دلتني عليها إذا بها الشجرة المحرمة، فأنبأتها بأن ثمرها محرَّم علينا. فأعربت عن استغرابها بأن تُحرَّم علينا فاكهة الجنة، فبينت لها أن لنا أن نأكل ما نشاء من فاكهة الجنة ما خلا ما تحمل هذه الشجرة، وإلا كُتب علينا الموت. فقالت الحية كلامًا كثيرًا معجبًا مطربًا شربتْه أذناي بلهفة، فجعلت أرمق الشجرة، ومنظرها وحده غواية، وفي أذني من الحية عذوبة حديثها، ومضى الوقت وأنا أستمع إلى الحية وأرى الشجرة موقرة بحملها الناضج وأشم عبقه الطيب. وعضني الجوع فامتدت يدي إلى الثمرة فقطفت واحدة ثم ثانية ثم ثالثة فتفتحت عيناي، وأبصرت العري الذي أنا فيه، وقلت لنفسي: في أية صورة أبدو لآدم؟ أؤنبئه بما وقع لي وطرأ عليَّ من التغير وأشركه معي؟ أم أنفرد دونه بالعلم وأسُدُّ بذلك النقص الذي مُنِي به جنسي حتى أساويه وربما فقتُه، فإني أرى ضَعفي يسترقني له؟ وهذا حسن، ولكن الله هو الذي رآني وعلم أني عصيته؟ والموت لا بد آتٍ بعد ذلك ولا مهرب منه الآن، وهكذا سأذهب أنا ويخلق الله لآدم حواء أخرى تعيش معه وتسعد بجواره. كلَّا. كلَّا إني أحب آدم وأستطيع أن أحتمل كل صنوف الموت معه، ولكني لا أقوى على الحياة بدونه. وثنيت خطواتي إلى الكوخ ولكني لم أجد آدم، فدرتُ في الجنة أبحث عنه فلم أعثر له على أثر، واضطررت إلى الاختباء مرارًا؛ لأن الوحوش كانت تتقاتل ويأكل بعضها بعضًا، ولم تعد تطيعني كالعهد بها، ففررت من الجنة بعد أن اختل فيها الأمن واضطرب حبل النظام، وأصبحت فيها فوضى، وجاوزت حدودها إلى الأرض. الأربعاء، بعد أربعة أيام طوال وجدت آدم فألقيت عند قدميه الغصن الذي قطعته من الشجرة المحرمة مثقلًا بالتفاح الشهي، فنظر إليَّ نظرة استغراب وسألني عن هذا الورق الذي أستُر به جسدي فقلت ستعرف هذا متى أكلتَ من التفاح، فانتزعه مني وعرَّاني فخجلت فقال: لقد علمت أنك أكلتِ منه فقد هاجت الوحوش وهمت بأكلي، فركبت حمارًا فارهًا لم يزل يعدو بي حتى عدا عليه نَمِر فنجوت بجِلدي ولما أكدْ، ورأيت المقام في هذه الجنة مستحيلًا، فخرجت منها وسيان عندي الآن أن آكل أو لا آكل فهاتي ما عندكِ فإني جوعان. وقضم قضمة وجعل يتذوقها ويقول ما أطيبها والله وإن كانت في غير أوانها! ثم نظر إلى نفسه فأدرك أنه عارٍ واستحيا فستر نفسه بالورق الذي نزعه عن جسدي، ونظر إليَّ ثم أرخى طرفه وهو يقول: «ماذا تعنين بالوقوف عارية هكذا؟ اذهبي واستري نفسك.» ففعلت. الخميس، اعترف لي آدم بأنه كان لا يُحسِن معاملتي ونحن في الجنة وقال: إن عذره هو أن المرء لم يكن يستطيع أن يحسِن شيئًا في تلك الجنة، وقد كان يخشى ألا ألحق به ويتوقع أن تضنيه الوحدة وتسقمه الوحشة وقبَّلني «وعرَّفني»، لقد خسرت الجنة ولكني ربحت آدم … الثلاثاء، تالله ما أقسى آدم في هذه الأيام! إنه لا يفتأ يعنِّفني ويلعنني ويحمل عليَّ من أجل أن أكلنا من الشجرة المحرمة وخرجنا من الجنة، وهو الذي أثنى على ذوقي لما أطعمته من التفاح، وقال لي فيما قال: «هاتي، ما أطيب هذه الفاكهة التي حُرمناها! وإذا كان هذا طَعْمَ ما حُرم علينا فليت الشجرة المحرَّمة كانت عشرًا! وهلم بنا نلعب بعد هذا الطعام الشهي، فما أعرف جمالك قبل اليوم ألهب حواسي كما يفعل الآن.» ولم يدَّخر نظرة حُبٍّ ولا تجميشة غزل، وأعداني وألهبني فقاذفته نارًا بنار، ثم تناول يدي ومضى بي إلى غدير ظليل الشاطئ فاضطجعنا على البساط السندسي، ونثرنا حولنا وتحتنا وفوقنا عبق الزهر — الفل والياسمين والنرجس والقرنفل — ورُوينا من الحُب، ثم عقد النعاس أجفاننا فنمنا ملء عيوننا. ويا ليتنا لم نقم! فقد غدا عليَّ يلومني ويتوجع مما صار إليه، ويحن إلى ما كان فيه، فقلت له: إنه لو كان مكاني لفعل مثلي، وذكَّرته بأنه كان في الجنة يرمي إليَّ بالزمام ويلقي حبلي على غاربي، وسألته لماذا تركني أفعل ما بدا لي ولم يأمرني — وهو الرجل وأنا المرأة — أن أجتنب الشجرة ولا أَقرَبُها؟ لقد كان سلوكه مغريًا لي ومشجعًا على اقتطاف هذه الثمرة المحرَّمة. فثار بي يلعنني ويقول: «أهذا جزاء حبي لك أيتها المرأة الكنود؟ ألم يكن يسعني أن أدعك وحدك للموت الذي جلبتِه على نفسكِ، وأن أنجو بنفسي فلا أتبعكِ؟ أما والله لأنت والحية سواء، وأنك لألم منها وأبغض، وما ينقصك إلا أن تكوني على مثل صورتها وألوانها؛ ليحذَرَكِ الخلائقُ جميعًا، ولتتقيك ولا تغترُّ بصورتك السماوية! ألا لماذا شاءت حكمة الله أن يخلق هذه البدعة ولم يشأ أن يخلق الناس كلهم ذكرانًا ويملأ الدنيا بهم إذا كان لا بد من خلقهم؟» فبكيت واسترحمته وعكفت على ركبتيه أقبلهما وأمسح عليهما وجهي، فرثى لي ولان لي قلبه، فتشجعت وأدليت إليه برأيَين يكفلان لنا الراحة ويقيان ذريتنا المصائب التي كُتبت عليهم بذنبنا. فسألني عنهما فقلت: الرأي عندي — ما دام الموت لا مفر منه الآن — أن ننتحر، فنستريح ونترك الدنيا كما كانت، لا يعمُرها أحدٌ من نسلنا، أو أن نتحرى ألا نجيء إلى الدنيا بنسل، فنحرِم الموتَ حقَّه ونقضي عليه هو بالموت جوعًا. فقال آدم: يا بلهاء أتحسبين أن الله يتركنا نفعل شيئًا من ذلك؟ لقد أخرجتنا مشورتك من الجنة وهوت بنا إلى هذه الأرض، فأين يا تُرى تقذف بنا مشورتك الجديدة؟ اذهبي اذهبي! بعد شهر، لستُ أَمَلُّ التَّجواب في هذه الغابة الكثيفة. فإن لها لسحرًا شديدَ الأخذ. وقد ظللت فيها أمس وإن كنت لم أبعُد عن الكوخ أكثر من فرسخ، فنشط خيالي وراح يريني أشباحًا ها هنا وها هنا بين الأشجار الغليظة الذاهبة في الهواء التي تحجُب الشمس فلا ينفُذ منها شعاع. فوقفت برهة أفكر وأتخيل وأُشرِب نفسي روح المكان، فنعق فوق رأسي غراب ففزعت ثم غضبت على نفسي؛ لأني فزعت ورفعت طرفي فأبصرت الغراب على غصن فوقي يصوِّب نظره إليَّ، فاستحييت أن يراني كأنما كان قد فاجأني في خلوتي، فحدجته بنظري فحدجني بنظره، ولم يحوِّل عني عينه، وكان كلانا صامتًا لا يقول شيئًا، ثم تقدم الغراب بضع خطوات على الغصن ليكون أقدر على تأملي، ورفع جناحه ودلَّى رأسه من بين كتفيه، ونعق مرة أخرى نعقة أحسست أن لهجتها مهينة مبطنة بالزراية، فلو أنه كان يتكلم مثلي ومثل آدم ومثل الحية لما قال لي بأفصح مما قال: «ماذا تصنعين هنا بالله؟» وليس هذا من شأنه ولا كانت هذه الغاية له، وما من حقه أن يخاطبنا بمثل هذه اللهجة، ولكني لم أرد عليه؛ استنكافًا مني للمنابذة مع غراب أسحم، وترفُّعًا عن المهاترة معه، فلبث برهة يدير عينه فيَّ، ورأسه ممدود إليَّ من تحت كتفيه ثم قذفني بإهانتين أخريين لم أفهم معناهما على وجه الدقة، وإن كانت دلالتهما واضحة. فلم أشأ أن أجاريه في بذاءته وأمسكت عن دفع الإهانة. ويظهر أن حِلمي أطمعه فقد رفع رأسه وأطلق في الغابة نعقة تبينت أنها نداء، فقد أجابه غراب آخر من قلب الغابة، وراح ذاك يسأل وهذا يشرح له الموقف، حتى ترك الغراب المدعو ما كان فيه وطار إليه وحط إلى جانبه فوقي، ومضى الغرابان الأسودان يتناعبان عني ولا يحفلان بوجودي، فلو أني كنت بعيدة عنهما بحيث لا أسمعهما ولم أكن تحت أعينهما لما أساءا الأدب في حقي إلى هذا الحد، فحِرتُ وارتبكت، ثم بدا أن أدعهما وأمضي في سبيلي وأحسب أن الغرابين الوقحين قد سرَّتهما هزيمتي فقد مطَّا عنقيهما وراحا يضحكان مني ويرسلان خلفي الشتائم والإهانات حتى تواريت عنهما، وإني لأعلم أنهما غرابان لا أكثر، ولكنه من المؤلم على كل حال، بل مما يكوي غرور الإنسان أن يرى حتى الغراب يهزأ به ويتماجن عليه ويصيح به: «ما أطول شعركِ! أَوَلَيس لكِ ثوب تلبسينه غير هذا الجِلد القديم؟ ارفعي ذيله فإنه يكنس الأرض ويثير الغبار.» ومن الغريب أني ألفيت نفسي عند باب الكوخ قبل أن أفكِّر في الطريق الذي أسلكه، وهكذا اهتدت رجلاي بعد أن ضل رأسي، لقد كدت أَهُم بالبكاء ولكن فرحي بالرجوع سالمة أنساني الدموع. بعد أسبوعين، آدم يحمل عليَّ ويرهقني بالعمل ويكتفي هو منه بالإشراف. ولا أدري ماذا يكلفه «الإشراف»، ولكن الذي أدريه أني مستعدة أن أقوم به عنه وأن أدع له ما أنا فيه، وقد ثقلت وأراني أميل إلى التمرد، وسأدعي المرض غدًا فإن لم تصلح الحال بعدُ فسأهرب وأختفي في بعض الأدغال ليعرف قدري. بعد خمسة أيام، هربتُ ثلاثة أيام ثم لم أطُق البُعد عنه فرجعت إليه وادعيت أني كنت تائهة، وقلت: «إني منهكة ولا أكاد أقوى على النهوض.» فخرج آدم متذمرًا وغاب عني اليوم كله فكدت أُجنُّ من الشوق إليه، وتُبت من ذنبي واعترفت له بالحقيقة. بعد ثمانية شهور، سميتُه قابيل، وهو حلو أحمر لا شعر عليه غض اللحم، وأكاد من فرحي به وحبي له آكله! وكان آدم قد خرج للصيد فلما عاد بعد أيام سألني عنه ما هو؟ فلم أدرِ كيف أقول، وحملته إليه وأدنيته من فمه ليقبله، فظن أني أقدِّمه له طعامًا، ونحَّى وجهه وصدَّني بيده وقال: أَوَحْشٌ أنا حتى آكله حيًّا؟ ولما قلت له: إني «وضعته» وأنا عائدة إلى الكوخ لم يصدقني وزعم أني «وجدته»، وقال: إن به مشابهة مني ولكنه صغير جدًّا فهو على الأرجح حيوان جديد، وتناوله وجعل يقلِّبه ويفحصه فبكى وصاح فاختطفته واحتملته وضممته إلى صدري ولاطفته حتى ثاب إلى السكون. ولما جاء الليل وبكى زعم آدم أن من الحماقة أن أسجِن هذا الحيوان معنا، وأنه إنما يبكي ويصيح ويُخرِج هذه الأصوات المنكَرة؛ لأنه يريد أن يعود إلى جماعته، وهمَّ بأن يلقيه خارج الكوخ فعدوت وراءه وصددته. فقال آدم إنه لا يفهم سلوكي هذا، وإنه لم يألف مني هذه العناية بالحيوانات الأخرى. «لقد تغيَّرت حواء حتى لأكاد أنكرها، مذ وجدت هذا الحيوان الغريب الذي حفيت قدماي على غير جدوى في البحث عن واحد آخر من مثله، فهي لا تخرج الآن للصيد أو للاحتطاب ولا تكاد تُعنى حتى بإعداد الطعام. ولا تخطو خطوة إلا وهذا الحيوان الغريب مضموم إلى صدرها أو محمول على كتفها، وهو لا يكلفنا شيئًا؛ لأنه لا يأكل ولا يشرب، وهذا أغرب ما فيه. وأحسب حواء قد جُنَّت فإنها لا تفتأ من حين إلى حين تُلقِمه ثديها فيعكف عليه بفمه الفارغ كأنه يأكل ولا شيء هناك؛ فليس أجن منها سواه! وما أغرب منظرها وهي تداعبه وتناجيه وتوهمه أنها تعض أنامله فيضحك، ولم أرَ قبل هذا حيوانًا يضحك. لقد حيَّرني جدًّا هذا المخلوق العجيب الذي تسميه حواءُ «قابيلُ» والذي لا أدري ماذا هو؟ فهو ليس منَّا إذا كان لا يمشي مثلنا ولا يتكلم، وليس من الطير فما له أجنحة ثم هو لا ينهض فكيف بالطير، وليس من الحيوان فإن جلده أملس لا شعر عليه وليس له ذيل، وأكثر ما أراه مستلقيًا على ظهره ورافعًا رجليه في الهواء، ولست أفهم لغته، ولكن حواء تزعم أنها تفهمها وتجيبه إلى ما يطلب فيكُف عن الصياح ويضحك وينام، أما أنا فقد تقطع نومي مذ جاءتنا بهذا اللغز، سأغافلها يومًا وأسرقه وألقيه في الغابة أو في الغدير فإني في شك منه عظيم.» بعد بضعة شهور، لا أزال عاجزًا عن فَهْم هذا اللغز الذي كنَّا في غنًى عنه، والذي يشرد عني النوم، ولم أستطع أن أسرقه؛ لأن حواء لا تتركه لحظة وقد نما بسرعة فصار خمسة أضعاف ما كان عليه لما جاءنا، وكان في أول الأمر لا ينفك مستلقيًا على ظهره، فالآن يحبو على يديه ورجليه، وقد يباغتني وأنا نائم فيضع يده الصغيرة في فمي أو يقبض على أنفي أو يجذبني من لحيتي، ليست حواء وحدها المجنونة فسيلحق بها سواها قريبًا، ولقد أشفقت على هذا اللغز وقلت آتيه برفيق يؤنسه في وحدته ويسليه في غربته بيننا، فجئت بدُبٍّ صغير ولكنه لم يكد يراه حتى رِيع وملأ الدنيا صياحًا فلم أجد بدًّا من طرد الدب ورده إلى حيث كان. أي شيء هو؟ هذا ما يحيرني! هو قِطٌّ؟ لا! أو دُبٌّ؟ لا! أو قِردٌ؟ ربما، ولكن أين الذيل والشعر؟ سنرى. بعد شهور أخرى، لا يزال هذا اللغز ينمو وهو الآن يقف على قدميه الخلفيتين ويمشي خطوات ثم يقع، وقد ظهر الشعر في رأسه وهو كشعرنا نحن لولا أنه أنعم وأخف وأقل سوادًا وألين ملمسًا، وكنت أتوقع أن يظهر له ذيل ولكن خِيب أملي. وأقول الحق: لقد بدأت أخافه فإن هذا النمو الشاذ الذي لا عهد لي به في حيوان آخر يوقع في رُوعي أني لم أرَ آخر هذه الحكاية. وما يدرينا غدًا ماذا يكون منه؟ وقد رأيت أن الأحزم أن أنام خارج الكوخ من الآن فصاعدًا، وأن أدع حواء وحدها معه، وليس هذا من الشهامة والمروءة في شيء، ولكن ماذا أصنع وهي لا تريد أن تفرِّط فيه ولا ترضى أن تعتاض منه دبًّا أو قردًا؟ فعليها إذن أن تحتمل وحدها عواقب طيشها وحماقتها. بعد أربعة شهور، عُدتُ من الجبل بعد غَيبة طويلة فألفيتُ اللغز يمشي على قدميه مثلنا ويذهب حيث يشاء وحده، وينطق بما يشبه كلامنا فيقول «بابا، ماما، أومبو»، فهل علَّمتْه حواءُ؟ لا أدري، وقد نبتت له أسنان ولم ينبُت الذيل. ولما كنت سأعود إلى الجبل غدًا فسأشير على حواء بأن تكمِّمه. بعد خمسة شهور أخرى، في كل طوافي وتجوالي في الجبال والغابات والأدغال والأودية والسهول لا أعثر على ندٍّ لهذا اللغز، وحواء تجد في الكوخ — نعم في الكوخ ومن غير أن تنقل قدمًا — لغزًا آخر شبيهًا بالأول من كل الوجوه، فهو من فصيلته ولا ريب، وقد سمَّته هابيلَ، وحسنًا فعلت، فإن اللغزَين شبيهان فما أحقهما بأن يكون اسماهما متقاربين. وقد سرني أنها وجدت للغزها الأول مؤنسًا، فما أشك في أنه كان يألم هذه الوحدة ويحُن إلى قومه. اقترحت على حواء أن تدع لي اللغز الجديد أُجري فيه تجاربي لعلي أهتدي إلى نوعه وأن تجتزي هي بالأول فأبت أن تصغي إليَّ، ولم تُطِق كلامي واحتملتها وخرجت، وتوعَّدتني بالنزوح عن هذه البقعة من الأرض إذا لم أكفُّ عن التفكير في ذلك. ولست أفهم ذلك من حواء وما أراها إلا جُنَّت تمامًا؛ لأنه إذا كان قد ثبت أن هناك ألغازًا كثيرة، وكانت هي قد وجدت منها اثنين — وجدتهما وحدها وبلا معين — فماذا يضيرها أن تلقي إليَّ بأحدهما وهي لا محالة واجدة غيره في يوم من الأيام قياسًا على ما حدث؟ الحق أن منطق المرأة غريب. ولم أكن أريد إلا أن أفحصه في أوقات الفراغ، فقد خطر لي من حسن تقليده لحواء ولي أيضًا أنه ربما كان نوعًا طريفًا من القرود. ولكن حواء فقدت عقلها، فهي لا تعبأ بشيء من هذه الدنيا سواهما، ولا تأتمني عليهما لحظة. بعد ثمانية شهور، قالت لي حواء اليوم وعينها تلمع إنها «ستضع» واحدًا آخر، ولم أفهم منها قولها أنها «تضع» هذه الألغاز، وهذه الأكاذيب بعض ما يسخطني ويثيرني عليها، ولكني أحسب المرأة لا تكون امرأة إذا لم تكذب، فسألتها عمن أدراها أنها ستجد لغزًا جديدًا فقالت: بالتجربة. قلت: أية تجربة؟ فمضت بي إلى ركن مظلم في الكوخ وأسرَّت إليَّ بصوت خفيض جدًّا، كأنما كان هناك أحد يسمعنا: إن اللغز معي الآن. فنهضت مذعورًا وقلت: معك كيف؟ ودُرتُ حولها أنفضها بعيني فلم أجد معها شيئًا. فقالت: إنه في جوفي. فارتعتُ وقلت: أتُراك يا … قد أكلتِ أحدهما؟ وتراجعتُ عنها فضحكت … إن حواء تخيفني. فلن أنام في الكوخ معها بعد اليوم. بعد بضع سنين، لقد حللنا اللغز وعرفنا أن هذه الخلائق الجديدة بنونا. وهم الآن أربعة: قابيل وهابيل وبنتان. ولنا العذر إذا كان الأمر قد خفي علينا في مبدئه، فما سبق لنا بمثل ذلك عهد. وهابيل صبي وديع رضي الخلق وهو أحب إلينا من أخيه قابيل الذي أوثر أن يبقى كما كان يوم جاءنا دبًّا أو قردًا أو غير ذلك مما توهمته في صدر حداثته. وقد أدركت الآن أن حواء أصدق مني فراسة وأذكى غريزة وقد زاد حبي لها وعطفي عليها. هي التي تنسيني الجنة وماذا كانت الجنة قبل أن أعرفها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/14/
عاطفة الأبوة
قلت مرة لزميل من المدرسين الإنجليز، رُزق غلامًا: أتحب غلامك هذا؟ فأدهشه سؤالي ولم يخفِ تعجُّبه له، وتوهَّم بادئ الأمر أني أتكلف التشكك، فلما بدا لي منه هذا الريب في صدق سريرتي سألته: أتظن أن فقد الأبناء في طفولتهم يكون كفقدهم بعد أن يرشدوا، ويدخلوا في مداخل الرجال من حيث وقع ذلك في النفس؟ قال: كلَّا. وإن كنت ولله الحمد لم أجرِّب هذا أو ذاك. قلت: وكيف تعلِّل ذلك؟ فأطرق لحظة ثم قال؟ إني أرُدُّ الفرق بين الوقعين إلى مبلغ الجهد والعناء في تنشئة الطفل ورعايته حتى يكبر، فعلى قدر ما نبذل في تربيته يكون حرصنا عليه وضنُّنا به وشعورنا بالخسارة حين نفقده. قلت: إنكم معشر الإنجليز هكذا دائمًا، حتى العواطف تقدرونها بالأرقام، على أن تعليلك — مع ذلك — صحيح إلى مدى كبير، وإن كنت لا أشك أنه كان يسعك أن تهتدي إلى عبارة أخرى غير هذه. والآن سؤال آخر: هبك رُزقت غلامًا ورحلت عن بيتك زمنًا ثم عُدتَ وقد شبَّ الطفل وترعرع وأصبح فتًى يافعًا، أيكون شعورك نحوه كشعورك لو أنك كنت إلى جانبه، تراه في كل ساعة وتراقب نموه وتفتح عقله؟ قال: كلَّا. قلت: أتظن أن من الضروري لنمو الشعور بالأبوة أن يكون لجهدك الذي تبذله مظهر ماديٌّ، كأن تتولى أنت مثلًا الإنفاق عليه والسهر على تعليمه ومراقبة تدريبه بنفسك إلى آخر ذلك مما يجري هذا المجرى؟ قال: وكيف يكون الجهد غير ذلك؟ قلت: ألا يكفي مثلًا أن يكون جهد «عاطفة» يحركها ويثيرها قربه منك؟ قال: وما أشك في أن هذا يكفي. قلت: «نستطيع الآن أن نستخلص أن حياة الطفل هي التي تتيح للشعور الأبوي فرصة النمو، وبعبارة أخرى أن للعادة دخلًا لا يُستهان به في قوة هذا الشعور. وليس معنى هذا أن العادة تخلق هذا الشعور خلقًا ولكن معناه، أنه يكون كامنًا في النفس فتُظهِره، وضعيفًا فتقوِّيه، وفاترًا فتُكسِبه الحرارة. والأبوة ماذا هي؟ أليست مظهرًا من مظاهر حُب الذات والرغبة في تخليدها بتكريرها وإعادتها في شخص آخر هو بعضها؟» قال: أحسبها كذلك. قلت: ولكن التخليد معنًى، أو إن شئت فقل إنه وهم وخيال تتعلق به النفس وتتعزى عن الفناء الذي تعلم أنه لا محالة مدركها، ولمَّا كان كذلك، فرُبَّ نفس تكون أطلب له — بطبيعة استعدادها — من نواحٍ أخرى غير الأبوة، وعلى طريقة غير طريقة التكرير والإعادة — إذا صح أن الأبناء صور معادة من الآباء، وهو غير صحيح، فما أظن بك إلا أنك ترى معي أن هذه الإعادة تكون إسرافًا لا معنى له، وسفهًا لا تسوِّغه حكمة، وأَخلقُ بالجيل الواحد من الناس أن يغني عن كل الأجيال التي تتلوه إذا كانت ستجيء مطابقة له غير مختلفة عنه، وما أحق الطبيعة في هذه الحالة بأن يُحجر عليها. قال: هذا كله صحيح، بل بديهي … قلت: أشكرك! قال: عفوًا. إنما أردت أن أسأل عن النتيجة؟ قلت: أريد أن أقول إن عاطفة الأبوة قد تكون في بعض النفوس أضعف منها في البعض الآخر. قال وهو يبتسم: ما أراك جئت بجديد. قلت: بل أريد أن أقول إن بعض الناس لا يصلحون أن يكونوا آباء أو بعبارة أخرى أنهم بطبيعة تكوينهم لا يستطيعون أن يخدموا «النوع» من هذا الطريق، وهؤلاء هم الذين نسميهم النوابغ، ونعني بهم طلاب المجد الأدبي أو الحربي أو العلمي، فكأن مساعيهم تستنفد حيويتهم وتردُّهم غير صالحين لغيرها، ومن هنا ما يلاحظ من عقمهم أو قلة نسلهم أو سرعة انقراضه على خلاف السواد الأعظم من الناس، وهذا السواد هو الذي يُعمِّر الدنيا ويحفظ النوع الإنساني فيها. ••• والناس أكثرهم لا يفكرون، سألت مرة واحدًا من إخواني: لماذا تحب أبناءك؟ فكان جوابه: إنهم بعضه وفلذة من كبده. ألم يقل الشاعر: إلى آخر هذا الهراء الذي يَعذُب في السماع وتأنس إليه النفس وإن كان لا محول وراءه، وقد أردت أن أنبِّه صاحبي هذا إلى ما بتعليله من المآخذ فقلت: وهل أنت آسف على أبنائك الذين أخطأهم التوفيق ولم يتمكنوا من الانحدار إلى هذه الدنيا؟ قال في وجوم: ماذا تعني؟ مَن هم؟ قلت: إن الجواب الذي تطلبه يستوجب مني أن أصارحك بحقيقة علمية لا أحسبك تجهلها، فأنا أذكرك بأن الرجل منا ينفث في المرة الواحدة مئات من الملايين من الجراثيم، وكل جرثومة منها كافية لأن تخرج إلى الدنيا طفلًا لو ساعفتها الأحوال وآزرها الحظ، ولكنه قلما يكون هناك أكثر من جرثومة واحدة هي السعيدة الموفَّقة، وما خلاها يذهب كما يُراق الماء في الصحراء فالإنسان — إذا اعتبر هذه الحقيقة العلمية — يفقد في كل مرة ملايين من الأبناء بقدر ما يضيع سدًى من ملايين الجراثيم، ولولا هذا الاقتصاد في التلقيح لاستطاع فرد واحد أن يعمِّر لا الكرة الأرضية وحدها، بل مئات من الكرات الأرضية بنسله. وهذه الجراثيم الضائعة، أو إذا اعتبرت ما كان يمكن أن يكون، هؤلاء الأبناء الذين لم يجيئوا بعضك أيضًا، وهم أفلاذك أو أكبادك كما تقول أو يقول الشاعر، فلماذا لا نراك أو نرى أحدًا يأسى على فقدهم وهم بعضك، كما تفرح لغلام تُرزَقه، وتحبه لأنه بعضك؟ الحقيقة أن المسألة ليست أن الأب لا يحب أبناءه إلا لأنهم بعضه، فإن غريزة حفظ النوع قد تكفلت بنشوء العاطفة وبدفع الناس إلى طلب النسل، وهي عاطفة يسهل على الرجل — كما لا يسهل على المرأة — أن يحولها إلى مجرى آخر تخرج منه شيئًا مختلفًا جدًّا، وعاطفة جديدة وإن كانت مولَّدة من عاطفة الأبوة. وهَبْها لم تتحول فإن من الميسور أن تنمو وأن تستوفي حظها على التبني، كما هو معروف ومألوف. على أن الرجل والمرأة ليسا سِيَّين في هذه العاطفة، وأكثر الفرق بينهما راجع إلى أن غريزة حفظ الذات أقوى في الرجل من غريزة حفظ النوع، أما المرأة فعلى خلاف ذلك، الغريزة النوعية فيها أقوى من الغريزة الفردية، إذ كانت هي بطبيعة تكوينها، أداة المحافظة على النوع، وليس الرجل سوى عون لها على ذلك، ومن هنا كانت الأمومة وحواشيها أقوى وأبرز من العواطف المنبعثة من الأبوة. ••• بعد هذا الذي أسلفناه لا نظن القارئ يستغرب أن نقول إن عاطفة الإخاء عادة ليس إلا، وإلْف لا أكثر ولا أقل، وما أحسبها تختلف في حقيقتها عن عاطفة الصداقة، وكل ما في الأمر أن اشتراك المصالح والنشأة الواحدة تجعل الروابط أمتن والأواصر أوثق. وليس أسهل من فسادها ولا أيسر من تفكك عراها إذا وقعت النَّبْوَة بين الأخوين لسبب من الأسباب، فلا مبالغة إذا قلنا إنها عاطفة لا تتميز إلا في الظاهر وإلا من حيث الاعتقاد العام فيها، عن أية عاطفة تنشأ بين اثنين من أبناء آدم. وليس بالنادر ولا من الفلتات أن تؤدي أعاجيب ما تُحدِثه الوراثة إلى جعل الأخوين أشد ما يكون اثنان تنافرًا، وقلما يفقد الوالدان حُب بنيهما أو الولد حُب أبويه، ولكن ما أكثر ما يقع من التعادي بين الأخوين ويتباغضان؛ ذلك أن للأبوة أو الأمومة أصلًا تحور إليه ويبقى لها إذا فقدت كل معزز أو مقوٍّ، ولكن ما بين الأخوين لا يرجع إلى أكثر من المصادقة. والناس يدركون هذا ويفطنون إليه بالسليقة وإن كانوا قلَّ أن يفكروا فيه، فتراهم يطلقون لفظ الإخاء والتآخي على الصداقة، ولا يستكثرون أن يُنزِلوا الصديق منزلة الأخ، ولا يحسون أنهم هبطوا بمرتبة الإخاء من أجل ذلك، ولكن الأبوة عندهم وعلى ألسنتهم في كل لغة لها مقامها الذي تنفرد به ومنزلتها الملحوظة التي لا تدانيها منزلة. وليس أصدق من فطرة الجماعات ولا أصح أو أدق من تقديرها لهذه الصلات بما تجريه على ألسنتها — عفوًا ومن غير تدبُّر — من العبارات الواسعة الدلالة العميقة المغزى. قال لي صاحب قديم خلطته بنفسي زمنًا: أصحيح هذا؟ قلت: ماذا؟ قال: هذا الذي كتبته عن عاطفة الأبوة. قلت: وما سؤالك أنت، أإنكار هو أم أسلوب جديد في الإعراب عن الموافقة؟ قال: أما ما ذكرت عن عاطفة الإخاء وأنها لا تختلف عن الصداقة في أصولها، وأن الناس يفطنون إلى ذلك بالسليقة فينعتون الصديق بالأخ، فصحيح، وكذلك ما أشرت إليه من أعاجيب الوراثة قد تقضي إلى التنافر بين الأخوين. قلت: إن التعادي قد يقع بين الأخوة حتى من غير أن يكون للوراثة دخل، وما أكثر الأسباب التي تؤدي إلى انفراج الحال ووقوع النَّبْوَة، كأن يكونوا من أم واحدة أو أب واحد — أي غير أشقاء — أو يكون أحدهم أكثر توفيقًا في الحياة، أو آثر عند أبويه وأحب إليهما. وأحسبك تذكر قصة يوسف — عليه السلام — وحسد إخوته له لأنه أحبُّ إلى أبيهم منهم: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. وهذه الآية الكريمة تُريك كيف يتحدث الأخوة بقتل أخيهم ويأتمرون به ويتفقون على إلقائه في الجُب وتركه لمن عسى أن يلتقطه من المارة، ويذهب به إلى حيث يشاء من الأرض، ويبيعه أو يتخذه عبدًا له أو يصنع به ما يحب، كأنما لا يجري في عروقه نفس الدم الذي يجري في عروقهم، وكأنما لا تربطهم به صلة ولا تعطفهم عليه آصرة، وكل هذا لماذا؟ لأن أباهم فيما يرون أحنى عليه منه عليهم وأكثر شغفًا به ورقة له! وأدل من ذلك وأولى بالملاحظة أن أباهم نفسه يدرك بفطرته السليمة وبإلهام حبه ليوسف، أن كون يوسف أخًا لهؤلاء ليس يمانعهم أن يسيئوا إليه ويكيدوا له غيرة وحسدًا، تأمَّل هذه الآية: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. والتاريخ حافل بقصص الأمراء الذين لم يتحرجوا أن يقتلوا إخوانهم ليتبوءوا عروشهم أو ليحلوا محلهم في ولاية العهد أو ليتقوا تآمرهم عليهم، لا بل ليستولوا على زوجاتهم، وقلَّ أن يقتل الولد أباه، وأقل من ذلك وأندر أن يغتال الوالد ولده، وعلى أي شيء تدور قصة هاملت الخالدة؟ أليس محورها كله أن عمَّه اغتال أباه وأفرغ السُّم في أذنه وهو نائم في الحديقة، ليخلفه على الدولة، ثم لم يَرُعه شيء أن يتزوج مَن كانت امرأة أخيه؟ والناس لا يستفظعون أن يتخذ المرء زوجة أخيه زوجة له بعد أن يسرحها أو يموت عنها، ولكن ما أشد استفظاعهم لأن يبني المرء بمَن كانت زوجة لابنه وأفظع من ذلك أن يتزوج امرأة أبيه؛ لأنها في منزلة الأم، حتى لقد حرَّمت الشرائع ذلك، على حين كان المصريون يتزوجون الأخت ولست أذكر هذا إلا على أنه مظهر للشعور الفطري العام الذي تقوم على قاعدته الشرائع والقوانين، وتدور عليه الآداب الصادقة لا التقليدية المتكلفة. قال صاحبي: هذا صحيح، ولكن ألا ترجع عاطفة الأبوة إلى أكثر من العادة والإلف؟ قلت: مَن قال إنها عادة ليس إلا؟ إن الشعور الأبوي مرجعه إلى غريزة حفظ النوع كالحُب، وأساسه في الرجل والمرأة واحد، غير أن الرجل أقوى تمثيلًا في حياته الفردية منه للنوعية، أعني بذلك أن غريزة حفظ الذات أقوى فيه من غريزة حفظ النوع، ذلك أنه هو الذي يتولى مكافحة الطبيعة بما فيها من قوى وكائنات من جنسه وغير جنسه، وهو المتكفِّل بالسعي والذي يتعرض بسبب هذا كله للأخطار، فلا غِنى له عن الاحتيال لدفعها بالقوة إذا تهيأ له ذلك، وبالحيلة والتدبير وحسن التصرف وما إلى ذلك إذا أعوزته المنة، والحياة ليست باللقمة السائغة فهو محتاج إلى مغالبة الصعاب ومعالجة تذليلها، وهو في كل خطوة يخطوها يصادف ما ينبِّه غريزة حفظ الذات أو صيانة النفس، ومن أجل هذا — كما قلت في «حصاد الهشيم» — صارت هذه الغريزة أقوى وأنضج وأسرع تنبهًا وأكثر عملًا؛ لأن حياته تجعل أعماله متصلة بها أكثر من اتصالها بغريزة حفظ النوع، وهو لذلك أحسُّ بها وأسرع تأثرًا من ناحيتها، ومن هنا كانت الأنانية في الرجل أظهر وأقوى. والعامة يلاحظون ذلك ويفطنون إليه ويذهبون فيما وضعوه من أمثالهم إلى أن الأم أحنى على طفلها من أبيه. وقد ترى الرجل يداعب طفله برهة أو ساعة، ولكنك قلَّ أن تجد رجلًا يقوى على ما تقوى عليه المرأة من ملازمة الطفل، والمثابرة على مداعبته والصبر على التحدث إليه، ومن توهم فَهْم ما لعله يرتسم على صفحة وجهه من الحركات أو يَنِد عنه من الأصوات، واحتمال ذلك وما هو أشق منه ساعة بعد أخرى، ويومًا بعد يوم، وشهرًا تلو شهر، وحولًا عقب حول. أما المرأة فخُلقت للنوع قبل أن تُخلق لنفسها، وهي في سبيل النوع تحمل وتضع وتتعرض للموت الوَحَى ساعة يجيئها المخاض. وتكوين جسمها شاهد بأنها مجعولة أداة للنسل ووسيلة لحفظ النوع، ففي جوفها مكان مُعَد للجنين تحمله فيه تسعة أشهر كوامل، ولها ثديان يدُرَّان اللبن، وجسمها مركَّب بحيث يتحول الغذاء إلى لبن تُرضعه طفلها وتغذيه به حولًا كاملًا على الأقل. فالعاطفة موجودة، ومردُّها عند الرجل والمرأة إلى هذه الغريزة النوعية، ولكن اختلاف الرجل والمرأة من حيث التكوين وما أعدتهما الطبيعة له، ومن حيث طبيعة الحياة يجعل هذه العاطفة أقوى في المرأة وأنضج منها في الرجل، ثم تجيء الصور الذهنية التي تحصل لكل منهما فتزيد هذه العاطفة وتضرمها. وهذه الصور عند المرأة حشد حاشد وبحر زاخر لا آخر له ولا نهاية، فهي لا يَسَعها إلا أن تذكر ما عانت في شهور الحمل وما جرَّبت في أطواره وأحست من حركات الجنين في جوفها، ثم ما كابدت من عذاب الوضع، وكم ألْف ألْف صورة تحصل في ذهنها بعد ذلك، مذ كان طفلها وليدًا إلى أن يشُبَّ عن الطوق ويدخل مداخل الرجال أو النساء، وكل حركة ومصة من ثديها وابتسامة ونظرة وتعبيسة وعولة وصوت ونهضة وعثرة وخطوة، كل ذلك منقوش على صفحة قلبها مرتسم على لوح صدرها مذخور في رأسها، وجوُّها حافل بهذا الطفل، وحياتها كلها دائرة عليه غير منفصلة عنه، وماضيها كان تمهيدًا له، وحاضرها مستغرق فيه، ومستقبلها آمال منوطة به، وأخلق بهذا أن يعيننا على تصور روعة الأمومة وعمقها وسعتها وانطواء كل أحساس فيها، وتسرب كل شعور إليها ومنها. ولما كان نصيب الرجل من هذه الصور التي تحصل في نفس المرأة أقل وأضأل، فلا عجب أن يكون غذاء العاطفة الأبوية أتفه جدًّا مما يغذي عاطفة الأمومة. وهل الحياة إلا الصور التي تحصل في الذهن؟ يقول ابن الرومي في رثاء ابنه: إلى أن يقول: ولم نورد القصيدة كلها وإن كانت أبياتها جميعًا من هذا الطبق الرفيع، وإنما اقتصرنا على ما فيه تمثيل لما نريد، والذي نريد هو أن «نمو» عاطفة الأبوة أو الأمومة رهن بالصورة الحاصلة في الذهن وبجهد النفس وبالأمل الناشئ. وفي هذه الأبيات المتخيَّرة صور عدة — صور قبلات يذكر الأب حلاوتها، وشمَّات لا تزال تتضوَّع إلى أنفه، وضمات لا يفتأ يحُسها، وملاعب للطفل وعين أبيه ترعاه وتلاحظه، وذكريات شتى يهيجها الغلامان اللذان أخطأهما الموت، بل كل شيء يهيج الشاعر إلى التذكر، وللمهد صورة وللَّحد أخرى، ولما كان للآمال فيه صور شتى ولما صار إليه في التراب صور غيرها، يتخيلها الشاعر ويتساءل عنها مشفقًا موجَعًا فيقول: ولصحته صور محبَّبة ولسقامه وذبوله وما أصابه من النزف وذواه على الأيدي، صور تكوي الفؤاد وتلعج القلب، وللمحاته وبشائرها وأفعاله وما كان يأنس منها، وللرجاء فيه والفرح به وانتظار ما سيكون عليه ويصير إليه، لكل ذلك صوره العالقة بالنفس المتشبثة بالضمير، وهكذا إلى غير نهاية. وأين تكون نهاية هذا العالم الحافل بالذكريات المحشودة الزمر؟ وما ظنك بالأم وعالمها أحفل، وزمر ذكرياتها أحشد! والذين تتحول هذه العاطفة الأبوية في نفوسهم إلى مجرى آخر، أعني الذين يتبنون الآداب أو الفنون أو العلوم أو ما شاكل ذلك، يستغرقهم حُب ما انصرفوا إليه وتخلوا له، ويدري الناس مبلغ استغراق ذلك لنفوسهم واستيلائه على هواهم فيعجبون ويَعُدونه شذوذًا ويحصونه عليهم، ولو أنهم فكَّروا في أنهم اعتاضوا من الأبناء هذا الذي شغفوا به، وأنها هي عاطفة الأبوة في صورة أخرى ومظهر جديد، لما بدا لهم في أمرهم وجه غرابة أو شذوذ، ومَن الذي يستغرب من الأب حُب بنيه ووقف حياته عليهم وإفراغ جهده في سبيلهم وقصر سعيه على خدماتهم؟ لا أحد! بل هذا هو المعقول، فممَ يدهشون ويعجبون حين تلبس هذه العاطفة ثوبًا آخر أو تتدفق في مجرى جديد أو تتخذ صورة غير المألوفة؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/15/
كيف كنتُ عفريتًا من الجن
كان ذلك وأنا فتى يافع أسوم كل سرح، وأنهز بكل دلو، ولا أفكر في غير الساعة التي أكون فيها، ولا أبغي إلا أن أستوفي حظي في الحياة، وأن أستوثق من أن كرعتي منها راوية. وفي ليلة من ليالي الصيف الحميدة، ثنَّيت الخطا إلى البيت — وكان في حي «الصليبة» — بعد أن قضيت وطري من شراب وسماع، فلما بلغته ووقفت على عتبته، ذكرت أن ليس به أحد سوى جدتي التي أوفت على التسعين، وأن المفتاح ليس معي، فقلت لنفسي «أيليق أن أزعج الجدة وهي تقوم مجهدة ولا تسير إلا إلى جانب الحيطان لتضع يدها عليها وتسند نفسها؟ كلَّا، أولى بي أن أدعها مستريحة وأن ألحق ببقية الأسرة — أمي وأخي — والجو رائق والمشي منعش.» وأوليت الباب ظهري وانصرفت. ولم يكن الطريق إلى الإمام، في تلك الأيام معبَّدًا، ولا ترام هنا ولا نور، فليس طريق بأحسن أو آثر من طريق، فاخترت أقصر مسلك وهو الذي يمر بمسجد «السيدة نفيسة» ويخترق المقابر المبعثرة وراءه، ويتصل بالطريق العام المطروق عند آخره ومضيت أخبط فيه، وأتخبط أيضًا؛ لأن كثرة المقابر وانتثارها وتزاحمها تُضِلُّ ولا سيما في الظلام، غير أني لم أكترث لذلك ولا فكَّرت فيه، وفوَّضت الأمر لرجلَيَّ تَدِبَّان حيث ألِفتا أن تدِبَّا في أوقات شتَّى من النهار والليل، وانطلقت أفكر فيما كنت فيه، وأردد فيما راقني سماعه وأُرجِّع ما شجاني من الأنغام، وأعيتني «مقطوعة» وأحسست أن المشي لا يعينني على ضبط الصوت فيها وإخراجها كما ينبغي، فوقفت وأسندت ظهري إلى قبر وذهبت أغني، وهي صورة لا تزال ماثلة بذهني إلى هذه الساعة وإن كنت في ليلتي تلك لم ألتفت إليها، ولا جعلت بالي لها، وكيف يعبأ شاب ثَمِلٌ بالقبور وما انطبقت عليه؟! وعلى أنه متى كان المرء في صدر العمر يفكر في الموت على أنه حقيقة قريبة لا مهرب منها ولا معدَى عن مواجهتها؟ إن الإنسان منَّا ينظر في شبابه إلى الموت — حين يجريه شيءٌ بباله — كما ينظر إلى شيء وراء الجبل، لا يفهمه ولا يدركه ولا يعرف كُنْهه ولا يتصوره إلا على أنه المجهول البعيد. ويشغله صعود الجبل وما يلقاه على هذا الجانب منه، وما يفتنه وهو يتوغل حتى يدنو من القمة، فتتزاحم في رأسه الخواطر والتكهنات عما وراء هذه الرُّبَاوة التي قضى الشطر الجميل من حياته في الصعود إليها، ويَحضُر إلى ذهنه شيئًا فشيئًا معنى الموت ومؤداه، ثم يستبد بخاطره ولا يخاطره، ويكون الإصعاد قد هدَّ القوى كثيرًا وأنهك الجسم فيتبلد إلى حد كبير من فرط التعب، ويواجه فكرة الموت في شيء من الذهول يذهب برهبة الفَناء ويَسلُبه الفزع. وقفت إذن أُغنِّي على القبر وأرسل الصوت في ظلمة الليل غير حافل بما حولي من القبور المتزاحمة أو عابئ بما تحتي من الرُّفات الدَّفين. رفات قوم كانوا مثلي في مِيعَة العمر وعُنفوان الحياة وجهل الشباب يمرحون ويُغنُّون ولا يفكِّرون فيما يصير إليه كل حي من الفناء الشامل. وما فتئتُ على هذه الساعة أعجب لذهولي إذ ذاك عن الموت وأنا في وسط لجته الراكدة. إن الشباب رحمة، وكيف كانت الحياة تكون لو أن فكرة الموت كانت تخامر النفس من المهد إلى اللحد؟ كان حريًّا بها إذن ألا تُطاق وكان خليقًا بالمرء أن يكفَّ عن كل سعي، وأن ينفُض يده من كل جهد يبذله في سبيل أية غاية بالغة ما بلغت من السمو والفتنة، وما خير الحياة أو جدوى المساعي أو عزاء الغايات وهذه الهاوية مفتوحة لابتلاع الإنسان؟ إن الموت هو اليأس، ومن رحمة الله بالخلق أن الحياة أقوى، وأن إحساس المرء بها أعظم، وأن وقعها في نفسه أشفع وأن استيلاءها عليه أتم، والشباب قوة دافقة، والحياة معه تكون جديدة، فلها كل حلاوة الجِدَّة وسِحْرها، ولكنها في الكهولة تكون شيئًا مألوفًا وتجارب معهودة معادة، ومن هنا لا يَحُسُّ الإنسان بالفزع حين يخطر له أنه سيكُف عن هذه الحياة التي ظل يذوقها حتى كاد يحتويها، ولولا أن الحياة عادةٌ ككل شيء في الدنيا، وأن المرء يألَف أن يعيش وأن يتنفس الهواء لما استثقل أن يموت وأن ينقطع عن الدنيا، فالعادة والخيال الذي ينمو مع العمر، والإحساس بالنفس، هذا هو الذي يجعل الموت صعبًا وتجعل لمفارقة الحياة ألمًا. وعلى خلاف ذلك الأطفال والحيوان. وبينما أنا واقف أُغنِّي لمحت شبحًا مقبلًا ولم أشُكَّ في أنه رجل، فما تجرؤ المرأة — إلا في الندرة القليلة — أن تسير بين القبور في الليل فكففت عن الغناء وساورتني الشكوك. وخطر لي أن القادم قد يكون لصًّا، وقد لا يكون ذلك، ولكن وحشة المكان وسكون الليل قد يغريانه بالتلصص. غير أني طمأنت نفسي، وقلت — وماذا أخشى وليس معي شيء يستحِق السَّرقة؟ إن هي إلا بضعة قروش لا تغنيه إذا فاز بها، ولا تفقرني إذا خسرتها، وأنا بعدُ خفيف الوزن سريع العدو وعارف بالمداخل والمخارج، وما أحسبه يستطيع أن يدركني إذا أطلقت ساقي للريح، فلا خوف من القادم، وليكن مَن يشاء، وليس من الحكمة أن أدع الخوف يشيع في نفسي فتظهر دلائله في صوتي وحركاتي، فيُطمِعه ذلك فيَّ إن كان رجلَ سوء، على أن الحَزامة مع ذلك أن أتوارى خلف قبر منزوٍ، لأراه دون أن يراني، ولا أعرف ماذا هو، وليَسِر أمامي وأكون أنا وراءه فذلك أدعى إلى الاطمئنان. ودنا القادم فإذا هو شيخ كهل، أبيض اللحية وفي يده سُبْحة، وهو يذكر الله أو يتلو من القرآن أو لا أدري ماذا كان يتمتم، وبأي كلام كان يحرِّك شفتيه، فغاظني أن هذا الشيخ الضعيف قد أفزعني، وكأنما تحركت نفسي للانتقام منه، فغافلته في بعض الطريق وظهرت له فجأة من وراء قبر، فرِيع المسكين وكاد يتهافت إلى الأرض، وأسرعتُ فتواريتُ وعُدتُ أدراجي مسافة قبر أو قبرين — أي بضعة أمتار — وكان الرجل يتلفَّت حوله فلا يُبصِر شيئًا ولا يسمع حسًّا فشد بعضه إلى بعض وتَفَل يَمْنةً ويَسْرةً ورفع صوته باستعاذة من كل شيطان رجيم، واستأنف التلاوة والسير، وأنا أتسلل بين القبور وراءه، وصارت خطاه أسرع، فأدركت أن الخوف لا يزال في قلبه، ووثبت إلى جانبه مرة أخرى، ومددت يدي بخفة فجذبت شعر لحيته فصرخ واختفيت، ودُرت من وراء القبور فسبقته وأنا أكاد أُجنُّ من السرور والجَذَل، وصدري يكاد ينفجر بالضحك المكتوم، وصبرت حتى مرَّ بي فدفعت يدي إلى خَصْره ودغدغتُه، فأُقسِم لقد وثب الرجل عن الأرض كأنما كنت قد غرزت في جنبه سيفًا أو حديدًا محميًّا ورأيت فرصتي سانحة؛ فقد بلغ الاضطراب بالرجل غايته، وصار يخلط في كلامه كالذي لا يعي ما يقول، فكان يصيح «أعوذ بالله من …» من فرط ما أصابه من الفزع. وجئته من ورائه ورفعت صوتي بالزمزمة وبكل ما أستطيع إخراجه من الأصوات المنكَرة فانطلق الرجل يعدو! وهكذا أفلت مني … وكنت قد تعِبت فلم أحاول أن ألحق به، فمشيت متمهلًا ونفضت التراب عن ثيابي وخرجت إلى الطريق العام المطروق وبعد قليل — ربع ساعة أو نحو ذلك — بلغت مسجد الإمام الشافعي، وكان المؤذن يمهِّد للأذان بغناء سخيف، والناس يخرجون إلى المسجد ليتهيئوا لصلاة الفجر، فرأيت جماعة يحيطون بصاحبي الشيخ وهو يقول لهم: «وكان كالقط الأسود، يثب على كتفي ويلحس لي خدي وينفذ من بين رِجلَي، ويدخل بين الجُبة والقفطان، وكنت أستعيذ بالله فتنشق الأرض ويغيب في جوفها، ولكنه كان يعود فيظهر لي أحيانًا في صورة الدُّبة راكضًا على يديه ورجليه، وأحيانًا أخرى في مثل كفن الميت خارجًا من تحت أحجار القبر، وقد تمزق اللثام عن وجهه وبرزت عيناه تقدحان بالشرر فأتلو ما تيسر من القرآن فيلتفُّ الوجه في خِرقة ويهوي الجسم إلى جَدَثه. ولست أنسى ما حييت أسنانه! لقد كانت كالجمرات لامعة حمراء وكانت تضطرب في فمه وتخفق كالنجوم والحمد لله الذي أنجاني من عِناقه …» فقال أحدهم: «أتُراه همَّ أن يعانقك؟» فقال الشيخ: «همَّ؟ همَّ يعني ماذا؟ أقول لك: إنه مدَّ ذراعين كأنهما مِئذنتين ودنا مني ليطوقني بهما، ولمع الشوك الذي في صدره كأسنان الحراب فلولا أن ألهمني الله أن أقرأ آية الكرسي لكنت أنا الذي مُتُّ.» قال آخر: وهل مات؟ غريب! فقال الشيخ: «لقد احترق، أحرقتْه آية الكرسي. ثم استأنفت السير حتى بلغت هذا الطريق عند …» ودار بوجهه ليشير إلى المكان الذي نفذ منه إلى الطريق العام فأبصرني وراءه فاضطرب وصاح وهو يشير إليَّ بيديه: «أهه. أهه … أهو …» فلم يفهم أحد سواي معنى صيحته وإشارته، ورددت الضحك الذي ازدحم في حلقي والتفتُّ ورائي، كأنما أريد أن أنظر إلى حيث يشير، وكان الرجل يتراجع ويلصق بالناس فسأله بعضهم: «أين؟ إنَّا لا نرى شيئًا!» فمسح الشيخ وجهه بكفه وفاء إلى الهدوء وقال: «غريب! غريب! إن هذا الأفندي يشبهه جدًّا.» فلم أرَ مانعًا من الضحك وقلت: «أترى لي وجه عِفريت؟» وكان بين الواقفين رجل أعرفه ذكيًّا خبيثًا ويظهر أن الشك خالجه في الحكاية أو أنه فطِن إلى بعض الحقيقة فقال لي: «اسمع. مِن أين جئت؟» قلت، وقد أدركت ما يرمي إليه: «جئت من هذا الطريق.» وكان هذا كذبًا أو بعض الحقيقة. ولكني خِفتُ أن يجرَّ الصدق عليَّ الفضيحة. فعاد يسأل: «هل جئت من السيدة نفيسة أو من القلعة.» قلت: «من القلعة ولا شك. ومَن الذي يجرؤ أن يمشي بين القبور؟» فتمتم شيئًا لم أسمعه ومضى عني ونجوت. وهكذا عرفت أني كنت في ليلتي عفريتًا من الجن!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/16/
رجل ساذج
كان لنا — ونحن شُبَّان — رجل ساذج لم يعرف سوانا. كأنما قد هبط علينا من السماء. وكان الواحد منا يذكر معارفه أو يصف القرية التي هو منها، أو يقص علينا مغامراته، أو يحدثنا بمعاشقه، ويعرض ما عسى أن يكون محتفظًا به من مثل خصلة شعر أو منديل أو نحو ذلك، وهو واجم كئيب لا يفتح فمه. وكان يخشى ركوب الماء ويجزع من اضطراب الزورق على متنه، ولا يزال ينتقل من جانب كلما مال، ولقد اضطررنا مرة أن نشده إلى سارية الزورق لنستريح من قلقه. وأنشدته مرة قصيدة ابن الرومي التي يصف فيها ما لقي في البَر والبحر من التباريح والمخاوف. فلما بلغتُ قوله: صفَّق وتحمَّس وقال: إن هذا «رجل عاقل»، وبعد أيام انتحى بي ناحية وسألني أتعرف ابن الرومي؟ فلم أعجب لسؤاله وقلت: «نعم.» قال: «أرجو منك أن تعرِّفني به.» فوعدته أن أفعل. وشاورت إخواني كيف أصنع؟ ولما اتفقنا، قدمتُه إلى شيخ وقور كثِّ اللحيةِ إلا أنه أحمق سريع الغضب وفي وسع القارئ أن يتصور ما وقع. وبحسبي أن أقول: إن صاحبنا خرج من مجلسه وقد أصابته عكازة الشيخ على رأسه وركبته، وكانت إصابة الركبة أوجع فظل يظلَع أيامًا. وسألته بعدها عن ابن الرومي كيف وجده؟ فكاد الدمع يطفِر من عينه وقال في سذاجة محببة إلا أنها مغرية: «الحق عليَّ. إن التهجم على كبار الناس سوء أدب …» ولست أنسى ما حييت حادثة أردنا أن نركبه بالدعابة فيها، فأفضت إلى مأساة أو ما هو في حكمها. ذلك أننا أوهمناه أن فتاة رومية تعمل في «بار» شهير تحبه، وألححنا عليه بذلك حتى صدَّق، وكنا نجيئه بقليل من الفستق أو الشكولاتة ونزعم ذلك هدية منها إليه، وكان هو حييًّا يخجل حتى من مخاطبة الأغراب من الرجال فكيف النساء! فجعل يغشى هذا «البار» في الساعة التي يكون على الفتاة أن تجلس فيها إلى «الكيس» ويجلس بحيث يراها ولكن على بُعد، فندعه أحيانًا، وأحيانًا أخرى نلحق به ونثني على جمالها ونتنافس في وصف مفاتنها، فيشرق وجهه وتومض عيناه، كأنما يحمد منا الثناء على حسن اختياره! ونروح نسأله: ألا ترى كيف تغمز بعينيها؟ أليس من الواجب أن تبادلها غمزة عين بغمزة عين؟ فيفعل المسكين ونجاهد نحن أن نخترع سببًا لما ننفجر به من الضحك. وما زلنا نحثه على استعمال إشارات الحب حتى صار يدخل البار ومعه طاقة شتَّى من الورود ما بين حمراء رمز الحب المتقد، وبيضاء عنوان الطهر والعفاف، وصفراء للدلالة على ما أصاره إليه السهر والبكاء واللهفة من ذبول لونه، فيجلس ويشرع يخاطبها بهذه اللغة الدقيقة، حتى إذا فرغ من هذا المعجم استعمل المناديل يضعها على فمه، أو يكفكف بها الدمع الموهوم أو يُفكِّر ما بين أصابعه. ولم يَعُد يبالينا أو يحفِل بغيرنا من الناس، فقد اضطرمت نفسه ولَعَجَه حُبُّ هذه الفتاة. والحق أقول: إننا أسفنا لمَّا تبيَّنا ما صار إليه الأمر، ولكنَّا لم نستطع أن نثنيه عن هذيان قلبه، وكان كما قلت ساذجًا جدًّا حييًّا إلى درجة تفسد الحياة وتحيل الانتفاع بها من المستحيلات، ولكن الحب خلق شخصًا جديدًا وأسعفت السذاجةُ الحبَّ وأعانته على الاستبداد بنفسه، وما راعني يومًا إلا هذا المسكين يعود إليَّ ويقول: «هنِّئني.» قلت، وقد طاف برأسي أن المستحيل قد وقع: «بأي شيء؟» قال: «لقد خطبتُها!» قلت، ولم أستطع أن أخفي دهشتي: «خطبتها؟ أنت؟» قال: «نعم، ألستُ أُحبُّها؟!» فلم أدرِ أؤهنِّئه أم أَرثي له؟ وخرجتُ من هذه الحَيرة باجتناب الاثنين جميعًا وسألته: «ومتى الزواج إن شاء الله؟» فطال وجهه فجأة وحاول أن يبتسم، ولكنه لم يوفَّق إلا إلى جعل وجهه مفزعًا وقال: لن أتزوجها. وكأنما أحس أن الأمر يحتاج إلى إيضاح، فزاد على ذلك «أعني أني أظن خيرًا لي ولها ألا أتزوجها.» فلم أرني زدتُ بإيضاحه إلا حَيرة فصحتُ به بلهجة قاسية: «إنك مغفل.» فأدهشني أن تنبسط أسارير وجهه وأن يقول: «نعم أنا مغفل ولم أكن قط أجهل ذلك. وأنت تعلم أني أحبها وقد خاطبتها في الزواج. فكانت كريمة جدًّا مؤدبة جدًّا. لم ترفض ولكنها لم تقبل أيضًا. والحق أقول يا صاحبي. لم يسعني إلا أن أصارحها بأني … كما تعلم مغفل، وأنها تكون أسعد لو تزوجت رجلًا … رجلًا … غير مغفَّل … يجب — ما دمتُ أحبها — أن أقدِّم خيرها على رغبتي. أليس كذلك؟ إنَّ من حقِّها عليَّ وواجبي نحوها أن أراعي مصلحتها … قل لي أليس هذا خيرًا؟» فلم أقل شيئًا ومضيتُ عنه لا ساخطًا ولا ناقمًا، ولكن فائض النفس جائش الصدر وماذا عسى أن أقول لهذا المسكين الطيب القلب؟ ولم نضحك بعدها منه أبدًا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/17/
ابن البلد
البلدُ القاهرةُ أو مصرُ — كما كانت، وكما لا تزال تُسمَّى هذه العاصمةُ — أو طائفةٌ من الأحياء هي الواقعة بين العباسية والسيدة زينب، وابنُها شخصيةٌ شاع فيها الفناء عُلُوًّا وسُفْلًا، وعفت عليها المدنية فلا يكاد المرء يلتقي بها في هذا العصر، وما أسرع ما تداعت الأسوار وطغى عُباب الحياة! قبل عشرين سنة فقط كنتَ ترى ابن البلد هذا «مستفيضًا» وتلقاه في حيثما تكون ولا تخطئه عينك وهي تدور بلحظها، فهو رجل دنياه مصر أو تلك الأحياء القديمة منها، لا يعرف غيرها ولا يكاد يدري أن فوق ظهر الأرض سواها، وهَبْه يدري فما أقل ما يعبأ بذلك أو يحفله، والزمن عنده اللحظة التي يكون فيها، وهو ذكي إلا أنه جاهل، وظريف سوى أنه مغرور، وحيٌّ ولكنه لا يحيا إلا بحراسة، تدور الدنيا حوله على محورها أو على قرن الثور الذي يحملها ويدور رأسه معها ولكنه لا يعرف ولا يرى شيئًا ولا يسأل عن شيء ولا يكترث لشيء ويحتقر الريف لأنه يجهله، ويزدري المدنية لأنه لم يألفها، ويعتز بنفسه ويستضخم أمرها؛ لأنه سهر الليالي وأحياها بالغناء والشراب والعربدة، وهو مثال الرضا عن النفس والجود الذي يخلفه هذا الرضا، وإذا كان يرى كل شيء من قريب فما من شيء يدعوه إلى العجب أو يبتعث الرغبة في الاستطلاع، وكل إحساس له يصل إليه عن طريق الفكاهة، وأشد ما يبغض أن يضطر إلى الجَلَد والوقار، وليس في نفسه محل للاعتراف بالجميل، والأمر عنده مجاملة متبادلة أو حق له أن يجيبه وعليك أن تؤديه، هو المثل الأعلى لنفسه — أو لعله جارٌ سابع أو ثامن — فليس لغير نفسه احترام ولا مطمح له إلا أن يظل قادرًا على التحفظ بمظهره، فلا عناية له بالسياسة أو شئون الحكم، وبحسبِه من العلم بالحكومة ومَهمَّاتها أن يرى مواكب رجالاتها، ومن التطلع إليها أن يتصور نفسه راكبًا مركبة المحافظ أو أن يكون ممن يحظون بالدخول على «رياض باشا». يفتح عينه على الدنيا كل يوم قبيل الظهر، فتُنحى الستائر عن النوافذ ويُؤذن لنور النهار أن يدخل، وبعد أن يقضي ما يشاء من الساعات التي تأبى إلا أن تكر في التمطي والتثاؤب وتناول الطعام والقهوة المرة مُذابًا فيها العنبر، يقوم إلى ثيابه فينتقي منها جُبة وقفطانًا منسجمَين متجاوبَين ثم يلفُّ العمامة — ولفُّها مهمة شاقة قد يستغرق بقية النهار إلى العصر — ثم ينزل إلى المنظرة ويتلبث بها ريثما يشرب القهوة ويشد أعصابه، ثم يخرج إلى دكان بدال أو حلاق أو عطار أو غير هؤلاء، ويتوافى الرفاق وتُروى أنباء السهرات. ويسأل السائلون عن «عبده» أو «عثمان» أين يغني الليلة؟ ويتفق الإخوان على مكانٍ يجتمعون فيه وشرابٍ يجلسون إليه. ثم يتحاملون بعد أن يقضوا وطرًا من النهار إلى المغنَى ولعلهم غير مدعوين فيظلون إلى طلوع الشمس في آهات صاخبة وضوضاء تُرجِع ما بقي من الرأس وتزلزل الكيان. ومجالس أبناء البلد نكاتٌ خشنة وضحك مقرقع. وأعذب ما يكون طعم الحياة في أفواههم حين يركبون صاحبًا لهم بدعاية عملية. أعرف واحدًا من أظرف أبناء البلد وأكرمهم وأرقهم حاشية لا يرضى عن نفسه إلا إذا استطاع أن يوقِع واحدًا ممن يسهل التماجن عليهم في مأزق أو يزج به في ورطة. وكان يستثقل ظل واحد من حراس المقابر. وكان هذا لا يفتأ يغشى مجلسه وينغِّص عليه لذاته البريئة بتذكيره بالموت وإحضاره إلى ذهنه. فأراد أن ينفيه عن هذا المجلس فأوعز إلى خادم فاستأجر هذا مُكَاريًا وبعثه برسالة إلى صاحبنا الحارس مكتوبة على لسان تاجر معروف، والدته مريضة يدعوه فيها إلى الحضور إليه بأسرع ما يستطيع للاتفاق على بناء مقبرة، فجاء المُكَاري إلى الحارس بالرسالة ففضَّها فتهلَّل وجهه وراح يَحسُب الربح المنتظَر من وراء هذه «المقاولة»، فلم يصرف المكاري بل ركب الحمار ومضى إلى التاجر ودخل عليه وحيَّاه ودار بينهما حديث: ورأى أن يحل الإشكال ويحسم الخلاف بتقديم الرسالة التي تلقاها. وتصوَّر موقف الرجلين حين فض الرجل الخطاب واطلع على هذه «البشرى» في الصباح الباكر. ومن نوادر صاحبنا أنه وصف مرة لبخيل طريقة لصنع «الكنافة» وأقنعه بتجربتها. وجاءنا البخيل بعد أيام — وكان ذلك في رمضان — يشكو ويسخط ويلعن ويقول: «اشتريت أربعة أرطال من الكنافة، وناولتها امرأتي وقلت أَعدِّيها، وجئت بثلاثة أرطال من اللبن الحليب كما أوصاني اللعين — خيبة الله عليه — وغلينا اللبن قبل المغرب بدقيقتين، وكانت «الكنافة» قد نضجت. فلما سمعنا مدفع المغرب صببنا اللبن عليها وأغرقناها فيه، وأقبلنا على الطعام نتناول منه بقدر لنترك مكانًا «للكنافة» وإذا بها عجين لا يُؤكل ولا يصلح لشيء إلا أن يُرمى للكلاب! وهكذا ضاع عليَّ ما أنفقته في الكنافة من السمن والسكر واللبن والزبيب والصنوبر والبندق والجوز واللوز وثمن الوقود، وضاع عليَّ سائر ألوان الطعام التي لم أكد أمسها ترقُّبًا للكناقة. فبماذا أدعو عليه؟» وابن البلد لا يعرف الريف ولا يصبر عليه، وإذا خرج إليه استغرب أن الطريق ليس غاصًّا بالمساكن المتلاصقة، وأن الأشجار قائمة هنا وهناك، وأن الدنيا أرحب مما كان يظن، وأحس بالميل إلى الضحك، ولكن ثقته بنفسه تفارقه مع المدينة التي غادرها، ويرى نفسه بين الفلاحين غريبًا ويسمعهم يتكلمون فيما لا يفهم، ولا يسعه إلا أن يَنْهَز معهم بدلوه، ويخطئ عندهم سهراته ومجالسه، ويحتاج أن يغيِّر عاداته وأن ينزل عنها وأن يحتمل الاضطراب الناشئ عن ذلك، ولا يحس في الريف ذلك التعاطف القريب، ولا يفهم أن ينام على ظهر الفرن ومع النساء والأولاد والطيور والبهائم؛ لأن له «مزاجًا» والناس في الريف أكثر ما يكونون بُعَداء بعضهم عن بعض، وهم يقضون أوقاتهم مبعثرين في الحقول فليس في مجالسهم ذلك الصقل ولا تلك النعومة التي تكون لمجالس أهل المدن، فهي لا تخلو من جفوة طبيعية وتكلُّف محسوس، وصخبٍ مرجعُه إلى اعتياد أهل الريف أن يتخاطبوا بأصوات عالية لبُعد المسافات بينهم، وقلما يشعر الحضري بحرارة الترحيب إلا حيث يكون قدوم الغريب «حادثة» يندر أن تتكرر، فيتدفق الكرم المحبوس إذا لم يكن له مجال! ولظهوره فرصة كبيرة فيُقبِل الناس عليه ويفرحون به إقبالهم على التحفة النادرة أو المنظر الذي لا يجود به الزمن مرارًا، وهكذا كان الحال قبل أن توثِّق المدنية ما بين القرية والمدينة من الروابط، وتسهِّل عليهما الاتصال والتبادل والتفاهم والتقارب. وابن البلد قد يكون أديبًا أو فنانًا — إذا كان قد جاور في الأزهر في صدر شبابه — وأدبُه البيت أو البيتان من الشعر يُضمِّنهما نكتة لفظية أو معنوية، يداعب بهما صديقًا، وأكثر ما يكون نظمه للأزجال والمواليات، وربما نظم التوشيح ودفع به إلى ملحن أو مغنٍّ، وهو لا يحفظ من الشعر إلا ابن الفارض ومَن إليه، وإذا كان فنانًا فهو من هواة «العود» على الأخص، تبتدئ وتنتهي دنياه بالشراب والسماع والوجه الحسن، وفيما عدا ذلك لا وجود للدنيا. ولا يعرف ابن البلد الحبَّ ولا يُحسِن أن يعشق، والجمال عنده يوزنه أرطالًا أو قناطير، والمرأة مخلوق يُداعب ويُغازل ويُجمش إلى آخر ذلك، وليست إنسانًا يبادلك العواطف ويعاونك في الحياة ويقاسمك متعَها ومتاعبَها ويؤدي مثلك وظيفته التي خُلق لها. وقد ترى ابن البلد عاشقًا ولكنه عاشق بحواسه، لا يعرف صبوة النفس إلى النفس وحنة القلب للقلب. وهو يجود في غير كرم، ويمسك في غير بخل، ويتكلم بغير علم. ويضحك بغير جدل. ويحتشم في غير أدب. ويسير في الدنيا غير محتفل. ويقضي الحياة غير عابئ بما كان أو مكترث لما يكون. همه أن يأكل وينام ويُسَر ويضحك. فالضحك وما يعين عليه من الشراب ومجالس الإخوان غرضٌ يسعى إليه وغاية تعتمد. والحياة آخرها الموت. فما خير التعب فيها وإرهاق النفس بالعمل والطلب؟ أليس كل شيء إلى فناء؟ فما أولاه باغتنام الساعة التي يكون فيها وما أسخف مَن يُعنُون أنفسهم ويحرمونها لذاذات العيش ومُتَع الوجود؟ ألم ترَ إلى فلان الذي قضى عمره يجمع المال ويطلب المناصب ويُريق ماء وجهه على الأعتاب ويُقتِّر على نفسه ليغنى ويضيِّق على ذويه ليتسع؟ ألم ترَ إليه كيف قضى نَحْبه وهو جالس على باب الحلاق؟ فماذا أجدى عليه تعبه وسعيه وتقتيره وحشده؟ إن فيه لعِبرة لسواه. فهات الكأس وأصلح الأوتار، وأطلق صوتك بالغناء ينفي عن النفس وحشتها وتجل صداها وتُنسِها أن الحياة إلى انقضاء. فابن البلد فلسفة عملية تجهل نسبها العريق في الأبيقورية المشوَّهة، ولم يعفُ عليها الزمن حين عفا عليه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/18/
صورة وصفية لصحفي
قضى «م» سنةً كاملة يعمل في سكون في الصحيفة التي التحق بها، ويؤدي الواجب الذي وكله إليه رئيسه بإخلاص ودقة، وكان واجبًا شاقًّا، ولكنه كان يجد فيه مَلهاة عن هموم الحياة. وعرف له رئيس التحرير فضلَه فكان لا يفتأ يُثني عليه ويشجِّعه ويبلِّغه حُسنَ رأي الناس فيه وحمدَهم مجهوده، وكان يُخجِله أن يسمع هذا المدح ولا يدري بماذا يجيب فيقطِّب — وهو يريد أن يبتسم — ويتلفت يمينًا وشمالًا كأنما يبحث عن نافذة يثب منها. وطلب منه رئيس التحرير يومًا صورته فرِيع المسكين وقال: «صورتي؟» قال: «نعم صورتك. نحن في ديسمبر كما تعلم.» قال وقد زادت حيرته: «أعلم هذا، ولكن ما العلاقة بين كوننا في ديسمبر وبين صورتي؟» فابتسم رئيسه وقال: «قد اعتزمتُ أن أعطيك جوازَ ركوب مجاني للترام. هذا ما أستطيع أن أكافئك به الآن، وقد كان بودي أن أزيد مرتبك، ولكن لا أرى هذا ميسورًا في الوقت الحاضر. وفي مرجوي أن أستطيع بعد قليل.» ولبث أيامًا يخجل أن يُبرِز الجواز أو ينبئ عمال الترام أنه «أبونيه» ويؤدي أَجْرَ الركوب، ذلك أنه أحس بشيء من الحرج؛ لأن الجواز مجاني، وخُيِّل إليه لغير ما سبب معقول أن «الأبونيه» منحةٌ من الشركة، فلا يبعد أن يخطر لها يومًا أن تسترده، وتجسَّم له وهمُه فكان يتصور أن العامل جاءه يطلب ثمن التذكرة، فقال له «أبونيه» فطلب رؤية «الأبونيه» وفتحه ثم طواه ودسَّه في جيبه وقال «تذكرة من فضلك»، ومع اطمئنانه إلى استحالة هذا، صار يستدرج إخوانه الذين يحملون مثل جوازه ليركبوا معه. أو على الأصح يركب معهم وإن كان طريقهم غير طريقه ليطمئن ويتشجَّع، حتى ألِف هذه الحالة الجديدة. وعلى أنه مع ذلك ظل زمنًا كلما مر به عامل الترام وهو راكب، يتوخَّى أن يكون سلوكه وهيئته على خير ما ينبغي. فإذا كان واضعًا رجلًا على رِجلٍ أنزلها، وإذا كان يتكلم صمت، وإذا كان ناظرًا إلى اليمين أو الشمال رمى بعينه إلى الأمام كأنه تلميذ لمحه المدرس يتشاغل عن الدرس. وكتب يومًا مقالًا ودفعه إلى رئيسه فما راعه في اليوم الثاني إلا رؤية المقال في صدر الجريدة وفي ذيله اسمه. فألقى القلم وأسرع إلى رئيسه يؤكِّد له أنه لم يذيِّل المقال باسمه، وأن المسئول سواه عن هذا الخطأ أو التصرف المعيب. فقال رئيسه: «ألم يخطر لك أن من الغبن أن جمهور القراء يجهل اسم كاتب مقالاتك؟» فدهش واستحيا أن يخالف رئيسه لا جبنًا؛ بل لأنه لا يحب أن يتهمه رئيسه بقلة الفَهْم، ومضى الرئيس في كلامه فقال: «لقد وضعت اسمك في آخر المقال حتى من غير أن أستأذنك.» فتمتم «العفو. أستغفر الله.» «لأني رأيت أن من الواجب إنصافك. إن أسلوبك فيه فن وقوة لا أرى لهما مشبهًا في كتابات غيرك. ومن العدل أن يعرف القراء أنك أنت صاحب هذا الفن الرائع ومبتكر هذا الأسلوب المحكم.» فوجد قوة كافية للاعتراض فقال: «ولكني لا أعرف أن لي أسلوبًا …» فقاطعه رئيسه: «إن هذا تواضع يزيد قدرك.» فتحامل على نفسه وقال: «أؤكد لك أني صادق.» «لا شك في ذلك.» «ليس لي أسلوب أو فن، وليس في قولي هذا شيء من التواضع إنها الحقيقة.» قال الرئيس «إذن هو كبر أن يكون بك كبر.» قال: «كلَّا. كلَّا. ولا هذا.» قال الرئيس وقد ضجر: «إذن أعصابك متعبة استرح بضعة أيام.» ولكنه لم يسترح، وحاول بعد هذا الحديث أن يكتب فصار يمزق ورقة بعد أخرى ولا يزيد على سطر في واحدة منها. فوضع القلم يائسًا وقال ما أظنني أستطيع أن أكتب شيئًا بعد هذا، وراح يعجب كيف كان يؤاتيه الكلام وكيف صار يستعصي عليه الآن، أسلوب؟ فن؟ ماذا يعني؟ إن كل ما يعرفه أنه كان يتناول القلم ويُجريه على الورقة، وكانت الألفاظ تُسعِفه ولم يكن يجد عناء في تخيرها، بل لم يكن يتخير أو ينتقي، فما له الآن لا يقدر أن يخُطَّ حرفًا؟ وتناول طائفة من أعداد الجريدة وجعل يقرأ مقالاته من جديد لعله يقع على ما فيها من الفن ويتبين ذلك الأسلوب الذي يذكرونه، فلم يهتدِ إلى أسلوب أو فن، وألقى الصحف ونهض عن المكتب واستأذن في الخروج، وقد أيقن أن مستقبله في الصحافة قد قُضي عليه. ••• وبعد بضعة أسابيع دعاه رئيس التحرير وطلب منه أن يتحرَّى مسألة من المسائل. فقال: «أرجو أن تدع لي مفاتيح المكتبة.» فذُهِل رئيس التحرير وقال: «المكتبة؟ أو تحسَبُ أن هذا مما يوجد في الكتب؟» فسأل: «أين إذن أجده؟» قال: «لو أمهلتني لما أحوجتني إلى هذا.» وشرح له الموضوع ثم قال: «فعليك الآن أن تقابل وزير الخارجية في مكتبه.» فسأل: «متى أستطيع ذلك؟» فضجر الرئيس وقال: «لا تكن طفلًا يا «م» …» وفي صباح اليوم التالي ركب سيارة حملته إلى الوزارة المقصودة، فلما دخل لم يدرِ إلى أين يذهب ولا إلى أي ناحية يقصد، ووقف لحظة يدير عينه في البناء ويرجو أن يلقى أحدًا تكون له به معرفة، ولما طال الأمر راح يتمشَّى، ثم خشي أن يضيع الوقت فعاد إلى الجندي الواقف بباب الوزارة وقال: هل تستطيع أن تدلني على غرفة صاحب المعالي الوزير؟ فصعَّد الجندي فيه نظره وصوَّبه ثم قال: «ادخل من هنا وامشِ في خط مستقيم.» ففعل ولم يزل داخلًا حتى صار في حجرة واسعة فاخرة الأثاث، ولكنه لم يجد فيها لا مكتبًا ولا وزيرًا والتفت فرأى بابًا مواربًا فمد عنقه وأطل منه فرأى مكتبًا وليس أمامه إنسان، فشجَّعه خُلو المكان فالتفت وراءه فلم يجد أحدًا، فتقدَّم خطوة وأطل مرة أخرى فأخذت عينه ما أيقن معه أن الغرفة غرفة الوزير، ولكن الشك خامره. إذن أين الوزير والساعة الآن الحادية عشرة؟ وكيف يخلو المكان من حُجاب وشرطة وموظفين قائمين في خدمته؟ كلَّا. بل أكبر الظن أن الوزير في مكان آخر. ورجع فالتقى بشرطي فسأله. فقال بل هي الغرفة وهنا (وأشار إلى غرفة صغيرة) سكرتير الوزير. فحمل بطاقته مستأذنًا في الدخول عليه وخطر له وهو يناوله البطاقة أن مخبري الصحف مساكين؛ لأنه ظنهم لا يدخلون على موظف إلا إذا بعثوا إليه بطاقاتهم مقدمًا. وأُذِن له في الدخول فحيَّاه بلسانه ورفع به بالسلام فلم يزد السكرتير على أن هز رأسه، وقال: نعم. قال هل أستطيع أن أقابل معالي الوزير؟ قال السكرتير: «إنه مريض.» فقال صاحبنا: «مريض؟ لا بأس عليه. أرجو أن تبلغه سلامي.» فابتسم السكرتير وخرج «م». وقد سرَّه أن الوزير مريض وأنه نجا من لقائه أكثر مما ساءه أن عاد بلا جدوى. وخُيِّل له أن رئيس التحرير يدرك ما انتابه وأنه يتعمد أن يصرفه عن الكتابة ويكلِّفه مهمات من هذا القبيل، فقد بعث به في اليوم التالي إلى وزير الحقانية، فخرج ولم يركب في هذه المرة سيارة؛ لأنه تفقَّد ما في جيبه فاستقلَّه، ولم يشأ أن يُرهِق الجريدة بكثرة النفقات، وخجل أن يطلب أجرة الركوب مقدمًا. ولم يكن قد احتاج من قبل أن يذهب إلى وزارة من الوزارات، فسأل بعض مَن لقيهم في الطريق فدلُّوه، وكان وهو سائر يفكر في ثقل هذه التكاليف وفي هذه الضرورات المتعبة، وانتقل من هذا إلى التفكير في الموضوع الذي يقصد إلى الوزير من أجله، فلم يرَ أن المسألة تحتاج إلى استفهام أو لقاء وزير، وكيف يبدأ الكلام؟ وماذا يفعل إذا رفض الوزير أن يجيب؟ ولماذا لا يذهب رئيس التحرير بنفسه؟ وكان في أثناء ذلك قد دخل من باب وزارة وقطع الفناء ووصل إلى السلَّم فصعد وهو لا يزال يحاور نفسه، وسأل عن غرفة السكرتير فسار به شرطي إليها، فأعرب له عن رغبته في مقابلة الوزير، وكان السكرتير يعرفه فأكرمه ورحَّب به وطلب له قهوة، وبعد نحو ساعة مضى به إلى باب فتحه وأشار إليه أن يدخل. فقال الوزير: «أهلًا وسهلًا … زيارة نادرة، تفضل.» فجلس على حرف الكرسي وافترَّ فمُه عن ابتسامة بلهاء، وكان يدرك أن عليه أن يتكلم، ولكن لسانه خانه كأنما قد استُلَّ منه، ولم يكن ينقصه أن يحدث له هذا ليزيد ارتباكه، وكان الوزير دمثًا رضيَّ الخُلق، فابتسم وقال له وهو يميل إليه: أتشرب القهوة؟ – كلَّا! – إذن خذ سيجارة. – ولا هذه! – ألا تدخن؟ فأومأ المسكين برأسه أن نعم، فقال الوزير «إذن يجب أن تدخِّن!» وقدَّم له العُلبة فأخذ منها واحدة وأسقط واحدة أخرى على المكتب واستطاع فضلًا عن ذلك أن يطير بكمِّه بضع أوراق، وانحنى يريد أن يلتقطها ويعيدها إلى مكانها، فصدم المكتب برأسه ونزل الطربوش إلى أذنيه، فضحك الوزير وقال: «لا بأس، والآن ماذا أستطيع أن أفعل لك؟» فجرَّ صاحبنا الكرسي ودنا به من المكتب وتنحنح ثم استطاع بجهد أن يفضي بالموضوع، وكان الوزير في أثناء ذلك يقطِّب حاجبيه أو يرفعهما أو يستعيده بعض ما يسمع منه، وهو مستغرب، وصاحبنا لا يفطن إلى آيات الدهشة في وجهه ولا يدرك أمارات العجب ولا يلتفت إلى دلائل الملل، وأخيرًا قال: «وقد جئت راجيًا أن تتفضلوا عليَّ بيان وافٍ على قدر المستطاع في هذا الموضوع.» فقال الوزير ولم يخفِ امتعاضه: «ولكن هذا من اختصاص وزير الحقانية!» ولو كان صاحبنا حاضر الذهن لفطن إلى الغلط الذي وقع فيه ولاستطاع أن يُحسِن التخلُّص. ولكن لسانه سبق رأسه فقال: «ولهذا جئت لمعاليكم.» قال الوزير وقد اشتد امتعاضه: «ولكني لستُ وزير الحقانية»، فبُهِت المسكين، ووقف لسانه في حلقه، ودارت به الأرض، ورثي الوزير له وأدركه العطف عليه، فلاطفه وقال: «لا بأس، الغلط مردود (وضحك) لم يَضِع الوقتُ، يمكنك أن تقصد إلى وزير الحقانية الآن، لقد سرَّتني زيارتك على كل حال وأرجو أن أراك مرة أخرى، نهارك سعيد.» وخرج «م» وهو لا يرى ولا يفهم شيئًا. ماذا عسى أن يقول عنه رئيس التحرير أو أي إنسان حين يعلم أنه يخلط بين وزير الحقانية ووزير … أيُّ وزارة هذه التي كان فيها؟ حتى هذا لا يعرفه أو هل يجرؤ الآن أن يستخبر أحدًا؟ وهل يجرؤ أن يعود إلى جريدته جاهلًا أيَّ وزير قابل، فوق ما كان من جهله وتخليطه. ولم يكن يخفى عليه أن الحل الوحيد هو أن يقصد إلى الحقانية ويقابل وزيرها. ولكن اضطرابه بلغ مبلغًا احتاج معه إلى علاج، فقصد إلى قهوة قريبة وأُلهِم أن يطلب كأسًا من الويسكي جرعها صرفًا، ولم يلبث أن سكنت نفسه قليلًا، فشرب كأسًا ثانية وثالثة، ثم قام إلى بغيته وبه من الثقة بالنفس ما لا يذكر أنه أحسه من قبل، ورأى من الأمانة أن يكاشف رئيس التحرير بما كان من غفلته. فضحك حتى كاد يقع من فوق كرسيه وقال: يا صاحبي. إنك كاتب لبق يسعك ما لا يسع فرقة بأسرها من الكتاب حين تجلس إلى مكتبك، ولكن حين تلقى الناس لا تعود صالحًا لشيء أو قادرًا على شيء. فاذهب إلى مكتبك ولا تزايله فما نستطيع أن نخلقك خلقًا جديدًا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/85938393/
صندوق الدنيا
إبراهيم عبد القادر المازني
كنت أجلس إلى صندوق الدنيا وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا … وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، أرجو أن يقسم لصندوقي هذا أن يكون — فى عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل.
https://www.hindawi.org/books/85938393/19/
حلم بالآخرة
وحُشروا جميعًا في الزورق الذي اتسع لهم جميعًا، الأطفال حزمة واحدة بلا سؤال أو مراجعة، ثم الشيوخ والعجائز الذين لم يُبكِهم أحدٌ، ثم قتلى بعض المعارك في جهات من الأرض لم أسمع بها في حياتي — فما أحوج علم الجغرافيا إلى بعثة تذهب إلى هناك — ثم رجل قتلته امرأة وعشيقها، ثم الذين أفنتهم الحُميات ومعهم طبيب هَرِم، ودفع شارون الزورق على اللُّجة، وتركني على الشاطئ فأحسست بالوحشة وخِفتُ أن أتعفن إذا بقيت وحدي إلى الغد، فصحت بشارون أن يحملني معه فأبى وقال: إن الزورق غاصٌّ وليس فيه موضع لقدم، فيئست غير أن واحدًا من الركاب أهاب بي أن أُلقي بنفسي في الماء وأسبح فقلت له: إني لا أحسن السباحة وقد … أغرق. فقهقه وقال: ماذا تخشى من الغرق وقد مُتَّ؟ فرميت بنفسي في الماء وعُمتُ إليه، ومد يده فجذبني ودار بعينه فلم يرَ لي مكانًا فأطرق قليلًا ثم رفع رأسه وقال وهو يبتسم: أنا — أيضًا — قلق في موضعي هذا، فتعالَ بنا ننتقي لنا اثنين من هؤلاء المعولين المنتحبين نجلس على أكتافهما! وفعلنا ودار شارون بالركاب يتقاضى أجرة النقل، وتنبهت إلى ذلك فقلت لصاحبي: «ولكني مُعدِم وقد جردوني من كل شيء لما مِتُّ فماذا أصنع؟» قال: «لا بأس عليك! فما أنا بخير منك، فاسكت أنت ودعِ الأمرَ لي.» وجاء شارون يطلب الأجر، فقال له زميلي: «ماذا تنتظر ممن ليس معه شيء؟» قال شارون: «كيف؟ أهناك أحد ليس معه أجرة النقل إلى الوادي؟» قال: «لا أعلم، ولكنَّا هنا اثنان لا نملك مِلِّيمًا، فأشرِ ماذا تأمر؟» قال شارون: «واثنان أيضًا؟ وحقِّ بلوتو أخنقكما!» قال زميلي: «خذ الأجرة ممن بعثوا بنا إليك!» قال شارون: «ولكنك كنت تعرف أن عليك أن تؤدي لي هذا الحق، فلماذا لم تستعدَّ قبل هذا المجيء؟» قال: «لم يكن معي شيء، فهل كان ينبغي أن نظل أحياء وألا نموت من أجل ذلك؟» قال شارون: «أتريد أن تكون الوحيد الذي يُحمل إلى الوادي بلا مقابل؟» قال: «كلا! لست الوحيد، فإن لي رفيقًا ومؤنسًا إلى جانبي كما بينتُ لك، وعلى أنَّا لا نُحمل مجانًا، فإنَّا وحدنا دون جمعك هذا لا نبكي ولا نَندُب، ثم إنَّا خفيفان لا نثقل زورقك، وإذا شئتَ عاوناك ولم نقاسمك الربح ولم نطلب منك الأجر.» قال شارون: «ولكن هذا لم يحدث قطُّ من قبلُ فهو غير جائز!» قال: «إذن ردَّنا إلى الحياة.» ومضى عنا وهو يسُبُّنا ويتوعدنا بقبضة يده، فأُسِرُّ إلى زميلي: «ما أسخف وعيده! أيموت المرء مرتين ويُحمل إلى الزورق مرتين؟» ثم قال لي بعد برهة: «لقد هبطتْ أنغام العويل والنحيب، فما قولك؟ أليس من الواجب أن نضطرهم إلى رفع طبقتها؟» قلت: «ولكن كيف يسعك ذلك؟» قال: «انتظر.» وتنحنح ثم انطلق يغني: ••• ولم يكد يفرُغ من هذه المقطوعة حتى علا الصياح والنشيج. فواحد يقول: «وا أسفاه على ما خلفت!» وثانٍ يصرخ: «ويحي! سيبدد أخي ما ورث عني»، وثالث يصيح: «ألا مَن لصغاري!» وهكذا. ومضى صاحبي في غنائه: ••• فدنا «هرمز» منه وأومأ إليه أن كفَّ ثم قال: «إن هذا لا يليق، ومن واجبك أن تندب كالباقين.» قال مستغربًا: «أندُبُ؟ أأندُب الحظَّ الذي أتاح لي هذه النزهة الظريفة؟» قال هرمز: «إن سلوكك شائن. فأرسل عولة أو اثنتين على الأقل فما يجوز أن تشُذَّ عن المألوف.» قال زميلي: «حسن. سأفعل.» ثم وضع كفَّه على خدِّه وانطلق يصيح: «وا أسفاه على ثوبي المرقع الذي لا يقي في شتاء ولا ينفع في صيف! وا حزاناه على الحفا! لن أجوب الطرقات بعد اليوم متضورًا من الصباح إلى المغيب، ولن أنام على الأفاريز وأتوسَّد الحجارة وأسناني تصطك من البرد، مَن تُرى سيرث عكازتي التي كنت أتوكَّأ عليها؟ ويختال في مرقعتي التي كنت أخطر في هلاهيلها!» فمضى هرمز عنه ساخطًا لاعنًا ورحنا نحن نضحك. وإنَّا لكذلك وإذا «بشارون» ينادي هرمز ويصيح به: إن الزورق يوشك أن يغرق من ثقل ما يحمل. فماذا يفعل؟ فوقف هرمز كالأبله حائرًا، ثم وثب رفيقي وقال: «تعالَ ننقذ شارون فإنا مدينون له.» قلت: «إن الغرق شيء أفهمه وقد أحسُّه. أما ما عداه فلا علم لي به يا صاحبي.» قال: «ولكنك تستطيع أن تشاركني على الرغم من ذلك»، ثم قال لشارون: «اسمع. جرِّد هؤلاء الموتى مما يحملون وألقِ به في الماء. انزع هذه الحُلي عن أصحابها. لقد كانت تنفعهم في الدنيا أما هنا فهي مثقلة بالغش والتضليل. ودعاوى التقوى والوقار والحشمة.» قال شارون: «صدقت.» ونزعها جميعًا ورمى بها، «وماذا أيضًا؟» – ألا ترى هذا الرجل الذي يبكي ويختلس النظر إلى مَن حوله؟ قال شارون: «نعم. ما له؟» قال: «أخرِج من تحت إبطيه الكذب والنفاق والدهان تتخلص من خمسة قناطير على الأقل. وهذه المرأة الجميلة، عرِّ وجهها وجرِّده من المساحيق فإن وزنها يجاوز الطن، افعل وعجِّل.» ففعل. «وهذا الغُرور الذي تنطق به عينا هذا الرجل، ألا تحُس ثقله؟ إنه يكفي شعبًا بأسره!» «والفلسفة التي في رأس هذا إنها أثقل من الحديد. ألقِ بها في الماء. أسرع.» فأطارها شارون عن رأسه. وهذا الأديب هناك. ماذا يصنع بكل هذه الألفاظ والمجازات والاستعارات والخيالات والسخافات؟ إنها كافية وحدها لإغراق زورقك يا شارون. قال شارون: «نعم والله! أين كنت مخبِّئًا كل هذه الأثقال؟» ثم التفت إلى زميلي وقال: «كفى كفى يا صاحبي! إن الزورق الآن أخفُّ من الريشة. وأحسبني مدينًا لك بإنقاذ سفينتي.» قال زميلي مقاطعًا: «أمسك، لا ثقلها مرة أخرى بشكرك إياي.» وعُدْنا إلى مكاننا وانطلق الزورق خفيفًا يشق النهر ويفرُق أمواجه الراكدة، ودنونا من الشاطئ عند الفجر وحاذيناه فوثب صاحبي إلى الأرض وأنا وراءه. قال زميلي: «أنا.» قال «أتروب»: «أنت؟ أنت ماذا؟ ما شأنك هنا؟ ما اسمك؟» فمال إلى زميلي وقال: «كأنما كنت شيئًا في الدنيا فيعنيه أن يعرف مَن أكون.» ثم التفت إلى الحارس وقال: «ومَن عسى أن أكون؟ أتُراك تتوهمني بروميثيوس قد فكَّ أصفاده وجاء يعتِق البشرَ من أسرِ الموت؟» ثم لوَّح بيده مشيرًا إلى الرَّكْب الذي في الزورق ورفع صوته مغنيًا: ••• ••• ••• وكان هرمز وشارون في خلال ذلك قد أفرغا حمولة الزورق، فلما سمع الموتى هذه الأغنية تصايحوا وضجُّوا وهمُّوا بزميلي ولكنه تلقاهم بابتسامة استخفاف وقال لهم: أيسوءكم أن يلحق بكم مَن خلفتم فوقها؟ فساقنا هرمز أمامه، وتقدم صاحبي الصفوف وسِرتُ معه في طليعتها وانطلق يغني: ••• وطال بنا الانتظار على باب رادامانتيس إلى أن جاء دوري فتقدمتُ، وزاحم زميلي فدخل معي ولما صرتُ أمام القاضي سألني: ما اسمك؟ قلت: «المازني.» قال: «ماذا؟ اﻟ … اﻟ … ماذا؟» فلو كنت حيًّا لاحمرَّ وجهي وقلت: «المازني. لقد كنت أحسب شهرتي قد سبقتني.» قال: دع هذا المزاح. من أين جئت؟ قلت: «من مصر.» قال: «مصر؟ ولماذا جئت إلينا؟» قلت: «وأين كان ينبغي أن أذهب؟» قال: «إنك من أفريقية فاذهب إلى قِسْمك.» قلت: من أين؟! عهدي حديث بهذا الوادي. قال: «لا بأس، سيدلونك عليه. يا هرمز، أرشِد هذا التائه إلى سومبور.» فألقيتُ إلى صاحبي نظرة أسف على فراقه، فجذبني إلى الوراء وأسرَّ إليَّ: «سأذهب معك.» قلت: «ولكنك لستَ من مصر.» قال: «ماذا يهم؟ مَن أنا حتى يعرفوا أَمِن مصر أنا أم مِن غيرها! هيَّا بنا.» انصرفنا من ساحة رادامانتيس، وثنَّينا الخطا إلى الشاطئ — وكان هرمز قد سبقنا — وفي مرجونا أن يحملنا شارون إلى القسم الأفريقي، فألفينا هرمز وشارون مختلفَين. يقول هرمز: «لقد آن جدًّا يا شارون أن تؤدي إليَّ ذلك الدين القديم فما بقي لك عذر.» فيقول شارون: «ما أحسبني أنكرت قط يا صديقي أني مدين لك.» فيهز هرمز كتفيه ويمط شفتيه ويقول: «لشد ما نفعني أنك لا تقصِّر في الاعتراف! هذه عُملة لا أعرف أحدًا سواي يقبلها، فهاتِ ما عليك وأنكِر إذا شئت أنك مدين لي.» فيبتسم شارون ويفرك كفيه ويقول: ولكنك لم تبيِّن لي قط مقدار هذا الدَّين، فيُقبِل عليه هرمز ويقول: «إن البيان حاضر فليتك مثلي استعدادًا لتقديم الحساب. المرسى والحبل بسبعين قرشًا.» فيقاطعه شارون: «سبعون قرشًا. وحقِّ بلوتو لقد خدعك! أو أنت تضحك على شيبتي!» فينتفض هرمز واقفًا ويقول بصوت عالٍ: «أضحك عليك! أنا؟ أهذا جزائي منك؟ لا مال ولا شكر؟» ثم نظر إلينا وقال: «هيا بنا.» فقال شارون: هذان المفلسان لا عجب أن يعودا وأن ترفضهما حتى الجحيم. فقال صاحبي: «ألا تنقلنا إلى …» فقاطعه شارون ولم يمهله ريثما يتم كلامه: «أنا؟ أتُراني جُننت؟ اذهب أنت وصاحبك فما فيكما خير.» وهكذا رددنا، وذهبنا سيرًا على الأقدام، وجعل هرمز يشكو في الطريق ويتسخط ويُعرب عن تبرُّمه بحياته وكثرة الواجبات الموكولة إليه. فهو يقوم في الفجر ويُعِدُّ المائدة السماوية ويرتِّب حجرتها، ثم يقف بجانب زيوس ليتلقى أوامره وليؤدي رسائله إلى أصحابها النهار كله، وفي الليل لا ينام بل يذهب بالموتى إلى بلوتو ويقف في ساحة القضاء حاجبًا، ثم إنه يدرِّب الخطباء ويشهد الاجتماعات ويفعل غير ذلك أشياء يخطئها الحصر. حتى لقد كان يؤدي وظيفة الساقي لزيوس قبل أن يتزيَّا «زيوس» في زي نسر ويخطف الغلام «جانيميد» ويتخذه ساقيًا له يأخذ من كأسه رشفة، ومن شفتيه البضتين أخرى، ويكايد به زوجته «هيرا». وأخيرًا بلغنا سهلًا فسيحًا أمام «الكرنك»، وسِرْنا مسافة في ظل أشجار الليمون، حتى خرجنا من تحتها، ووقفنا مع آلاف الموتى من أمثالنا، وكان القضاة خمسة وقد جلسوا صفًّا واحدًا، فأسرَّ إليَّ صاحبي أن تعالَ نشهد الرواية من أولها، وجذبني وزاحم بي حتى صرنا إلى الصف الأول، فسمعنا مَن عرفنا ممن حولنا أنَّة «سومبور»، وهو رجل نحيل هزيل الجسم متهضم الوجه أسود العينين برَّاقهما وفي يده زهرة من زهرات البردي يقول: «أيها الزملاء، إن «سخت» تنتظر!» فسَرَتْ في أجسامنا رِعدة، ونُودي الأولُ فتقدَّم وسمعنا كلامًا كهذا. سومبور — وهو يعبث بزهرة البردي — قلِ الحق الذي تعرفه ولا تحاول أن تكذب. أهي الخمر؟ قال الرجل: نعم. ••• وجرُّوه إلى شجرة ليمون وهمس صاحبي في أذني: «جاروا ولم يعدلوا.» قلت: «ولكن موروسكن.» فقاطعني صاحبي: «إنه مغفَّل.» ونُودي الثاني، فتقدمت فتاة وسيمة شاحبة اللون مقدودة قَدَّ السيف، ولكن عينيها، على جمالهما، كالكهفين. وقال سومبور: كم سِنُّكِ يا هذه؟ ••• فسارعت باسمة وإن ظلت عيناها زائغتين، وحطَّت على كتفها وهي سائرة حمامةٌ بيضاء فأمالت إليها خدها. وقال صاحبي: «جاروا للمرة الثانية، والحمامة شاهدي.» ونُودي الثالث، وكان إلى جانبي. فرفعتُ إليه عيني وعجبت كيف يكون صاحب مثل هذا الوجه شريرًا؟ وسأله سومبور: ماذا جاء بك إلينا؟ واجتمع الخمسة على أن يُلقِموا سختَ هذا المسكينَ. قال صاحبي: «لقد أصابوا.» قلت: «ماذا تعني؟ بأي حق يرسلونه إلى سخت؟» فقال: «ليس هذا وقت الجدال، فإنهم يشيرون إليك.» قلت: «إليَّ أنا؟» والتفتُّ إلى الخمسة فوجدت عيونهم عليَّ، فتقدمت في اضطراب ووجل. قال سومبور: مَن أنت؟ وانتفضوا جميعًا واقفين يشيرون إلى شجرة الليمون حيث وقف الثلاثة المُقضى عليهم. وقال سومبور: سخت بالإجماع. ثم التفت إلى زملائه وقال: وحسبُنا اليوم هذا، وأعفوني من شهود التنفيذ، فلن أقوى عليه بعد هذه الصدمة. ••• ووقفت تحت الشجرة مع رفاقي الثلاثة أنتظر «سخت»، وإذا بصاحبي يجذبني ويقول: «تعالَ يا أبله.» قلت: «إلى أين؟» قال: «ماذا يعنيك وقد نجوتَ من سخت؟» قلت: «نجوت؟ كيف كان ذلك؟» قال: «لقد عزَّ عليَّ أن تكون بين الفرائس فذهبت إلى حيث قيدوا «سخت»، فلما صار القضاة عندها سبقت الحارس فأطلقتُها عليهم فالتهمتهم بدلًا منكم، ولكني والله آسف على نجاة جارك! على أني — على العموم — أراني أعدَلَ من هؤلاء القضاة يرحمهم الله.» فأرسلتُها صيحةَ فرحٍ عالمية فتحت عيني على النيل وحقائق الدنيا على شاطئيه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/35757396/
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
أحمد أمين
يتضمن هذا الكتاب لمؤلفه المفكر الإسلامي الكبير أحمد أمين سير لعشر من أعلام المصلحين في العصر الحديث، انتقاهم المؤلف من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، فكان منهم؛ جمال الدين الأفغاني من بلاد الأفغان، ومحمد عبده، وعلي مبارك من مصر، والسيد أمير علي والسيد أحمد خان من الهند، وغيرهم كانوا من الحجاز والشام وأقطار أخرى، وقد نشر أمين هذا الكتاب إيقاظًا للضمائر، وشحذًا للهمم، واستنهاضًا للأمم، وابتعاثًا للأمل في القلوب بعد أن أظلمها اليأس والقنوط من المستقبل؛ لذلك رأى أمين أن يكتب هذا العمل علّ الشباب بعد قراءته لسير هؤلاء المصلحين أن يحذوا حذوهم، ويسيروا على درب خطاهم، فتكون بداية نهضة وعزة لأوطان استضعفت فاستباح أهلها الكسل واعتادوا التأخر.
https://www.hindawi.org/books/35757396/1/
محمد بن عبد الوهاب (١١١٥–١٢٠٦هـ، ١٧٠٣–١٧٩١م)
هو زعيم الفرقة التي تسمى الوهابية، وتعتنق مذهبه الحكومة الحاضرة في الحجاز. نشأ في بلدة تسمى (العيينة) في نجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة، وسافر إلى المدينة ليتم تعليمه، ثم طوف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغداد، وسنة في كردستان، وسنتين في همذان، ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراف والتصوف، ثم رحل إلى «قم»، ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة. وقد رأى أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي؛ أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع، ودخله كثير من الفساد. فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، والمشرع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره، لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه، هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له، فمعنى لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم وفًقا لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو، وهذا هو محرر القرآن: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ َتعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا َفَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُون. إنها تصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجردها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي. وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه «محمد بن عبد الوهاب»، وهو أن الله وحده هو مشرع العقائد، وهو وحده يحلل ويحرم، فليس كلام أحد حجة فن الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين، فالله يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ، فكلام المتكلمين في العقائد وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا، إنما أمامنا الكتاب والسنة، وكل مستوف أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد، بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام — على حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صح من السنة — ما يؤديه إليه اجتهاده، وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين؛ إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مقلدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مقلد مثلهم، حتى انحط شأنهم وتفرقوا أحزابًا يلعن بعضهم بعضا، ولا منجاة من هذا الشر إلا بإبطال هذا كله، والرجوع إلى الدين في أصوله، والاستقاء من منبعه الأول. وهكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك، وفكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة. هذا هو أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب، وعلى هذا الأساس بنيت الجزئيات. اقتفى في دعوته وتعاليمه عالمًا كبيرًا، ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو «ابن تيمية». وهو — مع أنه حنبلي — كان يقول بالاجتهاد ولو خالف الحنابلة، وكان حر التفكير في حدود الكتاب وصحيح السنة، ذلق اللسان، قوي الحجة، شجاع القلب، لا يخشى أحدًا إلا الله، ولا يعبأ بسجن مظلم، ولا تعذيب مرهق، فهاجم الفقهاء والمتصوفة، ودعا إلى عدم زيارة القبور والأضرحة وهدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة، ولم يعبأ إلا بما ورد في الكتاب والسنة، وخالف إمامه أحمد بن حنبل حين أداه اجتهاده إلى ذلك. فيظهر أن «محمد بن عبد الوهاب» عرف ابن تيمية من طريق دراسته الحنبلية، فأعجب به، وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب، فكان ابن تيمية إمامه ومرشده وباعث تفكيره، والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح. فكانت دعوة ابن عبد الوهاب حربًا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد، فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغنى فيها ويرقص، ولا «محمل» يتبرك به ويتمسح، ويحتفل به هذا الاحتفال الضخم، وهو ليس إلا أعوادًا خشبية لا تضر ولا تنفع. كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يزال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك. فلا إله إلا الله معناها كل ذلك. والكتب المملوءة بالتوسلات كتب ضارة بالعقائد، كدلائل الخيرات، وما في البردة من مثل قوله: وقوله: وقوله: ونحو ذلك، أقوال فاسدة كاذبة. فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه. لقد كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له سبب إلا العقيدة، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وكانت لا إله إلا الله معناها السمو بالنفس من الأحجار والأوثان وعبادة العظماء وعدم الخوف من الموت في سبيل الحق، وعدم الخوف من استنكار المنكر والأمر بالمعروف مهما تبع ذلك من عذاب، ولا قيمة للحياة إلا إذا بذلت في رفع لواء الحق ودفع الظلم، وهذا هو الفرق الوحيد بين العرب في الجاهلية والعرب في الإسلام، وبهذه العقيدة وحدها غزوا وفتحوا وحكموا. ثم ماذا؟ ثم لم يتغير شيء إلا في العقيدة، فتدنوا من سمو التوحيد إلى حضيض الشرك، فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد خشب وقبور أولياء، وركنوا إلى ذلك في حياتهم العامة، فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه، والبقرة تحيا إذا نذرت للسيد البدوي أو مثله، وتموت إذا لم تنذر، وهكذا في الأمراض والعلل والغنى والفقر! كلها لا ترجع إلى قوانين الله الطبيعية، وإنما ترجع إلى غضب الأرواح ورضاها، ومثل هذه النفوس الضعيفة التي تذل للحجر والشجر والأرواح، لا تستطيع أن تقف أمام الولاة والحكام الظالمين تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر، فذلوا للحكام والأغنياء كما ذلوا للخشب والأحجار. وما زال كل قرن يمر تزداد معه الآلهة عددًا وتزداد النفوس ذلة، حتى وصلت الحال بالأمة الإسلامية إلى فقد سيادتها، وانهيار عزتها. ولا يصلح آخر الإسلام إلا بما يصلح به أوله، فلا بد من العودة إلى الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة، ولا بد من هدم هذه البدع والخرافات باللين إن نجح، وبالقوة إن لم ينجح، والله المستعان. لم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدينة الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد علي باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها، فعنده أن العقيدة والروح هما الأساس وهما القلب إن صلحا صلح كل شيء، وإن فسدا فسد كل شيء، وطبيعي أن يكون هذا هو الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر. أما بعد.. فإن التوحيد الصحيح المطلق المجرد عن شائبة كل تجسيم، المنزه عن كل تشخيص، الذي يصل العبد بربه من غير وساطة ولا وسيلة، مطلب عسير لا يستطيعه إلا الخاصة أو خاصة الخاصة. أما من عداهم فيشعرون بالتوحيد لحظات ثم سرعان ما يتدهورون، ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص، وأسلوب من التجسيم على نحو ما، ثم يتخذون من الصالحين وسائل وزلفى — كان ذلك في الجاهلية، وكان ذلك في الإسلام بعيد البعثة إلى الآن. وفي الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تسمى «ذات أنواط» كانوا يعلقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها، فسأل بعض المسلمين رسول الله يجعل لهم كذلك «ذات أنواط» فنهاهم عن ذلك. ولما جاء عمر شعر أن بعض الناس أخذ يحن إلى العادات الجاهلية القديمة، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله ﷺ تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقطعت. ولما رأى عمر كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجليه الصخرة عند فتح بيت المقدس، قال له: «ضاهيت والله اليهود يا كعب». وهكذا ما لبث بعض الناس حتى تراجع عن التوحيد المطلق الذي جاء به الإسلام؛ لأن التحرر من المادة بأشكالها جميعًا، والإفلات من قيود الحس، والتسامي إلى الله فوق المادة وفوق الحس وفوق التشخيص، يتطلب منزلة رفيعة من السمو العقلي تعجز عنه الجماهير. وقال النبي ﷺ: «إن من كان من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك». ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرجال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد. وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهما إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عذب وأهين ورمي بالكفر والإلحاد كما فعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع، وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية فعذب وسجن، وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا، فدعا مثل هذه الدعوة فرمى بالكفر. وأخيرًا جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد. هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب، فماذا كان شأنها ومصيرها؟ كانت جزيرة العرب عندما دعا محمد بن عبد الوهاب دعوته — التي شرحناها فيما مضى — أشبه شيء بحالتها في الجاهلية، كل قبيلة تسكن موضعًا يرأسها أمير منها. هذا أمير في الإحساء، وهذا أمير في العسير، وهؤلاء أمراء في نجد إلخ، ولا علاقة بين الأمير والأمير إلا علاقة الخصومة غالبًا. ثم تتوزعها — أيضًا — الخصومة بين البدو والحضر، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحضر فعل، ومن قدر من الحضر على التنكيل ببدو فعل، والطرق غير مأمونة، والسلب والنهب على أشدهما، وسلطة الخلافة في الأستانة تكاد تكون سلطة اسمية، ومظهرها تعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود وكفى. لقد بدأ «محمد بن عبد الوهاب» يدعو دعوته — التي ذكرناها — في لين ورفق بين قومه، ثم أخذ يرسل الدعوة لأمراء الحجاز والعلماء والأقطار الأخرى، حاثًا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى الإسلام الصحيح. كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، ولكنها مرت بسلام، وإن شابها شيء فسجن الداعي أو التشهير به ورميه بالكفر أو الزندقة، ثم ينتهي الأمر ويعود الناس سيرتهم الأولى، بل نرى من قام بمثل هذه الدعوة — فعلًا — في المغرب كالشيخ أبي العباس التيجاني، فقد أمر بترك البدع ونهى عن زيارة القبور، وكثرت أتباعه حتى بلغت مئات الألوف، ولكن لم يلفت الناس والحكام أمره كما لفتهم محمد بن عبد الوهاب، وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة، فأجابه بعضهم، وأنكر عليهم بعضهم، ثم أسدل الستار. فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟ السبب في هذا ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيئ لغيرها. فقد اضطهد في بلده العيينة، واضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود، وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها، وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير، وهو اجتماع السيف واللسان، وزاد الأمر خطورة نجاح الدعوة شيئًا فشيئًا، ودخول الناس أفواجًا فيها، وإخضاع بعض الأمراء بالقوة لحكمها، وكلما دخلوا بلدة أزالوا البدع وأقاموا تعاليمهم، حتى هددت الحركة كل جزيرة العرب، ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يسيروا سيرة أبويهم في نصرة الدعوة متكاتفين، وظلوا يعملون حتى غلبوا على مكة والمدينة. وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزًا إسلاميًا ممتازًا، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما. فأرسل السلطان محمود إلى محمد علي باشا في مصر أن يسير جيوشه لمقاتلة الوهابيين، وكما أرسلت الجيوش لمقاتلتهم أرسلت الدعاية من جميع الأقطار الإسلامية للنيل من هذه الدعوة وتكفير مبتدعيها. وحمل علماء المسلمين عليها حملات منكرة وألفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها. وهكذا حدثت الحرب بالسيف والحرب بالكلام، كل هذا خدم الدعوة الوهابية بلفت الأنظار إليها ودورانها على كل لسان، وزاد في شأنها أن الوهابيين انتصروا على حملة محمد علي باشا الأولى بقيادة الأمير طوسون. ثم أعد محمد علي باشا العدة القوية الكبيرة، وسار بنفسه وحاربهم بخير سلاحه، فانتصر عليهم، وأتم النصر ابنه إبراهيم باشا، وانهزمت قوة الوهابيين. ولكن بقيت الدعوة إلى أن هيئ لها في العهد الحاضر المملكة السعودية الحاضرة في تاريخ طويل لا يعنينا هنا، وإنما يهمنا الدعوة وما تم لها. إن الدعاية التي أحكمت ضدها، وتعلق الناس بالدولة العثمانية، وميلهم الشديد أن تظل بلادها وحدة لا ينفصل عنها جزء، جعلت عامة المسلمين في أقطار العالم الإسلامي يفرحون بهزيمة الوهابية. ولو لم يفهموا جوهر دعوتها، وشيء آخر كان كبير الأثر في تنفير عامة المسلمين من هذه الحركة، وهو أنها حيث استولت على بلد نفذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظرها حتى يؤمن الناس بدعوتها، فلما دخلوا مكة هدموا كثير من القباب الأثرية، كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي ﷺ، ومولد أبي بكر وعلي، ولما دخلوا المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة التي كانت على قبر الرسول، فهذه كلها أثارت غضب كثير من الناس وجرحت عواطفهم، فمنهم من حزن على ضياع معالم التاريخ، ومنهم من حزن على الفن الإسلامي، ومنهم من حزن لأن مقبرة الرسول ﷺ وفخامتها مظهر للعاطفة الإسلامية وقوة الدولة، وهكذا اختلفت الأسباب واشتركوا في الغضب. والوهابيون لم يعبثوا إلا بإزالة البدع والرجوع بالدين إلى أصله. لم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية، بل تعدتها إلى غيرها من كثير من الأقطار الإسلامية، وكان موسم الحج ميدانًا صالحًا وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها. فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا إليها. فنرى في زنجبار طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب، ويدعون إلى ترك البدع، وعدم التقرب بالأولياء. وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجًا، وسمع الدعوة الوهابية واعتنقها، وعاد إلى الجزائر يبشر بها، ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب كما سيأتي بيانه. «ومع هذا النكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالمًا ولا متعلمًا، ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ، وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على شركهم، قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين وثالث وثلاثة. «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟». وقد مات الإمام الشوكاني سنة ١٢٥٠ بعد أن أبلى في هذا بلاء عظيمًا، وخلف تلاميذ كثيرين يدينون برأيه. وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول إلى عهد ابن تيمية، إلى عهد ابن عبد الوهاب، وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بني عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: (١) محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى، و(٢) فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين، ولكنه امتاز بميزة كبرى عمن عداه، وهي ثقافته الواسعة الدينية والدنيوية، ومعرفته بشئون الدنيا وأسسها وتياراتها، وذلك بتربيته الدينية الأولى المستمرة، ورحلاته إلى أوربا يخالط علماءها وفلاسفتها وساستها. فلما تعرض لمثل ما تعرض له ابن عبد الوهاب فلسف الدعوة وركزها على أسس نفسية واجتماعية، كما شارك في تركيزها على الأسس الدينية، ففي دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الرواق العباسي بالأزهر، كان ينتهز كل إشارة لآية ولو من بعيد تندد بالشرك فيفيض في الحملة على عبادة الصالحين، وزيارة القبور والشفاعة والتوسل وما إلى ذلك. فيطيل الوقوف — مثلًا — عند قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخُِذُ مِن دُونِ اللهِ أَْنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذيِنَ آمَنُوا أََشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذيِنَ ظَلَمُوا إِِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جمَِيعًا وَأََنَّ اللهََ شَدِيدُ الْعَذَابِِ فيقسم الشيخ الأنداد إلى قسمين: هؤلاء الشفعاء الذين اتخذتهم الناس وسيلة للقرب من الله يستقصونهم في الحوائج، وهؤلاء الذين يقلدون في الدين يتخذ قولهم شرعًا من غير حجة ولا برهان. وتظهر فلسفته للمذهب في بيان الأضرار النفسية من هذه العقائد، فهي تورث الذل وتخضع الناس للحكام الظالمين، تحط النفوس إلى الدرك الأسفل، ثم هي تضر اجتماعيًا باعتماد الناس على هؤلاء الأولياء بتركهم القوانين الطبيعية التي جعلها الله أسبابًا لا بد منها لحصول المسبب، فالزراعة إنما تنجح بالحرث والتسميد والبذر والسقي، لا بالاستغاثة بولي، والحرب إنما تكسب باتخاذ سلاح مجهز على آخر طراز كسلاح العدو، وإعداد العدة الكاملة كما يفعل العدو، لا بالاستعانة بأهل القبور، وفضيلة المسلم أن يستعين بعد ذلك كله بالله وحده، يطلب منه أن يثبت قلبه، ويلهمه التوفيق. وهكذا كان يفيض في هذين الأساسين مفندًا آراء من يقول بالتوسل والشفاعة والتقليد. وينتهز فرصة وجود جماعة من العلماء عنده في يوم مولد النبي، ودعوته للعشاء عند أحد المحتفلين، فيبين لهم أن هذه الموالد كلها منكرات، ويتمنى لو أنفق ما يصرف في الموالد على تعليم الفقراء، ويناظرهم في ذلك مناظرة تنتهي بانصراف العلماء إلى العشاء في المولد، وامتناع الشيخ وحده. ويضع الشيخ تفسيرًا لجزء «عم» للناشئة فيلتمس كل وسيلة للحملة على كل ما يشوب التوحيد من شرك بعبادة المشايخ والقبور والأضرحة والتخريف، راجيًا أن ينشأ الشباب نشأة دينية صحيحة خيرًا مما عليه آباؤهم — وأعانه في هذه السبيل تلميذه وصديقه السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فقد ملأها كذلك بمثل هذه الدعوة ومثل هذه الحجج، يسمع بها المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية. وفي تركيا قامت الحكومة التركية الكمالية بمحاربة هذه البدع والخرافات، فأغلقت التكايا وكانت عش التدجيل، وطاردت المشايخ، واضطهدت المهرجين، ولكن الفرق بين هذه الحركة وما قبلها أن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الدين والإصلاح الديني، والرجوع إلى الأصول الدينية، أما هذه الحركة فمؤسسة على العقل المطلق، وفكرة الإصلاح الاجتماعي من غير أن يكون الدافع إليها الرغبة في الإصلاح الديني. وأخيرًا وقد مضى على هذه الدعوة الإصلاحية من عهد محمد بن عبد الوهاب إلى الآن عشرات السنين، واشترك في تنظيم الغزوة عشرات من الأبطال، فماذا كانت النتيجة؟ ظلت عامة المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية — كما هم — من حيث الالتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور والأضرحة، وظلت على عادتها في الاحتفال بالموالد ونحوها وإن قل بهاؤها ورونقها، وإنما تأثر بهذه الدعوة الخاصة أو خاصة الخاصة. كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونمو عقليتهم، فلم يلجأوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم، ولكن أخشى أن يكون كثير منهم لا يلجأ إلى الله أيضًا كما كان يلجأ آباؤهم. والآن ننتقل إلى نوع آخر من الإصلاح كان مظهره مدحت باشا في تركيا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/35757396/
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
أحمد أمين
يتضمن هذا الكتاب لمؤلفه المفكر الإسلامي الكبير أحمد أمين سير لعشر من أعلام المصلحين في العصر الحديث، انتقاهم المؤلف من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، فكان منهم؛ جمال الدين الأفغاني من بلاد الأفغان، ومحمد عبده، وعلي مبارك من مصر، والسيد أمير علي والسيد أحمد خان من الهند، وغيرهم كانوا من الحجاز والشام وأقطار أخرى، وقد نشر أمين هذا الكتاب إيقاظًا للضمائر، وشحذًا للهمم، واستنهاضًا للأمم، وابتعاثًا للأمل في القلوب بعد أن أظلمها اليأس والقنوط من المستقبل؛ لذلك رأى أمين أن يكتب هذا العمل علّ الشباب بعد قراءته لسير هؤلاء المصلحين أن يحذوا حذوهم، ويسيروا على درب خطاهم، فتكون بداية نهضة وعزة لأوطان استضعفت فاستباح أهلها الكسل واعتادوا التأخر.
https://www.hindawi.org/books/35757396/2/
علي باشا مبارك (١٢٣٩–١٣١١هـ، ١٨٢٣–١٨٩٣م)
«برنبال» الجديدة قرية صغيرة كسائر قرى الفلاحين بمصر تابعة لمركز (دكرنس) من مديرية (الدقهلية) تقع على البحر الصغير، بها أربع حارات، ومرافقها الاجتماعية. مسجد للصلاة، وكتاب لتعليم القرآن، ودكان لعطار، ومعملان لتفريخ الدجاج، وأربعة أنوال يدوية لنسيج الصوف، ودكانان لصبغ الثياب البيضاء صبغة زرقاء، وضريحان لوليين يستشفي بهما الأهالي لقضاء الحوائج، وأربعة مضايف لكل حارة مضيفة، تقام فيها مآتم الحارة وأفراحها واحتفالاتها في الأعياد والمواسم، وباعة صغار لبيع الخضر وما إليها، وبعض صناع يقومون بصناعة ساذجة كنجار للسواقي ونوتي للمراكب تجري في البحر الصغير، وفي الجهة القبلية منها جبانة لدفن الموتى، وحولها الأراضي الزراعية ليس فيها من الأشجار إلا نخلتان. يسكن حارة من حاراتها أسرة تتكون من نحو مائتي شخص يعيش أفرادها كسائر الفلاحين ببهائمهم ودواجنهم وأدواتهم الزراعية، وعلى رأسهم الشيخ مبارك، وكان يقوم بكل الشئون الدينية في القرية، فهو إمام مسجدها وخطيبه وهو (مأذونها) يعقد عقود زواجها، ويسجل صيغ طلاقها، ويستفتي في المسائل الدينية تعرض لأهلها، ورث ذلك عن أبيه وجده حتى سميت الأسرة بأسرة (المشايخ) وتزوج الشيخ أكثر من زوجة، رزق منهن أولادًا كثيرين، إحداهن رزقت سبع بنات واحدًا سماه عليا، وكلهم يعيش على الدخل التافه والرزق القليل. في هذه البيئة ولد علي مبارك، ووقعت عينه أول ما وقعت على هذه المشاهد الطبيعية والاجتماعية. ولعله يوم ولد بشر به أبوه وسلم له في يده ليبارك عليه وأذن في أذنه أمل فيه أن يكون حلقة في سلسلة (المشايخ) يرث الإمامة والخطابة والإفتاء لأهل القرية عن أبيه، كما ورثها أبوه عن جده وما ورثها جده الأدنى عن جده الأعلى. ولو جرت الأمور مجراها المألوف لكان هذا، فما ظنك بطفل فقير من أسرة فقيرة في (برنبال) البعيدة عن مراكز المدينة والحضارة إلا أن يسعده الحظ فيكون إمام مسجد؟! ولكن للقدر شئونه ولله تصرفه. على هذا المنهج أرسله والده إلى كتاب (برنبال) وفقيهه إذ ذاك رجل أعمى شديد عنيف، وافق اسمه مسماه، فكان يسمى أبا عسر، كان له الفضل في أن يكره (عليا) في التعليم والحفظ. وشاء الله أن تنكب هذه الأسرة جميعها بما كانت تنكب به أسر كثيرة في البلاد إذ ذاك، فكثيرًا ما كان يهمل الفلاحون زراعة أرضهم شعورًا منهم بأن غلتهم ليست لهم، وإنما هي مطمع الحكام: يطمع الحاكم الأعلى في الحاكم الأدنى ويطمع الحاكم الأدنى فيمن دونه، وهكذا حتى يصل إلى الفلاح، فإذا عجزت غلة الأرض عن أداء الضريبة أخذت الأرض منه وأعطيت لغيره، وكان هذا العطاء مصيبة كبرى على من يعطى لشعوره بأنه يمط ليسخر، يسخر في الأرض وزراعتها لتكون غلتها لغيره، ولذلك كانوا يعبرون عن إعطاء هذه الأرض تعبيرًا صحيحًا صادقًا؛ إذ يقولون (رميت عليه الأرض) وهذا ما أصاب أسرة الشيخ مبارك، فقد رميت عليها أرض، فلما جاء المصلحون يحصلون الضرائب لم تكف الزراعة فباعوا بهائمهم وأثاث منازلهم، ثم رأوا أن لا بد بعد ذلك أن يهجروا البلد وتنقل الشيخ مبارك وأسرته في البلاد إلى أن نزل على عرب في (الشرقية) يسكنون الخيام، يسمون عرب (السماعنة) فأقاموا له خيمة مثل خيامهم، ورأوا فيه ما يسد مطالبهم الدينية، فكان مرجعهم في الفتيا وإمامهم في الصلاة، كما كان في بلدته (برنبال). فلما استقر به الحال فرغ للتفكير في تعليم علي، فأرسله إلى كتاب في قرية قريبة من الخيام، ولكن لم يكن يتيسر له أن يذهب كل يوم إلى الكتاب ويعود فكان يسكن مع سيدنا ويزور أباه مرة كل يوم جمعة. ولم يكن حال هذا الفقيه خيرًا من حال (أبي العسر) وإن كان اسمه (أبا الخضر) فكان علي يجتهد في إرشائه بما يستطيع أن يحمله إليه كل أسبوع ليخفف عنه. فلما توالى عليه العنف كره الكتاب بتاتًا بعد أن كان قد حفظ القرآن. هنا حدثت الأزمة، فعلي لا يريد الكتاب بتاتًا. وماذا لقي منه إلا الضرب؟ ثم ماذا يكون مصيره لو نجح في الكتاب؟ أليس إلا أن يكون كأبيه إمام مسجد ومفتي قرية؟ وهذا مطلب لا يقنعه ولا يرضيه، وأبوه مصمم على الكتاب. واصطدمت الإرادتان فغلبت إرادة علي. وأخيرًا أخذ يتحرى السبب من خدم المأمور، نعرف أن هذا العبد كان مملوكًا لسيدة من كبرى السيدات، وقد أدخلته مدرسة قصر العيني فتعلم فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن هذه المدرسة تخرج الحكام — إذ ذاك — وضع يده على سر الأمر، فهناك مدرسة لتخريج الحكام وهي لا تقيد بالأتراك، فقد كان هذا العبد الأسود تلميذًا فيها، فإذا استطاع أن يصل إلى الدخول في هذه المدرسة أصبح حاكمًا كعنبر أفندي. ولكن كيف السبيل؟ — أصبحت هذه المدرسة شغله الشاغل، وهمه بالليل والنهار، وسؤاله المتكرر ممن يأنس منهم المعرفة — أين مدرسة قصر العيني؟ وما هو الطريق إليها؟ وما المسافة بين كل مرحلة وأخرى؟ وكيف يأخذون التلاميذ لها؟ وهكذا، ثم يكتب كل هذا في ورقة معه، وقد صمم على أن يحتال للدخول في هذه المدرسة بأية وسيلة. وكان أهم ما عرفه عن هذه المدرسة أن مفتشًا يمر على مكاتب القرى من حين إلى حين يختار أنجب التلاميذ وأذكاهم، فيلحقهم بمدرسة قصر العيني. هذا هو علي مبارك يترك العمل عند عنبر أفندي ويلتحق بكتاب ينتظر المفتش، ويحاول أبوه مرارًا أن يصده عن ذلك فلا يفلح، ثم إذا بالمفتش يحضر ويختار علي مبارك فيمن يختارهم. وإذا هو تلميذ بمدرسة قصر العيني يمني نفسه الأماني في أنه سيكون حاكمًا كعنبر أفندي، وعمره إذا ذاك نحو اثنتي عشرة سنة كانت حافلة بالمغامرات الغريبة، والمفاجآت العجيبة، والصبر على البؤس والفقر والغربة. دخل علي مبارك مدرسة قصر العيني، ولكنه سرعان ما شعر بخيبة الأمل، فلم يجد المدرسة هي الجنة التي وعد المتقون، وإنما هي النار التي يشقى بها المجرمون، وكانت المدارس المدنية إذ ذاك في أول العهد بها، لم يستقر أمرها ولم تنظم شئونها، فلم تعجبه في علمها، إذا لم يجد هندسة ولا حسابًا كما قيل له، وإنما كان أكثر الوقت يصرف على تعليم المشي العسكري، ولم يجد أكلًا يرضيه — وهو الفقير القنوع — فكان يفضل عليه الجبن والزيتون يشتريهما من ماله الخاص، ولم يجد نظافة يطمئن إليها، فنومه على حصير قذر، يلتحف ليلة بنسيج من الصوف الغليظ حتى أصيب بالجرب وبكثير من الأمراض. وإذ ذاك تبخرت كل آماله، وزاره أبوه في مرضه، وحاول أن يسرقه، وفكر هو أيضًا في أن يفر معه، وما منعه إلا ما سمعه من أن من فر قبض عليه وعذب هو وأهله عذابًا شديدًا، فسلم الأمر لله واستمر في المدرسة، ثم منّ الله عليه فنقل إلى مدرسة الهندسة بأبي زعبل لتخلى مدرسة قصر العيني لتعليم الطب. ثم اختاروا من مدرسة أبي زعبل خير التلاميذ وأدخلوهم مدرسة المهندسخانة ببولاق، فكان علي مبارك أحدهم، درس فيها كل فروع الهندسة وما إليها حتى أتمها. ولما اعتزم محمد علي باشا إرسال بعثة إلى فرنسا اختار المتفوقين من هذه المدرسة فوقع الاختيار عليه فيمن اختير، فها هو ذا في باريس بعد برنبال والقاهرة، لا يعرف أي كلمة في اللغة الفرنسية، والمدرسون فرنسيون لا يعرفون كلمة عربية، فضاق بالأمر ولم يجد حيلة إلا أن يجمع الكتب الفرنسية الموضوعة للأطفال ويستعين بمن يعرف الفرنسية من زملائه، ويسهر على حفظها ليلًا، حتى تمكنت منه عادة السهر الطويل والنوم القليل، وهي عادة لازمته طول حياته، وبعد ثلاثة أشهر استطاع أن يتابع الدروس تلقى باللغة الفرنسية، ويفهمها ويتفوق فيها. وتصل سمعته الحسنة إلى أولي الأمر في مصر — لقد درس سنتين في باريس الهندسة المدنية، ودرس سنتين في «متز» الهندسة الحربية، وتمرن في ذلك نحو سنة أخرى، فكانت إقامته في فرنسا نحو خمس سنين رأى المدارس والجامعات ونظم التعليم وحالة البلاد الاجتماعية، وأخذ من كل ذلك على حسب استعداده ودقة نظره، ولم ينس أبدًا وهو في باريس ومتز أبويه في عرب السماعنة أو برنبال، فقد رتب له مائتان وخمسون قرشًا ليصرف منها على شئونه الخاصة غير مسكنه ومأكله وتعليمه، فنزل عن نصفها لأبويه منذ فارق القاهرة إلى أن عاد …. لقد سافر إلى فرنسا في عهد محمد على باشا وعاد في عهد عباس الأول، كان عهد عباس هذا عهد انكماش في التعليم؛ إذ لم يكن يرضى عن الحركة العلمية في البلاد بل كان همه بناء القصور لا فتح المدارس، بل ولا الاحتفاظ بالموجود فألغى الكثير منها، وخفض ميزانية التعليم حتى بلغت خمسة آلاف جنيه، وكان أميل إلى تعليم أولاد الأتراك دون المصريين، فعهد إلى علي مبارك في إدارة البقية الباقية القليلة من المدارس. توالت على «علي مبارك» أيام بؤس وأيام نعيم، وكانت حالة في مصر غير مستقرة، وكل الموظفين وخاصة كبارهم رهن بإشارة الحاكم ورهن بما يحاك حوله من دسائس، فيومًا يرضى فيرفع إلى السماء، ويومًا يغضب فينزله إلى الحضيض، والبيت الحاكم منشق على نفسه. إذا تقرب أحد إلى بعضه غضب عليه بعضه الآخر، يرضى محمد علي باشا وإبراهيم باشا عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، فإذا جاء عباس غضب عليه وأخرجه من إدارة مدرسة الألسن وعينه ناظرًا لمدرسة ابتدائية تنشأ في الخرطوم، ويرضى عباس الأول عن علي مبارك ويقربه إليه، ويعهد إليه في تنفيذ أمور كثيرة، فإذا جاء سعيد باشا غضب على علي مبارك وأعاد الشيخ رفاعة الطهطاوي وقربه إليه. ولما غضب سعيد باشا على «علي مبارك» ألحقه بالفرقة الحربية التي سافرت لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فأقام ببلاد تركيا (الآستانة والأناضول) نحو سنتين لقي فيهما عناء كبيرًا وشقاء جمًا فاحتمله في صبر وثبات، ومع هذا فقد استطاع في هذه المدة أن يتعلم اللغة التركية ويجيدها، وعاد إلى مصر يوظف حينًا ويطرد حينًا. فإذا طرد فكر في الأعمال الحرة، فاشتغل تاجرًا أحيانًا، يشتري من «الزاد» بعض السلع المدرسية التي تبيعها الحكومة بعد أن قللت من مدارسها ويبيعها بربح يكفل له رزقه، ويشتغل أحيانًا مهندسًا حرًا، يضع «تصميمات» منازل لمن شاء، وصمم أحيانًا على أن يعود إلى أهله في برنبال يعمل عمل الفلاحين ويعيش معيشتهم وعلى الله العوض فيما تعلم، وفي كل مرة لا يلبث طويلًا حتى يستدعي لوظيفة، ولا يلبث في وظيفة طويلًا حتى يطرد. ولما جاء إسماعيل باشا أعيدت الحياة العلمية وتوسع فيها، واستقر الحال بعلي مبارك في درجة ما، فكان هذا العهد أبرك عهوده، وأخصبها وأكثرها إنتاجًا — لقد عمل علي مبارك أعمالًا كثيرة تتصل بما اختص به من هندسة مدنية وحربية، فقد عهد إليه في «تصميم» شوارع وفتحها و«تصميم» ترع وإنشائها، وبناء جسور واستحكامات ومساجد وغير ذلك من أعمال هندسية عظيمة، ولكن كل ذلك لم يكن سر عظمته وصحيفة خلوده، إنما كان ذلك في شيء لم يتعلمه ولم يتلقه عن أستاذ، هو إصلاحه للتعليم في مصر بالوسائل المختلفة، وبناؤه في ذلك بناء ضخمًا يعد دعامة النهضة التعليمية في مصر — لقد أريد له أن يهندس المباني والاستحكامات فهندس هو طرق التربية والتعليم، ووضع تصميماتها، ووقف على تنفيذها في دقة وأحكام، حتى عد من كبار المصلحين. لم يتعلم في مصر ولا في فرنسا البيداجوجيا ولا السيكولوجيا على معلم مختص، وإنما تعلمها من حسن استعداده وصدق نظره، ومن دروس في التربية الفاسدة تلقاها في الكتاب حين يضرب وفي مدرسة قصر العيني حين يعذب، ومدرسة أبي زعبل حين يلقى عليه الدرس فلا يفهم، هذا إلى طبيعة خيرة توحي إليه بالرحمة بالناس والإشفاق عليهم والألم من جهلهم. لقد وصف هو نفسه؛ إذ عهد إليه مرة في إدارة مدرسة فقال: «كنت ألتفت للتلاميذ، في مأكلها ومشربهم وملبسهم وتعليمهم، وكنت أباشر ذلك بنفسي، حتى أعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها، مع التشديد على الضابط والخدمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم، فامتنع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتف بذلك بل رتبت على نفسي دروسًا كنت ألقيها على التلامذة … وكان ما يحصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت والثناء والتشويق والترغيب داعيًا لهم لزيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين المودة والألفة، وتربت الأطفال على الأخوة، وغرس فيهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم بالنصيحة واللوم، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، وبالجملة كانت أغراضي فيهم أبوية، أنظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده. وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راع في رعيته، حتى يحصل الغرض من التربية. وقد تحقق لي نتيجة ما صرف من الهمة في تربيتهم والشفقة عليهم، حتى أنه لما تولى سعيد باشا ودعيت للسفر مع العساكر لمحاربة المكسوف مع الدولة العلية خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرًا عن ضباطهم لوداعي، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده، حتى بكت عيني لبكائهم، ولكن انشرح صدري لمشاهدة ثمرات غرسي، وآثار تربيتي، فحمد الله». كان التعليم المدني الذي أنشأه محمد علي في مصر تعليم أساسه الجيش: فالمدارس الحربية لتخريجه، ومدرسة الطب لطبيبه، والهندسة لتصميماته، والمدارس الصناعية لإمداده، والبعثات لسد حاجات، فإن جاءت من كل ذلك فائدة لغير الجيش، فبالتبع لا بالقصد، حتى أن المدارس كانت ثكنات عسكرية في نظامها ومأكلها وملبسها، ورتب المعلمين والنظار والمديرين رتب عسكرية، فملازم وصاغ وأميرالاي وميرمران إلخ، حتى الطلبة في البعثة في باريس لهم بيت يقيمون فيه يدار إدارة عسكرية، كل أنواع التعليم على هذا الوجه في القاهرة والإسكندرية فقط، أما المدن الأخرى والأرياف فليس لها حظ من هذا التعليم. وبجانب هذا التعليم تعليم آخر يبتدئ بالكتاب، وهو منتشر في القاهرة والمدن والقرى وينتهي بالأزهر، وهذا التعليم لا تعني به الحكومة ولا تتدخل فيه ولا يهمها أمره، وكل ما فعله عباس الأول وسعيد أن ضيقا التعليم المدني، حتى إذا جاء إسماعيل بدأ يتغير هذا النظام وينظر إلى التعليم نظرة أخرى غير النظرة الحربية، وكان من أكبر العاملين على هذا علي مبارك — فلو قلنا إنه حول التعليم من وجهة حربية إلى ثقافة شعبية، كان ذلك وصفًا مجملًا صادقًا. بدأ علي مبارك — وقد عهد إليه في إدارة التعليم في عهد الخديوي إسماعيل — يصلح هذه الحال ويدخلها تحت الإشراف الحكومي، بعد أن كانت الحكومة لا تعني إلا بالمدارس الحربية، وما يعد لها. فقبض بيديه عليها، وأرسل من يحصي كل كتاتيب القطر ويصف حالة كل كتاب من صلاحية بنائه وعدم صلاحيته وعدد تلاميذه وحالة فقيهه وتبعيته لأوقاف أولًا ونحو ذلك، وقسمها بحسب ذلك إلى ثلاث درجات: جيدة ومتوسطة ورديئة، ووضع لها «لائحة» تسمى «لائحة رجب» — وهو تاريخ صدورها — تعد بحق خطوة خطيرة في تاريخ التعليم في مصر، عالج فيها كل المشاكل التي صادفته من مراعاة الأمور الصحية وتدبير المال اللازم ورفع مستوى الفقهاء — وقد سماهم «المؤدبين» — وبرامج التعليم ووسائل تشجيعه وإشراف الأهالي والمديريات في حمل بعض الأعباء المالية والتعليمية وتحويل بعض الكتاتيب الكبيرة الصالحة إلى مدارس ابتدائية، ووجه في تنفيذ ذلك كل قواه، وكثيرًا ما كان يعهد إليه — إلى إدارة المدارس — في إدارة الأشغال وإدارة الأوقاف، فيكون ناظر هذه جميعها (وزيرها) فيسخر الأشغال لإصلاح مباني المدارس والكتاتيب، ويصرف من مال الأوقاف على التعليم، حتى انتقل التعليم به نقلة جديدة. نعم ليس كل الفصل في ذلك له وحده، فقد كانت البلاد تتوقف إلى إصلاح التعليم، وقد طالب به مجلس الشورى، وكان هذا الإصلاح يتفق وما رسم الخديوي إسماعيل من رغبة في تمدين البلاد، ولكن كان فضل علي مبارك أن يأخذه الفكرة الخيالية، فيحولها إلى حقائق واقعية، ويدرسها دراسة علمية، ويضع خططها وتصميمها كما تعود ذلك في التصميم الهندسي، ويبرزها على الوجود ويرعاها بعنايته. إلى جانب الكتاتيب وفتحها وتنظيمها والمدارس وإنشائها شغلته مسألة المعلمين كيف يصلحهم، فقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية في المدارس رجال من الأزهر، والتعليم في الأزهر إذ ذاك على أسلوبه في القرون الوسطى، يعلم الكتب ولا يعلم العلم وغاية النابغ منهم أن يحسن فهم عبارة الكتاب لا فهم موضوع الكتاب، وهذا يؤدي إلى أنه لا يحسن تطبيق ما تعلم، فأكثرهم لا يحسن قراءة صفحة ولا أن يكتب موضوعًا، ولا أن يقيم وزنًا لبيت من شعر، كما وصفهم بذلك عبد الله باشا فكري في مقال كتبه، فكيف يصلحون بعد لتعليم الناشئة؟ إذا ذاك فكر على مبارك في إنشاء مدرسة يؤخذ لها من خيرة طلبة الأزهر بامتحان، ويختار لها خيرة العلماء من الأزهر وغيره، ويعلم طلبتها العلوم الدينية واللغوية وشيئًا من علوم الدنيا كالرياضة والجغرافيا والتاريخ والطبيعية والكيمياء، فكان من ذلك كله مدرسة دار العلوم. أما معلمو المواد الأخرى كالهندسة والحساب واللغات، فقد رأى أن يأخذهم ممن أتموا دروسهم في المدارس العالية كالمهندسخانة ومدرسة المحاسبة والإدارة بعد أن يقضوا مدة معيدين لأساتذتهم. قاعة للمحاضرات يحضرها من شاء، يحاضر فيها كبار الأساتذة من مصريين وأجانب، فيحاضر مثلًا الشيخ حسين المرصفي في الأدب وإسماعيل بك الفلكي في الفلك والشيخ عبد الرحمن البحراوي في الفقه، ومسيو بروكش في التاريخ العام وأحمد ندا في النبات، فإذا حاضر محاضر باللغة الأجنبية ألقيت محاضرته بعد ذلك باللغة العربية، وهذه المحاضرات يومية ما عدا أيام الجمع، وكل محاضرة ساعة ونصف ساعة، وبعض الموضوعات محاضرتان كل أسبوع وبعضها محاضرة واحدة. إنشاء مجلة سميت «روضة المدارس المصرية» رأس تحرير الشيخ رفاعة الطهطاوي، وذكر في أول عدد منها أن مدير المدارس وهو علي باشا مبارك «جعلها ملحوظة بنظر نظارته لا يندرج فيها شيء إلا بإشارته» وطلب من الأساتذة أن يمدوها بالمقالات، وكان ينشر فيها بعض ما يلقى في قاعة المحاضرات وكان في العدد الأول منها مقال لعلي مبارك موضوعه «إنشاء دار الكتب الخديوية». إنشاء دار الكتب، وقد كانت الكتب قبل ذلك متفرقة في المساجد أو الأماكن المهجورة عرضة للسرقة أو التلف، فجمعها في مكان واحد ورتبها وسهل الاستفادة منها وجعل لها قاعة مطالعة. فكان من ذلك كله حركة علمية شعبية ساعدت على النهضة المصرية. وأعانه على نجاحه في خططه ما كان يلقي من عطف وتشجيع من الخديوي إسماعيل، فهو يقر مقترحاته ويبذل المال لتنفيذ مشروعاته. وناحية أخرى لها قيمتها في حياة علي باشا مبارك، وهي مجهوده الكبير في التأليف والتشجيع عليه، فقد نهضت البلاد في التعليم كما بينا، فكان لا بد من حركة في التأليف والترجمة تسايرها، وقد قام بقسط وافر في هذا الباب الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقام علي باشا مبارك بنصيبه الوافر أيضًا، فألف في مهنته الخاصة، وهي الهندسة، كتبًا للطلبة، وألف كتبًا أخرى في الثقافة العامة أهمها خططه لمصر المسماة «بالخطط التوفيقية» يصف فيها القاهرة وحاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها كما يصف مدن مصر وقرأها مرتبة على حروف الهجاء. وإذا ذكر قرية ذكر ترجمة من نبغ منها أو كانت له شهرة في ناحية ما، وذكر في ذلك كله أقوال المتقدمين والمتأخرين، فكان كتابًا جليل النفع عظيم القدر أكمل به خطط المقريزي وما حدث للقاهرة والمدن والقرى المصرية من تغيير بعده إلى يوم تأليفه، ووقع الكتاب في عشرين جزءًا أو خمسة مجلدات. كما ألف كتابًا سماه «علم الدين» وهو قصة لشيخ تربي في الأزهر وتتلمذ له مستشرق إنجليزي تعلم منه اللغة العربية ودعاه الإنجليزي أن يزور معه إنجلترا فلبى الدعوة، وكانا كلما مرا على شيء من القاهرة إلى الإسكندرية سأل الإنجليزي الشيخ علم الدين فأجابه، وبعد الإسكندرية انقلب الشيخ تلميذًا والإنجليزي معلمًا، يسأل الشيخ عن كل ما يجهل فيجيب الإنجليزي، وملأ الكتاب بمعلومات قيمة عن الشرق والغرب ومظاهر الحضارة الأوروبية، وكان غرضه من هذا الكتاب تفتيح أذهان الشرق لما في الغرب، فالشيخ علم الدين في أول القصة رجل أزهري جامد لا يعرف شيئًا من شئون الدنيا، فلما ساح في أوربا اتسع ذهنه ومرن عقله ورقيت أحكامه على الأشياء، ورأيناه يحضر دار التمثيل وينظر إلى المسرح بالمنظار. ومن طرائف علي مبارك أنه وهو وزير المعارف الخطير لم يستنكف أن ينظر إلى الأطفال في بدء تعلمهم للقراءة والكتابة ولم تعجبه طريقة تعليمهم، فأخذ نفسه بتأليف كتاب من جزأين، يعلم في أولهما حروف الهجاء وكيف تتركب، ويضع ثانيهما للتمرين على المطالعة السهلة في موضوعات مفيدة، إلى غير ذلك من الكتب، كما كان يستحث العلماء على التأليف في الموضوعات النافعة على أسلوب جديد يقرب المعلومات إلى الأذهان، وكان من أكبر من ساعده في تحقيق أغراضه في التأليف عبد الله باشا فكري. «كنت يومًا في بيت علي باشا مبارك، والناس تموج في بيته، الحجر مزدحمة بالزوار، وعلي باشا يتصدر حجرة منها، فحضر مصطفى باشا رياض وكان ناظر النظار إذ ذاك، فأخذ يخوض في الناس حتى وصل إلى علي باشا مبارك فقال له: «ما هذا يا باشا؟» فقال له: «يا دولة الرئيس أنا في بلد يهاب الناس فيه أن يخاطبوا معاون إدارة أو مأمور مركز أو أي موظف حكومي، فإذا نحن جرأناهم علينا وعلينا وخاطبناهم، وخاطبونا، وأمكنهم أن يخاطبوا الموظفين في غير هيبة، وتعودوا أن يطالبوا بحقوقهم، وقالوا: أنا نجالس الناظر (الوزير) ونخاطبه، فلم لا نخاطب من هو أقل منه منزلة؟». لم تكن خطط علي باشا مبارك في التعليم في المثل الأعلى، ولا كانت خالية من العيوب، ولكنها كانت خطوة مباركة صالحة لأن ترقى مع الزمان، ويصلح ما ظهر فيها عند التنفيذ من أخطاء، كما حدث ذلك فعلًا في وزارة رياض باشا من بعد، ولكن ساءت الحال في مصر بتدخل الأجنبي بدعوى حماية الدين، كما أسلفنا في ترجمة جمال الدين الأفغاني وجاءت الثورة العرابية وأعقبها الاحتلال الإنجليزي، فقبض الإنجليز على التعليم، وصبغوه الصبغة التي يريدونها. لم يشترك علي مبارك في الثورة العرابية؛ إذ كان مزاجه ليس مزاجًا ثوريًا بحكم منشئه وتربيته — عكس مزاج الشيخ جمال الدين، الثوري العنيف — وكان مبدؤه الطاعة التامة لولي الأمر، مهما كان. أطاع عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وخدمهم في إخلاص، ولعله — كبعض المصلحين — يرى إن إصلاح التعليم خير أنواع الإصلاح، بل هو خير من الإصلاح السياسي، ويرى أن الإصلاح السياسي ما لم يرتكز على الإصلاح التعليمي فلا بقاء له ولا قيمة — لذلك لا نرى له إصبعًا ما في الثورة العرابية. ولقد اتهم كثير من عقلاء الأمة بمشايعة عرابي باشا، كعبد الله باشا فكري والشيخ محمد عبده، وغضب عليهما الخديوي توفيق، ولكن لم يتهم علي باشا مبارك في شيء ما، ولم يفقد رضا توفيق باشا وعطفه، وإنما فقد رضا عرابي باشا وحزبه، وكل ما أثر عنه في الثورة العرابية أنه تبرع يومًا بشيء من ماله لهذه الحركة، ولكن لعل ذلك كان تحت تأثير ضغط شديد عليه من الشبان المتحمسين. وزاده إيمانًا بحياده أنه لم يكن يؤمن بنجاح الثورة العرابية، على حسب ما كان يرى من ظروفه المحيطة به التي تمكنه من الاطلاع على شئون مصر والشرق والغرب. وقد روى الشيخ محمد عبده أنه حضر مجلسًا في بيت علي باشا مبارك كان فيه سلطان باشا — وقد أخذ سلطان باشا يشيد بذكره قوة الجيش المصري وما يمكن من زيادة عدده — فرد عليه علي باشا مبارك بأن حالة البلاد المالية لا تتحمل هذه الحرب ولا تساعد على النجاح فيها، ثم رأيناه في أثناء الثورة يذهب إلى بلده ويعمل في إصلاح أرضه، وعلى كل حال فالإنسان مطالب أن يعمل وفق ما يهديه إليه عقله وما يتناسب ومزاجه، وقد كان مزاج علي مبارك مزاجه هادئًا ناسبه أن يوجه أكثر قوته لإصلاح التعليم، ففعل. وربما كان أساس نجاحه شدة غيرته وقوة إخلاصه وعمق رغبته في خدمة وطنه. وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر ألفت وزارة مصطفى رياض باشا وعهد فيها إلى علي مبارك في نظارة المعارف، ولكن ما أبعد الفرق بين الحالين، وما أشد الاختلاف بين العهدين — لقد كان في العهد الأول قبل الاحتلال حرًا طليقًا يفكر كما يشاء ويفعل ما يشاء ويدبر المال لمشروعاته كما يشاء، لا يقيده في ذلك كله إلا عرض العهد فليس حرًا ولا طليقًا ولا يفكر إلا إذا سمح له المستشار الإنجليزي بالتفكير، ولا يفعل إلا في الدائرة المحددة التي خطها المحتلون، وقد عبر هو عن ضيق صدره في ذلك بأسلوبه الناعم الهادئ، إذ يقول في هذه الحقبة: «وأنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح، بقدر الإمكان، والله المستعان». اصطدم بعد ذلك بالقيود التي قيدت بها المصالح الحكومية، وخاصة القيود المالية التي وضعها مستشار المالية ربما كان علي باشا مبارك والشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الله باشا فكري الفرسان الثلاثة في ميدان العلم في مصر في ذلك العصر، وأركان النهضة العلمية المصرية، ولكن كان لكل طابع ولكل ميزة، فعلي باشا مبارك يهتم بالمسائل الكلية في سياسة التعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها، وإذا نظر إلى الجزئيات فلتطبيق الكليات عليها، والشيخ رفاعة ينظر إلى المسائل الجزئية ويعني بإصلاحها وتنفيذها، فإذا عهد إليه في إدارة مدرسة بث الروح فيها، ثم هو يؤلف ويترجم ويبعث تلاميذه على التأليف والترجمة، وبهذا أمد البلاد هو وتلاميذه بطائفة من الكتب النافعة كانت عماد النهضة، وعبد الله باشا فكري كاتب شاعر أديب مؤلف له قيمته في معرفة ما يناسب عصره من التأليف فيؤلف فيه، كان تلاميذ المدارس يعلمون الأدب من مقامات الحريري والنحو من كتاب شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فألف كتبه على نمط جديد، وكان تلاميذ المدارس الابتدائية، لا يجدون ما يطالعونه فألف لهم (الفوائد الفكرية) ثم كان أكبر عون لعلي باشا مبارك فيما ألف من كتب — فلكل من الفرسان الثلاثة مزية، ولكل فضل. رحمهم الله جميعًا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/35757396/
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
أحمد أمين
يتضمن هذا الكتاب لمؤلفه المفكر الإسلامي الكبير أحمد أمين سير لعشر من أعلام المصلحين في العصر الحديث، انتقاهم المؤلف من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، فكان منهم؛ جمال الدين الأفغاني من بلاد الأفغان، ومحمد عبده، وعلي مبارك من مصر، والسيد أمير علي والسيد أحمد خان من الهند، وغيرهم كانوا من الحجاز والشام وأقطار أخرى، وقد نشر أمين هذا الكتاب إيقاظًا للضمائر، وشحذًا للهمم، واستنهاضًا للأمم، وابتعاثًا للأمل في القلوب بعد أن أظلمها اليأس والقنوط من المستقبل؛ لذلك رأى أمين أن يكتب هذا العمل علّ الشباب بعد قراءته لسير هؤلاء المصلحين أن يحذوا حذوهم، ويسيروا على درب خطاهم، فتكون بداية نهضة وعزة لأوطان استضعفت فاستباح أهلها الكسل واعتادوا التأخر.
https://www.hindawi.org/books/35757396/3/
عبد الله نديم باشا (١٢٦١–١٣١٣هـ، ١٨٤٥–١٨٩٦م)
إن كان يستحق الإعجاب من نبغ — والظروف له مواتية — من أسرة عريقة في المجد أو الغنى أو الجاه ونحو ذلك مما ييسر للأبناء أن يتعلموا، ثم يشقوا لهم طريق الحياة وطريق المجد فأولى بالإعجاب من ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب ولا غنى ولا جاه، بل ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتى من أن يجد له وقت فراغ يثقف فيه نفسه. قد يدعو إلى شيء من الإعجاب منظر شجرة يانعة ضخمة مثمرة، تعهدها بستانيها بكل ما يصلحها، ومن وضع في المكان المناسب والغذاء الكافي، ولري المتوافر في أوقاته، ولكن أدعى إلى الإعجاب بذرة طرحت حيثما اتفق، فمدت جذورها بنفسها تجد في حصولها على غذائها، فقد تجده وقد لا تجده، وتعاكسها الطبيعة فتكافحها وتتغلب عليها، ثم هي آخر الأمر تكون أينع ما كانت شجرة وأضخمها وأوفرها إثمارًا. كذلك كان من النوع الثاني «عبد الله نديم»، كل الدلائل تدل على أنه سيكون نجارًا أو خبازًا، ولو تنبأ له متنبئ متفائل لقال إنه سيكون نجارًا ماهرًا ناجحًا، فأما أديب يملأ الدنيا ويقود الرأي العام ويحسب حسابه في كل ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه، فلا يدور بخلد أحد حتى فاتح الرمل والضارب بالحصى. على أنه في الإسكندرية — قريبًا من بيتهم — مسجد هو صورة مصغرة من الأزهر، يدرس فيه المشايخ ما يدرس في الأزهر وعلى نمطه، وذلك هو مسجد الشيخ إبراهيم باشا. فدرس فيه عبد الله نديم ما شاء الله أن يدرس، ولكنه كان تلميذًا خائبًا في هذه الدراسة، لا يصبر على جفافها، ولا يقدر على حل ألغازها، ولا يتحمل العناء في تفهم كتب نحوها وفقهها فكان لا يواظب على درسه ولا يبدي به اهتمامًا. كان عبد الله نديم يغشى هذه المجالس الأدبية التي ليس لها منهج، فيسمع شعر الشاعرين وزجل الزجالين، ونوادر المتماجنين، وقصائد الراوين، فيصغى إلى كل ذلك في فهم كأنه كله آذان، ويدرك من غير وعي أن هذا بابه وهذا فنه، وأنه إنما خلق لذلك لا للنحو ولا للصرف. فاشتاقت نفسه أن يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق، وقد منح حافظة لا قطة، وقدرة على التقليد فائقة فأخذ يحاكي بعد ما اختزن، ويغني بعد ما سمع، فطورًا يوفق فيستدعي ذلك إعجاب أمثاله، وطورًا يخذل فيستخرج ضحك أقرانه، ومن كل ذلك كان يتعلم. وإلى جانب هذا تعلم درسًا في منتهى القيمة، درسًا تعلمه «حافظ» ولم يتعلمه «شوقي» وتعلم «بيرم التونسي» ولم يتعلمه «توفيق الحكيم»، درسًا قل أن يفقهه الأدباء مع عظيم خطره وكبير أثره، ذلك هو أن نشأته في صميم الأحياء الشعبية مع رهافة حسه، ويقظة نفسه، وفقره وبؤسه، علمته أن يحيط إحاطة واسعة بلغة الشعب وأدبه، من أمثال وحكايات وجوه معاملات وصنوف تصرفات، فرسم ذلك كله في نفسه لوحات كان لها أكبر الأثر في حياته الأدبية المستقلة، والنفس الحساسة الفنانة تختزن حتى حفيف أوراق الأشجار، وهفهفة الأغصان، ودبيب النمال، وحلاوة البسمات، وأدق مجالي الجمال والقبح، ثم تعرف كيف تستخدم ذلك في فنها متى آن أوانه. لقد نفض أبوه يده منه، فأخذ عبد الله نديم يبحث عن وجه للكسب، فاتجه اتجاهًا غريبًا، هو أن يتعلم فن الإشارات التلغرافية ثم يتكسب منه، وكذلك كان. فتعلمه واستخدم بمكتب التلغراف ببنها. ثم نقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، وقد كان قصرًا من أفخم القصور، يقع على النيل فيما يسمى الآن «جاردن سيتي» خدم وحشم وموسيقى وطرب، وما شئت من ألوان النعيم والترف، وقد تعلم منه عبد الله نديم كيف يعيش الأمراء والسادة، كما تعلم في بيته وحارته في الإسكندرية كيف يعيش الفقراء والعبيد. وعاد إليه في القاهرة شوقه إلى الأدب ومجالس الأدباء، وكان حظ القاهرة في ذلك أوفى، ففيها — مثلًا — مجلس محمود سامي البارودي، وكان مجلسًا عامرًا يسمر فيه السمر اللذيذ: فأدب قديم يعرض، وأدب حديثه ينشد؛ وعرض للمعنى الواحد صيغ صياغات مختلفة، ونقد قيم لهذا ولذاك، يتخلله نوادر فكهة، وأحاديث في الأدب حلوة. اتصل عبد الله نديم بهذا المجلس وأمثاله، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من أدباء مصر إذ ذاك، وأخصهم سبعة، أولع بهم واستفاد من معارفهم وأدبهم: شاعر مصر محمود سامي البارودي، وشيخ الأدباء عبد الله باشا فكري والسيد علي أبو النصر البليغ الشهير، ومحمود صفوت الساعاتي، الواسع الاطلاع، الكثير المحفوظ، المتفتن في الطرائف الأدبية، والشيخ أحمد الزرقاني الكاتب الأديب، ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ عاشر الأدب والأدباء الأدب والأدباء الكريم الوفي. وكان الذي أرشده إلى هؤلاء الأدباء وعرفه بهم، وأحكام الصلة بينه وبينهم، الشيخ أحمد وهبي أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، والمحرر بالوقائع المصرية في بعض أيامه. فأتم على هؤلاء وأمثالهم دراسته، وشرب من منهلهم، وارتوى من ينابيعهم، فهو في النهار تلغرافي، يتقبل الإشارات ويرسلها، وبالليل أديب يتقبل نماذج الأدب ويحاكيها. ولكن لم يمهله الحظ، فقط غلط في عمله في القصر العالي غلطة سببت غضب خليل أغا عليه. ومن خليل أغا؟ هو كبير أغوات الوالدة (أم إسماعيل)، وكان القصر مملوءًا بالأغوات، يقومون بشئون القصر، ويستقبلون المدعوات ويصحبونهن إلى باب الحريم، ونال كبيرهم خليل أغا من النفوذ ما لم ينله ناظر النظار ولا الأمراء والوجهاء، ولحظوته عند الخديوي إسماعيل ووالدته، وإشارته حكم، وطاعته غنم، يخضع له أكبر كبير، ويسعى لخدمته أعظم عظيم، رأيه نافذ في الدواوين والمصالح، يتحكم في مصر والسودان، ويأتمر بأمره كبار الموظفين والأعيان، حاز الثروة الضخمة والجاه العريض، كأنه كافور الأخشيدي في أيامه، حتى إنه لما عقد عقد زواج الأنجاب في القصر العالي حضره النظار والعلماء وكبار الأعيان، فكان يرأس الجميع «خليل أغا». كان من خصاله أن يذبح ويسبح، ويغصب ويبني مدرسة. فما عبد الله نديم إذا غضب عليه خليل أغا العظيم؟! إذا غضب عليه خليل أغا فصل من وظيفته، ولكن إذا غضب عليه خليل أغا ضرب وطرد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت. سدت في وجهه أبواب الرزق في القاهرة كما سدت في الإسكندرية، وانتهى به الأمر إلى أن ينزل على عمدة من عمدة الدقهلية يقيم عنده ويعلم أولاده، ثم ما لبث أن تخاصم مع العمدة، فأما العمدة فيرى أنه آكله وأسكنه مقابل تعليم أولاده، وأما عبد الله نديم فيرى أن هذا حق الضيف ويبقى له أجر التعليم، واختلفت وجهة النظر، وتشادا ثم تسابا، وغلى مرجل عبد الله نديم؛ فكان ذلك نعمة على أدبه إذا انفجر المرجل وتدفق عبد الله نديم يصوغ في هجاء العمدة أدبًا لاذعًا، تدفعه عاطفة حادة، فعرف نفسه أديبًا وعرفه من حوله لسنًا يملك ناصية القول. واتصل أمره بعين من أعيان المنصورة ذي مروءة فاستدعاه وأكرمه، وفتح له دكانًا يبيع فيه المناديل وما إليها، فاتخذ دكانه متجرًا للمناديل ومجمعًا للأدب، يجتمع فيه بعض أصحابه يتذاكرون الأدب، ويتناشدون الأشعار، ويتبادلون النوادر. وبين هذا وذاك تأتي شارية لمنديل أو شار لعصابة. وكانت هذه العادة فاشية في المدن، فقد يكون التاجر ذا ثقافة فقهية وأدبية فيتخذ أصحابه من دكانه مكانًا للبحث في الفقه أو الحديث في الأدب، إذا لم تكن قد غزتنا المدنية الأوربية فعلمتنا التخصص، وأن مكان التجارة للتجارة فقط، وأما الحديث في العلم والأدب فله مكان آخر. وقد أدركنا أول زماننا شيئًا من هذا، فكانت بعض الدكاكين مدارس، وخاصة في الأدب، لأن الأدب لم يكن يدر رزقًا، إنما هو فن للمتعة، وكثير من أدباء عصر عبد الله نديم كان من هذا الطراز، فحسن أفندي عبد الباسط — الأديب الشاعر الهجاء — كان في بعض أيامه يفتح دكان عطارة في الزقازيق، ويجتمع به في دكانه أدباء الزقازيق وظرفاؤها، والشيخ أحمد وهبي الشاعر الأديب كان له دكان طرابيش بالغورية، وكانت مجتمع الأدباء والشعراء، ولكن أكثر هؤلاء لم ينجحوا في تجارتهم فالأديب فنان، والفنان — في الغالب — سمح يقدر الذوق الفني أكثر مما يقدر الدرهم والدينار؛ والتجارة تحتاج إلى الضبط والدقة، والعناية بالإيراد والصرف، والفنان — عادة — طليق لا تطيق نفسه القيود والحدود. وعلى كل حال وجد عبد الله نديم بعد برهة دكانة وليس فيها مناديل ولا جوارب، ولكن جماعة يتناشدون الأشعار، ويستهلكون ولا يغلون، فأغلق دكانه وطوف بالبلاد ينزل ضيفًا على هواة الأدب، إلى أن نزل بطنطا، وصادف مولد السيد، فكانت له حادثة ظريفة لفتت إليه الأنظار وشهرته بين الناس. وكانت البيوت أعظم شأنًا من الدكاكين في أنها مجتمع الأصدقاء من ذوي العلم والفن يسمرون فيها السمر اللذيذ ويتحدثون الحديث الظريف، هذا بيته منتدى الأدباء وهذا بيته مجموع الفقهاء، وهكذا كل رجل يعرف مكانه من هذه البيوت على حسب ذوقه وميله، ويكثر ذلك في طبقة الأوساط والأغنياء من ذوي الميل العلمي والفني. وأدركت في حارتنا المتواضعة ثلاث بيوت من هذا القبيل، كان صاحب أحدها قاضيًا شرعيًا كبيرًا، فكان بيته منتدى الفقهاء والعلماء يتسامرون عنده في الدين والفقه، والثاني موظفًا ظريفًا يسمر عنده أصحابه بالأخبار والفكاهات، ليلة يدعون قارئًا جميل الصوت، وأحيانًا فكهًا حسن الحديث؛ والثالث دفافًا يضرب على الدف في الأفراح، فكان عنده كثير من هواة الآلات الموسيقية، يحيون عنده الليالي الملاح حتى الصباح. فما بالك بالموسرين إذا شغفوا بأدب أو علم أو فن، وكانوا كرامًا يفتحون بيوتهم للهواة من أمثالهم، يجدون فيها الطعام الشهي والفن الشهي؟! كان بيت شاهين باشا كنج بطنطا — وهو مفتش الوجه البحري إذا ذاك — من هذا القبيل، كرم حاتمي، وذوق أدبي، وظرف نواسي، فتعرف به عبد الله نديم، فوجد فيه شاهين باشا قبح منظر، مع طلاقة لسان، وخفة روح، وسرعة بديهة فغطى ذلك على قبح منظره، واتخذه له نديمًا. كان مرة يجلس في قهوة أيام المولد الأحمدي سنة ١٢٤٩هـ ومعه طائفة من أصحابه، ومنهم علي السيد علي أبو النصر الشاعر، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري الأديب الماجن، قطع عليهم اثنان من «الأدباتية». والأدباتية طائفة من الشحاذين يستجدون بأدبهم العامي وطلاقة لسانهم في الشعر، وحضور بديهتهم، عرفوا بالإلحاح في الطلب، فإذا رددتهم أي رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرًا يدل على استمرارهم في طلبهم، واستغواء ممدوحهم، وقد جمعوا إلى طلاقة لسانهم وحضور بديهتهم منظرهم المضحك في ملبسهم وحركاتهم، فزرج خارج العمامة، وطبلة تحت الإبط، وحركات يدور معها رز العمامة كأنه نحلة، وتحريك لعضلات وجوههم كأنهم قردة، وسموا «أدباتية» جمع «أدباتي» وهي لفظ سخرية لأديب. فمر هذان الرجلان من طائفة «الأدباتية» على الحاضرين حتى وصلا إلى عبد الله نديم، فقال أحدهما: فأجابه عبد الله نديم على البديهة: فرد «الأدباتي»، ورد عبد الله نديم، وظلا كذلك نحو ساعة، غلب «الأدباتي» فانصرف مهزومًا. ونقل السيد علي أبو النصر القصة إلى شاهين باشا كنج، فاستظرفها جدًا، وخطرت له فكرة طريفة أيضًا أن يقيم حفلًا عامًا، يدعو فيه كبار «الأدباتية» والزجالين ويدخلون في مساجلة مع عبد الله نديم، فيكون منظرًا لطيفًا، ومحفلا طريفًا. ففعل ونصب سرادقًا أمام بيته، وأحضر رؤساء هذا الفن، وشرط عليهم أنهم إن غلبوا كافأهم، وإن غلبوا ضربهم، فرضوا، واستمرت المساجلة نحو ثلاث ساعات، غلب فيهم النديم، فكانت الحادثة سبب شهرته بين الأدباء والظرفاء. عاد فرأى في الإسكندرية منظرًا جديدًا لم يكن أيام كان بها كانت المجالس الأدبية يوم فارقها تتحدث في غزل أبي نواس، ووصف البحتري، وهجاء ابن الرومي، ومديح الشعراء في إسماعيل، وفكاهات الشيخ الليثي، فإذا انتقلوا من ذلك فإلى من عارض شعر هؤلاء من المحدثين، وما أنشأه الناشئون من سمار المجلس في مثل هذه الأغراض، ولما عاد إليها وجد المجالس تتحدث في حالة البلاد ووقوعها في أسر الدين، وفي الدول وتدخلها، ورأى جمعية سرية تسمى «مصر الفتاة» يجتمع أعضاؤها فينتقدون هذا كله في صراحة وحماسة، والأدب يتحول فيأخذ شكل الكلام في الأمة ومصالحها، وآلامها، ويحتل ذلك مكان غزل أبي نواس، وشعر صريع الغوني، والنفوس بفضل تعاليم «جمال الدين الأفغاني»، وصحبة ثائرة تتطلع إلى نوع من الأدب غير الذي كان، وتجد غذاءها في الصحف السياسية والمقالات النقدية، فيشتغل في الصحافة من هذا النوع «أديب إسحاق» و«سليم نقاش» في جريدتهما «مصر» و«التجارة»، ويمدهما جمال الدين وتلاميذه بمقالاتهم وإرشاداتهم. فأعد عبد الله نديم نفسه للأدب الجديد والمطلب الجديد، وانغمس في هذا التيار، وحول قلمه في هذا الاتجاه، يمد هذه الصحف بمقالاته في مثل هذه الموضوعات؛ فلقي من النجاح ما لفت إليه الأنظار، وكان له فضل كبير في إدراك أن الكتابة في الموضوعات السياسية إنما يتناسبها أسلوب متدفق سريع مرسل لا يقيده السجع إلا قليلًا، لينسجم وحركات النفس المتحمسة الثائرة. وفكر مع بعض أصحابه من أعضاء جمعية «مصر الفتاة» أن يحولوها من جمعية سرية إلى جمعية علنية، تعمل جهارًا في الأعمال المشروعة، وجد هو وصحبه يجمعون المال لها من أعيان الإسكندرية، وسموها الجمعية الخيرية الإسلامية (وهي غير الجمعية القائمة الآن بهذا الاسم). وكان من أهم أغراضها إنشاء مدرسة تعلم الناشئة على نمط غير النمط الجاف الذي تسير عليه مدارس الحكومة إذ ذاك، فيضيفون إلى تعليم مبادئ العلوم بث روح الوطنية والشعور القومي في الأمة، وقد كان هذا غرضًا جديدًا دعا إليه الشعور القومي الذي كان في طور التكون. وتم ذلك كله فجمع المال، وأنشئت المدرسة وجعل عبد الله نديم مديرها، وافتتحها بخطبة رن صداها في الثغر، وكان ذلك في أواخر أيام إسماعيل، وأقبل عليها كثير من أبناء الفقراء والأيتام، ووضع لها برنامج يحقق الغرض، وتكفل هو بتعليم الإنشاء فيها والأدب، وأخذ يمرن الطلبة على الخطابة والتمثيل، وعلى الجملة نفخ فيها من روحه، ولعلها أول جمعية مصرية إسلامية في مصر أسست لمثل هذا الغرض. ثم وثق الصلة بين المدرسة والقصر، وكان الخديوي إسماعيل قد عزل وحل محله الخديوي توفيق، فتقرب النديم إليه واستزاره المدرسة فزارها، ورجا منه أن تنسب الرياسة لولي عهده «عباس»، فقبل وأغرم بتعليم التلاميذ الخطابة، فكان ينتهز كل فرصة لإقامة الحفلات يخطب فيها، ويحضر الخطب لتلاميذه ليخطبوها، ثم يمرنهم أن ينشئوا الخطب لأنفسهم، ويصلح خطأهم ويرشدهم، فأسس بذلك نخبة يحسنون التحرير، ويحسنون القول. ولم يكتف بذلك، بل خرج بالمدرسة على ميدان الحياة العامة، فكان يحضر بعض الروايات التمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه في بعض الملاهي العامة، من ذلك أنه أنشأ روايتين اسمهما «الوطن وطالع التوفيق» و«العرب» ومثلهما في «تياترو زيزينيا» حضرهما الخديوي توفيق، ونجح فيهما نجاحه أعلى ذكره. ولكن ظهر فساد في الجمعية نسبوه إليه، ففصل من المدرسة ومن الجمعية. عند ذاك اتجه إلى إنشاء صحيفة، وحبب إليه ذلك سابقة اتصاله بصحيفتي أديب إسحاق وسليم نقاش، ومرانته على الكتابة فيهما، وشعوره بأن الناس أعجبوا بما كتب، وأنه كان يكتب فيستغل أصحاب الصحف مقالاته مادة ومعنى فلا يؤجرونه على ما كتب، وكثيرًا ما يضنون عليه حتى بذكر اسمه في ذيل مقالاته، بل يتركون القارئ يفهم أنها لهم ومن إنشائهم. فأخرج صحيفة سماها «التنكيت والتبكيت» وفي هذا الاسم دلالة على غرضه وأسلوبه، فهو يرمي إلى تأنيب المصريين على ما وصلوا إليه، في أسلوب قد يكون لاذعًا وقد يكون مضحكًا. وفي الحق أن هذه الصحيفة كانت عجبًا في موضوعاتها وأسلوبها. انظر العدد الأول: تجد تنكيتا وتبكيتا لأكبر المصائب التي كان يحسها ذلك العصر: مقال عنوانه «مجلس طبي لمصاب بالإفرنجي»، وهي قصة شاب صحيح البنية، قوي الأعصاب، جميل الصورة، لطيف الشكل، في رقة ألفاظ وعذوبة كلام، وفي عزة ومنعة لا يشاركه فيها مشارك، يلتف حوله أهله يعززونه ويؤازرونه حتى لا تمتد إليه يد عدو، ولا حيل محتال. وبينما هو في ذلك تسلل إليه أحد الماكرين يتظاهر بالصلاح والتقوى، ويضمر الختل والغدر، فأسلمه إليه أهله انخداعًا به. فعرضه هذا الماكر على الأسواق يريه من الغواني من تعارض الشمس بحسنها، وتكسف البدر بنورها، فمانع حينًا، ولكنه رأى أهل بيته وقعوا في مثل هذه الغواية، وانغمسوا في مثل هذه الضلالة، فسار سيرهم، وترك النفار والآباء، وسار في الطريق الذي رسمه المنافق الخادع، فما سار فيه حتى أصيب بالداء الإفرنجي (الزهري) فاصفر وجهه، وارتخت أعضاؤه، وذهبت بهجته، غارت عيناه، وتشوه وجهه، وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع، وتمكن الداء منه، وسرى في دمه وعروقه، فصار يقلب طرفه لعله يجد من قومه من ينقذه من مرضه. واجتمع الأطباء من قومه يفصحون الجسم، ويشخصون مرضه، ويقفون على أصله، ويركبون الدواء ليقف سريان الدواء، ويتعلق بهم أهل المريض يسألونهم الإسراع في معالجته: والاجتهاد في دفع مصابه، فطمأنهم الأطباء ونصحوا لهم بالهدوء والتحرر ممن كانوا السبب في الدواء. حتى لا يفسدوا العلاج، وابتدءوا يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في معالجته. وواضح أن هذه قصة رمزية، أرد أن يصور فيها شعور الناس في هذه الفترة بعد ما كان من الإسراف، ووقوع مصر في الديون الباهظة، وتدخل الدول الأجنبية؛ من مراقبة ثنائية وإنشاء صندوق الدين، وما إلى ذلك، كما يصور بها ألم الناس من هذا المرض الإفرنجي، وأملهم في النجاة منه يسعى عقلائهم، وتفكير أولي الرأي فيهم، كل ذلك في أسلوب روائي مفهوم. قد كانت هذه المسألة هي صميم المسألة المصرية، ومشكلتها الكبرى، فبدأ بها على هذا النحو، وعالجها هذا العلاج، وكان بارعًا في التورية بكلمة «الداء الإفرنجي». ويلي ذلك مقال في «عربي تفرنج» يصف فيه شابًا من صميم الفلاحين، تعلم في مصر، ثم في أوربا، وعاد إلى بلاده يسفه أباه لما قابله على المحطة وقابله كيف يقبله، ويطالبه أن يسلم عليه بيديه فقط، ويكتفي أن يقول له «بن أريفيه» وينسى لغته، حتى اسم البصل، فهو لا يعرف إلا أن اسمه «أونيون» — ويختم هذا بالمغزى من القصة، وهو أن لا أمل في مثل هؤلاء إلا إذا حافظوا على لغة قومهم وعاداتهم، وصرفوا علومهم في تقدم بلادهم. ثم قصة ترمي إلى نقد ما كان يجري بين العامة من اجتماعهم في القهوة، وسماعهم للقصاص (الشاعر)، انقسامهم إلى معسكرين، متعصب لعنترة، ومتعصب لزغبة، وما كان أحدهم — وقد ختم القصاص الليلة بوقوع عنترة أسيرًا — إذا ذهب إلى ابنه وأيقظه من نومه وأمره أن يقرأ في الكتاب حتى يخلص عنترة من الأسر، وإلا مات كمدًا، فلما لم يطعه ابنه، وأفهمه أن هذا تخريف في تخريف، نزل عليه بعصاه حتى أدماه، والجنون فنون. ويلي هذه قصة تمثل الفلاح الجاهل، المرابي الماكر؛ إذ أراد الفلاح أن يقترض منه مائة جنيه، فأعطاه سبعين، وكتب عليه «كمبيالة» بمائة وعشرين وحسبها كما يأتي: المائة فائدتها عشرون، تخصم في المائة فيكون فيه الباقي سبعين، وتضم الفائدة فيكون عليه مائة وعشرون، ويقتنع الفلاح بذلك لجهله بأبسط مسائل الحساب؛ ثم يقدم الفلاح للمرابي قطنًا وقمحًا ثمنها الحقيقي ١٢٥ جنيهًا، يحسبهما المرابي بأربعين، ويغالطه أغلاطًا مضاعفة حتى يجعله مدينًا بمائتي جنيه وعشرة، كل ذلك والفلاح في غفلة لا يدري ما يصنع به — فإذا عوتب المرابي على ذلك قال: ماذا أصنع! إن الفلاح حمار، وأنا أريد أن أكون غنيًا كبيرًا في خمس سنين! ثم قصة غني كبير بنى بيتًا فخمًا، وأثثه أثاثًا بديعًا، وكان من أثاثه مكتبة كبيرة، فلما أتم ذلك كله عرضه على الزائرين، فسأله أحدهم عن المكتبة وما يحوي، ليعرف أي نوع من العلوم والفنون يهوى، فقال الغني صاحب البيت: لقد دخلت بيت فلان وفلان فرأيت في مضيفة كل منهم خزامة كتب عليها ستارة خضراء وبجانبها منفضة من الريش؛ والخادم كل يوم ينفضها ويسمح الزجاج الخزانة، فعلمت أن هذا طراز جديد في بناء البيوت وتأثيثها، فقلدتهم في ذلك، ولا علم لي بعلم أو فن. «وهكذا أصبح الكل نائمًا في غفلة التقليد». ••• نعم، هذا كله في العدد الأول من صحيفة «التنكيت والتبكيت»، نقد للسياسة العامة للبلد، ونقد للعيوب الاجتماعية الخاصة. كل ذلك في أسلوب يسترعي الانتباه، فقد التزم اللغة البسيطة السهلة عن تفكير وروية، فقال في فاتحتها: إنه لا يريد منها أن تكون منمقة بمجارات واستعارات، مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بخامة لفظ وبلاغة عبارة ولا معربة عن غزارة علم وتوقد ذكاء، ولكن أحاديث تعودناها، ولغة ألفنا المسامرة بها لا تلجئ إلى قاموس الفيروز أبادي، ولا تلزم مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطر لترجمان، يعبر عن موضوعها، ولا شيخ يفسر معانيها، وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم، وفي بيت كخادم يطلب منك ما تقدر عليه، ونديم «يسامرك بما تحب وتهوى». ثم هو يدرك أن في الناس خاصة وعامة، وكل يحب أن يقصد إلى تغذيته بالأدب، وأشعاره بوجوه النقد، لذلك يختار موضوعات الخاصة فيكتبها باللغة الفصحى كموضوع «الداء الإفرنجي» فهو موضوع دقيق لا يقدر قدره إلا الخاصة؛ أما الفلاح والمرابي وسماعوا القصاص فمكتوبة للعامة، فيجب أن تكتب بلغتهم العامية، وهو في اللغة العامية ماهر كل المهارة، ويعرف أمثالهم وأنواع كلامهم، ويضع على لسان الخادم والسيد والمرأة والرجل، والفقير والغني، والماكر والمغفل، وما يليق به، في دقة أحكام وظرف. ثم هو قد فطن لشيء جليل القدر، وهو أن التعليم والنقد من طريق القصص أجذب للنفس وأفعل في النقد، فأكثر منه بل كاد يتلزمه. لذلك كله نجح في صحيفته، ووصل نداؤها إلى أكبر عدد ممكن، فمن كان قارئًا قرأ، ومن لم يكن قارئًا سمع ففهم. ولم يكتف بذلك، بل نراه في عدد تال يلتفت التفاتة لها خطرها في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وهي أن من أهم بين أسباب غفلة الشرق ضعف الخطابة، واقتصارها — تقريبًا — على خطب المساجد، وهي خطب لا تمس الحياة الواقعة بحال من الأحوال، وإنما هي عبارة دينية محفوظة، ومعان متكررة مألوفة، لا تحرك قلبًا ولا تضيء حياة. فكتب مقالًا قويًا في قيمة الخطابة وأثرها في تاريخ الإسلام، ودعا إلى أن يحضر خطب المساجد أعرف الناس بشئون الحياة، وأقدرهم على التأثير، وأن تشرح هذه الخطب الموقف الحاضر في وضوح، وتبين الأخطار المحيطة بالأمة في جلاء، وأن يتبرع القادرون بقدر من المال يخصص لهذا الغرض، ويتفقوا مع ديوان الأوقاف ليسمح بإلقاء هذه الخطب في المساجد، ثم تطبع وتنشر في أنحاء البلاد، ليصل صداها إلى كل قرية وبلدة، وأعلن استعداده للاشتراك في إعدادها، ووضع خطبة نموذجية توضح غرضه، تتضمن المحافظة على حقوق البلاد والنهي على الظلم والبغي، والدعوة إلى الائتلاف لمواجهة الأخطار التي تظهر دلائلها في الأفق، والاتحاد مع المواطنين ما غير نظر إلى اختلاف الدين، والتذكير بمجد مصر السابق، والالتفاف حول الخليفة والخديوي، والتحذير من تمكين الأجنبي من وضع يده على سياسة البلاد، والتحرز من إتيان عمل يتخذه وسيلة لتدخله ومعاملة النزلاء الأجانب بالحسنى، ومن حفظ حقوق تجارتهم وعدم الإساءة إليهم. هذه هي المعاني التي رأى أن الحاجة ماسة إليها في ذلك الوقت (في أول حكم الخديوي توفيق قبيل الثورة العرابية)، صاغها صياغة دينية تناسب صلاة الجمعة فبدأها بالحمد لله، والثناء على رسوله، وختمها بالحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا». — وقد حقق «الراديو» أخيرًا فكرة عبد الله نديم في إذاعة الخطبة شكلًا، ولكن لما تتحقق فكرية موضوعه. وانتهت هذه الصحيفة على هذا الموضوع. ففرح الناس وتهللوا لهذه الوعود القيمة وتفتحت آمالهم، ولكن الحكم الشورى لم يرض طوائف كثيرة — لم يرض الحاشية، وكان السيد جمال الدين أشار على الخديوي توفيق بتغيير حاشية إسماعيل، فأغضبهم عليه. قال الشيخ محمد عبده: «ووكيل دولة فرنسا أخذ يسعى في إقامة الموانع دون إعطاء حق النظر في تصحيح الميزانية، وتقرير الأمور المالية، ودعا وكيل إنجلترا إلى مساعدة في إقناع الخديوي بضرر هذه الأوضاع الجديدة» فتغير رأي الخديوي توفيق في ذلك كله؛ فاستقال شريف باشا ونفي السيد جمال الدين، وأخذت الأمور مجرى آخر كان سببًا من أسباب الثورة. ثم جاءت وزارة رياض باشات بعد وزارة شريف، وفي تاريخ مصر الحديثة كان شريف باشا دائمًا رمز الحكم الشورى، ورياض باشا رمز الحكم الاستبدادي، وكلاهما كان يلتف حوله كثير من الخاصة، فحول شريف جماعة ترى أن الحكم الشورى هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البلاد من الفوضى، والأمل الوحيد في وقف كل سلطة عند حدها، والباعث الوحيد للأمن والحرية في نفوس الأفراد، وحول رياض جماعة ترى أن الحكم الشورى لا يصلح إلا إذا نضجت الأمة وعرفت شئونها ومجاري السياسة حق معرفتها، ورزقت من الشجاعة في القول والجد في العمل قدرًا صالحًا، وإلا كان الحكم الشورى نقمة، والأمة لم تبلغ هذا الحد؛ وكان الجدال والنزاع يدور على الفكرتين في الصحف والمجالس، على كل حال؛ فقد كان هذا درسًا لتنوير الرأي العام في السياسة، وتفتيح الأذهان للنظر في المسائل العامة. وكانت شخصية رياض شخصية معقدة — ذكي، خبير بالإدارة، قوي العزيمة صبور على العمل، معتز بنفسه، لا يرى بجانب رأيه رأيًا، إذا وثق بشخص لم يسمع فيه قول قائل، وإذا أساء الظن بإنسان فإلى النهاية، نزيه، يحب الخير لمصر، ولكن حسبما يرى هو وبالطريقة التي يراها، قليل الثقة بالمصريين ممتلئ عقيدة بأنهم مملئون عيوبًا، كبير التعظيم للأجانب، معتقد بقوتهم، يرى أنه لا يستطيع الحكم إلا بالاعتماد عليهم أو على أقواهم، لا يرى بأسًا من إغضاب الخديوي وإغضاب الأمة في سبيل إرضائهم، ومع ذلك يبذل أقصى جهده في أن ينال منهم أقصى ما يستطيع لخير أمته — شديد الحب للحكم لا تعتزله إلا مكرها. فكانت أخلاقه هذه من عوامل التمهيد للثورة العرابية. ألغى السخرة العامة كإقامة الجسور على النيل، وحفر الترع من غير أجر والسخرة الخاصة، كعمل الفلاحين في أرض سيدهم من غير مقابل، ونفذ ذلك في غير هوادة، فأغضب بذلك الأعيان، وأعطى السلطة العامة للمديرين، فأساءوا السيرة، وضيق على الصحف، وعطل بعضها، فعامل أصحابها سرًا بعد أن كانوا يعملون جهدًا، وسافر بعضهم إلى أوربا يصدر الجرائد في الطعن عليه، وعارض الخديوي في أن يمنح الرتب والنياشيين لمن يراهم أهلًا، كما عارضه في كثير من رغباته فغضب الخديوي عليه، وعاقب «رياض» المدير الذي سخر الأهالي في حفر ترعة خاصة بالخديوي. وتصرف ناظر الحربية في وزارته تصرفات أغضبت رجال الجيش المصريين، فطلب عرابي وأصحابه تشكيل مجلس عسكري لتحقيق الشكايات، فمال رياض إلى إجابة مطلبهم، ولكن أشيع عنه أنه هو الذي يمانع في ذلك فغضبوا عليه — كل ذلك وهو لا يريد أن يتخلى عن الحكم. تبلبلت الأفكار واضطربت، وكلها تتفق في وجوب تغيير الحال، وإن اختلفت أسباب غضب كل طائفة، فالأعيان يحبون رجوع سلطتهم في تسخير الناس، والضباط المصريون يريدون العدل بينهم وبين الشراكسة، وبعض ذوي الرأي يرون أن هذا كله تأييد لوجهة نظرهم في أنه لا يصلح الأمور إلا نظام الشورى والخديوي ناقم على رياض لخشونته، وبعض الأجانب لا يسرهم ما قام به رياض من ضبط الأمور المالية. كل ذلك هيأ للثورة العربية. وتطورت مطالب العرابيين من عدل بين الضباط، إلى تغيير شكل الحكومة من نظام استبدادي إلى نظام شوري، إلى التهييج على الخديوي توفيق إلى المناداة بعزله لالتجائه إلى الدول لحمايته، إلى الدعوة للجهاد في سبيل صد المغيرين. واتسعت الحركة، من حركة محصورة في الجند والضباط، إلى حركة وطنية واسعة تشمل العلماء والأعيان والتجار والزراع وغيرهم، واندس وسط الحركة من يعمل صالح أمير ليحل محل الخديوي توفيق، فجماعة تعمل لصالح الأمير حليم ابن محمد علي، ومن هؤلاء صاحب جريدة «أبو نضارة» ومنهم من يعمل لحساب الخديوي إسماعيل لإعادته، ومن هؤلاء راتب باشا السرادر، وهكذا. في هذا الجو الذي صورناه صورة صغيرة جدًا عمل عبد الله نديم، واحتضنه العرابيون، فكان خطيب الثورة وكاتبها ومشعلها. اتخذ جريدة «الطائف» بدل «التنكيت والتبكيت»، ونقل مكانها من الإسكندرية إلى القاهرة، وبدأها عنيفة قوية، تنقد تصرفات الخديوي إسماعيل في جرأة بالغة، وتشرح بؤس الفلاحين في السخرة والعذاب المهين الذي يلقونه من الرؤساء، وما شاهده بنفسه من أحداث، وكيف يخر الناس قتلى من الجوع والبؤس، والإعياء والضرب، وكل رئيس يريد أن ينال حظوة من فوقه بالمغالاة في التعذيب. وكان عبد الله نديم في هذه الصحيفة يعبر عن آراء النواب في ضرورة الإصلاح عن طريق الحكم النيابي؛ وقد كتب سلطان باشا رئيس النواب إلى إدارة المطبوعات أن تعتبر جريدة «الطائف» لسان النواب المعبر عن أفكارهم، فاعترفت الإدارة بذلك، ونشر هذا رسميًا بأمر نظارة الداخلية، ولكن لما رأت إدارة المطبوعات عنفه وتهييجه عطلته شهرًا. أصبح «الطائف» في الثورة العرابية لسان الدعاية لها، يقدم من عاداها، ويشجع من والاها، ويلقب «عرابي» بحامي حمى الديار المصرية، ويتطور بتطورها فينقد الأوروبين وتصرفاتهم، وينقد الخديوي توفيق لارتمائه في أحضانهم، وفي أسلوب لاذع وتهكم ساخر، فإذا كانت الحرب نقل جريدة «الطائف» إلى المعسكر يحرض الجنود على القتال، ويحرض الشعب على تقديم المئونة، وينشر خبر التبرعات وكلما اشتد الأمر واشتد في تهييجه؛ وقد قلت صفحاتها لاشتداد الظروف: من أربع إلى اثنتين إلى واحدة، وهو يهرج في أخبار الحرب، فيقلب أخبار هزيمة المصريين إلى أخبار انتصار، وانتصار الإنجليز إلى أخبار هزيمة، وظل كذلك حتى تمت الهزيمة، وتم التسليم. هذا عمله في الصحافة، وإلى جانب ذلك كان عمله في الخطابة. فقد طاف في كل مجتمع يخطب، وأعطى من ذلاقة اللسان ما يستدعي العجب، فما هو إلا أن يحرك لسانه حتى يتدفق وتنهال عليه المعاني والألفاظ انهيالًا، وقد نشر في البلاد فن الخطابة، وعلم كثيرًا من الناشئة أن يخطبوا في المحافل؛ وأعطى لهم المثل بمقدرته وكفايته، وبدأ ذلك أيام كان يعلم الإنشاء والأدب، في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية. فلما أعلن الدستور في أول عهد توفيق (٧ فبراير سنة ١٨٨٢)، سرت في النفوس هزة فرح لا تقدر، وأمل الناس أن الحكم النيابي سيصلح كل مفاسد الماضي، ويرسم كل وسائل السعادة للحاضر والمستقبل — واشتاق الناس أن يسمعوا الكلام الكثير في هذا الموضوع، فكان عبد الله نديم وصحبه وتلاميذه الذين يغنون للناس بآمالهم، فأقيمت الحفلة تلو الحفلة إليها النديم وفرقته ليخطبوا والنديم هو قطب الرحى. يخطب أولًا، وكلما خطب خطيب وتناول موضوعًا قام النديم بعده يعقب عليه، ويتخذ من كلامه موضوعًا يطنب فيه، وفي هذه الحفلات يحضر النظار وكبار الضباط والعلماء والنواب والأعيان، فتطرب نفوسهم لهذا طربهم من عبده الحمولي ومحمد عثمان. هذه حفلة تقيمها جمعية المقاصد يفتتحها «النديم» بقصيدة، ثم يشكر الجمعية على احتفالها بالدستور، ويتلوه إبراهيم اللقاني فيبين الفرق بين عهد الاستبداد وعهد الشورى، فيعقبه النديم يكمل موضوع الفروق بين العهدين؛ ثم يقوم الشاب مصطفى ماهر — باشا فيما بعد — فيتكلم في الحث على الاجتهاد في العلوم والفنون، ويستحث الأغنياء على إنشاء بنك أهلي يحمي الأهالي من استغلال المرابين، ويختم ذلك بالدعوة إلى الألفة والاتحاد، فيقوم بعده النديم يتكلم في هذا الموضوع، ثم يقوم الشيخ محمد عبده فيبين مزايا الحكومة النيابية، ويطالب بوجوب أن يكون النواب من المتعلمين، ويحث على تعميم التعليم، وعلى احترام حرية القول والكتابة، وسن القوانين المبينة لحقوق الأفراد وواجباتهم، ويقوم «النديم» بعده معقبًا على قوله، ثم يقوم أديب إسحاق فيتكلم في شعور النواب وتضامنهم مع النظار في كل ما يجلب الخير للبلاد، ويتلوه النديم؛ ثم يقوم فتح الله أفندي صبري (فتحي باشا زغلول) فيخطب في الحث على الاتحاد والثبات، وينتهي هذا الاجتماع. وتتكرر أمثال هذه الاجتماعات، ويقال فيها مثل هذه الخطب، ويقوم بالدعوة إليها كبراء البلد، وكلها على غرار الحفلات السابقة، عمادها عبد الله نديم وإن اختلفت بعض الموضوعات، كدعوة إبراهيم اللقائي إلى التمسك بأسباب القوة والاتحاد، والحث على مجانبة الخوف والجبن، وخطبة فتحي زغلول في الأخذ بالمبادئ التي تمدن البلاد، والدعوة إلى إنشاء جمعية تفتح مدارس ليلية يتعلم فيها من لم يسمح له عمله بالتعلم. ويدعى عبد الله نديم إلى حفلة في الإسكندرية على هذا الطراز، وكل هذه الحفلات توصف في جريدة الوقائع المصرية، ويذكر فيها خلاصة ما دار فيها من خطب، فتنشر في البلاد. فلما عطل الدستور؛ وتطورت الأمور، وكانت الثورة العرابية، تحولت خطب عبد الله نديم إلى موضوع الثورة، وكان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته، والجيش وجنوده، وفي حفلات «الأفراح»، فما يكون مجتمع لغرض من الأغراض إلا ويطلع عليهم عبد الله نديم، وجماعة من ناشئته يعتلون المكان العالي ويخطبون في موضوعات الثورة، حتى كان إذا سئل محمد عثمان «المغني»: أين تغني الليلة؟ يقول: «في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم». وهو في هذا الموقف لا يتحرج من التهريج، فيقول مثلًا في بعض خطبه: إن طوابي الإسكندرية إذا أطلقت مدافعها يبلغ مرماها جزيرة قبرص من هذا الجانب، ومدافع الآستانة إذا أطلقت تبلغ هذه الجزيرة من الجانب الآخر. فكيفما جالت الأساطيل الإنجليزية فهي تحت رحمة مدافعنا، فيصفق الناس؛ ويخطب «فتحي زغلول» فيقول النديم: ألا تعجبون لما أبدى هذا التلميذ في خطبه من العلم والبيان والتفنن في المواضيع، مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعًا واحدًا؟! ويخطب مصطفى ماهر فيقول النديم: أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد في أمرها. على كل حال كان عبد الله نديم لسان الأمة في عهده بخطبه، وقلمها بصحفه، ينتقل في الأقاليم ولا يكل ولا يمل، وينشر آراءه ومشاعره في أكبر عدد ممكن من الأمة؛ وبذلك كله ساعد نمو رأي عام مصري يؤمن بالحكم الشورى، ويتطلع إلى الإصلاح في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإن كان السيد جمال الدين رسول الخاصة في هذه المعاني، فعبد الله نديم كان رسول العامة، قطر المعاني التي تدعو إليها جمال الدين إلى الشعب، وأوصلها إلى التاجر في متجره، والفلاح في كوخه، والتلميذ في مدرسته؛ كان السيد جمال الدين بحكم أرستقراطيته في نشأته وثقافته والبيئة التي تحيط به، ولغته في كلامه وكتابته، معلم الخاصة، وكان عبد الله نديم بحكم ديمقراطيته في النشأة والعلم والبيئة واللغة معلم العامة. لسنا الآن بصدد الحكم على الثورة العرابية وما نفعت وما أضرت والمسئولين عنها، والمآخذ عليها، وإنما كل ما يعنينا الآن أن نقول: إنه إذا تبخرت أقواله التي دعت إليها فورة الثورة، وتبخرت أنواع تهريجه وتهويشه، بقى لنا جانب كبير من جوانب نفع عبد الله نديم في هذه الحركة، وهو إيقاظ الشعور في الشعب بحقه في الشكوى من الظلم، والمطالبة بالعدل، وإفهامه أن الحاكم يجب أن يكون مسئولًا أمامه، وأن هناك نوعًا جديدًا من الحكم غير الذي ألفه: من رجوع الأمور كلها إلى إرادة الحاكم يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وهذا النوع الجديد هو حكم البلاد نفسها بنفسها ممثلًا في نوابها، وأن مصر للمصريين لا للدولة العليا، ولا لأية دولة أجنبية؛ وهذه معان قد كانت عند خاصة الخاصة، فنشرتها الثورة وعبدالله نديم في العامة. ولئن أخفقت الثورة فيقظة الرأي العام — إلى حد ما — وشعوره بنفسه، وتنهيه لحالته الاجتماعية والسياسية لم يخلق، ويتجلى ذلك على الأخص إذا قورن بينه وبين حالته من قبل. لقد أعيت الحكومة أمره، فأصدرت عليه حكمًا غيابيًا بالنفي المؤبد من القطر المصري. ها هو ذا أول مرة يذهب إلى «بولاق» ويستخفي عند صديق له وفي أيامًا حتى يخف عنه الطلب، فيخرج وقد لبس «زعبوطًا» أحمر، واعتم بعمامة حمراء وربط عينيه بمنديل، وأطال لحيته، وأمسك عكازًا طويلًا، وتصنع أنه من مشايخ الطرق، ونزل في سفينة مع خادمه إلى بنها، فلم يفطن له أحد. وجزع خادمه وكان أميًا، وأراد أن يرجع إلى أهله، فأيقن «النديم» أنه إذا عاد انكشف أمره، فأخذ يقرأ الجريدة يومًا، ثم تصنع إلى الفزع وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فسأله الخادم عما أفزعه، فقال «النديم»: إن الحكومة قد جعلت لمن يرشد عني ألف جنيه، ولمن يأتيها برأسه خمسة آلاف؛ فخاف الخادم، وأخذ يبالغ في التنكر أكثر من سيده، واستراح من هذا الباب، وظل معه طول مدة الاستخفاء. وقال هو عن نفسه في هذه الفترة: «خرجت من مصر مستخفيًا فدرت في البلاد متنكرًا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي أدعيها، من قولي إني مغربي أو يمني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي، وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوى أيضًا، فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر عند دعوى السياحة — مثلًا — وأبيضها في بلد، وأحمرها في قرية، وأسودها في عزبة». فأحيانًا كان اسمه الشيخ يوسف المدني، وأحيانًا الشيخ محمد الفيومي، وأحيانًا سي الحاج عليّ المغربي، وهكذا، وأحيانًا كان يجتمع بمن يعرفهم فيثير عجبهم، لأن المقدرة مقدرة «النديم»، ولكن يختلف في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: سبحان الله جل من لا شبيه له. وكان من مهارته في استخفائه أنه رأى جد الحكومة في طلبه، فاستعان برجل من الفرنسيين يعرفه ويثق به، فأشاع عنه أن النديم هرب إلى «ليفورنو» في إيطاليا، ونقلت هذا الخبر جريدة «الأهرام» وصدق الناس ذلك، وعنفت الحكومة رجال الضبط على إهمالهم حتى تمكن من الخروج، فخف عنه الطلب، ولم يكن كل ذلك إلا خدعة. وكتب صاحب جريدة «المحروسة» مرة بعد استخفائه بسنتين: إنه «قد تعددت الأقوال في مقر عبد الله النديم، فمن قائل إنه التجأ إلى البلاد الإيطالية، ومن قائل إنه فر إلى طرابلس الغرب، ومن زاعم أنه أتى السودان واتصل بالمهدي وصار له نديمًا، وقال قوم إنه سارع في السفر إلى «سيلان» للاجتماع بعرابي، والحقيقة فيما نعلم أنه أتى باريس في الأيام الأخيرة، ونشر فيها مقالة أتى فيها على ذكر الحرب العرابية، وندد بالمصريين، ونسب إليهم الضعف والجبن» إلخ. ومنها عطف بعض الناس عليه، وإيمانهم بأن المروءة تقضي عليهم — وقد تزل بساحتهم — أن يخفوا أمره إذا علموا، وأن يساعدوه على الاستخفاء مهما أغروا بالمال، كالذي كان من عمدة «العتوة» بمديرية الغربية، وهو الشيخ محمد الهمشري، فقد نزل عنده وعرفه بنفسه، فأكرم مثواه، وأقامه في داره أكثر من ثلاث سنوات في مكان منعزل له باب خاص؛ وزوجه؛ وزوج خادمه؛ فلما توفى دعت زوجته أكبر أولادها، وقالت له: هل نطمع في المكافأة أو تكون كأبيك شهمًا تحفظ الجار وتحمي اللاجئ؟ فوعدها بأن يكون كأبيه في حفظه؛ ووفى بذلك؛ حتى أحس «النديم» بوشاية واش، فخرج من عندهم حامدًا مروءتهم. وصادفه مرة مأمور مركز شركسي، والنديم في تنقله بين البلاد، فعرفه، فصرف جنده ثم اختلى به، وقال: لا ضرورة لتنكرك فقد عرفتك، وأعطاه ما معه من نقود، ورسم له خطة السير في طريقه حتى لا يضبط. وكان في أول مرة أمره شديد الحنين لأبيه وأمه وأخيه. لا يعرف ما صاروا إليه؛ شديد الشوق لمعرفة كتبه وتآليفه وأوراقه التي تركها في بيته بالإسكندرية، ثم وسط الصديق الفرنسي أن يتعرف كل ذلك ويأتيه بالأخبار؛ فعرف الفرنسي أن أسرته تشتت والناس تنكروا لهم، والأرصاد وضعت حولهم، وإن أباه يقيم عند قريبة له في الريف، وأن كتبه وتأليفه التي أنفق فيها تسعة عشر عامًا، عندما ضربت الإسكندرية وهاجر منها أهلها وضعها أبوه في ثلاثة صناديق كبار شحن بها عربة من عربات السكر الحديدية، فلما وصلت إلى كفر الزيات ازدحم على القطار المسافرون من المهاجرين ازدحامًا هائلًا، فلم يسع رجال المحطة إلا أن يرموا جميع ما بالعربة في النيل، ومنها الصناديق ال ثلاثة وفيها كل ثروته العقلية. ثم لما هدأت الأحوال وخف عنه الطلب كان يتصل بأبيه وأخيه اتصالا منظمًا. وتأتي عليه أزمات ثم تنفرج، فهذا عيد الأضحى وهو في «برية المندرة» يسكن وسط الحقول، لا يسكانه أحد إلا زوجته، ولا يجد القوت الضروري، ويأتيه خادمه الذي يسكن بعيدًا عنه يشكو له البؤس والفقر وعدم القوت في يوم العيد، فما هو إلا أن بعث له رجل من أهل البر والمروءة بما يملأ بيته قمحًا وعسلًا وسمنًا وثيابًا، كما يبعث الأطلس والحرير للبس زوجته، وشيئًا من ذلك الخادم وزوجته، وأتيح له من الفراغ ما مكنه من إكمال نفسه بالمدرسة والتأليف، فكان إذا اطمأن في قرية قرأ ما تصل إليه يده من الكتب، وكانت مكتبته في هذه الأيام مكتبة خفيفة يسهل حملها إذا دعا داعي الرحيل السريع، فكانت تفسير القرآن لأبي السعود، وقاموس الفيروز أبادي، و«الوافي» في المسألة الشرقية لأمين شميل، وجغرافية ملطبرون الذي ترجمه الشيخ رفاعة؛ وألف فيما يعن له في الدين والتاريخ. فكان هذا نعمة عليه لم يستطعها في أيامه الأولى. كتب لصديق له في هذه الفترة يقول: إن سالت عني فأنا بخير وعافية، وحالة رائقة صافية، لا أشعل فكري بما يأتي به الليل إذا كنت بالنهار، ولا أتعب ذهني بتوالي الخطوب والأكدار، ولا أتألم من طول المدة، ووقع الشدة، لاعتقادي أن لكل شدة مدة، متى انتهت جفت الأوحال، وحسنت الحال، فتراني فكري كليمي، وقلمي نديمي — تارة أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة، بما تعظم به الله المنة، وحينًا أشتغل بنظم فرائده، في صورة قصائد، ووقتًا أكتب رسائل مؤتلفة، في فنونها مختلفة، وآونة أكتب في التصوف والسلوك وسير الأخبار والملوك، وزمنًا أكتب في العادات والأخلاق، وجغرافية الآفاق، ومرة أطوف الأكوان، على سفينة تاريخ الزمان، ويومًا أشتغل بشرح أنواع البديع، في مدح الشفيع … وقد تم لي الآن عشرون مؤلفًا بين صغير وكبير، فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف جعل أيام المحنة، وسيلة للمنحة والمنة. أتراني كنت أكتب هذه العلوم، في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين وفي حجرها ثالث وعلى كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع، أشتغل بعض النهار بتحرير الجورنال، وأقضي ليلي في دراسة الأحوال، مشتغلًا بمجالس الجمعيات الخيرية ومدارسها التعليمية، وزيارة الإخوان، ومراقبة أبناء الزمان، وقد نسيت الأهل والعيلة، وربما نسيت الطعام يومًا وليلة، فكنت كآلة يحركها البخار، لا سكون لها ما دام الماء والنار. فمتى كنت أنظر للمخلفات، وأكتب هذه المؤلفات؟ وكان في رحلته برًا بخادمه «حسين» الذي غير اسمه فسماه «صالحًا»، وزوجه، وعلمه القراءة، والكتابة، وحفظه جملة سور من القرآن، وعلمه الفقه والتوحيد، واتخذه صاحبًا. لشد ما أتعب نفسه في استخفائه، وأتعب الناس معه ولكن ما أكثر ما أمتعهم أيضًا بأحاديثه وفكاهاته، ووعظه وسمره. وأخيرًا نزل «بالجميزة» فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن رجلًا اسمه حسن الفرارجي — كان جنديًا ثم استخدم جاسوسًا — عرفه فكتب إلى السراي وإلى الداخلية، فأمرت بالقبض عليه، وذهب وكيل حكمدار الغربية ومعه قوة من الجند فالتفوا حول البلدة، وأراد «النديم» الهرب بحيله القديمة فلم يستطع، فاستسلم. وكان من حسن حظه أنهم لم ينتبهوا إلى أوراقه. وكان في بعضها هجاء شديد للخديوي توفيق لو اطلعوا عليه لتغير مجرى حياته. وكان القبض عليه في صفر سنة ١٣٠٩هـ. واستخفاؤه في ذي القعدة سنة ١٢٩٩هـ. وأرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان وكيل النيابة إذا ذاك قاسم بك أمين، فأحسن معاملته، وأمر بأن ينظف مكانه في السجن، ويضاء كما يريد، وأن يمكن من شرب القهوة والدخان كما يشاء، وأمده بالمال من عنده. وكان هم التحقيق متجهًا إلى معرفة من آواه، وهل كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه؟ ولكنه أنكر كل الإنكار أن يكون أحد ممن آواه يعرف حقيقته؛ ثم صدر أمر الخديوي توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر إلى أي جهة شاء؛ فاختار يافا ونزل بها، فأكرمه أهلها، واتخذ بها دارًا جعلها منتدى للأدباء والعلماء، وطوف في فلسطين يشاهد آثارها، ويحج إلى مزاراتها، ويجتلي حسن طبيعتها. ثم مات توفيق وتولى عباس، فعفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر سنة ١٨٩٢ فعاد وفكر طويلًا فيما يفعل وأين يتجه، وتردد بين مصر والإسكندرية، وأخيرًا عين اتجاهه، وقرر أن ينشئ بالقاهرة مجلة «الأستاذ» فكان صفحة جديدة في باب جهاده. كانت الظروف التي تولى فيها الخديوي عباس ظروفًا دقيقة، شاب ناشئ في الثامنة عشرة من عمره، دعي من (فينا) حيث يتعلم ليتولى الحكم في مصر، ومصر قد انتهت ثورتها العرابية واطمأن الإنجليز إلى احتلالها، ووضعوا أسس نظامها، وتمكنوا من وضع أيديهم على كل شأن من شئونها، وعباس الشاب لقن آراء الاستقلال والشعور بالوطنية والعزم على العمل لتسترد مصر ما فقدت، وهو يعيب على جده إسرافه، ويعيب على أبيه توفيق استسلامه، وعلى رجال المعية ضعفهم، وشباب الأمة يبلغه هذا الشعور فيجاوبه، فيتوجه الخديوي لصلاة الجمعة في المسجد الحسيني فيقابله الشعب في حماسة، «ويتقدم الطلبة وغيرهم من المحتشدين بالسكة الجديدة — نحو العربة الخديوية ويقصون جيادها ويجرونها بأنفسهم»، ويغير الخديوي رجال المعية بغيرهم ممن هم أقرب إلى نفسه ومبادئه. وفي ذلك الوقت كانت فرنسا تشعر بخطئها في سياستها الماضية التي آلت إلى ضعف نفوذها في مصر، فأخذت تبحث عن طريقة لاسترداد بعض ما فقدت فرأت أن يكون من هذه السبل الالتفاف حول «عباس». وتركيا كذلك تأسف هذا الأسف، وتتجه هذا الاتجاه — وكل هؤلاء وهؤلاء يطالبون بالوفاء بوعد إنجلترا بالجلاء عند صلاح الأمور. والحكومة الإنجليزية تلوح في البرلمان الإنجليزي من طرف خفي بالنصح لعباس أن يتبع سياسة والده في مسألة الإنجليز والتحالف معهم. وأخذ الخديوي عباس يتصل بالشعب ويوسع نفوذه عن طريق الرحلات في المديريات، ومقابلة الأعيان، وزيارة المعاهد والمدارس، كما أخذ يميل إلى مباشرة الأعمال بنفسه بالاتصال بالمديرين، وتكليفه المختصين كتابة التقارير عن نظم التعليم والجيش ونحو ذلك، فبدأ شيء من الجفاء بينه وبين اللورد كرومر، وتسرب ذلك إلى الشعب. عند ذلك بدأت تظهر في البلد تيارات مختلفة، وبدأت توضع بذور الأحزاب المختلفة، وبدأت تتجلى بوضوح اتجاهات الصحف المختلفة. هذه تؤيد الحركة الوطنية وتناصر الميول الخديوية، إما عن إخلاص، وإما رغبة في الكسب، وإما خدمة للسياسة الفرنسية، وهذه تؤيد السياسة الإنجليزية، إما رغبة في الاستفادة، وإما عن عقيدة أيضًا. وظهر أثر ذلك في الجدل في المجالس والمناظرة في الصحف. في هذا الأفق المملوء بالسحب، ظهر «عبد الله نديم»، وقد سمح له الخديوي عباس بدخول مصر، فمكث قليلًا يتعرف الأحوال، ويدرس ما فاته من شئون مصر مدة غيابه، ثم صح عزمه على تحديد الغرض وإنشاء جريدة «الأستاذ» قال عنها: «إنها جريدة علمية تهذيبية فكاهية»، تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وظهر العدد الأول منها في أول صفر سنة ١٣١٠هـ-٢٣ أغسطس سنة ١٩٩٢م، يتولى هو تحريرها، ويتولى أخوه إدارتها، وقد كتب في أول عدد منها أنها لا تتعرض للسياسة العملية الإدارية؛ أما السياسة من حيث هي فن فإنها تدخل في موضوعها العلمي. كانت أول أمرها تعد امتدادًا لجريدته «التبكيت والتنكيت» من حيث موضوعها وأسلوبها، فهي تعني أكثر ما تعني بنقد العيوب الاجتماعية في المجتمع المصري، وفيها مقال أو نحو ذلك في شئون الإصلاح السياسي من وجهة عامة، ثم هي تحرر باللغة العربية الفصحى في المقالات السياسية الإصلاحية، وباللغة العامية في الموضوعات الاجتماعية. والمطلع على ما كتبه في هذا العهد يرى أنه بعد رجوعه من مخبئه قد فوجئ بموجة من الانحلال الخلقي في البلاد. فإفراط لم يكن معهودًا من قبل في شرب الخمور، وعدم اكتراث الشاربين ينقد الناقدين، وانتشار للخمارات في المدن والبلاد والقوى، وابتزاز الأروام للأموال عن طريقها — وشعور النساء بالحرية، فهن يكثرن من الخروج في الشوارع متبرجات بزينتهن، ثم الحشيش والمعاجين والإفراط فيها والاحتفاء بمجالسها. ثم استعمال كلمة الحرية وسيلة للانهماك في اللذات والشهوات؛ وأعجب من ذلك السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدًا أعمى في لي لسانه بالقول، والتشدق باستخدامه كلمات أجنبية أثناء حديثه بالعربية، ولبس الضيق المحبوك من الثياب الإفرنجية؛ فنقد كل ذلك في أسلوب قوي جريء، واتهم الأوربيين بتشجيعهم هذه الأمور حتى يسقط الشرق وتنحل أخلاقه؛ ونقد كذلك منهاج التعليم في البلاد، وخلوها من بث الروح القومية والعصبية المصرية؛ وحث أبناء البلاد على إنشاء الجمعيات الخيرية التي تسد هذا النقص، ونحو ذلك. وعجب مما رأى من أن كثيرًا من أولي الرأي في الأمة أصابتهم الدهشة والرعب من الاحتلال، فانطووا على أنفسهم، ولزموا دورهم، فإن تكلموا في الشئون العامة فمن وراء حجاب، وتركوا الناس مبلبلة أفكارهم، مضطربة نفوسهم، لا يعرفون أين يتجهون، فدعا إلى خروج ذوي الرأي من عزلتهم؛ واختلاطهم بالرأي العام في المجامع العامة، ويخطبون فيهم، ويشرحون ما حدث وما يحدث، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم. في كل ذلك كتب «عبد الله نديم» في الأعداد الأولى من «الأستاذ» — ووجد النفوس مستعدة لهذه الدعوات كأنها حائرة تنتظر الدليل، ضالة تلتمس الهادي، فانتشر «الأستاذ» انتشارًا فاق ما كان يتوقع، فقد كان يطبع منه حول ثلاثة آلاف، كأكبر جريدة يومية إذ ذاك، وأعيد طبع الأعداد الأولى منه. وقد حاول مرة أن يحرر الجريدة كلها باللغة العربية الفصحى، فأتته رسائل الاحتجاج الكثيرة تذكر له خطأه، لأن المرأة تسمع مقالاته في بيتها، والعامي يسمعها وهو في مصنعه ومتجره، والفلاح في حقله، وكلهم يستفيد من نقده، وكثير يتعظ بنصحه؛ فنزل عند رأيهم، وأعادها كما كانت عربية فصيحة في بعضها، عامية في بعضها. واستمر على هذه النغمة كذلك في الأعداد التالية؛ والمطلع على الحوادث التي كانت تجري في تلك الأيام يرى أن علو هذه النغمة كان صدى لما يحدث من أزمات؛ ففي هذه الأيام بعينها اشتد الجفاء بين الخديوي عباس واللورد كرومر، ففي ١٥ يناير سنة ١٨٩٣ أقال الخديوي مصطفى باشا فهمي منتهزًا فرصة مرضه، وعهد إلى حسين فخري باشا في تشكيل الوزارة، فعارض اللورد كرومر في تعيين الوزارة من غير أخذ رأيه؛ واشتد الأخذ والرد، وأنذرت إنجلترا الخديوي إنذارًا شديدًا، وانتهت المسألة باستقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا حسبما أشار اللورد كرومر. وانتشر الخبر في الشعب، فأقبلت الوفود على الخديوي في ١٨ يناير تلقى الخطب في تأييده في موقفه، وظهر أثر ذلك واضحًا في الجرائد التي تناصر الحركة الوطنية، فكان هذا هو السبب فيما نرى من حرارة مقالات النديم في تلك الأيام وما بعدها، ومناصرته للخديوي، ومنازلته للجرائد المخالفة في قوة ووضوح. وهو — مع هذا — توسع في اقتراحات الإصلاحات الاجتماعية، فينقد علماء الأزهر في انزوائهم وعدم معرفتهم بالدنيا وما يجري فيها، ويضع برنامجًا واسعًا لإصلاح الأزهر، كما ينقد الزراعة في مصر وتأخرها، ووجوب إصلاحها على أساس علمي صحيح، وفوضى اللغة العربية، ووجوب إنشاء مجمع يحفظ كيانها ويكمل نقصها، والخرافات والأوهام، والطرق الصوفية وما يجري فيها من مخاز وعيوب.. إلخ. ثم علت نغمته طبقة أخرى، فأخذ ينقد الإنجليز صراحة في سياستهم في الهند ومصر، ويسب من يلوذ بهم ويهيج الناس على المبشرين وطرق التبشير. ويقول: إن السياسة تؤيدهم وتلعب ألاعيبها من ورائهم، فتألبت عليه الجرائد المخالفة له في مذهبه من إنجليزية وعربية وحذرت منه، وقالت إنه يعد البلاد لفتنة بين المسلمين وغيرهم، وبين المصريين بعضهم وبعض، ويحرك الضغائن بين المصريين والأجانب، ويهيئ لثورة كالثورة العرابية، ونصحت لأولي الأمر من الإنجليز أن يأخذوا حذرهم منه وإلا ساءت العاقبة، وشهرت به بعض الجرائد الإنجليزية كالتيمس، والديلي نيوز، وقالت إنه متعصب للدين، مقبع لجميع أعمال الأوربيين، وإنه ثوري مهيج، وأيدتها المقطم، ودافع عنه المؤيد والأهرام والوطن، وبعض الجرائد الفرنسية، ولم يأل هو جهد في منازلة خصومه والتشهير بهم، وإعلان عدم المبالاة بما يجري له، فقد لاقى العذاب ألوًانا في أيام استخفائه، فكل ما سيناله هين بالقياس إلى ما لقي، وأعاد نشر قصيدة له في ذلك كان قد أنشأها في مخبئه، ومنها: وأخيرًا طلب اللورد كرومر من الخديوي عباس نفيه فأطاع، ولم يستطع أن يحمي من كان يحميه، وودع «الأستاذ». قراءه في آخر عدد منه صدر في ١٣ يونيه سنة ١٨٩٣. فكان عمره أقل من عام، ولم يذكر في وداعه السبب الحقيقي الذي من أجله أغلق «الأستاذ» ونفى صاحبه، بل قال إن سبب ذلك المرض وحاجته إلى الاشتفاء، وقال في آخر وداعه: وما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظم والجلال، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلًا: وكان ينشر ملحقًا «للأستاذ» هو صفحات من كتاب ألفه وهو في المخبأ اسمه «كان ويكون» جمع فيه بعد، ولم يتم نشره، كان يريد من تدوينه عرض خلاصة أفكاره الدينية واللغوية والسياسية والأدبية والتاريخية والإنسانية، ملتزمًا فيه حرية الفكر، وعدم التعصب لدين أو جنس، ذاكرًا فيه ما شاهده في مصر من أحداث، مبينًا ما وراءها من علل. ووضعه على نمط قصصي، إذ كان له صديق فرنسي أتى من باريس قبل الثورة العرابية، وتعلم العربية والتركية، وأقامه في مصر متتبعًا حوادثها، وعرف عبد الله نديم في الإسكندرية سنة ١٢٩٢ هجرية، وتوثقت بينهما الصلة، وكانت له ضيعة قريبة من البلدة التي اختبأ فيها «النديم» فاتصل به في مخبئه، وكان الفرنسي يزوره ويخدمه في قضاء أغراضه؛ وكثيرًا ما يدور الحديث بينهما في الدين والسياسة فبنى كتابه «كان ويكون» على هذا، ودون فيه ما كان يدور بينهما من حديث وجدل، وأكثر ما نشر كان في أصول الأديان، وتاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام، يتخلل ذلك بعض أخبار عن أحواله في مخبئه، وبعض نظرات سياسية. ومما يؤسف له أن إقفال جريدة «الأستاذ» حال بينه وبين نشر القسم السياسي والتاريخ المصري من الكتاب، وما نشر منه يدل على نظر عميق واطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الخير لمصر والشرقيين. خرج «النديم» إلى يافا؛ حيث كان قبل العفو عنه، ورتبت له الحكومة المصرية خمسة وعشرين جنيها شهريًا يعيش بها، على شرط ألا يكتب شيئًا في الجرائد يتصل بسياسة مصر. وما لبث أربعة أشهر في يافا حتى وشى به الوشاة بأنه يطعن في سياسة الدولة العليا، ويلمز السلطان، فصدر الأمر بإبعاده أيضًا. فأخذ يذرع الأرض لا يعرف أن يستقر، فلا مصر تقبله، ولا أي أرض من أراضي الدولة العثمانية تحله، ونزل الإسكندرية أياما حتى تحل مشكلته. وعجيب أن يقبل «نديم» (وظيفة) مفتش للمطبوعات وهو الذي ينال الأذى دائمًا من إدارة المطبوعات، وأن يرضى أن يتحكم في الصحف، وهو الذي كان يأبى أن يتحكم فيه أحد، وأن يكون أداة لتقييد الحرية، بعد أن كان داعية لتأييد الحرية!! ولكن يخفف من هذا أن «الوظيفة» كانت صورية محضة، وكان الغرض منها أن يمنح المكافأة في مظهر غير وضيع. ها هو ذا في الآستانة قد عطلت كل مواهبه، فلا خطابة ولا كتابة، ولا تهييج ولا تحميس، وهو في وسط يكاد يختنق منه، ولا يفرج عنه إلا مجلس السيد جمال الدين، يحادثه ويسامره، وكل يشكو إلى صاحبه قفصه. ولكن أنى لصاحب هذا اللسان أن يهدأ؟ لقد وقع الخصومة مع أبي الهدي الصيادي كما وقع فيها معه السيد جمال الدين، ولكن السيد عف اللسان في الخصومة الشخصية، أما «النديم» فويل لمن عاداه. كان أبو الهدي عجبًا من العجب، إذا أرخت الدولة العثمانية في عهد عبد الحميد احتل كثيرًا من صفحات تاريخها، وكان مستترًا وراء الصفحات الباقية، يرن اسمه في كل أنحاء المملكة من مصر وسورية والعراق وتونس والجزائر، ويتقرب إليه الولاة في حل كل عظيمة — أثبت به القدر أنه على كل شيء قدير. سوري من حلب، فقير المال والحسب، دفعته المقادير إلى الآستانة، وكان ماهرًا ذكيًا وسيم المحيا، ماضي العزيمة، قادرًا على معرفة نفوس الناس ومن أن تؤتي، فتغلب على عقل السلطان عبد الحميد بأحلامه وتفسيراته، والطرق ومشيختها، فربط نسبه بأعلى نسب، فهو قرشي هاشمي علوي، وهو في الطريقة رفاعي له الأتباع الكثيرون، لا يعبأ بالمال يأتيه على كثرته فينفقه ويستدين، لأن عز الجاه والسلطة عنده أقوى من عز المال. له أعين تأتي له بكل الأخبار، فيستغلها أمهر استغلال. لم يقف عند الدين والولاية والصوفية، بل مد نفوذه إلى الشئون السياسية والإدارية والعسكرية؛ يحلم فلا حد لحلمه، ويبطش فلا حد لبطشه سمي «مستشار الملك» و«حامي العثمانيين» و«سيد العرب»، استمال كثيرًا من الأمراء والوجهاء والأعيان والعلماء والأدباء فكانوا عونًا له على كل ما أراد؛ يبطش بهم حين يريد البطش، ويؤلف بهم الكتب حين يريد شهرة العلم، وينظم بهم القصائد حين يريد الأدب والشعر، إلى كرم وسماحة وحسن حديث. الدنيا كلها يجب أن تسخر لشخصه، وأن تخضع لأمره، الحق ما أتى من طريقه، والباطل ما أتى من طريق غيره — عدو كل سلاح، وخصيم كل حر. كم له من ضحايا في السجون، وفي أعماق البحار، وفي ذل الفقر، وفي بؤس المنفى. تتملقه الأمراء، وتهابه العظماء. هذا أبو الهدي الصيادي الذي لم يتحرز عبد الله نديم أن يخاصمه وينازله، ويطلق فيه لسانه، ووضع فيه كتابًا سماه «المسامير»، لم ينشر في حياته، وهو كتاب لا يشرف الصيادي ولا عبد الله نديم، لأنه استعمل فيه أسلوبًا وضيعًا وهجاه فيه هجاء مقذعًا. وبلغ أبا الهدي أمر هذا الكتاب المخطوط، فأبلغ السلطان عبد الحميد أن فيه أيضًا هجاء له؛ فبحث عنه طويلًا من غير جدوى، استطاع «جورج كرتشي» الذي كانت متصلًا بالسيد جمال الدين و«النديم» أن يحتفظ به ويخفيه ويفر به إلى مصر، ثم يطبعه. لم تطل حياة «النديم» في الآستانة طويلًا، فقد أصيب بالسل، واشتدت عليه العلة، فمات في العاشر من أكتوبر سنة ١٨٩٦، واحتفل بجنازته احتفالًا كبيرًا مشى فيه السيد جمال الدين — الذي لحقه إلى ربه بعد أشهر — ودفن في مدفن يحيى أفندي في «باشكطاش». وكانت أمه وأخوه قد علما بشدة مرضه، فسافرا إليه، ولكن لم يدركاه إلا ميتًا، ووجدا متاعه وأثاثه وكل شيء له قد نهب، فعادا وليس في يدهما إلا الحزن والأسى. مات في نحو الرابعة والخمسين من عمره، فلم يكن بالعمر الطويل، ولكنه عمر عريض فطالما غذى الناس بقلمه وهيجهم بأفكاره، وأضحكهم وأبكاهم، وحير رجال الشرطة. وأقلق بال رجال السياسة، ونازل خصومه من رجال الصحافة، فنال منهم أكثر مما نالوا منه، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حل، ولا على أي حال كان، حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر. مهما أخذ عليه فقد كان عظيمًا! فتح للناس في جريدتيه «التبكيت والتنكيت» و«الأستاذ» أبوابًا من الإصلاح الاجتماعي كانت مغلقة، في التعليم والزراعة، واللغة والصناعة، والأخلاق وما إلى ذلك، فسار المصلحون على أثره. وكانت الجرائد المشهورة في عهده «المقطم» و«الأهرامات» و«المؤيد» و«النيل»، وكان لها ثلاث اتجاهات: منها ما يسالم الاحتلال ويؤيده، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية ويؤيد من ورائها السياسة الفرنسية، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية والنزعة الإسلامية والارتباط بالدولة العثمانية، وكل منها يعرض وجهة نظره في شيء من الهدوء والرزانة والوقار. فلما طلع «الأستاذ» دعا إلى أن مصر للمصريين، لا لتركيا ولا للأوربيين، وناصر الحركة الوطنية والالتفاف حول الخديوي أمير البلاد، ودعا الذين غلبهم الخوف بعد الاحتلال أن يبرزوا من مكامنهم، ويمسحوا الخوف عنهم، ويتصلوا بالجمهور ليوقظوه، ودعا إلى تأليف الأحزاب حتى يكون كل جريدة حزبها، ولكل حزب برنامجه؛ ولم يسلك سبيل الهدوء كما سلكه معاصروه، بل كان حادًا عنيفًا، والحدة منه استتبعت الحدة من الجرائد الأخرى، والغضب يبعث الغضب، والصوت العالي يبعث في الرد عليه الصوت العالي، فتميزت الجرائد بعضها عن بعض في وضوح وجلاء. وكانت هذه الحدة وهذا الجدل المتتابع في المسائل العامة أكبر موقظ للرأي العام النائم، يفهمه موقفه وما يضره وما ينفعه، وأي غاية يريد منه هؤلاء وهؤلاء، ومواطن ضعفه، وكيف السبيل إلى قوته، وللنديم الفضل الكبير في ذلك. وكانت جريدة «الأستاذ» هي الأستاذ لمصطفى كامل، تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف. نعم كان في «النديم» شيء من التهريج كالذي رأيناه. وكان من تهريجه أنه كان في أول مرة يرتدي الثياب الإفرنجية، فلما ظهر بعد الاستخفاء لبس الجبة والقفطان، واعتم بعمامة خضراء، وادعى أنه شريف إدريسي ينتسب إلى الحسن بن علي، وكثير من الواقفين على الحقيقة ينكر ذلك، وربما دعاه إلى هذا شعوره بمركب النقص، من حيث نشأته الفقيرة المتواضعة، وما مرن عليه من التصنع أيام الاستخفاء، وحالة الوسط الذي عاش فيه من أنه لا يمجد إلا ذا الثراء أو ذا الحسب — ومع هذا فالعظيم يقدر بكله لا ببعضه. كانت عظمته في ذكائه وقوة لسنه. وقال فيه المرحوم أحمد باشا تيمور: «كان شهي الحديث، حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز، لقيته مرة في آخر إقامته بمصر فرأيت رجلًا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا». ثم هو شجاع لا يخاف، يلذه مواجهة العظماء ومنازلة الكبراء في غير خوف ولا وجل، إلى تواضع مع العامة ومضحكاتهم ومؤانسته وملاطفتهم، لا يعبأ بالقول ولا يخاف البطش، فإذا نزل أحد وسلط عليه لسانه كانت الكارثة، نازل الخديوي توفيق والاحتلال، وأبا الهدي الصيادي، ولكل جاهه وسلطانه الذي أذل أعناق الكثيرين، كل ذلك وهو فقير يعيش من يده إلى فمه، ما أتاه أتلفه، وما وصل إلى يده بدده، معتمدًا على ربه الذي يرزقه كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا. ضعيف الجسم كثير العلل، وربما كان ذلك هو السبب في موت أولاده جميعًا في طفولتهم، فقد رزق قبل الاستخفاء بمحمد، وعثمان، وإلياس، وفاطمة، وعائشة، وسكينة، وخديجة. كما رزق أيام الاستخفاء بحفصة وريا. وكلهم لم يعش طويلًا. ومع هذا فهو — على مرضه — دائب العمل دائم الحركة، لا يعتريه كلل ولا ملل؛ يود أن يخلد اسمه بالعمل، بعد أن حرم تخليد اسمه بالمولد. وربما كان أعظم شيء فيه ثباته على مبدئه؛ باع نفسه لأمته حسبما يعتقد الخير لها، ولم يتحول عن ذلك على كثرة من تحول في مثل مواقفه. هؤلاء زعماء الثورة العرابية حاولوا أول أمرهم ينكروا ما فعلوا، فلما لم ينفعهم إنكارهم وعوقبوا عادوا وخضعوا، وعاشوا في مسألة ومهاودة. أما هو فلم ينكر ما قال. ولقي في مخبئه الأهوال. وكان جديرًا بمن لقي ذلك كله أن يهدأ، وإذا هدأ فلا لوم عليه. ولكنه ظل يجاهد، وينفي فيجاهد، ويعفي عنه فيجاهد. ويحذر فلا يحذر، ويطمع فلا يطمع، حتى لقى مولاه رحمه الله.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/35757396/
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
أحمد أمين
يتضمن هذا الكتاب لمؤلفه المفكر الإسلامي الكبير أحمد أمين سير لعشر من أعلام المصلحين في العصر الحديث، انتقاهم المؤلف من مختلف الأقطار العربية والإسلامية، فكان منهم؛ جمال الدين الأفغاني من بلاد الأفغان، ومحمد عبده، وعلي مبارك من مصر، والسيد أمير علي والسيد أحمد خان من الهند، وغيرهم كانوا من الحجاز والشام وأقطار أخرى، وقد نشر أمين هذا الكتاب إيقاظًا للضمائر، وشحذًا للهمم، واستنهاضًا للأمم، وابتعاثًا للأمل في القلوب بعد أن أظلمها اليأس والقنوط من المستقبل؛ لذلك رأى أمين أن يكتب هذا العمل علّ الشباب بعد قراءته لسير هؤلاء المصلحين أن يحذوا حذوهم، ويسيروا على درب خطاهم، فتكون بداية نهضة وعزة لأوطان استضعفت فاستباح أهلها الكسل واعتادوا التأخر.
https://www.hindawi.org/books/35757396/4/
السيد عبد الرحمن الكواكبي (١٢٦٥–١٣٢٠هـ، ١٨٤٨–١٩٠٢م)
من بيت في «حلب» يعتز بنسبه وحسبه وعلمه وجاهه وماله، فأسرة الكواكبي كانت فيها نقابة الأشراف في حلب، ولها مدرسة تسمى المدرسة الكواكبية، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها. تعاون على تربية بيته وما في تقاليده من عزة وإباء وشمم وأنفة من الصغائر وخالة له تعهدته بعد وفاة والدته وهو صغير. وكانت من نوادر النساء في الشرق، عرفت بالأدب والكياسة وكبر العقل. فطرته التي فطر عليها ميل إلى الحق، وحب الخير والاستجابة للتربية الصالحة. تعلم كما كان يتعلم ناشئة زمانه الدينيون، لغة عربية ودين في مدرسة أسرته بحلب — «المدرسة الكواكبية» — وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يقرأ من كتب، وما يتبع من منهج، ولكنه أكمل نفسه بقراءته بعض العلوم الرياضية والطبيعية، وأحضر له والده من الفارسية والتركية، وطالع بنفسه كثيرًا من الكتب التاريخية، وعنى بدراسة قوانين الدولة العثمانية. فلما أتم دراسته انغمس في الحياة العملية، وتنوعت أعماله، وتباينت اتجاهاته، فمن محرر لجريدة رسمية، إلى رئيس كتاب المحكمة الشرعية، على قاض شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية. ثم هو بين الحين والحين يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ لنفسه جريدة في «حلب» اسمها الشهباء، أو يشتغل بالأعمال التجارية، أو يقوم بمشروعات عمرانية، ومن كل ذلك يستفيد خبرة وتجربة بالحياة. وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام، وفساد رجال الإدارة، فينازلهم وينازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينًا، وينتصرون عليه حينًا، وسلاحه دائمًا النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائمًا الدسائس واتهامه بخروجه على النظام، ودعوته للشغب، وما شاكل ذلك مما هو عادة الظالمين، وكانت البلاد التي يعيش فيها موبوءة بحكم «عبد الحميد» لا يستطيع أن يعيش فيها حر صريح، ولا ينجح فيها تاجر نزيه، ولا موظف جريء مستقيم، وهذا النوع من الحكم عدو كل كفاية، وقاتل كل نبوغ! ارتفع شأنه في بلده، فكان يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، والمشاكل لحلها، ورجال الحكومة أنفسهم يستشيرونه فيما غمض عليهم، وهو في كل ذلك جريء فيما يقول، لا يقر ظالمًا على ظلمه، ولا يسالم جائرًا لمنصبه أو جاهه. من أجل هذا غاضب «عارف باشا» والي «حلب» وأخذ يعدد سيئاته وينقم عليه تصرفاته، ويحرض الناس على رفع صوتهم معه بالشكوى منه لرؤسائه في الآستانة، فانتقم «عارف باشا» لنفسه، فزور على «الكواكبي» أوراقًا واتهمه بأنه يسعى لتسليم «حلب» لدولة أجنبية، وحبسه وطلب محاكمته، فبذل الكواكبي ورجاله جهدًا كبيرًا ليحاكم في ولاية غير ولاية «حلب»، وحوكم في بيروت، فحكم ببراءته، وظهرت خيانة الوالي ومكايده فعزل. وكان من أعداء «الكواكبي» أيضًا «أبو الهدى الصيادي» الذي سبق وصفه في ترجمة «عبد الله نديم» لأن «الكواكبي» أبى الاعتراف بصحة نسبه. ولاعتداء «أبي الهدى» على بيتهم بأخذ نقابة الأشراف لنفسه منهم، فكان «أبو الهدى» أيضًا يدس له، ويغري ولاة الأمر به. فكان من نتيجة محاكمته على التهمة التي اتهمه بها «عارف باشا»، ومن معاكسة «أبي الهدى» وأعوانه له حتى في تجاربه، إن خسر ألوف الجنيهات من ماله، فاحتمل ذلك بنفس قوية لا تجزع ولا تتحول. وأنصع صفحة في تاريخ حياته قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمس العلاج لهم؛ فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتاب المحدثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، ودرس أحوال المسلمين في المملكة العثمانية. ثم رحلته إلى كثير من بلاد المسلمين، فساح في سواحل إفريقيا الشرقية، وسواحل آسيا الغربية؛ ودخل بلاد العرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل بالهند وعرف حالها، وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية، وحالتها الزراعية، ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة؛ ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته. ولكنه عاجلته منيته. نشر نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين: اسم أحدهما «طبائع الاستبداد»، والآخر «أم القرى»: الأول في نقد الحكومات الإسلامية، والثاني أغلبه في نقد الشعوب الإسلامية. لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» من الموضوعات المحرمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتفهم الشعوب حقوقهم وواجباتهم، وتقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئتهم للمطالبة بالحقوق إذا سلبت، والقيام بالواجبات إذا أهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد، لذلك رأينا الشرق من بعد ابن خلدون أغلق هذا الباب، ولم يفتحه أي باحث بعده، وصار كتاب ابن خلدون مقدمة بلا نتيجة. والعلوم التي حوفظ عليها واستمرت دراستها هي علم النحو والصرف واللغة والفقه، لأنها لا تمس الحاكم من قريب ولا بعيد، ولا تفهم الناس أين هم من حاكمهم وأين حاكمهم منهم. والأدب مداح للملوك والحكام، يجعل ظلمهم عدلا وفسادهم صلاحًا، فإذا أعطاهم الحاكم قليلًا مما سلبه من أمتهم هللوا وكبروا، وعجبوا من كرمه الحاتمي، وسخائه الذي لا نظير له. والمؤرخون لا يؤرخون إلا شخصه في حياته وأعماله وحروبه وزوجاته وأولاده، أما الشعب فلا شيء إلا أن يكون مزرعة للحكام. وأحب علم إلى الحكام المستبدين وادعاهم لنصرته هو ما لا يتصل بالحكم ونظامه، ورجال الدين المقربون هم الذين يدعون إلى التسليم بالقضاء والقدر، ويستطيعون أن يولدوا المعاني من مثل «السلطان ظل الله في أرضه». أما علم الاجتماع وعلم السياسة والاقتصاد فلم يعرفه الشرق بعد ابن خلدون بتاتًا. كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدأوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثًا واسعًا، يتعرفون علل الجماعات وأمراضها وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبثون بالتضحيات في سبيل الحريات، ويبني لاحقهم على ما وصل إليه سابقهم. وبلغ الضيق في الشرق منتهاه في عهد السلطان عبد الحميد، ولكن شدة الضغط تولد الانفجار، والقسوة تفتق الحيلة. وتوالي الاضطهاد يولد البغضاء، فكثرت في هذا العهد الجمعيات السرية تعمل لتحرير البلاد العثمانية من الظلم، وتعمل لوضع نظام ديمقراطي لا يكون فيه السلطان الحاكم بأمره، وفر كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظم الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات، وترجم إلى العربية «أصول النواميس والشرائع» لمنتسكيو. وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق من طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا. في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغة أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية، فاستفاد مما نقل إليها، ومما كان يترجم له في هذا الباب خاصة. وقد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه «طبائع الاستبداد». أما كتابه «أم القرى» فبحث مبتكر يدل على كبر عقله، وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي. «إني نشرت في بعض أبحاثًا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منها ما درسته، ومنها ما اقتبسته، غير قاصد بها ظالمًا بعينه، ولا حكومة مخصصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار، ولا على الأقدار، ثم أضفت إليها بعض زيادات، وحولتها إلى هيئة هذا الكتاب». وقد اقتبس فيه كثير من أقوال «الفيري» ولا أعرف كيف وصلت إليه وألفيري، كاتب إيطالي عاش من سنة ١٧٤٩–١٨٠٣، من بيت نبيل وقد ساح في أوربا نحو سبع سنوات، ودرس كتب فولتير وروسو ومنتسكيرو، وتشبع بآرائهم الحرة وتعشق الحرية وكره الاستبداد أشد الكره، ووجه أدبه للتغني بالحرية ومناهضة الاستبداد، ينطق بذلك أبطال رواياته، ويبثه في كتاباته. ولكن الكواكبي هضمها وعدلها بما يناسب البيئة الشرقية والعقلية الإسلامية، وزاد عليها من تجاربه وآرائه. وكتاب «طبائع الاستبداد» يدور حول تعريف الاستبداد بأنه «صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب». ويأتي هذا من كون الحكومة مطلقة التصرف، ولا يقيدها قانون ولا إرادة أمة أو أنها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال هذه القيود والسير على ما تهوى؛ والحكومة ميالة بطبعها إلى الاستبداد، لا يصدها عنه إلا وضعها تحت المراقبة الشديدة ومحاسبتها محاسبة لا تسامح فيها، وإلا قوة الرأي العام وعظمة سلطانه. والمستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به. والمستبد عدو الحق، وعدو الحرية وقاتلها. والمستبد يود أن تكون رعيته بقرًا تحلب، وكلابًا تتذلل وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه: هل خلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم المستبد، تقول له أريد الشر، ثم هي مستعدة لأن تتبع القول بالعمل، فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويًا لم يجرؤ ظلمه. ولقد رأى «الكواكبي» أن الإسلام في جوهره الأصيل لا ينطبق عليه هذا القول، فهو مبني على قواعد الحرية السياسية متوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو مؤسس على أصول ديمقراطية (أي المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطية، أي شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد، فالقرآن مملوء بتعاليم تقضي بأمانة الاستبداد، والتمسك بالعدل، والخضوع لنظام الشورى، من مثل: «وشاورهم في الأمر، وأمرهم شورى بينهم» حتى في القصص، من مثل: «ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون». ومظهر هذا كان في أيام النبي ﷺ والخلفاء الراشدين. ثم لا يعرف الإسلام سلطة دينية، ولا اعترافًا، ولا بيع غفران، ولا منزلة خاصة لرجال الدين. ولكن دخل عليه من الفساد ما دخل على كل دين، فتفرقت كلمة المسلمين وانقسموا شيعًا، وتحول الحكم من نظام شورى إلى الاستبداد، فصغرت نفوس الناس وخفت صوتهم، وأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي به يراقب أولو الأمر في الأمة، فصار أمر المسلمين إلى ما نرى. ولم يتعرض «المؤلف» للرد على الشطر الأول، وهو ما يوحيه تصوير الله بالقوة والعظمة والسيطرة من خضوع النفوس للمستبد. وعندي أن الإسلام يجعل «لا إله إلا الله» محور الدين، تتكرر في كل آذان وفي كل مناسبة، كان كفيلا أن يذكر النفوس دائمًا بأن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تذل لأحد سواه، وأن هذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة أمام من سواه. ولكن بتوالي القرون؛ ودخول الدخيل من العقائد، أصبحت «لا إله إلا الله» عند أكثر المسلمين كلمة جوفاء لا روح فيها، تبعث الضعف ولا تبعث القوة، وتبيح أن يشرك مع الله الحاكم المستبد والرئيس المستبد، بل المال والجاه والمنصب، فكل هذه وأمثالها أصبحت آلهة مع الله، وفقد المدلول الحق للا إله إلا الله!! ولذلك يكون الحاكم المستبد وهؤلاء العلماء في صراع دائم، العلماء يحاولون الإنارة، والمستبد يحاول إطفاءها، وكلاهما يحاول كسب عامة الشعب، فالمستبد يخفيهم ليستسلموا، وهؤلاء العلماء ينيرونهم ليقولوا ويفعلوا. والحاكم المستبد يخاف رعيته كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد، لأنه يخافهم عن علم، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على أصالة الاستبداد في الأمة بترف الحكام. وإمعانهم في البذخ، وكثرة الحجاب. ومن دلائل تغلل الاستبداد في الأمة استكناه لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد. وإن قلت — كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلت على الحرية. وعلى الجملة فأخوف ما يخاف المستبد من العلم، العلم الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وقيمتها والعبودية وضررها. وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتائج القرائح التي كتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه. ثم عرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترام في قلوب الناس، وهو مطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون: أيهما أقوى، الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» من قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة، ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة عندما نقد ابن خلدون الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال إنهم يعرضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعدد والعِدد، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. فقال الكواكبي: إنهم معذورون، لأنهم يفضلون الموت كرامًا على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسر، وتحاول الانتحار تخلصًا من قيود الذل. وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت، إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة. فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة. والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذل المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع برغم عوائق السلطات. و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد ويقابل المجد التمجد، أي المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدًا صغيرًا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمة عامة للأمة أو عمل عظيم يوافق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل، أنصار للظلم، ينتخبهم المستبد الأعظم ليقوي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على المعرقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد، ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، ومن المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشارع؛ ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته، لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد؛ والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك من تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجد ولا تمجد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!! وهذا حق، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعًا من السيادة الكاذبة وتجعل أولي الأمر سلسلة تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كل يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تشعر كل شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبًا في حكم بلاده، وصوتًا مسموعًا فيما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك وأن حكومته ليست قائمة إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يومًا بجورها أسقطوها، سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان. ثم عرض للاستبداد والمال، ويعني بذلك الحكومة الاستبدادية وأثرها في الثروة أو الحالة الاقتصادية في البلاد. وهو في هذا الموضوع يرى الخير في نوع معتدل من الاشتراكية، نعم لا ينبغي أن يتساوى العالم الذي أنفق زهرة حياته في تحصيل العلم النافع، أو الصانع الماهر في صنعة مفيدة، وذلك الجاهل الخامل النائم في ظل الحائط، ولكن العدالة تقضي أن يأخذ الراقي بيد السافل والغني بيد الفقير، فيقربه من منزلته، ويقاربه في معيشته؛ وقد مال الإسلام إلى هذا النوع، ففرض الزكاة (٢٫٥٪) من رءوس الأموال تعطي للفقراء وذي الحاجة، وحرم الربا، لأنه وإن أجازه الاقتصاديون لأسباب معقولة اقتصاديًا (للقيام بالأعمال الكبيرة، ولأن الأموال المتداولة في السوق لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسمًا منها، ولأن كثيرًا من القادرين على العمل لا يجدون رءوس المال) فإن الدين ورجال الأخلاق ينظرون إليه من حيث ضرره الأخلاقي، لأنه متى انتشر قسم الناس إلى عبيد وسادة، وكان سببًا في ضياع استقلال الأمم الضعيفة. ثم الحكومات المستبدة تيسر للسفلة طرق الغنى بالسرقة والتعدي على الحقوق العامة ويكفي أحدهم أن يتصل بباب أحد المستبدين ويتقرب من أعتابه، ويتوسل إلى ذلك بالتملق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والتجسس، ليسهل له الحصول على الثروة الطائلة من دم الشعب. عرض «الكواكبي» بعد ذلك لأثر الاستبداد في فساد الأخلاق، فالاستبداد يتصرف في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الفاضلة فيضعفها أو يفسدها. فهو يفقد الإنسان عاطفة الحب، فهو لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه، وهو ضعيف الحب لأسرته لأنه ليس سعيدًا فيها، وهو لا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي عليه يوم يكون فيه عونًا على الاستبداد ومصدر شر له. الإنسان في ظل الاستبداد لا ينعم بلذة العزة والشمم والرجولة، فلا يذوق إلا اللذة البهيمية لأنه لا يعرف غيرها. والاستبداد يلعب بالأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل: فيسمي النصح فضولًا، والشهامة تجبرًا، والحمية طيشًا، والإنسانية حمقًا، والرحمة مرضًا، كما يسمي النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفًا، والنذالة دماثة وظرفًا. والاستبداد أفسد عقول المؤرخين، فسموا الجبابرة الفاتحين عظماء أجلاء، مع أنه لم يصدر عنهم إلا الإسراف في القتل والتخريب، ثم أشادوا بذكر السلف تملقًا للخلف. والاستبداد يفقد الثبات في الخلق، فقد يكون الرجل شجاعًا كريمًا، فيصبح بعوامل الاستبداد جبانًا بخيلًا، ولا أخلاق ما لم تكن ثابتة مطردة! وأقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ويعين الأشرار على فجورهم، آمنين حتى من الانتقاد والفضيحة، لأن أكثر أعمالهم تظل مستورة، لا يجرؤ الناس على قول الحق أمامهم خوف العقبى. وأقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ وما إلى ذلك، وهو عهد الاستبداد غير مقدور لغير ذوي المتعة، وقليل ما هم، ويصبح الوعظ والإرشاد ملقًا ورياء. في الحكومات التي نجت من الاستبداد أطلقت حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، ورئي أن الفوضى في ذلك خير من تحديد الحرية، لأنه متى وضعت القيود نفذ منها الحكام، وتوسعوا فيها حتى خلقوا منها سلسلة من حديد يخنقون بها الحرية. والاستبداد يفقد الناس ثقة بعضهم ببعض، ويحل الخوف محل الثقة، فيقل التعاون بين الأفراد، والتعاون حياة الأمم. والأنبياء سلكوا في تكوين الأخلاق مسلكًا خاصًا، فبدءوا بفك العقول من تعظيم غير الله، وذلك بتقوية الإيمان المفطور عليه الإنسان، ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته في أفكاره، وبذلك هدموا حصون الاستبداد. ثم أبانوا أنه مكلف بقانون الإنسانية، واتباع المبادئ التي ترقيه وترقي جنسه — وكذلك فعل السياسيون الأقدمون من الحكماء. أما الغربيون المحدثون فوضعوا الأخلاق غير مرتكزة على الدين، ولكن على ما أودع فطرة الإنسان من ضمير وحب نظام، وساعدهم على ذلك انتشار العلم عندهم والرغبة في التقدم، واستعانوا على ذلك بالوطنية. ثم عرض للاستبداد والتربية — والتربية تنمية الاستعداد جسمًا ونفسًا وعقلًا وهي قادرة أن تبلغ بالإنسان أعلى حد من الرقي لو صلحت. والحكومة العادلة تعني بتربية الأمة من وقت تكون الجنين، بل قبله، بسن قوانين للزواج الصالح، ثم بالعناية بالقابلات والأطباء، ثم بفتح بيوت اللقطاء ثم بإنشاء المكاتب والمدارس وتنظيم خططها متدرجة إلى أعلى مرتبة؛ ثم تسهيل الاجتماعات، والإشراف على المسارح، ثم تشجيع النوادي وإنشاء المكتبات، وإعلان شأن النوابغ بإقامة النصب ونحوها، ثم بتنمية المشاعر القوية بشتى أنواعها وتيسير الأعمال وغير ذلك. في الحكومة العادلة يعيش الإنسان حرًا نشيطًا يسره النجاح ولا تقبضه الخيبة، وفي الحكومة المستبدة يعيش خاملًا خامدًا، ضائع القصد حائرًا. الأسير المعذب يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وقد جنى على المسلمين علماؤهم، فأفهموهم أن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وإذا أحب الله عبدًا ابتلاه، وهكذا مما ابتدعوه. ويتغافلون عن حديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا» وحديث معناه: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها»! وكل هذه المثبطات تحول الأذهان من معرفة أسباب الشقاء إلى إلقائها على عاتق القضاء والقدر. وقد أحكموا هذه المكيدة باختراع الأحاديث التي تجعل الخضوع للحاكم المستبد دينا. وعلى الجملة فالتربية الصحيحة لا تمكن من ظل الاستبداد! ثم الاستبداد — على الإجمال — يمنع الترقي؛ والترقي الحيوي الذي يسعى إليه الإنسان هو — أولًا — الترقي في الجسم صحة وتلذذًا، ثم الترقي في الاجتماع بالعائلة والعشيرة، ثم الترقي في القوة بالعلم والمال، ثم الترقي في الملكات بالخصال والمفاخر. وهناك نوع آخر من الترقي الروحي، وهو الاعتقاد بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى يترقى إليها سلم الرحمة والإحسان — والاستبداد بالأمة عدو ذلك كله، بل هو تحول الميل الطبيعي فيها إلى طلب التعقل، حتى لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور! وعندئذ يكون الاستبداد كالعلق يمتص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها، والاستبداد يجعل الأمة منحطة في الإحساس، منحطة في الإدراك، منحطة في الأخلاق، وهو يضغط عليها فتكون كدود تحت صخرة، والمشفقون عليها يجب أن يسعوا في رفع الصخرة ولو حتى بالأظافر ذرة بعد ذرة!! وهنا ضرب مثلًا يصح أن يخطب به الخطباء في الناس ليستيقظوا، فوضع خطبة نموذجية لتنبيه المشاعر. ثم قال: إن الرقي الذي ينشده في ظل العدل هو أن يكون الشخص أمينًا على جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن المحافظة عليه، أمينًا على ملذاته الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة بإيجاد أسبابها، أمينًا على حريته فلا يعتدي عليها، أمينًا على نفوذه كأنه سلطان عزيز لا يمانع في تنفيذ مقاصده النافعة، أمينًا على ماله وشرفه؛ وما منحته الطبيعة من مزايا، فما لم تتحقق هذه فالحكومة مستبدة ليست بيئة لترقي شعبها. ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يحل محله؛ ومعرفة الغاية معرفة دقيقة واضحة؛ ومتى وضحت الغاية المرسومة يجب السعي في إقناع الناس بها واستجلاب رضاهم عنها وحملهم على النداء بها، ويجب أن ينشر ذلك في كل الطبقات حتى يصبح عقيدة، فيتلهفوا جميعًا على نيل الحرية وتحقيق المثل الذي ينشدونه: عندئذ لا يسع المستبد إلا الإجابة طوعًا أو كرهًا. وقد حدد في ثنايا كتابه، ماذا يقصد بالحكومة المستبدة، فقال: إنها تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق، كما تشمل حكومة الجميع لو منتخبًا إذا استبد، بل قد يكون هذا الحكم أضر من استبداد الفرد. ويدخل في أنواع الاستبداد أنواع الاستعمار، فالمستعمر تاجر لا يرى إلا مصلحته؛ ولا عبرة بأسماء أنواع الحكومات إنما العبرة بحقيقتها، وكل أمة فيها لون من ألوان الاستبداد، ولكنها تختلف فيه كمية وكيفية، فبعضها يمسه الاستبداد مسًا خفيفًا، وبعضها تغرق فيه من قدمها إلى مفرق رأسها. والغرب سبق إلى تقدير معنى الحرية والعدالة؛ ولكنه لا يأخذ بيد الشرق؛ بل يستغله لمصلحته، وواجب الغرب أن يرعى للشرق سابق فضله، فيأخذ بيده ليخرجه إلى أرض الحياة، ويعامله معاملة الأخ لأخيه، لا السيد لعبده ليتعاونا بعد على السير بالإنسانية. وبهذا ينتهي الكتاب؛ وهو فيه قوي مخلص مملوء غيرة وأسفًا وتلهفًا على رفع نير الاستبداد عن الشرق؛ وهو أن استمد الفكرة من العرب؛ فهو يبسطها ويعدلها ويعني بتطبيقها، وقد يؤخذ عليه عصر نفسه في دائرة النظريات. وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد وما رأى وسمع من أحداث وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدة وأعم نفعًا، ولكن يظهر أن قد منعه من ذلك أنه أراد أن يستتر فأخفى اسمه ولم يضعه على الكتاب؛ وقال في مقدمة الكتاب: إنه لم يقصد ظالمًا بعينه ولا حكومة مخصوصة، ولو أتى بالشواهد لدل على الحكومة التي قصدها، ودل بذلك على نفسه، وما كان في ذلك من ضرر، بل كان فيه كل النفع؛ ولكن الأمور تقدر بأوقاتها وظروفها، وهو فيما اكتنفه من ظروف كان في عرضه النظريات فقط شجاعًا جريئًا. أما كتابه الثاني «أم القرى» فأدل على الابتكار وأوضح في إظهار الشخصية، يقف فيه من المسلمين موقف الطبيب من المريض، يفحص داءه ويتعرف أسبابه، ويصف علاجه في أسلوب قصصي جذاب، تحدث فيه عن جمعية من المسلمين عقدت في مكة حضرها ممثل أو أكثر لكل قطر إسلامي، فعضو شامي، وعضو سكندري، ومصري ومقدسي ويمني وبصري ونجدي ومدني ومكي وتونسي وفاسي وإنجليزي ورومي وكردي وتبريزي وتتري وقازاني وتركي وأفغاني وهندي وسندي وصيني، وأسندت رياسة الجمعية للعضو المكي، والسكرتارية للسيد الفراتي — وعني به الكواكبي نفسه — واجتمعوا كلهم قبيل الحج في مكان متطرف في مكة يتداولون في حال المسلمين؛ وكان أول اجتماع لهم في ١٥ ذي القعدة سنة ١٣١٦هـ. فهل كانت هذه الجمعية حقيقة أو هي من نسيج خياله؟ يقول هو: إن لها أصلًا من الحقيقة، وإن الخيال تممها، فهل هذا صحيح، أو هو من قبيل تأييد الخيال كما يفعل كثير من الروائيين؟ أرجح الرأي الثاني. على كل حال انعقدت الجمعية — فيما يقول — ووضع الرئيس منهج البحث، وهو الكتمان، لأنه أدعى إلى إفضاء كل ما في نفسه في صراحة، وتناسى الاختلاف في المذاهب، فلا سني وشيعي، ولا شافعي وحنفي، فالكل مسلم. ثم التحرر من اليأس في الإصلاح، فهذه أمم كثيرة كالرومان واليونان واليابان، استرجعت مجدها بعد تمام ضعفها، خصوصًا وأن الظواهر كلها تدل على أن الزمان قد استدار، وبدأت تظهر أعراض الصحة على المسلمين، ومن أعظم الظواهر انعقاد مثل هذه الجمعية ووضع برنامج المؤتمر، يتلخص في بحث موضع الداء في المسلمين وأعراضه وجراثيمه ودوائه وكيفية استعماله، إلخ. قال الرئيس: إن أوضح عرض من أعراض مرض المسلمين فتورهم، وهو فتور عام شامل لجميع المسلمين في جميع أقطار الأرض، لا يسلم منه إلا أفراد شذاذ، حتى لا يكاد يوجد إقليما متجاوران، أو ناحيتان في إقليم، أو قريتان في ناحية، أو بيتان في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين، إلا والمسلمون أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا، وأقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة — مع أن المسلمين في جميع الحواضر متميزون عن غيرهم من جيرانهم في المزايا الخلقية مثل الأمانة والشجاعة والسخاء — حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان! فما هو السبب؟ وقد لفت نظره العضو الهندي إلى أنه مع تسليمه بما قال الرئيس، يود أن يستثني بعض حالات فيها المسلمون خير من جيرانهم، كبعض الوثنيين في الهند، والصابئة في العراق، فوافقه الرئيس وشكره على ملاحظته. ثم أخذوا — بعد التسليم بوجود العرض — يبحثون في الأسباب وذهبوا في ذلك كل مذهب، فالشامي رأى أن سبب الفتور يرجع إلى ما أصاب المسلمين من عقيدة جبرية، فهذه العقيدة في القضاء والقدر على هذا النحو آلت إلى الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالبة النفسية كحب المجد والرياسة، والإقدام على عظائم الأمور، فأصبح المسلم كميت قبل أن يموت. والعقيدة بهذا الشكل مثبطة معطلة لا يرضاها عقل، ولم يأت بها شرع. والمقدسي رأى السبب تحول نوع السياسة الإسلامية من ديمقراطية إلى استبدادية، فأفسدت العقول وأماتت الأخلاق. ورد التونسي بأن بعض الأمم الأوربية محكومة بحكومة استبدادية ولم يمنع ذلك من تقدمها، وإنما السبب في نظره الأمراء المترفون الذين لم يرعوا للأمة حقوقها. وقال الرومي: إن تحميل الأمراء التبعة كلها غير سديد، فما هم إلا نفر قليل من الأمة. والسبب الحقيقي في نظره فقدان المسلمين الحرية بجميع أنواعها: من حرية التعليم، وحرية الخطابة، وحرية البحث العلمي، فبفقد الحرية تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس؛ وتختل القوانين وتسأم الأمة حياتها فيستولي عليها الفتور. ورأى التبريزي أن السبب ترك المسلمين أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاسترسل الأمراء في أهوائهم وشهواتهم، وعدمت المراقبة عليهم. وقال الفاسي: إن السبب هو إهمال الناس الاهتمام بالدين، حتى لم يبقى له أثر إلا على أطراف الألسن، وأمراؤهم مثلهم لا يتراءون بالدين إلا بقصد تمكين سلطانهم على البسطاء من الأمة، هذا إلى ظلمهم وجورهم. وقد كان المسلمون أعزاء يوم توثقت بينهم الرابطة الدينية، فلما انحلت ضاعت الأخلاق ففتروا وخمدوا. وانضم الرومي إلى هذا الرأي وزاده إيضاحًا، فقال: إن داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين والجهال المتعممين، وبلغ أمرهم في البلاد العثمانية أن صارت الألقاب العلمية منحة رسمية تعطى للجهال، حتى للأميين والأطفال (كمشيخة الطرق عندنا). فقد يكون طفلًا ويمنح بالوراثة لقب «أعلم العلماء المحققين»، ثم «أفضل الفضلاء المدققين»، ثم، وثم … حتى يوصف بأنه «أعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء المتورعين، وينبوع الفضل واليقين»، وأكثرهم لا يحسنون حتى قراءة ألقابهم. وطبيعي أن هؤلاء يقابلون السلطان بالمثل، فهو صاحب العظمة والإجلال، المنزه عن النظير والمثال، مهبط الإلهامات، مصدر الكرامات، سلطان السلاطين، مالك رقاب العالمين. وأصبح التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية سلعًا تباع وتشترى، وتوهب وتورث. وتسلط هؤلاء المتعممون على المجالس والإرادات، واتخذ الأمراء من ذلك وسيلة يتعذرون بها عند الدولة الأجنبية بأن الرأي العام — وعلى رأسه المعممون لا يقبلون الإصلاح المدني. أجاب الكردي بأن هذا الداء خاص ببعض الولايات: ولكن عرض الفتور عام في الولايات الإسلامية التي فيها هذا الشأن وغيره، فلا بد أن يكون السبب شيئًا أعم من ذلك. وعندي أن السبب هو أن المسلمين أصيبوا باقتصارهم على العلوم الدينية وإهمالهم العلوم الدنيوية، كالرياضة والطبيعة والكيمياء، على حين أن هذه العلوم نمت في الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية، حتى صارت عندهم كالشمس، لا حياة لهم إلا بنورها، وأصبح المسلمون في أشد الحاجة إليها في جميع أمورهم: من تربية الطفل إلى سياسة الدولة. ومن عمل الإبرة إلى عمل المدافع والبوارج. ومن استخدام اليد إلى استخدام الأسلاك والبخار — فابتعاد المسلمين إلى الآن عن هذه العلوم النافعة الحيوية. جعلهم أحط من غيرهم من الأمم. وكلما تمادت الأيام بعدت النسبة بينهم وبين جيرانهم. أجاب الإسكندري: إن هذا يصلح سببًا، ولكن ليس كل السبب، لأن فقد العلوم لا يصلح سببًا لفقد الإحساس الشريف والأخلاق العالية، وإنما السبب نومنا ويأسنا. قال التتري: إن هذا شكاية حال لا شرح أسباب؛ إنما السبب عندي فقدان القادة والزعماء؛ فلا أمير حازم يسوق الأمة طوعا أو كرها إلى الرشاد؛ ولا زعيم مخلص تنقاد له الأمراء والناس، ولا رأي عام يجمع الناس على غرض نبيل. والأفغاني يرى أن سبب الفتور الفقر، وهو قائد كل شر، ورائد كل فساد، فمنه الجهل، ومنه الانحطاط الخلقي، ومنه تتشتت الآراء حتى في الدين، فليس ينقصنا عن الأمم الحية إلا القوة المالية؛ ولكن المال لا يأتي إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تنتشر في الأمة إلا بالمال؛ وبهذا تحدث مشكلة الدور، ويجب أن تبحث عن حلها. أجاب المسلم الإنجليزي: إن الفقر في المملكة الإسلامية ليس طبيعيًا، فهي بلاد غنية، لو نفذت تعاليم الإسلام فيها من تحصيل الزكاة والكفارات وما إلى ذلك وصرفت في وجوهها لخفت وطأة الفقر؛ وإنما سبب الفتور في نظره وفقد الاجتماعات والمفاوضات وتبادل الآراء فنسى المسلمون حكمة تشريع الجمعة والجماعات والحج، وصارت الخطب التي تلقى تافهة لا قيمة لها، وكان الغرض منها التحدث في الأحوال الطارئة. وبلغ من سوء رأيهم أنهم عدوا التحدث في الأمور العامة فضولا، والكلام فيها في المساجد لغوًا، فلما انعدم الكلام في المصالح العامة أصبح كل شخص لا يهتم إلا بنفسه، ولا اهتمام له بالصالح العام ولا بغير ذلك من الشئون، حتى لو بلغهم خبر تخريب الكعبة — لا قدر الله — ما زادوا على أن يقطبوا جبينهم لحظة وينتهي الأمر. والأمم الحية في الوقت الحاضر تهيئ الفرص للاجتماعات ومبادلة الآراء ما أمكن، بكثرة النوادي والمجتمعات، وتنظيم الرحلات والسياحات، وكثرة الخطب والمحاضرات حتى في المتنزهات، وعقد المؤتمرات للمناسبات، وتذكيرهم بتاريخهم وأهم أحداثهم، وبثهم في الأغاني والأناشيد ما يبعث على حب البلاد والحرية ويحمس للخير العام. ورأى الصيني أن السبب هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء المتملقين المنافقين، الذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لهم، ويحرفون أحكام الدين ليوفقوها على أهوائهم، فماذا يرجى من علماء دين يسترون بدينهم دنياهم، ويقبلون يد الأمير لتقبل العامة أيديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من الضعفاء، فأفضل الجهاد عند الله الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين. وعندنا في الصين رجال حكماء نبلاء لهم نوع من السيادة حتى على العلماء، وهؤلاء هم الذين يسمون في الإسلام أهل الحل والعقد وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله نبيه بمشاورتهم؛ وتاريخ المسلمين يدل على ارتباط القوة والضعف بمنزلة أهل الحل والعقد في الأمة. والخلاصة أن سبب الفتور استحكام الاستبداد في الأمراء، وانعدام أهل الحل والعقد من الأمة. وقال النجدي: إن سبب فتور المسلمين الدين الحاضر نفسه، بدليل التلازم؛ فالدين الحاضر ليس دين السلف: إن الدين الحاضر ترك إعداد القوة بالعلم والمال والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك مما بينه إخواننا. قد يقول قائل: إن كان دين دخل عليه التغيير ولم يؤثر في أهله الفتور؛ بل قال كثير من رجال الغرب إنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد فصلهم الدين عن شئون الحياة الدنيا. والجواب أن كل أمة لا بد لها من نظام ثابت تسير عليه، ويلائم نفسها وبيئتها وعلاقاتها التجارية والسياسة، والقانون الطبيعي الذي يتفق والطبيعة البشرية هو إذعان الإنسان لقوة غالبة هي الله الذي يوحي به الإلهام الفطري؛ ولهذه الفطرة علاقة عظمى بتنظيم شئون حياته، وهي أقوى وأفضل وازع — وكل الأديان راجعة إلى أصل صحيح واحد، فإذا تغير أو فسد؛ فسد الناس لاختلال هذا الوازع، قال تعالى: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا»، «والأمة كلما قربت من الأصل الصحيح والمبادئ الصحيحة قربت من الكمال». وهنا أعلن الرئيس أن البحث في أعراض الداء وأسبابه قد نضج أو كاد، فيكتفي فيه بهذا القدر، ويجب نقل البحث إلى موضوع آخر، قال: وكلمة أخينا النجدي تلهمنا الموضوع الآتي الذي نبحثه، وهو: ما هو الإسلام الصحيح؟ بعد هذا انتقل بحث المؤتمر إلى تحديد «الإسلام الصحيح» وما دخل عليه من تغيير؛ وقد أفاض في ذلك العضو النجدي، فقال: «إن الإيمان بالله أمر فطري في البشر، وحاجتهم إلى الرسل لإرشادهم إلى كيفية الإيمان، ويختلف الناس في تصور الله، والعقول البشرية مهما قويت واتسعت لا تتحمل إدراك صفات الله الأزلية المجردة عن المادة والزمان والمكان، فاحتاجت إلى من يرشدها». وأساس الإسلام جملتان: «لا إله إلا الله» و«محمد رسول الله»، وثمرة الإيمان بالأولى عتق العقول من الأسر، وثمرة الثانية الاهتداء بمحمد في تعاليمه التي تحول بين المرء ونزوعه إلى الشرك. ولكن إدراك التوحيد والاحتفاظ به عسير على النفس، فسرعان ما يخرج منه إلى الشرك. والشرك أنواع ثلاثة «شرك في الذات» وذلك في عقيدة الحلول، و«شرك في الملك» كاعتقاد الناس في بعض المخلوقات المشاركة في تدبير شئون الكون، و«شرك في الصفات» بإسباغ صفات الكمال على بعض المخلوقات. وعرض للإسلام — غير الشرك — أمران خطيران: وهما التشدد في الدين بعد ما كان يسرًا سهلًا، فكانت كل فرقة تأتي تزيد في هذا التشدد حتى صار عسرًا صعبًا، والأمر الثاني تشويش الدين بكثرة المذاهب والشيع وطرق التصوف. وقد لاحظ الرئيس أن عضوين من الأعضاء لم يتحدثا، فرغب أن يسمع صوتهما، وهم العضو السندي والعضو القازاني، فأما السندي فقد تكلم في التصوف والذي دعا إليه، وما فيه من حق وما فيه من باطل، وأما القازاني فقص عليهم قصة جرت بين مسيحي روسي أسلم ومفتي قازان، تدور حول دعوة المفتي إلى تقليد السلف والاقتصار على ما قالوا، ودعوة الروسي المسلم إلى ضرورة الاجتهاد وعدم التقليد، وحكى ما جرى بينهما من حجج وأدلة، وأخيرًا انتصر المسلم الروسي المستشرق على المفتي، فاقتنع بأن التقليد ضار حمل عليه الكسل، وأن الاجتهاد واجب، ولكن يحتاج القيام به إلى جد وعناء. ثم دعا الرئيس السيد الفراتي السكرتير، وهو «الكواكبي» لتلخيص المحاضر السابقة للمؤتمر وتعداد أسباب فتور المسلمين، وكلفه أن يزيد عليها من الأسباب ما يراه إن وجد غير ما ذكره الأعضاء، فلخص أسباب فتور المسلمين في: وقد زاد السكرتير أشياء على ما سبق، أهمها: الغفلة عن تنظيم شئون الحياة، وعدم توزيع الأعمال توزيعًا عادلًا، وعدم العناية بتعليم النساء وتهذيبهن وانتشار داء التواكل. ولم يرض المؤتمر بالاكتفاء بالبحث في الأمراض وعلاجها، بل اقترح إنشاء جمعية دائمة تعني بإصلاح المسلمين، ويشرف على تنفيذ برنامجها في الإصلاح وهذه الجمعية تؤلف من مائة عضو: عشرة عاملين، وعشرة مستشارين، وثمانين فخريين ولا عدد للأعضاء المساعدين المحتسبين، واشترط في الأعضاء العاملين شروطًا دقيقة: من العفة والأمانة والإخلاص وسعة العلم والقدرة على التأثير وإمكان التفرغ للعمل لأغراض المؤتمر، وجعل مركزها في مكة، ولها شعب في الآستانة ومصر وعدن والشام وطهران وتفليس وكابل وكلكتا وسنغافورة وتونس ومراكش وغيرها. والجمعية لا تكون تابعة لحكومة ما، ولا تتقيد بمذهب ديني خاص، ويكون شعارها: «لا نعبد إلا الله»، ويكون من أهم أغراضها تعميم التعليم بين المسلمين، والترغيب في العلوم والفنون النافعة، وإيجاد المدارس العالية يتخصص كل منها للتوسع في فرع من فروع العلم، وتوحيد أصول التعليم، ووضع مناهج للرقي بالأخلاق وتنفيذها، وإنشاء مجلة شهرية للجمعية لتأييد أغراضها إلخ إلخ. وقد اتفقوا على أن يكون مركز الجمعية المؤقت هو مصر، لتقدمها في العلم والحرية، ولأنها أسبق الأمم الإسلامية في ذلك. المسلمون في حالة فتور عام. يجب تدارك هذا الفتور. جرثومة الداء الجهل. الدواء تنوير الأفكار بالتعليم، وإيقاظ الشوق للترقي، وخصوصًا في الناشئة. تأسيس الجمعيات التي تقوم بهذا العلاج. المكلفون بذلك كل قادر على عمل، وخاصة نجباء الأمة من السراة والعلماء. هذه نظرة الطائر إلى هذه الرواية العظيمة العميقة المفيدة، وهذا تفكير «الكواكبي» من نحو نصف قرن يشف عن سعة اطلاع، وصدق إخلاص، وسمو فكر، وبعد نظر، وشجاعة وصراحة، فإذا نحن اطلعنا على ما كان يكتب قبله في المجلات والصحف في مثل هذه الموضوعات رأيناها كانت أقرب إلى موضوعات إنشائية جوفاء، فنقلها هو إلى بحوث علمية، عملية، يحلل ويذكر العرض وسبب الداء وعلاجه في صبر وأناة واستقصاء. كتاب «أم القرى» رواية جدية ليس فيها غرام وغزل، بل فيها غرام مؤلفه بالعالم الإسلامي، يعاني في سبيله ما يعاني المحب الهائم، ويود من صميم قلبه أن يصل محبوبه إلى أعلى درجات الكمال، ويضحي من أجله بماله الذي ضيعه عليه الظلمة لتمسكه بالحق، ويضحي بوطنه فيهجره لأنه لم يستطع أن يجهر برأيه في حلب فجهر به في مصر؛ ولا بأس فكل بلد إسلامي وطنه — كان يحب التخصص، وينادي بأن كل قادر يحصر نفسه في فرع من فروع العلم أو الفن حتى يتقنه، وطبق ذلك على نفسه، فلم يتوزع بين فقه ولغة، وما إلى ذلك، إنما وهب نفسه لإصلاح المسلمين، فدرس التاريخ الإسلامي في دقة وإمعان في البلاد الإسلامية سياحة فاحصة منقبة، ودرس كل قطر إسلامي ومزاياه وعيوبه، حتى إنه لما وضع روايته «أم القرى» أنطق كل عضو بعقلية قطره: وسلطة المتعممين؛ والإسكندري يشكو ضعف الأخلاق، والإنجليزي ينعي على المسلمين عدم المجتمعات وتبادل الرأي بالخطب والمحاضرات ونحو ذلك. اكتوى السيد جمال الدين الأفغاني من السياسة الأوربية ولعبها بالمسلمين، فصب عليها جام غضبه، واستغرقت حملته على السياسة الإنجليزية أكبر قسم في العروة الوثقى، واكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضع نقده. نظر الأفغاني إلى العوامل الخارجية للمسلمين فدعاهم إلى أن يناهضوها، ونظر الكواكبي إلى المسلمين فدعاهم إلى إصلاحها، فإنها إن صلحت لم تستطع السياسة الخارجية أن تلعب بهم؛ ولذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة تأثر، تخرج من فمه الأقوال نارًا حامية، ومعالجة «الكوكبي» معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء، ويكتب الدواء في أناة. الأفغاني غضوب، والكواكبي مشفق، الأفغاني داع إلى السيف، والكواكبي داع إلى المدرسة. ولعل هذا يرجع أيضًا إلى اختلاف المزاج، فالأ فغاني حاد الذكاء حاد الطبع، الكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع، إذا وضعت أمامهما عقبة تخطاها «الأفغاني» قبل، وتخطاها «الكواكبي» بعد. ولكن من خير نقطة تتخطى، فلا عجب إن كان للأفغاني دوي المدافع، وكان للكواكبي خرير الماء يعمل في بطء حتى يفتت الصخر!. لو مكن له معرفة لغة أجنبية ووقف على ما وصلت إليه بحوث علم الاجتماع الحديث لكان له منبع فياض إلى جانب غزارة فكره. وبينما الناس يعجبون بما ينشر من مقالات إصلاحية في المجلات والجرائد، ومجالس الفضلاء في مصر عامرة بحديثه وجدله ودفاعه المؤدب عن آرائه، إذا بالصحف المصرية تطلع بنبأ موته الفجائي يوم ٦ من ربيع الأول سنة ١٣٢٠، فأسف عليه كل من كان محبًا لإصلاح المسلمين، وبكاه إخوانه الذين كانوا يرون فيه رجلًا نبيل الخلق، سامي المقصد، عفي اللسان، نقي الضمير. فرحمه الله!
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/1/
نزهة على شاطئ البحر
كانت «لادياس» بنت الملك «بوليقراط» صاحب «ساموس» إحدى ممالك اليونان في غابر الزمان، تتمشى في طريق نزهتها على البحر تحت الأزين الأنضر، من ألفاف الشجر الأخضر، وعند رمل أزهر، كأنه دينار واحد أصفر، والبحر فيما يلي، ينجلي ما ينجلي، وللريح نقر في صفحات الماء، كنقر الغزال في الحصباء، وقد قابل الأصيل مرآتَي البحر والفضاء، فسالتا بنضاره الموهوم وسالت العوالم والأشياء. وكانت لادياس فتنة الناس، بالبدر الطالع في الغصن المياس، لا من طينة البشر، ولا من أديم الشمس والقمر، ولكنْ صورة آية في الصور، فوق مبلغ الخواطر ومنال الفِكَر، وكانت لابسة حلة بيضاء، هي فيها حرير تحت حرير وضياء في ضياء، وعليها من عاطر الورق وبديع الزهر، في الرأس وفوق النحر، ومكان المنطقة من الخصر، ما يتجمع منه باقة زاهرة، لادياس فيها الزهرة النادرة، وقد اتحدت بهذه الحلة الباهرة، حتى تشابه المجموع وتشاكل الأمر، فكأنما زهر ولا لادياس، وكأنما لادياس ولا زهر. وكان يساير الأميرة في نزهتها القصيرة، أتراب لها كريمات عليها، وقرينات من أحب الناس إليها، رُبِّينَ معها في الصغر، ودُمْنَ على لزامها في الكبر، فكانت تحادثهن لاهية ناعمة، وهي تقول: ماذا تقلن يا صاحبات لادياس في شروط القِران؟ فسألتها إحداهن بسرعة: قران مَن يا مولاتي؟ فأجابت الأميرة مازحة: قراني لا قرانك يا فاجرة. – وأي شروط يا مولاتي إلا أن يخطبك حبيبك، ويحبك خطيبك. – صدقتِ، لكن هذا يجوز على بعض بنات الناس، ولا يجوز على بنت الملك، إني أراكِ تجهلين الأمر، ولا تدرين ما يجري من الأحوال في القصر، فاعلمي أنه لا يكون من زواجي إلا ما أرضى أنا ويأذن الملك وتصادق المملكة بعد ذلك عليه، فأنا أقترح أن يكون المتعرض لخطبتي، الراغب في صحبتي، فتًى بين العشرين إلى الثلاثين، فائق النظراء والأمثال في الشجاعة والحكمة والجمال، والملك يشترط أن يكون صهرُه ملكًا، سواءٌ نالَ المُلك بكدِّه وجدِّه، أو توارثه عن أبيه بعد جده، والمملكة تريد أن يرفع بعلي لآلهة اليونان أربعين هيكلًا مشيدة البنيان، في البلاد التي له فيها المُلك والسلطان. فلعب هذا الجواب برأس الفتاة، وساء موقعًا عند سائر البنات، فصِحْنَ جمعاء قائلات: حقًا، إن هذه لهي الثلاثة المستحيلات، فإن صح ما تقول الأميرة فلا هي متزوجة ولا نحن متزوجات. فقالت لادياس وقد أضحكها غضب أترابها: وهل تكرهن أن تأخذن من حالاتي بنصيب، فإن تزوجتُ تزوجتن، وإلا عشتن أبكارًا ما عشتن. فسألتها فتاة: وكيف الطريقة يا مولاتي في معرفة من يفوق النظراء والأمثال، في الشجاعة والحكمة والجمال، أترجعون في ذلك إلى امتحان، أم عندكم أن الشهرة تغني الإنسان؟ – بل إلى الامتحان؛ حيث يكرم المرء أو يهان، فأما الشجاعة والحكمة فينظر الملك فيهما، ويختار لي من يستوفيهما، وأما الجمال فيعرض على عيني وقلبي، فلا يختاران منه إلا ما يصبي. قالت: سبحان المنعم وجلَّت أيادي السماء! فلو لم تكن مولاتي أسعد النساء وأنعم بنات حواء، لما أتيح لها أن تتزوج من الرجال من تشاء، بل عندي أن جميع ما سبق من إحسان السعادة إليك في كفة من ميزان، وهذه المنة بمفردها في الكفة ذات الرجحان، ولكن هل اقتصرتم يا مولاتي على شبان أبناء الديار، أو بلغتم ذلك إلى غيرهم من بني الممالك والأمصار؟ قالت: بل إن الملك بعث منشورًا بذلك إلى أمراء الجوار، وإلى فرعون وكسرى وصاحب الهند، ملوك الوقت الثلاثة الكبار، وعما قريب تتوافد المراكب، حاملة الملوك والأمراء من الأجانب، مقلَّة الشجعان متقاطرين من كل جانب، وحينئذٍ ينظر فيمن يليق، ولا يفوز بي إلا الجدير الخليق. قالت فتاة: إن جماعة القصر يا مولاتي يتساءلون عن نبأ عظيم، وأمر يقع الآن جسيم، إلا أنهم يذهبون في التكتم على خط مستقيم، كأنما يتجاهلون أو كأنْ ليس منهم رجل عليم. قالت: وعم يتساءلون؟ – عن أمر أولئك القوم، الذين يقبض عليهم في كل يوم، ويزجون في السجن؛ سجن القصر، حتى كأن هناك عصيانًا يتلافى الملك وقوعه، أو حزبًا خفيًّا هو يحل نظامه ويفكك مجموعه. قالت: لا عصيان ولا حزب مع ملك حكيم عادل مثل أبي، ولكن ربما كان للملك في ذلك مراد، لم يُطْلع عليه أحدًا من العباد. – حسبت يا مولاتي أن للأمر علاقة بالأمير ابن عمك. فأجابتها لادياس مغضبة محتدة: لا تقولي الأمير، وقولي الشقي النذل الحقير، وماذا بقي من أمر هذا الخائن الغدار، مما يشغل بال الملك من جهته أو يهمه إلى هذا المقدار، فهو قد كفاني شره حتى لأنا أتمثله من مكاني هذا سوقة ضائعًا في مدينة من مدن اليونان، يمد يد السؤال إلى كل إنسان. وما زال حديث الزواج يسرق البنات، خطواتهن والأوقات، حتى نبههن هجومُ المساء، واشتمال الوجود بحلته السوداء، حدادًا على الشمس الغريقة في الماء، وعندئذٍ ارتجلت الأميرة حركة إلى الوراء كالراغبة في الانثناء، فعارضتها الفتاة قائلة: إن وقت الرواح لم يجئ بعد يا مولاتي ونحن قد صرنا من حدبة البحر؛ بحيث تراها أعيننا وهي الغابة العجيبة الشأن، التي لم نرها إلى الآن، فماذا علينا لو مددنا لأرجلنا الخطى، فجئناها فتمتعنا منها بنظرة، ثم نعطي الرجوع من السرعة ما تأخذ منا زيارتها من الوقت؟ فصادفت هذه الدعوة أسرع ملبٍّ من طيش البنات، فما زلن بالأميرة يؤيدْنَ عندها هذا الاقتراح، ويذهبن كل مذهب من الإلحاح، حتى أذعنت فسار هذا الملأ الكريم من الملاح، وما هي إلا ساعة مسير بحساب تلك الخطى الخفيفة، وهاتيك الأقدام الناعمة اللطيفة، حتى انفتحت حدبة البحر للبنات، فدخلنها بسلام آمنات، وهي غابة كثيفة متسعة، محدبة كاسْمها مرتفعة، وليس فيها ما يبعث العجب، سوى شكلها المائل إلى الحدب، وكانت من أماكن الأمان والاطمئنان، التي لا يخاف من وجودها على إنسان، فلبث الفتيات فيها برهة من الزمان، في لهو ولعب واغتباط وامتنان، فلندَعْهن وما هن فيه الآن، ولنخُض في شانٍ غير هذا الشان.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/2/
رجال الزورق
كان في ساموس جانب من الجزيرة مهجور، بعيد عما حوله من المعمور، وكانت فيه كتلة من الصخر هائلة، منحنية على البحر مائلة، وهذه الكتلة فيها غار، سحيق القرار، وكان الأهالي يسيئون به الظنون، ويخلقون في أمره ما يخلقون، ففريقٌ يزعم أنه مكامن الأشقياء، أشقياء الماء، وفريق يحسبه مبيتًا لسبع جهنمي من سباع السماء، وعلى كل حال فقد طال ما تهيبوه، وحرمتهم الأوهام أن يقربوه. ففي ذات يوم أقبل زورق فجرًا من طراز زوارق الإمارة، أو هو واحد منها وعليه كما عليها الشارة؛ فرسا هنالك متواريًا في الحجارة، ثم صدرت منه بالبوق إشارة. فأشرف إنسان من الغار ينظر، فخاطبه رجل من الزورق قائلًا: خذ ثوبك يا بيروس فالبسه كما لبسنا نحن ثيابنا، ثم إنه شد الثوب بحبل أرسل من الغار فرفعه بيروس إليه، ولم يكن إلا كلمح البصر، حتى ترك بيته وانحدر بكل سرعة وحذر، كما تنزل القردة من أعالي الشجر، فتلقاه أصحابه وفسحوا له فركب فجلس ثم حول الجميع المجاذيف إلى الطريق التي رسموا للزورق أن يسير فيها؛ فاندفع بهم ينساب، في بحر راقد العباب، مأمون المركب على الركاب، وكانوا سبعة رجالًا، عراضًا طوالًا، بهما أبطالًا كلهم قد غير شعاره، ولبس للحالة حليتها المستعارة، حتى صار رئيسهم يقول هذا من زوارق الملك وهؤلاء من البحارة. فلما جد بهم المضي مع الماء، واحتجب بهم الزورق إلا عن العين التي في السماء. قال أحدُهُم: ألا تعلمون يا إخوان، ما يجري الآن، في مياه اليونان؟ قالوا: بلى، فخبرنا أنت بالخبر، ولا تطل كعادتك، فليس ذا وقت الهذي والهذر، ولا مقام الحكايات والسير التي تصيرها مملوءة بكثرة الأمثال والعبر. قال: علمت يا إخوان، واللبيب يعلم، ومن لا يستفهم لا يفهم، أن بوليقراط ذاك الطاغية، السياسي الداهية، يعمل الآن عملًا يحتذي فيه مثال كثيرين من ملوك اليونان الغابرين، الذين خالفوا الشرف والإباء، وحالفوا لصوص الماء، فاستراحوا وأراحوا الرعية من أذى هؤلاء الأشقياء، وإنها وأيم الحق لمقدرة من بوليقراط القادر، وآية من آيات دهائه النادر، بل ما بال سائر الملوك، لا يسلكون مثل هذا السلوك، فيحتالون ليتخذوا لُصُوص البحر قوةً، مأمولة النفع بعد الضر مرجوة. قال البحارة: ما لنا يا كلكاس ولتواريخ الأولين والآخرين، وانتقاد أفعال الملوك الحاضرين منهم والغابرين، ألم ندعك لتوجز وتبين؟ قال: إذن، فخذوا الخبر، واسمعوا القول المختصر، إن بوليقراط يعمل الآن، عملًا من الحكمة بمكان، سوف يكون له شأن، ويبقى ذكرُهُ على ممر الأزمان. قالوا: وماذا تراه يعمل؟ فهذا الذي نريد أن نعرفه ولا نريد أن نعرف غيره. قال كلكاس وقد أغضبه مقاطعة أصحابه: إن كان ولا بد من الاختصار، المذهب لطلاوة الأخبار، فإني أنقل إليكم الخبر على علاته، وأدع لعقولكم السخيفة على مفصلاته، سمعت من صاحبٍ أثقُ به، ولا شك في عقله وأدبه، أن مياه اليونان، يجري فيها أُمُور الآن، لا يعلم بها إلا الملك وزعيم الأشقياء أورستان. قال البحارة: أهذا كل الخبر يا كلكاس؟ – نعم، وإنه لو تعلمون لعظيم، ولكني عهدتكم منذ صحبتكم تحتقرون الأمر الجليل، وتسخرون من كل قال وقيل، وهذا لعمري منتهى السفه. – وأية فلسفة تريد أيها المهووس أن نستنبط من روايتك التي لا تقبل الزيادة، ولا تشير إلى وقوع حادثة فوق العادة. قال وما يدريكم يا أغبى الناس، أن يكون لفعل الملك هذا مساس، بنا أو بعروس اليونان لادياس. فقال بيروس: أما بنا فلا؛ لأنني أعلم علم اليقين، أن الملك أمسك عن مطاردتي من نحو ثلاث سنين، أي بعد أن اضطرني إلى الاحتفاء، وصيرني في زعم ميت الأحياء، العاجز عن كل عداء، وأما كون الحادثة قد تكون واقعة من أجل لادياس، فهذا يكذبه كتاب عنها، حديث العهد بخط أقرب الناس إليها. وبينما القوم في هذا الذي نَصِفُهُم عليه يسخرون من كلكاس، وكلكاس يسخر منهم إذا بفلك أربعة، خفاقة الأشرعة، قد ملكت جهات الزورق، حتى كاد من شدة ضغطها يغرق، ثم وقفت وأطل من أحدها رجل فصاح يقول: ومَن القوم، ومن أين وإلى أين؟ فوقع البحارة من أمرهم في معيص، ولم يجدوا لأنفسهم من الغرق من محيص إلا كلكاس، فإنه لم يمهل الرجل ريثما يستتم، بل وثب من مكانه وقال: نحن بحارة الملك أيها الرجل، ولولا أنك تغالط عقلك لكان الزي وحده ذلك، والآن فمن أنت حتى تسيء الأدب على هذه الشارة، وتهاجم الزورق وتستبيح حصاره، كأنك لا ترجو وقارًا، لزوارق الإمارة، وحتى تقف لبحارة الملك في الطريق، وهم في الخدمة الشريفة التي لا يليق أن يعتريهم فيها تعويق؛ أليس هذا انتهاكًا لحرمة الملك وعقوقًا، وخروجًا من واجب الطاعة ومروقًا، ألا تقضي القوانين بالقتل، على مرتكب مثل هذا الفعل، فيا قوم ما أسماؤكم، وإلى من انتماؤكم، حتى نرفع ضدكم الشكوى، ونقيم عليكم — حال وصولنا — الدعوى؟ وكان أصحاب كلكاس حوله لسانًا واحدًا يدعوه ليختصر في قوله وهو لا يريد الإجابة، ولا يزيد إلا إهذارًا في الخطابة، حتى قام في اعتقاد المهاجمين، أن رجال الزورق حقيقة من البحارة التابعين فحولوا عنهم المراكب للحين، ومضوا لسبيلهم تاركين كلكاس يهذي وحده كالخاطب في الناس ولا ناس، حتى أسكته أصحابُهُ فسكت ثم التفت فقال: إن مع العي لغبنا، وإن من السكوت لجبنا، أعلمتم بعد مكاني، أرأيتم كيف نفعتكم فلسفتي وأغنى عنكم بياني! قالوا: وهل جهلنا مقدرتك وإمكانك، حتى تعرفنا يا كلكاس مكانك؟ إنك لَأعظمنا إقدامًا وبسالة، وأفصحنا منطقًا ومقالة، وأصلحنا لبوسًا لكل حالة، أليس هذا الزي نفع من مواليد رأيك المتبع، وتدبير فكرك الذي يسع من الحيل ما يسع؟ ثم إن الزورق استمر سائرًا دائبًا على بغيته، رائدًا حتى ذهب معظم النهار، وتحفزت الشمس لتحتجب عن الأبصار، فالتفت بيروس عندئذٍ إلى أصحابه، وقال: لم يبق يا إخوان إلا أن ننحدر جهة الشاطئ فنسير بحيث نحاذيه. قالوا: أَوَتدري أننا دنونا بعد؟ قال: نعم؟ قالوا: إذن، فإنا فاعلون! ثم وجهوا السواعد بالمجاذيف جهة البر وظلوا يتقدمون، وبيروس يرشدهم أين يتوجهون، وقد غلب الغرام الفتى على أمره، وحل الإلمام عقدة صبره، فأجرى من الدمع ما لم يزد أصحابه علمًا بسره، واندفع ينشد من أعماق صدره: حتى إذا تكامل للشمس الغروب وآن للنهار أن ينتحي والليل أن ينوب، دخل الزورق في ظل أشجار، متكاثفة هنالك مرتفعة كبار، فتقصَّى بيروس النظر، فوجد البقعة صالحةً للمستقر، فأعلم أصحابه أنهم قد وصلوا، وأشار لهم أن يلقوا المراسي ففعلوا. ثم نزلوا فتوارى الكل واستتر، بين الحجر والشجر، يتربصون للموعد المنتظر، فلندعهم وشأنهم الآن يتربصون على ذلك المكان، إلى أن نعود فنذكر من أمرهم ما كان.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/3/
لصوص الماء
لم يكن يمضي يوم على الملك بوليقراط بدون أن يفد عليه أورستان زعيم أشقياء اليونان، أو مَن ينيبه عنه من أعوانه الشجعان، فيلبث في حضرته برهة من الزمان، ثم يأمر الملك من يذهب معه إلى حيث يريد، فلا يأتي الليل إلا ويعود الرسول، ومعه أسير مكبل بالحديد، فتصدر الإشارة بإضافته إلى ما في السجن من عديد. وظل الأمر كذلك تسعة وثلاثين يومًا، بغير انقطاع وقع فيها مخالب أولئك السباع، تسعة وثلاثون أسيرًا من بني الأمصار والأصقاع، ليس فيهم إلا ملك مطاع، أو أمير له الأمراء أتباع، أو بطل شجاع، شاع ذكرُهُ وذاع، وملأ الأسماع، ثم مرت سبعةُ أيام بدون أن يقبض على أحد أو يزاد السجن على ذلك العدد، وفي اليوم الثامن حضر أورستان يضرب الأرض برجليه كأنه شيطان وعيناه جمرتان، من الغضب مُتَّقِدَتان، فدخل على الملك فحياه، ثم قال: لقد كدت أيها البطل الشجاع، الذي لا من البشر ولا من السباع، لولا أن نفسه العالية الأبية، فضلت ورود المنية، فآثر الثواء بقرار البحر، على الوقوع في هوان الأسر. قال: ومن ذاك يا أورستان وما حديثه؟ قال: يا مولاي، فتًى مِن مصر رفيع الرتبة في الضباط، تدلُّ زخارف حلته على أنه من حرس البلاط، وكان على ذات شراع، ومعه ثلاثة من الأتباع، فدعوناه كعادتنا للاستسلام، فأبت نفس عصام، فزدناه حصارًا، فزاد تأبيًا واستكبارًا، حتى بلغ من حيرتي ويأسي، أن مارسته بنفسي، فظهرت بسالة الفتى على قوتي وبأسي، حتى لو لم ينجدني رجالي لصير البحر رمسي، إلى أن خانه على مراسنا الجلد. وكان أن أذعنت البسالة للعدد، فصرخ الفتى صرخةً تذيب الأسد، قام لها البحر وقعد، وسمعته يقول: مكانك يا حماس، إن الجندي المصري لا يعرف التسليم للملوك، فكيف يسلم للص صعلوك، ثم لم أبصر يا مولاي إلا بالسفينة تحترق، ثم إذا بها قد غرقت وإذا بالفتى قد غرق، فشق على أن يموت وأن يفوت ساحة الوغى من عناقه ما يفوت، لكونه إنما خلق لها لا لبطن الحوت، فقفيته برجالي يغوصون عليه القرار، وينشدونه بين العبب والتيار، وما زلنا نفعل حتى مغيب النهار، فلما لم يجد الالتماس، ونفضنا أيدي اليأس، رجعنا نبكي فقده، ونبكي الإقدام والثبات بعده. فقال الملك واغرورقت عيناه بالدمع: إن كانت ذاكرتي صادقةً يا أورستان، فهذا اسم شاب مصري كان لنا وله فيما مضى شان. قال أورستان: وما ذلك يا مولاي؟ كنت عرضت على فلاسفة اليونان، وحكماء سائر البلدان هذا السؤال، وهو: «لقد بلغت الزيادة قصاراها حتى أصبحت أتوقع النقصان، وطال أُنسي بهذا الحال مع الزمان، حتى خفت تحوُّل الحال ونفار الزمان، فهل مَنْ يصف لي ما يخرجني من هذا الوجل، وآمن به الدهر أن يأتي على عجل؟» فانهال عليَّ من الأجوبة، ما ظهر فساد جميعه بالتجربة، حتى كتب إليَّ فتًى من مصر بهذا الاسم يقول: «إن الحوادثَ أيها الملك لا يعرفن ليلًا ولا نهارًا، بل إنهن قد يطرقن أسحارًا، وإني لا أرى الملك ما يدرج به النفس على احتمالهن قبل ارتجالهن، إلا أن يعمد لأعز ما يجب ويكرم من الأشياء فيبيده إبادة بقول الإرادة، ويحرم منه النفس وهي صاغرة منقادة، وهكذا تفعل بين الحين والآخر حتى يصير الصبر لك عادة.» فكان هذا جواب الحكمة والصواب بإجماع أهل الخبرة، من أعظم الحكماء شهرة، وأبعد الفلاسفة صيتًا وذكرى؛ وإذ كانت الجائزة المجعولة لمن يفيد، ويجيب الجواب السديد، أن يشتهي على ما يشاء إلا الملك، فقد كتبت إلى ذلك الشاب بالتمني، ولكنه لم يجب حتى الآن، فإن كان ذاك حماس هو الذي تبالغ في وصف بسالته وإقدامه، فنعم الصهر كنا نعتز به لو عاش يا أورستان، وهل لمحته عيناك وقت الاشتباك، قال: نعم يا مولاي أبصرته فأبصرت البدر عند التمام، وألفيته جميلًا بقدر ما هو باسلٌ مقدام. قال: كذلك مصر ما زالتْ مرزوقة على ممر السنين، ميمونةً مباركًا لأهلها في البنين، وإن لأهلها لعذرًا إذا ألهو بعض الناس منهم، فقد يجتمع للمصري مِن عظيم الخصال، ويتم على يده من جلائل الأعمال، ما يضيق عنه الطوق البشري وتنوء به عزائم الرجال. قال: والآن ما رأي الملك بشأن الأسرى، هل يظل ممسكهم أو في النية فكهم؟ – بل سأفكهم وأردهم إلى بلادهم خائبين؛ لأنني لم أجد بينهم ضالتي المنشودة. – ذلك ما أرى أنا أيضًا يا مولاي، ولكن أذكر أن بين الأسرى، أحد أشقاء الملك كسرى، فماذا ترى فيه وما عندك من الترضية لأخيه؟ – ليس لكسرى أن يحتج، ولا علينا أن نَتَرَضَّاهُ؛ إذ الأمر شخصي محض، ولا دخل للرسميات في خصوص المعاملات، وما علينا إلا أن نكتب إلى الملك بتفصيل ما جرى، ونخبره أن الامتحان أسفر عن خيبة أخيه خيبةً فاضحةً، فلم يعد ممكنًا أن أركن إلى مصاهرته بعد أن ارتبطت بوعودي وعهودي أمام العصر والممالك والناس. قال: نِعْم الرأي يا مولاي. ثم إنه استأذن الملك في الانصراف، فأذن له فانصرف على أن يعود في الغد مغاديًا. وكان الليل قد أقبل يواشك، فالتمس الملك فتاته ليبلغها ما ظهر وبان من نتائج الامتحان؛ فقيل له إنها متغيبةٌ لم تعد بعدُ مِنْ نزهتها اليومية على شاطئ البحر، فأراب الملك الأمر وشغله هذا الإبطاء، فجلس إلى نافذةٍ مطلةٍ على طريق رُجُوع الأميرة وأشرف ينظر؛ وإذا الطريق تنكشف لمدى البصر خلوًا من الأقدام، لا دارج عليها إلا الظلام، فجَدَّ بالملك الارتياب، واضطرب فؤادُ الوالد أي اضطراب؛ لا سيما إذ لم يكن من عادة لادياس أن تلبث خارج القصر بعد العشاء، فدعا الملك ثلاثة من غلمانه الأمناء، وقال لهم: اذهبوا فاستعجلوا الأميرة وهي عائدة، وقولوا لها: الملك بانتظارك على المائدة، فقالوا: سمعًا وطاعة، وانطلقوا للحين، خفافًا مسرعين، فما زالوا بالطريق يُحيطون به طولًا وعرضًا، وتأخذُهُ عيونهم سماءً وأرضًا، فلم يأت البحثُ بفائدة، ولا رأوا الأميرة لا ذاهبة ولا عائدة؛ وحينئذٍ ارتأى الغلمان، أن يبقى منهم على الطريق اثنان، وأن يتقدم الثالث إلى حدبة البحر، وهي الغابة التي سلف لها في الفصل الأول ذكر، لعل التلهي في المشي قد ساق الأميرة إليها، فلوت هي وأترابها عليها؛ فاندفع الغلام يجهد في السير الأقدام، إلى أن أتى مدخل الغابة فدخل يوغل فيها، ويضرب في جوانبها، ونواحيها، ولا وجلًا ولا هيابًا، ولا حاسبًا للظلام حسابًا، حتى بدهت أذناه بصوت أنين، له في جوف الغابة خفيف رنين، فالتفت وتفزع، ثم استجمع وأنصت يسمع. فأوجس الغلام أيما إيجاس، وخشي أن تكون صاحبة الأنين هي لادياس، فاندفع حثيث السير، يهب هبوب الطير، لعله يوافيها قبل تناهي الشدة؛ فينجدها في كربها قبل فوات النجدة، وهو ينفذ على الصوت المدى، لعل أن يجد عليه هدى، حتى بلغ موضعه، كما يبلغ الصدى مرجعه، وإذا مصدر التأوهات، ومنبعث الأنات، ثلاث من الفتيات حققهن الحارس في ضوء النبراس، فعلم أنهن ممن كن مع لادياس، وأن أبدانهن الناعمات، في الحبال موثقات، وبشدة الرابط موهنات، فحل على الفور ذاك الوثاق، ومزق تلك القيود والأطواق، ثم أنهضهن فما استطعن القيام، وخاطبهن فعجزن كذلك عن الكلام، فتركهن على هذه الحال، وابتعد قليلًا؛ بحيث لا يفوته حفظهن ثم أخرج صفارة، وبادل رفيقيه الإشارة، فجاوباه فاستمر يصفر وهما يتوجهان، وجهة الصفير حتى أقبلا من أقصى الغاب يهرولان، فحين رآهما حدثهما حديث البنات، ثم دعاهما ليعيناه على حملهن حملًا، والرجوع بهن إلى القصر، لأنهم من شدة الضعف؛ بحيث لا يمكنهن الحراك ولا الكلام، فضلًا عن المشي على الأقدام، فوافق الصاحبان على ذلك، وتكفل كل واحد من الفتيان الثلاثة بواحدة من الفتيات الثلاث، ثم ساروا على هذه الصورة آيبين إلى القصر، فما قطعوا ثلث المسافة حتى التقوا في طريقهم بثلاثة آخرين من الحراس، أرسلهم الملك للبحث عن الأميرة، ومساعدين لمن سبقهم في هذه المهمة، فحين نظر رجال الوفد الثاني إلى أصحابهم وما يحملون، هالهم الأمر وسألوا عن السبب فأعلموهم بالحداثة، وأنهم اضطروا إلى العودة بالبنات إلى القصر؛ يشرحن واقعة الحال للملك، فينظر في ذلك نظر حكمة، أو يدبر لنفسه أمرًا؛ فاستصوبوا عمل رفاقهم هذا، ثم اتفق الفريقان على أن يستمر الوفد في ذهابه إلى القصر، ليرفع الخبر إلى مسامع الملك، وأنه يجد الثاني في السير لعله يقف للأميرة على أثر، أو يجيء عن أمرها بخبر، على ذلك انطلق الأول آيبًا، واندفع الثاني ذاهبًا.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/4/
أين أصبحت لادياس؟
كانت لادياس كلما أصبح الصباح طلعت على آفاق ساموس بالجلال والجمال والشمس، كلتاهما في رونق ضحاها، وعند سرير مجدها وعلاها، لكن للادياس من الشمس مصبحها وليس للشمس منها ممساها. كانت تصبح كل يوم، وإذا الملك لله ثم لها في بلاد أبيها، والأمر في القصر أمرها، وأهل القصر والملك الوالد في أولهم على قدم يخدمون إشارتها في كل مقترح. كانت عيناها الزرقاوان لا تنفتحان إلا على نعيم الملك وعز السلطان، وما بينهما من صنوف السعادات وأنواع الملاهي واللذات. فإذا لبست للإمارة حلتها، وأخذت تجاه المرآة زينتها، وافى الشعراء حضرتها، وإذا على لسان كل واحد منهم مرآة تنظر فيها الأميرة إلى محاسنها كيف كملت، وإلى آدابها كيف جملت، وإلى نسبها كيف شرف وارتفع، وإلى ملكها كيف عظم واتسع. فإذا أتم الشعراء كلمات المدح والثناء أقبل العازفون وأهل الغناء فأجزلوا لها من الطرب، وكالوا لها من كل لحن عجب. فإذا خرج هؤلاء دخل الأمراء والوزراء والكبراء والعلماء والحكماء، هذا يسجد وهذا ينحني، وهذا يقبل اليد ثم ينثني، وهذا يضحكها بنادرة يرويها وهذا يهز أعطافها بحكمة يلقيها، والكل بين المهابة فيها والإعجاب، يبالغون لعروس اليونان في الخطاب. ثم يؤتى إليها مِن أقاصي المدينة بالتحف الغالية والهدايا الثمينة؛ برهانًا إثر برهان على ولاء رعيتها الصادقة الأمينة. وبالجملة، كانت لادياس في كل صبح هي العناية في ملك، والشمس الورود في فلك، ظل للرعية وعصمة، وسلام فيهم ورحمة، تمنح إذا الدنيا منعت، وترفع إذا الأيام وضعت، ولا تستشفع إلا شفعت. إذا عرفت هذا شق عليك أن تعلم أن عروس اليونان؛ أصبحت في غد تلك الليلة النحيسة، لا تحكيها في شقائها وبؤسها وبلائها جاريةٌ في مملكة ساموس، بل في ممالك الأرض جمعاء؛ أصبحت في ظلمات تلك الصخرة الهائلة وِسَادُها الحجر بعد الخز، ورداؤها الذل بعد العز. ونكد الدنيا يتمثل لها في صورة ابن عمها وهو قائم عند رأسها يقول: انظري أين أصبحت يا لادياس. قالت: في أسر شيطانك يا باغي وما أسرت إلا الجسم، ولن تملكه حتى تصير للدود، فلا تطمع مني بحب ولا قبول، ولا ظفر بمأمول. بل اقتلني؛ فهو خير لك من طلب المحال، وأهون لي من عذابي بنحس وجهك المستمر. قال: أما أني أقتلك أو أدعك تقتلين نفسك؛ فأمر لا يكون، وأما أني لا أنال ذاك المرام، فهذا يا لادياس كلامٌ في كلام، فإن لم يكن لي أن أطمع، فإن لي أن أغصب الإرادة كما غصبت المريد. قالت: إن للفضيلة والطهارة آلهة بهم اليوم اعتصامي، فإن لم يغنوا فإن غدًا بهم انتقامي. والآن أطلب منك يا بيروس الراحة الصغرى بعد ما بخلت عليَّ بالراحة الكبرى. قال: مري يا ابنة العم. فشق على الأميرة قبول هذه القرابة، وازدادت غضبًا على غضب. فقالت: إنني أحرمك يا بيروس أن تدعوني بيا بنة العم؛ فقد أخرجك الملك من قرابته. ولا يليق ببنت الملك أن تكون أول مخالف لإرادته. قال وتبسم: ولكني أنا الملك هنا، وأنت لي كل الرعية يا لادياس، ومع ذلك فإني عبدكِ أسألكِ ماذا تأمرين. قالت: لقد بخلت عليَّ بالقتل، فلا أظنك تبخل عليَّ بتركي وحدي، لعلي أجد بعض الراحة في الوحدة. قال: ذلك إليك. وكان حب الفتى لبنت عمه يداني الجنون، وهي بالعكس تبغض ابن عمها بغض الموت، فلم يثنه ما رأى منها وما سمع عن رجاء انقيادها، والوصول يومًا إلى اجتذاب فؤادها. وهكذا كبير الغرام كبير المرام، فتركها وشأنها وما تبتغي من الخلوة؛ ظنًّا منه أن ذلك منها نفار ويزول، وصدود عنه ستحول، فنحن نتركه الآن يقضي الأيام في الأماني والأحلام. ويروم من عروس اليونان ما لا يرام.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/5/
الملك بوليقراط
لما بلغ الخبر مسامع الملك بوليقراط كادت لآجله أن تصم من الذهول وشدة الغم، وكان البنات هن اللاتي قصصن عليه قصتهن، وما لقين في حدبة البحر، وكيف وصل البحارة إلى اختطاف الأميرة وصاحبتهما هيلانه، بعد ما ردوهن جمعاء إلى العجز وفقدان الحراك بقوة الحبال، وما أعدوا لهن في السلاسل والأغلال، فلما سمع الملك ذلك أيقن أن في الأمر مكيدة، وأن فتاته إنما وقعت في مصيدة. وكان قد اجتمع بالملك على الفور، كل الرجال ذوي الشأن في القصر، فبدأ الأخذ والعطاء وحمي الحديث وكثرت الظنون، فكان أول ما ذهب إليه الملأ، أن ناصب الشرك قد يكون أحد الأجانب القادمين إلى البلاد في طلب الزواج بالأميرة، فلما لم يستطع الوصول إلى ذلك؛ سولت له نفسُهُ أن يأخذها غصبًا، ففعل. ثم تنقلوا من هذا الظن إلى غيره، فزعموا أن الكمين لا يكون إلا أحد الرجال ذوي المكانة في البحرية، بدليل أن خاطفي الأميرة هم كما أخبر البنات من جند السفن السلطانية، وأنهم يعرفون عادات الأميرة، وأوقات خروجها ودخولها، ولولا ذلك ما جاءوا في الوقت اللازم، ولا اهتدَوا إلى المكان الملائم. وفي آخر الأمر ذهب قليلٌ منهم إلى أَنَّ الفخ لم ينصبه إلا بيروس؛ بدليل أنه ولي الثارات القديمة، وصاحب العداوة المستديمة، وأن الذي أخبر به البنات ليس إلا مستعارًا، فهو حيلة انطلت على المخافر البحرية، حتى مر بيروس ورجاله في أمن وسلام. وفي هذه الأثناء حضر أورستان، وكانت الرسل قد أرسلت تباعًا في طلبه، وما هو إلا أن وصل حتى خاض في الحديث مع الخائضين، واشتغل بالمحادثة مع المشتغلين. وكان رئيس السفائن السلطانية في جُملة المتشرفين بمجلس الملك، فسأله أورستان: هل كان لكم زورقٌ يسير اليوم في الخدمة الشريفة؟ قال: لا، اللهم إلا أن يكون جلالة الملك هو المسيِّر له ولا أدري، فقال الملك: لا أذكر أني أخرجت زورقًا اليوم، ولكن ما علاقة هذا السؤال بما نحن فيه يا أورستان؟ قال: ذلك يا مولاي أن رجالي أخبروني قبيل وصول رسلك إليَّ أنهم التقوا اليوم بزورق من زوارق الإمارة، فيه ثلة من البحارة، فدنوا منه وداروا به كالعادة، ولكنهم ما لبثوا أن خلوا سبيله؛ كرامة لذكر اسم جلالتك، فقد قام منهم رجل مهذار، يبالغ لرجالنا في الوعيد والإنذار، حتى ضحكوا منه بقية النهار، فإذا كنت يا مولاي لا تذكر أنك سيرت زورقًا، والرئيس يقول إنه لم يخرج شيئًا من ذلك، فلمن ذلك الزورق إذن، وما ذلك الزي وأين ذهب أولئك البحارة؟ إن الأمر لا محالة مريب، ولكني أتكفل لجلالتك بكشف دخيلته، ولا أسألك أكثر من ثلاثة أيام، ثم آتيك بالخبر اليقين، قال: أفعل يا أورستان ولك الشكر، ولكني قد وجدت الذي ينفعني في البحر، فمن لي الآن بالساعد المساعد في البر، لأنك تعرف أحوال الجزيرة، وتعلم أن المجاهل فيها كثيرة، فما يدرينا أن تكون لادياس نقلت إلى بعض المكامن؛ حيث هي الساعة مقبورة أو أسيرة، قال ذلك واغرورقت عيناه بالدمع فأمسك عن الكلام، وأطرق أورستان يفكر في طلب الملك، ثم التفت إليه وقال: قد وجدت الذي ينفعنا في البر يا مولاي، قال ومن ذاك قال: قد وعدت يا مولاي أنك تفك الأسرى، فإذا كنت فاعلًا، فاجمعهم في مجلسك هذا، وأعلمهم بحقيقة القصد مما عوملوا به، وأنك لم تُرِدْ بهم الشر ولكن لتبلوهم أيهم أثبت جأشًا وأعظم شجاعةً وبسالة. ثم أعلمهم بما كان من اختطاف الأميرة على أثر ذلك، وأن الفرصة قد تهيأتْ للشجاع منهم أن يُظهر شجاعته، فمن وجدها منهم وردها إليك سالمة، كان بها أحق فلا يعطاها إلا هو، فوافق الملك على هذا الرأي، واستحسنه سائر أهل المجلس، فصدر الأمر عندئذٍ بإطلاق الأسرى والمجيء بهم معززين مكرمين. إن ما وصل إليكم في مياه مملكتي من الأذى، وما عانيتم بعد ذلك من السجن، لم يكن عن سوء قصد ولا ابتغاء الإضرار بكم، ولكن لنبلوكم أيكم أثبتُ في ساعة الهول جأشًا وأعظم شجاعةً وبسالة، وبالجملة لم نكن فيما عاملناكم به إلا مختبرين. والآن برغمي أن أخبركم أن الأميرة قد اختطفت، وهي كما تعلمون واحدتي التي لا أعطي الصبر عنها، فمن وجدها منكم وردها إليَّ سالمة موفورة العرض أعطيته إياها فلا يفوز بها سواه، فاخرجوا الآن إلى مباشرة العمل، اخرجوا فانظروا ماذا أنتم فاعلون. فما أتم الملك كلماته هذه حتى صار الملأ حيارى كأن بهم سحرًا أو كأنهم لا يعون، حتى إذا استفاقوا من دهشتهم، وخرجوا هائمين على الوجوه، يخيل لكُلٍّ أن لادياس بين عينيه وفي يديه، ولو كانت في السماء لصعد إليها قبل أن تنزل إليه. وكان الليل قد انتصف أو كاد فأشار الملك لأصحابه بالانصراف فانصرفوا، وانقلب هو إلى مقاصيره الخاصة؛ حيث الملكة حالها كحاله، وأوجاعها وأوجالها من جنس أوجاعه وأوجاله، فقضى الوالدان كلاهما تلك الليلة سهادًا هي حتى مطلع الفجر.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/6/
حياة ثم موت ثم بعث
علم القارئ أن (حماس) غرق في البحر على أثر التقاء مركبه بمراكب أورستان، وما وقع بينهما من الحرب العوان، وأن القوم غاصوا عليه طويلًا فلم يجدوا له أثرًا، وإذ أخذهم اليأس في أمره حولوا مراكبهم عن ذلك الموضع من البحر إلى غيره. والآن نقول إن حماس لما ألقى نفسه في البحر كان لا يزال في أجله طول، فما صار تحت الماء حتى انسحب بتيار كامن خفيف، فلبث فيه هنيهة يجاريه بصدر قوي صحيح، حتى تمكن من إخراج رأسه من الماء، وإذا به بعيد عن أورستان وجنوده؛ بحيث يرى السفن ولا يراه من في السفن فما تواني أن ذهب سبحًا في عريض الماء، يسلك طريقًا غير طريق الأعداء، وكان البحرُ هادئًا ساكنًا إلا رجة فيه خفيفة، نشأت عن تلك المعركة العنيفة، وخصوصًا عند سقوط السفينة المحترقة فيه، وكان الفتى طويلَ الباع في العوم فزاده الأمل بالنجاة، طول باع في ذلك اليوم، فما زال ينساب انسيابًا، ويذهب في ثنايا الماء ذهابًا، حتى أمسى وإذا هو بليلٍ كموج البحر، في بحر كموج الليل، وكان الفتى قد وهت قواه، وبرئ منه ساعداه، بعد أن طالما ساعفاه، فوقف وقفةَ المودع للوجود، الساجد للسماء في الماء لو قدر على السجود، ثم تراخت أعضاؤُهُ، وانحلَّت من الكلل أجزاؤُهُ، فنزل قليلًا قليلًا يهوي إلى القبر الأعظم من عالم الدأماء. ولكنه ما كاد يحتجب رأسه في الماء، حتى اصطدم كتفه بجسم صلب كادت تترضض بها عظامه، فتعلق بهذا الجسم من حيث يدري ولا يدري، فلم يشعر إلا بحياته قد انبعثت، وبجثته قد خرجت من ذلك القبر الهائل، ملآنة من روح الأمل بعد اليأس، وقوى الحياة بعد الموت، ثم لم يبصر إلا بلوحٍ عظيم كأنه بقيةٌ مِن بقايا فلك منكسر وهو يتوكأ عليه ويتخذه سندًا ليديه، فرفع إلى السماء عينًا شاكرة، إلى آلائها ناظرة. ثم تلا هذا النور نور الوجود بعد العدم، أضواء ضعيفة تبدو على بعد كأنها دنانير تهادى في الفضاء، فدب دبيب الرجاء في حماس، وفاء إلى الطمأنينة والإيناس، إذ رأى البر وأعلامه، وأيقن أنه عن قريب يجتلي وجه السلامة. فلبث مدةً يسيرة لا يُجهد أعضاءه ولا يتحرك حتى أخذ لبدنه قسطه من الراحة، وامتلأ من القوة اللازمة لاستئناف السباحة، ثم دفع اللوح أمامه، واندفع يتخذه متكأه وزمامه، وهو يُسرع في سيره تارةً ويتأنى في مشيته طورًا، ويستريح مرةً ويصل العوم أُخرى، وما زال كذلك نحو ساعتين من الزمان، حتى أشرف على البر بسلام وأمان. ولكن تلك الأضواء التي وجد عليها الهدى كانت لا تزال تلوح له قصية واهية خفاقة، بل قد رآها وهو على خطوات من البر أضعف كثيرًا مما كانت تبدو له وهو في أحشاء البحر، وقد قامت أمامه صخورٌ هائلةٌ لا نور عليها ولا سبيل مع الظلام إليها. أيها اللوح المنزل رحمة من السماء، المخرج عصمة من الماء، المسخر لإنقاذي من لدن الآلهة الكرماء، أقسم لك بأسمائهم العظيمة، وآلائهم الجسيمة، إني أحملك وأصحبك وأفي لك كما حملتني في اليم، وصحبتني في الغم، ووفيت لي فيما ألم، وأعدك وعد حر كريم، أني إذا أوتيت ملك مصر آمر بعودك فتصنع منك قوائم عرشها العظيم. وبعد ذلك مشى في ضوء القمر الطالع يرتاد مبيتًا بين كتل الصخر المتشعبة المتكاثفة هنالك، وهو لا يكاد يجمع أعضاءه من شدة النصب، فهداه حُسن الحظ إلى مكانٍ صالح بعض الشيء للمبيت، وهو مستوى من الصخر تنحني فوقه كتلة من الصخر كذلك؛ بحيث يحصل منهما للآوي وطاء وغطاء، ففرش اللوح أرضًا واضطجع فأخذه النوم للحين. فلما كان الصبح نبهته الشمس بشعاعها الأول وبشيرها إلى الوجود، فانتبه خفيف الجسم ناشط الأعضاء جاف الثياب من حر الشمس في الحجر. وكان الجوع والعطش قد أخذا من الفتى كل مأخذ، فأخذ يدبر لمعدته أمرًا، فلم ير إلا أن يخرج إلى فضاء الأرض يبتغي من فضل الله، فتأبط اللوح وهَمَّ بالنزول من مكانه العالي. ولم يكدْ يتحرك حتى نظر أمامه شيئًا أدهشه، واضطره إلى البقاء بعد ما عزم على الرحيل، وذلك أنه أبصر على البعد زورقًا يلقى المراسي، وقد نزل منه رجلٌ قصيرُ القامة كثير اللحم والشحم وله زي الصيادين، فجذب الزورق إلى الشاطئ حتى صار كأنه جزءٌ منه، ثم أخرج منه قدورًا وقربًا مملوءة، وأشياء أخرى كثيرة، وجعل ذلك كله على الأرض بعضه بجنب بعض، ثم تركه ومشى يسلك طريقًا في الصخر كثيرَ الاعوجاج، فأمهله حماس ريثما ابتعد، ثم نزل مستعجل الخطو خفيف الحركات، يرقب بإحدى عينيه الزورق ويتقي الصياد بالأخرى، حتى بلغ المكان والرجل ماضٍ في طريقه مُجِدٌّ في سيره، لا يلتفت وراءه إلى أن توارى شخصه. وعندئذٍ دنا حماس من الزورق تأمل ما بجانبه من المتاع، وإذا هو بكميةٍ وافرة من أنواع السلاح، فسُرَّ بذلك كثيرًا، وقال في نفسه الآن رددت على الأسد مخالبه، فلنبدأْ بها فإنها هي الزاد الباقي لا جوع معها ولا خوف، ثم قلب الأسلحة فتخير منها خنجرًا وسيفًا ورمحًا وترسًا وقوسًا ومقدارًا من السهام، فتقلد جميع ذلك حتى صار فيه حصنًا لا يرام، وأسدًا كل الأرض له آجام، ولوى بعد ذلك على القدور ففتحها واحدةً واحدةً، فإذا فيها من اللحوم والبقول ما يكفي جماعةً من الناس مدةً من الزمان، ثم فتح القرب فوجد بعضها مملوءًا ماءً والبعض الآخر يفيض من أنواع النبيذ، فأكل هنيئًا وشرب مريئًا حتى كاد يؤذى من الري والشبع، ثم لم يكتف بذلك بل أخذ ما قدر على حمله من الزاد والماء والنبيذ، وانثنى آيبًا إلى مأواه، فأودعه هناك وأقام بعد ذلك يترقب. وقد كان أول ما خطر على بال حماس، أن يُعِيد جميع ما على الأرض إلى الزورق ثم يركب فيه فيسير، حتى يبلغ ما خلف تلك الصخور من المعمور، إلا أنه راجع فكره فبدا له أن هذه الكميةَ الوافرةَ من الزاد والماء والسلاح لا يُمكن أن تكون لذلك الصياد وحده، وأن الرجل ليس صيادًا كما توهم لأول وهلة بل هو لصٌّ من لُصُوص الماء، يأوي إلى تلك الصخور ضمن عصابة من الأشقياء، فخشي الفتى عاقبةَ التسرُّع، وخاف أن يبصر به القومُ وهو في الزورق يسير به فيرموه بسهامٍ لا طاقة له بها، ولا دفاع معها، فاختار أن يرجع إلى جحره فيبقى فيه حتى يظهر من ذلك السر خافيه. فلم يمض إلا القليل حتى تراءى شخص الصياد عائدًا من حيث ذهب، ثم ما زال يقترب حتى صار بين الزورق وبين القرب والقدور، فلما رآها على تلك الصورة من الخراب والنقصان غشيه من الفزع ما غشيه، وضاقت الدنيا في عينيه، فوقف حيران لا يدري ماذا يصنع، ثم اندفع يبكي ويتوجع. وكان حماس قد نزل إليه كأنه الأسد في فريسته بين يديه، فلم يشعر الرجل إلا بيدٍ قويةٍ قد ضربتْه على كتفه ضربةً قاسيةً، كادت تكون هي القاضية، فالتفت مذعورًا فرأى شيئًا في طول النمر إذا النمر انتصب، وله خفة إذا هو وثب، فترامى على قدمَي الفتى يقول: الأمان الأمان أيها الشيطان، فتبسم حماس ضاحكًا وقال: قم أيها الجبان إني لست شيطانًا، ولو تأملتني ما وجدتني إلا إنسانًا قال: إذن؛ فالأمان أيها البطل الكريم إني ورأسك لست منهم، وإنما أنا رجلٌ تاجرٌ أبيع للص الحقير، كما أبيع للملك الكبير. قال: وأنا أعطيك الأمان بشرط أن تعرفني من أنت ومن أين أتيت، وإلى أين ذهبت ثم عدت، وما هذه الدخائر ولمن هي؟ تكلم، وحذار من الكذب. قال: أنا يا مولاي رجل تاجر أعامل عصاباتٍ كثيرة من اللصوص، ومن جملتها الشرذمة الآوية إلى هذا المكان، فأربح منهم المال الطائل، وهذا الزورق مصنوعٌ؛ بحيث يمكنني في ساعة الخطر أن ألقي جميع ما به في البحر بدون أن يمس الزورق سوء، ولي زمان أعامل أصحاب هذا المكان ويعاملونني، وهم لم يأتوا إليه إلا من نحو شهر. قال: وأين كانوا قبل؟ – كانوا في الصخرة الجهنمية ثم انتقلوا إلى صخرة الحدبة، فلم يلبثوا فيها إلا يومًا بليلة، ثم جاءوا إلى الصخرة الملساء، التي هُمْ فيها الآن مقيمون. – وأين هذه الصخرة الملساء؟ قال — وأشار بيده — هي تلك التي تُناغي السماء، ولكنك لا ترى إلا ظهرها وهي قريبةٌ منا؛ ولهذا لا أرى من العقل أن نُطيل الوقوف هنا، فإما أن تركب معي في الزورق فأنجو بك وبنفسي، وإما أن تدعني أذهب وحدي، فإنهم يا مولاي شداد أقوياء، لا تنفعك معهم شجاعتك. قال: هذا لا يعنيك أيها الرجل. – وهل عمري لا يعنيني يا مولاي؟ قال: ثبت جأشك أيها الرجل، فلو حضر لصوص الأرض أجمع ما ملكوا لك من دوني أمرًا، لا خيرًا ولا شرًّا، والآن قُلْ لي كم عدة أصحابك اللصوص؟ قال: سبعةٌ بما فيهم رئيسهم يا مولاي. قال: وكيف أنت ماضٍ وتارك هذا الزاد؟ – بذلك أمرت يا مولاي. قال: فإن عليَّ أن أودع بضاعتي هنا وأذهب بعد ذلك فأخبرهم بحضورها، ثم عليهم أن يأتوا متى شاءوا فيأخذوها؛ لأنهم لا يتحركون حركةً إلا بحساب. قال: إن أمرهم إذن لَمريب فهل تعلم دخيلته؟ قال: لا يا مولاي. والآن ائذنْ لي بفضلك أن أمضي لسبيلي؛ فإن لي أطفالًا صغارًا يموتون بموتي. قال: ذلك لك بعد أن تقول ما المسافة بيننا وبين المدينة. – ثلاثة أيام في البحر بسير الزورق، وأربعة في البر بمشي الأقدام، إلا أن البر أوطأ مركبًا وآمن في هذه الجهات سبيلًا. – قد عرفت ما تهمني معرفتُهُ، فخُذْ زورقك الآن واذهبْ بسلامة، فانحنى الصياد إجلالًا، ولعثم كلماتٍ فيها شكرٌ ودعاء، ثم أتى الزورق فركب وأعمل مجذافيه بقوة، فصار الزورقُ في عريض الماء؛ وعندئذٍ لم يدر حماس إلا بذلك الخادع قد صفر صفيرًا امتلأتْ من دويه الآفاق، وعلى إثر ذلك انحدر من الصخرة رجلان يهدران، كأنهما فحلان يتبادران، فحين رأى الفتى ذلك لم يلتفت إلى القادمين، بل بدأ برجل الزورق فسدد نحوه سهمًا كسهم المنون، ثم رمى فأصاب مقاتلَه فصرخ صرخةً واحدة ثم لم يثن، فأيقن حماس أن سهم الانتقام قد أصاب، وأن الكذب قد قتل الكذاب. ثم إنه استعد للقاء الرجلين وكانا قد تقدما حتى صارا منه وجهًا لوجه، فصاح به أحدُهُما يقول: من الرجل وما يبتغي؟ – ومن أنت يا لص الخنا حتى تسأل هذا السؤال؟ ثم لم يزدْ على أن اندفع يتهادى ذات اليمين وذات الشمال ويشيد بهذا النشيد الذي اعتاد أن يقوله في مثل هذه الحال: وما استتم حتى بدر إليه أحد الرجلين يلعب بالرمح لعبًا، ثم حاول أن يطعنه فتخلى حماس فاستجمع الرجل ليطعن الطعنة الثانية، وحماس لم يهم ولم يطعن، بل اقتصر على خطة الدفاع مع منازله، وكان يلقى معظم باله للرجل الآخر يراقب حركاته وسكناته، فثنى الرجل فتخلى حماس كذلك إلا أنه عانق منازله في هذه المرة عناق مغتصب قدير، فصرخ اللص صرخة المطعون ثم سقط على الأرض مضرجًا بدمائه، كأنما جاءه الموت من ورائه، فلم يزده حماس على أن قال له: بيد صاحبك لا بيدي يا لص الخنا. وبالحقيقة لم يكن هلاكُ الرجل إلا على يد صاحبه، وهذا السهم الذي قتله إنما سدد نحو حماس مخالسة وغدرًا، ولكن الفتى لحظ ذلك فارتقب حتى حان وقت الرمي، فلم يرسل السهم إلا وحماس متدرع بخصمه الأول، فكانت الجناية على الدرع وحده. أما الرجل فإنه لَمَّا رأى ما حل بصاحبه هَمَّ بالفرار، فقفاه حماس بسهم اخترقه من ظهره إلى صدره، فألحقه بأخيه جزاء خيانته وغدره. وبقي الفتى هنيهة كما كان، وحيدًا على المكان، وقد دخل في جنون القتال وأخذه ما يأخذ الأبطال، في سرعة الكر والنزال، فوقف يطلب الضرب وحده والطعان، طلاب شجاع لا طلاب جبان. وفي هذا الأثناء أقبل ثلاثة آخرون من اللصوص يتحدون من أعالي الصخر، وكأنما نظروا إلى رفيقهم وقد أصابهما من بأس حماس ما أصاب، فلم يدر الفتى إلا بالسهام تساقط حوله تباعًا آتية من عل، فتزحزح قليلًا قليلًا حتى خرج عن مرماها، ثم تخير لنفسه مرتفعًا من الصخر يحتمي فيه ويرمي منه، فصعد إليه ثم شرع يرسل سهامه التي لا تطيش ولا تخيب، فأصاب واحدًا منهم في أم فؤاده فسقط ميتًا. فحين رأى الآخران ذلك أيقنا أن جنود الملك على المكان، وأنهما حيث صار رفاقهم صائران، فألقيا سلاحهما ونزعا ثيابهما ثم انغمسا في الماء فلم يخرجا منه إلا على الزورق للطيران، وهما لا يصدقان بالنجاة ويظنان أن كل لجة جنديًا من جنود السلطان. فلما شاهد حماس ذلك ورأى المكان قد عاد فخلا به، نزل عن مكمنه مسرعًا يتقدم نحو الصخرة الملساء، مستخفًّا بمن بقي من الأعداء، حتى إذ صار تحتها رفع عينيه يتأملها، فإذا بها كتلة واحدة في صورة البرج لا تصل الأيدي إليها، ولا تنبت الأقدام عليها، فوقف يدعو من فيها للنزول فالنزال، متغنيًا بنشيده الذي يقوله في مثل هذه الحال. وعندئذٍ أشرف من ذروة الصخرة رجل كأنه زنجي لكثافة شعر وجهه فقال: من الرجل وماذا أتى بك إلى هنا؟ قال: أنا من أنا أيها الرجل وقد أتيت لألحقك بإخوانك الخمسة، ثم لي ولسابعكم شأن. – وأي ثأر لك عندنا يا سيدي «من أنا»؟ – وأي ثأر للناس عند الوحوش غير كونها مضرة يجب إزالتها، فإما أن تنزل إليَّ أيها الرجل مسلمًا صاغرًا، وإما أن أصعد إليك فأجعل هذه الصخرة قبرك. قال: أما أن هذه الصخرة تكون قبري فهذا ما أشتهيه بعد عمر طويل؛ فإن فرعون — على فخامة جاهه — لو علم بها ما طلب أن يدفن إلا فيها، وأما أني أنزل إليك وأزايل هذه الصخرة ولو لحظة، فهذا يحول دونه حفظ العهد وأداء الأمانة. قال: وما هذا العهد وهذه الأمانة أيها الرجل؟ قال: هذه أسرارٌ أُخفيها، وشئونٌ لا دخول لك فيها، فإن شئت فاذهب بسلام، وإن شئت فابق حيث أنت حتى يأتيك حينك في الظلام، ثم وقف كالمتحمس وراء حصني وترنم بهذا النشيد. ثم إنه احتجب في صخرةٍ كما يمعن الضب في جحره، وغادر حماس حيران قلقًا، ينظر من جهة فيما يكون من أمر تلك الأسرار، وما يعاني كلكاس مراسه من الشئون الكبار، ومن جهةٍ أُخرى يمعن في الصعود إلى الصخرة كيف يكون، وهي كأنها عمودٌ عالٍ طلي بالصابون.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/7/
في طلب الأميرة
كان في جملة الأجانب الذين ذهبوا تحت كل كوكب، في طلب الأميرة يفتشون عن مكانها، ويعللون النفس بوجدانها، شقيق ملك العجم، وقد تقدم لنا القول بأنه خاب في الامتحان، فكان نصيبه مما أمل نصيب سائر الأقران. وكان فتًى جميلًا جريئًا، كما تحب المعالي وتهوى العظائم، فحين قال الملك للقوم ما قال، وكان الأمير معهم يسمع ويرى، شجعتْه رؤيةُ الأب الحزين وجزع على ذلك الكنز، فخرج مسرعًا، فطلب من أحد الخدم أن يجمعه برئيس الركائب الملوكية، فجاءه الخادم به فنزع الأمير خاتمًا من الياقوت كان في إصبعه وناوله الرجل قائلًا: هذا الخاتم أيها الرئيس من أنفس ما حمل الملوك والسلاطين، وأنا أودعه لديك على شريطة أن تذهب بي الساعة إلى المرابط العامرة، لأختار من خيل الملك جوادًا أركبه، فإذا أنا عدت سالمًا رددت إليك الجواد ولم آخذ الخاتم، وإذا عاجلني حيني في سفري وهلك الجواد لهلاكي، كان لك التصرف في الوديعة لذلك، فتبيعها وتشتري من ثمنها ما شئت من بدل لأمانتك. فأخذ الرجل الخاتم وتأمله، فإذا به يسوي دواب الملك جمعاء، فالتفت ينظر هل من مطلع عليهما، ثم أشار للأمير أن يتبعه فتبعه وسارا تحت ستار الظلماء حتى وصلا الإصطبل العامر، وهنالك فتحت له الحجر واحدة واحدة، وإذا في إحداها ثلاث أفراس من أكرم ما اتخذ الملوك للرباط، أحدها فارسي والثاني أشوري والثالث مصري، فأراد الأمير أن يختار فقال له الرئيس: لو أخذت المصري يا مولاي كان ذلك أخف بليةً وأدنى إلى السلامة، قال: ولم؟ قال: لأنه للأميرة خاصة، وما دامت غائبة كما تعلم، فالملك لا يسأل عنه فرارًا من ذكراها برؤيته، قال: وأنا قد تفاءلتُ فلا آخذُ إلا هذا المصري، لعل الأميرة أن تعود عليه، قال: هو لك يا مولاي، ثم قرب منه مربط الجواد وهو يحكمه إسراجًا وإلجامًا حتى تهيأ للركوب، فركب الأمير وسار، يريد أن يسبق إلى لادياس النهار، فما زال يصل السرى في ليل غاب نجمه، وكثف غيمه، حتى طلع الصبح عليه وهو خارج المدينة، في أماكن صخرة يستعصي على أرجُل الخيل دوسها فيها من غير خطر. وكانت المدينة لم تغب بعد عن ناظر الأمير الغريب، وإن هو بعد عنها مسيرة ساعتين على الجواد، فحين رأى أنه يسلك طريقًا ليس بالمأمون، وأنه قطع كل تلك المسافة ولم يمرر بغياض الحدبة، مع علمه أنها لا تبعد كل هذا البُعد عن البلد، خشي أن يذهب سعيه سُدًى، فثنى عنان فرسه يريد أن يتخذ له طريقًا غير الذي هو فيه، فالتفت فوجد وراءه رجلًا سوقة لا يرى له شأن، وإن بدت مخايل الشجاعة عليه، فعجل الرجل إليه يقول: لعلك ضال أيها البطل، فإنما تسير على الدرب الأصفر وهو مملوء من المخاوف والأخطار، فقل لي إلى أين تريد الذهاب؟ وأنا أدلك على الطريق، قال: بل بغيتي هذا الدرب الأصفر، قال: إذن فأنت من العصابة. قال: نعم. قال: ولكن هذي أولى مرة أراك، قال: وأنا أيضًا لم أرك إلا اليوم، فلعل أحدنا قد دخل حديثًا في العصابة، والآن قل لي ما مخاوف هذا الطريق؟ قال: ليس فيه مخاوف، وإنما حسبت أنك أجنبي عنا، فأردت أن أوهمك كما وهمنا على الناس من قبل، فلم يعد أحدٌ يستطيعُ المسير على الدرب الأصفر، قال: وما وقوفُك الآن هنا؟ قال: ألم ترني كدت أرجعك من حيث جئت لولا أني علمت أنك من رجالنا. قال: إذن فأنا أشكر لك سعيك، وأعدك ثناءً جميلًا حال التقائي بالإخوان. ثم إن الأمير اندفع يسيرُ وهو يحمد تلك المصادفة الحسنة. وعلى الخُصوص قوله للرجل في ابتداء المحادثة «بل بغيتي هذا الدرب الأصفر.» إذ لو لم يلهم هذا الجواب ما علم بوجود تلك العصابة، التي لا يبعد أن يكون لها شأنٌ في الحادثة عظيم، وكان قد عرف من كلام الرجل وإشاراته أين يبتدئ الدب الأصفر، فأطلق لجواده العنانَ فيه، حتى احتجب بين صخوره وفيافيه.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/8/
ساكن الصخرة
ما زال بيروس منذ وقعت الأميرة في أسره يلين لها وتخاشن، ويشرح هواه كما يشرح المظلوم شكواه، أو السائل فقرَه وبلواه، وهي عنه في صمم لا ترثي لحاله، ولا تلقي بالًا لأقواله، حتى انتهى الرجلُ إلى اليأس، فانقلب العاشقُ فصار أحقد حاقد، واستحال الغرامُ إلى عداوة وانتقام، فعقد بيروس العزم على الفتك ببنت عمه قبل أن تهتدي حكومة الملك له ولجماعته، فترجع لادياس إلى العز القديم، وعندئذٍ يعطاها من تشاء وتختار، ولا يعطى هو إلا عاجل الدمار. وكان هناك عاملان مهمان، يستحثان في الفتى نية العدوان، جنون اليائس وخصوصًا إن كان أهل العشق كما هي حال بيروس، ووجود تلك الفتاة الخائنة هيلانه أكبر قرينات الأميرة، وجملة الخبر عنها إلى الآن أنها كانت الشيطان السائق للادياس إلى الشرك المنصوب، من أجل ثأر لها عند بنت الملك، وهذا الثأر لا يتعدى شخص بيروس، فإن هيلانة كانت تحب هذا الشقي لا تكتمه حبها إياه، وذلك قبل أن ينزل عليه سخط الملك، فلما غضب بوليقراط على ابن أخيه وأخذ ماله وجرده عن ألقابه، فر من العاصمة واختفى تاركًا هيلانة على العهد، تزداد وجدًا على وجد، فما لبثت أن استعملت كل حول وحيلة، لمواصلة عشيقها في الخفاء. أما بيروس فكان من الغرام ببنت عمه؛ بحيث لا يمكنُهُ أن يملك هيلانة فؤاده، بعد ما وقف على لادياس وقفًا لا شرط فيه، ولا حاكم غير الهوى ينفيه. إلا أن الفتى لم يكن يبغض التي تحبه، كما أنه لم ير من الحكمة أن يأبى على هيلانة جمائلها وخدماتها المستقبلة، وهي أعظم القرينات منزلةً في القصر، ولا سيما في فؤاد الأميرة، فبقاء المواصلة ولو سرية بينها وبينه في منفاه؛ أمرٌ فيه نفعٌ وليس فيه ضرر، وبالاقتصار فإن بيروس خدع هيلانة حتى نال بغيته، بحسن مهارتها، وجميل سفارتها. حتى إذا مضت الأيام على وقوع لادياس في قبضة عدويها، بدون أن ينجح بيروس فيما حاول من استمالتها إليه، وجدت هيلانه مجال العمل ذا سعة، فعملت بكل دهائها ومكرها حتى أخرجت لادياس من قلبه بسحرها ودخلت هي ظافرة الغرام، تتخذ ذلك القلب آلة للانتقام. فلما كان صبح اليوم الذي دهم الأشقياء فيه ما دهمهم، انتبه بيروس من منامه وقد صمم أن يقتص من بنت عمه أشنع قصاص، فجمع أصحابه وقال لهم: أيها الأصحاب إني خارجٌ اليوم في بعض الشئون؛ فإذا طلع القمر ولم أعد فادخلوا على لادياس، فخذوا أنسكم منها بقوة أحدكم فيريق دمها الأثيم. قالوا: سمعًا وطاعة، ثم خرج بيروس وسار، تاركًا الفتاة على أعظم الأخطار، وهي تستجير بهيلانة فلا تجار، وتود لو وجدت سبيلًا إلى الانتحار، فرارًا من هول ذلك العار. ثم ما كان مما ذكرناه، ولم يبق في الصخرة سوى كلكاس وهيلانة، وقد أبى أن ينزل إلى حماس بل تركه غضبان حائرًا يصول كل مصال، ويطلب الطعن وحده والنزال، وانثنى إلى داخل الصخرة فقص على هيلانة الخبر، فأشفقت واضطربت وأوجست خيفة من سوء العقبى، وكان الليل قد أقبل أو كاد، فشرعت الخائنة تطلب من كلكاس بإلحاح أن يفعل ما أمره به بيروس، وأن ينوب عن سائر إخوانه في إمضاء إشارة الرئيس، وهو يتثاقل عن تلبية دعوتها السابقة الأوان، ويخبرها أنه ما دام القمر لم يطلع فإن يديه مغلولتان، ويدخل معها في أبحاث فلكية ما أنزل الله بها من سلطان، وكان القمر حقيقة قد طلع وبدا نوره والتمع؛ فحينئذٍ عيل صبر الفتاة فطفقت تتهدد كلكاس وتوعده، وتمثل له غضب بيروس وانتقامه في أفظع الصور، حتى تملكه الخوف فاستل خنجرَه، ودخل على بنت الملك حجرتها وهو لا يكاد يمسك قدميه، أو تمسكه قدماه إشفاقًا من هول ما هو قادم عليه؛ لأن الرجل كان رحيم القلب سليم النية بقدر ما كان جريئًا مهذارًا، إلا أن هيلانه كانت خلفه تدفعه إلى الجريمة كأنها شيطان القاتل المسلط عليه، حتى صار أمام لادياس وكانت الفتاة قد سمعتْ الحديث، كما جرى بين بيروس وأصحابه في أول النهار، وبين كلكاس وهيلانه في آخره، فحين دهاها الرجل لم يزدها بقصده علمًا؛ بل ألفاها بهيئة قيام، وفي خشوع تام، لآلهتها وتسألهم حسن الختام.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/9/
حماس في الصخرة
كان حماس قد قضى بقية النهار بأسفل الصخرة لم يبرحها لحظة واحدة، حتى إذا جاء الليل توارى خلف حجر يعصمه من بغتات العدو في الظلام، ثم أقام يرقب فلم تمض ساعتان من الليل حتى طلع القمر يرسل أشعته على الصخور فتضيئها من كل جانب، فاستبشر الفتى لهذا الملاك الهادي والزائر المؤنس، ثم بدت منه التفاتة، فإذا هو بظل يقبل من بُعد وكأنما يطير طيرانًا من سرعة السير، فازداد حماس أنسًا على أنسه، وهنأ النفس على حفيد جديد، ولكنه دخل في الحجر كل الدخول؛ بحيث صار منه بالمخبأ الأمين. وما هي إلا دقائق قليلة، حتى تجسد ذلك الظل فصار إنسانًا طويلًا عريضًا يتقدم نحو الصخرة وثبًا، كأنه الليث النافر وهي عرينه، ثم إذا هو بأسفلها وقد صفر صفيرًا دوى له الفضاء، فأخرج حماس عندئذٍ رأسه وخالس الرجل نظرة، فرأى له هيئة أصحابه الذين عرفهم في أول النهار، فهَمَّ بالخروج إليه ليلحقه بهم ولكنه رأى سلم حبل يدلى به من أعلى الصخرة ليصعد الرجل عليه، فخشي إذا هو تحرك أن يتنبه من في الصخرة فيرفع الحبل بعد ما أرسله، فأمهل حماس غريمه ريثما نزل الحبل تمامًا، ثم خرج إليه وهو لا يشعر به، كما يخرج الذئب إلى الشاة، وكان الرجل قد تعلق بالحبل أو كاد فتعلق حماس معه، وقد أمسك الحبل بيد وغرس بالأخرى خنجره المسلول في أم فؤاد اللص، فنزل يهوى جثة لا حراك بها، واستمر حماس صاعدًا حتى بلغ مدخل الصخرة، وهناك استقبله كلكاس وهو يحسب أنه بيروس صاحب الإشارة، وحامل الصفارة، فانتصب حماس أمامه كأنه عزرائيل قد أتى بلا ميعاد، ثم قال له بصوت أنكر من صوت الرعد: من الرجل وما شأنك؟ فأخذ كلكاس الذعر شر مأخذ، فوقف يتلعثم بكلمات متقطعة، وأسنانه يدق بعضها بعضًا من الرعدة وهو يقول: عفوًا أيها الملك، إن الأميرة بخير. – لا تؤذني أيها الشيطان. – لعلك عفريت بيروس! – سامحني يا سيدي حماس. إلى غير ذلك من لغة الذهول حتى أضحك الفتى حاله، فتركه وتقدم في جوف الصخرة، فوجد بها حجرة فيها قليل نور فدخلها، وإذا هو بمنظر هائل؛ إذ رأى فتاتين إحداهما قتيلة لم تجف دماؤها بعد، والأخرى قائمة عند رأسها وفي يدها خنجر تقطر صفحتاه من دماء تلك الفتاة، فصرخ حماس بها يقول: من أنت أيتها الشريرة وما هذا المشهد الفظيع؟ فألقت الفتاة سلاحها وقالت: حلمك أيها الرجل، فليست الشريرة إلا طريدة الحياة هذه (وأشارت للفتاة القتيلة)، وأنا إنما قتلتها مدافعة عن عرضي وحياتي، قال: وما حديثكما؟ قالت: أنا بنت بعض الناس وقد وقعت في أسر عصابة من الأشقياء يرأسها طريد المملكة بيروس، ثم إنها حدثت حماس أخبارها، من يوم وقعت في قبضة العصابة إلى الساعة التي هي فيها، ثم قالت: وأعلم أيها البطل أنه لولا بعض رحمة في قلب الرجل الذي مد لك الحبل، لكنت الآن مكان هذه الآثمة الظالمة، وكانت مكاني أنا البريئة المظلومة، فإنها ما زالت تدفعه إلى الجريمة دفع الأبالسة الناس إلى الشر، حتى دخل عليَّ ليقتلني كما هي إشارة بيروس، فجاءني كسلان متراخيًا كأنما يريد أن يمهلني ما استطاع إمهالي، وفي هذه الأثناء سمع صفيرَ الصفارة فخطفت هذه الشقية الخنجر من يد الرجل، وخرج هو ليدلي الحبال كما هي العادة، فكان من حسن حظي أن الخنجر سقط من يد كلكاس وهي تحاول أخذه منه، فوثبت فسبقتها إلى موضعه من الأرض، ثم حملت عليها وطعنتها به الطعنة القاضية، وإذ كنت قد سمعت طرفًا من جدالك في هذا النهار مع كلكاس، مما جعلني أطمئن بعض الشيء، فقد وقفت وقفتي التي رأيتني عليها الخنجر بيدي، وأنا مستجمعة لأقتل بيروس فإن لم أتمكن فنفسي. وكانت الفتاة تتكلم ولباس الجرم ينحل عن جسمها الطاهر، كما تماط الستور عن تمثال بديع فاخر. فما استتمت حتى رفع حماس عينيه فأبصر، ولم يكن رأى من قبل شيئًا فإذا هو بملك يبرئ نفسه وهو البراءة متجسمة، ويتكلم ولو سكت لكان الطهارة متكلمة. وكانت لادياس قد وصفت من قبل لحماس، فحين تأملها عرفها بتلك الأوصاف، وسبقت فراسته لسانها إلى الاعتراف، فدنا منها وهو يقول بأعذب هتاف: فلما سمعت الأميرة هذا الكلام، وكان قد دخلها من الفتى ما داخل الفتى منها؛ أقبلت نحوه صامتة وعيناها تتكلمان، فنظرت إليه نظرةً لا يقوى على مثلها جنان، ولئن أطاقها فؤاده فلأنه من حديد أو صوان. ثم قالت مجيبةً بأعذب بيان: قال: وهل تعرفين اسمي يا منية حماس؟ قالت: عرفته منذ النهار؛ إذ أنت تحت الصخرة تنشد نشيدك تدعو كلكاس للنزول، قال: لقد ذكرتنيه فأين هو؟ قالت لا ينل كلكاس منك أذًى؛ فإنه بالكرامة أَحَقُّ يا مولاي، ثم إنهما برحا الحجرة ففتشا عن كلكاس، فلم يجدا له أثرًا في الصخرة، وكان الحبل مدلًّى لا يزال، فعلما أنه نزل وفر على عجل، فالتفت حماس عندئذٍ إلى الأميرة، وقال: لم يبق إلا أن نحذو حذوه فننزل نحن أيضًا، قالت: الأمر لبطل الصخرة الملساء. فمسك حماس الحبل بيُمناه وجعل اليسرى سند لادياس، ثم نزل متئدًا محترسًا، كمن ينزل بحمل من زجاج، حتى مس الأرض، فاستقر به وبالأميرة النزول، وأول ما نقلت لادياس القدم تعثرتْ في جسم اللين والصلب، فذعرت لأول وهلة وارتدَّتْ مجفلة، فدعاها حماس لتطمئنَّ قلبًا، وأعلمها أن تلك جثة شقي من الأشقياء، فدنتْ حينئذٍ منها وتأملتْها فعرفت القتيل، فرفعت عينها نحو السماء مبتهلة للعناية، ثم قالت ما معناه: فسألها حماس: ومن هذا الباغي يا مولاتي؟ قالت: هذا بيروس ابن عمي ومختطفي ورئيس العصابة الهالكة، قال: إذن فقد قطع رأس الأفعى، وأصبح الطريق مأمونًا من هذا الصخر إلى القصر. وكانت لبيروس ذؤابةٌ يعتني بها، ويُبالغ في تسريحها وتطبيبها، بقدر ما بلغت الخلقة في تذهيبها، فأعجب حماس بها، وأراد أن يتخذها علامةً على ما جرى له في ذلك اليوم مع الأشقياء، وذكرى لوقائع الصخرة الملساء، فاستأذن الأميرة في ذلك فأذنتْ له، فاستأصل الذؤابةَ من جُذُورها ثم تمنطق بها فكفت ووَفَّتْ. والتفت بعد ذلك إلى لادياس، فقال لها: الآن اجعليني أيتها الأميرة زمامك، وثبتي أقدامك، ولا تُبصري إلا قدامك، فإن ذلك أمضي سلاح يتقلده الإنسان، في مكان مخوف مثل هذا المكان. قالت: سمعًا وطاعة. ثم مشى البطل المصري ومشت أميرة ساموس بجنبه كأنها ظله المديد، أو رمحه السديد وهو يتوجه بها؛ حيث وصف له ذلك الصياد، وينظر في سهل الطرق ويرتاد، فيهبط الأغوار ويعلو الأنجاد، وتسلمه الهضاب إلى الوهاد، حتى أقامه السرى في طريق مستوية منبسطة يُشرف عليها الصخر من الجانبين فكأنها مضيق بين جبلين. وكان قد ذهب من الليل ثلثاه والقمر لا يزال ملتمع الضياع، وهاج السراج في الأرض والسماء، فمال بالأميرة السرى، ومالت إلى الكرى، فاشتهتْ من حماس لو سامحها في الاضطجاع ولو هنيهة من الزمن، فلم ير من بأس في تلبية هذا المقترح، وفتش للحين عن جانب من الأرض يصلح لضم ذلك الجسم الناعم، فلما وجده عرضه عليها، فاضطجعت واضطجع هو أيضًا دون قدميها، فأخذهما كليهما النوم فناما مثقلين بالمتاعب، ثملين من كأس السرى الناصب. فحين تملك حماسًا المنام، وسرت روحه من دنيا الأوهام إلى عالم الأحلام، رأى في نومه كأن الشعب في سيبس (عاصمة مصر يومئذ) يلبسه تاج البلاد ويجلسه على عرشها، ثم كأن الأمة بأسرها موكب له يسير فيه إلى الهيكل الأعظم، ثم كأنه دخل الهيكل فمثل سدة الآلهة فحمدهم وأثنى عليهم، ثم هَمَّ بأداء يمين الطاعة والأمانة لهم، فسمع عندئذٍ من وراء الحجاب صوتًا يقول «ليس للملك يمين، وعند اللوح الخبر اليقين.» فتذكر حماس على الفور أقسامه ووعوده للوح، فانتبه من نومه مبغوتًا مذعورًا، فنظر إلى لادياس فإذا هي لا تزال في أسر النعاس، فحدثتْه نفسه المضطربة أن يرجع إلى حيث ترك اللوح، فيأتي به قبل أن تهب الأميرة من رقادها، فنظر إليها نظرة معتذر خجل، ثم تركها في حفظ الآلهة وانطلق يعدو في طلب اللوح، فلو رأيته حسبته يقظان وهو نائم لم يستفق بعد من النوم، وإنما تلك حالٌ كانتْ تعاودُهُ في منامه، فيبلغ إلى مثل هذا الحد في أحلامه.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/10/
كيف انتبهت لادياس
بينما كان حماس يخبط في أحلامه، ويأخذ ليقظته من منامه، وقد حل سلطان النوم عقدة من أقدامه، فانطلق مستعجل الخطو، حثيث الهدو، يكفر عن ذلك السهو، كان فارسٌ آخرُ لا يقل عنه حسنًا وجمالًا ولا تكاد العين تفرق بينهما شكلًا واعتدالًا، يُطلق لفرسه في الطريق العنان، ويتقدمُ بسرعةٍ نحو ذلك المكان، حتى إذا صار على مقربة من مرقد الأميرة جفل فرسه وكاد يكبو به لولا شدة احتراسه، فكان ذلك للفارس بمثابة الإنذار، فأخذ لنفسه من الموقف الحذار، ثم أرسل النظرات تباعًا فوقعن على إنسان قد توسد الأرض، فتوهمه لأول وهلة قتيلًا، فترجل من فوره ودنا منه ثم حققه في سنا الفجر، فخيل له بادئ بدء أن المكان للآلهة وهم عليه رقودٌ، وأن الفجر إنما يستمد لآلئه من ذلك العمود الممدود، فوصل التأمل فإذا هو بفتاة ما خُلق الجمال إلا لها، وعليها من الحلل والحلي ما يمثل الملك وشعاره، وتبين عن عز الإمارة، فلم يقم بنفسه شك أنها لادياس، تأخذ لعينيها بقسطيهما من النعاس، ففرح أعظم الفرح بقربها، وتقدم فاضطجع بجنبها، ثم أقام يراقب حركاتها، وينتظر انتباهها من طويل سباتها. وفي هذه الأثناء لَمَحَ الفارس عند قدمي الأميرة سيفًا ملقًى، فتحرك فأخذه وتأمله ثم تقلده، ووجد مكان السيف أثر رقاد فعلم أن السلاح سلاح حماس، ولكن لم يعلم أين ذهب منقذ لادياس. وكانت الأميرة قد هبت من نومها، فالتفتت إلى صاحبها وقالت: أين نحن الآن يا سيدي حماس؟ قال: في الدرب الأصفر يا مولاتي، وبيننا الآن وبين المدينة مسيرة يوم كامل، فحين سمعت لادياس هذا الصوت أنكرتْه مسامعها، كما أنكرت عيناها هيئة الفارس من أول نظرة، فنفرت عنه كالمنبغتة، ثم قالت: من أنت أيها الفارس، ومن جعلك مكان البطل حماس؟ قال: أنا هو ذا يا مولاتي أنا حماس بعينه، وما مسخت ولا جعل أحد مكاني ولكن شبه لك، فتأملتْه الفتاة مليًّا وكانت فيه مشابه من بطل الصخرة الملساء، فما ازدادت الأميرةُ إلا انبغاتًا وهَمَّتْ أن تتهم الظلام، وأن ترى في ثياب الفارس منقذها الهمام، فلما آنس الفتى منها ذلك أقبل عليها ملاطفًا، يقول: وحماس أيضًا اسمٌ وضعته لي أوهامك، ولا أحسبك إلا قد استفقت مما كنت فيه من الذهول، فكادت هذه العبارة تخرج عقل الفتاة من رأسها، وألفاها الفتى غاديةً على خطر الجنون، فأردف في الحال بأن قال: ما بالك يا مولاتي باهتة باغتة كأنك تشكِّين في أمري، ألست مبيدًا لعصابة الأشقياء؟ ألست بطل الصخرة الملساء؟ ألم يكن لي ولأعدائك الشأن العجيب؟ ألم أدخل عليك الصخرة وكلكاس فيها، فحين رآني لم يملك ليديه حراكًا، ولا لقدميه انفكاكًا، ألم أجدك أسيرة ففككت، ومهددة فأمنت، ألم نفتقد كلكاس بعد ذلك فما وجدناه؟ فما بالك وهذه دلائلي وأماراتي لا تزالين لي بالجحود، ولا تعودين لأنسك المعهود، فراجعي يا مولاتي عقلك واعلمي أنك ما كنت إلا في خيال، وما اختبلك إلا رؤية تلك الأهوال، والآن أنت بحمد الآلهة ناحية سالمة، وعن قريب على أبيك الملك قادمة، فلا تجعلي جزائي عما قاسيت بالأمس، أن يُقال ردها وبها مس. وكان الفتى يتكلم ولادياس تسمع، ولا تكاد تعي من شدة الدهش، إلا أن ما أشار إليه الفارس من حوادث الأمس قد أنزل عليها بعض السكينة، كما أن مشابهته لحماس كانت تدعوها للطمأنينة، فما لبثت أن اتهمت ظنونها وأوهامها فرجعت إلى الفتى آمنةً مطمئنةً تسأله: ومن أين لنا هذا الجواد يا سيدي حماس؟ قال: لقد آن أن يمحى هذا الاسم من لوح خاطرك الشريف؛ إذ ليس له في الحقيقة وجود إلا في وهمك، قالت: فكيف أسميك إذن؟ قال: الأمير بهرام شقيق ملك ملوك ميديا وفارس، فاهتزتْ لادياس لهذا الاسم وهذا اللقب، وانحنتْ فحيت الأمير، ثم قالت: من أين هذا الجواد يا سيدي حماس؟ قال: لا حول لنا الآن في هذا الذهول ولا حيلة، فتأملي الجواد أيتها الأميرة لا تجديه إلا جوادك، فدنت لادياس من الفرس فوجدته — حقيقة — جوادها المهدى إليها من مصر، فقالت: ومن أعطاك إياه.؟ قال: أخذته من مرابط الملك لهذه الغاية، والآن لم يبق يا مولاتي إلا الركوب لعلنا نختصر من الزمن، فلو علمت حال الملك من الوجْد عليك، لاخترت أن تطيري إليه مع الريح، قال هذا وأخذ بيد الفتاة فأركبها ووثب بعد ذلك فصار خلفها، ثم أطلق للجواد العنان وهو يهنئ النفس على هذه الغنيمة الباردة.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/11/
بوليقراط والدهر
قد بلغ من شقاء بوليقراط على أثر اختفاء فتاته أنه زهد في الدنيا ولذاتها، وتسلى عن الإمارة وطيباتها، وأصبحت نفسُهُ على نعيمها الموفور تحسد سائر الأنفُس على كافة حالاتها، بالجملة فقد حقت كلمة الدهر على طاغية ساموس وعلت الحوادث فوق عليائه، فدهمته بضراء أنسته ما كان من سرائه. إلا أن البحث عن الأميرة في كل ناحية من نواحي المملكة كان كل يوم في ازدياد، خصوصًا أورستان فقد كادت سفنه تقلب الأمواج، عن تلك الدرة الساقطة من التاج. وكانت نتيجة البحث تُعرض على الملك ومجلسه في كل يوم بل في كل ساعة، فلا يزداد إلا بأسًا على بأس من لقاء فتاته العزيزة، بل حياته الغالية. وللوالد العذر؛ فإنه لم يقبض في خلال ذلك الشهر النحيس إلا على رجلين قليلي الشأن، لا يمكن أن يبني على وجهيهما أدنى أمل بكشف الحقيقة، أما أحدهما فأخذ في البحر وفتش زورقه فوجد بأسفله ثقبًا صناعيًّا ينفتح لدى الحاجة وينسدُّ لدى الحاجة كذلك، فكان ذلك مجلبة للريبة في أمره فقبض عليه وسِيق إلى السجن، وأما الآخر فوقع في قبضة الشرطة حديثًا، وهو وافد على البلد من طريق مهجورة مريبة وبهيئة منكرة مشككة، فلما سئل تظاهر بالبله والعته فلم يزد النفس إلا جناية عليها، وكان نصيبُهُ من البلاء نصيب صاحبه الصياد، وقد تعبت الحكومة وتعب رجالها في بلادة الرجلين وبلاهتهما وتصميمها على الجحود والإنكار، فاكتفتْ بتركهما في السجن، وكان منها عليهما نسيانٌ طويل. فبينما الملك ذات يوم كالعادة يشاور أهل مجلسه ويشاورونه في خطبه الجلل، وقد ظهر الضعف عليه وبال وأخذ يهرم قبل الأوان، لم يدر الجميع إلا بالقيامة قد قامت في المدينة وكان الوقت الضحى والحركة في الطرق والأسواق عظيمة، فساعد ذلك على نمو تلك الضجة الهائلة حتى بلغ صداها عنان السماء. فأشرف الملك من نافذته ينظر ماذا طرأ، وأشرف من معه من سائر النوافذ؛ فإذا هم برجال كالرياح أو أسرع جريًا ووجهتهم القصر، فاستبشر بوليقراط برؤيتهم ووجد يعقوب ريح يوسف من أول وهلة، ثم ما هي إلا هنيهة حتى اقترب الرجال من القصر كل الاقتراب، ثم سبقهم إلى الجدار المشرف منه الملك رجل كأنه سارية، فوقف ثم صاح بصوت كادت تميد له جوانبُ القصر يترنم بما معناه: فحين سرت هذه البشرى في حزوق المسامع السلطانية، لم يكن على الملك ساعتئذٍ إلا خاتم في إصبعه من أَنْفَس ما حمل الملوك والسلاطين، فرمى به إلى البشير فتَلَقَّفَهُ وانقلب شاكرًا داعيًا. ثم تلت وفد البشرى وفودٌ من الشعب تترى، مهنئة الملك بأناشيد المديح، من كل وزن ومعنًى مليح. قد توفقت بفضل الآلهة ويمن تضرعاتك الأبوية المستجابة لوجدان الأميرة العزيزة، وأنقذتها من يد الشقي بيروس ورجاله بعد شدائدَ جسيمة، وأهوال عظيمة، والآن نحن عند الباب الثاني للمدينة ننتظر من حكومة جلالتك أن تهيئ لنا موكب الوصول إلى القصر، وهناك أرد إلى الملك فتاته الكريمة كما أخذتها من يد العناية، محفوظة بأكمل السلامة وأتم الرعاية. فلم يكتفِ الملك بقراءة الرسالة في نفسه، بل تلاها على الملأ بلسان تُثقلُهُ نشوةُ الطرب، فاشتغل المجلس للحين بتهيئة الموكب المطلوب، وحملت إلى الأميرة وإلى منقذها الأمير ملابس الزينة اللائقة بمقامهما الخطير، هذا بعض ما اتخذت الحكومةُ من التدابير، وما أَعَدَّتْ من الاحتفال لاستقبال الأميرة والأمير، فما بال الشعب وقد عرف القارئ مكان لادياس عنده، وكيف كان يحبها جهده، ولا يريد أن يولي سواها عهده، فلا تسل عن مجالي أفراحه، ومظاهر سروره وانشراحه، وحَدِّثْ بما شئتَ عن معالم الأُنس في المدينة، وما أضفى عليها توًّا من حلل الزينة. فلم يكن الأصيلُ إلا والبلد قد أزين، والموكب قد سار بين إعظام الخلائق والإكبار. وكان الملك في انتظار وُفُود الأميرة بالقصر، فحين أقبل موكبها استقبلها هو وسائر أهل مجلسه، كما يستقبل الشحيحُ كنزه المفقود، أو العليل الفاني عائد الوجود، وهَنَّأَها الجميعُ على نجاتها مِنْ شر الأشقياء، ثم أقبلوا على الأمير بهرام وكان متوجًا بأكاليل الغار، علامة على الفوز والانتصار، وعنوانًا على كسب المجد والفخار، فهنئوه كذلك بخروجه سالمًا غانمًا من تلك المعارك، وشكروا له مِنَّتَه العظيمة على الملك والملكة بإنقاذ الأميرة الفخيمة، ثم خاطبه بوليقراط فقال: «أيها البطل المجامل وغدًا أقول أيها الصهر الكريم، لقد أعدت للوالد مهجته، ورددت على التاج درته، ومثلك يرجى لهذا ولمثله، وهذا الكنز على عظم قيمته، سوف يقدم لك برمته، فقد أصبحت آمل أن الحكومة والشعب يوافقانني على الاكتفاء بما كان لتقرير القران، وإن نكن قد حصلنا على شرط واحد وبقي شرطان اثنان.» فقام الأمير على إثر ذلك فقال: «أعد من سعودي أن مولاي الملك قد اختارني للشرف السامي، شرف مصاهرته العلية، وأني بما نلت من جليل ثقته لأسعد، إلا أنه برغمي أن يعلم الملك أن ما مر على الأميرة من الحادثات واختلف عليها من الأهوال لا يزال له أثرٌ خفيفٌ في قُواها العقلية، فلقد عهدتها تفقد الصواب في بعض الأحيان فتهذي بوساوس أعجز عن فهمها، وتذكر من الأسماء ما لا وجود له إلا في وهمها، ولكني أبشر الملك بأن هذه الحال، وشيكة الزوال، وأنه لا يمضي على الأميرة أيام، حتى تحصل على الشفاء التام، فقد ذهب عنها الآن معظم ما كانت فيه من الذهول المتاخم للجنون وأصبحت تتماثل، وتنبعث قُواها وتتكامل، فكيف اليوم وهي موفورةُ الراحة والهناء مردودٌ أمرها إلى عناية الأطباء، فما استتم الأميرُ حتى عاد الكدر فاستولى على الملك بوليقراط، واشتغل سائرُ أهل المجلس بهذه الحادثة الجديدة، وأخذ الكل يسألون الأميرة عن أُمُور حدثتْ لها في صباها، فأجابت أحسن جواب ولم تخرج قط عن دائرة الصواب، حتى جاء ذكر الحادثة التي نحن بصددها فأحسنت الوصف، ووفَّت الشرح، وما زالت تفصلها للمجلس تفصيلًا من ساعة أن وقعت في أسر الأشقياء إلى ساعة أَنْ دخل عليها حماس، فلما نطقت الأميرة بهذا الاسم كاد الملك يجن لذكره، وكاد جنون أورستان يكون أشد وأعظم، فصاحا معًا: وهل خرج حماس من بطن الحوت؟ ثم أردف أورستان بأن قال: أما الأمير فلا يخلو من مشابه من حماس، وأما أن يكون حماس حيًّا يُرزق فهذا ما لا أصدق ولو لقيته وجهًا لوجه وكلمته فمًا لفم؛ وحينئذٍ فلا أحسب الأميرة إلا ذاكرةً ما كنت أقولُهُ للملك عن حماس وهي حاضرة، فعلقت اسم ذلك البطل، وهي الآن تهذي به في جملة خطراتها. ثم انتهت الكلمة الأخيرة من بعد ذلك إلى الطبيب الخاص وكان في المجلس، فلم ير في أحوال الأميرة ما يدعو إلى القلق والفزع؛ بل أبدى أن بضعة أيام تكفي لذهاب الروع عنها، فلا تلبث أن تعود إلى ما كانتْ عليه من تمام صحةِ العقلِ والجسم، وعلى ذلك انفضَّ المجلسُ بعد أن أمر الملك للأمير الفارس بالمقر اللائق بمقامه، ووكل بخدمته مَنْ يعتنون بأمره ويُبالغون في إكرامه.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/12/
قرية الوحش الهائل
لما بلغ حماس الصخرة الصماء وكانت الشمس في رونق الضحى، افتقد اللوح فوجده حيث تركه، ووجد عنده ذاك الزاد وذا الماء، فتأبط من فوره اللوح وحمل ما يكفيه هو والأميرة من الطعام والشراب، وحينئذٍ ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، وأدرك الفتى أنه أساء إلى لادياس إساءةً قد تتناول حياتها بتركه إياها وحيدةً فوق طريق اللصوص والوحوش، فندم أعظم الندم ورجع على الفور القهقرى وهو يعدو عدو الظلوم، فلم يكن الظهر حتى وصل المكان المعلوم، وهنالك فتش عن مضجع لادياس فلم يجدها فكاد الموقف يطير بلبه، ودخل في أشبه الحالات بالجنون فذهب بالبحث في غير كنهه، ومضى من بين الصخور يهيم على وجهه، وكان العقل أنه يسلك الطريق الأقصد الأقصر، طريق الدرب الأصفر. فبينما هو في هيامه يوغل في الصخور إيغالًا، ويذهب فيها يمينًا وشمالًا، سمع زئيرًا مادت له الصخرة الصماء، واهتزت له جوانب الفضاء، فما فزع ولا انذعر، بل وقف يتقصَّى النظر، فإذا هو بأسدٍ هائل كتلة الجسم وقد قصد نحوه يتخطى له الصخر، وهو يهدر كالفحل، فثبت حماس في مكانه، يتراءى للوحش بكل عيانه، ثم اندفع يهتز ويتثنى، ويترنم بهذا الكلام ويتغنى: فكانت هذه الصيحات، وما تقدمها من شدة الثبات، وخفة الحركات، كنذيرٍ للوحش أن القرن ممن يقام له وزن، ولا يستخف له شأن، فتباطأ في مشيته، وتخلى عن كثير من عِزَّتِهِ، حتى صار من بطل الصخرة الصماء وجهًا لوجه ولم يبق بينهما إلا دائرة النزال، والبعد اللازم للتناوُش والقتال. فبدر حماس إلى الأسد وكان الوحش نادرًا في نوعه من؛ حيث الجسامة والضخامة، وطول السواعد وعظم الهامة، حتى كنت تراه بالثيران الوحشية أشبه بالأسود، وكانت له لبد وافية ضافية يحتجب فيها رأسه وتبرز أنيابه من خلالها كأنها المنايا الزرق، وله عينان حمراوان تذيبان الحديد فما بال الإنسان؟ فحين رأى حماس وقد برز له أناف على ساعديه وزأر زأرةً رجعتْ صداها الآفاق، ثم حمل على الفتى حملةً منكرةً، فتخلى عنها وراغ كالثعلب منه ومنها، فعاد الوحش فثنى وهو يكاد يخرق الأرض ويبلغ عنان السماء طولًا من هول دبدبته، وخفته في وثبته، فمرق حماس هذه المرة من تحت بطن الأسد، وهكذا طفق الحيوان يثب تارة ويحوم أخرى، ويجري يمنةً ويصول يسرة، ويقوم ويقعد، ويرغى ويزبد، وحماس يغريه ويجننه، ويطمعه ولا يمكِّنه، حتى خانته قواه، وخذله ساعداه، فوقف وقد فغر فاه، ولم يبق منه حيًّا إلا عيناه. وعند ذلك دنا حماس منه فألقمه اللوح فعضه بأنيابه، فنشبت فيه من شدة الغيظ، وإذ أيقن الفتى أن الأسد عجز تعجيزًا، وأنه صار كالعير أو أسهل قيادًا؛ أقبل عليه يلاعبه ويداعبه، ويتلطف له ويطايبه، كالظافر المعتذر، أو المجامل وهو منتصر، وكأنما أثر كل هذا التعطف في وجدان الليث فأطرق برأسه وجعل يدور حول قاهره ويحتك به ويحتمي فيه، فخطر حينئذٍ على بال حماس أن يحفظ هذه الهدية الفاخرة ليهديها إلى الملك حال وصوله إلى العاصمة، إلا أنه استنكف عن أن يسحب الأسد، ورأى أن ركوبه إياه أسمى له وأجلب للراحة، فترك اللوح في فمه كما هو، ورفع رجله فصار فوق ظهر الوحش، وإذا هو لا يتأبى ولا ينفر، ومن عادة الليث أن يتشامخ ويستكبر. ثم حركه فتحرك يمشي به مستعجل الخطو ناشط الأقدام، ولم يكن حماس يعلم أين يؤم بدابته فملكها الزمام، وسامحها في اللجام، وأرسلها تروم به كل مرام، فما زالت تطوي الصخر نحو الصخر، وتخرج من قفر وتدخل في قفر، حتى مر به الليث على غابته، وهنالك بدت من بعد أنثاه، وإلى جانبها شبلاه، وهي كأنها الفرس الكريم في حُسن المنظر وتناسب الأعضاء، وكأن صغيريها ليثان كبيران، وما اكتملا حولًا من الزمان، فأشفق حماس من هذا العدد، وظنها خدعة من الأسد فاستل خنجره واستعد للقتال راكبًا وهو لا يشم أنها مسبعة، وأن فيها أكثر من هذه الأربعة، ثم أقبلت الأم وولداها يتبعانها وهي تواصل الزئير، تتأهب لتغير، حتى اقتربت من الأسد فلم يكن منه إلا أن أدار نحوها الوجه، ونظر إليها نظرة الزاجر الرادع، ففهمت الإشارة ومشت أمامه ذلولًا صاغرة، وشبلاها في جانبيها يسيران حيث تسير. وما هي إلا ساعة سير على هذه الصورة، حتى بدت لحماس من بعد معالم مدينة تتراءى بين المزارع والجبال. ثم إذا به قد دخل في المعمور، فحين رآه الأهالي ولَّوْا منه فرارًا، ضاجين صائحين متفرقين ذات اليمين وذات الشمال، وهو يدعوهم لتطمئن قلوبهم فلا يزيدهم نداؤُهُ إلا هلعًا وفزعًا، حتى ارتبك في أمره، وخشي أن يعود الحيوان فيثور تلقاء جبن الإنسان، فلم يكن منه إلا أنه ترجل ثم ساق البهائم أمامه، وهو يفتش الطرق والأماكن عن محل يودعها فيه إلى حين. فمر ببعض الملاعب على الطريق مما كان الأهالي يتخذون للمصارعة، وكان متين البنيان على الجدران فعالج بابه فانفتح، وحينئذٍ تحيل إليَّ أن أدخل فيه الوحش وجماعته، وأغلق الباب بعد ذلك كما كان. وكان الناس ينظرون إلى فِعْله هذا مِن بعيد، فلما أيقنوا أن الوحوش أصبحت في الأسر؛ بحيث لا يخشى أذاها، انهالوا عليه مِن كل جانب وهم بين الارتياب فيه والاستغراب، وآنس حماس ذلك منهم فوقف فيهم خطيبًا، فشرح لهم الأمر كما جرى، وأخبرهم كيف تمكن من قهر الوحش ولم يجرِّد لذلك سلاحًا، وكيف بلغ من هيبة الأسد له أنه حمل أُنثاه وولديه على طاعته، وكيف كان له مطيةً ودليلًا حتى بلغ به المعمور بعد أن يئس من بلوغه. فعند ذلك علا تهليلُ الشعب حتى بلغ عنان السماء، ولم يدر حماس إلا بأكاليل الغار، تجعل على رأسه وبالأزاهر تنثر في طريقه وتحت أقدامه، فاستغرب الأمر واستعلم ممن حوله عن السبب، فأخبروه أن الحيوان الذي جاء به وبصغاره أسرى ليس بالأسد كما زعم، وإنما هو الوحش الهائل، وأن تلك القرية قريته المسماة باسمه، لكثرة ما فتك فيها، وأغار على أهاليها، وأن الملك قد أقطعها من يدمر الوحش ونسله تدميرًا، فما بال من يأتي به أسيرًا؟ وأن عددًا كثيرًا من أبطال اليونان، وجند ساموس الشجعان، ذهبوا فريسة هذا الحيوان. ثم إن الصناع في قرية الوحش الهائل اجتمعوا فقرروا فيما بينهم، أن يصنع قفص من الحديد يسع الحيوانات الأربعة لتجعل فيه، ثم يحمل إلى الملك بوليقراط، وبينما هم يباشرون هذا العمل بما في الوسع إتيانه من السرعة، كان حماس يشتغل بتعهد الوحوش وإطعامها وسقايتها، وهي لا تزاد إلا تعلقًا به وألفة له واحتماء فيه. فلم يجئ اليوم التالي إلا والقفص قد خرج من أيدي الصناع، ولم يبق إلا نقل السباع إليه، فأخذ حماس هذه المهمة على نفسه، فادخل فيه الوحش وأنثاه وصغيريه، وجعل فيه زادها وماءها، ثم اجتمع نحو ألف من أهل القرية فحملوا القفص وساروا به قاصدين نحو العاصمة، وكانت المسافة نحوها يومًا كاملًا بالسير الحثيث.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/13/
زفاف لادياس لبهرام
تركنا لادياس شغلًا لوالدها الملك بعد شغل، وهمًّا بفؤاده الرقيق بعد هَم، وإن كان الطبيب الخاص قد اجتهد في التخفيف عليه، حتى أقنعه أن الأميرة ليست مهتلسة العقل؛ بل هي كما يقول الأمير بهرام، مضطربة الوجدان من شدة ما قاست في أسر اللصوص. إلا أن مقالة الطبيب لم تصدق ولا أغنت من حقيقة الحال شيئًا، فإن هذيان الفتاة كان يزداد من اللحظة إلى الأخرى، وكان اختلال الشعور، يظهر عليها كل الظهور، وعلى الخصوص كلما وقعت عينها على الأمير بهرام، أو دخلت معه في كلام؛ إذ تتذكر حينئذٍ حقيقة الحوادث وتشتاق رؤية منقذها، فلا تجد في بهرام منه إلا مشابه طفيفة، لا تأسو جراحها ولا تبل صداها. وكان الملك يرى ذلك على فتاته فتزداد آلام فؤاده، ويود في نفسه لو كانت هلكت من أول الأمر، ولم ترد إليه كما هي الآن، جسم ولا روح، وروح ولا حياة، وحياة ولا شعور. ولهذا كانت لا تمر ساعة حتى يدخل عليها، أو يأمر بها فتخرج إليه، فيمتحنها فيجدها في كل ما تقول، وتفعل كما كانت قبل الاختفاء وأعقل، إلا في أمر واحد وهو الاعتراف للأمير بهرام بمنته عليها بالإنقاذ. أما بهرام فقد خشي من أول يوم ظهور صاحب الحق بغتة، فيعطي حماس كنزه الذي وجده، ولا يعطي هو إلا الفضيحة والعار، فعمد إلى حيلة مِن أحسن ما يُتخذ في مثل هذه الأحوال؛ ذلك أنه أوعز في اليوم الثاني إلى الطبيب الخاص بصوت رنين الذهب الفارسي، أن يشير على الملك بتزويج الأميرة في الحال، لعل الألفة إذا انعقدت بينها وبين خطيبها بصفة فعلية؛ تخرج أعصابها من أسر الأوهام. فتوجه الطبيب توًّا إلى الملك واستأذن عليه، ثم بذل له النصيحة مزخرفةً مقبولة، فلم يكن من الملك عندئذٍ وهو في موقف الغريق إلا أن أبقى الطبيب في حضرته، ثم أمر بمجلس الشورى الأعلى للمملكة فانعقد للحين. فلما تكاملت هيئة المجلس أشار بوليقراط لطبيبه أن يتكلم، فقام فألقى على الملأ خطابه، شرح فيها الداء ووصف الدواء ملحًّا في طلب الزواج ووجوب تعجيله، حتى أقنع المجلس كل الإقناع، فقرر قبولَ إشارته بالإجماع، ثم ضرب اليوم الخامس من وصول الأمير والأميرة إلى العاصمة، موعدًا للاحتفال بعقد النكاح في الهيكل الأعظم. وما كاد المجلس ينفضُّ حتى صدرت الإشارةُ السلطانية، لكل ذي شأن بين رجال المملكة بالعمل الذي يرسم له في مثل هذه الظروف ويفرض عليه. وانقضى اليومان الباقيان في تهيئة معدات القران، وترتيب حفلات المهرجان، حتى إذا كان صبح اليوم الخامس يوم العقد لبهرام على لادياس، تحرك موكب الزفاف بالعروسين حاشدًا فاخرًا رهيبًا، أولُهُ في أرحاب القصر السلطاني وآخره في ساحة الهيكل الأعظم. ثم وصلت المركبة العالية فاستقبلها على أبواب الهيكل الملك بوليقراط، وكان قد سبقها إليه يُحيط به الكهنة العظام وسائر وجوه الدولة الفخام، وهنالك نزل العروسان يختالان في أبهى الحلل، يغيران بزينتهما الشمس في رونق الضحى، فمشيا يجتازان سور الهيكل وطرقاته، وهي كأنها بيوت النمل من زحمة الشعب عليها. وكان الملك قد أمر في مساء الليلة التي أسفر صبحها عن يوم القران السعيد، بالإفراج عن المساجين فخرجوا مئات يؤدون شكر هذه المنة بالدعاء لجلالته في الهيكل وخارج الهيكل، ويتيمنون بطلعة من هي السبب في هذه المزحمة الكبرى. حتى إذا بلغت الحفلةُ تمامها، وأخذت الرسوم فيها نظامها، ولم يبق إلا صدور الإشارة السلطانية للكهنة بالشروع في العمل، لم يدر الناس إلا بصوت جمهوري مسمع قد خرج من بعض جهات الهيكل، فتفزع الجمع والتفت الملك ومن حوله، فحين آنس صاحبُ الصوت منهم ذلك قام يتراءى لهم بكل عيانه. ثم قال: أنا الساموسي كلكاس، أشهد أمام الآلهة والناس، وأعلم أن الشهادة دين، وأن ليس على الآلهة يمين، وأن كتمان الشهادة، جبن وبلادة، وجرم كجرم الكذب وزيادة، فيا أيها الناس لا تغتصبوا حُقُوق الغير، ولا تنالوا السوي بضير، وأدُّوا لكلٍّ أمانته، ورُدُّوا إلى كل بضاعته. وقال الناس: تكلمْ أيها الرجل. قل … أوجز … أَدِّ الشهادة. قال كلكاس: أيها الناس إن العجلة مذمومة، وإن عواقب التسرُّع مشئومة، فأمهلوني أخبركم اليقين، وآتكم بالعجب بعد حين. قال الناس: هذا مجنونٌ … هذا مهتلس العقل … خذوه … أخرجوه. وكانت الأميرةُ لما ذكر اسم كلكاس عَرَتْها هزةٌ لم تكن بالعهود، وتحنت على أبيها فطلبت منه أن يستمع مقالةَ الرجل إلى آخرها، وأن يعلي محل شهادته، فحين برز الجُند إلى كلكاس ليخرجوه من الهيكل، أشار لهم الملك أن يكفوا، ثم أمر بالرجل فقدم بين يديه. وعندئذٍ حققته الأميرة وعرفه الأمير كذلك فاضطربا، وبَدَتْ على الأولى علامات الدهشة والأمل، وعلى الثاني دلائلُ الحيرة والارتباك. فسأل الملك كلكاس قائلًا: من الرجل، وما عملك، وما تلك الشهادة؟ قال كلكاس: عبد جلالتكم الساموسي كلكاس خادم الأمير بيروس. قال الملك: بيروس؟ وكيف أفلتَّ من حبالة الحكومة يا خائن؟ قال كلكاس: لأنفعك في مثل هذا اليوم يا مولاي. قال الملك: وأين نفعك؟ … هات … أَدِّ الشهادة، وحذار من الكذب. قال كلكاس: أعلم يا مولاي أَنَّ هذا الأمير ليس هو منقذ الأميرة، كما كذب عليك ويكذب الآن على الآلهة. قال الأمير بهرام: أنت الكاذب لا أنا أيها السوقة النذل. قال كلكاس: السوقة النذل تعرفه مولاتي الأميرة، فأنا أترك لها الكلام. قالت الأميرة: بل تكلم أنت يا كلكاس، فما عليك من باس. قال كلكاس: ولكن منقذ الأميرة الحقيقي هو البطلُ حماس، الجهنمي حماس، المارد حماس، إني لا أذكرُهُ يا مولاي إلا وترتعد فرائصي وأكاد أذوب في ثيابي رعبًا. قال الملك: حماس؟ إذن أنت يا لادياس عاقلة ونحن المجانين، اسمع لما يقول كلكاس يا أورستان. قال أورستان: إني أكاد أُجن دهشًا يا مولاي، وأتمنى على الآلهة أن يكون هذا الحديث صدقًا. وفي هذه الأثناء أقبل رجلٌ مِنْ أقصى الهيكل يخترق الجمع حتى إذا اقترب من الملك وأورستان، دخل في حديثهما مندفعًا فقال: وأنا يا مولاي عبدك الساموسي مندراس، أزكي شهادة كلكاس. قال الملك: ومن أنت أيضًا؟ قال مندراس: أحد أصحاب بيروس يا مولاي والوحيد الباقي منهم، اضطررت أنا وصاحبان لي من العصابة إلى النجاة يوم الموقعة على زورق مثقوب لبعض الصيادين، فنزل رفيقاي في الطريق مفضلين المسير برًّا إلى بلادهما، وبقيتُ أنا وحدي في الزورق إلى أن أسرني بحارة الملك، فزُججت في السجن، فلبثتُ فيه أيامًا ثم أخذت بنصيب من عفو الملك بالأمس عن المسجونين. قال الملك: وهل تعرف هذا الأمير؟ وأشار إلى بهرام، فدنا الرجلُ من الأمير وحَقَّقَهُ، ثم عاد، فقال: هذا أولُ عهدي برؤيته يا مولاي. قال الملك: ولكنه يزعمُ أنه منقذُ الأميرة. قال الرجل: أسأل الآلهة ألا يسلطوا عليه منقذها الحقيقي فوا رأسك لو شهد هذا الناعم أهوال ذلك اليوم، لشاب قبل أوان المشيب. وبينما الرجلُ في الكلام سُمعت ضجةٌ عظيمةٌ خارج الهيكل كادتْ تقلقل دعائمه، ثم تلا هذه الضجة زحامٌ شديدٌ على أبواب الهيكل، فأرسل الملك من يأتيه بخبر ذلك، فاندفع الرسول يشق عباب ذلك الجمع الحاشد، ولكنه ما بلغ الباب خارجًا حتى لقيه عليه داخلًا رجل غائب الرأس في أكاليل الغار، كأنه القمر المنير بِشْرًا وجمالًا، أو الأسد الفتيُّ مهابة وجلالًا، فتنحى الرسول حتى تجرد حماس عن سلاحه وكان الناس قد انشقوا نصفين وانقسموا صفين، فتمهد الممر للبطل المصري فقصد نحو بهرام لا يلوي على أحد سواه، حتى إذا صار منه وجهًا لوجه صاح يقول له: هل تم العقد بعد أيها السوقة النذل؟ قال كلكاس: لقد قلتها له قبلك فلم يصدقني يا سيدي حماس، ولكن ليطمئن قلبك فقد حلت دون تمامه، ولولا ذلك لجئت في الزمن الأخير. وكانت لادياس قد عرفت حبيبَها من أول نظرة، فلا تسل عن فرحها به وشدة سكرها من فرط السرور، ولكنها تركت كلمة الفصل في الموقف لوالدها الملك. وكان أورستان قد عرف حماس أيضًا بمجرد النظر إليه، فهمس في أذن الملك بذلك، ثم دار بينهما حديثٌ قصيرٌ كانت نتيجتُهُ أن أورستان تقدم حتى استقبل الأميرة، وخاطبها بصوت يُسمع الملأ، فقال: باسم مولاي الملك أسألك يا مولاتي الأميرة: هل هذا منقذك حماس؟ الأميرة: نعم هو بعينه. قال أورستان: وهل ترضين أن يكون قرينك الكريم. قالت الأميرة: بعد مشيئة جلالة الملك. قال أورستان: كذلك شاء الملك فتقدموا أيها الكهنةُ العظام، وأَدُّوا عملكم بيُمن وسلام. قال بهرام: ولكني أيها الوزير لا أزال على دعواي بإنقاذ الأميرة، وإني أنا نجيتها من الغم لا هذا الرجل، وقد وعدني الملكُ بالقران فلا يفكه من وعده إلا قرار القضاء، إن كان في البلاد شرائعُ ولها قُضاة. فحين سمع الملك والشعب هذه العبارة حاروا ودهشوا، وتحولتْ أبصارُهُم إلى حماس ينظرون ما يكون من جوابه، فالتفت الفتى إلى مُنازعه وقال: البلاد أيها الأمير عامرة بعدل الملك ملآنة من قضاته العادلين، ولكن مسائل الشرف والشهامة يفصل فيها بطريق الشرف والشهامة، فإن كان ولا بد فإن السيف بيننا وهو خير الحاكمين. قال بهرام: وأنا قابل حكمه. قال حماس: إذن فاخرج بنا خارج الهيكل، وهناك تعطي السعادة من تشاء وتمنع من تشاء. فاستحسن الجميع عمل حماس هذا، وخرج الرجلان توًّا يتبعُهُما نفرٌ مِن ضباط الملك، وخلق كثير من نُظَّار الحروب وعشاق المعارك، وبقي الملك والأميرة وسائر وجوه المملكة في الهيكل ينتظرون المبارزة. لا يجول في نفس القارئ عند سماع هذا اللفظ ما كان يجول في أنفُس الساموسيين؛ إذ هم في الهيكل ينظرون ويسمعون، من أن القتال لا بد أن يسفر عن مصرع بهرام، وانتصار حماس عليه لأول وهلة، وحال الصدمة الأُولى. وهذا لأنه لم يعهد في بهرام أنه بطل شديد وكمي صنديد، وأن الذي جعل فيه مشابه خلقية من حماس قد خلقه كذلك على مثاله في ثبات الجأش وشدة البأس؛ بحيث لا يستخف بشأنه، ولا ينزل به كثيرًا عن قرنه، والآن نصف المبارزة فنقول: لما صار البطلان خارج الهيكل ولم يعد يؤخذ عليهما حمل السلاح، ومراس النزال والكفاح، اتفقا على أن يجعلا ميدان الهيكل ساحة الملتقى لقربه من محفل الزفاف. فحين بلغاه اختارا السلاح لا مصريًّا ولا فارسيًّا ولكن يونانيًّا؛ ليكون أقرب للعدل وأجلب لتكافؤ القوى، فوقع الاختيار على الحسام البتار، ثم التف حولهما الشهود كالحلقة المفرغة من فرط الزحام، وشدة الاستحكام، وعندئذٍ بدأ القتال فترك حماس لمبارزه الوثبة الأولى فحمل عليه بهرام بحد الحسام حملة يجفل عن مثلها الحمام، فتنحى حماس فضاعت وطأتها الثقيلة على الهواء، ثم وقف الأمير يلتقي ويتقي وحماس أمامه كالنمر المغضب يروح ويجيء ويصول ويجول، وهو لا يتمكن منه في حركة من الحركات، ولا يغني عنه منه الثبات في الوثبات، حتى عِيلَ صبرُهُ لهذا الحال، وظن أنه غيرُ قادرٍ على خصمه، ورأى الناس عليه ذلك؛ فأوجست الأنفس خيفةً ودب الروع في القلوب. وكان بهرام أول أمره يبارز براز المستقبل المستميت، حتى إذا نظر إلى سواعد الخصم وقد كَلَّتْ ومَلَّتْ، ورأى الخور يأخذ عليه في القتال مأخذًا، عاوده الأمل بالحياة وثاب إليه الرجاءُ بالمستقبل، فازداد قوةً على قوة، واستجمع كالأسد ليعقب الوثبة القاضية. وفي هذه اللحظة زأرت الأُسُود في قفصها فملأ دوي زئيرها الآفاق، وجرى ذلك في خروق مسامع الفتى فنفر كالليث الجريح، وتَرَنَّمَ يقول بلسان فصيح: وعلى أثر هذا النشيد تصادم البَطَلَان، والتقى الخصمان، فكانت الدائرةُ أول الملتقى على حساميهما؛ إذ تحطما من شدة الصدام. ثم طارا عن أيديهما إلى فضاءٍ بعيد، وكان سكر القتال قد أعماهما وأصمهما فلم يشعرا بما أصاب السيوف، ولا طلبا سواها لاستئناف الضراب بل اكتفيا بالسواعد، وما هي إلا هنيهة حتى تماسا فتمازجا فاتحدا، وكان حماس في هذه الأثناء قد شبك يديه من خلف ظهر الأمير، فلم يدر الناس إلا بهما كليهما قد سقطا متحدين كما كانا في حال القتال. وعندئذٍ أقبل الملأ عليهما يحركونهما وهم لا يشكون أنهما فارقا الحياة، أو أن أحدهما بالأقل قد مات، وفي الواقع ما لبث حماس أن خلص جسمه من ذراعي الأمير، وكان كأنه منهما بين ناب الليث والظفر من قوتهما قبل الموت وجمدوها بعده، فنهض الفتى قائمًا بين تهليل الشعب وهتافه، فكان أول ما أتى على إثر هذه الإفاقة أنه جثا عن رأس القتيل ثم قَبَّلَه مِنْ فوق جبينه البارد، وهو يبله بعبراته ويقول: «إلى الحياة الأبدية أيها البطل العظيم، فوا حرمة الآلهة ما وجدت في البشر نظيرك، ولا عهدت في السباع مثيلك.» وكان نبأُ انتصار حماس على الأمير بهرام وقَتْله إياه بالساعد لا بالحسام قد نقل إلى الهيكل في حينه، فسُرَّ الملك ومن معه به سرورًا لا مزيد عليه، وأنه لم يعدل عشر معشار ما استحوذ على الأميرة من الفرح والحبور. فصدرت الإشارة حينئذٍ بعودة البطل حماس إلى الهيكل، فعاد بين خلقٍ لا يُحصى ممن شهدوا الموقعة، وهو يكاد ينوء بأكاليل الغار، ويختفي فيما ينثر عليه أينما سار، من ورق الغصون والأزهار، فلما تراءى شخصه آيبًا قُوبل في الداخل بمثل ما لقي في الخارج من ثناء الناس وإعجابهم، وإشارتهم إليه أينما توجه بالبنان. حتى إذا اقترب من الملك تقدم بوليقراط فصافحه ثم قبله وهناه على ما نال من عظيم الفوز وباهر الانتصار، وحذا عظماء المملكة بعد ذلك حذو سيدهم فَتَقَدَّمُوا واحدًا بعد واحد فصافحوا بطل اليوم والأمس وهنئوه بما أوتي من صفات الشجاعة الجلائل. وبعد ذلك أشار الملك إلى الكهنة أن يعملوا عملهم، فاعترضه حماس قائلًا: «إنني أعد مصاهرة الملك من أشرف النعم وأَجَلِّ السعادات، ولكني أتمنى على جلالته أن يجعلني على وعد منها الآن، حتى أستوفي الشرطَ الأولَ من شُرُوط القران، أما العقد فلا يكون إلا في آخر هيكل من الهياكل الأربعين اليونانية، التي سأبنيها لعروسي الفخيمة في بلادي ووطن آبائي وأجدادي.» فلم يبق في نفس أحدٍ من الحضور تلقاء هذا الشمم العالي شكٌّ أن بين جنبَي الفتى نفس ملك عظيم، وأن رجلًا يكون بهذه الصفات النادرة، وعلى هذا الجانب من شرف الأخلاق، يسير عليه إذا عقد العزم أن يقول ويفعل، إلا أنه لم يَسَعِ الملكَ — على إثر ذلك — إلا قبول إشارة حماس على ما فيها من التطوح في الآمال، والتطرف في الثقة من الحال والمآل، فأجاب صهره بأنه راضٍ بما قضى به، وأن لادياس منذ اليوم وديعة لدى أبيها يطلبها متى شاء. ثم انفض المجلس وخرج الملك ويده في يد صهره وهُما يتحادثان، ثم صعدا في المركبة السلطانية فسارت بهم تشق عباب الجماهير من أهالي ساموس وهم بين المهابة في حماس وإكبار، حتى بلغت القصر، وهنالك هُيئت له المقاصير اللائقة بمكانه من نسب الملك، وحمل إليها جميع ما تشتهي النفس من دواعي الراحة وفرط النعيم، ثم عرضت من بعد ذلك عليه أن يقيم بها ما شاء، ويرحل عنها متى شاء، فرغب الفتى في أن تكون مدة إقامته في ضيافة الملك شهرًا من الزمان. كان المصريون قد فقدوا كرامتهم من زمن في أعيُن الأمة الساموسية وسائر الأُمم الأجنبية؛ وذلك بسبب ما اشتهر عن فرعون أبرياس (ملك مصر يومئذٍ) مِن نقضه عهده مع الملك سيدياس ملك يهودا من بلاد فلسطين، وكان قد عاهده أن يمده بجيوشه لحماية مملكته من غارة الملك بختنصر، حتى إذا أغار الأشوريون على بلاد سيدياس لم تكن جنود مصر وصلت لتنجد الضعيف على القوي، فوقع بيت المقدس في قبضة بختنصر، فنشأ عن ذلك فُقدان كرامة المصريين في أعيُن الأمم المعاصرة، بعد أن كانوا إلى ذلك الحين المثال المحتذَى بين الشعوب في كرم العهد ورعاية الذمام. على أن خيانة الملك هذه كانت أَشَدَّ تأثيرًا في رؤساء الجنود المصرية أنفسهم منها في الأجانب؛ لأنها إنما تَمَسُّ كرامة الجيش مباشرةً وتوصل الأذى إلى شرفه الرفيع. وكان حماس من ضباط الطراز الأول في الجيش، وله سطور في سجل الانتصارات المصرية، وكان قد اتصل أخيرًا بخدمة الملك الخصوصية، فأُتيح له أن يطلع على نوايا أبرياس، نحو الملك سدياس، وما يضمر من خذلانه والتخلِّي عنه ساعة الشدة، فعارض في ذلك أشد المعارضة، وكان وحده في معية الملك لسان الجيش والمدافع عن شرفه وكرامته، حتى إذا أَخْفَقَ مسعاه لم يجد بدًّا من الاستقالة فاستقال. وكانت أحاديث لادياس في ذلك الحين قد ملأت الآفاق، وأخذ الشجعان في كل البلاد يشتغلون بأمرها وينظرون إليها عن جوهرة في صدف الأخطار، لا يغوص عليها إلا كل مخاطر عنيد جبار. وإذا كان حماس في جُملة مَن بلغتهم أوصاف الفتاة، وما يعترض دون اقتناصها من الصعوبات، التي تكاد تكون من المستحيلات، لم يلبث أن زينت له البطالة ركوب هذا المسلك الوعر، والتماس المزيد من الشهرة في اصطياد عنقاء ساموس، فاشترى لهذه الغاية مركبًا ثم سافر عليها قاصدًا الجزيرة، فالتقى في طريقه بمراكب أورستان، وكان من أمره المعروف بعد ذلك ما كان. هذه كلمةٌ نُوردُها عن حماس، وهو على أبواب مصر، ليعلم القارئ كيف كانت صفات الفتى، وهو في عنفوان صباه، وما كان عليه من قوة العزيمة، وثُبُوت الإرادة وشدة الإقدام، إلا أَنَّ المدةَ التي ارتاح إلى أن يُقيمها في قصر الملك ضيفًا كريمًا على بوليقراط وأهل بيته ورجال حاشيته، كان من شأنها أن تحدث تَغَيُّرًا عظيمًا في أخلاقه وأطواره، لا بد تَظهر نتيجتُهُ في مستقبل الأيام، فَإِنَّ التمدُّن اليوناني وهو أدبيٌّ محضٌ كان أجمع لشمل اللذات، وأوعى لصنوف الطيبات، وأسمى بالقوى العقلية لعلى الدرجات، من الحضارة المصرية التي هي بعكس الأُولى محض مادية، لم توف قسطها من الفُنُون الجميلة، ولم يرزَق أصحابها هبة الفكر الجليلة. فكان حماس من قصر الملك في معرضٍ جامعٍ لأسمى مظاهر تَمَدُّن اليونان القديم، وأبهى مجالي عزهم والنعيم؛ حيث التفت فوجد حوله عقولًا في درجة عالية، وأفكارًا في منزلةٍ عظمى، ولغةً مملوءة من الحياة قادرةً على الغايات، وفنونًا جاوزتْ في الجمال حد الجلال؛ من نقشٍ وتصويرٍ وغناءٍ وموسيقى وشعرٍ وخطابة، إلى غير ذلك مما هو الصبغة الخاصة بالمدنية اليونانية القديمة، فلا غرو أن يكون للفتى من ذلك كله خير مدرسة متممة لما هو عليه من الأخلاق المصرية القويمة. حتى إذا أوشك الشهر ينقضي، ولم يبق إلا أن يستعد حماس للسفر عائدًا إلى بلاده، أمر الملك بثلاث من السفن السلطانية، فهيئت ركابًا له تحمله إلى حيث يريد الذهاب. ولما كان يوم الرحيل ركب في واحدة منها، بين خلقٍ لا يُحصى من الشعب الساموسي خاصة، مشيعين ضيفهم العالي بالقُلُوب والأبصار، ثم تحركت الفلكُ تشق به العباب وتغالب التيار.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/14/
نظرة تاريخية
كان الحاكمَ على الأقاليم المصرية في الزمان الذي نحن بصدد الكلام عنه، ملكٌ من ملوك العائلة الإحدى عشرية، يقال له فرعون أبرياس. وكان قليل المهابة ساقط الشأن في الداخل، ميت الذكر في الخارج، لا من الفراعنة المحاربين، ولا من عُشَّاق السلم الممدنين، لكن من فريق يمرون بالعرش مرًّا، وما أجلسهم عليه إلا الميلاد، ولا نالوه إلا بفضل الآباء والأجداد. وكانت مخايلُ السعادة حين ذاك لأمةِ الفرس، فبينما إفريقية نائمةٌ بنوم مصر ساكنةٌ بسكونها، كنت ترى آسيا تموج وتتحرك، وهي من العناية على وعد، والجواري يجرين لها بالسعد، وقد شرع الدهرُ يمثل على مسرحها الهائل روايةً مما يخرج للناس بين العصر والآخر، علا فيها فوق علياء الفراعنة ودك بغيهم ببغي من مثله، والله للباغين بالمرصاد. وما بطلُ رواية الدهر في هذه المرة إلا الملك الأشهر كيروش ملك ملوك فارس وميديا، وكان أول إقباله وبداية فتوحاته مشتغلًا بإخضاع البلاد المجاورة التي هي طُرُق جيوشه الجرارة، وشعاب عارضها الهطل إلى شاسعات الممالك وبعيدات الأمصار. إلا أن فارس مع ما هي عليه من سعود الطالع ويمن الأمر، والثقة من الدهر، كانت لا تزال تهاب مصر في ماضيها بقدر ما كان ملكها الأشهر كيروش جميل الظن في الحضارة المصرية، شديد الإعجاب بها، مؤملًا منها المنفعة لمملكته الناشئة، والخير لأمته الحديثة العهد بالفخار والمجد، وكل مَن قرأ تاريخ هذا الملك الحكيم، وتأمل معاملته لفرعون مدة حكمه الطويل؛ عرف — لأول وهلة — أنه إنما كان يُريد أن تبقى مصرُ ولو إلى حين، بمثابة مدرسةٍ كبرى للفُرس يحذون في المجد مثالها، ويسيرون فيه على نهجها الفاخر الجليل. إلا أن مثل هذه الحكمة من ملك فاتح مغوار مثل كيروش، لم تكن لتبقى سليمةَ الخلال، مأمونة الاتصال، إلا إذا قوبلت بأعظم منها من لدن ملوك مصر، وإذ كان فرعون إيرياس دون هذه المهمة رأيًا وذكاء، وحذقًا في السياسة ودهاء، فقد ظلت مصر في أول أيامه على خطر الوقوع يومًا ما في قبضة الفرس. على أن الدهر وهو قد عود مصر أن يعطيها من حيث يحرم، وأن يؤمنها من حيث يخيف، كان قد أحتاط لملكها فهيأ له مَنْ هو أصلح له ومَنْ يقيه السقوط في الهوة، التي كان أبرياس يدحرجُهُ إليها، أصلح له ومن يقيه السقوط في الهوة، التي كان أبرياس يدحرجه إليها، فإن الجند في مصر ما لبثوا أن سخطوا على الملك وسياسته المبنية على هجر المعالي، معالي الفتح والانتصار، والانكماش في مثل سلوك البهائم حتى أوشك الشرف العسكريُّ المصريُّ أن يؤذى من دوام هذه الحال. ولم تكن حركة الخواطر في الجيش ضد الملك بأقل منها في سائر جهات الحكومة، وعلى الأخص في دوائر الصناعة التي مات يومئذٍ بموتها خلقٌ كثير. إلا أَنَّ الفتنةَ ما زالت نائمةً لا يجسر أحد على إيقاظها، حتى اشتدت القلاقل الداخلية فظهر فيها جبن الملك في غاياته، وبدا للناس منه الحمق عند نهاياته، فطمع فيه من طمع، وتجرأ عليه من تجرأ، وأصبح الأمر فوضى، واستعد الجيش والشعب في مصر لظهور جندي سعيد يأخذ التاج غصبًا، وهذا الجندي هو البطل حماس — كما سترى بعد.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/15/
الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
كانت شهرةُ حماس وأنباء شجاعته الفائقة قد سبقتْه إلى وطنه، فكان لها أحسن تمهيد من ماضي الفتى في خدمة الجيش، والصفات العالية التي طالما امتاز بها من بين أقرانه. وإذ كانت أخبار الشجعان في كل أين وآن، يغالي فيها ويبالغ حتى تبلغ إلى الخرافات، فقد صارت أحاديث حماس في مصر موضعَ اشتغال الأطفال، فما بال الرجال، وأصبحت هي الحكايات والأمثال، فنشأ عن ذلك تمكن حب الفتى من قلوب الشعب وسريان المهابة له في الأنفُس، قبل أن تطأ قدمه تربة الوطن آيبًا من جزيرة ساموس. ولم يكن لحماس حاسد على هذه الشهرة الفائقة سوى الملك أبرياس، إلا أن الغباوة دفعت به إلى تدبير حيلة يبرأ الصبيان منها، وذلك أنه يعيد حماس بمجرد وصوله إلى وظيفته في البلاط، وكان الفتى قد استقال منها قبل سفره إلى جزر اليونان، بلا باعث سوى كونه ضابطًا ذكيًّا حرًّا يقول الحق ولا يحيد في حال من الأحوال عن الصدق، وللأسباب التي تقدم ذكرها فأراد الملك هذه المرة أن يطفئ نور حماس، باستخدامه في القصر؛ حيث الأيدي مغلولة عن الأعمال، وحيث مظهر الملك والسلطان فوق كل مظهر وشأن. فلما وصلت السفينة اليونانية المقلة لخطيب لادياس، كانت على الشاطئ حوالي نقراطيس «فوه الآن» خلائق لا يحصى لهم عدد قد أتوا من أقاصي البلاد، لتحية بطل مصر الشاب حال وصوله وعرفانه بالذات، مثل ما عرفوه بالصفات. وكان الجمع من كثرة العدد وشدة الزحام؛ بحيث لم يكن عسيرًا على حماس أن يقوم بعمل عدائي تكون نتيجته وبالًا على البيت المالك، وتستحيل شرارته في أقرب وقت إلى جمرة لا طاقة لأبرياس بإطفائها، إلا أن نشوة الشهرة لم تغلب الفتى على حزمه وقوة عقله، فوقف بالآمال عند حده، مكتفيًا بهذه الخطوة الأُولى العظمى في سبيل المجد والفخار. حتى إذا ألقت السفينة مراسيها، ونزل حماس عنها تحوطه السفينتان الأخريان، كأنهما لعقاب فلكه جناحان، ضجت الألوف من الناس بالهتاف الشديد الموصول، وكان أول من تقدم فحياه مصافحة رسول الملك أبرياس، وكانت له أيام على الشاطئ ينتظره مع المنتظرين، ويفتش عنه السفين بعد السفين، فحين وقعت عليه عينه خف لاستقباله وبالغ له في الخطاب، ثم أخبره أن أنباء الشجاعة الفائقة كانت ترد على الملك أولًا بأول وفي حينها، وأن جلالته كان يسر بها ولا يستكثرها على صفاته العالية المعلومة لديه، وأنه من أجل ذلك كله وتذكارًا لخدماته السابقة الجليلة في الجيش قد قلده رتبة القائد، ورقاه لوظيفة حارس أول لذاته الفخيمة. فتلقى حماس خبر هذا الإنعام بالقبول الحسن والشكر الوافر، وهو في نفسه حذر من الملك مرتاب، ثم قدم له الرسول جوادًا كان قد أَعَدَّهُ لركوبه، فركب الرجلان وسارًا من فورهما قاصدين مدينة ساييس (صان الحجر الآن) لمقابلة الملك في قصره بها.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/16/
أين اللوح؟
كان وصول حماس ورفيقه إلى ساييس ليلًا؛ أي بعد أن نام الملك وهدأت المدينة، فلم يبق بها مِن ساكن يخشى تحركه، وكأن هذه أيضًا حيلة من أبرياس دبرها في نفسه، ثم أوعز إلى رسوله المرافق لحماس بإنفاذها، فأنفذها على ما يرام. وفي الواقع كان باب المدينة الذي دخل منه الرجلان لا يزالُ مفتوحًا، مع أن الأُصُول المتَّبَعة يومئذٍ لم تكن تسمح ببقاء أبواب المدينة مفتَّحة إلى مثل الساعة التي وصل فيها حماس من الليل. ثم إن الفتى لَمَّا وصل إلى القصر؛ ليقضيَ بقية الليل في غرفةٍ منه — كما هو من واجبات وظيفته الجديدة — وجد أبوابه مفتحة كذلك، كأنها تنتظره ريثما يصل ثم تغلق، ولم يكن من الأُصُول أيضًا أن تبقى أبوابُ القصر مفتحةً بعد انصراف الناس منه، ودخول الملك إلى مقاصير الحرم. فاستنتج حماس من هاتين الحادثتين أن الملك اتفق هو ومندوبه أن يكون وصولُهُ مع حماس في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل؛ لكيلا يشعر أحدٌ بقدومه، فتتولد في المدينة حركة لا تُحمد عقباها، إلا أن الفتى لم يعر هذا العمل الصغير كبير اهتمام، بل استمر في محادثة رفيقه وملاطفته، حتى صار على باب الغرفة الخاصة بالحارس الأول في القصر، وهنالك شكر للضابط حسن قيامه بتلك المأمورية التي يعدها من الملك تشريفًا له لم يكن يستوجبه، ثم تركه ودخل مقصورةَ نومه لينام، وما كادت المضاجعُ تطمئنُّ بجنبه حتى أخذه الكرى، فرأى في منامه نفس الرؤيا التي رآها وهو على الدرب الأصفر؛ إذ هو بجانب لادياس، وإذ هما يتوسدان الحصى والرمال، فهَبَّ من نومه بحالة المجنون وهو يصيح: أين اللوح؟ أين اللوح؟ وعندئذٍ لم يدر الفتى إلا برجلٍ يتقدم نحوه في الظلام وهو يقول بصوتٍ منخفض: لا تخف يا سيدي حماس، لا تخف يا سيدي حماس، إنني مِن أصدق محبيك وأكبر أنصارك، ولولا ذلك ما استهدفت بحضوري في مثل هذه الساعة ودخولي غرفتك على هذه الصورة، فانزلْ عن سرير نومك وأنا أُريك أين اللوح. فما استتم الرجل حتى كاد حماس أن يطير لُبُّه دهشًا واستغرابًا، فقال للرجل بلسانٍ معقودٍ بالحيرة: ومن ذا الذي أتى باللوح من ميدان الهيكل، وأنا على يقينٍ أنني تركتُهُ نسيًا هنالك عندما كنت أُبارز بهرام. قال الرجل: لا، بل هو هنا يا سيدي هنا … أمامك … تحت قدميك فانزل وأنا أريك إياه. قال حماس: لعلك مجنونٌ أيها الرجل أو أنت آتٍ لتفتك بي غدرًا، فإن كان لك في الحياة أرب، فاخرجْ من فورك، وإلا قتلتك شر قتلة. قال الرجل: بل أنت المجنون يا حماس؛ إذ ليس اللوح على ميدان الهيكل، بل هو أمامك كما قلت لك … تحت قدميك وليس عليك إلا أن تنزل عن سرير نومك، ثم تخطو خطوةً واحدةً لتراه، فانزل هات يدك، إنني ما أتيت لأفتك بك كما زعمت ظلمًا، بل أنا أُريد أن أُنقذ حياتك. ثم إن الرجل أخرج من جيبه فتيلًا فأشعله، فلما تأمل حماس صورةً مفاجئةً في الضوء اطمأنَّ واستأنس ونزل عن مضجعه قائلًا: وأين ذاك اللوح أيها الرجل؟ قال الرجل: ها هو بين عينيك، تأمل! فتأمل حماس أرضيةَ الغرفة، وإذا بالتحقيق فيها لوح لا تكاد العين تعرف حدودَه منها، إلا إذا وجدت من يهديها له، وهو عظيمٌ يكاد يشغل نصف مساحة الغرفة، وقد دار بسرير النوم من جهاته الأربع، فحين حققه حماس رفع عينيه ثم سأل الرجل قائلًا: أوتعني باللوح هذا؟ قال الرجل: وأي لوح يهمك أنت أكثر من هذا، وهو قبرك الذي حفر لك، فبينا أنت عليه في سبات عميق، إذ أنت تحت الثرى في قرار سحيق. قال حماس: لقد حسبتك تتكلم عن اللوح الإلهي، إذ هو وحده يهمني ولا يهمني سواه، فانطلق الآن لشأنك ودعني ونفسي والأحلام، فقد كفى ما قطعت عليَّ المنام. قال الرجل: إن الذي أعطاك الإقدام والبسالة، سَلَبَ منك عقلَك لا محالة، ولو لم أكن أضل منك عقلًا لَمَا سعيت في إنقاذك، ولا خاطرتُ بحياتي من أجلك، والآن فاستعدَّ للقاء حينك، وإني أستودعك النار، وبئس القرار. ثم إن الرجل عالج الباب بلُطف؛ فانفتح فخرج ينسلُّ انسلالًا، تاركًا حماس وحده في الغرفة، وكأنه لم تجر بينهما تلك المحادثة الطويلة، ولا علم حماس من محدثه؛ لأنه إنما يضطجع في فراش المنية، ويقرب نفسه للهلاك كما تقرب الضحية، بل انثنى إلى المضاجع فانغمس في خزها وكتانها، وقد ذكر باللوح لادياس، وأيامًا تقضت له في البؤس بسببها، ثم في النعيم بقربها، فتهيج ساكن أشجانه، وتأجج كامن نيرانه، وأخذ يعض بنان النادم الآسف على ما أفات نفسه من نعمة الحصول عليها، ونعيم المقام لديها، على حين قد تهيأت له المنى، وكان له عن كل ذلك الطمع غنًى. وبينما هو في هذه الأحلام، بين اليقظة والمنام، لم يدر إلا باللوح كان وطاء، فصار غطاء، ثم بالسرير يهوى به في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى استوى على مثل اللحد الضيق من الأرض، فاستقر به الهبوط هنالك فنهض حماس واقفًا؛ حيث ما في الموت شك لواقف. ثم التفت فرأى الجُند من كل الجهات وقد سددوا نحوه السهام، لا ينتظرون إلا الإشارة ليذيقوه كأس الحمام، فصاح عندئذٍ قائلًا: (أخيانة يا قوم؟) فلم يجبه إلا الكهنة من خلف الجند بنشيد الموت المحزن الرائع، فلم يبق في نفس الفتى شك ساعتئذٍ أن الملك قد اغتاله، وأن منيته قد دنت لا محالة، إلا أنه تَجَلَّد للشماتة، ولبس للموقف لبوسه من الاستجماع والوقار، فقال يخاطب الجلادين (إذن فاعملوا عملكم؛ فإني مستعد للقاء الدار الأبدية) فلم يجبه في هذه المرة أيضًا إلا الكهنة من خلف الجُند بنشيدِ الموت المحزن الرائع. وكانت هذه الهنيهة بين النشيدين كافيةً لرَدِّ العاشق إلى ادكار معشوقه، والخاطب إلى الفكر في خطيبته، وما وعدها من مستقبل بالحب سعيد، وعيش في الهناء مديد؛ بحيث أصبح دَيْنًا عليه أن يحيا لتحيا منها الآمال، وأن يعيش من أجلها على كل حال. وعلى إثر هذه الخطرات جبن البطل وخذلتْه نفسُهُ الأَبِيَّةُ لأول مرة، فسكبت عيناهُ الدموع وهو يرفعُهما نحو سماء الحب ويقول: (أيها الآلهةُ العِظَام ثبتوا برحمتكم أقدامي، وأعينوني على رؤية هؤلاء الجلادين) فجاءه هذه المرة أيضًا من الكهنة خلف الجند يشيرون بنشيد الموت المحزن الرائع. وعندئذٍ أيقن حماس أن الإشارة صادرةٌ للجُند لا محالة، فأمسك عن الكلام، وسدد صدره نحو السهام، كمن يستحثُّ الحمام، وفي هذه الأثناء تَنَحَّى الجنديُّ الذي أمام حماس، وقال بصوت جهوري رهيب «الملك». فحين سمع سائر الجُند هذه الكلمة، أمالوا الأسلحة وانحنَوا بهيئة تعظيم يستعدون لتحية الملك، حتى إذا تراءى شخصه كان حماس أول مُؤَدٍّ للتحية، فأشار أبرياس للجُند أن يبتعدوا ففعلوا، ثم قال يخاطب حماس: أعرفت أين أنت الآن يا حماس، أرأيت كيف أمسيت؟ قال حماس: أسيرُ احتيالك يا مولاي، ورهين اغتيالك، فعجل؛ لَعَلِّي أستريح من رؤية هؤلاء الجلادين. قال الملك: ولكني إلى العفو أميل يا حماس. قال حماس: وهو منك أحرى يا مولاي. قال الملك: لكن العفو معلق بشروط ثلاثة، فإن تحققت حصل، وإلا فلا سبيل إليه. قال حماس: وما هي هذه الشروط يا مولاي؟ قال الملك: أن تعترف أولًا أنك استوجبت عقوبة الإعدام، بما صرحت به في ساموس من تعلُّق آمالك بالملك، وسعيك في اغتصاب تاجي وعرشي، وثانيًا أنْ تكتب إلى بوليقراط بأنك لم تَعُدْ تطمع في ملك سيدك ومولاك، بل تكتفي بما بلغت إليه في حكمه من رفيع الرتب وعظيم المناصب، وثالثًا أن تقسم بالآلهة وبالشرف العسكري أنك لا تخونني ولا تتصدى لإيذاء عرشي، بل تكون له طول حياتك الخادم الأمين، والناصر في الملمات والمعين، وهذا كله بالكتابة وفي هذه الورقة، قال هذا، وقدم للفتى طرسًا وقلمًا ودواة، فتردد حماس بادئ بدء بين قبول هذه الشروط ورفضها، إلا أَنَّ البطل لم يلبث أن انخذل، وناب العاشق فامتثل. فمد حماس يده وأخذ من الملك أدوات الكتابة، ثم كتب جميع ما أملى عليه ووضع اسمه بعد ذلك في أسفل الورقة، ثم دفعها إلى أبرياس، فتناولها فَرِحًا مسرورًا، وقرأها فألفاها كل ما طلب وأزيد، فطواها وجعلها في بعض جيوبه، ثم التفت إلى حماس فقال: الآن عفوت أيها القائد، وأعلم أنه لا تمضي أيام قلائل حتى أكون قد نقلت كبير حرسي إلى وظيفةٍ تليق به في الجيش ثم أجعلك مكانه، فتكون قد رقيت في شهر واحد لرتبتين مِنْ أسمى الرُّتَب في المملكة، ووليت منصبين من أرفع المناصب فيها. قال: وأنا عاجز عن الشكر يا مولاي تلقاء هذا الكرم الباهر، وليس عندي ما أقدمه سوى الدعاء بدوام وجودك، قال: إذن فاطرح نفسك على السرير كما كنت، وهو يخف بك صاعدًا حتى يبلغك غرفتك، قال: سمعًا وطاعة واضطجع في السرير كالنائم، فتقدم الجند عندئذٍ وحركوا الآلات فتحرك السرير معها، فلم يكن كلمح البصر حتى صار حماس فوق الأرض بعد أن كان تحتها، فقضى بقية تلك الليلة في هواجس وأوهام، ويقظة ملآنة من الأحلام.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/17/
اتفاق غريب
كانت الأيام على حماس والأشهُر تتعاقب عليه وهو في أعلى مكانة من رضوان الملك، بل هو الركن الأعظم في القصر والواسطة في عقد الحاشية، ترد إلى رأيه الآراء، ولا تردُّ مشيئته إذا شاء، وهو يزيد طاعةً وامتثالًا، كلما زاده الملك قبولًا وإقبالًا. وكانت فِرَقُ الحرس وهي يومئذٍ يونانية مستأجرة، وهي تكاد تتفانى في حبه من دون الملك، وهو إنما جذبها إليَّ محبة ذكرى وقائعه في بلاد اليونان أولًا، وبحسن معاملته لها وسيبه في راحتها ورفاهتها ثانيًا. وكان الملكُ قد أنجز حماس ما وعد في الليلة المشئومة، فولَّى كبير الحرس قيادة الجيش الاستعماري في فينيقيا، وجعل مكانه على قيادة الحرس العامة بطل هذه الرواية، فأصبح له بذلك النهيُ والأمر على أكثر من ثلاثين ألفًا من جُنُود الحرس، والإشراف العام على سائر المعسكرات السلطانية في العاصمة. إلا إن طاعة حماس لمولاه وبلوغه في الولاء، إلى هذا الحد لم يكونا ناشئَين عن خوفٍ ولا رجاء، ولا حب ولا استرضاء، ولكن عن محض تقيد باليمين المعلومة، في الليلة المشئومة؛ بحيث كان يخشى أن تغلبه المطامع على دينه، فيصبح له ولأبرياس شأن، وفي الواقع لم يكن يعوز حماس إلا حادثة تحرك من غرامه ما سكن، وتُثير من آرائه ما كمن، لاسيما إن هي أتت من ساموس. فبينما هو ذات يوم في نزهته بالمدينة يمشي في الأسواق، ويمر بمعالم الصناعة ومعاملها، ومخازن التجارة وحواصلها، وقف به المشيُ على دكان لرجل ساموسي من باعة الآثار اليونانية، وكان حماس من المولَعين بصنائع اليونان وبدائعِهم، فلبث هنيهةً يتأمل فيما احتوتْه الدكان من ذلك، وكان لابسًا حلته العسكرية اليومية، فعرف البائع منها أنه مِن عظماء الضباط في الجيش، فدنا منه وكلمه همسًا فقال: لقد آل إليَّ أثرٌ مِن أَنْفَس الآثار، لا سيما في نظر عظماء الضباط أمثالك يا مولاي. قال حماس: وما ذاك. قال التاجر: إكليل من الغار مما فضل عن كبير الحرس القائد حماس، يوم خرج من مبارزة الأمير بهرام ظافرًا منصورًا. فما كاد الرجل يستتم حتى اضطرب القائد اضطرابًا بدت عليه دلائلُهُ، إلا أنه استردَّ جأشه فسأل الرجل قائلًا: وأين هذا الإكليل؟ قال الرجل: في منزلي بالقرب من الدكان، فإن أذن مولاي فلينتظرْني هنا لحظةً ريثما أحضره. قال حماس: على ألا تبطئ عني. قال الرجل: لا تخف يا مولاي وإني مستبشرٌ بوجودك، ولستَ أول من أقبل عليَّ في هذه الأيام من الأغنياء والسراة العظام بفضل اللوح … نعم اللوح … اللوح الإلهي … اللوح الرازق … اللوح المسعد … اللوح المنجي … قال هذا وهَمَّ بالذهاب، فمسك حماس بيده وسأله بلسان يتعثَّر من الدهش قائلًا: ما هذا اللوح أيها الرجل … ما حديثه؟ قال الرجل: حديثه غريبٌ يا مولاي، ولكن لا يهمك، فدعني أذهب لأُحضر لك الإكليل. قال حماس: بل أنا أُحب سماعَه، وربما هَمَّنِي ذلك، فلا تذهبْ حتى تحدثني إياه. قال الرجل: أعلم يا مولاي أنني قدمت مصر من سنتين تاركًا امرأتي وولدي هذا — وأشار لصَبِيِّه — في ساموس، يتعيشان بها من بيع الآثار، كما أفعل أنا في هذه الديار، حتى إذا اطمأنَّ بي المقام في ساييس، وسكنت إلى طول المعيشة فيها، بعثت إليهما أستقدمُهما، فَقَدِمَا بعد أن أشرفا على الهلاك غرقًا، وكانت نجاتُهُما على اللوح الميمون، وحديث ذلك أن امرأتي مشت ذات مرة على ميدان الهيكل في ساموس، فوجدت في طريقها لوحًا من الخشب فحملتْه، وعادت به إلى المنزل، لتجعله حطبًا لنار الطبخ، قالت فلما هممت بكسره أحسست كأن يدي تخونني، ثم حاولت ذلك مرارًا فلم تطاوعني يدي عليه، فتأملت اللوح فوجدته صالحًا لنوم ابني، وكان يومئذٍ في شدة المرض ففرشته له، فوجد الراحة والعافية عليه. قال التاجر: ثم أخذ الرزق يتيسر لامرأتي أسبابه والحياة يتسهل محياها، حتى استبشرتْ باللوح فعظُم ظنها به، واشتد حرصها عليه، حتى إذا استقدمتها حملته معها في السفينة التي ركبت فيها للمجيء إلى مصر، فقدر أن السفينة غرقت فهلك جميع من فيها إلا امرأتي وابني، وكانت نجاتهما باللوح وعليه، هذا يا مولاي حديث اللوح، ولا تسل عما شمل أمري من اليمن منذ وجوده في بيتي، فإن الناس يقبلون عليَّ أعظم إقبال، والرزق يأتيني فيربي عليَّ الآمال. قال حماس: وهل تمكنني من رؤية هذا اللوح؟ قال الرجل: ولم لا يا مولاي؟ قال حماس: إذن فائذنْ لي أن أذهب معك لأراه. قال الرجل: على الرحب والسعة، فاتبعْني يا مولاي. فسار التاجر وحماس يتبعُهُ حتى بلغا المنزل، وكان في نهاية الشارع الذي فيه الدكان فدخلاه، وهنالك طلب الرجل من امرأته اللوح ليريه القائد، فأحضرته فتأمله حماس فعرفه من أول وهلة، فأخذه متلهفًا وما زال يضمه ويقبله وعيناه تفيضان من الدمع، حتى رثى الزوجان لحاله، فسأله الرجل عن السبب ملحًّا فالتفت حماس إليه وقال: هل تبيعني هذا اللوح أيها السيد؟ قال التاجر: لا أبيعه ولو أعطيت فيه خزائن الأرض. قال حماس: ولماذا وما فائدتك منه؟ فإن كان ما تصيب بسببه من الرزق الواسع، فأنا أجزيه لك كل يوم وأزيد، وإن كان … قال التاجر (مقاطعًا): لا تتعب نفسك يا مولاي، فإني أفي لهذا اللوح كما وفَّى لزوجتي وابني، فلو كان لحياتهما ثمن عندي ما تأخرت عن مساومتك فيه. فأطرق حماس برأسه هنيهة، وقد أقشعرَّ بدنُهُ واضطرب وجدانُهُ، عندما تذكر يمينه للوح، وما شهد من وفاء التاجر له على حين كان الوفاء منه هو أحرى، ثم رفع عينيه وقال: هَبْ إن كان الراغب فيه صديقكم حماس! قال التاجر: لقد أشرق البيت بنورك، فأهلًا بك يا مولاي وسهلًا، ولكنني لا أبيعه أحدًا ولو أنه الملك أبرياس. قال حماس: فإن كان في بيعه خير لبلادك وسعادة لقومك، وملك مصر تنهى فيه أميرتكم لادياس وتأمر. قال التاجر: إذن فهي حياة أعز عليَّ من حياة امرأتي وولدي الواحد، وأنا في هذا الحال لا أبيعه بيعًا، ولكن أقدمه تقديمًا. قال حماس: وأنا أطلبه منك على هذا الشرط، ولكني أسألك أولًا: أن تكتم الأمر كل الكتمان، ثانيًا: أن تقبل مني عشرين ألف قطعة من الذهب تأخذ نصفها لك خاصة، وتنفق النصف الآخر في عمل عرش يليق لجلوس الملوك، وتكون قوائمه مصنوعةً من خشب اللوح، ثالثًا: أن تُبقي هذا العرش عندك فلا تقدمه لي إلا إذا علمت أنني في خطر عظيم أو كرب جسيم، قال هذا وناوله قلادةً كانت في جيبه تربي قيمتها على المبلغ الذي وعد به، فتناولها التاجرُ فرحًا مسرورًا، ثم خرج حماس وهو لا يبصر أين يضع القدم من شدة الاندهاش وفرط السرور.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/18/
كلكاس في مصر
كانت حامية منفيس وهي يومئذٍ الحامية الثانية للبلاد مؤلفةً من الجنود الوطنيين الذين لم يكونوا مع الملك في جانب، وإن هم ظهروا في طاعته، واستمرُّوا على الصدق والأمانة في خدمته. وكانوا يحبون حماس ملء القلوب، ويستعين به قوادُهُم على قضاء حاجاتهم لدى فرعون وحكومته، وكانت له المراقبة عليهم بمقتضى وظيفته العُليا في القصر السلطاني، فكان يذهب إلى منفيس بين الوقت والآخر لإجراء التفتيش العسكري، والنظر في شئون الحامية وانتقاد أحوالها. فبينما هو ذات مرة في منفيس يباشر عمله هذا، تقدم إليه رجلٌ متلثمٌ، وقال له بصوت لا يجاوزهما سماعه. – أنا يا مولاي عبدك تاجر الآثار بساييس. قال حماس: وفيم حضورك الساعة وماذا تريد؟ قال الرجل: أُريد يا مولاي أن أَقُصَّ عليك ما أصابني، بسبب العرش الذي صنعته لك من خشب اللوح المعهود. قال حماس: وماذا أصابك؟ قال الرجل: أعلم يا مولاي، أن النار شبت في الغرفة التي هو مخبوء فيها مرتين، فالتهمت جميع ما فيها من متاع وأثاث، ولم يبق مما تأكل النار في المرتين سوى العرش مع كونه خشبًا في خشب، فهو بذلك أول معرض للعطب، وقد لاحظت أنا وزوجتي أن الحريقين حصلا في يومي سرار البدر من الشهرين الماضيين، وكان حصولُهُما في ساعة واحدة وعلى صورة واحدة، وقد رأت زوجتي منذ ليلتين رؤيا هالتها، وأقلقني أنا أيضًا سماعها منها، فعجلت إليك لترى في الأمر رأيك، ولتريحني من وديعتك التي تتهدد بيتي من الأساس إلى السقف، فقد رأت امرأتي أن البيت احترق مرة ثالثة، فغادرته النار تلًّا من رماد؛ وإذ كنت أعهدها صادقة الأحلام تبعتك إلى هذا البلد، فانظر الآن ماذا تأمر. فأطرق حماس برأسه، ثم رفع عينيه ليكلم الرجل، وإذا هو بكلكاس قد كشف اللثام، فحين رآه عرفه أول وهلة، فأشفق من رؤيته وصاح يقول: كلكاس … كلكاس هنا. قال كلكاس: نعم يا مولاي، وإنه رسول الأميرة إليك ليذكرك وعودك وعهودك، وليقول لك عن لسانها إن السعادات بنات الهمم. وإن الفرص إذا لم تغتنم، يندم تاركها حين لا ينفع الندم. قال حماس: وما علاقتك بتاجر الآثار في سييس؟ قال كلكاس: هو أيضًا سفير الأميرة في شئون الغرام، ورسولها من قبلي لتحقيق ذاك المرام. فحين سمع حماس هذه العبارة ازداد دهشًا على دهش، وكاد فؤادُهُ أن تلفظه الضلوع من شدة الحنق، لذكر اسم الحبيبة أولًا، ولغرابة هذه المفاجأة ثانيًا، فقال: أعلم يا كلكاس أنك لا تبرح هذه الديار حتى يكون الأمرُ قد تم، وتكون أنت أول من يحمل البُشرى إلى الأميرة باستقدامها، ولكني أحذرك من الهذي والهذر — كما هو طبعك — وأوصيك بالكتمان الذي لا كتمان بعده، والآن أرى أن تبقى في منفيس تراني ولا أراك، فإذا علمت أني أغادرها آيبًا إلى العاصمة، فاحتلْ على مقابلتي لأطلعك على نتيجة مسعاي. قال: سمعًا وطاعة يا مولاي، وانصرفَ تاركًا حماس في تفكيرٍ وتدبيرٍ، واحتيال على المراد الغزير.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/49242828/
لادياس
أحمد شوقي
كتب شوقي رواية لادياس الفاتنة أو آخر الفراعنة عام ١٨٩٩م، وهي رواية نثرية تاريخية، اتخذت من كل من اليونان ومصر القديمتين مكانًا لها، أما زمن الرواية فيجري في العهد الفرعوني، وقد اتخذ شوقي في هذه الرواية من الحب منطلقًا يبني عليه الحوادث التاريخية، شأنه في ذلك شأن من كتبوا الروايات الأولى في الأدب العربي، وتعتبر هذه الرواية تجسيدًا غير مباشر للواقع الوطني كما يراه شوقي في ذلك الوقت، حيث أثر الصراع المحلي أو الداخلي في نفس المؤلف وفي توجيه فنه الأدبي؛ ونعني بالصراع المحلي أو الداخلي، مظاهر التنازع بين قادة الجيش والشعب من جانب، والجالس على العرش ومستشاريه من جانب آخر، وقد قدم شوقي من خلال هذا العمل الرأي الضمني في التنازع على السلطات بين الجيش والعرش، وكان يقصد ثورة عرابي على الخديوي توفيق، فقد أراد شوقي أن يكون معلمًا بالتاريخ، وواعظًا بالمثل، ومحذرًا بالإيماء والرمز، حين أعجزه الواقع عن صريح الكلام.
https://www.hindawi.org/books/49242828/19/
توفر الشروط
لم يمض يومان على مجيء كبيرِ الحرس إلى منفيس لتعهُّد حاميتها، حتى نشأت حركةٌ بين الجند في جميع معسكرات المدينة، قَلِقَ لها القوادُ كثيرًا، وأخر حماس من أجلها عودته إلى العاصمة، وبسبب ذلك أنه شاع في منفيس أن الجُنُود الاستعمارية في برقة (غربي الديار المصرية) شَقَّتْ عصا الطاعة، وأنها غادرتْ مراكزَها في المستعمرة، زاحفةً على الوطن لعزل الملك وقلب هيئة الحكم. وفي الواقع ما سرت هذه الإشاعة حتى وردت على حماس، أوامر الملك بتهيئة جيش منفيس للخروج إلى مُلَاقاة الثائرين وكبح جماحهم، وتبديد شملهم، قبل توغُّلهم في البلاد، وأنه هو؛ أي الملك، سيفد على منفيس بجنوده اليونانية ليمده بهم إن مست الحاجة، وليحفظ له خط الرجوع فيها إن دارت على جيشه الدوائرُ، فشرع حماس من فوره في تنفيذ الأوامر السلطانية بهمة هو بها جدير. إلا أن السبب في عصيان جيش تونس لم يكن مجهولًا لدى سائر العساكر الوطنية في مصر، وهو احتقارُ الملك للعنصر الوطني في الجيش، وسوء معاملته وتفضيله اليونان المستأجَرين عليه، وإذ كان الجُند كلهم سواء في هذا الشعور، لم تكن حركةُ الخواطر بينهم في منفيس، إلا ناشئة عن مشاركة إخوانهم الثائرين فيما يُضمرونه مِن بغض الملك وما يظهرون. فلم تمضِ ثلاثة أيام حتى أخذت جنود حماس أهبتها واستعدت، فخرج القائد بها إلى ملاقاة العصاة بين استياء الأهالي وكدر الجند أنفسهم، حتى إذا اجتاز بهم أبواب المدينة أقبل عليه كلكاس فعرفه القائد من لثامه، وأنكر عليه في نفسه هذه الجرأة، فركض جواده ليلاقيه حتى إذا اقترب منه سأله قائلًا: هذا وقت الكلام يا كلكاس؟ قال كلكاس: نعم، ووقت العمل يا مولاي؛ فأنت الآن بين طريقين: طريق السلامة لك ولقومك وللأميرة عروسك، وطريق الندامة لك ولجميع مَنْ ذكرت، فأما طريقُ السلامة فالذي أنت تاركُهُ، وأما طريق الندامة فالذي أنت الآن مالكه، فارجع من حيث جئت ولا تترك منفيس؛ فإنها حصنٌ حصين، وركن أمين. فأطرق حماس برأسه هنيهة، ثم التفت إلى مَنْ خلفه من القواد فخاطبهم على مسمع من الجيش قائلًا، أتدرون أيها الصحبُ ما يقول هذا المفاجئ الروحاني؟ قالوا: بلى، قال: يزعم أننا إذا قاتلنا إخواننا المصريين أمطرتْنا السماء حجارة لا طاقة لنا بها، ويزعم أيضًا أن ثورة الجيش في برقة مكيدة دبرها الملك وأصحابه اليونان ليفنونا عن آخرنا، وما يفنوننا ولكن نفني بعضنا بعضًا. فحين سمع القواد المصريون هذه العبارة، فاضت قلوبهم من الحقد على أبرياس، ونقلوها برمتها إلى الصفوف، حتى إذا لم يبق جندي إلا سمعها انقلب الجيش للحين عاصيًا ثائرًا، وصاح بلسان واحد يقول: حماس يحمينا … حماس ينتقم لنا، إلى ساييس … إلى ساييس … فلم يسع حماس عندئذٍ إلا الرجوع بالجنود والمسير بهم إلى ساييس لمقاتلة الملك وجنوده. وكان الجيش اليوناني قد دنا من منفيس فاشتبك القتال بين الفريقين، واستمر من الضحى إلى الأصيل حتى قتل من الجانبين خلق كثير، وكادت النصرة أن تتم لأبرياس وجيشه الجرار، إذ تراءى على ساحة القتال رجل يحمل عرشًا من أنفس ما رقا الملوك، وهو يصيح قائلًا: هذا عرشُ السلام، سخره الآلهة للملك حماس أمازيس، فما كاد الرجل يستتم حتى ألقى اليونان أسلحتهم خاذلين الملك، مُنْفَضِّين من حوله، وأجلس القواد زعيمهم على العرش ثم حملوه على الأعناق، وجعلوا يطوفون على الصفوف من أهالي وعسكر، وقبض على أبرياس، ثم تحرك الجيش معتزًّا بالملك الجديد، وهو يسير به إلى العاصمة حتى دخلها ليلًا، فإذا هي مفتحةُ الأبواب تستقبل الملك القائم بأكمل ترحاب، وعندئذٍ أمر حماس بالملك الأسير فسِيق إلى القصر مُرَاعًى مكرمًا حتى ينظر في أمره. إلا أن الشعب تجمع حول القصر يلح في طلب أبرياس، والملك المعزول يسمع تهديده ووعيده حتى يئس من الحياة، فأرسل إلى حماس في الفجر يطلب منه الأمان لبنته الواحدة ولم يكن له من الأهل سواها، فأجابه حماس إلى طلبه، وأنه يحافظ على حياتها ويضمن لها المعيشة اللائقة بها من بعده، فحين ورد هذا الجواب على أبرياس أخرج من جيبه ورقة مختومة وناولها الأميرة وقال لها: احفظي وديعتي لدى الآلهة هذه الورقة، فإنها صك منهم بالانتقام لأبيك من الغادرين، ثم قبلها وموج الدمع يحول بينهما، وخرج بعد ذلك إلى الشعب فلقي منيته للحين، وما اطمأن السرير بأمازيس حتى أرسل كلكاس إلى ساموس في وفد من وجوه المملكة وسراتها يستقدمون لادياس، حتى إذا قدم موكبها الفاخر زُفَّت إلى الملك زفافًا مشهورًا، ألقى في يومه أساس أربعين هيكلًا في الأوطان لمعبودات اليونان، فكملت بذلك الشروط الثلاثة للقران. تليها رواية دل وتيمان أو آخر الفراعنة، وهي متممة لها ويعرف القارئ منها كيف زال ملك الفراعنة.
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/70241851/
الملِكُ عَجِيبٌ
كامل كيلاني
تحكي القصة عن تفضيل الملك عجيب وحبه للسفر والبحر، وعن مغامراته مع جبل المغناطيس.
https://www.hindawi.org/books/70241851/1/
الملِكُ عَجِيبٌ
كَانَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» يُحِبُّ الْبَحْرَ مُنْذُ نَشْأَتِهِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْعَرْشَ أَكْثَرَ مِنَ الأَسْفارِ فِي الْبَحْرِ، وَنَسِيَ الاِهْتِمامَ بِرَعِيَّتِهِ، وَتَرَكَ الْعِنايَةَ بِأَمْرِ الْمُلْكِ وَإِقامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ. وَكانَ كُلَّما عادَ مِنْ رِحْلَةٍ اشْتاقَ إِلَى غَيْرِها. وَفيِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَعَدَّ لِلسَّفَرِ سَفِينَةً كَبِيرَةً وَأَخَذ مَعَهُ كَثِيرًا مِنْ حاشِيَتِهِ. وَسارَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ في عُرْضِ الْبَحْرِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَكانَتِ الرِّيحُ طَيِّبَةً، وَالْبَحْرُ هادِئًا. ثُمَّ هَبَّتْ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَظْلَمَتِ الدُّنْيا وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ، وَظَلَّتِ الْأَمْواجُ تَلْعَبُ بِالسَّفِينَةِ وتُهَدِّدُها بِالْغَرَقِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ. وَمَرَّتْ بِهِمْ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَهُمْ فِي أَشَدِّ الْقَلَقِ لِهيِاجِ الْبَحْرِ، ثُمَّ هَدَأَتِ الْعَاصِفَةُ. وَقَامَ رُبَّانُ السَّفِينَةِ لِيَتَعَرَّفَ: أَيْنَ هُوَ. وَما إِنْ تَحَقَّقَ الرُّبَّانُ الْأَمْرَ حَتَّى صَرَخَ وَبَكَى، وَلَطَمَ وَجْهَهُ مِنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ. فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ»: «ماذا حَدَثَ؟» فَقالَ لَهُ الرُّبَّانُ وَهُوَ يَبْكِي: «لَقَدْ هَلَكْنا. هَلَكْنا يا مَوْلايَ!» فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «وَكَيْفَ هَلَكْنا وَقَدْ هَدَأَتِ الْعاصِفَةُ، وَزالَ عَنَّا الْخَطَرُ؟» فَقالَ لَهُ الرُّبَّانُ: «انْظُرْ إِلى هذا السَّوادِ الَّذِي يَلُوحُ لَنا مِنْ بَعِيدٍ؛ إِنَّهُ جَبَلُ الْمَغْنَطِيسِ. وَسَتَدْفَعُنا الْأَمْواجُ إِلَيْهِ غَدًا، وَيَجْذِبُ الْمَغْنَطِيسُ كُلَّ ما فِي مَرْكَبِنا مِنَ الْمسَامِيرِ؛ فَتَتَفكَّكُ أَلْواحُهُ وَنَغْرَقُ جَمِيعًا في قَرارِ الْبَحْرِ.» فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ: «أَلَيْسَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تَبْعُدَ بِنا عَنْ هذا الْجَبَلِ؟» فَقالَ لَهُ الرُّبَّانُ: «كَلاَّ يا مَوْلَايَ؛ فَإِنّ الْمَغْنَطِيسَ يَجْذِبُ مَرْكَبَنا إِلَيْهِ. وَلَمْ تَنْجُ سَفِينَةٌ واحِدَةٌ وَصَلَتْ إِلَى هذا الْمَكانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هذا الْجَبَلِ قُبَّةً عالِيَةً، وَفَوْقَها فارِسٌ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُحاسٍ، وَفِي صَدْرِهِ لَوْحٌ مِنَ الرَّصاصِ، قَدْ نُقِشَتْ عَلَيْهِ طَلاسِمُ لا نَفْهَمُها. وَلا سَبيلَ إِلَى خَلاصِ السُّفُنِ مِنَ الْهَلاكِ إِلَّا إِذا وَقَعَ ذلِكَ الْفَارِسُ فِي الْبَحْرِ.» فَحَزِنَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» وَأَصْحابُهُ أَشَدَّ الْحُزْنِ، وَلَمْ يَنامُوا طُولَ لَيْلِهِمْ. وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّاليِ ظَهَرَ لَهُمْ صِدْقُ كَلامِ الرُّبَّانِ؛ فَقَدْ رَأَوُا الْمَرْكَبَ يَنْدَفِعُ نَحْوَ الْجَبَلِ بِسُرْعَةٍ لا مَثِيلَ لَهَا؛ فَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ — لا مَحالَةَ — هالِكُونَ. ومَا إنِ اقْتَرَبَ الْمَرْكَبُ مِنَ الْجَبَلِ حَتَّى جَذَبَ الْمَغْنَطِيسُ كُلَّ ما فِي الْمَرْكَبِ مِنْ مَسامِيرَ؛ فتَفَكَّكَتْ أَلْواحُهُ، وَغَرِقَ رَاكِبُوه. ولكِنِ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» وَجَدَ لَوْحًا مِنَ الْخَشَبِ قَرِيبًا مِنْهُ، فتَعَلَّقَ بِهِ. ثُمَّ قَذَفَتْهُ أَمْواجُ الْبَحْر — بَعْدَ قَليلٍ — إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ، فَرَأَى — لِحُسْنِ حَظِّهِ — طَرِيقًا سَهْلَةً سارَ فِيها حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَعْلَى الْجَبَلِ مِنْ غَيْرِ عَنَاءٍ. وَما إنْ رَأَى الملِكُ «عَجِيبٌ» أَنَّهُ قَدْ نَجا مِنَ الْهلاكِ حَتَّى حَمِدَ اللهَ عَلى نجَاتِهِ، وَصَلَّى شُكْرًا لَهُ عَلى سَلامَتِهِ. ثُمَّ غَلَبَهُ الضَّعْفُ وَالتَّعَبُ فَنامَ لِلْحالِ. وَرَأَى فِي مَنامِهِ شَيْخًا مَهِيبَ الْطَّلْعَةِ يَقُولُ لَهُ: «قُمْ — يَا عَجيبُ — مِنْ نَوْمِكَ، وَاحْفِرْ تَحْتَ قَدَمَيْكَ قَلِيلًا: تَجِدْ قَوْسًا مِنَ النُّحاسِ وَثَلاثَ نِبالٍ مِنَ الرَّصاصِ، عَلَيْها طَلاسِمُ مَنْقُوشَةٌ، فَاضْرِبْ فارِسَ الْبَحْرِ بِتِلْكَ النِّبالِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي الْبَحْرِ وَيَبْطُلُ سِحَرُهُ، وَبِذلِكَ يَسْتَرِيحُ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَأَذاهُ. وَمَتَى تَمَّ لَكَ ذلِكَ فَادْفِنْ هذِهِ الْقَوْسَ فِي مَكانِ الطِّلَّسْمِ؛ فَإِنَّ الْبَحْرَ يَعْلُو حَتَّى يُساوِيَ الْجَبَلَ. فَيَخْرُجُ لَكَ مِنَ الْبَحْرِ زَوْرَقٌ فِيهِ تِمْثالٌ مَسْحُورٌ مِنَ النُّحاسِ، يُوصِلُكَ إِلَى بَلَدِكَ بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ أَنْ تَذْكُرَ اسْمَ الله — وَأَنْتَ فِي ذلِكَ الزَّوْرَقِ الْمَسْحُورِ — لِئَلَّا يَذُوبَ التمْثالُ، وَيَبْطُلَ السِّحْرُ، وَيَغْرَقَ الزَّوْرَقُ لِساعَتِهِ.» فَاسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَهُوَ فَرْحَانُ بِهذا الْحُلْمِ الَّذِي فَتَحَ لَهُ بابَ الْأَمَلِ فِي الْعَوْدَةِ إِلَى بَلَدِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ يَائِسًا مِنْ ذلِكَ. وَبَحَثَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَرَأَى الْقَوْسَ وَالسِّهامَ الثَّلاثَةَ؛ فَضَربَ بِها طِلْسَمَ الْجَبَلِ، فَهَوَى الْفَارِسُ وَالْفَرَسُ فِي الْبَحْرِ، فَدَفَنَ الْقَوْسَ فِي مَوْضِعِ الطِّلَّسْمِ؛ فَارْتَفَعَ ماءُ الْبَحْرِ حَتَّى ساوَى الْجَبَلَ. وَخَرَجَ لَهُ زَوْرَقٌ مِنَ الْبَحْرِ، وَفِيهِ تِمْثالٌ مِنَ النُّحاسِ، فَرَكِبَ الزَّوْرَقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوهَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَحَرَّكَ التِّمْثالُ مِجْدَافَيْهِ، فَسارَ الزَّوْرَقُ بِهِما. وَما زالَ مُسْرِعًا فِي سَيْرِهِ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنَ الْبَرِّ؛ فَفَرِحَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» بِذلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا؛ وَأَنْساهُ فَرَحُهُ — بِقُرْبِ الْعَوْدَةِ — نَصِيحَةَ الشَّيْخِ، فَحَمِدَ اللهَ عَلَى سَلامَتِهِ. وَما كاد يَذْكُرُ اسْمَ اللهِ حَتَّى اسْتَخْفَى الزَّوْرَقُ وَالتِّمْثالُ مَعًا وَغَاصا فِي قَرارِ الْبَحْرِ، وَبَعُدَ عَنْهُ الشَّاطِئُ. فَسَبَحَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» طُولَ الْيَوْمِ فِي الْبَحْرِ حَتَّى ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ الْعَاجِلِ؛ فَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لله وَدَعاهُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ كَرْبٍ فَاسْتَجابَ الله دُعَاءَهُ وَقَذَفَتْهُ الأَمْواجُ إِلَى شاطِئِ جَزِيرَةٍ كبِيرَةٍ فَحَمِدَ الله عَلى نَجاتِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَصَلَّى لَهُ صَلاةَ الشُّكْرِ، ثُمَّ نامَ فَوْقَ شَجَرَةٍ عالِيَةٍ طُولَ اللَّيْلِ. وَفيِ صَباحِ الْيَوْمِ التَّالِي رَأَى مَرْكَبًا كَبِيرًا يَقْتَرِبُ مِنَ الْجَزِيرَةِ، فَصَعِدَ إِلَى شَجَرَةٍ عالِيَةٍ حَتَّى لَا يَراهُ أَحَدٌ، فَرَأَى عَشرَة رِجَالٍ وَفَتى وَشَيْخًا يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَرْكَبِ. ثُمّ حَفَرُوا قَلِيلًا فِي الأَرْضِ وَنَزَلُوا فِي جَوْفِها، ثُمَّ عادُوا فَنَقَلُوا إِلَيْها كُلَّ ما فِي الْمَرْكَبِ مِنْ خُبْزٍ وَدَقِيقٍ وَسَمْنٍ وَفَاكِهَةٍ وَحَلْوَى، وَرَجَعُوا إِلَى الْمَرْكَبِ ولَمْ يَعُدْ مَعَهُمُ الْفَتى. وسارَ الْمَرْكَبُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا وهُوَ يَعْجَبُ مِنْ أَمْرِهِمْ أَشَدَّ الْعَجَبِ. فَلَمَّا اسْتَخْفَى الْمَركَبُ عَنْ ناظِرهِ أَسْرَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كانُوا فِيهِ، فَرَأَى حَجَرًا مُسْتَدِيرًا فِي وَسَطِهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ. فَرَفَعَ الْحَجَرَ، فَرَأَى تَحْتَهُ سُلَّمًا. فَنَزَلَ — وهُوَ يَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ — فَوَجَدَ نَفْسَهُ فِي حُجْرَةٍ واسِعَةٍ مَفْرُوشَةٍ بِبِساطٍ ثَمِينٍ، ورَأَى فِي صَدْرِ الْمَكانِ أَرِيكَةً قَدْ جَلَسَ عَلَيْها ذلِكَ الْفتَى؛ فَزَادَ عَجَبُهُ مِمَّا رَأَى. وَفَزِعَ الْفَتَى حِينَ رَآهُ أَمامَهُ، فَطَمْأَنَ الْفَتَى. وَمَا زالَ يُحَادِثُهُ حَتَّى زَالَ خَوْفُهُ وتَبَدَّلَ رُعْبُهُ مِنْهُ فَرَحًا بِقُدُومِهِ وَسُرُورًا. ثُمَّ قالَ لِلْفَتَى: «كَيْفَ حَضَرْتَ إِلَى هذِهِ الْجَزِيرَةِ الْمُوحِشَةِ؟ وَلِمَاذا اخْتَرْتَ الْبَقاءَ تَحْتَ الأَرْضِ؟» فَقالَ لَهُ: «إِنَّ أَبِي تاجِرٌ مِنْ كِبارِ تُجَّارِ اللُّؤْلُؤِ. وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلَمْ يُرْزَقْ فِي حَياتِهِ أَوْلادًا غَيْرِي. وقَدْ رَأَى فِي مَنامِهِ — يَوْمَ وُلِدْتُ — حُلْمًا مُخِيفًا، فَجَمَعَ الْحُكَمَاءَ ومُفَسِّرِي الأَحْلامِ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ أَجَلِي قَصِيرٌ، وأَنَّ الْمَلِكَ «عَجِيبًا» سَيَقْتُلُنِي بَعْدَ أَنْ يَرْمِيَ طِلَّسْمَ الْجَبَلِ فِي البَحْرِ. وَسَيَحْدُثُ ذلِكَ حِينَ تَبْلُغُ سِنِّي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ. وَمَتى مَرَّتْ بِي أَرْبَعُونَ يَوْمًا — بَعْدَ ذلِكَ — نَجَوْتُ مِنَ الْهَلاكِ. فَأَعَدَّ لِي أبِي هذَا الْمَكانَ في هذِهِ الْجَزِيرَةِ. ولَمَّا عَلِمَ بِوُقُوعِ الطِّلَّسْمِ فِي الْبَحْرِ أَحْضَرَنِي إِلَى هُنا حَتَّى لَا يَهْتَدِيَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» إِلَى مَكَانِي فَيَقْتُلَنِي». فَعَجِبَ مِنْ قِصَّةِ الْفَتَى أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَهَزِئَ بِما قالَهُ لَهُ، ولَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ حَتَّى لَا يَخَافَ. ومَرّتِ الأَيَّامُ وهُمَا عَلَى أَسْعَدِ حالٍ وأَهْنَإِ بالٍ. وكانَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» يَقُصُّ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، ويَرْوِي لَهُ أَمْتَعَ الأَحادِيثِ. فَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ الْمُتَمِّمُ لِلْأَرْبَعِينَ نَهَضَ الْفَتَى فَاسْتَحَمّ ونامَ إِلَى الْعَصْرِ. ثُمّ فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَشُقَّ لَهُ بِطِّيخَةً، فَبَحَثَ عَنْ سِكِّينٍ فَلَمْ يَجِدْ، فَأَشارَ الْفتَى إِلَى مَكانِها — وكانَتْ مُعَلَّقَةً فَوْقَ رَأْسِهِ — فَأَسْرَعَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» إِلَيْها. وَمَا إِنْ قَبَضَ عَلَيْها بِيَدِهِ، حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهُ، فَوَقَعَ لِسُوءِ حَظِّهِ عَلى الْفتَى — والسِّكِّينُ فِي يَدِهِ — فَنَفَذَتِ السِّكِّينُ إِلَى قَلْبِ الْفَتَى، فَقَتَلَتْهُ لِلْحالِ. ومَا إِنْ رَأَى الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» ما حَدَثَ مِنْهُ، حَتَّى اشْتَدَّ بهِ الْحُزْنُ والْجَزَعُ، وَلكِنَّهُ اسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ. وخَشِيَ أَنْ يَحْضُرَ والِدُ الْفَتَى فَيَقْتُلَهُ؛ فَأَسْرَعَ إِلَى الْخُرُوجِ، وَأَعَادَ الصَّخْرَةَ إِلَى مَكانِها. وَما انْتَهَى مِنْ ذلِكَ حَتَّى رَأَى الْمَرْكَبَ قَادِمًا مِنْ بُعْدِ؛ فَأَسْرَعَ إِلَى الشَّجَرَةِ، فَاسْتَخْفَى بَيْنَ أَغْصانِها. وَلَمَّا رَأَى الشَّيْخُ ما حَلَّ بِوَلَدِهِ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْجَزَعِ. ولَمَّا أَفَاقَ أَمَرَ بِدَفْنِهِ، ثُمّ عادَ باكِيًا حَزِينًا. وبَعْدَ أَنِ اسْتَخْفَى المَرْكَبُ عَنْ نَظَرِ الْمَلِكِ «عَجِيبٍ»، أَخَذ يَبْحَثُ عَنْ وسِيلَةٍ تُمَكِّنُهُ مِنَ الْخُرُوُجِ مِنَ هذِهِ الْجَزِيرَةِ الْمَشْئُومَةِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ إِلَى ذلِكَ سَبِيلًا. فَسارَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» فِي الْجَزِيرَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيها أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ رَأَى فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ نارًا مُلْتَهِبَةً تلُوحُ لَهُ مِنْ بُعْدٍ. فَسارَ إِلَيْها مُسْرِعًا حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْها، فَرَأَى قَصْرًا فَخْمًا مِنَ النُّحاسِ. فَعَلِمَ أَنَّ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ قَدِ انْعكَسَتْ عَلَيْهِ فَخَيَّلَتْ إِلَى ناظِرِهِ أَنَّهُ يَرَى نارًا مُلْتَهِبَةً شَدِيدَةَ الْوَهَجِ. ورَأَى — أَمامَ ذلِكَ الْقَصْرِ — عَشَرَةَ رِجالٍ مِنَ الْعُورِ قَدْ فَقَدُوا عُيُونَهُمُ الْيُمْنَى؛ فَعَجِبَ مِنْ ذلِكَ وحَيَّاهُمْ؛ فَرَدُّوا عَلَيْهِ التَّحِيَّةَ أَحْسَنَ رَدٍّ ورَحَّبُوا بِهِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ: مِنْ أَيْنَ جاءَ؟ فَقَصّ عَلَيْهِمْ قِصَّتَهُ، فَدَهِشُوا لَهَا. وأَرادَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ عَوَرِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ فِي ذلِكَ الْقَصْرِ الْمُنْفَرِدِ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ الْمُوْحِشَةِ. وَلكِنَّهُ قَرَأَ عَلَى بابِ الْقَصْرِ: «مَنْ دَخَلَ فِيما لا يَعْنِيهِ، لَقِيَ ما لا يُرْضِيهِ.» فَسَكَتَ عَنِ السُّؤَالِ. وَلَمَّا جاءَ اللَّيْلُ أَكَلُوا وَشَرِبُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَسْمُرُونَ (يَتَحَدَّثُونَ) حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ. فَقالَ أَحَدُهُمْ لِرِفَاقِهِ: «لَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ لِأَداءِ ما عَلَيْنا مِنْ واجِبٍ.» فَقَامُوا جَمِيعًا إِلَى حُجْرَةٍ واسِعَةٍ وَلَبِسُوا مَلابِسَ سُودًا، ثُمَّ لَطَخُوا وُجُوهَهُمْ بِالسَّوادِ. وَظَلُّوا يَبْكُونَ وَيَلْطِمُونَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: «هذا جَزاءُ الْفُضُولِ. هذا جَزاءُ مَنْ يَدْخُلُ فِيما لا يَعْنِيهِ.» وَما زالُوا كَذلِكَ سَاعَةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ كَفُّوا عَنِ الْبُكاءِ، وَغَسلُوا وُجُوهَهُمْ، وَلَبِسُوا مَلابِسَهُمُ الْأولَى، وَذَهَبُوا إِلَى مَضاجِعِهِمْ فَنَامُوا إِلَى الصَّباحِ. أَمَّا الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» فَقَدْ قَضَى لَيْلَتَهُ ساهِرًا مُفَكِّرًا فِيما رَآهُ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنامَ لِشِدَّةِ ما اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَبِ وَالدَّهْشَةِ. وَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ لَمْ يُطِقْ صَبْرًا عَلَى ما رَآهُ، فَسَأَلَهُمْ: «ما سَبَبُ عَوَرِكُمْ، أَيُّها الرِّفاقُ؟ وَلِماذا تَلْطِخُونَ وُجُوهَكُمْ بِالسَّوادِ؟» فَقالُوا لَهُ ناصِحِينَ: «خَيْرٌ لَكَ أَلَّا تَدْخُلَ فِيما لا يَعْنِيكَ، فَتَلْقَى ما لا يُرْضِيكَ.» فَلَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِهِمْ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِم بِالسُّؤَالِ. فَقالُوا لَهُ: «إِذا شِئْتَ أَرْسَلْنَاكَ إِلَى الْمَكانِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ، لِتَرَى بِنَفْسِكَ سَبَبَ عَوَرِنا. وَسَتَدْفَعُ ثَمَنَ هذا عَيْنَكَ الْيُمْنَى، وَتَعُودُ إِلَيْنا أَعْوَرَ مِثْلَنا. فَهَلْ يُرْضِيكَ ذلِكَ؟» فَقالَ لَهُمْ: «نَعَمْ.» فَذَبَحُوْا كَبْشًا كَبِيرًا وسَلَخُوا مِنْهُ جِلْدَهُ وَخاطُوهُ حَوْلَ جِسْمِ الْمَلِكِ «عَجِيبٍ». ثُمَّ قالُوْا لَهُ: «سَيَأْتِي طَيْرُ الرُّخِّ فَيَحْمِلُكَ إِلَى قَصْرِ الْعَجائِبِ. فَإِذا وَصَلْتَ إِلَى ذلِكَ الْقَصْرِ، فَانْهَضْ عَلَى قَدَمَيْكَ وَاسْلَخْ جِلْدَ الْخَرُوفِ، فَإِنَّ الرُّخَّ يَخَافُ وَيَهْرُبُ مِنْكَ.» وَبَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ جاءَ طَيْرُ الرُّخِّ، فَحَسِبَهُ كَبْشًا، فَحَمَلَهُ إِلَى قَصْرِ الْعجائِبِ. فَلمَّا نَهَضَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» وَمَزَّقَ جِلْدَ الْكَبْشِ هَرَبَ مِنْهُ طَيْر الرُّخِّ. ثُمَّ وَقَفَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» أَمامَ قَصْرِ الْعَجائِبِ، فَرَأَى حِجارَتَهُ مِنَ الذَّهَبِ، وَأَبْوابَهُ مُرَصَّعَةً بِالْماسِ. ثُمَّ دَخَلَ الْقَصْرَ فَرَأَى فَيِه أَرْبعِينَ جارِيَةً، لابِساتٍ أَفْخَرَ الثِّيابِ الَّتِي لا تُوجَدُ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. فَرَحَّبْنَ بِهِ، وَحَيَّيْنَهُ فَرِحاتٍ بِقُدُومِهِ، وَأَكْرَمْنَهُ أَحْسَنَ إِكرامٍ. ثُمَّ قُلْنَ لَهُ: «نَحْنُ خَادِماتُكَ، وَأَنْتَ سَيِّدُ الْقَصْرِ. وَسَنَظَلُّ فِي خِدْمَتِكَ شَهْرًا كامِلًا، ثُمَّ نَتْرُكُكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَعُودُ إِلَى خِدْمَتِكَ — بَعْدَ ذلِكَ — فَلَا نُفَارِقُكَ أَبَدًا، وَيُصْبِحُ هذا الْقَصْرُ وَما يَحْوِيهِ مِنْ كُنُوزٍ مِلْكًا لَكَ.» فَلَمَّا انْقَضَى الشَّهْرُ وَدَّعْنَهُ، وَأَظْهَرْنَ لَهُ الأَسَفَ عَلَى فِرَاقِهِ، وَأَعْطَيْنَهُ أَرْبَعِينَ مِفْتاحًا، وَقُلْنَ لهُ: «ادْخُلْ ما شِئْتَ مِنْ هذِهِ الْحُجُراتِ (الْغُرَفِ)، ولكِنِ احْذَرْ أَنْ تَدْخُلَ هذِهِ الْحُجْرَةَ الْأَخِيرَةَ، وَإِلَّا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لمِا تَكْرَهُ.» فَفَتَحَ الْحُجْرَةَ الْأُولى، فَرَأَى حَدِيقَةً جَمِيلَةً لَمْ يَرَ في حَياتِهِ مِثْلَها؛ فَقَضَى يَوْمَهُ بَيْنَ أَزْهارِها الْعَطِرَةِ، مُبْتَهِجًا مَسْرُورًا. وَفي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتَحَ الْحُجْرَةَ الثَّانِيَةَ، فَرَأَى مِنَ الطُّيُورِ الْمُغَرِّدَةِ أَشْكالًا وَأَلْوانًا لَمْ يَرَها، وَقَضَى يَوْمَهُ مَسْرُورًا بِغِنائِها السَّاحِرِ وَرَأَى فِي الثَّالِثَةِ كُنُوزًا مَمْلُوءَةً بِالذَّهَبِ، وفيِ الرَّابِعَةِ أَكْداسًا مِنَ اللَّآلِئِ، وفيِ الْخَامِسَةِ ما لا يُحْصَى مِنَ الْمَرْجانِ وَالْياقُوتِ، وهكَذا، حَتَّى جاءَ الْيَوْمُ الْمُتَمِّمُ لِلْأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْحُجْرَةُ الْأَخِيرَةُ الَّتِى حَذَّرَتْهُ الْجَوَارِي مِنْ دُخُولِها. فَوَقَفَ مُتَرَدِّدًا نَحْوَ ساعَةٍ، ثُمَّ دَفَعَهُ فُضُولُهُ إِلَى دُخُولِ هذِهِ الْحُجْرَةِ، ولَمْ يَكْتَفِ بِكُلِّ ما رَآهُ فِي ذلِكَ الْقَصْرِ مِنَ الْعَجائِب وَالْكُنُوزِ النَّادِرَةِ، ونَسِيَ نَصِيحَةَ الْجَوارِي، ونَصِيحَةَ الْعُورِ. وما إِنْ دَخَلَ الْحُجْرَةَ حَتَّى وجَدَ حِصانًا جَمِيلَ الشَّكْلِ، مُعَدًّا لِلرُّكُوبِ؛ فَدَفَعَهُ الْفُضُولُ إِلَى رُكُوبِهِ. وَما إِنْ رَكِبَهُ حَتَّى طارَ بهِ الْحِصانُ فِي الْفَضاءِ، وكانَ هذا الْحِصانُ جِنِّيًّا، وما زالَ طائرًا بِهِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، ثُمَّ هَبَطَ بِهِ إِلَى الأَرْضِ، وأَلْقاهُ عَلَى ظَهْرِه، وضَرَبَهُ بِذَيْلِهِ فِي عَيْنِهِ الْيُمْنَى فَعَوَّرَها. وَلَمَّا أَفاقَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» مِنْ ذهُولِهِ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي قَصْرِ الْجَزِيرَةِ بَيْنَ رِفاقِهِ الْعُورِ. فَأَسَّوْهُ (صَبَّرُوه) ورَحَّبُوا بِهِ وقالُوا لَهُ: «لَقَدْ دَفَعَكَ الْفُضُولُ إِلَى مِثْلِ ما دَفَعَنا إِلَيْهِ، ولَقِيتَ مِنَ الْجَزاءِ مِثْلَ ما لَقِينا. وهذِهِ عاقِبَةُ كُلِّ مَنْ يَدْخُلُ فِيما لا يَعْنِيهِ!» وبَقِيَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» عِدَّةَ أَيَّامٍ وهُوَ فِي ضِيافَةِ الْعُوران الْعَشَرَةِ؛ حَتَّى أَتاحَ الله لَهُ فُرصَةَ الذَّهابِ إِلَى بَلَدِهِ، فِي سَفِينَةٍ مَرّتْ عَلى تِلْكَ الْجَزِيرَةِ، فَوَدَّعَ رِفاقَهُ الْعُورانَ. ولَمَّا وصَلَ إِلَى بَلَدِهِ اسْتَقْبَلَهُ وَزِيرُهُ وأَهْلُهُ وشَعْبُهُ أَحْسَنَ اسْتِقْبالٍ، وَفَرِحُوا بِرُجُوعِهِ إلى مَمْلَكَتِهِ أَكْبَرَ الْفَرَحِ. ولَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُهُ عَنْ سَبَبِ غَيْبَتِهِ الطَّويلَةِ، قَصَّ عَلَيْهِم كُلَّ ما لَقِيَهُ فِي رِحْلَتِهِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وأَمَرَ وَزيرَهُ بِكِتابَةِ هذِهِ الْقِصَّةِ، لِتَكُونَ عِبْرَةً لِكُلِّ مَنْ يَدْفَعُهُ الْفُضُولُ إِلى الدُّخُولِ فِيما لا يَعْنِيهِ. وكَتَبَ عَلى بابِ قَصْرِهِ تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْحَكِيمَةَ: «مَنْ دَخَلَ فِيما لا يَعْنِيهِ لَقِيَ ما لا يُرْضِيهِ.» وعاشَ الْمَلِكُ «عَجِيبٌ» بَقِيَّةَ عُمْرِهِ، يَحْكُمُ بَيْنَ رَعِيَّتِهِ بِالْعَدْلِ، وَلَمْ يَنْسَ — طُولَ حَياتِهِ — ما جَرَّهُ عَلَيْهِ الْفُضُولُ. ••• •••
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/1/
الإسلام والمسلمون
خلق الله الإنسان عالما صناعيا، ويسر له سبيل العمل لنفسه. وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له الرزق من صنع يديه، بل جعله ركن وجوده ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهية، وبيد وحضارة صنيعة أعماله، وأقواته من معالجة الأرض بالزراعة، أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه الحر والبرد والوجى من عمل يديه نسجا أو خصفا، وأكتانه ومساكنه ليست إلا مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتغنمه فيه من دواعي ترفه ونعيمه، إنما هي صور أعماله ومجالي أفكاره، ولو نفض يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان، وبسط كفيه للطبيعة، ليستجديها نفسا من حياة لشحت به عليه بل دفعته إلى هاوية العدم، وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه وهاد يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته يعمل كيف يعمل وليقتدر أن يعمل، فصنعته أيضا من صنعه، فهو في جميع شئونه الحيوية عالم صناعي كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل. هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه. دعه في هذه الحالة وخذ طريقا من النظر إلى أحواله النفسية، من الإدراك والتعقل والإخلاص والملكات والانفعالات الروحية، تجده فيها أيضا عالما صناعيا، شجاعته وجبنته، جزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه، عفته وشرهه، وما يشابهها من الكمالات والنقائص جميعا تابع لما يصادفه في تربيته الأولى وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربى بينهم مرامي أفكاره ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية، أو ركونه إلى البحث في الخوض الطبيعية وعنايته باكتشافه الحقيقة في كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية إنما هي ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون، أما هواء المولد والمربى ونوع المزاج وشلل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر لها في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية، على ضعف في ذلك الأثر، فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به وكأن لم يكن أودع في الطبع. نعم إن أفكارا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد، وصفات تسمو، وهمما تعلو، حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أنه ثمرة ما غرس ونتيجة ما كسب فهو مصنوع يتبع مصنوعا، فالإنسان في عقله وصفات روحه عالم صناعي. هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء، ولكن هل تذكر، مع هذا، إن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن الملكات والعزائم الروحية، وإن الروح هي السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير لأنه مما لا يغرب عن الأذهان، إنما قبل الدخول على موضوعنا أقول كلمة حق في الدين، ولا أظن منكرا يجحدها. إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر، تتلقاه العقول عن المبشرين والمنذرين فهو منسوب لمن لم يختصهم الله بالوحي، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتعليم والتلقين وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب ويرسخ في الأفئدة وتصطبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من الملكات والعادات وتتمرن الأبدان على ما نشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها، وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل وأول ما يخط فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ حتى الصفات، بل تبقى طبعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال. وبعد فموضوع الديانة المسيحية والديانة الإسلامية بحث طويل الذيل، وإنما نأتي به على إجمال ينبئك عن تفصيل. إن الديانة المسيحية بنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص وإطراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها، وترك أموال السلاطين للسلاطين، والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر». ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد، وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمن يقف على مباني هذه الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع ملاحظة أن لكل خيال أثرا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه، يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه، فهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفه العيش فيها، ولا يقفون عند حد في استيفاء لذاتها، ويسارعون في افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشائعة ويخترعون كل يوم فنا جديدا من فنون الحرب، ويبدعون في اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض، ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في أحكام نظامها، حتى وصلوا غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلا عن الالتفات إلى طلب غيرها. لم لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيا، لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه الحقيقة؟ هل القرون الخالية والأحقاب الماضية لم تكن كافية لرسوخ الديانتين في نفوس المستمسكين بعراهما؟ أما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا عن كل كمال حربي حظا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المقارعة وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه، وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر، وضربت في الأذهان حتى اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السفسطائيون الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث، ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها في الكتب، وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفا في الهمم وفتورا في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة، خصوصا بعد حصول النقص في التعليم والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة، وبين فئة ضعيفة. لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم، وهو الذي نعاني من عنائه اليوم مما نسأل الله السلامة منه. إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته، وإن كان حجابها كثيفا، لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يحرموها بالمرة تدافع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين المرض وقوة المزاج، وحيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم ولا يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلابد يوما أن يسطع ضياؤها وينقشع سحاب الأغيان، ومادام القرآن يتلى بين المسلمين وهو كتابهم المنزل، وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم يأمرهم بحماية حوزتهم، والدفاع عن ولايتهم، ومغالبة المعتدين، وطلب المنعة من كل سبيل، ولا يعين لها وجها، ولا يخصص لها طريقا، فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما سلب منهم، فيتقدمون على من سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظا لحقوقهم وضنا بأنفسهم عن الذل وملتهم عن الضياع وإلى الله تصير الأمور.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/2/
المسألة الإسلامية بين هانوتو والإمام
كتب مسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا في جريدة «الجرنال» الباريسية مقالا عن الإسلام والمسألة الإسلامية نشر في جريدة المؤيد. فرد عليه الأستاذ الإمام بمقال بليغ أفحمه في كل ما جاء به. أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية. اخترق المسلمون أبناء آسيا شمال القارة الأفريقية بسرعة لا تجارى حاملين في حقائبهم بعض بقايا تمدن البيزنطيين «يونان الشرق» ثم تراموا بها على أوربا، ولكنهم وجدوا في نهاية انبعاثهم هذا مدنية يرجع أصلها إلى آسيا بل أقرب في الوصلة إلى المدنية البيزنطية مما حملوه معهم ألا وهي المدنية الآرية المسيحية، ولذلك اضطروا إلى الوقوف عند الحد الذي إليه وصلوا، وأكرهوا على الرجوع إلى أفريقية حيث ثبتت أقدامهم أحقابا متعاقبة، ولكن كان لا يزال الهلال ينتهي طرفاه من جهة مدينة (القسطنطينية) ومن جهة أخرى ببلدة (فاس) في المغرب الأقصى معانقا بذلك الغرب كله. إذن فقد صارت (فرنسا) بكل مكان في صلة مع الإسلام بل صارت في صدر الإسلام وكبده حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطوتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين، وهي تدبر اليوم شئونه، وتجبي ضرائبه، وتحشد شبانه لخدمة الجندية، وتتخذ منهم عساكر يذبون عنها في مواقف الطعان ومواطن القتال. تلك المملكة الفسيحة الأرجاء التي أنشأتها في باطن القارة الأفريقية هي الوارث لما أبقته الدول السابقة والأمم البائدة من (قرطاجيين) (ورومانيين) و(عرب) من آثار المدنية التي كانت القارة الأفريقية منبتا لثمارها اليانعة. إن شعبا جمهوري المبادئ يبلغ عدد أبنائه أربعين مليونا، لا مرشد له إلا نفسه، لا عائلات ملوكية فيه تتنازعه الحكم، ولا رؤساء يتناولون الرئاسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلد زمام إدارة شعب آخر لا يلبث أن ينمو حتى يساوي ضعف عدده وهو ذلك الشعب المنتشر في الأرجاء الفسيحة والأصقاع المجهولة، والمتبع لتقاليد وعادات غير التي نعنو لها ونحترمها، هو الشعب الإسلامي السامي الأصل الذي يحمل إليه الشعب الآري المسيحي الجمهوري الآن ملح وروح المدنية، نعم إن ظروف وشروط هذه المعضلة نادرة، ولكن ليس على الشعب الغالب أن يحاول جهده لمعرفتها والاطلاع عليها. ليس الإسلام فينا فقط بل هو خارج عنا أيضا قريب منا في (مراكش) تلك البلاد الخفية الأسرار التي يشبه وجودها الحاضر مقدور الأبد في الغموض والاشتباه — قريب منا في (طرابلس الغرب) التي تتم بها المواصلات الأخيرة بين مركز الإسلام في البحر الأبيض المتوسط، وبين الطوائف الإسلامية في باطن القارة الأفريقية — قريب منا في (مصر) حيث تصادمت (الدولة البريطانية) فصادمتها إياها في الأقطار الهندية وهو موجود وشائع في (آسيا) حيث لا يزال قائما في (بيت المقدس) وناشرا أعلامه على مهد الإنسانية، وبحسب أنصاره وأشياعه في قارات الأرض القديمة بالملايين، وقد انبعثت شعبة منه في بلاد (الصين) فانتشر فيها انتشارا هائلا حتى ذهب البعض إلى القول بأن العشرين مليونا المسلمين الموجودين في الصين لا يلبثون أن يصيروا مائة مليون فيقوم الدعاء لله مقام الدعاء (لساكياموني)، وليس هذا بالأمر الغريب فإنه لا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده منتشرا في الآفاق، فهو الدين الوحيد الذي أمكن انتحال الناس زمرا وأفواجا، وهو الدين الوحيد الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق دين سواه، ففي البقاع الأفريقية ترى المرابطين وقد أفرغوا على أبدانهم الحلل البيضاء يحملون إلى الوثنيين من العبيد العارية أجسامهم من كل شعار، قواعد الحياة ومبادئ السلوك في هذه الدنيا، كما أن أمثالهم في القارة الآسيوية ينشرون بين الشعوب الصفر الألوان قواعد الدين الإسلامي، ثم هو، أي هذا الدين، قائم الدعائم ثابت الأركان في أوربا عينها، أعني في الآستانة العليا حيث عجزت الشعوب المسيحية عن استئصال جرثومته من هذا الركن المنيع، الذي يحكم منه على البحار الشرقية، ويفصل الدول العربية بعضها عن بعض شطرين. في باحات قصر يلدز ترى العلماء والدراويش وقد تدثروا بثياب الصوف، وتعمموا بالعمائم الكبيرة، جالسين على الأرائك بجانب سفراء الدول. هم هناك يمثلون في الخاطر أشخاص ألف ليلة وليلة لا يتحركون من مقاعدهم، ينبسون بكلمات تطابق تحريك أيديهم حبات السبح، منتظرين مجيء دورهم في المقابلات لعرض طلب أو توجيه لوم. وكل المسلمين ممن يقيمون في (الآستانة) أو في (مراكش)، في أرجاء أسيا أو أصقاع أفريقية، من بدو كانوا أو حضر، واقفين في أماكنهم أو سارين مع القوافل، يركعون مع الراكعين إذا حانت الصلاة، يتوضئون أو يتيممون بالتراب، مولين وجوههم جميعا شطر الكعبة، وسواء منهم الذين يلبسون الثياب الواسعة، أو يتزيون بالسترة الإسلامبولية، والذين يلبسون الطربوش أو العمائم على رءوسهم، والذين يضعون السيف واليطقان في نطاقهم، أو يتلقون العلوم في مدرسة برلين الجامعة، أو يدرسون علوم السياسة في باريس، فإنهم يولون وجوههم شطر جهة واحدة، هي الأرض المقدسة، هي الأرض التي تكتنفها الصحراء، هي الأرض التي عاش فيها محمد، هي الأرض التي تتضمن جسمه المبارك، في قبر لا يجسر أحد على الوصول إليه إلا مغطى الوجه حياء وهيبة، هي الأرض التي جاء منها الآباء ويعود إليها الأبناء بحركة مستمرة، هي الحج الأبدي إلى بيت الله الحرام، وجميع المسلمين عن بكرة أبيهم يرنون بطرفهم إلى هذا المكان المقدس، ويمدون إليه أعناقهم ولا يجدون لذة في الحياة إلا بأمل العودة إليه، ومن مات منهم ولم يكن أدى فريضة الحج مات على أسف وحسرة. وخلاصة القول إن جميع المسلمين على سطح المعمورة تجمعهم رابطة واحدة، بها يدبرون أعمالهم ويوجهون أفكارهم إلى الوجهة التي يبتغونها، وهذه الرابطة تشبه السبب المتين الذي تتصل به أشياء تتحرك بحركته وتسكن بسكونه، بل هي القطب الذي تنتهي إليه قوة المغناطيسية. ومتى اقتربوا من الكعبة — من البيت الحرام — من بئر زمزم الذي ينبع منه الماء المقدس — من الحجر الأسود المحاط بإطار من فضة — من الركن الذي يقولون عنه إنه سرة العالم، وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على مبارحة بلادهم في أقصى مدى من العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام — اشتعلت جذوة الحمية الدينية في أفئدتهم، فتهافتوا على أداء الصلاة صفوفا وتقدمهم الإمام مستفتحا العبادة بقوله: «باسم الله» فيعم السكون والسكوت، وينشران أجنحتهما على عشرات الألوف من المصلين في تلك الصفوف، ويملأ الخشوع قلوبهم، ثم يقولون بصوت واحد «الله أكبر» ثم تعلوا جباههم بعد ذلك قائلين: «الله أكبر» بصوت خاشع يمثل معنى العبادة. ترى في قرانا وبلداننا درويشا فقيرا شاحب اللون مدثرا بأرديته البيضاء المقلمة بخطوط سوداء يلهج لسانه بذكر الله والصلاة على نبيه، لا يلويه عن ذلك شيء — هذا الدرويش الذي ينتقل من خيمة إلى خيمة، ومن قرية إلى قرية، راويا حوادث الأقطاب والأولياء من مشايخ الإسلام، إنما يبذر في القلوب حيثما حل وأينما توجه بذور الحقد والضغينة علينا. إن العالم الإسلامي منقسم إلى طوائف وطرائق لا عداد لها، ينخرط في سلكها الألوف من رعايانا المسلمين ولكن ليس لها في الغالب مراكز ولا زوايا بالأرض الداخلة في دائرة نفوذنا، وغاية الأمر أن العاملين في هذه الطوائف والمذاهب الكثيرة يخترقون بلا انقطاع ولا توانٍ مستعمراتنا الأفريقية، فيستقبلهم أهلوها بالترحاب، ويحسنون وفادتهم، ويكرمون مثواهم، حتى أن الفقير منهم لا يرى في إكرامهم له أقل من أن ينحر له شاة، هذا عدا ما يجمعه له من صدقات ذوي البر والإحسان، أو من المرتبات المالية السنوية التي يبلغ ما يدفعه أهالي الجزائر وحدهم منها ثمانية ملايين من الفرنكات كل عام، وهذا مما يستوجب العجب والدهشة لأن مقدار ما نجبيه من الضرائب كل سنة من أهالي الجزائر لا يتجاوز ضعف هذا المبلغ. كنا نرى من زمن حديث رعايانا الوطنيين في الجزائر ينقادون لأوامر سرية، تناقلوها بالأفواه، وكانت تقضي عليهم بتأليف الزمر والأفواج منهم لمهاجرة أوطانهم، والذهاب إلى آسيا الصغرى حيث الأمن المرجو. يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثنيات الفتوح، وطي أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم، ولكن لم تثبط هممهم. نعم ليس لمقاومتهم رؤساء يديرون هذه المقاومة، ولكن رابطة الإخاء الجامعة لأفراد العالم الإسلامي بأسره كافلة بالرئاسة، ففي مسألة علائقنا مع الإسلام تجد المسألة الإسلامية والمسألة الدينية والمسائل الداخلية والخارجية شديدة الاتصال والارتباط بعضها ببعض، وهذا يجعل حلها صعبا ومتعذرا كما سنبينه. المسائل الأساسية في كل دين هي التي ترتبط بالقدر والمغفرة والحساب، وهي كلمات ثلاث مصبوغة بصبغة دينية، تلقي في النفس الاعتقاد بوعورة الملك في تفهمها، مع أنها من الأمور التي ينبغي الوقوف عليها والعلم بها مهما صعب منالها وتعذر مرامها. إن الدين هو الوسيلة التي تمهد للإنسان طريق الوصول إلى الحضرة الإلهية أو هو بعبارة أخرى الواسطة في وقوف المخلوق بين يدي الخالق. إذا تقرر ذلك، فهل الخالق بقدرته المطلقة يودع في نفس المخلوق استعدادا للعمل بمقتضى إرادته السرمدية بحيث لا يحيد عما تأمره به هذه الإرادة، أم للإنسان متى تم خلقه إرادة خاصة يعمل بحسبها واختيار مستقل لا يستمد من اختيار أسمى منه؟ وهل للإنسان الذي خلقه الله وسواه إرادة مطلقة من نفسه وتصرف مطلق في ذاته، أم ترجع جميع أعماله من خير وشر إلى القدرة الربانية القابضة على زمام الكون والمسببة لوجوده فيه؟ في دائرة هذا البحث تنحصر الخلافات الدينية والفلسفية التي لم يوفق دين من الأديان ولا مذهب فلسفي إلى حسمها بكيفية يقتنع بها الإدراك ويرضاها العقل، مع أن البحث فيها لإصابة هذا الغرض السامي لم يكن بالأمر الحديث، إذ طالما بحث فيها فلاسفة الأقدمين فلم يجدوا لها حلا، وكان حظهم منهم كحظ فلاسفة وعلماء المتأخرين. وغاية ما عرف منذ الأعصر السالفة إلى الآن أنه وجد مذهبان تشاطرا فيما بينهما العقائد البشرية من تلك الوجهة المهمة، فالأول منهما يقول بتناهي الربوبية في العظمة والعلو، وجعل الإنسان في حضيض الضعف ودرك الوهن. ويذهب الثاني إلى رفع مرتبة الإنسان وتخويله حق القربى من الذات الإلهية بما فطر عليه من إيمان وإرادة، وبما أتاه من أعمال صالحات وحسنات. وقد ظهرت على أطلال العالم القديم بعد خمسمائة عام من انقضائه ديانتان، إحداهما ربانية والثانية بشرية تمثلانه في ذَيْنك المذهبين المتناقضين ولكن بتلطيف في التناقض. أما الأولى فهي الديانة المسيحية الوارثة بلا واسطة آثار الآريين والمقطوعة الصلات بالمرة مع مذهب السامية، وإن كانت مشتقة منه وغصنا من دوحته، ومن خصائص هذه الديانة ترقية شأن الإنسان بتقريبه من الحضرة الإلهية، على حين أن الديانة الثانية وهي الإسلام المشوبة بتأثير مذهب السامية تحط بالإنسان إلى أسفل الدرك، وترفع الإله عنه في علاء لا نهاية له. هذان الميلان المختلفان يظهران ظهورا واضحا في الاعتقاد الأساسي لكلتا الديانتين، وهو أصل الألوهية، أما المذهب المسيحي فيذهب في هذا الأصل إلى الثالث أي أن الإله الأب أوجد الابن واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فيكون يسوع المسيح إلها وبشرا — هذا الثالوث السري المشتقة أصوله من ضرورة وجود إله بشري يمحو ذنب الجنس البشري ويفديه من الخطيئة التي اقترفها، إن شعبا جمهوري المبادئ يبلغ عدد أبنائه أربعين مليونا، يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدا حيث يقول: «لا إله إلا الله». غير أن إدراك المسيحيين من هذا القبيل هو أخف وأعلى وأجلب للثقة، إذ هو يحملهم على إتيان الأعمال التي تقربهم إلى الله حيث الوسائط بينهم وبين ذاته الجليلة موصولة في حين أن المسلمين تجعلهم ديانتهم كمن يهوي في الفضاء بحسب ناموس لا يتحول ولا يتبدل، ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الذي هو مستودع الآمال ولفظة الإسلام معناها «الاستسلام المطلق لإرادة الله». ترى الديانتين أو بعبارة أخرى المدنيتين المسيحية والإسلامية إحداهما بإزاء الأخرى، وتتصل الاثنتان بعضهما ببعض من حيث المنشأ العام لهما، إذ هما مشتقتان من الأصول اليونانية السامية ومنها استمدتا جانبا من العقائد والمذاهب والآداب فهما إذن متداخلتان في بعضهما من وجوه عدة، ولكن مسافة الخلف بينهما شاسعة في الحقيقة من حيث البحث في القدرة الإلهية والحرية البشرية. وقد كانت هذه المناقضات وتلك الأشباه تفرع الطريقين المختلفين اللذين أتبعناهما فيما يربطنا من العلائق بالإسلام والمسلمين. قصر فريق منا بحثه وحكمه على ما شاهده من المناقضات والخلافات بين الدينين المسيحي والإسلامي فرأى في الإسلام العدو الألد والخصم الأشد. قال المسيو كيمون في كتابه (باثولوجيا الإسلام): «إن الديانة المحمدية جذام نشأ بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكا ذريعا بل هي مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور ويجمح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يبث الجنون في رءوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهستيريا (الصرع) العامة والذهول العقلي وتكرار لفظة الله إلى ما لا نهاية، والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية، ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا أو الماليخوليا وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات … إلخ إلخ». أمثال هذا الكاتب يعتقدون أن المسلمين وحوش ضارية وحيوانات مفترسة (كالفهد والضبع كما يقول المسيو كيمون) وأن الواجب إبادة خمسهم (كما يقول أيضا) والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع ضريح محمد في متحف اللوفر (وهذا أيضا قوله) … وهو حل بسيط وفيه مصلحة للجنس البشري … أليس كذلك؟ ولكن قد برح عن خاطر الكاتب أنه يوجد نحو ١٣٠ مليون مسلم وأن من الجائز أن يهب هؤلاء «المجانين» للدفاع عن أنفسهم والذود عن بيضة دينهم. ويذهب غير أصحاب هذا الرأي إلى أن الإسلام دين ومدنية يتصلان مع ديننا ومدنيتنا بعروة الإخاء والتصاحب، وتطرف البعض منهم فاعتبروا الإسلام أرقى مبدأ وأسمى كعبا من الدين المسيحي. قال المسيو لوازون (القس ياسنت سابقا) معترفا ومقرا أن الإسلام هو الدين المسيحي محسّنا ومحوّرا، ونصح للفرنسيين الذين يلتمسون دينهم المفقود أن يستعينوا بالإسلام للعثور على ضالتهم المنشودة ويذهب قوم غير الذين سبقت الإشارة إليهم إلى وجوب احترام الإسلام وتبجيله، مستندين في ذلك على ما دونه أحد مؤرخي الكنيسة الذي صار فيما بعد كردينالا حيث قال: «إن الإسلام قنطرة للأمم الأفريقية ينتقلون بواسطتها من ضفة الوثنية إلى ضفة المسيحية، فليس الواجب والحالة هذه مقصورا على معاملة الإسلام بالتساهل والتسامح، بل لابد من رعايته وتعضيده بأن نسعى في توسيع نطاقه، وترتيب الأرزاق على المساجد والمدارس، وجعله رائدا لمدنية فرنسا وآلة تستعين به على فتوح البلاد». هذان هما الرأيان السائدان بما بينهما من درجات الاعتدال والتلطف والمسالمة، ولكنهما وإن افترقا، متصل بعضهما ببعض وموجودان في حيز واحد. وقد لوحظ كثيرا أن كل فرد من أفراد موظفينا أو وكلائنا أو أبنائنا المستعمرين قد حار بين المبدأين، وسلك الخطة التي رسمها لنفسه تجاه المسلمين طبقا لميوله نحو قطب من القطبين المتناقضين اللذين يوجد بأحدهما المتطرفون وبالآخر المتعصبون، ولا وسط بينهما. وتلك الميول المتعاكسة التي برزت من مكان الاعتقاد إلى مجالي الفعل والتنفيذ، هي التي أحدثت التناقض في أعمالنا الاجتماعية والسياسية والإدارية، وأدت إلى الشكوك والريب، ونقض ما أبرم، ما نقض، إلى غير ذلك مما جرت عليه حكومتنا ولا سيما في البلاد الأفريقية من عدم السير على وتيرة واحدة. هذا الخلل ينمو شيئا فشيئا ويتضاعف خطره كل يوم، إذا فكر الإنسان في أنه لا يصيب بسوئه بلاد الجزائر مع سكانها الوطنيين الذين يبلغ عددهم أربعة ملايين أو خمسة فقط، بل يسري على نصف قارة بأكملها عديدة السكان، وسيزداد ويتضاعف عددها بامتداد رواق الأمان على الأهالي وإبطال التجارة في الرقيق. فالمسألة إذن خطيرة جدا ولابد من الاعتماد على أمر واحد في حلها، إذ لا يكفي للوصول إلى هذا الحل تنميق عبارات وتسطير كلمات، ولذلك خيرت أن أعرضها على محك الرأي العام، مبينا أحكم الوسائل وأكثرها انطباقا على العقل والصواب، للوصول إلى نتيجة فعلية، وموردا شيئا واحدا هو من ألزم الأشياء لموضوع تلك المسألة وأشدها ارتباطا به. قد سبق لي وقتما تم تشكيل مملكتنا الأفريقية تشكيلا تاما، أن سألت — ولا زلت أكرر هذا السؤال — الحكومة أن تبحث بحثا علنيا في علاقاتنا مع الإسلام والمسلمين، بمعرفة أناس خبيرين وعلماء عارفين، ليتجلى هذا البحث عن الخطة التي يتحتم على الجميع اتباعها من حاكم منا ومحكوم عليه. إن الراغب في الاستعمار من أبناء بلادنا يصل إلى الجزائر أو تونس أو السنغال، فيجد نفسه في اتصال مع العربي، أو بعبارة أعم من المسلم، إذ منه يشتري الأرض التي يريد استنباتها، ومنه يطلب اليد العاملة ومعه يدبر شئونه المعيشية، فبالرغم عن هذا الاتصال وعن هذا الجوار والتلاصق تراهما يجهل أحدهما الآخر، وتنفرج مسافة هذا الجهل وتكون عواقبه أكثر خطرا، إذا كانت العلاقة بين الأهالي وبين الموظف أو الحاكم أو القاضي أو الضابط أو غيرهم، ممن هو منوط بالفصل في خصوماتهم، والقيام على شئونهم، وتنفيذ قوانيننا بينهم، وما أسوأ مغبة ذلك الجهل إذا كانت العلاقة بينهم ووزارة مستعمراتنا أو رجال حكومتنا المركزية التي يديرها أحد عشر وزير، ربما لا يوجد من بينهم سوى واحد أو اثنين أنعما النظر في خريطة الأنحاء الواسعة والأصقاع القصية التي عهد إليهم أمر إدارتها وتنظيمها. مع أن الواجب متى رضينا باحتمال هذه المسئولية على عواتقنا، ونلنا هذه السلطة أن نطيل البحث ونمعن النظر في طرق استخدام هذه السلطة وأن نسأل الخبيرين والعارفين، ونستفيد ممن شاهدوا واختبروا ونستمد من معلوماتهم ما نستعين به على تحرير متن سياسي وجيز يتضمن أصول ومبادئ علاقاتنا مع العالم الإسلامي. إن فريقا كبيرا من العلماء النظريين والعمليين من موظفين وضباط وأساتذة ومهندسين ومزارعين ومستعمرين قد كانوا ولا يزالون على اتصال بالمسلم. وجعلوا أحوال معيشته وطرق أعماله موضوع بحثهم ودراستهم. ولكن المسلمين أنفسهم قد ينبئوننا بما نجهله من بقية أخبارهم، فهم إذا سئلوا أجابوا، وإذا أجابوا أفاضوا، وقد كثرت الأبحاث في كل موضوع، حتى في الموضوعات الصريحة الواضحة ولم يفكر أحد في الأمر الذي نحن بصدده، وهو من أكثرها غموضا والتباسا، فلماذا لا نستعين بالوسيلة التي تفيض علينا أنوار الحقيقة، ونطرح من هذه الأنوار شعاعا على من يريدون اتباع الصراط المستقيم، حتى إذا ما تم التحقيق والبحث حررنا بما ينبعث عنهما من الحقائق رسالة تذاع على الألسنة، وتتداولها أيدي الموظفين والمستعمرين، وتنشر بين الطلاب في المدارس فتنمحي بها آثار الأضاليل والترهات الكثيرة، وتزول العقبات القائمة، وتقال الأقدام من العثرات، وتكون تلك الرسالة بمثابة قانون ثابت لفرنسا الاستعمارية يجري على نهجها كل عامل، فيعم نفعه وتجتنى ثماره، وربما كان سببا في أن نعيش مدة نصف جيل على أساس اختيار الفرنسيين المستعمرين الذين انتشروا في عرض البلاد وطولها لا رابطة بينهم ولا صلة، يواصلون الصباح بالمساء في الندم والحسرة من عواقب هفوة أو زلة سقطوا فيها. وكانت كلمة واحدة كافية لإقالتهم من عثرتهم وإصلاح هفوتهم. ولست أظن أحدا يرتاب في نتائج ذلك التحقيق. وإنما قبل ختام هذا الفصل أورد بعض اعتبارات أخالها ضرورية للوصول إلى الغاية المقصودة من أقوم طرقها. أشرت سابقا إلى الصلة الأكيدة بين السياسة والدين في العالم الإسلامي، والمسلمون في الأحوال الراهنة شاعرون شعورا قويا بإيمانهم العام، غير أن إدراكهم من حيث الجامعة السياسية، وما كان يسميه القدماء بالرابطة المدنية أو الوطنية، إذ ينحصر الوطن عندهم في الإسلام، فلا يجوز أن يتولاها إلا من كان من عقيدتهم. ولم تدخل رءوسهم حتى الآن فكرة سوى هذه التي تمكنت من أفئدتهم، وأخذت من قلوبهم أمتن مأخذ، فكان ذلك سببا في حدوث سوء التفاهم بين الحاكمين والمحكومين في البلاد الإسلامية الخاضعة لحكومات مسيحية. على أنه بالرغم من ذلك قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد فصلت فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر التونسي الذي وضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح بصيانة القوانين والعادات من المساس، والمحافظة على مركز الباي، وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئا فشيئا، وأجريناه من المراقبة على شئون الأمور الإدارية والسياسية من التدخل في شئون البلاد، والقبض على أزمتها بدون شعور من أهلها. تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون ولم تنخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه المسيحيين، والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها، وتركت أزمة الأحكام بأيدي القواد والقضاة، ولم يغير شيء من القوانين الأهلية إلا برضا وتصديق من الأهالي، وربما كان يطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل وهذا النسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين أكثرهم من التونسيين. وجملة القول إن انقلابا عظيما حدث بدون أن يجر وراءه ألما أو توجعا أو شكوى، بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوربية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانا لم تغشه سحابة كدر. إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض. إذن توجد أرض تنفلت شيئا فشيئا من مكة ومن الماضي الآسيوي. أرض نشأت فيها نشأة جديدة، أنبتت في قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثالا يقاس عليه، ألا وهي البلاد التونسية. كانت هذه البلاد ميدان التنافس والجلاد إذ حكمت فيها قرطاجة ورومية وبيزنطية والعرب و«سان لويس» و«شارلكان» فأصبحت الآن مهبط المسالمة ومعهد التصالح والوئام، ففيها الديانتان بل المدنيتان متلاصقتان بل متداخلتان، حتى تأكدت نقط بينهما وانحسرت فرجة الخلاف وارتفعت الأحقاد من الصدور رغبة من الفريقين في التمتع بمزايا الأراضي الخصبة والسماء الصافية الأديم التي ينزل منها على القلوب برد وسلام يلطفانها ولعل الأطلال العديدة والشاهدة على ما تعاقب في الأقطار التونسية من المدنيات القديمة، تندثر تماما ولم ينمح أثرها كي تهتز لاستقبالنا ويوصل بعضها ببعض ما انقطع من حلقات الدهر الماضي. من المسلم أنه يتعذر عليّ الرد في هذه الجريدة على جميع الرسائل التي ترد إلي بشأن ما أنشره فيها من الفصول والمقالات، ولذا أشكر جميع الذين راسلوني شكرا جزيلا، وأرجوهم أن يعتقدوا ويثقوا بأن ما أشاروا به عليّ وأبانوه لي محفوظ في مخيلتي. ولا يبرح عن ذاكرتي، وإنني أجد في تبادل الأفكار على هذا المثال خير معوان وأحسن مشجع، وبالرغم مما يخالجني من الميل إلى عدم قصر البحث في نوع خاص من الموضوعات، أرى ألا مندوحة لي من العود إلى بعض المناقشات التي أثار عجاجها الفصلان اللذان نشرتهما حديثا في مسألة الإسلام، والحق يقال إنني أصبحت بسببهما كما يقال: بين نارين، فالمسيحيون أنحوا علي بالتعنيف واللوم، قائلين: إنني تظاهرت بالميل للإسلام، واتخذني المسلمون خصما لدودا لدينهم، وهو ما يثبط همة الإنسان عن إتباع خطة المسالمة والتوفيق، لو لم يعرف من قديم الزمان أن الذين يتصدون إلى بيان الحقائق بالتصور والتعقل إنما يشبهون سندان الحداد تتلاقى عليه ضربات المطرقتين. ويجب قبل الدخول في الموضوع أن أشير إلى طريقة من الجدل: كان الجهل بلغتنا، وهو في نظري أكثر تأثيرا من سوء القصد، سببا في اتباع بعض الجرائد الإسلامية لها وسيرها على سننها، فإن جريدة «المؤيد» التي تظهر في مصر القاهرة قد نشرت ترجمة أو بالأحرى خلاصة فاسدة من الفصلين اللذين كتبتهما على الإسلام، ولعل القراء يذكرون أنني أوردت فيهما آراء كيمون التي أبداها في كتابه (باثولوجيا الإسلام) وأن إيرادي لها كان على سبيل الحكاية والنقل، إذ أشرت إلى خطر شدتها، وأبنت العواقب الضارة التي يفضي إليها الجدال السياسي في الخواطر السريعة التأثر والانفعال، ولكيلا يختلط على الذهن شيء من أقوال كيمون التي أوردتها، وضعت في آخر كل عبارة من عباراته كلمتي (أنا أنقل) محصورتين بين قوسين دفعا للالتباس ومنعا للشك. ولو أمكن محو ما تراكم شيئا فشيئا حول ما يقع بشأنه سوء التفاهم من العواقب الضارة والشدائد التي لا فائدة منها، وتيسر العودة إلى النقطة الأولى التي كانت مبدأ النزاع وسبب الاختلاف، لانْدَهَشَ الإنسان من السهولة في تذليل الصعاب، وتمهيد المشاكل التي جعلت الفارق عظيما ومسافة الخلف بعيدة. ولقد قيل إن العالم ميدان يتنازع فيه بنو الإنسان، وهو قدر مقدور لولاه لتعذر على الفهم أن يدرك كيف تكون مقدمات أمثال تلك النتائج البالغة في الرداءة والسوء مبلغا عظيما حتى لقد تمر على الإنسان لحظات يسائل فيها نفسه، عما إذا كان في الإمكان إصلاح ما انثلم من حوادث التاريخ باجتهاد الناس في فهم مقاصد بعضهم بعضا. ومن الأمور التي لا يزال خاطري منصرفا إليها أن المسائل المشكلة، ولو كانت من أهم المسائل وأخطرها تتضمن في ذاتها الحل الملائم لها والمطابق للإنصاف والسلام، وكنت ولازلت على اعتقاد وطيد في المباحثات المتعلقة بمصلحة من المصالح وفكرة من الأفكار، بأنه متى كان الطرفان على جانب من طهارة الذمة وحسن النية، وجعلا غايتهما القصوى المسالمة والاتفاق، واتخذا لذلك وسائل الحكمة والتدبر، وصدق اجتهادهما في التجرد عن الأهواء، فإنهما يصلان إلى نقطة تتفق فيها مقاصدهما وتتطابق رغائبهما. وقد اعتقدت دائما أن للسياسة على الخصوص مهمة في هذا المعنى ينحصر فيها شرفها، وترجع إليها كرامتها، ليس بما تعلقه الشعوب من الشكر والاعتراف بالجميل فقط، بل بحسن العمل العقلي الذي يقوم به السياسيون بدون لغط ولا ضوضاء في سكون مكاتبهم، أما الاعتماد على القوة والركون إلى العنف الذي هو أخص ما يلتجئ إليه القوي فهو من أخريات الوسائل وأحطها، وهو حيلة من لا حيلة له. ويظن الناس في الغالب أن الواجب التفرقة بين الاتفاق والمجاهرة بالشقاق، وهو خطأ بين وغلط، إذ بين السلم والحرب ميدان فسيح يمكن للسياسة أن تجول فيه جولتها، وكما انطبقت هذه الطريقة على السياسة تنطبق أيضا على المناقشات الفلسفية والدينية، إذ للأفكار والعقائد سياسة مرجعها التسامح والاحتمال، وليس التسامح من مخترعات هذا العصر، بل نقيضه من مخترعاته، لأننا إذا نظرنا في أصول المشاكل البشرية الكبرى يكون اندهاشنا من التشابه بين الآراء التي تعذر التوفيق بعد فيما بينها، أعظم من الانفراج المستحكم بينها. وخلاصة القول إن معيشة بني الإنسان مع بعضهم بعضا بسلام ميسورة لمن يريدون ذلك ويقصدونه برغبتهم وحسن إرادتهم. وقد حدا بي هذا البحث إلى نوع آخر من الانتقاد صوبه نحوي بعض المسلمين، وليس المقصود به السياسة في هذه المرة بل المقصود به الفلسفة والعلوم الدينية. وقد انتهت إلي رسالتان غريبتان في هذا الباب، إحداهما من رجل مشهور الاسم في فرنسا وهو (أحمد رضا) مدير جريدة «مشورت» الذي جمع ملحوظاته في رسالة سماها (التسامح الإسلامي) وقصد بها الرد على الكتاب الغربيين الذين يتهمون العالم الإسلامي بالتعصب الديني، واستشهد في خاتمتها بكلمات قالها الكردينال «لافيجري» وهي: (أجاهر علانية بأنني أعتبر إثارة خواطر الشعوب الإسلامية بعدم التدبر في دعوتهم إلى الدين المسيحي إثما من الآثام وضربا من ضروب الجنون)، وإنه ليفيض بي الكلام على الوصف الذي وصف به صاحب الرسالة تسامح المسلمين، ولكني على ثقة من أن تبادل الشكوى أو الشتم لا يحدو بنا إلى الغاية السلمية التي نقصدها، وإن الاجتهاد في فهم بعضنا مقاصد بعض أولى وأحسن من الصياح والعويل لمنع الناس في الاتفاق والوئام. وقد وردت إلى رسالة ثانية من أحد عظماء المسلمين وهو حضرة أحمد أفندي مدحت أكبر كتاب الترك في الوقت الحاضر، وإني آسف شديد الأسف من عدم إمكاني نشر مضمونها بأكملها في هذا المقام لطولها وغموض مباحثها، ولا ريب في أن القراء الفرنسيين كان يسرهم أن يتلذذوا بتلاوة إنشاء شرقي مكتوبة بلغة فرنسية صحيحة، غير أن في المباحث الدينية، ولو كانت متعلقة بالإسلام، شيئا من الاكفهرار والتجهم. على أن هذا لا يمنعني من إيراد شذرة قصيرة يبين فيها الكاتب مبدأ الدين الإسلامي، وها هي: «فيما يتعلق بالإيمان والضمير كل مسلم رقيب نفسه، فهو لا يقدم لأحد سوى الخالق جل وعلا حسابه عن أقواله وأعماله، ولم ير النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولم تسمح له فرصة رأى منها لنفسه حقا أو سلطة مما يخوله لأنفسهم رجال الأكليروس (الدين) في الديانة المسيحية، بل لم يفرقه فارق عن بقية العالمين أمام عدالة الحق سبحانه وتعالى وهو ما يؤخذ منه أنه لو سأل أحدهم ما هو الإسلام، لأجاب المسلمون على اختلاف مذاهبهم بأنه العمل بما قرره القرآن الشريف — فالديانة القرآنية لا تهوي بالإنسان بإقصاء الإله عنه في نهاية الفضاء — إذ جاء في القرآن الشريف وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. هذا الدين فرق بين الإنسان من وجهتيه الأدبية والمادية، فحدد أحواله فيهما بكيفية موافقة للإدراك البشري». ثم استنبط الكاتب من هذا الفرق دفاعا عن الدين الإسلامي يراه أرقى وأحسن ما يدفع عنه به، وأخذ يعتب علي لكوني اختصرت البحث في المسألة الفلسفية ذريعة إلى قصر الكلام على المسألة السياسية. وإنني أعترف بأنني انصرفت أثناء سياحتي في الجزائر وتونس إلى الوجهة التاريخية السياسية أكثر منها إلى غيرها، وإذا كان القارئ لا يمل حديثي فإنني أورد هنا بإيجاز كيفية الأسباب التي حملتني على هذه السياحة وقصر مباحثي مؤقتا على أعظم مشكلة قامت منذ قرون بين الديانتين المسيحية والإسلامية. وكان يوجد في فرنسا وقتئذ جم غفير من الناس يجاهرون بضرورة استئناف الحروب الدينية التي اشتهرت بها القرون الوسطى، واسترسل في هذا الموضوع كثيرون من أخص أصدقاء الكردينال ريشليو الذين أخذوا بناصره في خطاه الأولى، ووالوه بنصائحهم وسطوتهم، ومنهم الدوق دي نيفير، والأب جوزيف صديق ريشليو الحميم ومشيره الخاص الذي انطوى معهم في أفكارهم قلبا وقالبا، حتى لقد بدئ في ذلك الحين بتجهيز الحرب الصليبية، ويمكن القول بأن حزب الملكة ماري دي متديسي الذي أجلس ريشليو على منصة الأحكام، وكان يسمى بحزب الكاثوليكيين حزب من الصليبيين. فما كان من الكردينال ريشليو إلا أن قطع كل صلة من أصدقائه رافضا أن يكون آلة بأيديهم، بل كان منه أن جذب الأب جوزيف إلى ناحيته ثم ولى وجهه عن الإسلام فحارب — كما هو مشهور — الأسرة النمساوية. والحق يقال إن الكردينال كان من أقل الناس تعصبا، فإنه قبل أن يأتي بما عمل به، بنى عمله على أسباب تأمل فيها طويلا واستنجد وقارن، وإن هذه الأسباب هي التي كنت أروم الوقوف عليها لإظهارها. أما الأسباب التي حملت ريشليو على العدول عن الحروب الصليبية فلسوف أبينها في يوم ما. ولكنني بالبحث في الماضي والمشاهدة العيانية في الحاضر قد توصلت إلى البحث عن مبادئ الاتفاق والوئام في عين المكان الذي اشتهر بأسباب الشحناء والبغضاء، بحثت عن أصول هذه الأسباب فأشرت إلى السلم الناشئ من الحماية ونوهت بذكر أمر مهم وهو معيشة فريقين من الناس، كان لا يظن أنهما يجتمعان في وئام واتفاق، باحترام كل منهما معتقدات الآخر. لما لاحظت هذه الأمور، كنت أود مداراة العواطف، والاقتصار على عبارات التسامح والمسالمة، والاكتفاء بالكلام على الحياة الفعلية، ولكن يظهر أن هذا صعب المرام، إذ الجميع لم يفهموا مرادي ولم يقفوا تمام الوقوف على مقصدي، ومهما يكن من الأمر فإن من الأمور المهمة قيام الأفكار في البلاد المسيحية والإسلامية قياما إذا تحركت فيه بالحركة الطبيعية المبنية على حسن النية وطهارة الضمير، كانت نتيجتها التقريب والتوفيق لا الإبعاد والتفريق. هذا ما كتبه هانوتو وليس فيه رد لشيء مما خطأه به الأستاذ الإمام من المسائل الدينية والتاريخية ولكنه تنسم من الكلام أن الترجمة تشعر بأنه مستحسن لما نقله عن كيمون وما هو بمستحسنه وهذا صحيح. «لما كان المحيط الكبير ليس إلا مذاقا واحدا هو الملح الأجاج، كذلك الحال مع هذه العقيدة ليس لها إلا مذاق واحد هو مذاق الخلاص والتحرر».
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/3/
حديث مع هانوتو لصاحب جريدة الأهرام
رأيت وأنا في باريس أن أقابل المسيو هانوتو وأقف منه على حقيقة الأحوال بوجه عام، وعلى الغاية التي قصدها ويقصدها من كتاباته الأخيرة عن الشرقيين والمسلمين بوجه خاص، ولما كان هذا الموضوع من أهم المباحث لدينا مع رجل مثل هانوتو الكاتب البعيد الصيت والسياسي الواقف على أحوال أوربا والشرق، وكنا نعتقد، كما قالت الأهرام مرارا وتكرارا، أن تقدم الشرق يكون بتقدم الأمة الإسلامية، توخيت أن أنشر أقواله وآراءه، فاستأذنته بذلك فأذن لي. قال: أنتم تعرفون من تاريخ أوربا أن أممها ما تقدمت علما ومدنية واختراعا إلا يوم تقيدت السلطة المدنية، وعرف الشعب والحكام فروضهم المتبادلة، وأنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسيين، ولم أستشهد بكيمون، وهو يوناني الجنس، إلا لأفند أقواله التي لم ينفرد بها، فإن كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسيين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه، وقالوا قوله، وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل، ونجاحهم بعيد، لأن الإسلام معتقدهم يحول دون ذلك، وحجة هؤلاء واحدة، وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر الشرق، لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي، وإن كل حكومة انفصلت عن الشرق سارت على منهاج أوربا علما ومدنية نجحت، مع أن الدولة العثمانية وأفغانستان ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة، وإنما ذكرت من هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم، ولأفند مزاعم هذا الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون الإصلاح والمدنية، واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس، فذكرتها مثالا أؤيد به أقوالي وسياستي هذه هي روح كتابتي السابقة وإنها ستكون روح اللاحقة. على أن معارضتي لأمثال هؤلاء الكتاب، أي نقضي لأقوالهم، لا يمنعني عن أن أقول لكم الحقيقة، لأنه يستحيل على أن أقول إن شرقكم سائر على منهاج حكومات أوربا في العدل والحرية والمدنية، كما أنه يستحيل على أن أقول إن حالتكم الحاضرة ضمان لمستقبلكم السياسي، فاعلم أن أوربا حاربت السلطة الدينية مدة ثلاثة قرون لا عن عدم اعتقاد، بل لتفصلها عن السلطة المدنية، فإن المتحاربين كانوا من معتقد واحد، ولكن أراد أفراد أممها أولا ولفيف شعوبها ثانيا أن تكون الكلمة الأولى للسلطة المدنية في أحوال الحكومات وشئون الشعب، وأن يكون للمعتقد حق الأدبيات الدينية بأن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله. واعلم أن الذي أيد هذه السياسة أيضا في بلادنا فرنسا هو أعظم تلامذة روما وأحد أقطاب الكنيسة الكاثوليكية أي الكردينال ريشليو، فهو الذي قال بفصل السلطتين، ولم تنسه واجباته الكنسية الدينية معرفة الحقيقة، وهو بهذه السياسة خدم السلطتين أشرف خدمة، إذ أيد السلام بينهما فتأيّدت سطوة الحكومات وتقدمت شعوب أوربا تقدما عجيبا، واعتزت السلطة الدينية أيضا وعاشت السلطتان بوفاق وسلام. وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسيين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق للسلطة الحاكمة، مع احترام عقائد الشعوب التي تحت حكمنا وسلطتنا، وهو ما سرنا عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسية. وإني لا أكلمك كمسيحي بل كمؤرخ أو كاتب حر الضمير، لا شأن لغيره في معتقده الخاص، ولكنني أحترم أدبيات كل دين ومعتقده، وأقدر تلك الأدبيات حق قدرها، ولكن الماديات غير الأدبيات، والأولى من شئون عالمنا هذا الذي نعيش فيه ونحيا به، وكل أمة لم تتقدم في ماديتها لابد أن تموت، إذ لا حياة بلا مادة، وإلهكم أنتم أيها الشرقيون إله أوربا وإله أمريكا، إذ أن إله الجميع واحد، ولا يمكن أن يكون أكثر انعطافا على الأوربي منه على الأمريكي، فالشرقي، بل إن الشرقيين عموما، أكثر تمسكا بعقائدهم من الغربيين، وقد علمنا أن أوربا فاقت شرقكم بمراحل، ونرى اليوم أمريكا تزاحم أوربا، وكثيرا ما فاقتها في اختراعاتها وفنونها، ولم يكن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أميل إلى الأمريكي منه إلى الأوروبي أو الشرقي، ولكن لأن الأخير مستميت والأول حي، هذا يشتغل مجتهدا، وكلما زادت أرباحه زاد نشاطا وإقداما، وذاك يقضي حياته بين القنوط واليأس مستسلما، ولهذا تقدم الأوربي وتأخر الشرقي وضيق أوربا بأهلها دفعها إلى الاستعمار في كل صوب، فصادف أبناؤها أرضا واسعة وشعوبا لا حراك بها، فقبضوا على الأعمال السياسية والاقتصادية فيها. وهنا استسمحت حضرة المسيو هانوتو وقلت له: إذا كنت تحب مصلحة المسلمين، وتعتقد أنهم راضون في تونس، فهل تعتقد ذلك في أهل الجزائر، ولماذا لا تسأل الحكومة الفرنسية أن ترى في أحوال هؤلاء؟ فقال: أما التونسيون فلا خلاف في أنهم مسرورون بحالتهم، ونحن قد دخلنا بلادهم وهي قاع صفصف فوق شملها أفراد حكمها، وأما نحن فقد تركنا للسكان حقوقهم المذهبية، فاحترمنا جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم الشخصية، ولم نسألهم إلا أمرا واحدا أي احترام سلطتنا السياسية، فأدركوا هذه الحقيقة وعملوا بها، ولهذا كان النجاح عظيما في مدة قريبة، وأنت تعلم أن مذهبي في الاستعمار وضع الحماية كما هو في تونس لأضم المستعمرة إلى فرنسا، كما فعلنا في مدغشقر بالرغم من معارضتي ذلك، وقد رضيت به منقادا لأوامر أكثرية دار الندوة، ولا أنكر أنه يجب تعديل بعض قوانين الجزائر، وقد شرعنا في ذلك، وسأكتب كثيرا في هذا الموضوع، لأني ذهبت بنفسي إلى تلك البلاد، ودرست أحوالها، وأملي ألا يمضي زمن حتى ترى ذلك الإصلاح الذي طلبه غيري وشرعت حكومتنا في إنفاذه. قلت: إني أعرف ما سردته لي عن تاريخ السلطتين الدينية والسياسية في أوربا وعن أحوال شعوب القطرين. (تونس والجزائر) ولكن ذلك مستحيل في الشرق ولا سيما في الحكومة الإسلامية، والذين يقولون به من الأجانب ليسوا إلا خصوما للمسلمين، لاعتقاد هؤلاء أن في فصل السلطتين ضعفا ترومه أوربا لتنال بغيتها منهم. قال هانوتو: أنا لا أسأل الشرق ذلك فهو حر يفعل ما يشاء، ولكن أعتقد أن أوربا لم تتقدم إلا بعد تعيين حقوق السلطتين، وجعل الكلمة الأولى للسلطة الحاكمة، كما أني أعتقد أن جمع السلطتين في شخص واحد لم يمنع أن تخسروا في الحروب الماضية، وأعتقد أيضا أن صاحب السلطتين ولا سيما في بلاد كالشرق يستطيع أن يجري إصلاحات لا يقدر غيره عليها. ويعلم المسلمون أن جمع السلطتين في شخص واحد لم يمنع فرنسا من الاستيلاء على الجزائر وتونس، وإنكلترا من التهام الهند، وروسيا من أخذ تركستان وغيرها إلى حدود أفغانستان، كما أنه لم يمنع استلال مراكش وبلاد فارس، والمملكتان إسلاميتان، فإذن كان يستحيل توحيد سلطتهما الدينية، وإذا كان الإسلام كما قلتم ويقول كتابكم إنه لا يحول دون التقدم العصري فما بالكم متأخرون ونحن متقدمون؟ وبماذا تردون على أولئك الكتاب الذين لا يعتقدون اعتقادكم؟ فإذا قلتم إن أوربا تحول دون الإصلاحات، إذن، فلم تأخرتم واليابان تقدمت؟ وهي لم تشتغل إلا ربع قرن حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، فأصبحت أوربا تقدرها قدرها في جميع مسائل الشرق الأقصى. وإذا قال لكم أولئك الكتاب إننا مقتنعون بأن أوربا وشعوب تركيا حالت دون إصلاح الولايات الواقعة في أوربا والقريبة من أوربا كسوريا مثلا سألتكم، هل مسلمو بغداد وما بين النهرين وحلب راضون عن أحوالهم؟ أيظن رجالكم وكتابكم أننا نحن وكتابنا جاهلون أحوالهم هنالك حيث لا أوربي ولا غيره يحول دون تعميم العدالة وحفظ حقوق المتقاضين؟ وأنا أعرف أن أمثال هذه الحقائق يجرحكم ذكرها، ولكن قد حان لكم ألا يعميكم غرضكم عن الحقيقة ولو أنها خارجة من فم أجنبي، مادام كتابكم لا يقولونها فقط بل يكذبونها، كأني بهم يساعدون الظالمين من حكامكم على ما يأتونه من المغارم والمظالم، فكان ذنبهم نحو وطنهم أعظم من ذنب الحكام الظالمين. وإني أقول لك هذا بعد الذي قرأته في جرائدكم ردا على ما كتبته، فقد عدوني خصما لهم، ونسوا خدماتي لهم وأنا في منصة الوزارة الخارجية في أيام المسألة الأرمنية، فإذا كان هذا رأيهم في صديق خدمهم، فماذا يكون حكمهم على خصم جهر بعدواتهم؟ ولكن فليعلم هؤلاء أنه إذا حدثت أمثال تلك الحوادث في المستقبل فيستحيل على وزير أوربي أن يقبل مثل تلك السياسة. ولا أقول هذا من باب العداء، بل لما نراه من تعديل أوربا على وجه عام مبادئ سياستها الخارجية مع الشعوب الشرقية، فإن الدول ستكون واحدة في المستقبل كما ترى الآن في مسألة الصين. فقلت للمسيو هانوتو: وما شأنكم والشرق وأممه فكلاهما راض عن حاله، ومفضل لها على كل سلطة أجنبية أو أوربية، والذي ينفر الشرقي هو ظلم أوربا في سياستها هذه، وعتبنا على فرنسا أكثر من غيرها لأنها عودتنا حماية الضعيف من القويّ. فقال الوزير بعبارة صريحة: إن هذه الأقوال خيالية لا تنطبق على حالة أوربا في هذا الزمان، فهي بعد أن كانت لا تهتم بغير قادتها، قد اندفعت إلى الاستعمار، ولا تقف عند دعوى العدالة وغيرها، واعلم أن فرنسا مضطرة، مادامت لا تقدر على منع الدول الثانية عن توسيع نطاقها الاستعماري والتجاري إلى الاقتداء بالدول المذكورة. وإني أرى كتابكم وأفراد أمتكم يجهرون في غالب الأحيان بأفكار صبيانية فيستعبدون للألماني لنكاية الإنكليزي، وينتصرون للفرنسي على الألماني، ولكن أما حان لهم أن يعلموا أن الأوربيين مهما اختلفت أجناسهم ومذاهبهم من السهل اتفاقهم على الشرقيين؟ لأن هؤلاء لا يعملون عمل العامل البصير باستخدام مصلحة هذه الدولة أو أغراض تلك الأمة لإصلاح شئونهم بل لمعارضة دولة ثانية، وهي سياسة قديمة العهد لا تعتد بها أوربا اليوم. وأنت تعلم أن ألمانيا أكثر الدول في أوربا استقرارا، وأبعدها عن الاستعمار، وهي التي اقترحت تجديد مناطق النفوذ في الصين، وهي التي سألت امتياز إنشاء «سكة حديد» بغداد، مما يدلكم على أن أوربا لا تسعى إلا إلى مصلحتها السياسية. ثم قال لي: أنت تقول لي إن الساسة المسلمين لا يعتقدون بإخلاص سياسة أوربا كلها أو بعضها، ولهذا يخافون من مصافاة هذه الدولة خوفهم من معاداة تلك لا سيما وأن أكثر الدول تطمع في أملاكهم، وحضرتك أكدت ذلك في كلامك الآن عن سياسة أوربا. والمسلمون يعتقدون أيضا أن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية، ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول المسيحية، وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم، وهم يؤيدون سياستهم هذه لما رأوه من تدخل أوربا في أعمالهم، ومن أفعال الموظفين غير المسلمين في المناصب السياسية العثمانية سواء أكان في بلاد الدولة أم في سفارتها، وأنت تقول لي إن في ذلك بعض المغالاة ولكنهم يعذرون. فهذا الذي تقوله لي اليوم قد سمعته منك من قبل وقاله لي بعض العثمانيين في الآستانة وباريس، ولكن تفنيده أمر سهل وإليك البرهان: لا يسعك والساسة المسلمين أن تنكروا أن بعض دول أوربا قد اتفقت مع الدولة العثمانية على دول ثانية مسيحية في أوربا، فإن هذا حصل قولا وفعلا في حرب القرم، فنحن وإنكلترا لم نبخل بالمال والرجال لمساعدة دولتكم العثمانية، ونحن وروسيا وألمانيا منعنا بعض دول أوربا عن نيل أغراضها في المسألة الأرمنية، بالرغم من هياج الرأي العام الأوربي وتصريح بعض الدول بمعارضتكم، وتلك أمور حديثة العهد يعرفها رجالكم كما نعرفها نحن. وإذا راجعنا حوادث التاريخ القديمة تبين لنا أيضا أن فرنسا وبولونيا وغيرهما حالفت الدولة العثمانية ضد دولة ثانية مسيحية، مما يدل على أن ضالة أوربا مصلحتها الاقتصادية والسياسية، ولا دخل للاعتقاد البتة في أعمالها، ولعمرك هل منع ألمانيا كونها مسيحية أن تحارب أوستريا وفرنسا المسيحيتين؟ وألم تحارب إيطاليا أوستريا؟ وهل منع فرنسا مذهبها الكاثوليكي من أن تحالف روسيا ومذهبها أرثوذكسي؟ وهكذا قل عن التحالف الثلاثي بين البروتستانتي الألماني والكاثوليكي النمسوي والإيطالي، وهذه الترنسفال دينها كدين إنكلترا وأهلها من أقرب العناصر إلى الجنس السكسون. وقد حاربها الإنكليز وغرضهم سلب استقلالهم. كل هذه شواهد قديمة العهد وحديثة تفند زعم حضرتك ومزاعم ساسة الشرق. وإني أتساهل معك وأقول، إن بعض دول أوربا يريد لكم سوءا، وإن هذا ولد فيكم عدم الثقة بنا نحن الأوربيين، ولكن إذا كان قد استحال على دول الشرق، وهي في أوج مجدها وشامخ عزها، أن تتحد وتوحد كلمتها، فهل يسهل ذلك عليها اليوم؟ وإذا كان المسلمون يعدون سياسة أوربا عداء لمصلحة الإسلام، لأن أوربا مسيحية، وهو زعم باطل، فهل كان ما ينادون به من وجوب الاتحاد الإسلامي وجمع كلمة المسلمين مما يخيف أوربا، ويمنعها عن إنفاذ ما يتهمها به المسلمون؟ وكيف يمكن ذلك الاتحاد المزعوم؟ أترضى به أوستريا ولها البوسنة والهرسك وهي طامعة في غيرهما؟ أم تقبله فرنسا مع أملاكها الأفريقية الواسعة؟ أم تؤيده إنكلترا وعدد رعاياها المسلمين عظيم؟ أم تعضده روسيا؟ أليس ذلك خرقا في الرأي من الذي ينادون بهذه السياسة؟ كأني بهم هم الذين يريدون إنفاذ ما يطلبه كيمون وغيره من كتاب أوربا، وقد كان أولى لمثل أولئك الكتّاب أن يكتبوا كتابات أدبية بلغات الكتبة الأوربيين لتفنيد أقوالهم ولاستمالة الرأي العام الأوربي إليهم. أما ما كان يجب عمله على رجالكم سواء كان الذين عركتهم حوادث السنين الغابرة أو الذين درسوا في أوربا وتعلموا بعض علومها ووقفوا على قليل من مبادئها وسياستها فهو أن يهتموا بنشر العلوم العصرية في بلادهم، وأن يعملوا في الخارج على إزالة سوء التفاهم الواقع بين الشرق والغرب، بأن يتخذوا إقدام أوربا واجتهاد أبنائها مثالا يسيرون عليه، وأنموذجا يعملون بموجبه، أي كما فعل اليابانيون في السنين الأخيرة. وأنت تعلم أن الذي نبه اليابان هو خوفها من أوربا، وهي التي لم تتعز عن ضعفها باحتقار الأوربي وذمه والمباهاة بمجد الآباء، ولم يقل ياباني بتحقير الأجنبي، لأنه عنصر غريب، أو لأنه مسيحي ودينه بعيد بمراحل عن دين أهل اليابان بل قال رجال هذه المملكة بوجوب محاربة أوربا، ولكن بسلاح أوربا، أي بأن تتشبه بها في العلم والمدنية والإقدام، ولهذا فازت في مطالبها، وحالت دون فتوحات الأوربي الاقتصادية أولا فالسياسية ثانيا … ولو أتى رجال الشرق القريب هذا المأتى منذ حرب القرم لما شكا مسلم من أوربا، ولما شكا كاتب أوربي من حال الشرق وأهله، بل لو فعلوا وحدث انقلاب عظيم في السياسة الأوربية سواء كان في أوربا أو في الشرقين الأقصى والأقرب لكان دون شك حظ دولتكم العثمانية أضعاف حظوظ أعظم دولة أوربية. وأراني في هذا الشرح قد بلغت ما قصدته من تفنيد ما يزعمه رجالكم الذين إذا رجعوا إلى نفوسكم عرفوا هذه الحقائق كما نعرفها نحن، وقد كان يجب عليهم أن يجهروا بها خدمة لأمتهم ولوطنهم لا أن يتجاهلوها ويكذبوها. وتقول لي إن النهضة العلمية بدأت في مصر، وإن بعض الأفراد أنشئوا المدارس، وإن الجناب السلطاني قد اهتم كثيرا بتوسيع نطاق المعارف في البلاد العثمانية، وإن أصحاب النشأة الجديدة أدركوا قصور الحكام، وتأخر البلاد، فقاموا يجاهرون بوجوب الإصلاح وتعميم العدالة، والأمل وطيد بالنجاح. ولكن الطفرة محال وهذا أمر يسرني ويشرح صدري لأني أرغب رغبة خالصة في نجاح شرقكم، ولكن يجب أن تعلم أن العبرة ليست فقط في إقامة المدرسة بل في وضع «البروجرامات» المدرسية، كما أن العلم وحده لا يكفي وقد يضر إذا لم يمزج بالتهذيب، فإني لا أجهل أن كثيرين من أبناء الشرق درسوا في أوربا، وقد يربو عددهم على عدد اليابانيين الذين درسوا في أوربا أيضا. ولكننا رأينا في اليابان نتيجة لم نرها حتى الآن عندكم، ولعلنا نراها يوما لأني أعتقد أن رجال النشأة الجديدة ينجحون نجاحا كاملا إذا كان غرضهم خدمة الوطن منزهة عن كل غاية شخصية أو مذهبية، لأن الواحد قد يجمع أكثر من عنصر ومعتقد، ولكن الاعتقاد وحده لا يجمع إلا عنصرا واحدا، وأنت تعلم أن الفرنسي يشمل الكاثوليكي والبروتستانتي والمسلم واليهودي والوثني وغيرهم من رعايا فرنسا، ولكن الكاثوليكي الفرنسي والأرثوذكسي الفرنسي لا يشمل كل فرنسي. لهذا كانت السلطة المدنية أهم وأشد من الرابطة الدينية، وهي التي كانت قاعدة أوربا الأولى في سياستها وبها تقدمت وتمدنت ونجحت، وإلى هنا قد أجبتك على جميع ما أردت أن تعرفه مني عن رأيي في الشرق.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/4/
رد الأستاذ الإمام
قرأت الساعة مقال مسيو هانوتو المترجم في جريدة المؤيد نقلا عن جريدة «الجورنال» الباريسية تتميما لبحثه السابق. بحثه السابق وشيء من تتمته إنما هو دافق من غيرته على شئون دولته، يريد أن يدعو قومه إلى التبصر في وضع قاعدة ممالكهم، وذلك لا يتم على مذهبه إلا بالبحث في طبيعة الأمر الذي صار به المسلمون غير مسيحيين، وبه يفضل المسلمون سلطة إسلامية على سلطة فرنسية. فإن أمكن تلقيح ما عليه المسلمون لمعاملة المسلمين الذين يدخلون تحت ولايتهم، أو يجاورونهم في الولاء الفرنسي، وسهل الجمع بين ما وقر في نفوسهم وبين الخضوع الأعمى لسلطان فرنسا، وطاب الجوار في قلوب الملة الإسلامية لعقيدة الإسلام والطاعة لكل أمر يصدر من آخر فرنسي في طبقته، صح للدولة الفرنسية أن تمن على المسلمين بالبقاء في الأرض وإلا وجب عليها أن تحمل عليهم فتبيدهم من البسيطة أو تجليهم إلى قارة أخرى. ولهذا جره البحث إلى النظر في أصول دين المسلمين، والمضاهاة بينه وبين الدين المسيحي، بل بينه وبين أديان كثيرة أشار إليها في كلامه، ثم الحكم في تفضيل أحد الدينين على الآخر بآثار كل منهما في نفوس معتقديه. ولو لم يتعرض مسيو هانوتو إلى الطعن في أصل من أصول الدين ما حركت قلمي لذكر اسمه وكان حظي من النظر في مقاله هو العظة والاعتبار — حظ الناظر في أحوال الأمم وأعمال رجالها — حظ المؤرخ الذي يقرأ ليفهم، ويفهم ليعلم ويحكم. ولا يهمه أخطأ القائل أو أصاب. أما ما جاء في التحكك بأصول الدين فهو الذي أغمزه بما أكتب اليوم. يرى الناظر في كلام مسيو هانوتو لأول وهلة أنه مقلد في التاريخ كما هو مقلد في العقائد، وأنه جمع خليطا من الصور وحشرها إلى ذهنه، ثم هو سلط عليها قلمه ينثرها كما يشاء القدر ليدهش بها من لا يعرف الإسلام من الفرنسيين وهو جمهورهم. أكثر من ذكر التمدن الآري والتمدن السامي والتفريق بينهما، وأن أحدهما قهر الآخر وأن التمدن الآري هو الذي ظفر بقرينه التمدن السامي وما يشبه ذلك. إن مهد التمدن الآري ومنبت غراسه (الهند) لا يزال إلى اليوم على الوثنية التي يحبها مسيو هانوتو في أغلب أنحائه، ولكن أهله هم الذين قضوا على الآخذين بعقائدهم أن ينقسموا إلى أقسام لا يمكن الخلط بينها بل يدوم تباينها مادامت الأرض أرضا. ومن طبقاتهم من قُضي عليه بالانحطاط في العقل والخلق والصناعة لا يباح له أن يرتقي إلى طبقة ما فوقه إلى انقضاء العالم، وهو الجمهور الأغلب منهم، وفيهم من حكم عليه بالنجاسة حتى لا يباح لأهل طبقة أخرى أن تمسه. والاعتقاد بفناء العالم، وإنه لا يليق بالإنسان أن يهتم بشئون العيش هو مبنى عقائدهم. فهل جاء هذا للآخذين بدين البراهمة من التمدن السامي، وهو لم يعرفهم إلا في آخر الزمان. ولم يخالط إلا قلوب القليل منهم، كما لا يخفى على من له إلمام بجغرافية البلاد الهندية. ثم هل يظن مسيو هانوتو أن التمدن الذي وصل إليه الأوربيون حمل إلى أوربا مع المهاجرين الأولين الذين رحلوا من البلاد الشرقية الآرية إلى الأقطار الغربية؟ ألم يخطر بباله تلك العظائم التي انتفخ بها بطن التاريخ وما كانت عليه أوربا الآرية من الهمجية، وإن العلم والمدنية لم ينبعها من معينها، وإنما جاءها هذا بمخالطة الأمم السامية كما يعلمه المطلع على تاريخ اليونان الأقدمين وهم أساتذة الأوربيين الآخرين كما يزعم مسيو هانوتو؟ ما هذا التمدن الآري الذي كانت عليه أوربا عندما انتقص أطرافها المسلمون؟ هل كانت تلك المدنية هي التسافك في الدماء، وإشهار الحرب بين الدين والعلم، وبين عبادة الله والاعتراف بالعمل؟ نعم! هذا هو الذي كان معروفا عند الغربيين وقتما ظهر الإسلام. ماذا حمل الإسلام إلى أوربا، وما هي ذي المدنية التي زحف عليهم بها فردوها؟ زحف عليهم بما استفاد من صنائع الفرس وسكان آسيا من الآريين، زحف عليهم بعلوم أهل فارس والمصريين والرومانيين واليونانيين، نظف جميع ذلك ونقاه من الأدران والأوساخ التي تراكمت عليه بأيدي الرؤساء في سائر الأمم الغربية لذلك التاريخ وذهب به أبلج ناصعا يبهر أعين أولئك الغافلين المتسكعين الذين كانوا في ظلمات الجهالة لا يدرون أين يذهبون. إني أكيل لمسيو هانوتو إجمالا بإجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من منصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به. إن أول شرارة ألهبت نفوس الغربيين فطارت بها إلى المدنية الحاضرة كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يسطع ضوءها من بلاد الأندلس على ما جاورها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها مدة قرون فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. واليوم يرعى أهل أوربا ما نبت في أرضهم بعدما سقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة. يحار القارئ لكلام مسيو هانوتو في معنى المدنية السامية التي جاء بها الإسلام وتصادم بها مع المدنية الآرية. ولعل عنايته بالألفاظ التاريخية مع قصوره عن النفوذ إلى حقائق ما أودعته هو الذي قصر به عن النجاح في أعماله في السياسة الخارجية بين أمة مثل الأمة الفرنسية التي تنقاد بذكائها إلى الأذكياء. والعارف بطباع الأمم لا يعسر عليه أن يقودها إلى ما يضمن لها الفوز على جيرانها، وإنما العسر كل العسر أن يوجد ذلك العارف اليوم. إن الناظر في التاريخ تحمر عيناه من مناظر الدماء المتجسدة على جليد الأزمان، ذلك مما سفكه أهل ذلك الدين المتحد بالمدنية الآرية ليقاوموا دعاة تلك المدنية السامية ويخمدوا نارها. إن صح الحكم على الأديان، بما يشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم، جاز لنا أن نحكم بألا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة، فإن الإنجيل بين أيدينا نقرؤه ونفهمه ولا يغيب عنا شيء من دقائق معناه، يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهادة فيها، ويوجب عليهم إذا سلبهم السالب قميصا أن يعطوه الرداء أيضا، وإذا ضربهم الضارب على خدهم الأيمن أن يديروا له خدهم الأيسر، وأن يفنوا بكليتهم في الأب، ويقضي عليهم أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت السماوات، وما شابه ذلك من الوصايا الملكوتية التي تليق برسول إلهي رباني يدعو الناس الانقطاع عن هذا العالم الفاني ليليقوا بالانتظام في أهل ذلك العالم الباقي. هل خطر ببال مسيو هانوتو أن يجعل ما لله لله وما لقيصر لقيصر كما أوصى الإنجيل، وهل رأى مثالا لذلك في المدنية الآرية التي تآخت مع الدين المسيحي؟ العيان يدلنا على أن شيئا من ذلك لم يكن. فإن هذه المدنية إنما هي مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم والليرة عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك. أوصى المسيح بأن يترك ما لقيصر لقيصر حتى لا يشغب المسيحيون على ملوكهم من غير دينهم فانقلبت الحال بهم، وأصبحوا لا يحتملون أن يروا لهم رعايا من غير دينهم فضلا عن ملوك. نعم يوجد قوم الآن يقيمون أوامر الإنجيل وهم جماعة من الأمريكان تركوا بلادهم وخرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا إلى القدس الشريف ينتظرون نزول المسيح ليستقبلوه لأول هبوطه على المنارة المشهورة، وليكونوا أول من يقبل قدميه ويديه. وهم من طهارة القلب وسلامة النفس ونزاهتها عن الطمع بحيث انقطعوا عن كل عمل سوى النظر في الكتب المقدسة. فإن كانت هذه هي المدنية الآرية التي صارعها الدين الإسلامي فأنا أول من يسلم لحججه ويقتنع بأدلته. من الساميين الفينيقيون وهم أساتذة القوم في الصناعة والتجارة بل والقراءة والكتابة، ومنهم الآراميون وقد كانت لهم مدنية لا تنكر أيام الرومانيين، وما كان الغربيون لينكروا فضلهم في ذلك. ومبادئ الصناعة والعمل عند جميع الأقوام المرتقية في سلم الإنسانية واحدة، وإنما يختلف قوم عن قوم بما تحدثه في نفوسهم ضرورات المعيشة، وما تجلبه عليهم عاصفات الحوادث، وما تطبعه فيهم طبائع الأقاليم ولازالت الأمم يأخذ بعضها من بعض في المدنية، لا فرق عندهم بين آري وسامي متى مست الحاجة إلى تناول عمل أو مادة أو ضرب من ضروب العرفان لدفع ضرورة من ضرورات الحياة، أو استكمال شأن من شئونها. وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل، فلم يبق من معنى للمدنيّة يريده حضرة الكاتب إلا الدين وقد ظهر في كلامه أن الدين السامي يراد منه التوحيد والدين الآري يعني به ما يقابله. وإني أقرر لهذا الوزير الشهير حقيقة بدهية يعرفها صبيان المكاتب وهي أن دين التوحيد ليس دينا ساميا بل هو دين عبراني فقط عرف به إبراهيم عليه السلام وبنوه ومنهم عيسى من جهة أمه وأصحابه وأنصاره الأولون. أما بقية الساميين من عرب وفينيقيين وآراميين وغيرهم من الأمم المذكورة في الكتاب المقدس وهو يعرفها، فقد كانوا وثنيين مشهورين مشبهين ولم يخالفوا في ذلك بني عمهم أو أعداءهم الآريين، وقد خاض الكاتب في تفضيل التشبيه والتجسيم على التوحيد، وذكر لذلك عللا وأسبابا أدته إليها سعة إطلاعه في الفلسفة وأحوال الاجتماع الإنساني، وسنأتي على الكلام فيها. وقبل إلقاء القلم أذكر الذين يتفانون في إجلال مثل هذا الوزير كما يتفانى المسلم في الله على رأيه إني إن صغرت شأن هانوتو في معارفه التاريخية فذلك لأنه صغير فيها حقيقة، وكثير من قومه يعرف ذلك منه ولأنه لا أمير في العلم إلا العلم والسلام. تحرش مسيو هانوتو بمسألتين من أمهات مسائل الدين، القدر والتوحيد أو التنزيه، وبعد أن خلط في بيان وجه الإشكال في المسألة الأولى واختلاف الناس فيها قديما، وأنهم انقسموا إلى فريقين: قائل بأن العبد مسير بقدرة الله لا عمل لإرادته في فعله، وذاهب إلى أن خالقه وهبه اختيارا يتصرف به فله ما كسب وعليه ما اكتسب، قال إن الرأي الأول يحط الإنسان إلى حضيض الضعف، والثاني يرفعه إلى ذروة القوة، ثم وصل الأول بمذهب البوذيين القائلين بفناء الموجودات في الوجود الأزلي، والثاني بمذهب اليونانيين القدماء الذين يدينون بتشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية، وأن الأول قعد بأهله والثاني ارتفع بمعتقديه إلى مراتب الكمالات الإنسانية!! وهو خلط وخبط لم يعهد لهما مثيل. ثم انصب على الديانتين المسيحية والإسلامية وقال إنهما تمثلان ذاك المذهبين، أي مذهبي الناس في القدر، وأن الأولى ربانية ورثت ما ترك الآريون، والثانية بشرية أخذت ما ترك الساميون، وأن الأولى ترقى بالإنسان إلى المقام الإلهي، والأخرى تنزل به إلى أسفل درك حيواني، ويظهر ميل كل من الدينين ظهورا بينا في الأصل الذي بُني عليه كل منهما، فأصل الأول هو إيجاد الإله الأب للإله الابن حتى كان إلها بشرا، واتصال الإلهين بروح القدس. وأصل الثانية تنزيه الإله عن البشرية وتقديسه إلى حد تنقطع فيه النسبة بينه وبين الإنسان، ثم رجع بعد هذا إلى الخلط بين الدينين وردهما إلى أصول واحدة وعقد التشابه بينهما إلى آخر ما أطال به على غير جدوى. هل عهد بين الكتّاب وأهل النظر تشويش في الفكر وخلل في المقال يشبه ما جاء به هذا الكاتب؟ أدع الحكم في ذلك لمن له أدنى إلمام بمذاهب الأمم وآرائهم. لم يختص الكلام في القدر بملة من الملل مشبهين أو منزهين، ولا دخل للتشبيه والتنزيه في شيء من ذلك بل كان منشأ الكلام في ذلك الاعتقاد بإحاطة علم الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن. هل سمعت بيهودي استلقى على قفاه وترك العمل اتكالا على القدر؟ هل سمعت بأحد من الفينيقيين (وقد وصلوا بزوارقهم ذات المجاديف إلى جزائر بريطانيا) إنه كان ينام ويتلذذ بالأحلام اعتمادا على ما يسوقه إليه الغيب؟ لكن سمعنا بذلك في الأديار وبين الرهبان وعرفنا أخبار ذلك الجيش العرمرم من المتكلين الذين كانوا يعيشون عالة على الناس حتى ضجت منهم أوربا في زمن من الأزمان وطلبت الخلاص منهم بالصارم والبتار. وقد اشتهر مذهب أهل البخت والاتفاق بين اليونانيين ولم يخف أمره على صغار المتعلمين لمبادئ الفلسفة — ذلك المذهب الذي يبتدئون كتب الفلسفة بإبطاله وهو مذهب القائلين إن الأشياء توجد بالاتفاق أو بالمصادفة ولا يحتاج الممكن في وجوده إلى سبب. أليس هذا أدخل في باب الجبرية من إسناد كل أمر إلى خالق الكون؟ وهل يرتفع هذا المذهب بمعتقده الآري إلى منازل الرفعة ومكانات الشرف. جاء القرآن الشريف، وهو الكتاب المنزل بالإسلام، يعيب على أهل الجبر رأيهم، وينكر عليهم قولهم لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ — بقوله: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية. وما جاء به مما يتوهم الناظر فيه ما يخالف ذلك فإنما جاء في تقرير السُّنن الإلهية العامة المعروفة بنواميس الكون كما في آية ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة إلخ ونحوها. والعاقل يرى الفرق الجلي بين مسألة اختيار العبد في أفعاله وبين أثر القدرة الإلهية في أخلاق الأمم أو في تغريز الغرائز مثلا. فاختيار العبد في أفعاله مما يقر به الوجدان ولا ينكره إلا من جهل نفسه، لكن ما عليه الأمم من الاختلاف في الطبائع والغرائز والسجايا ليس لأحد من خلق الله فيه اختيار بل خلقه كخلق السماوات والأرض وما بينهما. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمله وقوله بما يؤيد ذلك، فكان العامل الذي لا يكل، والدائب الذي لا يمل، والساهر الذي لا ينام، والجاد الذي لم يبلغ شأوه أحد من الأنام، هل نقل عنه أنه اتكأ يوما على وسادته واكتفى بالتسليم للقدر في إتمام دعوته قائلا: الذي كفل لي النصر يكفيني التعب، وضمان الله لإعلاء كلمة دينه تغنيني عن النصب؟ كلا بل لم تكن تزيده الوعود الصادقة إلا نشاطا، ولا تجد العصمة الإلهية من نفسه إلا حزما واحتياطا. جاء أصحابه على أثره وتبعهم من جاء بعده من السلف الأولين وكانوا أكمل الناس إيمانا بإحاطة علم الله وشمول قدرته وأعرف الناس بقدر ما آتاهم الله من قوّتي العقل والاختيار وكانوا أسوةً في السعي ومثلا في الدأب والكسب حتى كان من آثارهم في نشر الإسلام ما يتألم منه اليوم هانوتو وأمثاله. هذه هي العقيدة السامية أو الدعوة المحمدية أو المدنية الإسلامية ارتقت بأربابها وهم من أهل البداوة في قاصية من الأرض لم يتلمظوا بشيء من نعيم الحضر، ولم يتذوقوا طعم العلم والصنعة، حتى بلغت بهم ما بلغت واستوت بهم على عروش العزة والسلطان، ثم بلغوا بها من رقة الوجدان وصفاء العقل مبلغا مكنهم من التلطف بالأمم حتى وقفوا على ما كان خفيا لديها، وكشفوا ما كان مستورا عندها. واستخرجوا من كنوز معارفها ما ظهر فضله على الأوربيين بعد عدة قرون من البعثة النبوية. ولكن وا أسفاه نتأت رءوس بين المسلمين، كأنها رءوس الشياطين، واحتملت غشاء من قمش الآريين، وقذفت به في الأرض الطاهرة فتدنس به أديمها، وانتشر قذره، وعظم ضرره. جاء الموالي من عجم الفرس والرومان ولبسوا لباس الإسلام وحملوا إليه ما كان عندهم من شقاق ونفاق وأحدثوا في الدين بدعة الجدل في العقائد، وخالفوا الله ورسوله في النهي عن الخوض في القدر، وخدعوا المسلمين ببهرج القول وزور الكلام، حتى كان ما كان من تفرقهم شيعا والله يقول لنبيه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. ولكن لا أنكر أن الزمان تجهم للمسلمين كما كان قد تنكر لغيرهم، وابتلاهم بمن فسد من المتصوفة من عدة قرون، فبثوا فيهم أوهاما لا نسبة بينها وبين أصول دينهم فلصقت بأذهانهم لا على أنها عقائد ولكنها وساوس قد تملك الجاهل وتربك العاقل إذا لم يغلبها بعوامل الدين الصحيح، فنشأ الكسل بين المسلمين، يفشو الجهل بأصول دينهم، وعاون على ذلك ميل الأعلياء منهم إلى توريطهم فيما هم فيه كما هو شأنهم في كل أمة. وهذا الضرب من المتصوفة أيضا من حسنات الآريين، فإنه جاءنا من الفرس والهنود بما بقي فيهم من عقائدهم الأولى. ما أضل هانوتو وأمثاله من قصار النظر إلا أولئك الدراويش الخبثاء أو البله الذين يغشون أطراف الجزائر وتونس ولا يخلو منهم اليوم قطر من أقطار الإسلام ممن اتخذ دينه متجرا يكسب به الحطام، وجعل من ذكر الله آلة لسلب الأموال من الطّغام. أما لو رجع المسلمون إلى الحقيقة من دينهم لأدوا فرضهم، واستنبتوا أرضهم، واستغزروا من الثروة، وأعدوا لفرنسا ما استطاعوا من قوة، واعتمدوا في نجاح أعمالهم على معونة القدر، وأيقنوا في صولتهم علما أن ليس من الموت مفر، ثم صال صائلهم على مكان العزة منها، ونال ما ينال القوي من الضعيف، والعزيز من الذليل، ولانقلب جنونهم لدى هانوتو عقلا، وتحول هذيانهم حكمة وعلما. هذا ما يتعلق برأيه الضئيل في مسألة القدر عند المسلمين. والآن آتي على آخر القول لكسر شرة هانوتو في تهجمه على الإسلام، وما نعني بالكلام فيه هو التوحيد والتنزيه وخصمه التشبيه والتجسيد (الاعتقاد بتجسد الألوهية) ونبدأ بالكلام في الثاني ونختم بالحديث عن الأول. إن كان مسيو هانوتو قرأ شيئا في أحوال الأمم ونشأة العقائد، وعقله يعلم أن الوثنية وتوهم السلطان الإلهي ظاهران في بعض الموجودات المادية كانت عقيدة الواقفين على أبواب الإنسانية لم يدخلوها ولم يتوسطوا منازلها وكانت لاتزال دليلا على انحطاط عقول أهلها مع تفاوت في درجات ذلك الانحطاط تبتدئ من وثنيي أفريقيا وتنتهي إلى بوذيي الصين وبرهمن الهند. كلما ارتقى الإنسان في العلم، ولطف وجدانه بالفهم، ونفذ عقله في أسرار الكون، تمزقت دون روحه حجب المادة، وانجلى له الوجود الأعلى على تفاوت ذلك في درجات الظهور والانجلاء، ينتهي إلى الاعتقاد بوجود واحد واجب يستحيل عليه أن يلبس لباس المادة على النحو الذي يفطنه مسيو هانوتو وأمثاله لأن ما لا حد له محال أن تحيط بوجوده الحدود. وقد كان هذا شأن اليونانيين الذين يفتخر هانوتو بمدنيتهم، نشئوا وثنيين ولا زالت الوثنية ترق وترث بارتقائهم في العلوم، وبحث فلاسفتهم في طبائع الكائنات حتى انتهوا وهم في ذرى مدنيتهم إلى التوحيد وتنزيه واجب الوجود عن مخالطة المادة. وقف فيثاغورس على عتبة التقديس وجاء بعده سقراط وأفلاطون وأرسطو مجاهدين في كشف الغمة عن عيون شعوبهم باذلين الوسع في محو ما غشي نفوسهم من ظلمات الوثنية الأولى، ومن قرأ جمهورية أفلاطون التي نقلت إلى العربية أيام المأمون تحت اسم (المدينة الفاضلة) علم كيف كان يقارع أفلاطون ما بقي من آثار الوثنية من الآراء السخيفة والعادات الرديئة التي كانت تحول بين الأمة اليونانية وما ينبغي لها من الفضائل التي كان يطمع الفيلسوف أن تكون عليها. وبعد أن أوصلهم العلم إلى التوحيد لم يرتد بهم التنزيه إلى الجهل، بل بقيت شمس مدنيتهم تشرق في العالم قرونا متعددة وكانت أشد بهاء وأبهر سطوعا. كذلك قدماء المصريين لم يقف بهم العلم دون التوحيد، غير أن رؤساء دينهم لم ينشروا تلك العقيدة بين عامتهم واستبقوا صور العبادات الأولى وألبسوا التنزيه ثوب التشبيه استئثارا منهم بشرف العقيدة على من دونهم. فترى ضعف العقل وقلة العلم ونقص الإدراك تقف بصاحبها عند الوسائط، وقوة العقل ونفوذ البصيرة، وسعة العلم تصعد بأهلها إلى مشهد الوجود الأعلى وتشرق بهم من هناك على العالم بأسره، فيرون عظيمه وحقيره سواء في النسبة إلى تلك القدرة الشاملة والعظمة الغالبة — الفاضل والمفضول والفروع والأصول وما ظهر للأبصار وما نفذت إليه العقول، كل ذلك يستمد وجوده من مشرق الوجود على مراتب قدرتها الحكيمة، وتمت بها النعمة فأي مقام أعلى من مقام صاحب هذه العقيدة حيث قام شاهدا على الكون بجملته ما فصل منه في فهمه، وما أجمل في كليّات علمه، يحكم عليه بأمر مربوب لرب واحد هو رب العالمين، وألا سلطان لشيء من هذا جميعه على نفسه لا في الإيجاد ولا في الإمداد، بل هو وحده يمكنه بما سن له الشرع الإلهي أن يصل بنفسه إلى تلك الحضرة وأن يستمد منها المعونة في كل شئونه. ينقسم أهل التشبيه إلى قسمين: أحدهما من يعتقد الألوهية في بعض الموجودات المشهودة ويقف عندما يعتقد منها، والآخر يعتقد بأن باري الكون يظهر في بعضها. أما الأولون فهم الذين ضعف الإدراك فيهم عن الإحاطة بحقائق الأكوان، فإذا ظهرت عليهم آثار قوة من القوى أو سلطة حيوان من الحيوانات ظنوا ما ظهر المنفرد بالقدرة عليهم، وأنهم إليه يرجعون في جميع أمورهم، فهؤلاء يسلطون على أنفسهم ما شاءوا وشاء لهم الجهل من جماد وحيوان وإنسان، ولا يزالون حيارى في شئون حياتهم حيرتهم بين معبوداتهم ثم هم يقيسون معبوداتهم بأنفسهم لأنها ليست بأبعد منهم في النوع أو الجنس ويقدرون لها رغائب وشهوات تفوق رغائبهم وشهواتهم، يسارعون في إرضائها بما يعن لهم وكما تشرعه لهم أهواؤهم. ومن ذلك كانت ترتكب القبائح في هياكل الآلهة وتنتهك حرمات الفضائل في محاربها وتُفترس الذبائح الإنسانية بين يدي التماثيل الحجرية، وأي درك ينحط إليه الإنسان أنزل من هذا، وأمر ذلك معروف في التاريخ ولا تزال مشاهده إلى اليوم معروفة. أما الآخرون فهم أرقى درجة من أولئك في الإدراك ولكن ماذا أصابهم ويصيبهم من ذلك الاعتقاد؟ كانوا إذا فاقهم إنسان في عقل أو شجاعة أو صدر منه ما لا يألفون من الأعمال أو ظهر بما لا يعرفون من الأحوال ظنوه مظهرا للوجود الإلهي فدانوا لسلطانه، واستكانوا لقهره، وأخذوا أنفسهم بالخضوع لإرادته فسلبهم كل ما كانوا يملكونه من عقل وإرادة وعزم، وحق عليهم الصغار ماداموا على تلك العقيدة. وقد سهل هذا الوهم على كثير من أهل الدهاء أن ينزلوا من الناس منازل الآلهة طمعا في استعبادهم. وكم قاست الأمم من الرزايا التي جلبتها عليهم هذه العقائد الضالة. ويقرب من هؤلاء قسم ثالث ليس بخير من القسمين الآخرين وهم المعتقدون بالوسائط. ما قدروا الله حق قدره فقاسوه على الكبراء وأهل السمو منهم فظنوا أنه في ملكوته، كملك في جبروته، يصطفي لنفسه مدبرين من خلقه، ويستصنع عمالا للتصرف في شئون عباده، فإذا امتاز أحدهم بما يعتقدونه زلفى إلى الله، أو صدر منه ما يظنونه دليلا على أنه من المقربين إليه رفعوه إلى تلك المنزلة — منزلة الاصطفاء للتصرف في الكون، فاتخذوه شفيعا لديه يلجئون إليه في مهمات أعمالهم ويستجدون منه المعونة بما له من الدالة على ربه. وإذا سئلوا عما يفعلون وما به يدينون، قالوا: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى». ماذا أصاب هؤلاء من شر ما اعتقدوا؟ استعبدوا للسادن والكاهن والزعماء ووارثيهم واستسلموا لهم في جميع شئونهم، فكانت علومهم من أوهامهم، وأفهامهم واقفة عند خيالاتهم، ينكرون الأوليات من المعلومات، إذا توهموا أنها تخالف تلك الموهومات التي تلقوها من زعمائهم. ثم كانوا يتركون وسائل العمل اتكالا على ما يستمدونه منهم، ولا يزال التاريخ يشهد على ما قاسته الإنسانية من بلايا هذه العقائد، والعيان يؤيده في كثير من الأمم في الشرق والغرب إلى اليوم. هذه مفاسد الوثنية وما جاورها، لا ينكرها مطلع على مبادئ العلوم الصحيحة بل يعرفها كثيرون من العامة الذين لم ينشئوا في جوها الفاسد. أما زعم هانوتو أن وثنية اليونانيين كانت ترتقي بالأفراد في سلم الفضائل طبعا في نيل مرتبة الألوهية فهو زعم لم يقل به من المسيحيين سواء فيما أعلم. ولم يقل أحد من اليونانيين أنفسهم أنهم كانوا يسعون في كسب الفضائل من طريق التوصل إلى مقام الألوهية، ولا إن الألوهية البشرية تركت فيهم أثرا صالحا بل لم تورثهم إلا تلك الرذائل التي قام سقراط وأفلاطون لمحاربتها، أما السعي إلى الفضائل فكان للتقرب لأربابها كما هو معلوم. ثم لما امتد الغلو في التشبيه، ظهرت المظالم، وعظمت المغارم، واختفى العلم، وخسئ العقل، وتهدمت أركان النظام، واستشرى الفساد في الأمم النصرانية، حتى ظهر الإصلاح وقضى على ما سبقه، واستقامت أوربا في طريقها المعروفة اليوم، وقد أشرنا إلى شيء من أسباب ذلك. لم نسمع أن أحدا من المسيحيين يعبد الله لينال رتبة المسيح فيكون إلها بشرا كما يؤخذ من عبارته. ولم نر أثرا لأحدهم يدل على أنه عقل عقيدة التثليث على هذا النحو الذي ذكره. ولكنهم يصرحون بأنها عقيدة لا مجال للعقل فيها، فلا مكنة له في أن يحتذيها. وقد قامت طوائف منهم في أزمان مختلفة تصرح بأن هناك فرقا بين ما لا يصل إليه العقل وما يناقض حكم العقل، وذهبت إلى أن المسيح لم يكن إلا نبيا مختارا بعثه الله لخلاص البشر من سلطان الشيطان وحملوا الابن على المصطفى (المختار) والأب على الرب الرحيم. وأعرف أن بعض طوائف البروتستانت اليوم، وإن كانت قليلة العدد، تذهب إلى تأويل الكلمة بالعلم وروح القدس بالحياة، وقد لاقيت بعضهم في بعض أسفاري وأكد لي أن لهم شيعة تدين بذلك. وهل كانت المسيحية في سالف الأزمان تجاهد من حولها من الوثنيين لتخرجهم من وثنية إلى وثنية؟ نعوذ بالله من هذا الخبط الصادر من محب غير عالم. إني أرفع أدبا من أن أطعن في عقائد المسيحية في جريدة، وقد أمرت أن أجادل بالتي هي أحسن. ولكني أرجع إلى الكلام في الآثار التي عني هانوتو باتخاذها دليلا. جاء الإسلام يدعو العالم بأسره إلى التوحيد، وصرح بأن دين التنزيه هو دين الله من لدن آدم ونوح وإبراهيم إلى موسى. ثم هو دين الأنبياء بعد موسى ودين خاتم رسل إسرائيل عيسى عليه السلام، ولم ينكر أن في اليهود وفي المسيحيين خصوصا أهل تنزيه، وذكر أن منهم من مال إلى التشبيه ودعاه إلى الرجعة إلى أصل دينه حتى يقوم بالعبادة لله وحده ويعتق من سلطة الرؤساء والزعماء الذين اغتصبوا عقله وملكوا هواه وهمه …. هبت الوثنية واليهودية والنصرانية لمناوأة الإسلام وكانت أكثر عددا وأوفر عدة وأعظم قوة وأشد بأسا، فلم يكن إلا قليل من الزمن ثم ظهر الحق ونفذ شعاعه إلى القلوب، فدخل الناس فيه أفواجا من كل ملة، فأعتقت الهمم، وأفلتت العزائم من أسرها، وأخذ كل يطلب من الكمال ما يُعدّه له استعداده الممنوح له من واجب الوجود، وأخذ المعتقدون بالتوحيد والتنزيه يشرفون من شرفات الإيمان على أسرار الوجود، ومزقوا تلك الحجب والأوهام، واتصلوا بمنابع العلم من الفكر والنظر والدين. ولم يكد أهل الملة يستريحون من الشغب الذي هبت ريحه بينهم حتى سطعت أنوار العلم فيهم، ولم يبق باب من أبوابه إلا دخلوه، ولا مرتقى من مراقيه إلا علوه، ولم يبق متروك من مخلفات اليونان والفرس والرومان إلا استخرجوه من زوايا النسيان وجلوا صدأه وأبرزوه للأنظار. هذا أثر الإسلام وهو دين التنزيه، ولم يكد ينتهي القرن الثاني من ظهوره حتى جال المسلمون في علوم السماوات والأرض وصححوا الأغاليط، ونقحوا القواعد، وحرروا الأصول. وفي مفتتح القرن الثالث أقاموا المراصد، ومسحوا الأرض وأتوا في ذلك بما هو معهود لأهل العلم في ديارنا وديار مسيو هانوتو. إني أكتفي فيما يقابل هذا بقول جماعة من أهل النظر في الأمم الغربية اليوم: أقامت النصرانية في الأرض ستة عشر قرنا ولم تأت بفلكي واحد، وأخذ المسلمون يبحثون في هذه العلوم بعد وفاة نبيهم ببضع سنين، ومع هذا لا يعد ذلك طعنا في أصول الديانة المسيحية وإنما هو طعن في تصرف القائمين عليها والمحرفين لها عما جاءت له. يظن هانوتو أن الإسلام قطع الصلة بين العبد وربه ولكنه واهم في ذلك فإن الإسلام أفضى بالعبد إلى ربه وجعل له الحق أن يقوم بين يديه وحده بلا واسطة تبيعه رضاءه — قضى الإسلام بألا يكون للكون إلا قاهر واحد يدين له بالعبودية كل مخلوق، وحظر على الناس مقامين لا يمكن الرقي إليهما — مقام الألوهية التي تفرد بها، ومقام النبوة التي اختص بمنحها من شاء ثم أغلق بابها، وما عدا ذلك من مراتب الكمال فهو بين يدي الإنسان، ويناله استعداده، لا يحول دونه حجاب إلا ما كان من تقصيره في عمله أو قصوره في نظره. إذا اعتقدت بقصور فضل الله عنك وقفت نفسك حيث وضعتها، ولن تستطيع إلى التقدم سبيلا. هكذا يرفع الإسلام الصحيح نفس صاحبه، وهذا هو معنى الإسلام والاستسلام الذي أخطأ في فهمه مسيو هانوتو، فهل بقي الإنسان مع المعنى من الإسلام في درك من الحيوانية وفي هجرة عن التوسل بالأسباب إلى مسبباتها في كسب الفضائل والكمالات؟ يجب على الباحث في الإسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره، والإسلام إسلام والمسلمون مسلمون. من أين المسلمون وكيف دخل عليهم في عقائدهم التشبيه، وفي عوائدهم التمويه، وممن تعلموا الاحتراس، وعمن أخذوا الضراء بالشهوات؟ أنا أعلم ذلك وأهل العلم يعلمون والله من ورائهم محيط. اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوهم الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم وما عليهم. حدثت في الدين بدع أكلت الفضائل، وحصدت العقائل، وترامت بالناس إلى حيث يصب عليهم ما استفرغه (كيمون). أما لو رجع المسلمون إلى كتابهم، واسترجعوا باتباعه ما فقدوه من آدابهم، لسلمت نفوسهم من العيب، وطلبوا من أسباب السعادة ما هداهم الله إليه في تنزيله وعلى لسان نبيه، ومهده لهم سلفهم وخطه لهم أهل الصلاح منهم، واستجمعت لهم القوة، ودبت فيهم روح الفتوة، وكان ما يلقاه هانوتو وكيمون من دين صحيح، شرا عليهما مما يخشون من دين شوهته البدع. يرى كيمون أن يُخلي وجه الأرض من الإسلام والمسلمين، ويستحسن رأيه هانوتو، لولا ما يقف في طريق ذلك من كثرة عدد المسلمين، وبِئْسَ مَا اختارا لسياسة بلادهما أن يظهرا ضغنهما ويعلنا خطل رأيهما وضعف حلمهما. ألا فليعلما وليعلم كل من يخدع نفسه بمثل حلمهما أن الإسلام إن طالت به غيبة، فله أوبة، وإن صدعته النوائب فله نوبة. وقد يقول فيه المنصفون اليوم من الإنكليز مثل إسحاق تيلر وهو قس شهير ورئيس في كنيسة: «إنه يمتد في أفريقيا ومعه تسير الفضائل حيث سار فالكرم والعفاف والنجدة من آثاره، والشجاعة والإقدام من أنصاره». ويأسف أشد الأسف من أن السكر والفحش والقمار انتشرت بين السكان بانتشار دعوة المبشرين بينهم، وقال «إنه يختار إسلاما لا سكر فيه على مسيحية فيها سكر». ثم هو لا يزال ينتشر في الصين وغيره من أطراف آسيا، وسترشده الحوادث إلى طريق الرجوع إلى طهارته، وتنثني به الملمات إلى ما كان عليه لأول نشأته، وتدرك عند ذلك الأمم منه خير ما ترجو إن شاء الله. لو أسلمت الأمة الفرنسية بأسرها وفي مقدمتها مسيو هانوتو وكانت معاملتها لغير الفرنسيين على ما نعهده في الجزائر ومدغشقر، هل ترجو من سكان مستعمراتها أن يميلوا إليها وألا ينتهزوا الفرص للثورة عليها؟ كلا، فما ظنك بالمسلمين وهم يسمعون قصف هذا الرعد ولا يرون من المتغلبين عليهم إلا الجد في إهلاكهم والدأب في إخفائهم. إن العدل ورعاية الحقوق واحترام المعتقدات بعد معرفة أصولها هي التي تخفف على المغلوب سلطة الغالب وتدنو به منه وتهون عليه الرضاء عنه، ولكن هانوتو وأترابه من ساسة الفرنسيين لا يعرفون شيئا من هذه الأركان الثلاثة ولا يزالون يهرفون بما لا يعرفون حتى يصلوا إلى ما كانوا يحسبون فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/5/
هانوتو والإسلام
ألقت إلي المصادفة نسختين من إحدى الجرائد المشهورة في القطر المصري جاء بها حديث بين صاحب الجريدة ومسيو هانوتو صاحب الفصول المعروفة في الإسلام. ولم أشك في أن كثيرا مما جاء في هذا الحديث صادر عن رأي مسيو هانوتو، لأنه لا يصدر إلا عن عارف مثله بأحوال أوربا وكثير من أحوال الشرق، ولهذا رأيت أن حرمانه من حظ النظر فيه، وتركه يمر بلا مناقشة معه في بعض ما تضمنه يعد ظلما وجورا عليه، خصوصا ونسبة القول إليه مما يدع في أذهان الناس أثرا لا يحسن السكوت عنه. وقد جاء في كلامه ما يدل على أنه قد أصيب بشيء من سوء الفهم في أحوال المسلمين، وما انبعثت إليه نفوسهم اليوم. وسوء الفهم منشأ الشقاق والخصام بين أهل المقصد الواحد كما ذكر حضرته في مقال له سابق. فلا يليق بذي غيرةٍ على الحق ألا يوفيه من الاعتبار ما يستحق، وأرجو أن يترجم ما أكتبه في جريدة المؤيد الفرنسية وأن يرسل إلى مسيو هانوتو ليقف على ما غاب عنه من مقاصدنا وأفكارنا. إن كان المسلمون اليوم ينتفعون بشيء ويعتبرون بمثال. لم يكن أنفع لهم من الاعتبار بما جاء في كلام مسيو هانوتو. فقد أرشدهم إلى عيوب فيهم لا يسعهم إنكارها، وهداهم إلى مقاصد لطلاب الاستعمار في ديارهم قد شهدوا بالعيان آثارها، وصرح لهم بأن الاعتماد على العدالة في معاملة الدول ضرب من الخيال، وعقد الآمال بإنصاف الأمم تلمس للمحال، وما على المهتم بحماية ذماره، وطالب الطهر من عاره، إلا أن يدركهم ويعمل عملهم، ليبلغ من الحول حولهم، فيفوقهم في القوة أو يكون مثلهم، فيتعارض في المنافع معهم معارضة المالك مع المالك، لا أن يتسلى بالأعاليل، ويلهو بالأضاليل، ويقنع بالأماني، ويكتفي من العمل بالصوت الجهوري واللفظ الطلي، وهو من روح قائله خلي، حتى إذا دهموه وهو في غفلته وأخذوه في نومه أو يقظته، بسط يده يلتمس الرحمة منهم، ويرقب أن يفيض عليه سيب العدل عنهم، فهذا عمل الجاهل الأحمق، وهو بالذلة والاستعباد أحق. وهي نصيحة يجب على المسلم قبولها من أجنبي منه، وكان يجب عليه من قبل أن يقبلها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال لخالد بن الوليد حين أرسله لحرب اليمامة: «حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف والرمح بالرمح». ولا يخفى أن كل نزاع فهو حرب، وكل منافسة فيما هو عماد الحياة فهي جلاد، وكل عمل يأتيه أحد المتنافسين للظفر بمنافسه فهو جهاد، وكل وسيلة تظفره بطلبته فهي سلاح، وكل تجاذب أو تدافع بينهما فهو كفاح، وكل منفعة حفظها أو استخلصها منه فهي غنيمة، وكل انخذال عن حق أو تفويت لمصلحة فهو هزيمة. فالظافر في ميدان المنافسة من كان رأيه أسد، وقوته أشد، وسلاحه أحد، فإذا قربت القوتان من التكافؤ أمكن بمصالح المتنافسين أن تتفق، وسهل على كل منهما أن يرتفق، وإلا استحال الاتفاق، واستبد القوي بالارتفاق، بل صعب على الضعيف أن ينال حق البقاء، سنة الله في عالم الأحياء. وقد فصل مسيو هانوتو ما أجمله بعض أساتذتنا في قوله (العدل تكافؤ القوى). صرح مسيو هانوتو بأن أوربا بعد أن كانت لا تشتغل إلا بما يجري فيها، اندفعت إلى الاستعمار ولا يردها عنه إلا قوة الأمم التي تأبى الاستعمار فيها. وضرب المثل باليابان فإنها بما ارتقت في المدنية، وما أصلحت من شئونها الداخلية، وأعدت لوقاية ممالكها، وحماية مسالكها، قد آذنت أوربا بقوتها، وحملتها على الإقرار بمكانتها، فحمت بلادها ومصالحها من صولتها، وأمكنها ببرهان القوة أن تؤلف بين منافعها ومنافع الأوربيين، وهو قول حق، وكان على المسلم أن يعرفه من قرون، وله في كتابه المنزل خير هاد وأرشد مرشد، وكان يكفيه منه آية: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة فقد دعته الآية الكريمة إلى الإعداد، وطالبته أن يبلغ منه حد المستطاع، ولا حد لما تستطيعه أمة إذا صرفت قواها العقلية والجسدية فيما هيئت له، وأطلقت له القوة، وهي كل ما يقوى به خصم على خصم، ويقتدر به على حماية نفسه وحوزته من اعتداء معتد، أو يستطيع به استخلاص حق من يد مغتصب، وخير القوى ما حفظ به الحق، وعظمت به المنفعة، ووقف لهيبته كل من المتنافسين عند جده، حتى يستقر السلام بينهم، وتشمل الطمأنينة نفوسهم. وقد تألفت قوى الأمم الأوربية من عناصر هي العلم والأدب والتجارة والصناعة والعدل والدين والسلاح. وذكرت الدين في جملة عناصر القوة لأن مسيو هانوتو لا ينكر أن أوربا تعتمد على الدين في سياسة الاستعمار، وأن المرسلين والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب إلى قبول سلطانها عند سنوح الفرص لسوقه إليها، وتهيئة نفوس الأمم لاحتمال ما ينقض به ذلك السلطان متى أظلهم، وفي فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحها، وتمهيد السبل التي لا يمكن لساعد الجندي وحده أن يمهدها. وهو من الأمور المسلمة التي لا يجادل فيها عارف مثل هانوتو، فلا حاجة للإطالة في بيانه غير أني أذكر قصة كنت شاهدتها لا بأس بذكرها في هذا المقام: تعلم أحد أبناء لبنان من بلاد سوريا في بعض مدارس الجمعيات الدينية الفرنسية في تلك البلاد، وأخذ عن أساتذته كثيرا من آدابهم، وطالع عددا من مؤلفات كتابهم، وامتلأ قلبه بحب فرنسا، واستقر في ذهنه أنها منبع نور العلم والحرية، وأنها محررة العالم أجمع من رق الاستبداد، ثم انتقل لكتب بعض الفلاسفة الفرنسيين ومؤلفات بعض السياسيين، فعظم عنده الاعتقاد بأن هذه الأمة الجليلة إنما يهمها في سياستها أن تنشر المعارف في العالم لتهذيب العقول، وتكميل النفوس، لتربيتها على أصول العقل وحرية الفكر، ورأى أن من الزلفى عند الحكومة الفرنسية أن يذهب إلى باريس ويسألها المعونة على إنشاء مدارس في جبل لبنان، يُبنى التعليم فيها على تلك الأصول السابقة، فذهب إلى باريس سنة ١٨٨٤، واتصل بأحد أذكياء السوريين الذين طاب لهم المقام في البلاد الفرنسية وطلب منه أن يكون وسيلته في نيل ما يرغبه من معونة الحكومة، فسعى الذكي سعيه، ثم عاد إلى صاحبه وقال إن ما تخيلته ضرب من الوسواس وإن الحكومة الفرنسية وإن كانت تطرد الجزويت من بلادها، وتنازع الكنيسة في سلطتها، لكن سياستها في الخارج دينية محضة، ويمكن أن تعرف ذلك من حمايتها للجزويت وإعانتها لهم بالمال والقوة في بلادك. فإن كنت تريد إنشاء مدارس دينية في بلاد لبنان كان أملك في المساعدة قريبا، وإلا فارجع واشتغل بما يصلح شأنك الخاص بك. فرجع الشاب بالخيبة بعد ما أقام مدة صرف فيها ما كان عنده من النقود، ولم يجد من يساعده على الرجوع إلى بلده إلا من رحمه من أصدقائنا إذ ذاك، وكان لي حظ في مساعدته. كما كنت شاهدا الحدث الذي رويته. فإن لم يسع المسلم بعزم ثابت في تحصيل هذه العناصر التي سبق ذكرها، أو تقوية ما ضعف عنده منها وهو مسلم، كان مخالفا لكتابه ولقول الصديق رضي الله عنه، ومستحقا للوم مسيو هانوتو، ولم تتفق له مصلحة مع مصالح الأوربيين إلى يوم القيامة. بقي عليّ الكلام مع هذا الوزير في أمرين: الأول فيما فهمه من شأن المسلمين في هذه الأيام، وما يسمونه دعوة إلى توحيد كلمة المسلمين قاطبة، وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد. والأمر الثاني سوء ظن أكثر المسلمين بالسياسة الأوربية، بل بالمسيحيين أجمع، حتى وصل فقد الثقة بهم إلى ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا في عمل من أعماله، وإن أخلص لهم الخدمة كما سمعه من صاحب هذه الجريدة الناشرة الحديث، وغيره. شأن المسلمين اليوم وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية. أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد المسلمين ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، لما خطر بباله أن يشير إلى هذه الدعوة فضلا عن أن يبني عليها حكما، وإن ما علق بالأوهام منها فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسي الغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها. وإني أعرض الحقيقة كما هي لا يغشاها ستار من تمويه ولا غطاء من تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين اليوم في كلامهم عن الدين وما يرد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه إلى رشدهم حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من المسلم حربا ولا من السكون شغبا. لا أنكر أن طائفا من الدين طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمة مرت بأنفس قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى إذا وجد سبيلا إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة إذا تهيأت له الوسائل لذلك. ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون ولا كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين. ظهر الإسلام لا روحيا مجردا، ولا جسدانيا جامدا، بل إنسانيا وسطا بين ذلك، آخذا من كلا القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملاءمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره، ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم وعدوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية، ثم لم يكن من أصوله «أن يدع ما لقيصر لقيصر» بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله. جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيا، وهذب خشنا، وعلم جاهلا، ونبه خاملا، وأثار إلى العمل كسلا، وأقدر عليه وكلا، وأصلح من الخلق فاسدا، وروج من الفضيلة كاسدا، ثم جمع متفرقا، ورأب متصدعا، وأصلح مختلا، ومحا ظلما، وأقام عدلا، وجدد شرعا، ومكن للأمم التي دخلت فيه نظاما امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالا للشخص، وألفة في البيت، ونظاما للملك. وظهرت به آثار النعمة عليهم في جميع شئونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته. بل كان قائده في جميع وجوه سيره، فإن شاء قائل أن يقول إن الدين لم يعلمهم التجارة ولا الصناعة ولا تفصيل سياسة الملك ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه، وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته الثاني وهو من المدينة من بلاد العرب «لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر» ويقول الخليفة الرابع «أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش؟ أي خشونته» يريد بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان وأسوة الفقراء في حسن الصبر. هكذا كان الإسلام مهماز للمسلمين يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحا لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال وتقويم الأفكار، وعاطفا يعطف قلوبهم على الأمم بالعفو والمرحمة وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض سادة لها وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم. أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغا في دينه، وإن كان فيه ملك الأرض أو ملكوت السماوات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية، ينساق إليها الأمر بنفسه بحكم سنة الله في خلقه. واأسفا!! لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أما الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته، وانطمست في نظره طريقته، وحق فيه قول عليّ كرم الله وجهه «إن هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا». لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت، ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه، وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها بل ما يهدم قواعدها ويأتي على أساسها. عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم، وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها جميع أحواله. إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح، فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم ما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما، وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في كتاب الله وسنة رسوله وعمل الصالحين من بعده حتى لم يبق باب من أبواب العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان. ضل المسلم بعد ذلك في معنى العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة فرائض الوضوء والصلاة والصوم في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها ووسيلة قبولها عند الله فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر، أما آداب الدين وتهذيب الروح واستكمال الخصال الجليلة مما جعله الإسلام غاية العبادات وثمرة الأعمال الصالحات فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا تتوجه إليه عزيمته، ولا تنصرف نحوه إرادة، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في أطراف الأرض لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة، أما من ينقطعون لطلب العلوم ليحصلوا جملة منها فقد انقسموا إلى فريقين: الأول: من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم لا يكاد يدركها نظر الناظر، والمشتغلون منهم في بعض البلاد كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل ما هو أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل العلم سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه ويملأ عينيه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث. ويزعمون أن الدين يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء ألا شأن لهم مع العامة، ولا يجبل عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا لذلك خطأ في فهم دينهم لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده، ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في العلم لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود. والفريق الثاني من يهيئه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو سافل، وأفراد هذا الفريق، إن كثروا أو قلوا، يحصلون مبادئ العلوم المعروفة بالعلوم العصرية، ثم يحصل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده، على أن ما يحصل إما لفظ يُحفظ أو خيال يُخزن، والمدار على الوصول إلى ورقة الشهادة، ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا لاستكمال التربية فيها ولا غاية لهم سوى هذه الغاية، فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضّى زمن العمل وجدته في مقهى أو ملهى يسرف في أوقاته ويفسد في أدواته، والصالحون منهم، وقليل ما هم، لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة، وأستثني منهم شواذا في كل بلد على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم وتجني الأمم ثمار أعمالهم. وهذا شأن الرجال مع العلم. أما النساء فقد ضرب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهم أو دنياهن بستار لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة أو يؤدين فريضة سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء، وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهم بالخرافات، وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلا منهن لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما يعده الجنة ويمنيه السعادة. أخطأ المسلم في فهم معنى التوكل والقدر فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل. ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه ويوافي رغائب دينه. أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم. وأن العزة والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة الشأن تابعة للفظه وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب، بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ، أو ينهض إلى عمل لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل، مخالفا في ذلك كتاب الله وسنة نبيه. أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لأوامرهم، فألقى مقاليده إلى الحاكم ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه حتى ظن أن الحكومة يمكنها القيام بشئونه جميعا من إدارة وسياسة بدون أن يكون لها من عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها حكم بأن ما يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه، من حيث ظنوه قادرا على كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من حيث إنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه في أمر مهم، اللهم إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذي يحسن عملا إذا لُجئ إليه بالرغم منه. ومن هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها. أما الحكام، وقد كانوا أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في إرضاء شهواتهم، لا يرعون في ذلك عدلا، ولا يستشيرون كتابا، ولا يتبعون سنة، حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على النفاق والكذب والغش والاقتداء بهم في الظلم وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في أمة إلا حل بها العذاب. هذا كله إلى ما حدث من بدع أخرى من مذاهب شتى في العقائد، وطرق متخالفة في السلوك، وآراء متناقضة في الشرائع، وتقليد أعمى في جميع ذلك، فتفرقت المشارب، وتوزعت المنازع، وعظم سلطان الهوى على أرباب النزعات المختلفة، كل يجذب إلى نفسه، لا ينظر إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الإسلام في معرض التشدق بالكلام. وزد على ذلك أكبر بدعة عرضت على نفوس المسلمين في اعتقادهم وهي بدعة البأس من أنفسهم ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأن ما نزل بهم من الضر لا كاشف له، وإنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه. مرض سرى في نفوسهم، وعلة تمكنت من قلوبهم، لتركهم المقطوع به من كتاب ربهم وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار أو خطئهم في فهم ما صح منها، وتلك علة من أشد العلل فتكا بالأرواح والعقول، وكفى في شناعتها قوله جل شأنه: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. تبع هذه البدع جميعها وأخرى يطول ذكرها هزال في الهمم، وضعضعة في العزائم، وفساد في الأعمال، يبتدئ من البيت، وينتهي إلى الأمة، ويمر في كل طبقة، ويجول في كل دائرة، خصوصا من دوائر الحكومات، وما يُرمى به المسلمون من التعصب الديني الأعمى، فإنما عرض على أقوام في بعض البلاد الإسلامية، تبعا لهذه البدع الضالة، على أنني لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم المسيحية شرقية كانت أو غربية والتاريخ شاهد لا يكذب. هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم وعزائمهم وأعمالهم بسبب ابتداعهم في دينهم وخطئهم في فهم أصوله، وجهلهم بأدنى أبوابه وفصوله، ولهذا سلط الله عليهم من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم بدفعه إلا إذا تداركهم الله بلطفه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب، ويقرنه إذا ذكره بما يتبرأ منه، ويعده حجابا بين الأمم والمدنية، بل يعده منبع شقائهم وسبب فنائهم. تنبه لذلك أفراد من عقلاء المسلمين في أواسط القرن الماضي من سني الهجرة في أقطار مختلفة من بلاد فارس والهند وبلاد العرب ثم في مصر، وكل منهم بحث في الداء، وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، ولعلهم يلتقون يوما عند الغاية إن شاء الله. مقصد الجميع ينحصر في استعمال ثقة المسلم بدينه في تقويم شئونه، ويمكن أن يقال إنَّ الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع، تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة، فإذا سمعت داعيا يدعو إلى العلم بالدين فهذا مقصده، أو مناديا يحث على التربية الدينية فهذا غرضه، أو صائحا ينكر ما عليه المسلمون من المفاسد فتلك غايته، وهذه سبيل لمزيد الإصلاح في المسلمين لا مندوحة عنها، فإن إتيانهم من طرق الأدب والحكمة العارية عن صبغة الدين، يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شيء، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدا وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟ لم يخطر ببال أحد ممن يدعون إلى الرجعة إلى الدين، سواء في مصر أو غيرها، أن يثير فتنة على الأوربيين أو غيرهم من الأمم المجاورة للمسلمين، غير أن بعض المسيحيين إذا سمع قولا في الدين أعرض عن فهمه، وأنشأ لنفسه غولا من خياله، يخاف منه ويخشى غائلته يسميه باسم الدين، وبعضهم يظن أنه لو انتبه المسلمون إلى شئونهم، ورجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم لاعتصموا بجامعتهم واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن أدخلوه في أعمالهم من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو سوء ظن من الزاعم بنفسه، فإنه بظنه هذا يعتقد أنه غاش مغرر، وسالب متلصص، وسوء ظن بالمسلمين أيضا، فإن أهل الوطن الواحد لا يستغني بعضهم عن بعض، مهما ارتقت معارفهم وعظم اقتدارهم على الأعمال، وغاية الأمر أن ما كان ينال اليوم بدون حق، يصبح وهو لا ينال إلا بحق، والأجنبي الذي كان ينفق الواحد ويربح المائة، يرجع إلى الاعتدال في الكسب، ويحتاج إلى شيء من التعب في استيراد الربح، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية وهي في عنفوان قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها وهي في أرفع مقام من عزتها. نعم يعرض في طريق الدعوة إلى الدين على هذا الوجه أن يلتمس مسلم بمصر معونة من مسلم آخر بسورية أو بالهند أو بالعجم أو بأفغانستان أو بغير هذه الأقطار، لأن مرض الجميع واحد، وهو البدعة في الدين، فإذا نجح الدواء في موضع، كان السليم أسوة للمريض في موضع آخر، أما السعي في توحيد كلمة المسلمين وهم كما هم، فلم يمر بعقل أحد منهم، ولو دعا إليه داع لكان أجدر به أن يرسل إلى مستشفى المجانين. يكتب بعض أرباب الأقلام من المسلمين في حكمة الحج ويقول: إنه صلة بين المسلمين في جميع أقطار الأرض ومن أفضل الوسائل للتعاون بينهم، فعليهم أن يستفيدوا منه، وهو كلام حق، لكن لا ينبغي أن يفهم على غير وجهه، فإن الغرض منه أن يذكر المسلمون ما بينهم من جامعة الدين، حتى يستعين بعضهم ببعض على إصلاح ما فسد من عقائدهم أو أضلّ من أعمالهم، وفي مدافعة ما ينزل بهم من قحط أو ألم أو بلاء، وهو أمر معهود عند جميع الأمم التي تدين بدين واحد خصوصا عند الأوربيين. يكثر المسلمون اليوم من ذكر الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد ويعلقون آمالهم بهمته وكثير منهم يدعو إلى عقد الولاء له وهذا الأمر لا ينبغي أن يدهش أحدا فإن هذه الدولة هي أكبر دول الإسلام اليوم، وسلطانها أفخم سلاطينهم، ومنه يرتجي إنقاذ ما بين يديه من المسلمين مما حل بهم، وهو أقدر الناس على إصلاح شئونهم، وعلى مساعدة الداعين إلى تمحيص العقائد، وتهذيب الأخلاق، بالرجوع إلى أصول الدين الطاهرة النقية، فأي شيء في هذا يزعج أوربا حتى تتحد على هضم حقوق المسلمين إذا حدثت حوادث مثل الماضية كما يقول مسيو هانوتو؟ بقي الكلام على جمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد يقول فيه مسيو هانوتو إن أوربا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وهو كلام صحيح، ولكنه لم يدر ما معنى جمع السلطتين في شخص عند المسلمين. لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية، عندما كان يعزل الملوك ويحرم الأمراء ويقرر الضرائب على الممالك، ويصنع لها القوانين الإلهية. وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى وهو الخليفة أو السلطان ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، وإنما السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية والمدافع عنها بالحرب أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلا التولية والعزل، ولا لهم عليه إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظاما لطريقة الحكم، وعدد الحاكمين ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها، وكذلك حكومة مصر أنشئت فيها محاكم مختلطة ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم ولا دخل لشيء من ذلك في الدين، فالسلطة المدنية هي صاحبة الكلمة الأولى كما يطلب مسيو هانوتو ولكن مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين بل كان الأمر معكوسا، فإن أمراءنا السابقين لو اعتبروا أنفسهم أمراء الدين لما استطاعوا المجاهرة بمخالفته في ارتكاب المظالم والمغالاة في وضع المغارم والمبالغة في التبذير الذي جر الويل على بلاد المسلمين وأعدمها أعز شيء كان لديها وهو الاستقلال. إن فرنسا تسمّي نفسها حامية الكاثوليك في الشرق، وملكة إنجلترا تلقب بملكة البروتستانت، وإمبراطور روسيا ملك ورئيس كنيسة معا، فلم يسمح للسلطان عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين أو أمير المؤمنين؟ لا أظن أن مسيو هانوتو يسيء الظن بدعوة دينية على الوجه الذي بيناه، وأظنه يكون عونا للمسلمين على تعضيدها في البلاد الإسلامية الفرنسية إذا وجد فيها من يقوم بها، وأنا أضمن له بعد ذلك أن تتفق مصالح المسلمين مع مصالح الفرنسيين، فإن المسلمين إذا تهذبت أخلاقهم بالدين، سابقوا الأوربيين في اكتساب العلوم وتحصيل المعارف ولحقوا بهم في التمدن، وعند ذلك يسهل الاتفاق معهم إن شاء الله. سوء ظن المسلمين بسياسة أوربا كلها، وعدم ثقة سياسييهم بدولة من الدول، واعتقاد المسلمين بأن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية، وعدم اطمئنانهم إلى سياسة الدولة المسيحية، حتى أدى بهم فقدان الثقة بالمسيحيين إلى حد ألا يأتمنوا مسيحيا عثمانيا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم — سمع بذلك كله مسيو هانوتو من صاحب الأهرام، ومن بعض العثمانيين في الآستانة وباريس، ثم أخذ يبرهن على أن سياسة أوربا اقتصادية ملكية، لا دينية لاهوتية. لا أدري من هم المسلمون الذين وصفهم مسيو هانوتو، ومن أبلغه أخبارهم: أهم الهنود وهم في حكم دولة أجنبية، ولا نزال نرى في خطبهم وجرائدهم ما يدل على طاعتهم لحاكمهم، وتعليقهم الآمال بعدلهم، والتماسهم الحق من طرقهم؟ هل هم مسلمو روسيا، وثقتهم بحكومتهم أو ثقة حكومتهم بهم لا تخفى على أحد، حتى أن الدولة الروسية تفضلهم على المسيحيين من غير المذهب الأرثوذكسي؟ هل هم الأفغانيون وإخلاص أميرهم في مصافاة الإنكليز أشهر من أن يذكر، ولا ينفي إخلاصه حرصه على بلاده، ومحافظته على مصلحتها؟ هل هم الفرس واستنامتهم إلى السياسة الروسية لا يجهلها أحد؟ هل هم التونسيون، وقد أثنى عليهم مسيو هانوتو بما هم أهله، وثبت له ارتياحهم إلى السلطة الفرنسية لمجرد أنها أطلقت لهم الحرية في دينهم؟ لعله لم يقصد إلا العثمانيين كما يدل عليه بقية كلامه وكما يفيده قوله إنهم لا يأتمنون مسيحيا عثمانيا، والعثمانيون منهم المصريون ومنهم غيرهم، فأمّا المصريون فلا شيء عندهم يدل على عدم الثقة بالأوربيين وبالمسيحيين العثمانيين، فإنهم يشاركون في العمل مواطنيهم من الأقباط في جميع مصالح الحكومة، ما عدا المحاكم الشرعية الخاصة بالمسلمين، وهم معهم على غاية الوفاق خصوصا أهل الإخلاص وسلامة النية منهم، ولكل من الفريقين أصدقاء وأحبة من الفريق الآخر، ثم شأنهم هو ذلك الشأن مع سائر الطوائف المسيحية، إلا من ظهر منهم بالتعصب البارد للدين وآذاهم في دينهم أو في منافعهم الخاصة بهم لا لشيء سوى التعصب الأعمى، ولا تطلب على ذلك شاهدا أقرب من صاحب الجريدة الذي يحادثه مسيو هانوتو، فإنه بعد أن كان على المسلمين أثناء الحرب الروسية العثمانية، وبعد أن أتى ما أتى عقب الحوادث العرابية، شهد له المسلمون بأنه صديقهم والساعي في خيرهم، كما افتخر بذلك مرارا في جريدته، وإن كانت له هنات معروفة فأين فقد هذه الثقة بالعثمانيين المسيحيين في مصر؟ هل طرد أحد من خدمة الحكومة لأنه مسيحي عثماني؟ هل حرم أحد حق المحاماة أو إنشاء الجرائد أو المطابع أو إقامة المصانع أو تأسيس البيوت التجارية لأنه مسيحي عثماني؟ فليأت صاحبنا بشاهد واحد! أما حالهم مع الأوربيين فإنا نراهم إذا أحسوا بعدل من إنكليزي ذكروه، أو وصل إليهم معروف من أي عامل أوربي شكروه، بل أزيدك على هذا أن المستغيث منهم بالحكومة يطلب منها أن يتولى تحقيق مظلمته إنكليزي، كما شوهد ذلك كثيرا في شكاياتهم، وليس بقليل من يعرض شكواه على جناب اللورد كرومر وهو ليس بحاكم رسمي، فأي دليل على الثقة أكبر من هذا؟ ليس بقليل في مصر من يثق بالفرنسيين ومن له بينهم أصدقاء يركن إليهم ويعتد بولائهم، ومسيو هانوتو وصاحب الجريدة يعرفان ذلك. كثيرا ما أغرى الأوربيون من فرنسيين وأمريكيين من أرباب المدارس في مصر شبانا من المسلمين بالمروق من دينهم والدخول في الديانة المسيحية، وفروا ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية، وأحرقوا أكباد آبائهم، ومع ذلك لا نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارس، وناظر المعارف عندنا وزير مسلم وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس الفرير فأي ائتمان هذا الائتمان؟ زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوربيين خصوصا في المعاملات حتى أساء أولئك الأوربيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيرا من أهل الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة إليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم وعوائدهم، فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟ هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شيء مثلما يشكون من الثقة العمياء بالأجنبي، من غير تمييز فيما هو عليه من إخلاص أو غش، من صدق أو كذب، من أمانة أو خيانة، من قناعة أو طمع، حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا إليه من خسارة المال وسوء الحال! فهل هذا هو فقد الثقة بالأوربيين والعثمانيين المسيحيين الذي يعنيه حضرة صاحب الأهرام وجناب مسيو هانوتو؟! وأما العثمانيون من غير المصريين فإذا ارتقينا إلى الدولة وسلطانها أيده الله، وجدنا أن نظام الدولة قاض باستخدام المسيحيين في إدارتها ومحاكمها في كل بلد فيه مسيحيون، والمأمورون من المسيحيين ينالون من النياشين والرتب ما يناله المسلمون على نسبة عددهم أو فوق ذلك، وكثير من المسيحيين نالوا من الامتيازات والمنافع في الدولة ما لم ينله مسلم، وسفارات الدولة ومناصبها العالية لا تخلو من المسيحيين. إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية وإنعامه عليهم بوسامات الشرف، واختصاصه لبعضهم بشرف المثول في حضرته، والإحسان إليه برقيق المخاطبة لا ينقطع ذكره من الجرائد، وصاحب الجريدة التي نقلت الحديث أمثل شاهد على مثل ذلك فقد جاهر زمنا ليس بالقصير بما لا ترضى الدولة بمثله ولا بأقل منه من مسلم، ثم سهل عليه وهو مسيحي أن يكون موضع ثقة للجناب السلطاني حتى أدناه منه وقبله في مجلسه، وسمع منه أمير المؤمنين تلك النصيحة المفيدة التي نشرها في جريدته من نحو شهرين، إثْرَ هبوبه لنصرة مسيو هانوتو، ثم والى عليه إحسانه بالرتب والنياشين وغيرها، فما هي الثقة إن كان هذا فقدانها؟ أما سياسة الدولة الخارجية فالفرنسيون يشكون من مصافاة لسلطان وثقته بدولة ألمانيا وهي دولة مسيحية، ولا أظنهم يشكون من ثقة أخرى بدولة إسلامية، وكانت للدولة ثقة لا تتزعزع بالسياسة الإنكليزية، ثم حدثت حوادث أهمها نشأ من ضعف سياسة مسيو غلادستون، فأعقبها اضطراب في تلك الثقة مدة من الزمان بحكم الضرورة، إنا نراها اليوم تتراجع، وفي رجال الدولة من لهم ثقة بصداقة روسيا، ويودون لو مالت إليها سياسة الدولة وهم مسلمون. والذي أحب أن يعرفه مسيو هانوتو أن سياسة الدولة العثمانية مع الدول الأوربية ليست بسياسة دينية، ولم تكن قط دينية من يوم نشأتها إلى اليوم، وإنما كانت في سابق الأيام دولة فتح وغلبة، وفي أخرياتها دولة سياسية ومدافعة، ولا دخل للدين في شيء من معاملاتها مع الأمم الأوربية. إمبراطور ألمانيا جاء إلى سورية للاحتفال بفتح كنيسة فبالغ السلطان في الاحتفال به إلى الحد الذي اشتهر وبهر. يجيء الأمراء المسيحيون من الأوربيين إلى الآستانة فيلاقون من الاحتفال ما لا يلاقونه في بلاد مسيحية، وينفق في تعظيم شأنهم من المال ما المسلمون في حاجة إليه. أليس ذلك لمجاملتهم واكتساب مودتهم، وهل بعد المودة إلا الثقة بصاحب المودة؟ كان يمكن للسلطان أن يكتفي بالرسميات ولا يزيد عليها، ولكن عهد في معاملته ما يفوق الرسمي بدرجات، فإن سلمنا أن سياسة أوربا ليست دينية من جميع وجوهها فسياسة الدولة العثمانية مع أوربا هي كذلك، ومسلموها تبع لها. فإن قال قائل: إن حوادث الأرمن لم تزل في ذاكرة أهل الوقت، وينسبون وقائعها إلى التعصب الديني، بل يقولون إن أسبابها مظالم جر إليها ذلك التعصب، أمكن أن يجاب بأن العداوة مع طائفة مخصوصة لا تدل على فقد الثقة بكل مسيحي منها ومن غيرها، ومع ذلك فإن كثيرا من الأرمن في خدمة الدولة إلى اليوم، وهم بذلك موضع ثقتها، وهذا وذاك يدل على الريب فيما يزعمون من أن منشأ تلك الوقائع التعصب الديني، فإن المسيحيين وسواهم في الممالك العثمانية أنعم حالا من المسلمين كما شاهدناه بأنفسنا، ولو أنصف الأوربيون لأمكنهم فهم أسباب هذا الاضطراب الذي يظهر زمنا بعد زمن في تلك الأقطار، ولسهل عليهم أن يعرفوا أن منبعه في أوربا لا في آسيا. لا أغالي حين أقول إن المسيحيين في الممالك العثمانية متمتعون بنوع من الحرية في التعليم والتربية وسائر وجوه الخير ما يتمنى المسلمون أن يساووهم فيه، فهل هذا عنوان سوء الظن بالمسيحيين وعدم الثقة بهم؟ لا يليق بكاتب مثل صاحب الأهرام أن يروي عن المسلمين كافة مثل ما رواه، فإن ذلك مما يحزن المسلمين والمسيحيين جميعا، وإني أعتقد أنه عند الكلام على المسلمين لم يكن في ذهنه إلا بعض أشخاص لم تعجبه آراؤهم فيه، فاستحضر في صورهم جميع المسلمين وسياسييهم. ليعلم مسيو هانوتو أن جميع ما يقال له أو يكتبه بعض العثمانيين لا حقيقة له إلا في ذهن القائل أو الكاتب، فلا ينبغي أن يعول على مثله في أحكامه، وعليه أن يحقق الأمر بنفسه إن كان يهمه أن يتكلم فيه. وأما أن المسلمين أخذوا عليه فيما كتب عن الإسلام مع أنه خدمهم، وقوله «فكيف بحالهم مع من لم يخدمهم»، فنبين له الوجه فيه ليزول عنه ما سبق إلى فهمه، ولو اقتصر على الكلام في السياسة، وبحث في علاقة المسلمين مع حكومته ولم يتناول الدين نفسه في أصلين من أهم أصوله، لما أخذ عليه أحد إلا من ينتقد رأيه من جهة ما هو صحيح أو غير صحيح، ولكنه لم يكتف بذلك وطعن في عقيدة التوحيد، وبين رداءة أثرها في المسلمين، واستل سلاحه على عقيدة القدر، وبين سوء ما جرت إليه فيهم، وهو بذلك يثبت أن المسلمين لا يزالون منحطين ما داموا مسلمين، وهو ما لا يرضاه أحد منهم. لو مال على المسلمين فيما هم عليه اليوم وفي انحرافهم عن أصول دينهم، واكتفى بتعنيفهم على إهمالهم لشئونهم، وغفلتهم عن مصلحتهم، كما جاء في حديثه الذي نحن بصدده، لما وجد من المسلمين إلا معتبرا بقوله متعظا بنصيحته والسلام.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/6/
أصول الإسلام
للإسلام في الحقيقة دعوتان: دعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده، ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الدعوة الأولى فلم يعول فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب، وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعا واجب الوجود عالما حكيما قادرا، وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان. وأطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنته له الفطرة بدون تقييد فنبهه إلى خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتحريك الرياح على وجه يتيسر للبشر أن يستعملها في تسخير الفلك لمنافعه، وإرسال تلك الرياح لتثير السحاب، فينزل من السحاب ماء فتحيا به الأرض بعد موتها وتنبت ما شاء الله من النبات والشجر، مما فيه رزق الحي وحفاظ حياته — كل ذلك من آيات الله عليه أن يتدبر فيها ليصل إلى معرفته. يذكر القرآن إجمالا من آثار الله في الأكوان تحريكا للعبرة، وتذكيرا بالنعمة، وحفزا للفكرة، لا تقريرا لقواعد الطبيعة، ولا إلزاما باعتقاد خاص في الخليقة، وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل، انظر كيف يقرع بالدليل لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا. مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري (وهو ما نسميه بالنظام الطبيعي) فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشي بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية، وقد اتفق المسلمون — إلا قليلا ممن لا يعتد برأيه فيهم — على أن الاعتقاد بالله مقدم على الاعتقاد بالنبوات وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله، فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزلة فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتابا ويرسل رسولا. وقالوا كذلك: إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو النظر والفكر لتحصيل الاعتقاد بالله لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة. وأما الدعوة الثانية فهي التي يحتج فيها الإسلام بخارق العادة وما أدراك ما هو خارق العادة الذي يعتمد عليه الإسلام، في دعوته إلى التصديق برسالة النبي عليه السلام؟ هذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره، ولم ينقطع أثره، هذا هو الدليل وحده وما عداه مما ورد في الأخبار سواء صح سنده أو اشتهر أو ضعف أو وهى، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل تقوية العقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر — هو أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة، هاديا للضال مقوما للمعوج، كافلا بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم منقذا لهم من خسران كانوا فيه، وهلاك كانوا أشرفوا عليه وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعا الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في أجوائها. وهذا الخارق قد دعي الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم فإن وجدوا طريقا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلا على المدعى فعليهم أن يأتوا به قال تعالى: وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ. وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا وقال غير ذلك مما هو مطالبة بمقاومة الحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل. معجزة القرآن جامعة من القول والعلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم، وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم يضئ عقولهم نور العلم، وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. ثم إن الإسلام لم يتخذ من خوارق العادات دليلا على أن الحق لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى أن الداعين إليه يمكنهم أن يغيروا شيئا من سنة الله في الخليقة، ولا حاجة على بيان ذلك فهو أشهر من أن يحتاج إلى تعريف. النظر العقلي لتحصيل الإيمان: فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي. والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح فقد أقامك منه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟ بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبا غير واقف عند الظن فهو ناج. فأية سعة لا ينظر إليها الحرج أكمل من هذه السعة؟ تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض: أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا ينظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه أن يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ وأي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها ولا سماء بأجرامها وأبعادها. البعد عن التكفير: هلا ذهبت من هذين الأصلين على ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم وهو إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت تسامحا على أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولا لا يحتمل الإيمان من وجه واحد من مائة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقي في النار. الاعتبار بسنن الله في الخلق: يتبع ذلك الأصل الأول في الاعتبار — وهو ألا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير الدليل، وألا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات — أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معاشها ومعادها — ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم. فمما جاء في الكتاب العزيز مقررا لهذا الأصل: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا، فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ إلخ. في هذا يصرح الكتاب أن لله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس، ويعبر عنها قوم بالقوانين. ما لنا ولاختلاف العبارات؟ الذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه. فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه. فمهما بحث الناظر وفكر، وكشف وقرر، وأتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه، ولا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟ قلب السلطة الدينية: أصل من أصول الإسلام انتقل إليه — وما أجله من أصل — قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أن الرسول عليه السلام كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، قال الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء. بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم — مهما علا كعبه في الإسلام — على آخر — مهما انحطت منزلته فيه — إلا حق النصيحة والإرشاد. قال تعالى في وصف المفلحين: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وقال: وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وقال: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير — وهم المراقبون عليها — يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه. وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد. ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار. فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما وله بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال. فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودا، ورسم حقوقا، وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله. فقد يغلب الهوى. وتتحكم الشهوة. فيغمط الحق. ويتعدى المعتدي الحد. فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق. وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير فلابد أن تكون في واحد وهو السلطان أو الخليفة. الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم. ولا هو مهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة. نعم شرط فيه أن يكون مجتهدا أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها — مما تقدم ذكره — بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معا. فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوقراطي) أي سلطان إلهي فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة بل بمقتضى الإيمان فليس للمؤمن مادام مؤمنا أن يخالفه، وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما يعرفه من شرائعه، لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر هما دين وشرع، وهكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى. ولا تزال الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة كما سبقت الإشارة إليه. كان من أعمال التمدن الحديث الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه، تشرع وتنسخ ما تشاء وتراقب وتحاسب كما تشاء، وتحرم وتعطي كما تريد، وخول السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض، وحق السيطرة على ما يحفظ نظام اجتماعهم، في معاشهم لا في معادهم، وعدوا هذا الفصل منبعا للخير الأعم عندهم. ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد. ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرر الدين، وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده الإمتاع، ويبنون على ذلك أن المسلم مستعبد لسلطانه بدينه وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان يحارب العلم، ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح مع العلم مادام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين وقد تبين لك أن هذا كله خطأ محض وبعيد عن فهم معنى ذلك الأصل من أصول الإسلام. وعلمت أن ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم، ومن هنا تعلم «الجامعة» أن مسألة السلطان في دين الإسلام ليست مما يضيق به صدره، وتحرج به نفسه عن احتمال العلم. وقد تقدم ما يشير إلى ما صنع الخلفاء العباسيون والأمويون الأندلسيون من صنائع المعروف مع العلم والعلماء. وربما أتينا على شيء آخر منه فيما بعد. يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني أفلا يكون للقاضي أو للمفتي أو شيخ الإسلام؟ أو قول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد أو عبادته لربه، أو ينازعه في طريق نظره. حماية الدعوة لمنع الفتنة: قالوا إن الدين الإسلامي دين جهادي شرع فيه القتال ولم يكن شرع في الدين المسيحي، ففي طبيعة الدين روح الشدة على من يخالفه، وليس فيها ذلك الصبر والاحتمال اللذان تقضي بهما شريعة المسالمة، وهي الشريعة التي وردت في كثير من الوصايا المسيحية «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الآخر، من سخرك ميلا فسر معه ميلين» (متى ٥: ٣٩، ٤٠) ونحو ذلك، حتى لقد طلبت فيها محبة العدو وهي مما لا يدخل تحت الاختيار بل ولا محبة الصديق، وإنما الاختيار العدل بين الأعداء والأولياء. لكن في ملكوت الله كل شيء مستطاع ولا شيء فيه بمستحيل. لم تقع حرب إسلامية بقصد الإبادة كما وقع كثير من الحروب بهذا القصد بأيدي المسيحيين. وإنما كان الصبر والمسالمة دينا عندما كانت القدرة والقوة تعوزان الدين. وغاية ما يقال إن العناية الإلهية منحت الإسلام في الزمن القصير من القوة على مدافعة أعدائه ما لم تمنحه لغيره في الزمن الطويل. فتيسر له في شبيبته ما لم يتيسر لغيره إلا في كهولته أو شيخوخته.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/7/
في الحرب والسلم
المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها تراقب أعمال أهله وتخصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم. حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم، بعد العجز عن إخراجهم من دينهم وتعميدهم، أجلتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا. فأنت ترى الإسلام من جهة يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها بشيء من المال أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء لا يعكرون معه صفو الدولة ولا يخلون بنظام السلطة العامة. ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الاختيار في شئونهم الخاصة بهم، ولا رقيب عليهم فيها إلا ضمائرهم. ومن جهة أخرى ينهى أفراد المؤمنين عن مقاطعة ذوي قرباهم من المشركين، ويطالبهم بحسن معاملتهم ففي طبيعته أن يكل أمر الناس في سرائرهم إلى ربهم. وفي طبيعته أن يجير من لا يعتقد عقيدته، ويحمي من لا يتبع سنته، وإن كان في عمى من الجهالة، وخبل من الضلالة. أفَتَرى أنه يصعب عليه بعد ذلك أن يحتمل العلم والعلماء، ويضيق به حلمه عن صنع الجميل بالفضل والفضلاء، ممن ينفق عمره في تقرير حقيقة، أو كشف غامض أو تبين طريقة؟ كلا ثم كلا، فمن بحث ونقب، وسبر ونقر، أو شق الأرض أو ارتقى إلى السماء، فهو في أمن من أن يعرض الإسلام له في شيء من عمله، إلا أن يحدث شغبا، أو يفسد أدبا، فعند ذلك تمتد يد الملك لرد كيد الكائد، وإصلاح الفاسد بسماح من الدين. ماذا ترى في الزوجة الكتابية لو كانت من أهل النظر العقلي وذهبت مذهبا يخالف مذهب زوجها؟ أفينقص ذلك من مودته لها؟ أو يضعف من شعور الرحمة التي أفاض الله بينه وبينها؟ فإذا كان المسلم يتعود الاحتمال، بل يتعود المحبة والنصرة لمن يخالفه في عقيدته ودينه وملته، ويألف مخالطته وعشرته وولايته ونصرته، أتراه لا يحتمل أن يرى بجواره من يعمل نظره في نظام الخليقة ليصل منه إلى اكتشاف سر أو تقرير أصل في علم، أو قاعدة لصناعة؟ إن كان قد يخالف ظاهرا مما يعتقد، أو يميل إلى رأي غير الذي يجد؟ أفلا يسع هذا ما يسع المجاهر بالخلاف، وهو معه على ما رأيت من الائتلاف؟ لو ذهبت أعد ما في طبيعة الإسلام من عناصر وأركان كلها تؤلف مزاج الكرم، وتكون حقيقة المسامحة مع العلم لأطلت على القارئ أكثر مما أطلت. ولهذا أرى من الواجب على أن أختم القول بذكر أصل أشرت إليه ولا غنى لما نحن فيه عن ذكره. صاحب هذا الدين صلى الله عليه وسلم لم يقل «بع ما تملك واتبعني» ولكن قال لمن استشاره فيما يتصدق به من مال (الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس). الوضوء أو الغسل من شروط الصحة للصلاة إلا إذا خشي منه الضرر أو عرضت مشقة في تحصيل الماء. القيام مما لا تصح الصلاة إلا به إلا إذا أصابت المصلي مشقة فيه فيسقط، ويصلي قاعدا. السعي إلى الجمعة واجب إلا إذا كان هناك وحل غزير، أو مطر كثير، أو ما يوجب تعبا ومشقة فيسقط. وهكذا تجد القاعدة قد عمت «صحة الأبدان، مقدمة على صحة الأديان» فترى الدين قد راعى في أحكامه سلامة البدن كما أوجب العناية بسلامة الروح. ثم عد الله النعيم والجمال والزينة من نعمه علينا التي بذكرنا بها فضله، ويهيج بها نفوسنا لذكره وشكره، كما قال: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، ثم قال: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة النحل). النهي عن الغلو في الدين: وخشي على المؤمن أن يغلو في طلب الآخرة فيهلك دنياه وينسى نفسه منها فذكرنا بما قصه علينا أن الآخرة يمكن نيلها مع التمتع بنعم الله علينا في الدنيا إذ قال وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ سورة القصص. فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها، كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها. فهو الذي جمع للإنسان أجزاء حقيقية واعتبره حيوانا ناطقا لا جسمانيا صرفا ولا ملكوتيا بحتا، جعله من أهل الدنيا كما هو من أهل الآخرة. واستبقاه من أهل هذا العالم الجسداني، كما دعاه إلى أن يطلب مقامه الروحاني. أليس يكون بذلك وبما بينه في قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا قد أطلق القيد عن قواه، لتصل من رفه الحياة «مع القصد» إلى منتهاه؟ والنفوس مطبوعة على التنافس قد غرز فيها حب التسابق فيما تعتقده خيرا أو تجده لذيذا أو تظنه نافعا. وليس في الغريزة الإنسانية أن يقف بها الطلب عند حد محدود أو ينتهي بها السعي إلى غاية لا مطلع للرغبة وراءها، بل خصها الله بالمكنة من الرقي في أطوار الكمال من جميع وجوهه إلى ما شاء الله أن ترقى بدون حد معروف. فإذا جمع سائق الأنفس ومزجيها ومرشدها وهاديها، بين شاحذين، شاحذ التمتع بمتاع الحياة الدنيا، وشاحذ الرغبة في النعيم الدائم في الآخرة، فقد جمع لها كل ما يسمو بها عن الرضاء في الدنيا بالدون وفي الآخرة بعذاب الهون، فترى كل نفس تمضي مع استعدادها بشهامة فؤادها مضاء الزميع لا تخشى العثرة بالوعيد، ولا تقعد عن مطلبها قعدة الرعديد فتطلب منافعها من هذا الكون الذي وجدت فيه ووجد لها، فتسير في مناكب الأرض ولا تكتفي عن الكل بالبعض، وتبحث في تربتها، ولا يقف بها ظاهرها عن باطنها، ولا يحجبها ظهرها عن مد يدها إلى ما في جوفها، ولا تجد ما يصدها عن النظر في الهواء، والبحث في الماء، والاهتداء بنجوم السماء بعد معرفة مواقعها وحركاتها في مداراتها واستقامتها وانحرافها وظهورها وخنوسها، وبالجملة فكل مستعد لوجه من وجوه النظر أو الولوج في باب من أبواب العلم. ينطلق إلى حيث يبلغ به استعداده إما للنجاة من ضرورة وإما لاستتمام منفعة أو استكمال لذة، لا يجد من نواهي الدين ما يصده عن مطلب، ولا ما يكف يده عن تنازل رغيبة أين هذا من ذلك الذي لا يرى الخلاص إلا في مجافاة هذا العالم ولذائذه، ويجد أن الغنى والثروة من الحجب التي لا تخرق، تجول بينه وبين ملكوت السماوات. كيف يتسنى للمسلم أن يشكر الله حق شكره، إذا لم يضع العالم بأسره تحت نظر فكره لينفذ من ظاهره إلى سره، ويقف على قوانينه وشرائعه، ويستخدم كل ما يصلح لخدمته في توفير منافعه؟ كيف يشكر الله إذا توانى في ذلك وقد أرشده الله في كتابه وبسنة نبيه إلى أن عالمه إنما خلق لأجله، وقد وضعه الله تحت تصرف عقله؟ انظر إلى لطف الإشارة في الآية المتقدمة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ إلخ حيث قال: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فأهل العلم هم الذين يعرفون مقدار نعم الله تعالى فيما يرفه به معيشتهم، ويجمل به هيئتهم، ويجلي به زينتهم. المسلمون مسوقون بنابل من دينهم إلى طلب ما يكسبهم الرفعة والسؤدد والعزة والمجد، ولا يرضيهم من ذلك ما دون الغاية، ولا يتوفر شيء من وسائل ذلك إلا بالعلم — فهم محفوزون أشد الحفز إلى طلب العلم وتلمسه في كل مكان، وتلقيه من أية شفة وأي لسان فإذا لاقاهم العالم في أي سبيل، أو عثروا به في أي جبل، أو ظهر لهم من أي قبيل، هشوا له وبشوا، ونصبوا إليه وكمشوا وشدوا به أواصرهم، وعقدوا عليه خناصرهم، ولا يبالون ما تكون عقيدته، إذا نفعتهم حكمته (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) ألم يأتهم عن ربهم: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ ألم يسمعوا في وصفهم قوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. لا شيء ينقلب عند النفس الإنسانية لذة بنفسه، وإن كان في أول أمره مطلوبا لغيره، مثل العلم، تطلب العلم أولا لحاجتك إليه في تقويم معيشة، أو ترفيه حال، أو دفاع عن نفس وملة، ثم لا تلبث إذا أوغلت فيه أن تجد اللذة في العلم نفسه، فتصير اللذة بتحصيله والوصول إلى دقائقه غاية تقصد بنفسها وتضمحل فيها كل غاية سواها، وعلة ذلك ظاهرة فإن العلم مسرح نظر العقل، والعقل قوة من أفضل القوى الإنسانية، بل هي أفضلها على الحقيقة، وقد وضع لها العليم الحكيم لذة، كما منح لكل قوة سواها نعيما ولذة، ولست في حاجة إلى تعديد لذة البصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس فالحيوان يعرفها بله الإنسان، وكلما عظم اختصاص القوة بالنوع عظمت لذاته باستعمالها فيما وجهت له، فيمكنك أن تستنتج من ذلك ألا شيء عند الإنسان ألذ من كشف المجهول، وإحراز المعقول وقد سمح الإسلام للمسلم أن يتمتع في هذه الحياة الدنيا بما يلذ له مع القصد والاعتدال. أفلا يكون من لذائذه ومتممات نعيمه أن يسيح في مملكة العلم ليمتع عقله كما يسيح في بسيط الأرض ليكسب رزقه ويقيت أهله؟ على أن العلم كان من ضرورات معيشة المسلم أو حاجياتها كما ذكر فإذا طفق يستنبط ماءه للضرورة، ويستجلي سناءه للحاجة، فلا يلبث أن يصير هو حاجة نفسه، وشاغله عن حاجات حسه حتى يدخل معه في رمسه، كما وقع لكثير من المسلمين. قال إمام جليل من أئمتهم «طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله».
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/8/
نتائج هذه الأصول
إلى أين أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين؟ فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد لحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بست سنوات في رواية، وتسع سنوات في رواية أخرى، والإسلام في طلوع فجره وتفتح نوره، فكان من بقايا ما تركت الأزمان الأولى رجل مسيحي من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي، كان في بدء أمره ملاحا يعبر الناس بسفينته وكان يميل إلى العلم بطبيعته، فإذا ركب معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذكراتهم ثم اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن ٤٠ سنة فبلغ فيه ما لم يبلغه الناشئون فيه من طفولتهم، وقد أحسن من العلم فنونا كثيرة حتى عد من فلاسفة وقته وأطبائه ومناطقته. يقول كثير من مؤرخي الغربيين ومؤرخي المسلمين: إن عمرو بن العاص سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه، ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال أحد فلاسفة الغربيين: (إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرة والرأي العالي، بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على غاية من الاستعداد للجولان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع). خالط المسلمون أهل فارس وسورية وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سورية ولم تغير بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار. وأفضت سماحة الدين إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/9/
اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية
بعد ٢٠ سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يحض على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك، وأخذ المسلمون يتحسسون نور العلم في ظلام تلك الفتن استرسالا مع ما يدعوهم إليه دينهم، وتنبههم لطلبه شريعتهم، وإن كانت الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم، فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها بالتدريج على سنة الفطرة، فالبراعة في الآداب: من علم بوقائع العرب وتاريخهم، وقول الشعر، وإنشاء البليغ من النثر، قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغا لم تبلغه أمة قط في مثل مدتها، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها، ويرفعون مكانات الشعراء والخطباء والعلماء بالسير، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم، وترجمت جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول. الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام ولم يسيروا في الزهد سيرة الخلفاء الراشدين، فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما سأل عنه دل عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل البقيع بين الفقراء، وجاءت رسل الملوك إلى معاوية رحمه الله فإذا هو في قصر مشيد محلى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية مزين الجنات والرياض وينابيع الماء، مفروش بأحسن الفرش، يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش، ولم يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه، وإنما تناول مباحا، وتمتع برخصة آتاه الله إياه، ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على اختلاف ضروبها. انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة (سنة ١٣٢) ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضا، وأخذ المنصور أيضا ينشئ المدارس للطب والشريعة، وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكمل حفيده الرشيد ما شرع فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها، وجاء المأمون فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، ويقال إنه حمل إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير، وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيه مكتبة من مكاتب الآستانة فوجد مما فيها من النفائس كتاب بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسموه بالمجسطي، ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أخذت دول الإسلام تعتني بدور الكتب عناية لم يسبقها إلى مثلها من دول سواها «حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف مجلد، منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير. وكان من نظامها أن تعار بعض الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة، وكان فيها كرتان سماويتان (إحداهما) من الفضة يقال إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار (والثانية) من البرنز. ومكتبة الخلفاء في إسبانيا بلغ ما فيها ستمائة ألف مجلد وكان (فهرسها) أربعة وأربعين مجلدا. وقد حققوا أنه كان في إسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية، وكان في هذه المكتبات مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة. وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون دورهم معاهد دراسة لما تحتوي عليه. يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبا أندلسيا ليزوره فأجابه أن ذلك لا يمكنه لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جمل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها. وكان حنين بن إسحاق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يفد إليها طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه. غطى بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس. نقول «على سعتها» لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير، فكنت تجد المدارس في كل الأقطار: في المغول، في التتار، من جهة المشرق. في مراكش، في فاس، في إسبانيا من جهة المغرب. وكانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يعد درسه ويكتب في الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب، ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون عنه ثم تكون هذه الدروس كتبا وأمالي تنشر بين الناس في كل علم. وهنا نبادر إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب الكتاب، غير أن مؤرخا واحدا رأيته ذكر أنه قد وضع قانون في بعض الممالك الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه ألا ينشر منها شيء إلا بإذن. على أني لا أعلم شيئا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاما. نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية: يقول (جيبون) في كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب: «إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء، في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من أثر ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشر في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد وجعل لها من الريع الذي يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه، والمعلمون كانوا ينقدون رواتب وافرة». وانقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع الخلافة ثلاث شيع كان العباسيون في آسيا (الشرق) والأمويون في الأندلس من أوربا (الغرب) والفاطميون في مصر من أفريقيا (الوسط) ولم يكن تنافس هذه الدول الثلاث مقصورا على الملك والسلطان. ولكن كان التنافس أشد التنافس في العلم والأدب، وكان مرصد سمرقند قائما في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من العناية برياضة الأفلاك، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا بأحط منهم في الإدراك. جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية عن مدرسة الطب في القاهرة، وكان من أشد النظامات وأدقها، ولم يكن لطبيب أن يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على شدته، وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي أنشأها العرب في (ساليرن) من بلاد إيطاليا وأول مرصد فلكي أقيم في أوربا هو الذي أقامه العرب في إشبيلية من بلاد إسبانيا. ولع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها، والفنون الأدبية بجميع أنواعها، حتى القصص والأساطير الخيالية، في الأحوال الاجتماعية، وابتدءوا بأخذ العلم عن اليونانية والسريانية، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة العربية بالترجمة الصحيحة. وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين وغيرهم، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم في اللسانين وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها، وينقلوها إلى لسانهم على حسب ما يصل إليه علمهم فيها. وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من المسيحيين واليهود، ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة ودين، كل يعلم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه. كان علم العرب في أول الأمر يونانيا، ولكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم صار عربيا، ولم يرض العربي أن يكون تلميذا لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو بطليموس زمنا طويلا كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ المسيحي. قالوا: إن (باكون) هو أوّل من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية أو أقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين، وأطلق العلم من رق التقليد. ذلك حق في أوربا وأما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة. أول شيء تميز به فلاسفة العرب عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربة، وألا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة، حتى لقد نقل جوستاف لوبو عن أحد فلاسفة الأوربيين أن القاعدة عن العرب هي «جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفا» وعند الأوربي على ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي «اقرأ من الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما» فلينظر المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلبت الحال، وماذا أعقب من سوء المال. قال (ديلامبر) في تاريخ علم الهيئة «إذا عددت في اليونانيين اثنين أو ثلاثة من الراصدين أمكنك أن تعد في العرب عددا كبيرا غير محصور» وأما في الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربين مائتين عند العرب. ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم. وقد كانوا يعدون الهندسة والفنون والرياضة من الآلات المنطقية، يستعملونها في الاستدلال على القضايا النظرية، وهي من أصدق الأدلة في الإيصال إلى المجهولات كما هو معروف. والعرب هم أول من استعمل الساعات الدقاقة للدلالة على أقسام الزمن، وهم أول من أتقن استعمال الساعات الزوالية لهذا الغرض. وقد اكتشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها حتى وضعوا لها جداول في غاية الدقة والصحة، كما وضعوا جداول للأرصاد الفلكية، وكانت تلك الجداول معروفة يطلع عليها الناظرون في سمرقند وبغداد وقرطبة حتى لقد وصلوا بتلك القوانين إلى ما يقرب من اكتشاف الجاذبية. «تأخذنا الدهشة أحيانا عندما ننظر في كتب العرب فنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا في زماننا، كالرأي الجديد في ترقي الكائنات العضوية وتدرجها في كمال أنواعها، فإن هذا الرأي كان مما يعلمه العرب في مدارسهم وكانوا يذهبون به إلى أبعد مما ذهبنا، فكان عندهم عاما يشمل الكائنات غير العضوية والمعادن. والأصل الذي بنيت عليه الكيمياء عندهم هو ترقي المعادن في أشكالها. قال الخازني إذا سمع الشعب الجاهل ما يقال بين العلماء: أن الذهب قد تقلب في الأشكال المختلفة حتى صار ذهبا ظن من هذا أنه مر في صور معادن أخرى فكان رصاصا ثم قصديرا ثم صفرا ثم فضة ثم صار بعد ذلك ذهبا ولا يعلم أن الفلاسفة إذا قالوا ذلك فإنما يقصدون منه ما أرادوه من قولهم في الإنسان أنه وصل إلى حالته الحاضرة بالتدريج ومن طريق الترقي وهم لم يعنوا بقولهم هذا أنه تقلب في صور الأنواع المختلفة كأن كان ثورا ثم حمارا ثم فرسا ثم قردا ثم صار بعد ذلك إنسانا». ويقول الفيلسوف جوستاف لبون: «إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين». وهنا أنكر على بعض فلاسفتهم ما نقلوه عن ابن رشد من أنه ذهب في حرية الرأي إلى نقض أصل الدين وقال: إن الروح لا بقاء لها بعد فناء الجسد وإنما الذي يبقى هو أرواح الأنواع. فإن هذا خطأ عرض لهم من سوء فهم كلامه في بيان بقاء الأنواع دون الأشخاص، فإنه قال كما قال أرسطو وغيره: إن الأشخاص توجد وتفنى وأما الأنواع فهي باقية لا تزول: وهذا باب آخر يغاير بالمرة ما استنتجوا منه، كما أخطئوا في قولهم عنه إنه كان يعتقد بأن الله روح العالم يظهر في صوره والكل يرجع إليه، بمعنى أنه يفنى في ذاته ولا يبقى في العالم باق آخر. وهو يقرب من قولهم السابق. فإن ابن رشد كان مسلما يعرف أن الإسلام لا ينافي العالم وإنما ينافي هذا الضرب من الوهم، الذي لم يسقط فيه أحد إلا من عثرة في طريق العلم، أو الاسترسال مع الخيال. وكثير ممن سكروا بهذا الرأي أفاقوا منه. ولكنه كتب ابن رشد التي بين أيدينا تبعد بنا عن نسبة هذا الرأي إليه كما سبق بيانه، ولكني لا أنكر نسبته لو نسب إلى ابن سبعين وهو ممن أخذ عن تلاميذ ابن رشد فإن في كلامه ما يدل على ذلك. ويقول فيلسوف آخر: «إن العلوم التي تلقاها العرب عن اليونانيين وغيرهم وكانت ميتة بين دفات الدفاتر، مقبورة بين جدران المكاتب، أو مخزونة في بعض الرءوس كأنها أحجار ثمينة في بعض الخزائن، لا حظ للإنسانية منها سوى النظر إليها — صارت عند العرب حياة الآداب، وغذاء الأرواح، وروح الثروة، وقوام الصنعة، ومهمازا للقوى البشرية يسوقها إلى كمالها الذي أعدت له. وليس في الأوربيين من درس التاريخ وحكم العقل ثم ينكر أن الفضل — في إخراج أوربا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعليمها كيف تنظر وكيف تتفكر وفي معرفتها أن التجربة والمشاهدة هما الأصلان اللذان يُبنى عليهما العلم — إنما هو للمسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم وأدخلوها من إسبانيا وجنوب إيطاليا وفرنسا عليهم. وكان من حظ العلم العربي والأدب المحمدي عندما دخلا إلى إيطاليا أن البابا كان غائبا لأن كرسيه كان قد انتقل إلى فرنسا في أفنيون نحو سبعين سنة فدب العلم إلى شمال إيطاليا واستقر به القرار هناك، إن شوارع باريس لم تفرش بالحجارة إلا في القرن الثاني عشر وقد رصت بالبلاط على نحو ما رصت به مدن إسبانيا». ويقول آخر: «لا أدري كيف أعطانا الإسلام في مدة قرنين عددا من الفلكيين يطول سرد أفراده وأن الكنيسة تسلطت على العالم المسيحي اثني عشر قرنا في أوربا ولم تمنحنا فلكيا واحدا». هذا النماء والذكاء العلمي لم يكن خاصا بطائفة دون طائفة بل كان الناس في التمكن من تناوله سواء، وإنما كان التفاضل بالجد والعلم، والفضل في ذلك كله لحلم الخلفاء وأعمالهم وسماحة الدين ويسره وسهولته على أهله وأهل ذمته، قال بعض فلاسفة الغربيين قولا يعرفه الحق وتثبته المشاهدة: «إن شعوب الأرض لم تر قط فاتحا بلغ من الحلم هذا المبلغ (يريد فاتحي الإسلام على اختلافهم) ولا دينا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد». إن الخلفاء الذين يقال عنهم إنهم رؤساء دين وحكام سياسة معا كانوا هم بأنفسهم المتعلمين للعلوم الداعين إلى تعلمها، كانوا العالمين العاملين. كان خليفة كالمأمون يضطهد أحيانا أعداء الفلسفة، وقد عرف التاريخ كثيرين من أرباب الشهرة الذين قضوا في سجنه الشهور أو السنين، لأنهم كانوا يعادون الفلسفة ظنا منهم أن منها ما يعدو على الدين فيفسده. هل رأيت في غير الإسلام رئيسا دينيا يضطهد أعداء العلم وجفاة الفلسفة؟ لعلك لا تجده أبدا. كان أهل العلم والأدب عامة يجدون من الاحترام عند الخلفاء والأمراء والخاصة ما يليق بهم كيفما كانت حالهم، وأضرب المثل بالشيخ أبي العلاء المعري، لشهرته بين الناس بما يشبه الزندقة. يذكر علي بن يوسف القفطي أن صالح بن مرداش — صاحب حلب — خرج إلى المعرة وقد عصي أهلها عليه، فنازلها وشرع في حصارها ورماها بالمنجنيق، فلما أحس أهلها بالغلب، سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم، فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه، ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير — أطال الله بقاءه — كالسيف القاطع لان مسه، وخشن حده، وكالنهار البالغ، قاظ وسط وطاب برده خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فقال له صالح: قد وهبتها لك، ثم قال: أنشدنا شيئا من شعرك لنرويه، فأنشده على البديهة أبياتا فيه، فترحل صالح. فانظر كيف وهب الأمير بلدا عصي أهله لفيلسوف معروف بما هو عنه معروف. ولو ذكرت ما نال العلماء والفلاسفة عند الأمراء والخلفاء لطال بي المقال أكثر مما طال، وفيما سبق كفاية لمكتف. قد يتوهم قوم أن الاضطهاد قد يظهر في مقت العامة وخلقهم ما يخلقون من المفتريات على أهل العلم والفكر الحر، وهمس بعضهم في آذان بعض، وتغامزهم على أهل الفضل، ولمزهم إياهم بالألقاب، بل واحتقارهم في بعض الأحيان. وهذا النوع منه عند المسلمين بلا نكير. وهو خطأ ظاهر لأن هذا النوع — ممن يكره أهل العلم — لا تخلو منه أرض ولا تطهر منه بلاد مهما بلغ أهلها من الحرية، ومهما بلغ ذوق العلم من نفوس أهلها، فإن القائمين على عقيدة الكاثوليك إلى اليوم في أرض فرنسا نفسها يمقتون الفلاسفة الذين يظهرون معاداة للكنيسة، ويكتبون ما يوهن قواعدها وقد يختلق عليهم أحزاب الكاثوليك ما لم يقولوه، ويرون أن النظر في كتبهم لا يجوز في شريعة الدين، ونحن لا نرتاب في أن نحو هذا كان عند المسلمين أيام كانت سوق الفلسفة رائجة عندهم، ولكنه ليس من الاضطهاد في شيء، وإنما هي نفرة الإنسان مما لا يعرف، مع ترك صاحبه وشأنه يمضي في سبيله إلى حيث يشاء. يقول آخرون: إن التاريخ يروي لنا أن بعض أرباب الأفكار قد أخذه السيف لغلوه في فكره، فلم يترك له من الحرية ما يتمتع به إلى منتهى ما يبلغ به، وليس يصح أن ينكر ما صنع الخليفة المنصور وغيره بالزنادقة. ماذا يقول القائلون؟ إن التعليم عند المسلمين كان غريبا أمره، يكاد يكون خفيا سره، مسجد أو مدرسة تابعة لمسجد، يجلس فيها للتدريس الفقيه والمتكلم والمحدث والنحوي والمتأدب والفيلسوف والفلكي والمهندس، ينتقل الطالب من بين يدي الفقيه ليجلس بين يدي الفيلسوف، ومن مجلس الحديث إلى مجلس الأدب، وإذا وقعت مذاكرة بينهم في مسألة من المسائل أخذت الحرية مأخذها في الإقناع والإلزام، وسقطت قيمة الغلو في التعبير، وأخذ التسامح بينهم مأخذه. كان عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة وأشدهم صلابة في أصول مذهبه، ومع ذلك هو من مشايخ الإمام البخاري صاحب الصحيح، وكانت له منزلة عند المنصور تعلو كل ذي منزلة عنده، حتى قال له يوما وهو خارج من بين يديه «رميت لكل الناس حبا فلقطوا إلا إياك يا عمرو بن عبيد» فانظر كيف كان لإمام من أئمة السنة أن يصل سنده في الحديث برئيس من رؤساء المعتزلة ولا يرى في ذلك بأسا؟ إذا عد عاد بعض رجال العلم الذين أخذتهم القسوة في الإسلام وقتلتهم حماقة الملوك بإغراء الفقهاء وأهل الغلو في الدين، فما عليه إلا أن ينظر في أحوالهم فيقف لأول وهلة على أن الذي أثار أولئك عليهم ليس مجرد العصبية للدين، وإن الغيرة عليه ليست هي الباعث لهم على الوشاية بهم، وطلب تنكيلهم، وإنما تجد الحسد هو العامل الأول في ذلك كله والدين آلة له، ولهذا لا ترى مثل ذلك الأذى يقع إلا على قاضي قضاة كابن رشد (ورجوع الحاكم إلى العفو عنه وإنزاله منزلته دليل على ذلك) أو وزير، أو جليس خليفة أو سلطان، أو ذي نفوذ عظيم بين العامة. وهذا كما يقع من الفقهاء مثلا لإيذاء الفلاسفة، يقع من الفقهاء بعضهم مع بعض، لإهلاك بعضهم بعضا، كما يشهد به العيان، ويحكي لنا التاريخ، فليس هذا كذلك معدودا من معنى اضطهاد الدين للفلسفة، لأن التحاسد أكثر ما يقع بين من لا دين لهم على الحقيقة وإن لبسوا لباسه. وإنما ذلك الاضطهاد هو الذي يحمل عليه محض الاختلاف في العقيدة أو ظن المخالفة للدين في شيء من العلم أو العمل لضيق الدين عن أن يسع المخالف بجانبه وهذا لم يقع في الإسلام، اللهم إلا أن يكون حادث لم يصل إلينا. هذه طبيعة الدين الإسلامي عرضت عليك في أهم عناصرها ومقومات مزاجها. وهذا كان أثرها في العالم الشرقي والغربي وهذه سعة فضل الدين وقوته على احتمال مخالفيه وتيسيره لأولئك المخالفين أن يحتموا به متى رضوا بأن يستظلوا بظله، هل في هذا خفاء على ناظر؟ وهل يرضى لبيب لنفسه أن ينكر الضوء الباهر؟ أفلا يبسم الإسلام عجبا وهو في أشد الكرب لعقوق أبنائه، من أديب لم يكن يعده من أعدائه، إن لم يحسبه في أحبائه، عندما يراه يسدد سهمه إليه، ويجور، كما يجور الجائرون في حكمهم عليه؟
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/10/
الإسلام في أوائل القرن العشرين
ألم يحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان والهند والعجم من شدة التمسك بالقديم، والحرص على ما ورثوه عن آبائهم الأقربين، وإقامة الحرب على كل من حاول أن يزحزحهم إصبعا عما كان عليه سلفهم، وإن كان في البقاء عليه تلفهم، وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلو في التعصب، والمعاقبة بقطع بعض الأعضاء في شرب الدخان، أو القتل في كلمة ينكرها السامعون، وإن أجمع عليها المسلمون الآخرون؟ ثم ألا يتخيل المتأمل أنه يسمع من جوف المستقبل صخبا ولجبا، وضوضاء وجلبة، وهيعات مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفا من مبادئ الطبيعة أو يحصلوا جملة من التاريخ الطبيعي؟ ألا تقوم قيامة المتقين، ألا يصيحون أجمعين أكتعين أبتعين: هذا عدوان على الدين، هذا توهين لعقدة المتين، هذا تغرير بأهله المساكين، ولا يزالون يشيدون بهذا إلى ألا يبقى شيء عرف له اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم. هل هذه الحال جديدة على المسلمين، حتى يقال إنها عارض عرض عليهم، أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة الأمم، خصوصا عندما يجد الوحدة في الصفات، والشمول في جميع الاعتبارات، فلو أخذ مسلما من شاطئ الاطلانطيقي، وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة واحدة تخرج من فميهما وهي إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ولكنهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه، وإن نطق به الكتاب، واجتمعت الآثار. هل يمكن أن ينكر جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على تباينها واختلاف واضطراب الآراء في فهمها وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي، واجتهدوا في تحويلها عن حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب، حتى لقد جاء طالب علم من بلد من بلاد الدول العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع الشك: هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف؟ فقال قائل لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شروط الواقف. فقال: إنني لا أقنع بما في تلك الكتب، وإنما الذي يصح أن آخذ به وهو أن يكون فقيه (ممن مات) قال إن هذا البلد من قطر كذا، وهو الذي وقف الواقف على أهله. وإذا قيل لأحدهم: إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولا لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها، وإن أصول ديننا تسمح لنا بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون (وهم منا) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك من البدهيات قال: إنما أريد نصا فقهيا، لا دليلا عقليا. وإذا قيل لهم: اختلت الشئون، وفسدت الملكات والظنون وساءت أعمال الناس، وضلت عقائدهم، وخوت عبادتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشر، وغالت أكثرهم أغوال الفقر، فتضعضعت القوة، واخترق السياج، وضاعت البيضة وانقلبت العزة ذلة، والهداية ضلة، وساكنتكم الحاجة، وألفتكم الضرورة، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس، فهلا نبهكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه؟ قالوا: ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا وإنما هو للحكام ينظرون فيه، ويبحثون عن وسائل تلافيه، فإن لم يفعلوا — ولن يفعلوا — فذلك لأنه آخر الزمان، وقد ورد في الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة، وإن الإسلام لابد أن يرفع من الأرض، ولا تقوم القيامة إلا على لكع بن لكع. واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث وآثار تقطع الأمل، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل؟! هذا الجمود — الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من طيات الأفكار، وثنيات الوجدان، لكتبنا فيه كتابا — هو الذي حمل المسيو رينان الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية مع العلم، نقلته عنه الجامعة «على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلامي وحده في وجه هذا التسامح العام في العقائد، ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد الفرس جراثيم جيدة، تدل على فكر واسع، وعقل ميال إلى المسامحة، إلا أنني أخشى أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء، فإذا اختنقت قضي على الدين الإسلامي. ذلك أنه من الثابت الآن أمران: هذا كلام رينان بتصرف لفظي قليل. فمن أين يكون هذا الجمود العام، الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام، بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحا في سعيهم، أو نجاحا في أعمالهم؟ من أين يكون هذا الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين؟ فإن لم تسلم بأن هذا اضطهاد، وأن الاضطهاد من لوازم الدين الإسلامي، فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه. أو استهجان له، أو احتقار لشأنه. واحد هذه الأمور كاف إذا عم بين المسلمين في أن ينفر بهم عن كل مجد، وأن يحرمهم كل نفع. وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رينان وغيره فما قولك في هذا؟؟ أقول هذا كلام فيه شيء من الحق، ولمعة من الصدق، أما ما نسمعه حولنا من سجن من قال يقول السلف، فليس الحامل عليه التمسك بالدين، فإن حملة العمائم إنما حركهم الحسد لا الغيرة. وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة، والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد، فتنتشر عداوة فينتبه غافل آخر، ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين — إلى آخر ما يكون من حرية الفكر (يعوذون بالله منها). فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فأنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسية ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تُذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس. بذلك على أن العقوبة سياسية أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين. لا تقول إن هذه السياسة من الدين، فإني أشهد الله ورسوله وملائكته وسلفنا أجمعين، أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ. وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام، وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون أصلا يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته (رينان) وغيره. وإنما هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم، هو السياسة كذلك، هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى وإتباع خطوات الشياطين — هو السياسة. انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببا فيما صار إليه أهله: كان الإسلام دينا عربيا، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا، بعد أن كان يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فأخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي، لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهما من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك، هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميا. خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه أكثر من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه. فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم، وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثيرا منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم، ومنهم من تولى سلطته، ومنهم من تولى أمره. أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح سيرهم؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيرا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله، ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه، ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين، زعموا الدين ناقصا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيا ليدعموه، أو يكاد ينقض ليقيموه. نظروا على ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعادوا من ذلك للإسلام ما هو براء منه، لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة، وأركس الناس في الضلالة وقرروا أن المتأخر، ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة، حتى يقف الفكر، وتجمد العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة، بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال، واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مال، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم، وغلا للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة، وضعف البصيرة في الدين، وموافقة الهوى — أمور إذا اجتمعت أهلكت، فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما يقال. هذه السياسة — سياسة الظلمة وأهل الأثرة — هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملا كان يخترق به آفاق السماوات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجعل ما تراه الآن مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج، ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها، ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا، نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه، فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سموه إسلاما، والقرآن شاهد صادق لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ يشهد بأنهم كاذبون، وأنهم عنه لاهون، وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود، ونثبت أنه علة لابد أن تزول. طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولع شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها، وإنما يحسن إجمال القول فيها. كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، ويسيح به في الأرض، ويصعد به إلى أطباق السماء، ليقف به على أثر من آثار الله، أو يكشف به سرا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكما من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء، وتبلغ من التمتع بها ما تريد. فلما وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار سير التدريج. أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها وآدابها فإن القوم كانوا يعنون بها لحاجة دينهم إليها — أريد حاجتهم في فهم كتابهم إلى معرفة دقائق أساليبها، وما تشير إليه هيئة تراكيبها، وكانوا يجدون أنهم لن يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربا بملكاتهم، يساوون من كانوا عربا بسلائقهم. فلما لم يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم، قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام من قبلهم، واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله، ولو نظروا في الدليل فرأوه غير دال له بل دال لخصمه، بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر الذين لم يقرر الدين عصمتهم، لخطئوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا: نعوذ بالله أن تذهب عقولنا إلى غير ما ذهب إليه متقدمنا، وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه الشلل من تلك الناحية. فأية حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها، وقد يكفيه منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم، وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر الأولون في كلامهم. وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال بسلفه الأول، بل ولا بما كان يحف بالقول من أحوال الزمان، فهو لا ينظر إلا اللفظ وما يعطيه، فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال الناس إلى ما نراهم عليه اليوم: جعلوا دروس اللغة لهم عبارة بعض المؤلفين في النحو وفنون البلاغة، وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها فدرست علوم الأولين وبادت صناعتهم، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم، وأصبح الباحث عن كتاب المدونة لمالك رحمه الله تعالى أو كتاب الأم للشافعي رحمه الله تعالى أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت الزنديق، تجد جزءا من الكتاب في قطر وجزءه الآخر في قطر آخر، فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلا بينك وبين الاستعادة منها. هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت في وجوه المتأخرين، ليرفع بذلك المتقدمين وعدم الاعتبار بما ورد في الأخبار من أن المبلغ ربما كان أوعى من السامع وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أو آخره وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة، يكفيه من ذلك أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول، وأي ضر أعظم من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول؟ وأعظم من هذه الجناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفريق المذاهب والشيع في الدين. كان اختلاف السلف في الفتوى يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد، وكل يرجع إلى أصل واحد لا يختلفون فيه، وهو كتاب الله وما صح من السنة، فلا مذهب ولا شيعة، ولا عصبية تقاوم عصبية، ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما صرح به جميعهم، ثم جاء أنصار الجمود فقالوا يولد مولود في بيت رجل من مذهب إمام فلا يجوز له أن ينقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر، وإذا سألتهم قالوا: «وكلهم من رسول الله ملتمس» لكنه قول باللسان، لا أصل له في الجنان، ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة، لكنا اليوم في شأن غير ما نحن فيه، يجد المطلع على كتب المتخلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه. يضلل بعضهم بعضا، ويرمي بعضهم بعضا بالبعد عن الدين، وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن. ولكنه الجمود، قد يؤدي إلى الجحود. كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفتيا تخالف أشخاص في النظر والرأي، وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه، مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد فلما جاء دور الجمود — دور السياسة — أخذ المتخلفون في التنطع وأخذت الصلات تتقطع وامتازت فرق وتألفت شيع كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين، وقد بذل قوم وسعهم في تمييز الفرق تمييزا حقيقيا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهمي، وخلف في أكثر المسائل لفظي. وإنما هي الشهوات وضروب السياسات، أشعلت نيران الحرب بين المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا دواء لها. هذا الجمود في أحكام الشريعة جر إلى عسر حمل الناس على إهمالها: كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلاما سمحة تسع العالم بأسره، وهي اليوم تضيق عن أهلها، حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها، وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها. صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزا عن الوصول إلى عملها، فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلا لا يعد شيئا إذا نسب إلى من لا يعرفها. وهل يتصور من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم بمقتضى نصوصها. وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة الاختلاف. سألت يوما أحد المدرسين في بعض المذاهب: هل تبيع وتشتري وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك فأجاب أن تلك الأحكام قلما تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس. هكذا فعل الجمود بأهله، ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة يحيا بها الناس لفعلوا، ولسهل عليهم وعلى الناس أن يكونوا بها أحياء. تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن حدود الشريعة لو سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين: إما فقد العارف بالشريعة والدين وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل وكلهم جاهلون، وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله، لاعتقال لسانه عن حسن التعبير بطريقة تفهمها العامة، فهو إذا سئل يقرأ كتابا أو يسرد عبارة يصعب على السامع فهمها وعلى المتكلم إفهامها. وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه، فلا يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم. فإذا قلت للعارف: تعلم من وسائل التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك، واعْلُ بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لا صلة انطباقا على هذه الحادثة مثلا وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه … قال: سبحان الله، هل فعل ذلك أحد من المشايخ؟ يريد ألا يأتي شيئا إلا ما أتى به شيخه الذي أخذ عنه يدا بيد، ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه أن يعدك زنديقا، وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه، ولا يدري المسكين أنه بذلك يخالف نصوص دينه، وأنه يتهيأ للخروج منه، نعوذ بالله تعالى. كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال، خصوصا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس الحديث والتوحيد، فقال لي: إنه لا فائدة في ذلك قطعا، وهو تعب في غير طائل. فقلت له: ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وليس عليك أن يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهي. فقال: إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر والنهر لغوا. فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس غايته كما يزعم؟ ولم ينظر في الوسيلة إلى اقتلاع هذا الفساد، مع أن الدين يدعوه إلى ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه، هذا كله لأنه لم ير نفسه أهلا لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئا من الأوامر الإلهية، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم الكافرين أو الضالين. لا بل إذا قلت له: إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب منه، أو أن هذا الكتاب الذي تعود الطلاب قراءاته قد يضر بقارئيه وغيره أفضل منه. كان يظن أن قولك هذا مخالف للدين، ورأي العدول عما تعوده نوعا من الإخلال بالدين، وقد يقيم عليك حربا يعتقد نفسه فيها مجاهدا في سبيل الله. إذا قلت له: إن دروس السلف كانت تقريرا للمسائل وإملاء للحقائق على الطلاب، ولم يكن لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلاميذه، ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم. قد يعترف لك بصحة ما تقول ولكنه يستمر في عمله، اعتمادا على أنه وجد الناس هكذا يعملون، فهل يخطر ببال عاقل هذا الجمود من الدين؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على الدين وأهل الدين؟ انجر التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف رضي الله عنهم، فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه، ويمتحنون قوله، حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة. ولكن جمود المتأخر على ما يصل إليه من المتقدم صير النقل فوضى، فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب، حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين. وكل ما تراه من البدع المتجددة فمنشؤه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد، والجمود عند حد ما قال الأول بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله، وإهمال العقل في العقائد على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة. دخلت على الناس لذلك عقائد يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل، وجهاد شديد، وسلاحه الكتاب وسلاحه أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف — وما أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم وما أقلهم غدا إن شاء الله. سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية في المساجد يوم الجمعة — ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته — فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين وقال: إن العمل بدعة من البدع يجب التنزه عنها. أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا؟ كلا. حدث قيل وقال، وكثرة تسآل، ودخلت السياسة ثم قيل: إن الزمان ناصر الحقيقة، وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا. وسكت السائل وماذا يصنع المجيب؟ نعم هذا من شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوج منها ووكلت إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر الغرس، ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبين حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت له أسماؤهم بلسان مضليه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها على طالبه. ماذا يمكن أن أقول؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات في الدين وإذا دُعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر وأبى واستكبر. انظر ماذا يصنع الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارة وفيهم النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون. هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينا، ويصعب على حفاظ الدين إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل. فهذا معظم الأمة تراه قد تملص من أيدي منذريه. ولو شاءوا لأقصل كل منهم على صاحبه، وهو أيسر شيء على حملة الشريعة، وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته، ثم العمل على حفظه وحياته. ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق الجديدة إما في مدارس الحكومة الإسلامية وإما في المدارس الأجنبية داخل بلادهم أو خارجا عنها. لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القاقاز أو سمرقند أو بخارى أو الهند، فإني لا أعرف كثيرا من أحوالهم ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرا وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به، فقد رأيت أفرادا قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسا دقيقا، وهم أشد تمسكا بلب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعون الورع والتقوى ولا يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم قومهم، فنعم المتعلمون هؤلاء، أكثر الله منهم. وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسورية وسائر بلاد الدولة العثمانية. سماحة الإسلام وسعة حمله للعلم أباحتا للمسلمين أن يرسلوا أولادهم ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير المسلم، أو أساتذة كلهم غير مسلمين، بل في مدارس لم تبن إلا لترويج دين غير الدين الإسلامي وأباحتا لغير آباء هؤلاء التلاميذ أن يسكتوا وألا ينكروا عليهم عملهم، مادامت العقيدة سالمة من الهدم أو الضعضعة. هؤلاء التلاميذ إن كانوا في مدارس أجنبية لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها، بل ربما يعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى عقائدهم شيء من الضعف، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحل مكانها عقائد أخرى تناقضها، كما شوهد ذلك مرارا. ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال، وكيف يكون لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من ينقطع لتعليمها، فضلا عن أولئك المساكين، بل لو كان هناك مرشدون على طريقة يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلاميذ أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء صعبا وكل أمر غير مستطاع. فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس أجنبية، يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون. ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعا آخر من الأدب والحكمة كما يرجوا بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه الأمم، أو كما يروجه بعض من لا يريدون الخير بها، ولكنه ترك أفئدتهم خواء خالية من كل زاجر أو دافع، اللهم إلا زاجرا عن خير أو دافعا إلى شر، فاتخذوا إلههم هواهم وإمامهم شهوتهم. فهلكوا وأهلكوا، ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور أعمالهم الجرائد كل يوم، فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة، وليت الإسلام لم يرحب صدره لمثل هذا الضرب من التعليم والتعلم. أما المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من البقية فهؤلاء ينشئون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة، وتقرر لهم حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني، ومن عرف شيئا انطلق لسانه بالخوض فيه، وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جاهد على ألفاظ سمعها، فلو سمع شيئا غيرها أنكره وظنه مخالفا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم المتعلم ويوبخه، ويرميه بالمروق من الدين، هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله، ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه، فينفر من دينه نفرته من الجهل، ولو قال له قائل: ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك وخصمك، حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع، ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات التي ورثها القوم على ما فيها من تشعيب وتعقيد وأبقوها كما ورثوها، فيعود إلى النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه. لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم، بل قد يعده بعضهم خرافة «نعوذ بالله» فيأخذون عنه جانبا، ويتركون عقائده وفضائله وآدابه، ويلتمسون لهم آدابا غيره، وقلما يجدونها، فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم، فلا يطلب إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علو جاه «مادام الشرف محفوظا» فإذا وجد بينهم من يدعي الوطنية أو الغيرة المليّة أو نحو ذلك، فإنما ينثر الألفاظ نثرا لا يرجع فيها إلى أصل ثابت، ولا إلى علم صحيح. ولهذا يطلب لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى المفسدة. وهو يشعر — أو لا يشعر — على حسب حاله. ومنهم من يصيح باسم الدين ولا تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه أو درس عقيدة من عقائده، فشأنهم كلام في كلام، ولبئس ما يصنعون، ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حملته ما تبتهج به قلوبهم، وتطمئن إليه نفوسهم، ولذاقوا طعم العلم مأدوما بالدين. وتمكنوا من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة. يرجع إليها في سير الأمة وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/11/
الجمود علة تزول
تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما أوجزناه في الصفات السابقة. ولن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن شاء الله تعالى. وقد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث — مرض الجمود على الوجود — وكم في الكتاب من آية تنفر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا عليه، ولا حاجة إلى إعادة ذلك. ثم إننا أشرنا أيضا إلى بعض الأسباب التي جلبت هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام، وأن محدثها إما عدو للمسلمين طالب لخفض شأنهم أو لاستعبادهم واستغلال أيديهم لخاصة نفسه وإما محب جاهل يظن خيرا ويعمل شرا. وهذا الثاني كان أشد نكاية وأعون على الغواية، وهل تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته وكرمه الفياض؟ وينهض بأهله إلى خير ما ذخر فيه؟؟ جاء في الكتاب المبين إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ذلك الذكر هو الذكر الحكيم — هو القرآن الذي أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ هو كما قال كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده، لم تطل إليه يد عدو مقاتل، ولا يد محب جاهل، فبقي كما نزل، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره وتأويله، فذلك مما لا يلتصق به، فهو لا يزال بين دفات المصاحف طاهرا نقيا بريئا من الاختلاف والاضطراب، وهو إمام المتقين ومستودع الدين، وإليه المرجع إذا اشتد الأمر، وعظم الخطب، وسئمت النفوس من التخبط في الضلالات، ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولابد أن تتمزق كلها بأيدي أنصاره. فيتبلج ضياؤه لأعين أوليائه. إن شاء الله تعالى. هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم، بما عرفوا من نجاح مسعاهم، ولكن الذين أطبق عليهم ظلم البدع وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب للشيع، وطمست بصائرهم وفسدت عقولهم بما حشوها من الأباطيل، وبما عطلوها عن النظر في الدليل، هؤلاء في عمى عن نوره، وقلوبهم في أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر، يصيحون بأنهم عُمْي صم، فلا يرون له سناء، ولا يسمعون له نداء، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه وطيش الحلم وهم يعلمون. هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون. ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه، ويقوون حجج أعدائه في حربه، بزعمهم الاجتماع تحت لوائه، وما هم منه في شيء كما قدمنا. لا تزال الشدائد تنزل بهؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ولا تزال القوارع تحل بديارهم حتى يفيقوا (وقد بدءوا يفيقون من سكرتهم) ويفزعوا إلى طلب النحاة، ويغسلوا قذى المحدثات عن بصائرهم، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في انتظارهم، يعد لهم وسائل الخلاص، ويؤيدهم في سبيله بروح القدس، ويسير بهم إلى منابع العلم، فيغترفون منها ما يشاءون، فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كمن فيها من قوة، فيأخذ بعضهم بيد بعض، ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين. ولهذا أقول: إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا، لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله. وهذا الجمود سيزول، وأقوى دليل لك على زواله، بقاء الكتاب شاهدا عليه بسوء حاله، ولطف الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه، ويدعون إليه ويؤيدونه، والحوادث تساعدهم، وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم. هذا الكتاب المجيد الذي يتبعه العلم حيثما سار شرقا وغربا لابد أن يعود نوره إلى الظهور، ويمزق حجب هذه الضلالات، ويرجع إلى موطنه الأول في قلوب المسلمين ويأوي إليها — العلم يتبعه وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه، ولا يعتمد إلا عليه. يقول أولئك الجامدون الخامدون — كما يقول بعض أعداء القرآن إن الزمان قد أقبل على آخره، وإن الساعة أوشكت أن تقوم، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد، وما مني به الدين من الكساد، وما عرض عليه من العلل، وما نراه فيه من الخلل، إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم، فلا فائدة في السعي، ولا ثمرة للعمل، فلا حركة إلا إلى العدم ولا يصح أن يمتد بصرنا إلا إلى العدم، ولا أن ننتظر من غاية لأعمالنا سوى العدم (نعوذ بالله). هؤلاء حفدة الجهل، وأعوان اليأس، يهرفون بما لا يعرفون. ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته؟ إن الذي مضي بيننا وبين مبدأ الإسلام (أي الهجرة) ألف وثلاثمائة وعشرون عاما، وإنما هي يوم وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى. وإن آيات الله في الكون — وإن كانت تدل على أن ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير — تشهد بأن ما بقي لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر ستة وعشرين رجلا كل رجل يعيش خمسين سنة فهل يعد مثل ذلك دهرا طويلا بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام؟ إن زمنا كهذا لا يكفي — وقد تبين أنه لم يكف — لاهتداء الناس كافة بهديه. ولم تقم القيامة على الدين ولم تقم على شرههم وطمعهم؟ هنالك يلتقي (أي العقل) مع الوجدان الصادق (القلب) ولم يكن الوجدان ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته، متى كان الوجدان سليما، وكان من استضاء به من نبراس الدين صحيحا، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن فرقا بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة، بمقتضى الفطرة والغريزة، فإنما يقع التخالف بينهما عرضا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس وقد أجمع العقلاء على أن المشاهدات بالحس الباطن (الوجدان أو القلب) من مبادئ البرهان العقلي، كوجدانك أنك موجود، ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك وألمك ونحو ذلك. منحنا العقل للنظر في الغايات، والأسباب والمسببات، والفرق بين البسائط والمركبات — والوجدان لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام، وهلع واطمئنان، وشماس وإذعان ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان، ولا يحصيه البيان، فهما عينان للنفس تنظر بهما، عين على القريب: وأخرى تمد إلى البعيد، وهي في حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى، فالعلم الصحيح مقوم الوجدان، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم. والدين الكامل علم وذوق، وعقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان. فإذا اقتصر دين على أحد الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه، هيهات أن يقوم على الأخرى ولن يتخالف العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانين، والوجود الفرد وجودين. قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنك تعمله طوعا لوجدانك، وربما أيقنت المنفعة في أمر أعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك، فتقول إن هذا يدل على تخالف العقل والوجدان، ولكني أقول: إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره، عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين — إما أن يقينك ليس بيقين، وأنه صورة عرضت عليك من قول غيرك، فأنت تظنها علما وما هي به، وإما أن وجدانك وهم تمكن فيك، وعادة رسخت في مكان القوة منك، وليس بالوجدان الصحيح، وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظننتها شعورا منبعه الغريزة وما هي منه في شيء. لابد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر الحكيم. ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله)، وعند ذلك يكون الله قد أتم نوره ولو كره الكافرون وتبعهم الجامدون القانطون، وليس بينك وبين ما أعدك به إلا الزمان الذي لابد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل، وتوضيح المنهج، وتقويم الأعوج، وهو ما تقتضيه السنة الإلهية في التدريج سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/
الإسلام بين العلم والمدنية
محمد عبده
واكب الحداثة الغربية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ظواهر سلبية شتى كامنة في بنيتها، وتمثلت هذه الظواهر في عمليات تهجير واستعباد الأفارقة، وإبادة الهنود الحمر، والدمار البيئي المصاحب للتطور التكنولوجي … وغيرها، وقد أفرزت الحداثة الغربية بنية معرفية موازية لتلك البنية المادية قائمة على خطاب الهيمنة، تمثلت في إدعاء عالمية النموذج الغربي وعلمية نظرياته ومناهجه، وبالتالي إقصاء التراث الحضاري للأمم غير الغربية، باعتباره تراثًا معادٍ للتقدم والعلم، وهو ما دفع بمفكري هذه الأمم ممن يمتلكون وعيًّا نقديًّا حرًّا في تلك الفترة إلى الدفاع عن تراثهم، وإثبات صلاحيته للنهوض والتقدم، وكان من بين هؤلاء الإمام محمد عبده الذي يرى في الإسلام دينًا وحضارةً، فوضح في هذا الكتاب موقف الإسلام من العلم والمدنية، كما دافع عنه ضد الذين حملوا عليه من المغرضين ورجال الاستعمار، حيث عمل الإمام على إبراز المعاني الإنسانية والعمرانية والاجتماعية وبيّن عدم التعارض بينها وبين الإسلام، وقد ناقش ذلك في إطار عدة قضايا منها: اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية، والعلاقة بين الإسلام ومدنية أوروبا.
https://www.hindawi.org/books/74949130/12/
الإسلام ومدنية أوربا
ليس من السهل عليّ أن أعتقد أن أديبا كصاحب الجامعة يقول هذا القول — وهو ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية — وإنما هي عين الرضا تناولت من حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت، ثم أملت على قلبه ما جرى به قلمه. هل يصح أن تسمى الاستكانة للغالب تسامحا؟ وهل يسمى العجز مع التطلع للنزاع عند القدرة حلما؟ أم يسمى غل الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرما؟ هل تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين: كرسي المملكة الإيطالية وكرسي المملكة البابوية — في عاصمة واحدة تسامحا من قداسة البابا مع الملك؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمّي ذلك تسامحا من الملك مع البابا، لأنه صاحب القوة والجيش والسلطنة، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من السلطة الملكية؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين — تساهلا من العلم مع الدين، لا تسامحا من الدين مع العلم، بعدما كان بينهما من الحوادث ما كان، وبعد غلبة العلم واستيلائه على عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعا له في أغلبها. كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة العلم جمعيات وأحزاب، منها ما اتخذ السر حجابا له حتى يقوى. ومنها ما ابتدأ بالمجاهر. وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه، لكثرة أعوانه وضعف أعوان العلم، حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس، وتبع إشراق تلك الآداب واشتغال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما ذكرنا. وقد وجد هذان النوران استعدادا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها. هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما ضايقها من غلو رؤساء الدين في استعمال سلطانهم، واشتدادهم في استعباد العقل والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال، فأخذ الشعور الإنساني يتلمس السبيل إلى الخلاص، وإذا لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية، واستقبلهما بوجهه. وكان بعد ذلك ما كان من تأثير الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران، ونفيهم من الأوطان، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة، في أدنى الأشياء وأعلاها، حتى أنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش باريس بالبلاط على الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك الشوارع، أغضب ذلك قسس القديس أنطوان. ونادوا بأن خنازير القديس لابد أن تمر في الشوارع على حريتها الأولى، وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس. وقالوا إن الملك فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير وصلصة الجرس في عنقه. لقائل أن يقول: إن القسس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع الأجراس في أعناق الخنازير فرضاهم بذلك يعد تسامحا عظيما مع العلم (أو الصناعة). ويسهل عليّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس الخنازير كان يظهر من حين إلى حين، إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه المدينة التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا نبخسها قدرها كذلك. شدة الحاجة وغلو الرؤساء كانا يوقدان الغيرة في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة، فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرا من الحقائق التي نفعت العامة ونبهت العقول للأخذ بما يهتدون إليه، وصارت الحرب بينهم وبين رؤساء الدين سجالا، إلى أن ظهر دعاة الإصلاح الديني «البروتستانت» فانضم دعاة العلم إليهم ظنا منهم أن سيكونون معهم من الجاهدين في سبيل العلم. وكان منهم «إيراسم» الشهير، فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم، فانفصل إيراسم ومن معه من حُماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية، وترك المصلحين يتفرقوا شيعا ويقتل بعضهم بعضا، وقال: ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم. هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن من عدوها العام، وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض، واشتعلت نيران الحروب بينهم. قال أحد أفاضل مؤرخيهم: «وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة، لوثت يديها بالجرائم في العمل لإفناء البقية، حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال، ووجدت من توالي حوادث الانتقام وظهور مضاره في كل طائفة أن الأفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منهما، والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق وترقية الآداب، وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على حرية الأشخاص، من أية طائفة كانت، من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم: أصل التسامح والرضا بمجاورة المخالف في الرأي: نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل طائفة تعامل بها الأخرى» انتهى كلام المؤرخ بالمعنى. ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم، وإنما أنبه القارئ إلى الاعتبار بما تقدم من القول، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم، ليعلم أن الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلا وكرما، وإنما قويت عليه أحزاب العلم فساموه استكانة وخضوعا، ولو شاء ألا يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلا. رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة وإقدام وغيرة على دينهم، قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان، وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم في استعمال سلطانهم على النفوس، كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييدهم دينهم، وهم أشد الناس حرصا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه، ولم يزدهم العلم الجديد إلا وسائل وسبلا لترويج عقائده وآدابه، ولم تفتر همة في نشره وتزيينه للقلوب، ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه، والعامة من الشعوب في تخاذل عنه. والأمة الفرنسية — التي كانت تدعى بنت الكنيسة — أصبحت من أشد الناس عليه، ورأت فلسفتها أن تحدد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم: كل ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة، وطلاب اللاهوت يعدون بالألوف، كل ذلك وكثير من الدول يرى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض. قال أحد رؤساء البروتستانت — في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية سنة ١٩٠١، بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانتية فقدت خاصتها الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية — ما نصه مترجما: «إذا كان الدين المسيحي ليس شيئا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح (المذهب الروماني) أو الكثلكة التي دخلها الإصلاح بالفعل (المذهب البروتستانتي) فالقرن الموفي للعشرين (القرن الحاضر) لا يكون مسيحيا أبدا». وقد جاء في كلام هذا الخطيب ما يصرح بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنى آخر ينطبق كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها، فإن وفق للنجاح في سعيه زال الخلاف — إن شاء الله — بين الدين والعلم، بل بين المسيحية والإسلام. آخذ بيد القارئ الآن، وأرجع به إلى ما مضى من الزمان، وأقف وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباسي ووزرائهم — والفقهاء والمتكلمون والمحدثون والأئمة المجتهدون من حولهم، والأدباء والمؤرخون والأطباء والفلكيون والرياضيون والجغرافيون والطبيعيون وسائر أهل النظر من كل قبيل مطيفون بهم، وكل مقبل على عمله، فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه ووضع يده في يده، يصافح الفقيه المتكلم والمحدث الطبيب والمجتهد الرياضي والحكيم، وكل يرى في صاحبه عونا على ما يشتغل هو به — وهكذا أدخل به بيتا من بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك البيت يتحادثون ويتباحثون، والإمام البخاري حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث، وعمرو بن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى عنه، وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل «لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه، ولا باطنا أشبه بظاهر منه». بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام زيد بن علي (صاحب مذهب الزيدية من الشيعة) يتعلم منه أصول العقائد والفقه، ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه اجتهادا في بيان المصلحة، وهما من أهل بيت واحد — أمر به بين تلك الصفوف التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم، وعقيدة كل واحد منهم أن فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث. الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش، والفقهاء والمحدثون والمتكلمون، والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن جند الخلفاء، الدين في قوته والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر، لا فرق في ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول: هاهنا يطلق اسم التسامح مع العلم في حقيقته، هاهنا يوصف الدين بالكرم والحلم، هاهنا يعرف كيف يتفق الدين مع المدنية عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط روح المسالمة بين العقل والوجدان (أو بين العقل والقلب كما يقولون). يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين. وإنما كان بين أهل العلم وبين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء، شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل التقييد، وعوفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز والتنابز بالألقاب، فلا يقول أحد منهم لآخر إنه زنديق أو كافر أو مبتدع، أو ما يشبه ذلك. ولا تتناول أحدا منهم يد بأذى، إلا إذا خرج عن نظام الجماعة، وطلب الإخلال بأمن العامة، فكان كالعضو المجذوم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله. متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق ورمي زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض، ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله — تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق وفي الغرب لخفض سلطانه، وتوهين أركانه — وتصدر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن أحداثه لتعظيم شأنه تقليدا لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها. وأنشئوا ينسون ماضي الدين ومقالات سلفهم فيه، ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين، وتولى شئون المسلمين جهالهم، وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم، في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النظار فيه، وسهل على كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلا بدينهم ازدادوا غلوا فيه بالباطل ودخل العلم والفكر والنظر (وهي لوازم الدين الإسلامي) في جملة ما كرهوه، وانقلب عندهم ما كان واجبا من الدين محظورا فيه. لا أكاد أخطئ القارئ إذا زعم أن المسلم إنما استفاد اسم زندقة وتزندق ومتزندق وزنديق من فضل ما علمه جيرانه إذ كانوا يقولون: هرتقة وتهرتق وهو هرتوقي: أو ما يماثل ذلك — أو زعم أن قد فشت في المسلمين سرعة التكفير بطريق العدوى من أهل الملل المتشددة. وإن الذي سهل سريان العدوى بتلك السرعة الشديدة هو ضعف المزاج الديني عند المسلمين بجهلهم بأصوله ومقوماته، ومتى ضعف المزاج استعد لقبول المرض كما هو معلوم. إن المسلمين لما كانوا علماء في دينهم كانوا علماء الكون وأئمة العالم، ولما أصيبوا بمرض الجهل بدينهم انهزموا من الوجود وأصبحوا أكلة الآكل، وطعمة الطاعم، هل وقف الجهل بالمسلمين عند تكفير من يخالفهم في مسائل الدين أو يذهب مذهب الفلاسفة أو ما يقرب من ذلك؟ لا، بل عدا بهم الجهل على أئمة الدين، وخدمة السنة والكتاب، فقد حملت كتب الإمام الغزالي إلى غرناطة وبعد ما انتفع بها المسلمون أزمانا هاج الجهل بأهل تلك المدينة وانطلقت ألسنة المتعالمين من البربر بتفسيقه وتضليله، فجمعت تلك الكتب خصوصا نسخ «إحياء علوم الدين» ووضعت في الشارع العام في المدينة وأحرقت. قال قوم يعدون أنفسهم مسلمين في ابن تيمية — وهو أعلم الناس بالسنة وأشدهم غيرة على الدين: إنه ضال مضل. وجاء على أثر هؤلاء مقلدون يملئون أفواههم بهذه الشتائم وعليهم إثمها وإثم من يقفوهم بها إلى يوم القيامة. أهمل المسلمون دينهم، والنظر في أقوال سلفهم، حتى أنك لا تجد اليوم في أيديهم كتابا من كتب أبي الحسن الأشعري ولا أبي منصور الماتريدي، ولا تكاد ترى مؤلفا من مؤلفات أبي بكر الباقلاني أو أبي إسحاق الإسفراييني، وإذا بحثت عن كتب هؤلاء الأئمة في مكتبات المسلمين أعياك البحث، ولا تكاد تجد نسخة صحيحة من كتاب. كتب على القرآن تفاسير كثيرة في القرن الثالث من الهجرة وما بعده إلى السادس، منها تفسير الطبري وتفسير أبي مسلم الأصفهاني وتفسير القرطبي وتفسير الجصاص وتفسير الغزالي وتفسير أبي بكر بن العربي وكثير غيرها وفيها من آراء أولئك الأئمة ووجوه استنباط الحكم والأحكام ما لا غنى لطالب علم الدين عنه، فهل يجد الباحث المجد نسخة من هذه الكتب الجليلة يمكن الوثوق بصحتها إلا بطريق المصادفة وحسن الاتفاق؟ وهل يليق بأمة تدّعي أنها على دين، وأن لها فيه سلفا، أن تهجر آثار سلفها، وتدع ما كتبوا طعمة للعث وفراشا للتراب؟ هل وقع مثل ذلك من المشتغلين باللاهوت المسيحي في زمن من الأزمان؟ إن حالة طلبة العلوم الدينية الإسلامية أصبحت مما يرثى له في أكثر بلاد المسلمين، فهم لا يقرءون من كتب الكلام إلا مختصرات مما كتب المتأخرون. يتعلم أذكاهم منها ما تدل عليه عباراتها، ولا يستطيع أن يتعلم البحث في أدلتها، وتصحيح مقدماتها، وتمييز صحيحها من باطلها، وإنما يتلقاها كأنها كتاب الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ ما فيها بالتسليم. فإذا ناظره مناظر في بعض قضاياه وعجز عن تصحيحه قطع الجدال بقوله: هكذا قالوا. وإن لم يكن القول متفقا عليه. بل قد يكون القول مما لم يقل به سوى صاحب الكتاب الذي اشتغل به، وربما كان صاحب الكتاب ممن لو رآه أحدُ من السلف لم يرضه تلميذا يعي عنه ما يقول. كاد ينقطع طلب العلوم الدينية في سورية والحجاز وتونس والجزائر، وقل جدا في المغرب الأقصى، ولم يبق الاهتمام به إلا في بعض الصحارى، وذلك إما لصعوبة طرق التعليم، واقتضائها الزمن الطويل — وحاجات الناس مانعة لهم من إفناء أعمارهم في عمل لا يسد من حاجتهم — وإما لتفضيل الآباء تربية أبنائهم على الطرق الحديثة في أوربا أو في المدارس الأخرى وليس فيها من الدين شيء، وإن كان فيها شيء منه فهو مما لا يعد تعليما دينيا ينظر إليه — وإما للفتور والخمود، اللذين نشآ عن التقليد والجمود. وبذلك تجد المسلمين قد تولاهم الجهل بدينهم، وأخذتهم البدع من جميع جوانبهم، وانقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين سلفهم، حتى لو عرض على الجمهور الأعظم منهم ما اتفق عليه السلف من الأحكام لأنكروه واستغربوه وعدوه بدعة في الدين. وصح فيهم ما قال عمر الخيام في بعض أشعار الفارسية مخاطبا للنبي عليه الصلاة والسلام «إن الذين جاءوا بعدك زينوا لك دينك ووضوه وزركشوه حتى لو رأيته أنت لأنكرته». فهذا الصنف من المسلمين — وهو معظمهم — قد أنكر دينه الحق وعاداه، ونقم على أهله القائمين بخدمته، وإنما اصطفى لاعتقاده بعض أفراد لم يعرف عن السلف اختصاصهم بالثقة، ولم يسمح الدين باختصاصهم بالتقليد، فإذا وقع من هذا الصنف ما فيه أذى للعلم وأهله، فهل يعد ذلك واقعا من دين الإسلام — دين محمد صلى الله عليه وسلم — دين القرآن — دين السنة الثابتة — دين الخلفاء الراشدين، ومن تبعهم من السلف الأولين؟ الحق أقول — والحس يؤيدني: ما عادوا العلم ولا العلم عاداهم إلا من يوم انحرافهم عن دينهم، وأخذهم في الصد عن علمه، فكلما بعد عنهم علم الدين بعد عنهم علم الدنيا وحرموا ثمار العزة، عاداهم العلم وتجهم واكفهر وجهه للقائهم، وكلما بعدوا من الدين سالمهم العلم وبش في وجوههم. ولذلك يصرحون بأن العلم من ثمار العقل، والعقل لا يصح أن يكون له في الدين عمل، ولا أن يظهر منه فيه أثر، والدين من وجدانات القلب، ولا علاقة بين ما يجد القلب وما يكسب العقل. فالفصل تام بين العقل والدين، ولا سبيل إلى الجمع بينهما: سامحهم الله فيما يسمونه تسامحا مع العلم، وهم يصرحون بأنه عدوه الذي يستحيل أن يكون بينه وبينه سلم. هل عرفت السبب في اضطهاد المسلمين للعلم؟ أقول «اضطهاد» ولا أريد به ما كان عند الأمم المسيحية من الاشتداد في إبادة أهله والتنكيل بهم، واختراع ضروب التعذيب، والتفنن في صنع آلات الهلاك، مع الأخذ بالشبهة، والاكتفاء في الإعدام بمجرد التهمة، فإن ذلك لم يقع عند المسلمين لا أيام علمهم، ولا في أزمنة جهلهم، ولكن أريد من الاضطهاد الإعراض عن العلم، ورمي الألفاظ السخيفة في وجوه أهله، وقذفهم بشيء من الشتائم مع الابتعاد عنهم. لا ريب أنك قد أيقنت بأن السبب في هذا الذي يسميه الأديب اضطهادا — إنما هو جهلهم بدينهم. فالدواء الذي ينجح في شفائهم من هذا الداء لا يكون إلا ردهم إلى العلم بدينهم، والتبصر فيه، للوقوف على أسراره والوصول إلى حقيقة ما يدعو إليه، كان الدين واسطة التعارف بينهم وبين العلم، فلما ذهبت الواسطة تناكرت النفوس وتبدل الأنس وحشة. فهل قام بينهم دعاة للعلم حقيقيون، أو دعاة لأصل الدين عارفون، ثم استعصت قلوب المسلمين عليهم، وجمحت نفوسهم عن الانقياد لهم؟ وهل كثر أولئك الدعاة في أطراف بلاد المسلمين كثرتهم في أوربا من أواسط القرن السابع عشر من التاريخ المسيحي إلى أن ظهرت قوة العلم في أوائل القرن السابع عشر وفيما بعد ذلك؟ لا. إنما رأينا من الصادقين أفرادا يظهرون متفرقين في عصور مختلفة، ربما لا يجتمع أربعة منهم — فما يزيد — في قرن واحد، ويأخذون في العمل لما وجهوا إليه، ثم لا يكادون ينطقون ببعض الكلم، فيحس الناس بهم، فيأخذ المستعد أهبته لمفارقة ما كان عليه واتباعهم حتى تشعر السياسة (نعوذ بالله منها) بما عسى أن يكون من أمرهم فتخمد أنفاسهم، قبل أن يبلغوا من قلب أحد ما أرادوا من غرس أفكارهم، فينطفئ النور، ويدلهم الديجور. فهل يعد الأديب هذه الضربات من أيدي أرباب السياسة اضطهادا للعلم لأجل حماية الدين؟ أنزه كل أديب عن أن يظن ذلك، وإنما هي صدمات تقع على الدين لا تختلف عن أمثالها مما يصيبه منهم مباشرة، فلا تعد حجة على الدين في نظر المنصف. ربما يقول القائل: إن كان المسلمون قد أخذوا الجمود في التقليد والنفرة من العلم والاعتقاد بالعداوة بين الدنيا والآخرة وبين العقل والدين وما أشبه ذلك مما هم فيه، وورثوه عن الأمم السابقة عليهم خصوصا أقرب الملل إليهم. فما بالهم لم يقلدوا المسيحيين في الحرص على نشر دينهم، والتوسع في علومه مذيلا بما أخذوه عنهم، ولم يقسموا أنفسهم قسمين كما قسم المسيحيون إخوانهم قسمين: قسما ينقطع إلى الآخرة في الأديار والصوامع، وقسما يشتغل بالدنيا ليقيت نفسه ويقيت أهل القسم الأول، ويحمي نفسه ويحميهم من العدوان؟ وما لك ترى المسلمين خملوا وارتخت أعصابهم وسئموا النظر في علوم دينهم كما ذكرت، ثم صاروا أبعد الناس عن معرفة الطرق لتحصيل الغنى والثروة، والقبض على ناصية القهوة وصولجان العزة؟ وطرحوا أنفسهم في تيار من القدر كما يقولون، يجري بهم إلى حيث لا يعلمون؟ ثم هم مع ذلك أحرص الناس على حياة، وأشدهم لهفا على الحطام، فلا ترى الجمهور منهم في شيء للدين ولا للدنيا فما هذا التناقض؟ فأقول له: إنك قد نسيت أن المقلِّد يكون دائما أحط حالا وأخس منزلة من المقلَّد. فالمقلد إنما ينظر من عمل المقلد إلى ظاهره ولا يدري سره ولا ما بني عليه. فهو يعمل على غير نظام، ويأخذ الأمر لا على قاعدة، ولذلك سقط المسلمون في شر مما كان عليه مقلدوهم، لا سيما أنهم قد خلطوا في التقليد وأضافوا على دينهم ما لا يمكن أن يتفق معه، فصاروا في مثل حال المتخبط الذي تنازعه عدة قوى يذهب مع كل منها آنا ثم ينتهي أمره بعد الخيبة بالتعب الشديد، فيستلقي إلى أن يستريح، فينهض إلى العمل على هدى أو يموت. لما كان المسلمون علماء كانت لهم عينان: عين تنظر إلى الدنيا والأخرى تنظر إلى الآخرة، فلما طفقوا يقلدون أغمضوا إحدى العينين، وأقذوا الأخرى بما هو أجنبي عنهم، فقدوا المطلبين، ولن يجدوهما إلا بفتح ما أغمضوا، وتطهير ما أقذوا. للقائل أن يقول: كيف تدّعي أن دعاة العلم والدين قليل بين المسلمين مع أننا نسمع أصواتهم تتلاقى في جو مصر وسورية وغيرهما من البلاد في هذه الأيام؟ كل يقول: ديني ملّتي، إسلام مسلمون، قرآن سنة، مجد الإسلام القديم، سلفه الصالحون، تعلم، تعليم، كتب قديمة كتب جديدة، وما يشاكل ذلك مما يظهر منه أن الداعين إلى العلم أو المنبهين إلى الأخذ بأصول الدين الإسلامي كثيرون، ولا نرى مع ذلك من أغلب المسلمين إلا آذانا صما وأعينا عميا، وصدا عما يدعو إليه هؤلاء؟ ويمكنني أن أقول له: إن الصادق في هؤلاء ليس بكثير عده، والجمهور منهم قلما يخلص قصده، وما تجد أكثرهم إلا متجرين بهذه الكلمات، لكسب بعض دريهمات، ويظهر لك ذلك من أنهم يلفظون هذه الأسماء وقلما يدرسون شيئا من مدلولاتها ليقفوا على الحقيقة منه، وإنما يلقف بعضهم عن بعض ظواهر كالزبد لا تمكث في الأرض. وأما الصادقون على قلتهم فقد بدأ بعض الناس يسمعون ما يقولون، ويطلبون الرشاد مما يعلمون، خصوصا في أمر الدين والجمع بينه وبين مصالح الدنيا، ولا سيما في بلاد الهند وبين مسلمي روسيا. ولكن الإصلاح ليس ريحا تهب فتمسح الأرض من الشرق إلى الغرب في وقت قريب فانتظر. قد يقول القائل: لِمَ لم يكثر هؤلاء كثرتهم بين الأوربيين فيما مضى، حتى يغلبوا الظالمين من أهل السياسة ويستميلوا العادلين منهم إليهم، وينهضوا بالمسلمين من هذه الرقدة التي طال أمدها عليهم؟ ولم لا يزال أهل البصيرة منهم قليلين متفرقين يهمسون بالقول ولا يجهرون، وليس للعلم فيهم دعاة عمليون؟ أليس ذلك سبيلا لمؤاخذة الإسلام وحجة عليه؟ وأقول له: إن حظ المسلمين لا يصح أن يكون أسعد من حظ مقلديهم، بل المنتظر أن يكون أتعس، وقد أقامت المسيحية ما يزيد على ألف سنة قبل أن يظهر فيها العلم، أو تنشأ الحرية الشخصية، أو تسري فيها الحركة العلمية، إلى ما فيه صلاح الجمعية الإنسانية، مع توالي المنبهات، وتواصل الصدمات إثر الصدمات، ولم يمض على المسلمين من يوم استحكمت فيهم البدعة، وأطبقت عليهم ظلم المحدثات، ودخلوا جحر الضب الذي دخله من كان قبلهم إلا أقل من ثمانمائة سنة، فلم يمض عليهم وهم في بدعهم الجديد، ذلك الزمن الذي قد يكون عمرا لمثل هذه الحالة، ثم تقضي نحبها في آخره. وما أظن أن يمر على المسلمين مثل تلك المدة قبل أن يبلغوا من صلاح الدين والدنيا ما هم أهل له. وعلى كل حال لا يجوز في شريعة الإنصاف أن يذكر المسلمون في جانب جمهور المسيحيين إذا ذكر الغلو في التعصب الديني فضلا عن أن يقال إن المسلمين أشد إفراطا فيه. والشاهد يدلنا على أنه قد يكون للمسلمين في التعصب ألفاظ وكلمات، ولكن الذي يكون من جمهور المسيحيين إنما هو أعمال وضربات في المعاملات، وما على طالب الحقيقة إلا أن يسيح بفكره في مثل المستعمرات الهولاندية في الشرق ومملكة الترنسفال قبل سقوطها، وبلاد الناتال في الجنوب، ثم يرجع إلى بعض بلاد الروسيا في الشمال من قبل عشرين سنة، ثم يرجع إلى الجزائر وما يليها في جهة الغرب، ليعلم كيف تكون الشدة في المعاملة مع غير أهل المذاهب المسيحية، وكيف يبلغ التعصب من أهله حدا تنظر إليهم فيه الإنسانية شذرًا، ولا تقبل لهم فيه المدنية عذرا.
محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا. محمد عبده: داعية ومفكر إسلامي، يُعَدُّ أحد أبرز أعلام النهضة العربية والإسلامية الحديثة، عُرف بفكره الإصلاحي ودعوته للتحرُّر من كافة أشكال الجمود والتخلُّف الذي أصاب العقل العربي، كما عُرِفَ بمقاومته للاستعمار الأجنبي ومحاولاته المستمرة من أجل الارتقاء بالمؤسسات الإسلامية والتعليمية، وسعيه الدائم للإصلاح والتطوير في الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية. وُلِدَ محمد عبده حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمحافظة البحيرة، لأبٍ تركماني الأصل وأم مصرية، أرسله والده إلى كُتَّاب القرية ليتلقَّى دروسه الأولى، وحينما أتم الخامسة عشرة التحق بالجامع الأحمدي بطنطا الذي تلقى فيه علوم الفقه واللغة العربية، انتقل الإمام بعدها إلى الأزهر الشريف وظل يَدْرُس به إلى أن حصل على الشهادة العالِمية. شارك في ثورة أحمد عرابي ضد الاحتلال الإنجليزي عام ١٨٨٢م، فحُكم عليه بالسجن، ثم نُفِيَ إلى بيروت، وسافر بعدها بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسَّس معه جريدة «العروة الوثقى» إلا أنها لم تستمر بالصدور؛ حيث إنها أثارت المتاعب للفرنسيين والإنجليز بسبب انتقادها الدائم للاستعمار والدعوة للتحرُّر، ثم عاد إلى بيروت ليدرس بالمدرسة السلطانية، ثم واتته الفرصة ليعود إلى مصر عام ١٨٨٩م، بعد إصدار الخديوي توفيق عفوًا عنه. بعد عودته إلى مصر عمِل الإمام بالقضاء، ثم أُسْنِدَ إليه منصب المفتي، ليكون بذلك أول مفتي مستقل عن مشيخه الأزهر، بعد أن كان العُرْفُ مستقرًّا على إسناد هذا المنصب لشيخ الأزهر. كان لمحمد عبده تأثير واسع في محيطه الثقافي والسياسي، حيث تأثَّر به الكثير من المفكرين والزعماء السياسيين، فكان منهم تلميذه النجيب العلامة رشيد رضا، والشيخ حسن البنا، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والشيخ علي عبد الرازق، وسعد زغلول، وقاسم أمين، وحافظ إبراهيم، وعز الدين القَسَّام، ومحمد لطفي جمعة، وطه حسين، كما كانت لمحمد عبده إسهامات نقدية دافع بها عن الإسلام أمام من يهاجمه من المستشرقين أمثال: إرنست رينان، وهانوتو، كما راسل الإمام الأديب الروسي العملاق تولستوي الذي سَعِدَ بهذه المراسلة كثيرًا. وفي عام ١٩٠٥م تُوُفِّيَ الإمام بعد صراع مع مرض السرطان عن عمر يناهز السبعة والخمسين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/1/
«وكان مساء …»
شوشو فتاة يقول لك جسمها إنها ناهزت التاسعة عشرة، ويشهد حديثها وحركاتها أنها لم تجاوز السابعة عشرة. وهي ذات قامة معتدلة وجسم غض ووجه صبيح متألق، ترتاح العين إلى النظر إلى معارفة جملة، وتشغل بوقعها مجتمعة عن التعلق بواحد منها على الخصوص. وقد قضت هذا الشطر الأول من عمرها في عزلة قلّما أتيح لها فيها أن تخالط الرجال؛ إلا أن يكونوا من ذوي قرابتها الأدنين، فلم تألف أذنها عبارات الإعجاب بحسنها، وبقيت نفسها مرسلة على سجيتها، وخلا كل ما فيها ولها من ذلك التعمل الذي يدرب الفتاة عليه تنبه الشعور بنفسها وتوقعها من الجليس أن تأخذها عينه من فرعها إلى قدمها وأن تجسّ محاسنها وتنقدها. وقد انفردت عيناها بمزية: هي أن من يراهما لا يحتاج أن يعدوهما، أن ينقّل لحظه إلى سواهما، ففيهما يجتلي نفسها وروحها وطبيعتها وجمالها، مركزًا. وهما سوداوان غير أنه سواد فيه من العمق أكثر مما فيه من الالتماع. تحدق «فيه» تحديقك «في» بئر، ولا ترنو «إليه» كما ترنو «إلى» رسم. ومن الفتيات من لا يفطن المرء إليها على فرط حسنها، لأول وهلة، ولكن صاحبتنا هذه كانت من قوة الجذب بحيث لا يسعك إلا أن تحس وجودها وتشعر بما تفيضه حولها، ولا تكاد تجلس إليها خمس دقائق حتى تلم بما فطرت عليه من جرأة الجنان الذي لا يدري أن في الدنيا ما يتقى، ومن حرارة النفس الغريرة التي لم يصدمها من التجاريب ما يطفئها، ومنٍ خفة الروح التي لا يثقلها إلحاح اللحم. ويعرف من يعرفها أن لها أحيانًا تبدو فيها كالظمأى إلى مجهول، أو كالتي تعتلج في صدرها خواطر وإحساسات هى أغمض من أن تتولى الكشف عنها عبارة؛ أو أوجع من أن ترفِّه عنها دمعة. ولم تكن كذلك الآن في هذه الفترة التي زخرت فيها تيارات حياتها والتي نخصها بالذكر. كانت الشمس قد غابت وراء الأفق ولفت الحقول في شملة من الظلام لا رقيقة ولا شفافة، وكان اثنان يدلفان في الطريق بين المزارع على حمارين، أحدهما مسرج ملجم، يعاني الفتى الحضري الذى يمتطيه أشد البرح من تخطره ونزاعه إلى الانطلاق في العدو، وهو لا يكاد يمسك نفسه فوقه من فرط التقلقل. وثانيهما — أي ثاني الحمارين — يخطو وادعًا، ورأسه مدلى وأذناه مسترخيتان وليس على ظهره سوى لبدة عتيقة استقر عليها الراكب ولصق بها حتى لا تكاد رجلاه تتحركان، كأنما هما خشبتان مشدودتان إلى جانبي الحمار، وكان الفتى في شاغل من متاعبه فقطعا أكثر الطريق في صمت إلى أن التفت الفتى إلى رفيقه وقال: لم أعرف اسمك إلى الآن فهل تسمح لي به؟ – اسمي؟ آه! أحمد الميت. – الميت؟ ولماذا يدعونك الميت؟ فقال القروي وهو مطرق كما كان، وعيناه إلى أذني حماره: لأني مت. فابتسم فتانا ساخرًا وقال: سبحان من يحيى العظام وهى رميم! ولكني أحسب يوم النشور لا يزال بعيداً، فكيف عدت إلى الحياة قبل الأوان؟ فرفع القروي رأسه فجأة والتفت إلى الفتى التفاتة المغضَب وقال: لقد قلت لك إني متّ وانتهى الأمر. فاسترسل فتانا في سخره ولم تزايله ابتسامته: إذًا من الراكب على حمارك يا رفيقي؟ أهو عفريتك؟ – عفريتى؟ لالا! لا تخف! أنا أحمد الميت. – ولكن ألا تحدثني كيف حييت مرة أخرى؟ أو من الذي ردك إلى الحياة؟ – لم يردني إلى الحياة أحد. لقد مت وانتهى الأمر. فحملق الفتى في وجهه وهو مبهوت وكف عن الكلام، وقد دار في نفسه خاطر لم يرتح معه إلى صحبة هذا الرفيق. وبعد قليل قال أحمد الميت: ليست هذه أول مرة جئتنا فيها؟ – بل هي الأولى.. (ثم بعد قليل) لوددت أني ما جئت! وسكتا برهة ثم عاد القروي يصل ما انقطع: لقد حسبتك عرفت الدار من طول تحديقك إلى ناحيتها. – وأنى لي برؤيتها وهذا الظلام أكثف من جلد الفيل؟ فضحك القروي ضحكة حفلت بالقرقعة ثم أمسك فجأة وقال: إنكم يا أبناء المدن لم تألفوا النظر في الظلام. فقال الفتى — وفي صوته مرارة تنم على ما يكاتم من الألم الذي جره عليه نشاط دابته: كلا! لم يرزقنا الله مثلكم عيون القطط. ثم ساد السكون لحظة أخرى قال القروي بعدها: أحسبك تعرف قصة الباشا المرحوم مع أفندينا؟ – كلا! – إنها قصة ممتعة. لقد شرف أفندينا يومئذ …. – من تعني بأفندينا هذا؟ – أفندينا إسماعيل! لقد شرف يومئذ بلدتنا ولم يكن الباشا قد نال هذه الرتبة، ففرش له الطريق كله بالرمل، ونصب على جانبيه الزينات التي لم نرّ لا قبلها ولا بعدها إلى الآن، وأقام الأفراح أربعين يومًا فسرّ أفندينا جدًا وقال له ساعة همّ بالركوب عائدًا: إني جعلتك من بيكواتي ويمكنك بعد أن أرجع إلى مصر أن تزورني في أي وقت تشاء لأكافئك على كرم ضيافتك وسخائك في استقبالنا. ومضت سنون بعد ذلك لا أذكر عدها، وفي يوم تذكر البيك كلمة أفندينا فنهض وقال: إني ذاهب إليه من توّي. فلما صار في مصر مضي إلى سراي أفندينا وقرع الباب، فقال الخادم: ماذا تبغي؟ فحكى له ما كان، فقال له: «إن إسماعيل مضى وجاء غيره، فعاد وأخبر القرية أن إسماعيل الثاني..». – إسماعيل الثاني؟ أظن يا صاحبي أن في تاريخك خطأ. – كلا! لا خطأ في الرواية، أمن أجل أن كتبكم لا تحوي هذه القصة تكون خطأ؟ وأنا بعد لم أتممها لك ولم أخبرك بما وقع له مع إسماعيل الثالث..». – إن هذا لا يطاق. كلا! لن أحتمل إسماعيل الثالث. ووثب إلى الأرض عن ظهر الدابة وتركها وسط الطريق، ومال إلى حافته اليمنى كأنما أراد أن يجعل بينه وبين رفيقه أطول بعد ممكن. ورأى القروي ذلك فكف عن محادثته، وجعل يقول لنفسة: «ما أغرب هؤلاء الأفندية الذين يجيئون من الأمصار! أما والله لولا أنه يمت بالقرابة إلى الباشا رحمه الله..». وبلغا البيت، فنهرتهما الكلاب، وأفزع الفتى نباحها وهيئتها الوحشية، فدنا من رفيقه بكرهه، حتى يكاد يدخل في ثيابه فزجرها القروي عنه، وصعد به السلم. قالت شوشو لقريبها بعد أن أصاب حظا من الراحة: تعال بنا إلى بهو السلم، فإن الجو بديع في هذه الليلة. – ولكن السلّم يؤدي إلى الغيط مباشرة بلا حاجز، و… والكلاب …. – آه. الكلاب! أتخافها؟ إنها لن تؤذيك … تعال … تعال … أيصح أن تكون أضعف مني قلبًا؟ فمضيا إلى البهو وجلسا، ثم شرعت فتاتنا تنادي: «مرجان، بخيت، مرزوق» فعجب الفتى وقال: «وما تصنعين بهؤلاء كلهم؟ لا تتعبي الخدم يا شوشو بلا داع». والتفت فإذا ثلاثة كلاب تصعد مسرعة على السلم وتقبل عليها وتتوثب حولها وتتمسح بثوبها وتحرك أذنابها وتلعق حذاءها، فأشارت إليها فربض واحد إلى يمين الفتى، وثان أمامه، والثالث إلى يساره، وعادت وهي تحادث قريبها حتى عرضت مناسبة. فنهضت وأخبرته أنها ستغيب عنه برهة قصيرة، ولم تنتظر أن تسمع ما همّ أن يقوله إذا صحّ أنه فتح فمه ليتكلم! وتركته. فأسلم أمره لحظِّه ولهاتيك الكلاب، وجعل يلاحظها خلسة، وشاءت بعوضة أن تلذعه في جبينه، فرفع يده ليذبّها. فرفعت الكلاب الثلاثة رؤوسها وزامت! فحطّ ذراعه. وأراد الحظ أن تألم ساقه الوضع الذي كانت فيه، فهمّ بتحريكها فعادت الكلاب ترفع رؤوسها وتزوم، فتركها مكانها. وكثر البعوض فجأة، وتوالى الإحساس باللذع في الوجه واليدين والرجلين، وهو يتجلد إشفاقا من هذه الكلاب الضارية، حتى جاوز الأمر الطاقة، وكاد يذهب رشده فصاح — وهو مسمّر في مكانه، ومن غير أن تتحرك شعرة في جسمه: «أبعدوا عني هذه الكلاب، وإلا قمت وتركتها تمزّقني». وفي هذه اللحظة فتحت نافذة مطلة على البهو، وظهرت منها شوشو مستغربة في الضحك.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/2/
«وكان صباح.. يومًا واحدًا»
قضى فتانا إبراهيم — وهذا اسمه — ليلة هادئة عميقة النوم إذا استثنينا حلمًا قصيرًا ركب فيه جوادًا بلا لجام جمح به في طريق وعر، ينحدر على أحد جانبيه نهر جائش، وتعترضه في بعض المواضيع أقنية تختلف ضيقا وسعة، عليها ألواح من الخشب، وقف الجواد الخبيث فجأة، فوق واحدة منها وأهوى برأسه وقادمتيه إلى الماء ليشرب! وبدأ الصبح بأصوات العصافير. فنهض ثم لبس حذاءه ومعطفه وطربوشه، وخرج متسللًا كاللص. وكانت السماء غائمة، والجو مطلولًا لا تخلص معه الأنفاس. وكان هو يكره الرطوبة ويتقيها ويشفق من عواقب التعرض لها، وكثيرًا ما ثنته عما يقصد إليه، ولكن منظر الحقول في هذه الساعة قبل طلوع الشمس، والضباب يسترها على مسافة متر، ويشفّ شيئا فشيئًا عنها — وهو منظر لا عهد له به — أغراه بالمضي فانطلق على غير هدى، حتى وقف على ترعة صغيرة نزرة الماء، تكسو الحشائش جانبي مجراها، ويفترش الماء في قاعها بساطًا سندسيًا ليّنًا. وجعل ينظر إليها تارة، ويدير عينه في الحقول المستوية تارة أخرى. وكان المنظر من حوله مؤلفًا من عناصر إذا اجتمعت، كما هى الآن، أحالت الحب في النفس الحساسة قلقًا، وهوت بالأمل إلى الشك، وهبطت باليقين إلى مرتبة الرجاء، ومنعت الذكرى أن تحرك الأسف على فائت، أو الرغبة أن تدفع إلى سعي. وذلك أنه كان أمامه — على قدر ما وسعه أن يرى — هذه الترعة السوداء ومن ورائها مثل الجدار القائم. ومن خلفه هو أرض بعضها مرعى فيما يعلم، وبعضها زرع لا يدري أي شيء هو. ثم فضاء غير مستوٍ يقوم من بعده البيت الذي زايله منذ لحظة. وكل ما حوله أشكال ليس لها معارف — كالدرهم المسيح — توحي إلى النفس أي شيء، ولا تنطق بشيء، إذ كان الضباب لا يزال يكسوها ثوبًا يزيدها في رأي العين والقلب عريًا وتجردًا. وكانت السماء دانية مسفة يحس المرء أنها تهمَ بالانطباق على الأرض. ثم بدأت الشمس تطلع حمراء قانية كبيرة القرص، وأخذت تطلق أشعتها الطويلة المتوهجة من الشرقِ فتتلقاها في الغرب السحب، فأطراف المنازل، والأكواخ والنوافذ ورؤوس الأشجار، فالأغصان النابتة على وجه الأرض؛ فصارت الأنفاس كأنها خارجة من فوهة مدخنة، لا من فم آدمي. وأحس لطول ما وقف، بالبرد يسري من قدميه إلى سائر بدنه، فثنى خطواته إلى الدار، وما كاد يفتح الباب المؤدي إلى الجناح الذي أفرد له، حتى طالعته زنجية لامعة الجلد، منتفخة الأوداج، كأنما حشيت أشداقها قطنّا، براقة الأسنان. واسعة العينين حمراؤهما، قد غرز رأسها المعصوب بين كتفيها غرزًا، واتصل بهما بلا واسطة. أما صدرها فعريض جدًا، وأما خصرها — إذا جاز أن يُسمّى هذا خصرًا — فهضيم جدًا، حتى كأن ما نقص من هذا زيد في ذاك، ويلي الخصر ردفان ثقيلان تحتهما ساقان قصيرتان كالقمعين، فكأنهما زير عليه إبريق مقلوب فوقه كرة ذات ثقوب، والمرء بايسر مجهود من الخيال يستطيع أن يتصورها مفككة. فابتدرته الزنجية بقولها: أين كنت يا سيدي؟ فلم يرتح إبراهيم إلى هذه المفاجأة، ولم يسره لونها الأسود البرّاق بعد ذلك الضباب الذى لبث فيه. وكان من أثقل الأشياء على نفسه أن يُسأل عن روحاته وغدواته، فقال لها: أين كنت؟ وكيف يعنيك هذا؟ – لقد أزعجتنا جدًا يا سيدي، ولم يخطر لنا قط أنك قد تخرج في مثل هذه البكرة المطلولة، فحرت ماذا أصنع و.. – لعلك لم تقلقي أحدًا من أجلي؟ – نعم، أيقظتهمٍ جميعًا. – أيقظتهم جميعًا؟ ولماذا بالله؟ أترينني طفلًا أم أنا هنا سجين؟ ولم تكن المسكينة تتوقع أن يغضبه سؤالها وإشفاقها عليه، وأفزعتها نظراته أكثر مما أفزعتها لهجته، فرمت بعينيها إلى الأرض وأخذت تتمتم: لا … لا، ياسيدى، عفوك! هذا بيتك …. – من قال لك إني في بيتي يُضرب عليَّ نطاق من الخدم؟ – أنا.. أنا.. لا ذنب لي. لقد أمرتني سيدتي شوشو قبل أن تنام أن أخبرها. فلم يمهلها حتى تتم كلامها، وصاح بها وقد تملكه غضب شرّ ما فيه أنه يعلم أن لا داعي له: إذا كانت سيدتك هي التي شاءت أن تسدّ في وجهي الأبواب، فسأرحل هذا النهار. نعم لا بد من السفر، فلست أنوى أن أعصب رأسى وأسدل على وجهى قناعًا! ودفع باب غرفته بعنف، ودخل وهو يتمتم بصوت يزيده تهدجًا شعوره بأنه مخطئ في غضبه، وأنه تهوّر بلا مسوغ. وشرع يعد حقيبته ويفكر في القيود التي تحيط بالمرء في الريف، ونسي أن للمدن أيضًا قيودها. ولم يكن صاحبنا إبراهيم قد بلغ سن الفلسفة، أو إن شئت فقل سن التبلّد أو الحزم أو ما تحب غيرهما، وإن كان بطبعه لا طياشًا ولا قليل التؤدة. وكان من ذلك الطراز الذي نستطيع أن نقول إن الله وهبة كل شىء، إلا القدرة على الانتفاع بالحياة والتوفيق فى الدنيا، وإن يكن اشبه بالنساء في المرونة وسرعة التكيّف. وكان عظيم الاعتداد بنفسه شديد الاعتماد عليها ولكن من غير أن يشوب ذلك الكبرياء والتقحم على الناس. وفيه أنفة كثيرًا ما كانت تبلغ درجة البلاهة، وقد غلب عليه «الكاتب» وصار لقبًا وعلمًا عليه كما حدث لعبد الحميد من قبله بقرون طويلة المدد. ولم تكن مزيته الابتكار أو العمق بل إنه ما من فكرة يتناولها إلا وسعه أن يجلوها في أحسن معرض، وإلا استطاع — إذا لم تكن مما ابتكر — أن يضيف إليها ويزيد عليها ما ليس دونها. على أن أبرز مزاياه كانت أن أسلوبه صورة لنفسه ليطلّع على كل ما فيها، وأن يجيلها فيما هو خارج عنه ليحيط بكل ما وراءها، ولكنه قلّما رأى شيئًا خارجها إلا من خلالها. وكان على قوة طبعه شديد الحياء كثير الحذر ولا سيما معٍ النساء اللواتي لم يألف مجالسهن إلا العائليه، ولم يكن احترامه لهن كبيرًا وإن كان على ذلك لا يحتقرهن. وعنده أن المرأة أداة لبقاء النوع، وإن جمالها ليس إلا شركًا تنصبه الحياة ويحسن كثيرا أن يتجنبه، وإن الرجل أجمل من المرأة على العموم، لأن جمال الرجل الجميل لا يستمد أكثر فتنته — كجمال المرأة — من الغريزة النوعية. وكان سلوكه إزاء المرأة مظهرًا لرأيه فيها — ونعني أنه كان يعدها مخلوقًا جديرًا بالعطف والمداعبة في غير ضعف ودون أن يمنع ذلك أن تحكمها دائمًا وتلزمها طاعتك. ومن سخر الأقدار أن هذه الطبيعة القوية المتمردة إلى حد كبير تكون في جسم ضئيل هزيل لا يحتمل شيئًا! فقد كان صاحبنا قصيرًا ضامر الجسم دقيق العظام واهي التركيب، وليس فيه شىء ينمّ على هذه القوة التي انطوى عليها إلا وجهه، أو بعبارة أدق جبهته الواسعة العريضة المتألقة، وعيناه الواسعتان الحادتان، وهامته المستطيلة القوية، وأنفه الكبير الأقنى، وشفته المقوسة الغليظة بعض الغلظ. على أن قوته تنحصر على الاكثر في جبهته وعينيه. ولم يكن يخفى عليه هذا السر، فكان يبلغ بنظرة يسددها ما لا يبلغه الرجل الضخم بالعصا في يده. ولكنه كان على ذلك رضيّ الطباع، دمث الأخلاق، سريع الفيء إلى الرضى. ودخلت عليه شوشو وهو لا يحسها، ووقفت خلفه وهو مشتغل بنزع غطاء حقيبته، ووضعت كفيها على عينيه، فأمسك بها ونزعها عنه برفق وقال: آه.. شوشو! – نعم أنا شوشو. من كنت تحسبني؟ فاحمرّ وجهه الأسمر قليلًا وابتسم. وكانت لآخر عهده بها قبل عام طفلة ألفاها في هذه اللقية امرأة بارعة الشكل ممشوقة القد، تغترف العين بشارتها وترتاحٍ النفس إلى نظرتها: سوداء العينين عميقتهما؛ ذهبية الشعر ترسله أمواجًا على كتفيها، بيضاء مشرقة، حمراء الخدين قرمزية الشفتين لينتهما: عينها نار، ولحظها حب، وصوتها تغريد، وقوامهٍا أتم ما يكون استواء وصحة وعزمًا ونشاطًا، وحركتها مملوءة ظرفًا ورشاقة، رقيقة كأنها النسيم، جليلة كأنها ملكة، ذائبة حينًا، متدللة متجبرة أحيانًا، ساخرة طورًا، وطورًا ساذجة غريرة، جميلة في كل حال. وقالت وهى تعتمد أن تتجاهل معنى ما يفعل: دعني أخرج لك ما تريد من الثياب. إن هذا عمل النساء لا الرجال. اصعد أنت إلى «فوق» فإنهم ينتظرونك ليفطروا معك وسأعد لك كل شيء. – ولكنك لا تعرفين ماذا أبغى؟ – أعرف كل شيء! وماذا تستطيع أنت أن تعرف أكثر مني؟ إنك كالطفل الصغير يحتاج حتى إلى من يلبسه الجورب! فلم يدرِ أعرفت وتجاهلت أم هي لا تعلم شيئًا مما حدث، وكانت نفسه قد سكنت فآثر أن يطوي الأمر، وبدا له أن هذا خير ما يمكن أن يصنع، وقال مغالطًا: «ولكني لا أعرف من أين أصعد». – إذًا لنبدأ بالصعود وبعد ذلك نعود إلى هذه الحقيقة. أليس كذلك؟ – نعم؟ – هيا إذًا. ووضعت كفها على كتفه اليمنى وجعلت تطفر إلى جوانبه وتتواثب كالفراشة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/3/
«كل لتكون فيك قوة إذ تسير في الطريق..»
صعد إبراهيم وشوشو — أم ترى ينبغي أن نقول شوشو وإبراهيم؟ إلى غرفة الطعام فألفيا حول المائدة «نجية» كبرى أخوات شوشو، وابنيها. وهي سيدة جميلة الوجه، ولكنها ضخمة الجسم مترهلة اللحم، ذات معدة — وما لنا لا نقول «كرشًا»؟ — تمشى أمامها. ولها إيمان راسخ بالمشائين في الظلام، ونعني بهم الشياطين والعفاريت والأرواح، وبأولياء الله الصالحين، غير أن إيمانها بأولئك أقوى وأعمق منه بهؤلاء، وأكثر ما تدور أحاديثها وقصصها بالليل عنهم، وما أقل من لم تقل له «لا شك أنك رأيت عفريتًا. لقد رأيتهم انا بعينى هذه مرات عديدة في البيت وحوله. ولكنهم لا يؤذونك إلا إذا كلمتهم أو تعرضت لهم». وللعفاريت معها حادثة لا تكف عن ذكرها كلما عرضت مناسبة. وتلك أنها فيها مضى من الزمن وفي مفتتح حياتها مع زوجها، قامت بالليل إلى حاجتها واستصحبت معها خادمتها فاطمة الزنجية التي عرفتها في الفصل السابق، فلم تكد تبلغ الحمام حتى سمعت وقع حوافر المعيز صاعدة ونازلة على السلم، وعابثة في المطبخ، فصرخت وعادت تعدو إلى غرفتها ولكن زوجها أبى أن يصدق أو يلتفت إلى سبب فزعها «فلما أصبحنا وجدنا كل الأطباق التي كانت في المطبخ مكسرة، ووجدنا ثلاثة من الغنم ميتة. فهل كسرت الأطباق نفسها؟ ومع ذلك يأبى ابن عمي (أى زوجها) أن يصدق»! وتضرب بطن يسراها على ظهر يمناها فوق كرشها الكروية ومن أجل هذا تعنى قبل الذهاب إلى مخدعها بأن تمر بغرفة بنيها، ومن تكون في ضيافتها من أخواتها، وأن تمسح رؤوسهم وتتلو آية الكرسي ثم تستودعهم الله وتمضي. وهي من الطراز المحافظ الذي يستنكر كل جديد ويعده بدعة يجب أن يستغفر الله منها ويعاذ به من شرها. ولزوجها بيت في رمل الإسكندرية مدَ إليه أسلاك الكهرباء فاعترضت وقاومت ما استطاعت، فلما أعياها الأمر وأصر زوجها على الكهرباء أبت كل الإباء أن تدخلها غرفة نومها! فرأى زوجها أن يرضيها بهذه التضحية الصغيرة. ولا يزال البيت تضيئه الكهرباء إلا هذه الغرفة التي بقيت كأنها قطعة ممتلكة من الزمن الغابر. وجهز زوجها الحمام بالأدوات الحديثة فأغضبها منه هذا، وأصرت على الاستحمام في «الطشت» وإهمال الحوض! أما التليفون فله في بيتها بالرمل عشر سنوات ومع ذلك لا تعرف كيف تستعمله، وتقول شوشو عنها إنها تطلب الرقم هكذا «٩ الرمل ١٥» بدلًا من الرمل ١٥٩ مثلًا! ومقياس الصحة عندها مقدار ما يصيبه المرء من طعام، فأصح الناس من يلتهمه التهامًا ويأتى على ما أمامه كأنه لن يصيب رزقه غدًا. بل قيمة المرء رهن بذلك، فأحق الناس بالإكبار الأكول البطين أما من يأكل بقدر أو لا يأكل حتى يجوع فهو طفل لم يكبر ولم يشب عن الطوق ولو جلله الشيب وقوست قناته السنون أو الحادثات. وأثمن ما تهديه من النصائح إلى المريض أو الضعيف أو الحزين أن «كل ثم كل ثم كل»! هذا عندنا الدواء من الحمى والمغص والصداع الخ. ولا تصدق الأطباء فإنهم يميتون الناس قبل أن تفرغ آجالهم! وما بعجيب بعد ذلك أن صغر في عينها صاحبنا إبراهيم وإن كان قد ناهز الثامنة والعشرين وماتت له زوجة وبنون لم يعش منهم إلا واحد. وجعلت تسأله على الطعام عن صحته، وعن العملية الجراحية التي أجريت له وكيف احتمل الكلوروفورم — أو البنج كما تعرفه — وعن المستشفى الذي أقام به حتى شفي وتقول: يا ابن خالتي! كيف رضيت بالبنج؟ فيقول: «وهل كان من الممكن أن أحتمل العملية بغير ذلك»؟ فتهز رأسها غير مصدقة، وتسأل: «وهل كانت العملية ضرورية؟ لقد لبثت لا أنام منذ علمت بخبرها، حتى طمأنني ابن عمي وأنبأني أنك خرجت من المستشفى، ومع ذلك لم أطمئن تماما إلا بعد أن علمت أنك آت إلينا. وكيف صحتك الآن»؟ – كما ترين، حسنة. – لقد كان دخولك المستشفى حماقة! فكر.. إن المستشفى كالمجزرة، ولا بد أنه مملوء بالعفاريت. – لا، لا، لا عفاريت ولا …. – كيف يمكن؟ الدم … والذين يموتون فيه. إن بيتنا هذا جديد، ومع ذلك فيه عفاريت. ولو كان زوجي هنا لقص عليك كيف تطلع وتنزل كالمعيز على السلم الخشبي. – ابن ابن خالتي ينام وحده في ذلك الجناح، ولا يحسن أن يعرف هذه الحكاية التي سمعناها مائة مرة. فقال إبراهيم: «دعيها يا شوشو تقصها، فإن سِيَرَ العفاريت لا تفزعني، ولكم تمنيت أن يظهر لي عفريت! ولكم سرت عمدًا بين المقابر في الظلام الحالك، آملًا أن أرى واحدًا». فصاحت به نجية: «ماذا تقول؟ أمجنون أنت»؟ فلم يغضب إبراهيم لأنه كان أعرف بها من أن يثيره كلامها ولم يزد على أن قال لها: وما الضرر؟ – الضرر؟ أحذر أن تصنع هذا هنا! لقد كان أحمد خادمنا عائدًا على حماره من المحطة في بعض الليالي، فلما دنا من البيت وقف الحمار بغتة، ونشر أذنيه وأدار رأسه، ونظر أحمد فإذا الطريق قد سدّه مارد، ولكن الله ألهمه أن يتلو آيات من كتاب الله، وأن يستحث الحمار فنجا ولم يكد. فحاذر أن تخرج في الليل وحدك! إنك لست في مصر، ولا آمن عليك إن خرجت، وسأمر على الخدم أن يخبروني كلما هممت بذلك! يجب أن تعود سليمًا إلى بيتك. ••• وكانوا قد فرغوا من الطعام، فمضت به شوشو إلى غرفة أخرى، وجلست إلى جانبه تستخبره عن المستشفى، وكيف كان يقضي لياليه فيها، ومن كان يؤنسه في وحدته، وكان يوجز ما استطاع في أجوبته، وتأبى هي إلا الإطناب وتلح فيه: قل لي. قل بالله (وأحاطت عنقه بذراعها اليمنى) أكنت تقضي الليل كله وحدك؟ – نعم. – ألا يجالسك أحد؟ – الزوار. – وإذا لم يزرك أحد؟ – أنا أحب الوحدة. – ولكن هبني مكانك. فأنا لا أحب الوحدة ولا أطيقها. – هناك الممرضات. – آه. أهن شابات أم عجائز؟ – لا أعرف إلا المستشفى الذي كنت فيه. – حدثني عنه إذًا! لماذا لا تتكلم! إن هذه ليست عادتك! أهناك شيء لا يصح أن أعرفه؟ – كلا. – إذًا لماذا تأبى الكلام عن المستشفي؟ – لأنها ذكرى.. تؤلمنى. – هذا صحيح! ولكنك جدير بأن تحمد الله على شفائك مع ذلك. فصمت قليلًا وقال وهو مطرق: «لا أدري»! فاعتدلت ونظرت إليه بعينيها العميقتين، ووضعت يمناها على جبينه، ورفعت رأسه وسألته: «كيف لا تدري؟ لست أفهم»! فقال وجفنه مرخى، ونظرته إلى الأرض، وإصبعه ينفض السيجارة. – شوشو! اسمعي! إنك لا تزالين صغيرة. – كلا! لست صغيرة! أنا أطول منك. أما ترى. ونهضت ورفعت أطراف كفيها إلى كتفيها، وعيناها إلى صدرها ثم هوت يديها إلى ركبتيها ووضعتهما عليهما، وانحنت إليه، وحدقت في وجهه باسمة، وهمت بالكلام، ولكن هيئته صدتها، فأسرعت إلى مكانها بجانبه وجذبته من كتفه وقالت: مالك؟ قل لي! فقال وهو منحنِ إلى الأرض: لا شيء! اطمئني! كل شيء.. – كل ماذا؟ فنهض ومضى إلى النافذة ويداه في جيبي معطفه، وجعل ينظر من خلال الزجاج دون أن يرى شيئا، ولحقت به ووقفت إلى يساره هنيهة، فلما لم يلتفت إليها طوقته بذراعيها وقالت وهي تجذبه جذبة بعد كل كلمة: إبراهيم! ابن خالتي! مالك؟ تكلم! لست أفهم! – ربما كان خيرًا لك ألا تفهميني. فأدارت إليه وجهها وقالت: ولكني لا أستطيع أن أراك هكذا! ألست بنت خالتك؟ أم أنت تستصغرنى؟ – كلا يا شوشو. – قل لي إذًا ولا تدعني أتألم من أجلك هكذا بسبب جهلي ما يؤلمك. – ماذا أقول؟ لقد دخلت المستشفى لأتداوى من مرض فشفيت. ولكني خرجت بمرض جديد شرً ما فيه أنه لاطبيب له، إلا.. – إلا من؟ قل أسرع! – لا أقوى على أكثر من هذا يا شوشو. بل أقول إني ما أتيت إلى هنا إلا لأتداوى ولكن بلا جدوى على ما يظهر. فجرى ببال شوشو خاطر لَمحت إليه ومنعها الحياء والأدب والمحافظة على كرامة ابن خالتها أن تفصح عنه وجعلت تتمتم: آ.. سامحني ولكن أأنت في حاجة إلى … ما …. فالتفت إليها بسرعة وقد أدرك غرضها ولم يدعها تتم الكلمة وصاح وقد فاضت نفسه بالإحساس المكتوم. – يا بلهاء. وانطلق هاربًا من الغرفة. وخلّفَها واقفة مبهوتة واجمة تحملق في أثره وفمها مفتوح من الدهشة؛ حتى كأنما أحالها بصيحته هذه تمثالًا للبلاهة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/4/
«إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال اذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان»
قبل أن نتقدم بخطوة أخرى في هذا التاريخ — أو في هذه الفترة من حياة صاحبنا إبراهيم — نكرّ راجعين بالقارئ بضعة أسابيع لنجلو ما عساه يكون مشكَلّا مما أسلفنا قصةً في الفصل السابق. وهي أوبة تردنا إلى أيام عشرة قضاها في مستشفي لا حاجة بنا إلى اسمه إذ كنا لن نعود إليه مرة ثانية، وكانت طلبتنا عنده قد زايلته. وكان كبير الأطباء صديقًا لإبراهيم فأوصى به الخدم والممرضات، وأطلق له الحرية في استقبال الزوار، وأمرهم أن يتوخوا في ذلك مرضاته. وكان هذا شرط إبراهيم لما ألحّ عليه الطبيب أن يجري له العملية، فقبله واكتفى بأن ينبه إلى وجوب الإقلال من تقبل الزيارات في الأيام الأولى على الأقل. وفى صباح اليوم المضروب للعملية ذهب إبراهيم وحده إلى المستشفى دون أن يخبر أمه أو ابنه. وهما كل أهل بيته إذا أسقطنا الخدم — كأنه ماضِ إلى عمله. وتقدم إلى غرفة الجراحة بجأش رابط ونفس — لا نقول مطمئنة — ولكنا نقول غير مكترثة لما عساه أن يكون. ومع أن الطبيب احتاج أن ينشّقه مقدارًا كبيرًا من الكلوروفورم، فإنه لم يكد يغسل يديه حتى كان إبراهيم قد فتح عينيه وأفاق إلى حد كببر، فحملوه وهو متنبه ووضعوه في سريره وتركوا إلى جانبه ممرضة تعنى به، فلبث نحو ساعة لا يتحرك ولا يتكلم ولا يصنع أكثر من أن يدير عينيه في السقف والجدران أو يرفع يديه من حين إلى حين ويمسح جبينه لغرض واحد هو أن يثبت لممرضته أنه مفيق. وهي تحدجه بنظرها ولا تكاد تحوّل نظرها عنه كأنما تعجب لجلده. ثم لفت وجهه فجأة وقال: «ما اسمك؟» ولم يكن ذلك منه التفات سائل عادي بل كان أشبه بحركة متوجع. ويظهر أن هذا آخر ما كانت تنتظر أن يسألها عنه، فلم تجد الجواب حاضرا وتلعثمت وهي تخبره أن اسمها «ماري» وحول وجهه عنها قبل أن تنطق وعاد إلى صمته، وكأنما توهمت أنه لم يسمع وخشيت أن يسوءه حسبانه أنها لم تجب أو كأنما ملت طول الصمت الذي ألزمها إياه — والصمت أشق على النساء منه على الرجال — فمالت إليه وحنت عليه وكفاها على السرير لتعتمد عليه وقالت: أقول إن اسمي ماري. فتصلبت عضلات وجهه وانزوى ما بين عينيه وتضاغطت شفتاه هنيهة قبل أن يقول لها: «نعم سمعت … أرجو ألا تضعي يدك على الفراش فيتحرك … مؤقتا على الأقل …». فرفعت يديها بسرعة عن السرير وقد أدركت أن صمته تجلد؛ وأنه يكابد من الألم ما يود أن يكتمه لسبب ما، ونهضت وقد حدثتها نفسها أن خير ما تحسن به إليه هو أن تدعه وحده. وفطن هو أيضًا إلى ما خطر لها وأوما إليها بعينيه فعادت إلى كرسيها فقال: هل تعلمين أن أهلي يجهلون أني هنا؟ – كلا! وبدا عليها شىء من الدهشة فلم تدر ماذا تقول أكثر من «كلا» ومضى هو في كلامه فقال: أرجو أن تغتفري لي ما أنا قائل. إن وجودك معي الآن على الأقل لا يكاد يجديني. وأنت في الخارج أنفع لى منك هنا. كم الساعة الآَن؟. – التاسعة والربع. – لا يزال إذًا في الوقت فسحة. إن أخى على موعد معي هنا. وهو لا يعرف شيئا مما حدث ولا يتوقعه. وكل ما أطلعته عليه هو أني سأعرض نفسي على الدكتور … وأني أحب أن يكون معي. وسيحضر بعد قليل. والآن افتحي الدولاب وناوليني الورقة التي في الجيب الأيمن من سترتي … أشكرك.. متى جاء أخى فأطلعيه على الحقيقة وهوّني عليه الأمر ما استطعت، وإذا طلب أن يراني فقولي له إني نائم — فإني أخشى أن يكثر من الاسئلة الفارغة البلهاء. وأكّدي له أني كتبت هذه الورقة بعد أن أفقت من العملية وزال عني ألمها وذلك ليطمئن قلبه — إنها كذبة ولكن يكون في بعض الأوقات ضروريًا، واطلبي منه أن يعمل بما في الورقة حرفيًا … أحسبني أتكلم أكثر مما يلزم فهل أستطيع أن أعتمد على ذكائك وحسن تصرفك؟ فطمأنته وأكدت له أنها ستؤدي الرسالة كما يجب أن تؤدَّى وسألته قبل أن تنصرف أله حاجة أخرى؟ – نعم، أن تعودي قبل خروجه وتخبريني بما فعلت. ويمكنك أن تقولي له إنك آتية لترىء أنائم أنا أم مستيقظ. وهذا من قبيل الاحتياط حتى أستطيع أن أصلح ما عساه يقع من الخطأ وحتى أتوقى ما لا أود حدوثه. وجرى كل شيء على ما رسم: زيارات قليلة قصيرة يؤديها له أهله وخاصة خلصاءه، ووحدة طويلة تتخللها فترات جعلت تطول شيئًا فشيئًا تؤنسه فيها مارى بمحضرها وحديثها. فنشأت بينهما ألفة وعلم منها أنها سورية الأصل وأنها تعلمت في إحدى مدارس الراهبات في سوريا ثم تزوجت شابًا إيطاليا جاء بها إلى الإسكندرية ولبثت معه ثلاث سنين قضى نحبه بعدها وخلّف لها طفلًا. فزاولت الحياكة أولًا ثم التمريض وها هى ذي إلى جانبه. ومن العسير أن يصف المرء «ماري» هذه وصفًا دقيقًا. ولعل من المستحيل أن يستطيع المرء وصف إنسان ما على وجه الدقة. ولكن من الممكن أن نقول — ومن الممكن أن يصدق القارئ — إن «ماري» كانت تبدو في بعض الأحيان جميلة، وفي بعض الآخر غير جميلة، تبعًا لحالتها الصحية والنفسية. وندع هذا مع ذلك ونقول عن مظهرها الجثماني إنها ذات وجه ناطق دقيق المعارف، وإن لونها أقرب إلى الشحوب، وإنها ضامرة الجسم، وإن من يراها يخيَّل إليه أنها ظمأى كالعود من الزهر انقطع عنه الماء، وإنها لو سقيت من هذا الشراب الذي تقرأ في عينيها ولونها التياعها إليه؛ لربت واهتزت. والمرء يستشف في وجهها النزوع إلى انتظار رأيك قبل أن تفضي إليك برأيها — وإلى انتظار عملك أيضًا على الأرجح قبل أن تقدم هي على عمل. ومما أكد هذه النزعة فيها، مزاولتها مهنة التمريض. والمستشفى — كما يسهل أن يدركَ القارئ — أشبه ببقعة معزولة عن العالم، أو منتزعة من أحشائه، يكون فيه التفكير أكثر من العمل، والقلق والملل أكثر من التفكير، ولا يجري التفكير فيه، حين يجرى، إلا في دائرة ضيقة، وقلّما يؤدى إلى نتائج خيالية. ولكنه على ذلك مسرح تمثل عليه روايات تداني في جلالها واتساقها ووحدتها أحيانًا، خارجيات سفوكليبس وشكسبير، ويساعد على إكسابها هذه المزايا، تركز العواطف وشدة توقف بعض الحيوات على بعض. وقد خلق إبراهيم عطوفأ أليفًا، سريع الإحساس بالجمال، ليس أقوى من نفسه من عواطف الأدب والحب، وخلقت ماري سمحة النفس رضية الطباع، حساسة كالوتر المشدود، وشاءت المقادير أن يتشابها فيما وقع لهما، فهو فقد زوجته وهي فقدت بعلها. وكل من الفقيدين خلّف وراءه طفلًا، وفي كلتا النفسين ذلك الحنين المخنوق الذي خلفه موت الفقيد، ولم تَجُدِ الحياة بما يطفئه أو يسكن لاعجه. وكان إبراهيم على حيائه، لا يكاد يألف إنسانًا حتى يفتح له قلبه، ويرسل معه نفسه على سجيّتها، وقل أن يتبسّط لأول وهلة ولكنه كان صاحب فكاهة وعبث، وما عرفته امرأة إلا أعجبها منه ما فيه من الدعابة، والفكاهةُ من أقصر الطرق إلى قلوب النساء، فلم تمض إلا خمسة أيام حتى كان إبراهيم قد علق ماري، وماري قد شغفت بإبراهيم، وحتى صارت غرفة المستشفى فردوس عاشقين — إذا صدقت الظواهر — وما أكثر ما تلاقت شفاههما في قبلات فرحة في ذلك الفردوس المنزوى، الذي يحسبه الناس مستشفي فحسب! واستمرت العلاقة بينهما بعد أن بارح المستشفى إلى بيته، وكثرت المحادثات بينهم بالتليفون والمقابلات. غير أن الإرادة التي وهنت مع المرض، عادت مع الصحة، ففطن إبراهيم إلى ما في علاقتهما من الجرح، وأدرك أن الأمر يوشك أن ينقلب مشكلًا. ورأى أنه لا يستطيع أن يرضاها زوجة، وأنها تطمح ما هو أسمى من مرتبة الخليلة، وهَبْها لم تطمع فإن ذلك لا يحل مشكل حياته، ولا ينيله مأربه ولا يبلغه ما يتمنى من السكون إلى الحب المنزلي الذي لا يعدل به شيئًا. فخطر له أن ينأى عن القاهرة زمنًا عسى أن تطيب نفسه عنه، وأن تروض هي نفسَها على بعده. ولما لم يهده التفكير إلى خير من ذلك، صمم عليه وشرع في إمضاء هذا العزم على توه. والتقيا ليلة سفره وتنزها قليلًا ولما آن أن يفترقا سألته: متى نلتقي غدًا؟ – ليس غدًا. فقالت وهى تبتسم ولا تدري ما عقد النية عليه: «ماذا يشغلك عني يا برامينو»؟ وكان برامينو، اسمه عندها تناديه به حين تداعبه. فأجابها وهو يتكلف الابتسام: يشغلني أني مسافر. – مسافر؟ كيف هذا؟ وإلى أين؟ – أوه! لا على مكان معين. سأنتقل من بلدة إلى بلدة، ومن قرية إلى أخرى ثم أعود فيما أرجو. – وما داعي ذلك؟ متى عزمت عليه؟ – لا داعي له إلا أن دكتورك أمرني به وألح على فيه. فزاد لونها شحوبًا وأظلم وجهها وأطرقت لحظة، ثم رفعت رأسها وحدقت في عينيه وقالت: إنها إرادتك أنت لا مشورة الدكتور! لا تمار! إني أعرفك! فلم يزد على أنه ابتسم ابتسامة من يستنكف أن يكابر ولا يكترث لما تظن به، فسال ما تجمد في نظرها ولانت عضلات وجهها وبدا فيه الضعف، وأمسكت بكتفه وقالت وهي تهزّه ولا تعبأ بمن عسى أن يراهما من الناس: لا، لا! لا تذهب! قل إنك باق! فرفع كفيها عنه في رفق وقال بلهجة من يريد أن يطمئنها وإن لم يكن في كلامه ما يعين على ذلك: ولكن هذا مستحيل يا ماري! لقد أبرقت إلى بعض أقاربي أنبئهم باعتزامي السفر غدًا وأطلب أن يرسلوا من ينتظرني. – أبرق إليهم مرة أخرى بعكس ذلك. فهز كتفيه وقال: وما الفائدة؟ سأسافر بعد غد إن لم أسافر غدًا! فالرحلة لابد منها على كل حال. وهمّ أن يدعوها إلى التمشى قليلًا ليسرّى عنها، غير أنه عاد فرأى أنه من الأحزم والأجدى أن ينتهي الوداع حيث هما. فاكتفى بأن يهوِّن الأمر عليها — وعلى نفسه أيضًا — ببضع كلمات، ثم ربت لها ذقنها بأطراف أصابعه وسلم، فقالت بعد أن تلفتت يمينًا ويسارًا كأنما كانت تحدث نفسها باختلاس ضمة: «يا له من حلم قصير»! وكان قد خلَّى يدها وناْى خطوة فقال: لالا! لا تقولي هذا يا ماري! لو كنت ممن يتشاءمون لما حسن وقع ذلك في نفسي قبيل سفري! فنبهها ذلك فدنت منه وأقبلت عليه تؤكد لها أنهما سيلتقيان. أما هو فسلم مرة أخرى وشور لها بيده وهو يبتسم ولم يجب!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/5/
«قلت أكون حكيمًا أما هي فبعيدة» عني رجع بنا الحديث إلى الريف …
بعد أن انطلق إبراهيم من الغرفة التي كان فيها مع شوشو وخرج منها مارقًا كالسهم، انحدر مسرعًا إلى غرفة نومه واستلقى برهة على «كنبة» فيها وأغمض عينيه كالذي يريد أن ينام، وما به من نوم، فكَرَّ أمام مخيلته كل ما وقع له مع «ماري» مما قصصناه وما لم نقصصه في الفصل السابق، فعاوده الحنين إليها والأسف على فراقها والألم لما خلفه لها، ولم يكن إبراهيم ممن يحبون أن يخدعوا نفوسهم وينحلوها من المزايا ما عطلت منه، وكان يؤثر أن يغمط نفسه وأن يعدها مجردة من كل ما يجعله حبيبًا إلى النساء مرموقًا منهن، ولعل السبب ذلك أنه أحس بالجمال، وأحسن تقديرًا له، وأشد شعورًا بمواطن الضعف في نفسه، وأفطن من أن يتأتي له أن يغضى عن هذه العيوب وألا يكترث لها، أو أن ينحيها عن عينيه ولا يدعها تبرز وتحجب مزاياه. ولذلك لم يلبث أن راح يتصور «ماري» متلهية عنه بكل ما يعدها صباها وجمالها له. ومن هو إبراهيم حتى تشغل نفسها به وتشيح بوجهها عن الدنيا من أجله؟ إن صباها الذي ألقت بها حرارته بين ذراعيه خليق أن يلقيَ بها بين ذراعي سواه، ولن تعدم رجلًا يكون أفتن منه وأوفى أيضًا! وأي حق له عليها بعد أن آثر أن يطرحها ويفر منها على هذه الصورة ولا يترك لها حتى عنوانه؟ وهكذا ظل يحمل على نفسه حتى آلمها فنهض وقد ضاق صدره وفتح النافذة لتخلص أنفاسه قليلًا، وكانت نافذته تطل على فناء خلفي رحيب، بعضه — وأكثره — بستان زهر وشجر باسق، وبعضه بيوت للدجاج والإوز والحمام والأرانب وغيرها، وحوله سور أسفله مبنيِّ بالآجر وأعلاه مصنوع من قوائم من الحديد مغطاة من الداخل بالحصير، ليحجب من يكون في الداخل من عيون المارة. وفي الجنوب باب للخدم وقد يدخل منه الزوار من النساء أحيانًا إذا شئن، وكذلك من الرجال الذين يمتون إلى أهل هذا البيت بصلة من قرابة أو مصاهرة. ورأى إبراهيم الخدم يدخلون ويخرجون، وحديد الباب يلمع في ضوء الشمس فأدرك أن دهانه جديد، وراقه أن يراقب الداخلين والخارجين وما يصنعون إذ يفتحون الباب أو يغلقونه، ومبلغ التفاتهم إلى الدهان، وعنايتهم باتقاء تلويثه لأيديهم أو ثيابهم. فلم يجد الرجال — وكانوا قليلين على كل حال — يتفاوتون تفاوتًا يذكر، وكان كل منهم يدفع الباب برجله فيفتحه ويدخل ثم يعود فيدفعه من الداخل أيضًا؛ أما النساء فكن أكثر اختلافًا: جاءت أولاهن — أو أولى من أبصر منهن — في ثوبها الأسود الذي يكنس الأرض وراءها وذراعاها مثنيتان إلى صدرها وعموديتان عليه، وكفاها مفتوحتان كأنما تريد لتتقي بهما شيئًا، فلما بلغت الباب دفعته براحتيها ودخلت، وكأنما أحست أن شيئًا قد لصق بهما فنظرت إليهما وصاحبت «يوه» ووقفت مكانها حائرة، ثم كأنها لم تدر ماذا تصنع فجعلت تتلفت يمنة ويسرة ومضت إلى أقرب رجل أخذته عينها لتستشيره على الأرجح ولم تصوب نظرها مرة واحدة إلى ثوبها لترى ماذا أصابه! وبعد قليل جاءت أخرى على رأسها سلة مغطاة فلما بلغت الباب منحته جنبها ودفعته بكتفها، ودخلت مطمئنة غافلة عن الخطوط وأنصاف الدوائر التي ارتسمت على ذراعها مما يلي الكتف! فرفهت هذه المناظر وأمثالها عن نفس إبراهيم، وانبسطت أسارير وجهه ولمعت في عينيه ابتسامة خفيفة، وإنه لمشرف على هذه الصور وإذا بصوت من ورائه يقول: «خالي! شوشو تسأل عنك»! وكان المتكلم محمد ابن نجية. وهو وأخته يدعوانه خالهما اختصارًا. فالتفت إليه كالمفيق من حلم أو كأنما كان قد توهم وهو مطل من النافذة أنه مشرف من السحاب، فلما سمع الصوت الذي يناديه أحس كأنما هبط إلى الأرض. ولكنه إحساس لم يطل فتناول الصبي ورفعه إليه وطبع على فمه قبلة أبوية وسأله: «أين هي»؟ فقال الغلام: «في غرفة الاستقبال» ويظهر أن إبراهيم استغرب هذا فصمت قليلًا كأنه يفكر ثم قال: «حسن قل لها إني هنا لا أصنع شيئًا. فلتأت إذا شاءت». فخرج الغلام يعدو، ومشى إبراهيم إلى السرير ووقف معتمدًا بظهره عليه. وكان دقيق الملاحظة كثير التفكير في كل ما يرى أو يسمع، ومن عادته إذا خلا بنفسه ولم يرغب في المطالعة أن يدع خياله يرسم له مناظر ومواقف وينشئ محاورات وأحاديث. فجعل يفكر في قول الصبي إن شوشو في غرفة الاستقبال: في غرفة الاستقبال؟ لقد تركها هناك! فهل تراهها لم تبارحها. وكم دقيقة أو ساعة مضت عليها منذ غادرها، وامتدت يده إلى جيبه مدفوعة بحركة لَدْنيَّة وأخرجت الساعة، وتأملها ولكنه لم يقرأ فيها شيئًا بل ابتسم إذ تذكر أنه لم ينظر إلى الساعة حين غادر شوشو فلا يستطيع أن يعرف كم لبثت في هذه الغرفة. ولكن لماذا تبقى في الغرفة وحدها ولا تزايلها؟ ما أغرب أمر هذه الفتاة! أتراها ساءها ما بدر منه؟ ربما! بل لا شك في ذلك فإنها فتاة متعلمة مهذبة ولا بد أن يكون قوله لها «يا بلهاء» قد حزّ في نفسها، وانطلق يلوم نفسه ويعنفها ويستهجن شكاسة طبعه. ودخلت شوشو تنساب كالماء فتقدم إليها باسطًا كلتا يديه وقال: اعتذر إليك يا شوشو! سامحيني! لقد أسأت إليك وكان ذلك سوء أدب مني بلا ريب. فهلا تغفرين؟ فتناولت كفيه في كفيها وجذبتهما إليها وفي عينيها نور البِشْرِ وحول وجهها كالهالة، وقالت وأمالت رأسها إلى كتفها اليسرى: «تعتذر إلي؟ ممّ بالله؟ هيه؟ تعال هنا»، ومضت به إلى الكنبة: «قل لي ماذا كنت تصنع وحدك هنا! أتراك جئت لتقضي الوقت كله في هذه الغرفة؟ اسمع! سأغلقها بيدي بعد أن تستيقظ من النوم وأحفظ مفتاحها معي ولا أسمح لك بدخولها إلا وقت النوم، أفهمت»؟ فأعداه بشرها وقال وقد شاع في كيانه السرور: «فهمت وسمعت وأطعت! والآن ماذا كنت تصنعين أنت في غرفة الاستقبال وحدك»؟ فدفعت رأسها إلى الوراء قليلًا وهزتهُ كما يفعل العصفور بعد أن يشرب وقالت: «أنا؟ أوه! لا شيء! وماذا عساني أفعل وأختي تأبى إلا أن تعدني ضيفة ولو أقمت معها العمر كله»! وفي هذه اللحظة سمعا صوت عجلات ووقع حوافر خيل، فأصغى إبراهيم؛ أما شوشو فنهضت إلى النافذة وأطلت منها ثم التفتت إلى إبراهيم وهي تقول: «الدكتور»! فوقف إبراهيم وقد غاض البِشْرُ من وجهه وسألها بلهفة وهو لا يفهم: «دكتور؟ هل مرض أحد»؟ فبادرت إليه وقالت: «لا، لا! إنه الدكتور محمود.. قريب ابن عمي (زوج أختها) ألا تعرفه؟ له عيادة في البندر ويزورنا من حين إلى حين، وكلماء جاء قريتنا يعود مريضًا، والآن سأذهب لأستقبله وأجيء به». – ليس إلى هنا وأنا في هذه الثياب أيضًا؟ فضحكت وقالت: «لا تخف! بل في الغرفة التي أمام غرفتك.. هذه (وأشارت إليها) أما ثيابك فما لها؟ إنك في قرية ولا حاجة بك وإلى تغييرها». ومضت تعدو ….
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/6/
«ارجعي، ارجعي، يا شولميت! ارجعي، ارجعي، فننظر إليك»
لم يسع إبراهيم إلا أن يطل من النافذة. ولم يكن يعرف هذا الدكتور ولا سمع به، أو على الأصح لا يذكر أنه سمع به، فقد كانت ذاكرته أشبه بالغربال الواسع الخروق، وكانت الأسماء أول ما ينسى إذا طال غياب أصحابها عنه، وكثيرًا ما كان ذلك يخجله، وكان ربما التقى باثنين من معارفه لا يعرف أحدهما الآخر فيمنعه نسيان اسم أحدهما، أو اسميهما معًا، أن يقوم بواجب التعريف، وكان إذا تحرج الموقف ولم يجد بدًا من أداء هذا الواجب، يلجأ إلى المداعبة ويقول لهما: «إذا شئتما أن تتعارفا فلا اعتراض لي ولكن لا تنتظرا مني معونة»! فيتقدم كل منهما للآخر باسمه في حياء واضطراب ويخرج هو بذكر ما كان ناسيًا! ولم يفارقه الوجوم منذ سمع كلمة «الدكتور» تندّ عن شفتي شوشو، إما لما تركه توهمه حين نطقت باسمه أن أحدًا قد مرض فجأة، وإن كانت شوشو قد بادرت إلى نفى ذلك وطمأنته، وإما لأنه لم يرتح على العموم لما ظهر له من أن شوشو تقابل هذا الدكتور وإن كان قريب عمها، وكان هو — إبراهيم — ليس من دعاة الحجاب، أو لأنه لم يجد في الساعات القليلة التي أقامها في الريف ما كان يتوقع من الإيناس والشواغل، أو لعله كان لكل ذلك تأثيره. ومهما يكن من تعليل سهومه فإن الذي حدث أنه لم يكد يخرج وجهه من النافذة حتى تراجع وأغلق مصراعيها الزجاجيين كأنما هذا ما قصد إليه، تم عاد إلى الكنبة ووضع رجلًا فوق رجل وأشعل سيجارة. وفي أثناء ذلك كان الدكتور قد ترجّل وترك المركبة في حراسة أحد الخدم ودخل البيت فاستقبلته شوشو في وسط السلم وصعدت به إلى الغرفة المواجهة لغرفة إبراهيم. وبعد هنيهة دخلت على إبراهيم فاطمة الزنجية التي كره وجهها وكلامها في الصباح، وقالت وهي مطرقة بها شيء من الوجل: تفضل يا سيدى …. فنحّى السيجارة عن فمه وأرسل نفخة من دخانها، وأمال رأسه إلى ناحية السيجارة — وكانت في يمناه — وقال لها بلهجة مبطنة بالمرارة: إلى أين يا ستي إن شاء الله؟ فأحست المسكينة أن حادثة الصباح ستتكرر، فقالت وهي مضطربة: عند ستي شوشو والدكتور. – ما أسرع ما نسيتني ستك شوشو بدكتورها: أنا أيضًا ضيف كالدكتور ولم أسبقه إلا بساعات. قال هذا بصوت خفيض وعينه إلى الأرض كأنما كان يحدث نفسه. ثم رفع رأسه إلى الخادمة التي كانت تخالسه النظر وقال: ألم تجد ستك شوشو من ترسله غيرك؟ لماذا لم تحضر بنفسها؟ – أنا … أنا … ياسيدي …. – أنت تخرجين من هنا … (بصوت عال). فخرجت المسكينة تتعثر وبودها لو استطاعت أن تحلف ألا تريه وجهها. أما هو فكان يود أن ينهض ويتمشى في الغرفة، ولكنِ الباب مفتوح وفي وسع من يكون في الغرفة المقابلة أن يراه، فظل قاعدًا وجعل يتميم: «قبّح الله الريف وساكنيه! لو أنها كانت فتاة من أجلاف الريف لعذرتها. ولكنها تعلمت في المدارس الفرنسية أيضًا، وليست بالصغيرة على كل حال حتى يُغتفر لها ذلك. الواقع أن مجيئي إلى هنا كان خطأ … يجب أن أعود أدراجي أو أرحل إلى الإسكندرية فهى من هنا قريبة … إن أعصابي ضعيفة ولا قِبل لي باحتمال هذه الفصول الباردة … وأنا لم أحتك بأهل الريف الحقيقَيين بل لم أر منهم غير رفيقى من المحطة إلى هنا … ذاك الميت الحي الذي لم يكفه إسماعيل واحد ولم يرض بأقل من ثلاثة! وهو مع ذلك وكيل مضيفي! كيف يمكن أن أطيق كل هذا الجهل والجلافة»؟ وكرّ به الفكر إلى ماري … ماري السمحة المؤدبة الوديعة، التي كانت تقرأ في وجهه كل ما يدور في ذهنه، وتسبقه إلى ما يطلب قبل أن يتحرك لسانه، ماري التي فر منها بلا سبب، وحرم نفسه متعة حديثها، وأنس محضرها ولذاذة حبها، ماري التي كان إذا خلا بها يجلس على ركبتيها كالطفل ويسند رأسه إلى صدرها، ويمسح لها وجهها براحته، وهي تحنو عليه وتقبله، وهو مغمض العينين! فنهض فجأة وقال وهو يشير بإصبعه: «كلا! لا بد أن أكتب إليها لتلحق بي في الإسكندرية …». – من هي؟ فالتفت فإذا شوشو واقفة في مدخل الباب، وذراعاها ممدودتان وكفاها على المصراعين، وقدّها الممشوق بادية معالمه كلها بفضل وقفتها، وثوبها الصوفي المحبوك، فبهت إبراهيم! كما بهت الذي كفر فيما حدثنا الكتاب الكريم، ولم يدر ماذا يقول أو يفعل. ولم يكن أسهل من التخلص، ولكن خياله النشيط جسّم له الأمر فارتبك، وبدا ذلك كأجلى ما يكون في جموده في مكانه، وفي ثبات حملاقه، وذهول نظرته، وانفراج شفتيه، وتصلّب يمناه المثنية على صدره. فزايلت شوشو ابتسامتها وتقدمت إليه وردت مصراعي الباب وراءها حتى تلامسا، ووقفت إلى جانبه تحدجه بنظرها، ثم قالت له وتكلفت الابتسام، وإن كان لونها ممتقعًا: ستحرق السيجارة أصابعك إذا لم تنتبه! وكأنما رد صوتها رشده إليه، فحنى رأسه وصوب عينيه إلى يده وقال: «نعم أشكرك» وبدا منه مثل حركة من يهِم بالقعود، وإن لم يكن وراءه شيء، فسندته شوشو بذراعيها فأفاق تمامًا والتفت وراءه ثم رفع إليها وجهه الشاحب المتهضم وقال: «أشكرك ثانية» فقالت وهي تقسر نفسها على الابتسام ولا تدري ماذا تهدي إليه: من حسن الحظ أن الدكتور هنا، وإني أستطيع أن أكون ممرضة عند الحاجة! فندت عن صدره «آه» قصيرة مثقلة، كأنها خارجة من صدر رجلِ طُعن وهو نائم. – يجب أن تجلس. إنك مريض وتناولت يده تجسها. – كلا! كلا! لست مريضًا. دعيني. ولكنه أطاعها وجلس وهو يتأفف، ويمر يده على وجهه. – إن الدكتور وحده …. – اذهبى إليه، حقيقة لا يليق أن تدعيه وحده. – لا أستطيع أن أتركك وحدك. ولكن انتظر. وخرجت مسرعة. وبعد دقائق عادت وأخبرته أنها صعدت بالدكتور إلى أختها ثم قالت: والآن أراك أحسن مما كنت حين تركتك. ألست كذلك؟ – نعم أحسن كثيرًا. – إذًا قم والبس بذلتك، فقد كلفتني حيلتي كذبة. فعليك أن تبيض وجهي. – أية كذبة؟ – لقد قلت لهما إنك مصر على عدم مقابلة الدكتور إلا في بذلتك، كذبة قلتها كسبًا للوقت لأني خفت أن تطول هذه الحالة التي رأيتك عليها. وكلفتني غير الكذبة شيئًا آخر، ولكني سأحاسبك فيما بعد. أما الاَن فالبس ثيابك وسأسبقك.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/7/
«أيتها الجالسة في الجنات. الأصحاب يسمعون صوتك فأسمعيني» …
صعد إبراهيم إلى غرفة الاستقبال العائلية التي جلس فيها بعد الإفطار مع شوشو برهة، فألفى الأسرة مجتمعة فيها: محمد الصغير ابن نجية يبكي — أو على الأصح تبكي حنجرته دون عينيه — لسبب لا شك يدعو إلى بكاء مثله، وفي كفه مرآة صغيرة ينظر فيها ويظهر أن الغرض من ذلك أن يرى في صقالها كيف يبدو الوجه الإنساني حين يبكي حامله! وكان يكف عن النشيج كلما استوقفه المنظر العام أو لفته منه شىء خاص، ثم يستأنف الإعوال! وكانت زينب أخته — أو زوزو كما ألفوا أن يسموها على عادة هذه الأسرة — معتمدة بذراعيها على كرسي، ومنحنية عليه وناظرة إلى مقعده، ومشتغلة بتحركيه إلى الأمام وإلى الوراء، وأمها نجية تلتفت إليها من حين إلى حين وتزجرها عن هذه الحركة، خوفًا على الكرسي، بمثل هذه الأصوات: «تؤ.. تؤ.. تؤ..» ثم تعودٌ وتحول وجهها إلى الدكتور إلى جانبها ولا تنتظر نتيجة زجرها، أما شوشو فلم تكن في الغرفة ساعة دخلها إبراهيم. ووقف الدكتور وتقدم خطوات، ومدّ يده إلى إبراهيم وتصافحا ورفع عمد عينه عن المرآة ونظر بمؤخرها إلى القادم في سكوت، ثم أكب عليها ومضى في عويله الذي يظهر أنه كان يجد فيه نوعًا من الإمتاع، ولكنه لأمر ما هبط بطبقة هذه النغمات إلى أدنى ما يستطيع. وتخلّت زوزو عن الكرسى وخفت إلى إبراهيم وتمسحت به وهو يسلم على الدكتور، كما تتمسح القطط بأصحابها. فاحتملها وجلس وأجلسها على ركبته، فأهوت على عنقه تطوقه وتقلبه في صمت تام وابتسام لم تكد تفوز بمثله من موضع عطفها وحبها حتى انقلب ضحكًا عاليًا. ودخلت شوشو في إثر إبراهيم — كأنما كانت مختبئة تنتظره — فأثارها الدكتور بنظره وتعلقت عينه بمرونة حركتها إذ تبدو كأن أوصالها ساكنة وهي تنساب كالجدول الرقراق، وكان قوسا حاجبيها الدقيقين الحادين يختلجان، وعينها تومض فيها نظرة عجيبة جمع بين عدم الاكتراث والخبث والدلال والسذاجة، وكانت شفتاها الرقيقتان تقلدان حاجبيها وتختلجان مثلهما، وكذلك جانبا أنفها الجميل. وإذا قلنا أنفها الجميل فقد قلنا كثيرًا؛ فما أندر الأنوف الجميلة وإن كثرت العيون الفاتنة والشفاه المغرية. وإذا أضفت إلى هذا وذاك خصلًا متموجة من الشعر الأصفر، وثوبًا من الصوف داكن الحمرة منسجمًا على قوامها، أمكنك أن تكوِّن لنفسك فكرة ولو ضئيلة عن هذه الفتاة التي صارت في هذه الغرفة كالزهرة بين الخضر! وتخلى لها الدكتور عن مقعده، ومضى إلى آخر الغرفة ليأتي بكرسي لنفسه، فابتسم إبراهيم الذي تظاهر بالتشاغل بمداعبة زوزو — إذ رآه يمشي وأحد كتفيه إلى الأمام ورأسه مائل إلى اليسار وذراعاه تضطربان في الهواء كأنما خّلَتَا من الأعصاب أو كأنهما كمّان فارغان. وبعد تبادل التحيات وما هو منها بسبيل، قالت شوشو وهي تنظر عن عَرَضٍ إلى إبراهيم، وكان مطرقًا يهمس في أذن زوزو، وإن لم يفت عينه ولا أذنه شيء: ما قولك يا دكتور! اليوم الجمعة وهو يوم راحتك. فاقضه معنا فإن ابن خالتي يمل مجالستنا ويهرب منّا دائمًا إلى غرفته. فلم يبد على الدكتور كأن هذا يضايقه جدًا وقال: ولكن.. – قل إنك موافق … أسرع. قالتها بلهجة لم يسع الدكتور معها أن يظل لسانه معترضًا على ما يوافق عليه قلبه فقال: إذ كان الأستاذ (فرفع لإبراهيم وجهه ونظر إليه نظرة بلهاء جوفاء) لا يرى في وجودي ما يزيد من ميله إلى الهرب فإني على أتم استعداد …. – معذرة يا سيدي الدكتور إذا قاطعتك. يظهر أنك لا تعرف أساليب شوشو المحرجة (ضحك مكتوم من شوشو) أؤكد لك أنها لا تعني ما تقول … أنا أعْرَفُ بها منك. – بل أعرف كل حرف. – نعم، تعنين أنك تطلبين إلى الدكتور أن يقضي اليوم معنا — أعني هنا — ولكن الباقي الذي يخصنى ليس سوى عبث منك بي وحدي. – سله يا دكتور بذمته أليس في عزمه أن يطير إلى الإسكندرية حالًا لو أنه يستطيع؟ فمالت نجية إلى الأمام وحملقت في وجهه ثم في وجوههم وقالت: يسافر؟ كيف؟ وهل أقام شيئًا حتى يفكر في السفر؟ – سليه يا أختى (بخبث). فقالت نجية بلهجة من كاد يهتدي إلى السر: «أتراك رأيت …». ولكن شوشو قاطعتها ضاحكة: لا، لا: إنك لا تنسين عفاريتك قط! أنا أعرف السبب! ورمت إلى إبراهيم نظرة. فقال إبراهيم بصوت اليائس: «ربما» واضطجع في كرسيه وأطبق شفتيه إطباق من لا ينوي أن يفتحهما مرة ثانية. وفتر الحديث لأن الدكتور لم يسعه أن يشترك في هذه المناقشة العائلية، ولمح أن إبراهيم لا يحب أن يتوسع فيها. ورأت شوشو أن إشارتها إلى ما سمعته عفوًا من إبراهيم وهو يحدث نفسه في غرفته قد أعادت إليه الاكتئاب، فندمت وصار الكلام متكلفًا متقطعًا. وكان الأفق قد غام وانتشرت سحابة كثيفة واحدة في مجاليه، وبدأت تهمي وترسل صفحات متموجة من المطر ترق حينًا وتكثف حينًا آخر. وجعلت الأشجار المغروسة وراء البيت تتوجع كالبؤساء من الرياح التي تعصف بها وتصفر بيها، ثم طغت الرياح حتى صارت الجذوع الوطيدة تهتز وتروع الناظر إليها بهذه الحركة التي لم تعهد منها، كما يروعك الرجل القوى حين يبكي، وراحت الغصون المتدلية تتصعد وتتصوب، والفروع العالية المستقيمة تتلوى وتترنح وتبدو كأنها توشك أن تتقصف، واضطربت مهابُّ الرياح وتعددت تياراتها وتعارضت، حتى صارت الأغصان المتقاربة في الشجرة الواحدة من هذه الأشجار تميل كل مميل وتتضارب وقد تشتبك، وجعلت الأوراق — ما بين خضراء وصفراء تتطاير عن أعوادها وتتفاذف ثم تسقط فروع الزروع. وأظلمت الدنيا وصار وقع الماء على زجاج النافذة كنقر العصي، وكانت روعة هذه الثورة قد تركت القوم صامتين برهة، ثم قالت شوشو وفي وجهها أمارات الفوز وفي صوتها نبرات السرور: والاَن يا دكتور لم يبق لك مفر من البقاء! ونظرت إلى إبراهيم تبتغي تأييده. ولم ينتظر الدكتور هذا التأييد، فأرسلها ضحكة عالية لم يفهم إبراهيم لها معنى، ولم يعرف لها داعيًا! وبدا له أن من سوء التقدير أن يضحك المرء وهو محبوس من جراء هذا الجو العاصف، فأخذ يراقب الدكتور ويحصى عليه حركاته وأنفاسه، فخيل له — ولعله غير مخطئ — أن الدكتور يتغفله ويلاحظ شوشو باسمًا حتى وهو يكلم غيرها، ولم يزل حتى أقنع نفسه بذلك، ثم صارت المسألة التي تتطلب الجواب: هل وجه شوشو يزداد احمرارًا أو يشحب أو يثبت ولا يتغير على كثرة هذا اللحظان وتكرره؟ وهل هي ترامقه أيضًا، أم هذه الاختلاجات التي يراها في جفونها عفوا لا عمد فيه؟ وعلى كثرة ما فكر في ذلك وطول ما شغل به نفسه لم يستطع أن يطمئن إلى جواب يسكن به إليه. ولما أعياه جواب هذه الأسئلة وأمثالها نفض يده من معالجتها كالسأمان واعتاض منها سؤالًا آخر عنَّى به نفسه برهة أخرى في خلال هذه الجلسة التي طالت بفعل الجو الفاسد: ما له يتعب نفسه بالتفكير في ذلك؟ ليترامقا ما شاءا! وهل يعنيه من أمرهما شيء؟ وكان الجواب الذي لم يسترح إليه أنه حب الاستطلاع المركوز في طبيعته، وأنه مفطور على دقة الملاحظة، وليس يسعه إلا ذلك ولا حيلة له فيه، وليس من الضروري دائمًا أن يكون وراء هذا سبب آخر. أو علة خفية. وأي شيء هناك يمكن أن يكون خفيًا؟ لا شىء على التحقيق! فهز كتفيه ومطّ شفتيه واعتدل فوق كرسيه ووطّن نفسه على الضرب في زحمة الحديث. وإذا به يرى شوشو تكاد تسقط عن كرسيها من شدة الضحك، والدكتور يبتسم — ابتسامًا هو أقرب إلى الضحك المكتوم فيما يرى — ويسألها ما لها؟ ونجية مرتجّة الأنحاء مما أصابها من عدوى الضحك، وكفها على ذلك الجانب من فمها الذي يواجه إبراهيم. فلم يفهم، وهمً — تنفيذًا لعزمه — أن يضحك مثلهم، ولكنه أطبق شفتيه بعد أن فتحهما لما لمح من حركات شوشو ونظراتها وإشاراتها أن شيئًا فيه هو الذي يضحكها، فأسرع فأدار عينيه في ثيابه، فلم تأخذ شيئًا غريبًا، فعاد فرفعهما إليها وهزّ رأسه هزّة خفيفة كالمستفسر فلم يلقَ جوابًا سوى هذا الضحك، فشعر بالدم يصعد إلى رأسه ويتجمع فيما وراء عينيه ولكنه ضبط نفسه وردها بجهد، ونجية تضحك قليلًا ثم تسألها: «مالك»؟ والدكتور يتلفت متظاهرًا بالاستغراب، يضرب كفًا بكف، ومحمد وزوِزو يقهقهان وينحنيان وتخذلهما أرجلهما فيقعان على البساط، وأخيرًا خرجت شوشو تعدو منحنية وكفها على شفتيها يقول «بف بف»! ومضت دقائق خيلت أطول مما هي، ولم تعد شوشو فنهض الدكتور، وكان أظهر الجميع قلقًا وتلفتًا، ومشى إلى النافذة حيث وقف هنيهة يتأمل السماء المربدة والمطر ينهمر ولا يكاد يرى شيئًا، ثم عاد ويسراه في جيبه ويمناه تعبث بسلسلة الساعة الذهبية وقال: «سأنظر أين ذهبت شوشو» وخرج فألفاها أخيرًا واقفة على رأس السلم مستظلة من المطر بدورته المؤدية إلى السطوح، ومتكئة على حاجزة، وسمعها وهو يدنو مها تغني بصوت خفيض فاقترب منها على أطراف أصابعه ووقف على مسافة قريبة منها معلقًا أنفاسه، مخافة أن تنتبه إلى وجوده فتحرمه المنظر والمسمع جميعًا: والقارئ لابد يعلم أن الرجل إذا وقعت من نفسه امرأة فهو يحضرها إلى ذهنه في صورة هي أحب إليه مما عداها. لأن هذه الصورة تكون أعلق بذاكرته وتكون هي المظهر الذي تبدو فيه لخياله حين يتمثلها. وقد اختارت صورة شوشو هذه الهيئة التي رآها الدكتور عليها في ذلك المكان، وصارت تزوره فيها في كلا نومه ويقظته. والمنظر عبارة عن فتاة أقرب إلى الطول منها إلى القصر، في ثوب من الصوف قرمزي لاصق بالبدن بحيث لا يفلت شيء بينما هي منحنية بجنبها الأيمن على حاجز السلم، ومعتمدة بخدها الأيمن على كفها، وبكوعها على هذا الحاجز. أما راحتها اليسرى فمطبقة في خصرها الذي يبرز من تحته ردفاها مرتفعين مائلين إلى اليسار قليلًا، وجيدها الأتلع النضير قد انثنى عليه القرط تحت شعرها الذهى المقصوص. وهذا ما كان باديًا منها لعين الدكتور حيث وقف يرجو أن تظل كما هي لا تشعر به ولا تتحرك ولا تكف عن الغناء. ولكنها تحركت! إما لأنها أحست به وإما لأن الوقفة أتعبتها أو أملتها. فرأته فصبغ الدم وجهها وارتدت، ولكنها لم تتجهم له وقالتْ وفي عينها نظرة عتب ورضى في آن: آه! ألك هنا كثير؟ فدنا منها خطوة: «لا! مع الأسف»! فلم ترده عن الدنو ولم تحاول أن تتحول عن مكانها لتحفظ المسافة الأولى بينها وبينه، وقالت وكلتا يديها وراءها على الحاجز وصدرها بثدييه المستديرين بارز: أكنت تسمع؟ فقال برقة، ومدّ رجله لخطوة أخرى لم يخطها: ربما كنت أشد التفاتًا إلى مصدر الصوت. فقالت بلهجة من يستزيده مما يحرم عليه: لا تقل هذا يا دكتور! – ولماذا؟ إنك تعرفين إعجابى بك. فلم يبدُ عليها ما يدل على الارتياح إلى إعرابه عن هذا «الإعجاب» وودت لو أنه استخدم في وصف شعوره لفظًا أقوى من «الإعجاب» وقالت بلهجة أقسى مما كان ينتظر إذا اعتبرنا ما مرّ إلى الآن: كلا! هذا لا يليق. وأنت تعلم أنى محقة! فدهش — وهل كان ياترى من حقه أن يدهش؟ ولم يدر ماذا أغضبها فجأة وقال: ولكن يا عزيزتي.. فقاطعته بلهجة أشد قسوة: لست عزيزة أحد من فضلك! وكأنما آلمها أن تكون عزيزة أحد، وإن كانت هي التي حرمت نفسها هذه المزية، فحل الاكتئاب محل الغضب في أسارير وجهها الذي بدا كأنه طال فجأة، واحمرت عيناها أيضًا حتى ليظن من يراها أنها حديثة عهد بالبكاء، أو أنها مشفية عليه. فلم يسعه إلا أن ينقل رجله الأخرى ويخطو الخطوة التي كان همّ بها وصدّه عنها ما لا نعلم، وتقدم منها وكاد يلصق بها فنحت عنه وجهها ومنحته كتفًا، فتناول يسراها بين راحتيه فلم تسحبها وقال وفي صوته نبرات الأسف والألم الصادقين: ولكني لا افهم! بأي شيء أسأت إليك يا عزيزتي؟ – قلت لك لست عزيزة.. عزيزتك! فلم يفهم أيضًا! وأنى له أن يطلّع على ما تطوي عليه أضلاعها وهو لم يرزقه الله تلك الفطرة التي تهديه إلى اللفظ الذي يكون أوقع في نفس المرأة وأعذب في سمعها موافقة لهواها؟ وأراد أن يصلح ما فسد فزاد الطين بلة: حسن! لن تسمعي مني هذه الكلمة التي تكرهينها، فلا داعي للفتور. ولكن قولي لي كيف أدعوك؟ فسحبت يدها التى كانت قد تركتها له وقالت: ادعنى باسمى! لماذا تدعوني بغيره؟ – اتفقنا إذًا …. وابتسم، وأبى له سوء الحظ وعماه في هذه اللحظة الدقيقة التي كان يمكن أن تنعكس فيها الآية، إلا أن يزيد «يا شوشو». فرفعت عينها في وجهه ساخطة زارية وخرجت دون أن تجيبه. وتخلف هو برهة ثم لحق بها وهو يقول: ما أعجب أطوار النساء! ولو أنه كان تبعها حين خرجت لسمعها تقول لنفسها: ما أشد غباوته!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/8/
«يغمز بعينيه، يقول برجليه، يشير بأصابعه، في قلبه أكاذيب»
جاء وقت الطعام فجلسوا إليه في غرفته، أو على الأصح في الردهة الفسيحة التي تحيط بها الحجرات، ولم يكن ثم سوى مائدة مربعة وبضعة كراسي من الخيزران. وكان إبراهيم قد سبقهم ولكنه تلكأ عند باب السلم ووقف — حيث كانت شوشو منذ برهة! — يتأمل الجو ويمد ذراعه ليتلقى بكفه المطر الذي كان لا يزال ينهمر، ويحاول أن يرفع وجهه ليرى السماء وهل رقت السحب فيها أم لاتزال كثيفة حالكة، فنظرت شوشو إلى الدكتور، ونظر الدكتور إلى شوشو وقد طاف برأسيهما خاطر واحد. وقال كل منهما لنفسه: «أتراه رآنا أو سمعنا»؟ وزادت شوشو فعجبت للأقدار التي جعلتها هي تسمعه في الصباح وجعلته هو — فيما تظن — يراها أو يسمعها بعد ساعات! وقالت نجية: «يظهر أنه لم يجع». فقالت شوشو، ونهضت عن المائدة: بل يظهر أنه ينتظر المن من السماء. ومضت إليه وأمسكت بذراعه وجرته معها وهي تقول: هكذا يجب أن تعامل، اجلس هنا! وكان الدكتور حسن الحظ فقد جلست شوشو إلى جانبه. وكان من بواعث سروره الحقيقي أو المتكلف أنه أصر على اتخاذ كوب سهت شوشو فشربت منه وإن لم يكن كوبها! وإن القطة التي لبثت هنيهةَّ في حجر شوشو انتقلت إلى حجره وألمسته شعرها الذي لمس كف شوشو من قبل. يضاف على ذلك أنه همّ أن يساعده، وحمل إلى طبقها شيئًا من الخضر رفضته فنقله إلى طبقه بعد أن كاد يلمس طبقها! وكان من حين إلى حين يختلس نظرة إلى جانب وجهها وإلى جيدها وغير ذلك من بدائع هذه الفتاة التي ظلت أكثر الوقت تلقي الحديث إلى إبراهيم الجالس أمامها. وكانت فاطمة تتوخى أن تقف وراء إبراهيم مخافة أن يراها، وستّها شوشو لا تفتا تدعوها أن تنحى عنه لئلا تلوث ثيابه وهي تضع الصحاف أو ترفعها عن المائدة، فتشير المسكينة إلى شوشو بيدها وتعض شفتها السفلى وتومئ بعينها إلى إبراهيم فيضحك منظرها شوشو، ويدير إبراهيم وجهه إلى فاطمة فتجمد وتنقطع حركاتها وإشاراتها وتقول نجية: دعيها يا أختى فإنها مستحية. وفرغوا من الطعام فأشعل إبراهيم سيجارة، وكان الدكتور يهم بالقيام عن المائدة، فلما رأى السيجارة عاد فوطن نفسه على البقاء، ولمح إبراهيم ذلك فقال: لا تكلف نفسك هذه العادات الإفرنجية يا دكتور إننا هنا — على رأي شوشو — في الريف وعلى أننا — معاشر المصريين — لا نتحدى هذه العادات حتى في العاصمة، ويمكنك أن تسبقنا إذا شئت فإني باقٍ هنا مع بنت خالتي «وأشار بعينه إلى نجية». اذهبي يا شوشو معه. قالت شوشو للدكتور لما صارا وحدهما في غرفة الجلوس: إن هذا حسن بلا شك؟ – ماذا؟ – أظنه يسرك جدًا؟ – ولكن ماذا؟ – ألا تستطيع أن ترى أن ابن خالتي رآك واقفًا معي وسمع ما تفضلت علي به. – ولكن كيف يمكن؟ وهبيه رأى وسمع فماذا إذًا؟ فيما قلت شيء لاينبغي أن يقال؟ – بلاشك. – يظهر أن قلبي لن يستطيع أن يصلح ما أفسده لساني! فيا له من زمن يتعقب سوء الحظ فيه الرجل من أجل أنه لم يقدر أن يغمط امرأة؟ لأنه أعرب لها عن إعجابه بجمالها؟ أو كان عليّ أن أكابر وأن أزعم أني أكره دمامتك؟ يجب أن تعترفي أنه ما كان يسعنى أقل مما قلت. فمضت شوشو إلى النافذة لتخفي أمارات السرور الطبيعي الذي لمع في عينيها ورجفت له شفتاها. وقالت وهي سائرة: أحسب أن من واجبي أن أشكرك يا دكتور؟ فتبعها وهو يعبث بسلسلة ساعته وقال: إن من الثناء ما هو إساءة أدب، وقد يكون هذا من ذنوبي. ولكن من المعاملة ما هو ظلم، وقد تكون معاملتك إياي من هذا القبيل. رجل صريح لم يألف المكاتمة يجهر برأيه فيعد من أجل ذلك سيئ الأدب! فقالت ووجهها إلى النافذة: لست أسمح للأغراب أن يجترئوا علي حتى بالمديح. فقال بلهجة الظافر: آه! إنه ليس المدح الذي تستحقين أضعافه هو الذي يغضبك بل صدوره عني! ولو أن غيري — إبراهيم مثلًا — كان محلي. فتهجمت له وقاطعته: إني أمنعك! إنه ابن خالتي، بل أخي وأعز أهلنا علينا، وهو لا يحلم بأن يفعل ما فعلت. فلم ينهزم أمام هذه التعبيسة وضاعف الحملة: إن من بواعث اغتباطي على كل حال أن أعلم أني صادق في وصفي لك رضيت أم سخطت. وهل كنت ترين أن أراك ثم أذهب وأتحدث عن دمامتك لا لسبب يسوغ هذا الكذب الشنيع سوى أن أعفيك من الارتباك والخجل حين تسمعين أنك جميلة؟ فزادت تعبيسًا وقالت بصوت مرتفع قليلًا: إن هذا كله تكلف. وأنت تعلم — كما أعلم — أنك لم تقل لي إني.. – لقد قلت إنك جميلة. – كلا! هذا كذب. – وأقول ذلك الآن.. وإنك لكذلك. بل أنت أجمل من رأيت.. ويمينًا …. – لا تحلف فلن أصغي إليك. إنك فظيع. ووقفت مضطربة بين الخجل من سماع ذاك والرغبة في الاستزادة منه. أما هو فلم يعبأ شيئًا بمقاطعتها ومضى يشد عليها ويقول: أكرر أنك من أفتن النساء. فهل في هذا كذب؟ إن الأمر واضح لا خفاء به. وقد يكون في قولي هذا اجتراء، ولكن الإخلاص شفيعي. – كلا. لانك غير صادق. – مهلًا مهلًا يا شوشو! واسمحى لي أن أُكابر هذا الأدب وأعجب به إعجابى بجمالك. ولا أحسبني أول من وصفك بهذا. ويجب أن تصدقي الناس إذا لم تصدقيني. فلم تستطع أن ترد نفسها عن مسايرته إلى حيث يجرها فقالت: إن الناس لا يقولون عني ذلك. – بل لابد أنهم يفعلون وإلا كانوا عميانًا. – أعني إني لا أسمعهم فإنك تعلم أني لا أقابل غير أهلي، ولعلى مخطئة في السماح لك برؤيتى. فلم يلتفت إلى الشطر الأخير من كلامها، ولم يسمح لها أن تزحزحه عن موقفه وقال: ولكنك تعرفين أنهم يقولون هذا؟ فأغرتها حلاوة الاعتراف بالموافقة، وصدها التأدب والحياء فاضطربت: «لا — أعني — سمعت فاطمة تقول إنهم يذكرونني بذلك … غير أن..» ولمحت أختها وابن خالتها مقبلين، فنبه ذلك في نفسها طبيعتها العابثة، وأمسكت عما كانت فيه وقالت بصوت عالِ: إذًا نحكّم ابن خالتي. تعال افصل في الأمر. فريع الدكتور واصفر وجهه ودارت الأرض به، ولم يعد يدري أواقف هو على رجليه أم رأسه، وتلفت كالذي يبحث عن نافذة يثب منها، ولم يستطع أن يمنعها أو يقول لها شيئًا لأنها باغتته بما لم يكن له في حساب، ولم تزد على أن ألقت إليه نظرة خبيثة ثم تقدمت إلى الباب. وقال إبراهيم: «ماذا؟ فيم تختلفان»؟ وكان الدكتور لا يزال واجمًا. ممتقع اللون مسمّرًا في مكانه، وقد بدا لنفسه سخيفًا جدًا لا يدري بأية قوة يواجه الموقف المخجل الذي تهم شوشو أن تضعه فيه. فقالت شوشو — وهي ترمي إلى الدكتور بالنظرة، وتمتع عينيها بمنظره وبما يكابد من ألم وحيرة وخوف: إنه يقول لي … ويكرر … ويؤكد.. ويقسم.. إني.. إنه.. فعيل صبر الدكتور وصاح بها: «شوشو»! – لا تقاطعني من فضلك. يجب أن يعرف ابن خالتي هذه الحماقة. فقال إبراهيم عابسًا: حماقة؟ ماذا تعنين يا شوشو؟ – أعني إنها حماقة وجرأة وجنون. ولا بد أن أبسَط لك الأمر ليتأتى لك أن تحكم، فأمسك أنت أيضًا عن المقاطعة من فضلك. ثم كأنها رثت للدكتور المسكين، فكفت عن تعذيبه وقالت: يقول إنه لا يستطيع البقاء معنا، وإنه لابد له من العودة إلى المركز لأن عليه أن يعود أحد المرضى مهما كانت المشقات. وأنا أقول له إن العودة مستحيلة في هذا الجو المطير. فاقض بيننا بالحق. وجلست. فجلس الدكتور كأنما قد انقلب آلة حاكية، ولم يسرِّ عنه ما قالت لأنه — على فرط ذهوله — أدرك أنها تبيعه صمتها بثمن معين هو أن يجلو عن البيت حالًا. فيا لها من عقوبة تنزلها به جزاء له على ما اجترأ به عليها من المغازلة البريئة؟ أفتراها كانت — وهي تعاطيه الحديث — تفكر في هذه الوثبة التي قصمت ظهره، وأطارت لبه، وشردت عقله؟ ويا ليت من يدري أجادَّة هي أم هازلة؟ وعلى أنه لم يطل التفكير في تلك اللحظة، ولم يسعه إلا أن ينزل على حكم المقادير التي جعلته رهن مشيئة شوشو، على الأقل في هذا الموقف، فهزّ رأسه لنجية وإبراهيم أن «نعم» وبلع ريقه ومدّ يده إلى جيبه ثم أخرجها وقال: «لقد كنت ناسيًا فأذكرتني المفكرة وأنا أنظر فيها عرضًا. وأنا أعلم أن الخروج في مثل هذا الجو حماقة، ولكن واجب الطبيب فوق راحته». وأظهر الإصرار وراح يدفع «بالواجب» و«بحالة المريض» كل اعتراض حتى أذنوا له بكرههم.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/9/
«من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صر المياه فى ثوب؟»
انقطع المطر وسكنت الريح، وكان إبراهيم واقفًا إلى نافذة غرفته يطل على الحديقة التي مر بك الكلام عليها، أو على الأصح يحدق في الظلام الدامس والسكون الرهيب اللذين لفت فيهما الكون، حين دخلت عليه شوشو ودنت منه ووقفت تتأمله، وهو لاهِ عنها بما يرسمه له خياله النشيط. وكان البرد قارصًا والليل صامتًا لا حركة فيه ولا حس، كأنما استحال كل شيء في السماء والأرض صورة مرسومة، وقد خيّل إلى إبراهيم وهو يرمي هذا السواد بعينيه كأن هاوية من الخرس قد ابتلعت كل صوت ونأمة، وأنه لو أرسل في ظلمتها صيحة لما ارتد منها إلى الأذن رجع ولا كان لها صدى، وأنه لو ألقى فيها بحجر لما سمع له وقعًا ولا بلغ الحجر قاع الهاوية، وبدأ له كأن الأرض قد ضرب عليها السحر شيطان وألزمها حالة غير إنسانية يعيى الإنسان نعتها، أو كأنها في غيبوبة أفقدتها وعيها أو كأنما هو ينظر إلى الدنيا الذاهلة عنه من خلفها ويتأملها وهي مدبرة عنه أو يسترق السمع من وراء أستار الكون. وعالج إبراهيم، وهو ثابت الحملاق، أن يصور لنفسه وقع هذا المشهد الرهيب وما انطوى عليه من الجمال والجلالة والموت في آن، وأن يتبين نوع إحساسه به، وأن يهتدي إلى العبارة عنه فأعياه التماس ذلك، وماذا عسى أن يبلغ من طاقة المرء على تصوير هذا المنظر المسحور — هذه الدنيا التي أنامتها عين غير مرئية؟ وطال الأمر على شوشو أو لعلها خشيت أن تعديه الطبيعة فيجمد وينقلب تمثالًا، فقد جعلت تمر كفها على ذراعه وتمسح له شعره براحتها، وهو في شغل عنها، فلما رأت أن ذلك لم يرده إلى الحياة ولا أشعره وجودها أدارته إليها وربتت له خده فاختلجت شفتاه ولكنه لم ينطق، فافترت له عن أعذب ابتساماتها وقالت له وهي تجره إلى الكنبة: قل لي مالك؟ فقال وهو يقعد أو يلقي على الأصح بنفسه على الأريكة: تسألينني ما بي؟ بي هذه الطبيعة التي كانت منذ ساعة تبرق وترعد وتمطر وتصخب كأنما يعول فيها مائة ألف شيطانة ثم آضت كما ترين، الآن فقط فهمت ما كنت أقرأ في صباي عمن مسخوا حجارة! – هل تريد أن تقول إن هذا أول عهدك بمثل ذلك؟ – نعم، ولشدّ ما أتمنى أن أجرب ذلك في نفسي لحظة واحدة! لحظة واحدة تسكن فيها نفسي هذا السكون فتخرس ألسنة الهواتف وتّمحي صور الحوادث، ويغيض ذلك العباب الجائش هنا في صدري هذا. فقاطعته شوشو قائلة: ما أعجب أمرك والله! تكون معنا كأنْ لا شيء على وجه الأرض يعنيك ثم لا تكاد تخلو بنفسك حتى تنقلب إنسانًا غيرك، كأنّ في جوفك بركانًا يريد أن ينفجر، أفلا تفضى إلى بما يكربك؟ قل لي! هات ما عندك! أطلعني على دخيلة نفسك! ائتمنّى على سرك. فوقع من نفسه عطفها وحنوها، وهمّ أن يبثّها شكواه ويقول لها بشجوه ولكنه ضعف لم يساوره إلا ريثما التفت إليها، ثم ملك نفسه وكبحها. وقال — وعلى فمه ابتسامة سرور وشكر لم تخلُ من ذلك السخر: يا فتاتي الصغيرة أتقدرين أن …. فحزّت هذه الابتسامة في نفس شوشو ووثبت إلى قدميها وهي تقول: بودي ألا تتكلم كأنك شيخ هرم وأنا طفلة أحبو؟ – لا تغضبي! (ومد يده فتناول ذراعها) عودى إلى مكانك بجانبي. دعي بداوتي هذه. لا تلتفتي إليها. إنها مرارة النفس يقطر بها اللسان وينضح بها الوجه وتفيض بها العين، وبكرهي أن تري مني ذلك أنت أو سواك من خلق الله — آه يا شوشو لو تعلمين! إذًا لعذرتني. – وماذا يمنعك أن تخبرني فتطرح عن صدرك هذا الحجر؟ – يمنعني كبرياء نفسي وعلمي أن الشكوى عبث وباطل ومحال ليس يُجدي. – أدام الله عليك الكبرياء التي أفاضها عليك! ونظرت إلى ساعتها على معصمها وقالت: الساعة الآن الحادية عشرة فقم إلى سريرك والتحف بها! فضحك وقال: وأنت؟ هل أثقل رأسك النعاس؟ – أوَيعنيك أن تعرف؟ – بلاشك. – إذًا اعلم أني لست ذاهبة لأنام. – وماذا تنوين أن تصنعي؟ – سأجلس قليلًا وأفكر. – في أي شيء؟ – ليس لي مثل كبريائك فلا أكتمك أن سأفكر في غرابة أطوارك. – آه! أوَ لاتزالين غضبى؟ – كلا. ليس ما بي غضب. لقد كنت أود.. على أن هذا لا يهم الآن. فخطر له أن هذه الفتاة على صغر سنها متعلمة وأنها قد تستطيع أن تفهم وأن تعذُر فقال: اسمعي يا شوشو. إن الواحدة تكون طفلة وتدّعي لنفسها مع ذلك قدرة الأنبياء ومنزلة الرسل …. قالت مقاطعة: «لا أفهم». قال: «لست وحدك التي لا تفهم. إن كل امرأة مثلك لا تستطيع أن تخرج من خصوصها إلى العموم. إن قلب الواحد منكن يدق عطفا ومرثية للألم الفردي، ولكنه يعجز عن أن يجعل عطفه أو إحساسه على العموم عميقًا شاملًا لاَلام الحياة..». فابتسمت وهزّت رأسها وقالت بلهجة مبطنة بالسخر: صدقني إني أعطف عليك. فقال ولم يلتفت إلى سخرها: إن الجنس الإنساني معناه — فيما تعلم المرأة — هذا الطفل المعين أو هذا الرجل المعين الذي لعلها أبصرته واقفًا إلى جانب الباب ينتظر في البرد أو تحت الشمس مثلًا. إن المرأة عاجزة عن الإحساس بالآلام العامة، عمياء لا تستطيع أن تراها. هذه هي الدنيا نصف عمياء نصف مستوحشة تصرخ شرقًا وغربًا وقد أجنّها الألم والخطيئة أيضًا. فهل ثم امرأة واحدة يشحب وجهها إذ ترى هذا النمر العالمي يهز قفصه؟ هل تكف واحدة منكن عن نظم العقود وتطريز الثياب من فرط إحساسها «بجملة» هذا الألم العالمي؟ أريني دمعة واحدة أراقتها امرأة — كما أراقت كورديليا عبراتها — لأن الدنيا جنت؟ ليس من بينكن من ترى أن تبكى من أجل هذا؛ على كثرة دموعكن وسهولةِ إسبالها! إنكن لا تبكين إلا لما تعرفن وأنتن معذورات: طفل مريض تلمسه المرأة بأصابعها فتحس ما به من الحمى فتنهمر الدموع! ولكن مليونًا يمرضون! هذا شيء آخر! والأولى أن ينتفر المرء منكن أن تبكين من أجل الكسور العشرية أو المركبة إنكن لا تفهمن الدنيا باعتبارها وحدة وكلًا، ومن أجل هذا لا تتأثر بكن هذه الدنيا لأن الواحدة منكن لا تقدر أن تتسرب في المجموع وتفنى في الجماعة. نجد فيكن الأم الرؤوم، والزوجة الوفية الكاملة، وقد نرى فيكن الولية والقديسة، ولكنا لن نفوز منكن بنبي أو رسول — لا حتى ولا بشاعرة. وأمسك بعد هذه الخطبة الطويلة، وعجب لنَفَسِه الذي ساعفه على كل هذا الكلام، واضطجع وأطبق شفتيه. ولم تجبه شوشو بشيء بل نهضت وأغلقت الباب وراءها. «النوم قد جفاني ولا سبيل إليه الآن مادامت، هذه البقرة قد شاءت أن تعد الصباح قد طلع. والجلسة هنا — إلى صباح الآدميين لا صباح البقر — كلفة شاقة. وإذا كان الحظ قد رمى بي إلى هذا الريف الذي يبكر ناسه في النوم وتبكر أبقاره في اليقظة، فالرأي أن أخرج إلى هذه الحديقة التي أفسدتها البقرة وأن أنتظر فيها الفجر لعله يوحي إلى بعض معانيه». ولما انتهى إلى هذا الرأي أسرع فلبس معطفه وحذاءه وأخرج من الحقيبة مذكرته وقلمه وفتح الباب وخرج وأغلقه خلفه ولكن من أين؟ وكانت البقرة تواصل الصخب فأراد أن يسرع ليدركها ويثأر منها. غير أن الاهتداء إلى باب السلم المؤدي إلى الحديقة استغرق من الوقت وكلفه من المتاعب ما لم يكن يخطر له ببال. وكانت الغرف كلها موصدة حتى غرفته، والمكان مظلمًا. وكان ظنه أن هذه الصالة فارغة فإذا به يحسها مكتظة؛ فقد كان ثمة دلو ثقيل اصطدم به أكثر من عشر مرات في لفه ودورانه حتى انتهى إلى وجوب حمله معه وهو «يطوف» في أرجاء هذه الصالة التي أصارتها الظلمة لا أول لها يُعرف ولا آخر لها يوصف، وراح يعزي نفسه عن حمل هذا الدلو الثقيل بأنه سيضرب البقرة به. ولكن كيف يهتدي إلى الباب وهو لم يكد يخطو خطوات في الصالة ويصطدم بالدلو لأول مرة حتى اختلط عليه الأمر ولم يعد يعرف شرقًا من غرب بل لم يعد يعرف أين باب غرفته هو؟ ووقف برهة يفكر في المخرج من هذا التيه فبدا له أن الإشكال يحل بأن يلتمس الحائط ويسير على محاذاته فإنه إن فعل ذلك لا محال موفق إلى الباب، ففعل بلا عناء يستحق الذكر وسار كما اعتزم. غير أن الواقع أنه بدأ بباب السلم وهو يحسبه باب غرفته وراح يمضى عنه لا إليه، والتقى في طريقه بما لا يذكر أنه رآه في النهار أو في اللحظات القليلة التي اجتاز فيها هذه الصالة قاصدًا إلى غرفته أو خارجًا منها، وتعثر بما حسبه «غابة» من القوارير حتى لم يجد معدى عن أن ينأى عن الحائط مرغمًا، وسار بضع خطوات فإذا به يلتقي بقوارير توهمها غير الأولى فضحك وقال لنفسه لعل أرض المكان قد فرشت بالقوارير! وصادف بعد ذلك برميلًا. نعم برميلًا؛ فوقف يعجب ويتساءل هل قررت شوشو أن تقلب الصالة حانة خمَّار؟ وملّ هذه البراميل والقوارير فقال أترك الحائط وأرمي بنفسي في جوف الصالة وأدفع أول باب أبلغه، ألم يقل، بشار: «وفاز بالطيبات الفاتك اللهج»؟ فكان هذا فاتحة التوفيق. ذلك أنه وجد بابًا لم يعن نفسه لفرط ضجره بالتساؤل عنه أيَّ باب هو؟ وعالجه فانفتح فإذا به باب سلم فصافح وجهه نسيم الليل المقرور وأعاد إليه اتساق خواطره فانحدر ولكنه لم يجد حديقة ما فوقف كالأبله! وكان صوت البقرة لا يزال يصل إليه فلم يجد عسرًا في فهم ما حدث. ذلك أنه لم يهتد إلى سلم الحديقة بل على سلم خلفي يفضى إلى فناء «الحريم»، وبذلك صار الجناح الذي ينزل فيه بينه وبين البقرة فقال: «لا بأس وإن كانت البقرة قد نجت بجلدها» ووضع الدلو مقلوبًا وكان لا يزال معه وقعد عليه وأخرج القلم والمذكرة ليدون ما يخطر له. ولم يخالجه شك في أن الشمس ستطلع لا محالة من الناحية التي جلس ينظر إليها فقد أخذت السماء تصطبغ بلون قرمزي شيئًا فشيئًا، ولكنه لم يكتب شيئًا ولم يخط حرفًا لأن إحجام الشمس عن الطلوع حيّره حتى خالجه شعور وقتي بالخوف عليها وابتسم وهو يقول لنفسه: «لولا ما تعلمته في المدرسة لحسبت أن الشمس قد غيّرت رأيها وعدلت عن الطلوع اليوم». ثم نهض ونظر خلفه ولم يمنعه قيام البناء في وجهه أن يدرك أن الشمس طلعت من ورائه! وجلس وكتب في المذكرة هذه الملاحظات وهم يبتسم ويقول «لعل فيها فائدة لشوشو»! «ديسمبر — الريف. يظهر أن البقر أحس بالفجر من الديكة وأسرع إلى تحية الصباح من العصافير. وفي وسع من يعنيه ذلك أن يقضي ليلة في الريف ويبكّر في القيام قبل الفجر بساعة وبعض ساعة. وليس في الريف ذلك السكون المزعوم فإذا سكنت الطبيعة هاجت الأبقار؛ ويجب على من يبغي الراحة والنوم العميق في الريف أن يأخذ معه كمية من الأسبرين أو الفيرامون تكفي له وللبقر عند الحاجة». ولم يفتح الله عليه بأكثر من هذا أو أشبه منه بالمعاني الشعرية ولم يدون شيئًا من الخوالج أو الإحساسات؛ لأنه كان في تلك الساعة مجردًا منها. وعلى أنه — كما قال لنفسه — ما حاجته إلى الإحساسات التي قد يخطئ في تصويرها أو بوشيها بما يجعل ألوانها أزهى أو أقتم؟ أليست هناك مدرسة ترى أن يكون الوصف مطابقًا للحقيقة عاريًا من زينة الخيال وحليه وتفويفه؟ وهب لا مدرسة هناك فما ذنبه هو إذا كانت شمس الريف قد أبت إلا أن تطلع من ناحية غير مرقوبة؟ ومن أين تأتي هذه الخيالات أو تنشأ الإحساسات ولا تفكير له إلا في البقرة التي هدَّت رأسه بأنغامها، والدلو الذي شلّ ذراعيه جميعًا على التوالي بثقله؟ «تبدو السماء قرمزية ثم تخضر لسبب ما، ثم تصفر أو تبيض لسبب آخر غير واضح». وضحك وقال لنفسه فلنشبهها بشيء! أليس التشبيه ضروريًا في كل كلام شعري ولو لتقريب الصورة التي يراد أداؤها؟ ولكن من أين تجيء لها بمشبه وهى لا تثبت على لون؟ وماذا تقول شوشو إذا اطلعت على هذه العبارات … شوشو؟ لقد خطرت له شوشو مرتين في نصف ساعة؟ ولكن لا عجب، فما يقضي معظمَ وقته إلا معها ولا يملأ جوًه سواها الآن. وعاد إلى التشبيه اللائقٍ بهذا الجانب من السماء الذي احمر ثم اخضر ثم اصفر، وبينما كان جادًا في البحث عنه، خرجت فاطمة الزنجية من باب الحريم ولم تكد تراه — وهو لاهٍ عنها — حتٍى انكفات راجعة وعادت بأهل البيت جميعًا كبارًا وصغارًا وسادًة وخدمًا وفي طليعتهم نجية وشوشو وأقبلوا عليه جميعًا يسألونه في وقت واحد عمَّا به؟ وما جاء به إلى هنا؟ وفيم الجلوس على هذا الدلو؟ وماذا يصنع بالقلم والكتاب في يده؟ وهل هذه عادته في مصر؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي قعد ينتظر آخرها على غير جدوى، وهو ينقل عينه من وجه إلى وجه تبعًا لمصادر الأسئلة حتى كاد يجن. ولما أعياه أن يجد فرصة للكلام وسط هذا اللغط المتواصل نهض عن الدلو في صمت ومضى إلى غرفته وأوصد بابها وراءه وانطرح على السرير بما عليه من ثياب وهو يقول: «لماذا لم أنم؟ سأنام حولًا كاملًا متى عدت، إلى القاهرة! ماذا كنت أصنع؟ لقد كنت أريد أن أخرِسَ هذه البقرة التي أزعجتني كما لم تزعجني سيارات القاهرة وأبواقها وترامها وصياح البائعين فيها. ذلك كله هناك غير مستغرب وأعصاب المرء مستعدة له بسبق التوقع وبالعادة. ولكن هنا. هنا حيث يقولون إن السكون سابغ والهدوء مطبق محيط، والمرء لا يتوقع شيئًا من الضوضاء، والأعصاب متفترة مسترخية من الاطمئنان والأمن، تكفي بقرة واحدة لإطارة العقل». وأخذه النوم وهو يحدث نفسه بالرحيل.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/10/
«العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع»
لم يطل نوم إبراهيم. ذلك أن الكرى كان قد عقد أجفانه قبل أن يتغطى فلم يلبث أن ابترد فاستيقظ وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة بدقائق، فقام ونظر من زجاج النافذة إلى الشمس المشرقة على الحديقة والحقول وراءها، ففتحها فتضوع إليه ريا الخضرة المطلولة والأزاهير الندية دافئة تحت الشمس. وكان واسع الاطلاع ملمًا بأساطير القدماء وما نسج خيالهم حول الطبيعة. ولكنه نسي ذلك كله لما صار وحده مع السماء والأرض وهما أوسع وأشد تنوعا من أن توائمهما الخيالات المسطورة في الكتب. وأحس فى هذه اللحظة حنينًا — لا إلى شيء معين — وغبطة تشيع في كيانه كله، وظمأ خيل إليه أنه ما من شيء يمكن أن يطفئه ويفثا غلته. فمال بذراعيه على النافذة وأبرز وجهه للشمس وحدّق في السحب البيضاء تتفرق وتتجمع وتسبح في بطء. وخطر له — وعجب هو لنشوء هذا الخاطر — إن من الخطأ أن تنعت الطبيعة بالقسوة. كلا ليس في الطبيعة قسوة حقيقية. إنها حارّة حية. ولا تكاد تتفق الحرارة والقسوة. وإذا كان فى بعض ما فيها يسطو على البعض الآخر ويأكله أو يلتهمه أو يأتى عليه فما قيمة هذا؟ إن كل شيء يحيا وإذا كان يموت فإنما هذا ليعين غيره على الحياة. وأين يا ترى قرأ أن الكون فنان لا يزال يعبر عن نفسه بصور مختلفة؟ لا يذكر أين قرأ هذا، ولكنه يذكر أيضًا أن الكاتب قال — أم ترى هو صاحب هذا الخاطر: إن هذا الفنان الأعظم لا يزال يخفق فيما يحاول أن يبدعه ويخلده من خارجياته، على أن العالم بل العوالم كلها صغيرها وكبيرها مثلنا ومثل الأزهار والأشجار ليست سوى قطع شتى من هذا الفن، وكل منها تام في ذاته كامل من حيث هو. وكل حياة تجري إلى مداها ثم تراق وترد إلى هذا الفنان المبدع الذي لا ينفك يحاول ضروبًا جديدة من الفن. العقل والمادة شيء واحد. ومن يدري؟ فلعله ليس لا عقل ولا مادة وعسى أن لا يكون هناك إلا نمو وذبول ثم نمو جديد وذبول وهكذا إلى ما لا نهاية: فنان لا يفتأ يعبر عن نفسه في ملايين وملايين من الصور المتغيرة والذبول والموت — أو ما نسميهما كذلك — إنما هما راحة ونوم أو هذا هو الجزر الذي يجيء بين مدّين، أو الليل الذي يفصل نهارين والنهار الذي يطلع لا يشبه الذي سبقه في شيء. ولا المد كالذي كان قبله. هذه الصور التي نراها في الدنيا وفي أنفسنا، هذه القطع الفنية التيٍ يخرجها الفنان الأعظم لا تعود ولا تبقى على حال ولا تلتزم شكلًا معينًا. بل هي دائمًا جديدة. عوالم جديدة وآحاد وأفراد جديدة وأزاهير طريفة. وليس في هذا ما يكرب النفس. كلا؛ إنَّ ما يكرب النفسَ أن تعلم أنها ستظل حية أبدًا حتى بعد ما يسمى الموت. أو أنها ستحيا كرّة أخرى في جسم آخر فلا أنا أنا. ولا أنا مخلوق آخر. إن هذا يكون ماذا؟ فساد ذوق؟ هبني كتبت مقالًا أو وضعت قصة أو نظمت قصيدة. فهل أستطيع أن أتصور أن مقالتي تصبح مقالة أخرى أو قصيدتي تنقلب قصيدة ثانية؟ وهل في وسعي أو وسع سواي أن يفصل ما بين العبارة التي صببت فيها المقالة أو القصة أو القصيدة، والمادة الذهنية التي أعربت عنها بهذه الألفاظ؟ كلا. وكما أني أنا الفنان الأصغر لا أزال أصوغ كل يوم جديدًا؛ كذلك الفنان الأعظم لايزال يخرج من القديم جديدًا ومن التليد طريفًا كالنافورة تقذف الماء خيطًا من القطرات لا تشبه منها واحدة أختها وتقع هذه القطرات في الحوض وتعود أدراجها من الأنابيب على النافورة فتقذفها قطرات جديدة مصوغة في أشكال وحجوم غير الأولى. ثم تنهّد وقال لنفسه: «ولكني لا أستطيع أن أفهم أو أدرك لماذا تظل هذه القوة الأبدية منهمكة في الإعراب عن نفسها في صور فردية شتى لا آخر لتنوعها؟ لماذا لا تكف ولا تنقطع عن العمل ولا يصير كل شيء إلى «لا شيء»؟ ظلام أبدي شامل! ويا ليت من يدري أهما اثنان لا ثالث لهما: أن يظل هذه الفنان يعمل ويخرج ويبدع كما هو فاعل أو أن لا يكون ثم شيء على الإطلاقِ؟ وهل من الاتفاق المحض أن حدث هذا ولم يحدث ذاك»؟ وسكت وحدّق بعينيه الواسعتين في الفضاء يبغي أن يرى شيئًا هناك وراء كل منظور. ثم هزّ كتفيه وقال وهو يمشى إلى «الكنبة»: كل هذا جميل. ولكن هل بنا حاجة إلى التفكير؟ هذه الدنيا أمامنا، وأحسب أن كل ما بنا حاجة إليه أن نتناولها كما هي وأن نقنع بذلك. وهمّ بالجلوس فسمع نقرًا على الباب ففتحه وطالعه وجه شوشو، كأنه — أي وجهها — في حلم، وأحس وهو يصافحها كأن حولها جوًا من الماضي والمستقبل. وذلك ما لا عهد له به فسألته: ماذا كنت تصنع؟ – لاشيء. ولكنه وجهه مال إلى النافذة. فقالت؟ – أكنت تسخط على هذه الطبيعة التى لا تثبت على حال؟ ألا ترى معي أنها كالطفل، تكون عابسة باكية ثم إذا هي تضحك لغير سبب مفهوم؟ إن تناقضها أو اضطرابها كثيرًا ما يحيرني؟ وكم تمنيت لو أني أستطيع أن ألزمها الحالة التي يتفق أن تروقني — إلى أن يتغير مزاجي على الأقل. فعجب أن يجيء أول ما يجري بخاطرها بسبيلٍ مما كان هو يفكر فيه؛ ولكنه كتم هذا — وإن لم تكتمه عيناه — وقال مجيبًا على كلامها: كلا يا شوشو. أنا لا أحس بالرغبة في إلزام الطبيعة حالة ما، أو بعبارة أخرى: لا أتمنى أن أفرض عليها مزاجي الخاص أو أي مزاج معين، ولعل ذلك لأن تنوع الأمزجة وتعدد الحالات التي تكون عليها الطبيعة في جميع مظاهرها — هو مصدر السرور الذي أفيده منها، بل هو الذي يرجع إليه ويقوم عليه إيمانى بالحياة. ولولا هذا التنوع لما بقي ثمّ شيء اسمه الحياة. فافترَّت عن ابتسامة إعجاب وقالت: ذلك لأنك أديب. لأنك إبراهيم الكاتب! قال: «نعم. أحسب الأمر كذلك. وإن كنت لا أرى أن كوني كاتبًا هو السبب في ذلك. كلا. إن طبيعة الفنان أو روحه ترتاح إلى التغير. فأنا أجل هذه الجدة التى أراها كل صباح يطلع وكل مساء يجيء. وفي كل شخص. وفي كل مظهر من المظاهر التي تعبر بها الحياة عن نفسها. أرتاح لأني لا أرى شيئًا نهائيًا. ولما كان التغير دئمًا فلا أراني أشبع من النظر والتأمل والتفكير. أحب كل شيء: ما كان وما هو كائن وما سيكون.. أحب حتى … الموت. وسكت. وساد سكون عميق. ثم رفع إليها عينيه وقال: وأنت يا شوشو؟ ما رأيك! وكانت جالسة وعينها إلى النافذة، فالتفتت إليه كأنما أيقظها صوته من حلم، والتقت عيونهما. وقالت: أنا؟ لا أدري! إني لم أكن مصغية. فاضطرب شيء في صدره وخفق قلبه خفقة عطف مضطرم وشعر كأن بها حاجة إلى حمايته، واستغرب من نفسه هذا الإحساس الذي لا مثير له ولا موجب لنشوئه فابتسم وقال: ألم أقل لك إن المرأة يعجزها أن يكون إحساسها شاملًا ونظرتها جامعة وروحها واسعة محيطة؟ ورأها مصغية إليه فمضى في كلامه: أنا مثلًا — ولست أعني نفسي على وجه الخصوص، ولكني أعني الرجل على العموم — أستطيع أن أفتح قلبي للطبيعة كلها بكل ما اشتملت عليه وأن أغمر كل مظاهرها بحبي، حتى هذا العنكبوت الذي يخيفني في العادة والذي أكره أن أرى نسجه في زوايا النافذة أو أركان الغرفة، يفيض قلبي ويتفتح. ولكن المرأة شيء آخر. لم ترزق هذه السعة الروحية. نعم قد تحس أحيانًا بشوق إلى أن تضم الكون كله بين ذراعيها. ولكن هذا لماذا؟ لأنها تحب إنسانًا معينًا لا ترى سواه ولا تحس إلاه؛ والكون كله مختزل في شخصه. وليس لشيء موجود منفصل عنه؛ فهي إذا أحبت الطبيعة فإنما تحب فيها هذا الرجل الذي يملأ دنياها ويستغرق عالمها. فأرخت شوشو عينها هنية ثم رفعت إليه وقالت: وإذا كان الرجل هو الذي يحب؟ إذا كنت أنت مثلًا هذا الرجل؟ فاضطرب وتدافعت العواطف في صدره، وأحس الندم يعض قلبه، وخيل إليه كأنه يرى وجه زوجته التي ماتت منذ سنوات، يطالعه من ظلمة الماضي الدفين ويلومه ويتهمه — يتهمه؟ لماذا؟ وكأنه يسمع صوتها يقول معنفًا: «كيف يمكن أن تحب ماري»؟ وغاب الوجه واستتر ولم يبق إلا شوشو تنظر إليه بعينين تحلمان، وابتسامة فيها شيء من المرارة، ماذا جرى له؟ أين ذهب إشراقه؟ ماذا فعل الله بصباحته؟ إن هذه الفتاة عجيبة! وها هي ذي تومض عينها إيماضة خبيثة كأنما يسرها ما تقرؤه في وجهه من الاضطراب! ما لعينها متعلقة بعينيه؟ أهي ناظرة إليه؟ كلا! إنها كالتي ترى شيئا هو أحلى وأعذب من كل حقيقة منظورة. ونهض وقال: أي سؤال هذا يا شوشو؟ فنهضت مثله وقالت: أهو سؤال غريب غير جائز؟ وكان يمشي في الغرفة فلم يفتح الله عليه بخير من: كلا. لا غرابة. إني جائع جدًا ولست آتيًا هنا لأصوم. فانفجرت ضاحكة وقالت: ألا تزال ملتحفًا بكبريائك؟ فلم يلتفت إلى هذا ودنا منها ووضع يمناه على كتفها وقال: اسمعي ياشوشو. لقد قضيت هنا ليلتين ولم أجاوز عتبة الباب إلا دقائق أمس. فما العمل؟ لست أراني أطيق هذا الحبس فقولي لي أين أذهب. ولكن بالله عليك لا تقذفي بي في وسط جحافل من أجلاف الريف.. فتكلفت الجد وقالت: هل تستطيع أن تخرج وتسير في هذه الأوحال؟ فقال: قبّح الله الريف! ألا شيء غير الجلوس في هذه الحجرة؟ قالت: أمَلَلْتَنًا جدًا؟ وبهذه السرعة؟ فأسرع يؤكد لها أن الأمر على العكس، وإنه لم يضجره إلا الحبس، وإن بوده لو استطاع أن يخرج معها إلى الحقول. فصفقت وصاحت به وقد اضطرم خداها: ما أحلى هذا! أوده من كل قلبي. – ولكن كيف يمكن؟ – أوه. سأجد الوسيلة. دع هذا لي. وخرجت لتجيئه بالطعام.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/11/
«حبيبي مدّ يده من الكوة، فأتْت عليه أحشائي»
معنى هذا؟ حار إبراهيم في تفسير خوالجه وما جاش به صدره وهو جالس مع شوشو. ولم يكن ما قرأه في أسارير وجهها وعينيها العميقتين أقل تحييرًا له، فلم يطق الجلوس في الغرفة وانتظار الطعام، وخشي أن تجيئه به تلك الزنجية اللامعة كالفحمة، وكره أن يرى وجهها بعد شوشو، واختلج في قلبه شيء من العطف عليها من أجل هذا الكره الذي يحسه لها، وكأنما أراد أن يهرب من نفسه ويتجنب أن يواجه ما تضطرب به. فأسرع فانحدر من السلاملك على الفضاء الذي أمامه، وتذكر وهو يهبط السلم كيف تركته شوشو بين ثلاث كلاب ضارية فابتسم وهو يقول: «تالله ما أظرفها! إن معين حيلها لا ينضب» ثم تجهم إذ رأى نفسه يكر إلى ذكر شوشو ويدعها تستولي على خواطره، فأسرع في المشي ولم يلتق بأحد، فمال إلى الحديقة غير عابئ بالأوحال التي تراكمت على حذائه، وقال يحدث نفسه وهو يقتلع رجليه واحدة بعد الأخرى من الأوحال: «أما لو أن الأرض جافة! إذا لاستطعت أن أمشي قليلًا وأن أفني بالمشي هذه الإحساسات الجديدة وأنفقها فيه وأحيلها عرقًا يتصبب». ورأى رجلًا جالسًا على حجر يضحى في آخر الحديقة، فمضى إليه فألفاه شيخًا هرمًا في يده عصا، ونهض الرجل متوكئًا على عصاه ورفع له يده بالسلام. وراق إبراهيم وجهه المغضن كالحصير وشارباه المتهدلان كأنما كلت شعراتهما وفترت، فحياه ووقف صامتًا لا يدرى ماذا يقول، وأحس كأن بينهما جونًا يتعاظم، واشتاق أن يفتح قلبه لهذا الشيخ المتهدم ضيق العينين، متدلي الشاربين، المتوكئ على العصا؛ الذي اجتاز الحياة كلها وشق طريقه بين أشواكها. وتمنى لو يفتح له هذا الشيخ قلبه، فيقول هذا بشجوه مرة وذاك بشجوه مرة. ولكنه لم يجد الكلام حاضرًا ولم يدر كيف يجره إلى التحدث عن نفسه، فاكتفى بأن يقول: من أبناء القرية؟ وسخر من نفسه إذ قال ذلك. من أبناء القرية؟ إنه من جدودها بل جدها الأعلى فيما يعلم! وقال الرجل بصوت جاد كأنه الصفير «أيوه» ووقف ينتظر السؤال الثاني فقال إبراهيم: «أنا من مصر» كأنما أحب أن يبادله التعريف ويشعره أنهما ندان. فقال الرجل: «ما شفتهاش يا أفندي». فقال إبراهيم: «لم تخسر شيئًا». ولمعت عين الرجل وهو يحجب الشمس بكفه ويقول: بيجولو إنها جميلة. ما شفتهاش يا ابني. – ليست أجمل من قريتكم. وسرّ الرجل هذا الثناء على قريته وبدا الارتياح في هزات رأسه وفي ازدياد عمق الأخاديد التي حفرها الزمن في وجهه وهو يبتسم وقال: بلدنا؟ الشبان ما يعرفوهاش يا افندي. بيرحلوا ويجعدوا في البنادر. يبعتوهم المدارس يجومو ما يطيجوش البلد تاني. بيعدموا الصحة حداك والمال كمان. وتحمس فدقّ الأرض بالعصا وقال: «بجالي سبعين سنة عايش في الأرض ما هجرتها يوم. وأروح فين»؟ وابتسم ووقع كلامه من قلب إبراهيم فقال؟ – وهل كل الفلاحين مثلك؟ – أيوه. زيى؟ لع! ما حد زيي؟ شبان الزمان ده كيف يبجوا زيي؟ ما طيج أفوت ريحة الأرض. وضحك الرجل أو على الأصح انفرجت شفتاه عن فمه الذي عاد أدرد كالكهف الخاوي وقال: إنه زي البجر اللي تهزل وتهبط لما يتغير الرعي. ثم رفع يده التي فيها العصا وقال مشيرًا إلى نوافذ السلاملك: بينادم عليك يا أفندى. فتركه إبراهيم آسفًا ولم يتحول إلى السلم؛ بل قصد إلى نافذة غرفته مخترقًا إليها الحديقة، وطاف برأسه العجب من أن تأسر الأرض رجلًا كهذا، وتقيده إليها سبعين حجة، ما أقوى هذه الأرض التي لا يعود رجل مثله يطيق فراقها أو حرمان رائحتها! وأدار عينيه في الحديقة وهو سائر لا يلتفت إلى شوشو التي كانت تشور له أن يرتد ويتحول، ورمى طرفه إلى المساحات المترامية وراء السور، ثم رده إلى جمال الغصون وسحر الألوان إذ تخفق الأفنان في ضوء الشمس. فلم يعد عجيبًا أن يتدفق حب هذه الأرض في عروق أبنائها ويجري من دمائهم، وهم الذين يفلحونها ويتعهدونها بما يزيدها خصبًا، ويرصدون لها عيونهم وقلوبهم حتى يعودوا من فرط إلفها لا يطيقون أن يبرحوها؛ وأن تخطئ لحاظهم غضارتها ونضارتها وخضرتها الندية وشمسها دافقة الحرارة وجوّها الطليق ونسيمها العطر، ومطرها المنهمر وسحبها المتكاثفة طبقات بعضها فوق بعض، وماشيتها، وكل ما حفلت به من حيوانات صغيرة وكبيرة، لها كل ساعة بل كل لحظة تجديد. وصار تحت النافذة فأومأ لشوشو وقال: من هنا. أطعميني من هنا. فابتسمت. ما أحلى وجهها وأعمق عينيها! لم يرها قط أصبح ولا أجمل منها اليوم. وكانت عينها تنتقل من الطعام إلى الأرض ثم قالت: ولكن كيف أستطيع؟ تعال إلي. هذا أحسن. فهزّ رأسه مصرَّاً وأعلن اكتفاءه بلقمة وقطعة من الجبن أو بضع زيتونات، واهتز كيانه سرورًا بتناول الطعام على هذه الطريقة. وراق خياله أن تلقي إليه شوشو باللقمة بعد الأخرى وأن يتلقف ما تلقي، بل أن تفلت اللقمة وتخطئها كفه وتقع فيلتقطها ويلتهمها بكل ما يعلق بها، ولكن شوشو كانت تهم أن تلقي إليه برغيف كامل حشته ما لا تعرف فصاح بها: لالا. لقمة لقمة. من فضلك. فرمت إيه نظرة دل واغتباط، وضحكت وراحت تطعمه على نحو ما أراد، وهو يشعر بالحاجة إلى التوثب والقفز، ولا يكاد يطيق الوقوف على قدميه. وكانت ربما أوهمته أنها ملقية إليه باللقمة فيمد كفيه ليتلقاها فتخيب أمله، فيضحكان ويكون هذا أحلى وأمتع. ولما أصاب كفايته من الطعام، قال لها: ليس في الحديقة أحد غير هذا الشيخ الهرم. فانزلي إلىّ. فنظرت إليه مفكرة. ثم حنت على النافذة وأطلت بوجهها وصدرها وتلفتت، وكأنما اطمأنت فقالت: من هنا؟ أتتلقفني إذا هبطت إليك؟ – كلا. تعالي من السلم الآخر. فصاح يردها وقد خاف أن تجازف: ومضى ليسبقها إلى المدخل ويستقبلها عنده. ولم تلبث أن جاءت تعدو فتخشى أن تزل قدمها في الزحاليق، فدفع ذراعيه ليقيها العثور وهي تجري مقبلة، فإذا بها ترتمي بينهما، فكاد يقع بها ولكنه كان قريبًا من الحائط فاعتمد عليه بكتفه، ولو كان الأمر إلى شعوره وإلى ما يشي به سكونها بين ذراعيه من الرغبة في البقاء، لظل يحتضنها، ولكنها كانت شوشو — بنت خالته وصديقته الصغيرة التي كم داعبها وهي طفلة، وخرج بها للرياضة والنزهة، وكم ركبت ظهره وزحف بها على البساط! وكم دفعت كفها الصغير في جيوبه باحثة عن الشكولاتة والحلوى واللعب الدقيقة التي اعتاد أن يشتريها لها ويبقيها معه حتى تتاح له فرصة يقدمها إليها فيها من غير أن ترى أختُها الأخرى! وكم تسللت إلى سريره وراحت تمسح له وجهه وهو نائم بيدها اللينة دقيقة الأصابع، حتى يفتح عينيه ويثاءب، فتلثم أقرب ما يكون إليها منه، وكثيرًا ما قبلت اللحاف، ثم تضحك فيبتسم ويعجب كيف لا يغضبه منها إزعاجها له وإيقاظه، وتشد ذراعه وقد تجر رجليه لينزل عن السرير ويلاعبها. طافت برأسه هذه الصور ومئات غيرها من أيام طفولتها فاحمرّ وجهه، وأنكر من نفسه أن يتركها بين ذراعيه! ولكنها كانت كالعصفور وجد وكره واطمأن إلى عشه، فلم يجد في قلبه من جفوة الطبع وقسوة النفس ما يشجعه على أن يدفعها بغير مراعاة لها أو اكتراث لإحساسها. فمسح شعرها بكفه — إيه ما أنعمه وأبدعه متوهجًا في ضوء الشمس! وهمس في أذنها «شوشو» فرفعت إليه عينيها في فتور كأنما كانت تحلم فربّت لها على كتفها وقال: «هلم بنا» فاعتمدت على كفيها — وكانتا على كتفيه — وحملت نفسها في تثاقل وبطء وبجهد واضح.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/12/
«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته»
لم يغمض لشوشو جفن في تلك الليلة، وإن كانت — على خلاف عادتها — قد بكرت في الذهاب إلى مخدعها، وتركت أختها نجية وحدها مع طفليها، وزعمت أن جفونها مثقلة، وجعلت تتثاءب وتهوم وتتناوم حتى قالت لها نجية: قومي يا حبيبتي. لا تتحاملي على نفسك. وكانت الأشجار ترى في ضوء غرفتها. وأكثرها قد ذهب مع الربيع رونقه، ولكن بعضها وأدناها إلى النافذة كان مورقًا رفافًا منوّرا، وكان ضوء القمر ينفذ إلى الأوراق الخضراء، ويومض في صفحاتها كأنه قطرات لامعة من الفضة. واستراحت الأطيار والضفادع إلى سكون الليل وسهوم القمر، فانطلقت هذه تنقنق وتلك تصدح أو تصفّر، وودت شوشو في هذه الساعة لو أنها كانت عصفورًا يذهب إلى حيث يشاء ويحلّق في الجو، ويسبح في الفضاء، ويبصر وهو ناشر جناحيه كل ما بين الأرض والسماء — عصفورًا ينحدر على شعاع من نور الشمس أو خيط من ضوء القمر — عصفورًا يرفع منقاره وهو طائر ويتلقى في فمه الدقيق قطرة من المطر — عصفورًا يحط على أعلى فنن في أسمق شجرة، أو يهوي إلى الأرض ويخطو بين أغصان البرسيم فتحجبه، ويضع بيضه الصغير حيث يروقه أو يؤلف عشه، ويمد منقاره إلى الماء حيث يجده ويمص قطرة ويتلفت — عصفورًا ثيابه ولا يبدل أفواف ريشه ولا يكون في رأي العين مع ذلك إلا جميلًا. آه إنه روح الكون ولا شك في العصافير والسحب — سابحة تجوب الآفاق؛ وهي الأزهار والأشجار التي لا تكون إلا عطرة ولا تبدو إلا حالية مونقة ولا يعتورها قلق ولا يساورها اضطراب. آه! لماذا تقلق النفس؟ لأي شيء تطلب ما ليس في اليد وتريد أن تحس وأن تعلم وتبغي أن تحب وأن تَحب؟ ولما بلغ بها التفكير هذا المدى اعتمدت بكوعها على النافذة واتخذت من كفيها كأسًا لذقنها. لقد تغيرت الدنيا كلها في يومين اثنين، لا بل في يوم واحد، نعم؛ كانت تحب إبراهيم من قبل كما يمكن أن تحب أخاها لو أن لها أخًا، غير أنها لم تكن تحس بمثل هذا الحنين إليه. ولا كانت تصبو إلى مشاطرته كل شيء؛ بل إلى أن تهبه وتمنحه نفسها وتسليه وتحميه وتفوز منه بالروح والراحة — الراحة من أي شيء؟ أهذا هو الحب الذي تصفه القصص الفرنسية التي قرأت منها عشرات؟ كلا! تلك حكايات لفقها الخيال النشيط، ومن أين لكتَّاب تلك القصص المزورة أن يعرفوا كيف يثب القلب إلى الحلق وتضطرم النفس وتعود كالبركان الذي يوشك أن ينفجر ويقذف بالحمم؟ أيكون الحب طاغيًا عنيفًا كما تجده هي؟ ويا ليت من يدري كيف صارت تخجل الآن، وتشعر النار تندلع في وجنتيها وبالدموع كأنها ستطفر من عينيها كلما رأته بعد أن طما في نفسها هذا العباب الزاخر وهي بين ذراعيه عند باب الحديقة! إن لهذا الحب روعة ليست لسواه. وإبراهيم؟ إنه وعر مرّ النفس — لماذا يا ترى؟ ألا تستطيع أن تستدرجه حتى يكاشفها بما تنطوي عليه أضالعه لتحيط خبرًا بدواعي هذه المرارة؟ ولكنه حتى كثير الجهامة، وإن كان من واجبي أن أعترف أنه ظريف الدعابة مليح الفكاهة حين تسلس نفسه ويصفو أفقه، وآه من عينه على رقتها! لم تر شوشو أحدّ منها ولا أنفذ، هي عين تأخذ كل ما دق وجل مما يقع تحتها فليس يفوتها شيء حتى ما هو مغيّب في الصدور. وياما كان أحلاها هنيهة على قصرها، وأنا بين ذراعيه ورأسي على كتفه! وما كان أرقه وأحناه وهو ينحيني عنه وقد تصلبت عضلات وجهه حتى صار كالدمية المنحوتة من الصخر، والورود البيضاء ترف في حوضها كأنها مصوغة من ذوب أشعة القمر، والبقرة التي أزعجته وأضحكتنا في الصباح منه مثقلة الأثداء تنظر بعيني نائمة، والأفنان تهتز وتترنح فوق رأسينا ولأوراقها حفيف مطرب، والسماء تبدو من خلالها شتى الشكول، وندى الصباح على وجهينا، والسكون واسع عظيم؛ وكأن الدنيا كلها في صلاة وتسبيح، وقلبي مثلها يسبّح بحمد الله. لقد كنت سعيدة، وأظنه هو أيضًا كان سعيدًا على الرغم مما كان في وجهه. ما أشد سحر هذا الحب الذي يجمِّل الدنيا ويفيض عليها من الفتنة ما لم يكن لها، ويحيلها كالحلم اللذيذ لا بل كالصوت الجميل … كالنغمة العذبة … كالغناء الملائكي. لكأن روحي هائمة مع روحه الآن.. لم تعد روحي في بدني فليتها تظلُ معه هائمة، فما أريد أن ترتد على جسمي.. لست ابغي أكثر من هذا. أبدًا. أبدًا! إيه أيتها الغبطة، نشدتك الحب ألا ما بقيت معي! لا تنقضي.. لا تذهبي عني! ولكنه يفزعني … سبحات عقله تخيفني ووثبات خياله ترعبني فأتضاءل وأتضاءل، أحس كأني لم أعد شيئًا! ما أقساه حين يفتح عينيه كأنما يريد أن يلتهم بهما الدنيا. ويروح يتكلم كأنْ ليس معه أحد. لا يحسني في تلك اللحظات ولا أظنه يراني، ويخيل إلى أنه يبصر ما ورائى من خلال بدني.. وانتَفَضَتْ كأنما سرت في جسمها رعدة فلفّت شملة الصوف التي كانت على كتفيها وجمعت أطرافها على يديها فوق صدرها ومضت إلى السرير، وقعدت وتنهدت، وقد طاف برأسها أن هناك سرًا هو علة هذه الأطوار الغريبة من إبراهيم. فإن له ساعات يطول فيها وجومه فلا تتحرك حتى شفتاه؛ وأحيانًا ينفجر غاضبًا بما لا يكاد تفهمه فيحيرها ويروعها، وطورًا تنبسط نفسه إلى الحياة والدنيا وتهش روحه فلا يكاد يطيق جسمه، وطورًا آخر يضحك ويلعب كأنه جديد في الدنيا لا يعرف إلا صفحتها المشرقة — ليس كل هذا عفوًا! ترى ماذا يجيش في صدره هذا؟ ألا يمكن أن أعلم؟ كلا! لا أمل. فإنه كتوم، كتوم متكبر كما يقول، يعد الإفضاء بما في نفسه ضربًا من الشكوى. وكل شكوى عنده ضعف لا يليق بالرجل. وا أسفاه! لن أعرف أيحبني كما أحبه؟ لن أسمع اللغة التي أود لو يخاطبني بها. لغة الحب المجنحة. لغة القلب النارية. كلا لا أمل في هذا أيضًا. لأنه شيء ينكره خلقه الوعر. واشتهت أن تقول بشجوها، وأن تصب في أذن إنسان ما حديث حبها، وأن تطرح عن قلبها ثقل هذا الكتمان. ولكن لمن؟ ألأختها؟ واأسفاه! إن هذا يكون جنونًا مطبقًا، فما تستطيع أختها أن تقدر الحب إلا بين زوجين، وحتى بين الزوجين لا يليق عندها أن يجري كلام فيه، أختها نجية؟ إنها ليستْ سوى كذا قنطار من اللحم، وما عرفت قط إلا العفاريت والخرافات. ولا عهدتها شوشو تستطيع أن تنزل عن شيء مما درجت عليه. ووجدت شوشو نفسها تنحى على أختها كأن لها عندها ثارًا. فعجبت لهذا وأسفت وانثنت واعتذرت لها بنشأتها وجهلها، ولكن أسُدَّت الدنيا فلا سبيل إلى أحد تبّثه ما في نفسها؟ وخطر لها أن أختها الوسطى سميحة أقدر على الفهم، غير أن سميحة في الإسكندرية مع ابن عمها (زوج نجية)، وعلى أن مكاشفتها بهذا الحب، مسألة فيها نظر كثير. فإن سميحة أكبر من شوشو، والكبرى تسبق الصغرى إلى الزواج، وليس بمجهول أن سميحة ما انفكت منذ سنتين تتحبب إلى إبراهيم وتحاول أن تستولي على هواه وتقتنص قلبه، وابتسمت شوشو وهي تفكر في هذا، فما يخفى عليها أن إبراهيم لا يطيق سميحة، إنه على الرغم مما هو معهود فيه ومعروف عنه من ضبط النفس والقدرة على كتمان عواطفه، لا يحاول أن يداجي سميحة أو يداريها، ولا يتكلف أن يكتمها أنه يمقتها، فهو يحرّف اسمها ويدعوها «سوسة» ولا يكون إلا سيئ الخلق في حضرتها، بل لا يزال يفر من مجلسها كلما وسعة ذلك. وهي؟ واأسفاه! لا تنهزم ولا تبالي هذه الجفوة ولا تحفل نفوره منها، بل تزداد شدًا عليه ومطاردة له، ومع أنه سرّ شوشو أن تشعر أن في وسعها أن تكون على يقين من أن «سوسة» لا أمل لها في إبراهيم، وأن لها «أي شوشو» أن تطمئن، إلا أنه لم يخف عليها أن كون «سوسو» لم تتزوج بعد، سيكظ الطريق بالعقبات والمصاعب، ويجعل أملها هي، أي شوشو لا أقرب ولا أيسر. فنكست رأسها وقد اغرورقت عيناها وزايلتها الغبطة التي كانت تحسها، وحلّ محلها الاكتئاب، وبدأ اليأس يدب في صدرها فأحست أنها توشك أن تختنق. ماذا تصنع؟ أين القلب الذي يمكن أن يعطف عليها ويرثيَ لها في هذه المحنة؟ بل أين المخلوق الذي تستطيع أن تبيحه دخيلتها وتفضي إليه بسرها؟ لا أحد! وهالها أن تشعر بالوحدة في هذا العالم الزاخر، وأن ترى إلى أى حد أرضاها حبها لإبراهيم مستفردة، وفى هذه اللحظة فقط أدركت أن حولها أربعة جدران سميكة، وأن هذه الجدران الأربعة — من ورائها ومن قدامها وعن يمينها وعن شمالها — محيطة بها مسدودة عليها حيثما تكون من الأرض. لماذا خلقها الله في مصر؟ لماذا يضرب عليها هذا الشقاء؟ حتى إبراهيم لا يسعها أن تذهب إليه وتقول له: «إني أحبك» كلا! هذا أيضًا مستحيل. لأن التقاليد والآداب تأبى ذلك. وإنها لواثقة الآن أن إبراهيم يحبها وأنه يتمنى لو استطاع أن يعلن لها حبه، ولكنه مثلها تقيد لسانه التقاليد والآداب. وما أدراها؟ لعله الآن — في هذه اللحظة بعينها — تؤرقه الحيرة والكمد — إلا أن في هذا العزاءَ لقلبها. وبحسبها أن تعلم أنه مثلها موجع مكروب مهموم مؤرق. ولكن من يدري! حتى هذا العزاء التافه فيه شك كبير! ألا تستطيع أن تذهب إليه وترى؟ واأسفاه! كان هذا أمس — أمس فقط — ممكنًا! لشدّ ما يتغير كل شيء في يوم وليلة، بل في ساعة واحدة، لم تكن أمس قد انتهت إلى الاعتراف والإقرار فيما بينها وبين نفسها بهذا الحب، فلم تكن تخجل أن تجري إليه وتدفع الباب في جرأة وتوقظه إذا كان نائمًا، وتجره من رجليه، وتمازحه وتداعبه، وتكون معه كما تكون الأخت المدللة مع أخيها الذي يحبها، أما اليوم، فقد سدّ شيطان الحب هذا الطريق. ولكن لماذا؟ لا تدري، وكل ما تدريه هو أنها صارت تستحي حتى أن تلقاه بعد أن عرفت ما في نفسها له. ولكن ألا سبيل مع ذلك إلى معرفة ما تصبو إلى معرفته؟ ألا يمكن أن توفد.. من؟ فاطمة؟ ليس ثم غيرها. إنها أمينة مخلصة وفيها وفاء. وانشرح صدرها فتسللت من غرفتها إلى حيث فاطمة نائمة. وكانت ملفوفة في لحافها ولا شيء يبدو منها، فكشفت عن وجهها وجعلت تحركها حتى أيقظتها. وأشارت إليها أن تتبعها في صمت، ولما صارتا في غرفة شوشو قالت فاطمة وهي تفرك عينيها: نعم ياستى. فابتسمت لها شوشو ودنت منها ووضعت كلتا يديها على كتفيها وقالت: أريد منك أن تذهبى إلى السلاملك وتنظري ماذا يصنع إبراهيم. فأفاقت المسكينة جدًا ودقت على صدرها بكفها وقالت: «أنا؟ أنا ياستى»؟ فأسرعت شوشو تزجرها عن رفع صوتها وقالت: «هس. لا تدعى أحدًا يسمع. نعم أنت، وما الضرر»؟ قالت: «الضرر؟ أتريدين أن يقتلني! إن سيدي إبراهيم صعب لا يا ستي»! قالت شوشو: «لا عليك. سأعطيك فستاني الأخضر. إنه جديد». فقالت فاطمة وهي لا تفهم: «ولكن لماذا لا تذهبين أنت»؟ نعم لماذا لا تذهب هى؟ يا ليت من يدري كيف صار هذا عسيرًا؟ ورأت فاطمة أن ستها شوشو واقفة مطرقة وفى وجهها سهوم غريب. فأدركها العطف على ستها، ولكن خوفها من إبراهيم كان أعظم من رثائها لشوشو فقالت: ثم إنه لا يليق يا ستي أن أذهب إليه في الليل هكذا؟ هذا عيب! ماذا يقول عني؟ لا لا يا ستي؟ أتريدين يقتلني سيدي الشيخ؟ ولكن هذا العذر الذي تقدمت به فاطمة لتنجو، هو بعينه الذي هوّن الأمر على شوشو ويسّر لها الحل فقالت: لن تذهبى وحدك. سأرافقك. وأقف فى الصالة وأن تتقدمين إلى الباب وتفتحينه بلطف وتنظرين. فإذا سألك أو زجرك أسرعت إلى نجدتك. افعلى لأجل خاطرى يافاطمة. – ولكنه لا شك الآن نائم يا ستى. – لا، لا، لا. – كيف تعرفين؟ وزادت دهشة الخادمة وصار اللغز فيما ترى أعوص. ولكنها ليست مطالبة بالتفكير ولا بحل الألغاز، وتذكرت الفستان الأخضر وأن سيدها لم يشتر لها في هذا الشتاء كسوة، وسيدتها نجية لم تخلع عليها شيئًا من ثيابها القديمة، فتوكلت على الله وخرجت تطلب المصباح فمنعتها شوشو. ومضيا معًا في الظلام والبرد، وشوشو تسأل نفسها: «ما آخر هذا الحب يا ترى؟».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/13/
«عهدًا قطعت لعيني فكيف أتطلع إلى عذراء؟»
ما آخر هذا الحب؟ في هذا كان إبراهيم أيضًا يفكر تلك الليلة، وهو مضطجع على سريره في الظلام، وكان لا يستريح إلى النور إذا ثقلت على كاهله وطأة الحياة، أو ألح عليه إحساس أو خاطر، كأنما يخشى أن يفضح النور له سرًا، أو يهتك لما يخفيه سترًا، وكان امرءًا لا ينفك يغالب نفسه حتى يقهرها أو تقهره قبل أن يستسلم لعاطفة أو فكرة، وكان مذ أوى إلى مخدعه، يدخن سيجارة في إثر سيجارة، وكان يشعل الجديدة من القديمة. ولا يجد للدخان طعمًا، ولا يفيد منه سرورًا، وأراد أن يشغل نفسه أو يلهيها عما يكظ شعابها، فشرع يلتمس تعليلًا لفتوره هذا عن التذاذ الدخان، فزعم لنفسه أولًا أن الحواس — ولا سيما حاسة النظر — هي التي يرجع إليها الارتياح إلى التدخين وأن المرء إنما يعتاد في الحقيقة أن يرى الدخان يتلوى ويعقد سحابات صغيرة بعد أن ينفخه بفمه، وأن يشعر بالسيجارة بين إصبعيه وبين شفتيه، ولكن المهم هو رؤية الدخان، لأن العين أهم الحواس وأوثقها اتصالًا بالدماغ. وأقدرها على إفادة الصور الذهنية. ولكن هذا التعليل — على قربه من الصواب — لم يقنعه، ووجد إبراهيم نفسه يتساءل: «هب النور مضاء، ومعي.. شوشو، أكنت أنظر إلى الدخان خارجًا من فمي ومتلويًا في جو الغرفة، أم إليها هي» وغضب لما رأى نفسه يكر إلى ما يريد أن يتلهى عنه، وقال لي عناد: «حسن. فلنواجه الموضوع». وواجهه في حزم وشجاعة واستعداد لاحتمال النتائج: لقد تحول حبه لشوشو من أخوي إلى جنسي، ذلك ما لا شك فيه، فهل له أن يأمل أن يفوز بها، وأن يقنع أهلها أن يزوجوه منها؟ كلا! فإن في الطريق تلك البنت الخبيثة التى لا تحجم عن كل شر إذا همَّ أهلها بأن يقدموا شوشو عليها. وستكون النتيجة أن تشقى شوشو، وهي ستشقى على الحالين، ولكن أهون الشرين أن تيأس من الآن، والعاطفة غضة لم يستحفل أمرها، ولم يستعص علاجها. وهو؟ أوه. ليست هذه بأول عاطفة احتاج أن يخنقها! وإنه لعذاب. وإنه ليحس كأنما يقتلع أحشاءه مع العاطفة التى يحاول أن ينزعها من قلبه. وطاف برأسه قول ابن الرومي: فقال: «صدق المسكين»، وود في هذه الساعة لو أن معه ما طبع من ديوانه، إذًا لقضاها ليلة طيبة مع هذا الشاعر المنكود الحظ، الذي ألهبته الحياة بسياط من نار، وكربته الخواطر فراح يتساءل: «ما الحب؟ وما الشهرة والخمول؟ وما السعادة والشقاء؟ وما الحياة نفسها»؟ وأعياه أن يهتدى إلى جواب مريح — وأي جواب آخر سوى أنها عناء وباطل ليس يُجدى. وليس هذا بجواب. وإنما هو همسة الضعف، ووسوسة العجز. وصحيح أن الحياة لا فرق عندها بين سعيد وشقي، ومجدود ومكدود، ومعروف ومغمور، وعاشق وخلي: وحيوان ونبات وجماد. ولكن هناك فرقًا بين إحساسات المرء بوقع الحياة، والمرء ليس الحياة حتى يطلب منه أن يكون نظره إلى الأشياء كنظرها هي، واعتباره لها كاعتبارها. «والخلاصة»؟.. وجلس إبراهيم على السرير ورد على سؤاله: «والخلاصة: أني لن أذوق النوم في ليلتي هذه على ما أرى». وضايقه أن يكون أكبر ظنه أن يقضي الليل المقرور أرقًا، ويناجي نفسه ويحاورها ويداورها على غير طائل. وتوهم أنْ ليس عليه إلا أن يعتزم النوم وإلا أن يريده فينام. فانطرح على السرير وتغطى وأغمض عينيه وراح يتنفس بانتظام محاولًا أن يتقي التفكير في أي شيء. ولكن جهد اتقاء التفكير كان كجهد التفكير نافيًا للنوم، لأنه جهد على أية حال، فخطر له أن يوحي إلى نفسه أنه سينام، وجعل يكرر «سأنام» حتى قالها أكثر من ثلاثين مرة، ثم ضحك فجأة وقد تذكر أنه كان مفتوح العينين وهو يردد هذا اللفظ. ولم يكن ضحكه إلا حركة عصبية لا عن سرور نفس ومراح، فما عتم أن تجهم وهو يسأل نفسه: وبعد؟ وضاق صدره إذ لم يسمع مجيبًا له على سؤاله. فطرح الغطاء بعنف كأنما كان هو علة أرقه، ووثب على السرير حتى إذا استقر على رجليه تلفت وقال: «ترى أين المصباح؟ ولم يسعه على كل ما به إلا أن يبتسم. أترى تجربة الأمس ستعاد؟ البقرة البارحة — ترى ماذا صنع الله بها — والليلة المصباح؟ وألفى نفسه يعجب لحياة الريف التي لم ير منها شيئًا إلى الآن، ويقيسها — متحاملًا عليها — إلى حياة المدن. ولكن دقته وما فطر عليه من العطف الذي تؤدي إليه سعة الأفق والقدرة على الإحاطة بالجوانب المختلفة — ردته إلى الإنصاف. فمضى يقول لنفسه إن المفروض أن المرء في المدن يصنع ما بدا له، ولكن استبداد العادات والتقاليد يقضي على كل نزعة إلى التحرر، ولا يدع للمرء مفرًا من النزول على حكم هذا العادات والتقاليد، أما هنا في الريف فالحياة أشبه بمناوشات مستمرة، فالمرء يجد نفسه مثلًا يتناول طعامه وحده في آية ساعة. وقد تظمأ في الليل فتجد القلة فارغة أو لا تجد القلة على الإطلاق. وهذا الشيخ علي، على كثرة ما أنفق على بيته هذا — بناء وتأثيثًا — لم يعن بأن يعلق مصباحًا في الغرفة يتدلى من سقفها، فمرة ينام المرء على مصباح يضاء بالبترول، ومرة لا يجد إلا قنديل زيت أو شمعة، وقد لا يجد شيئًا من هذا كله. ويذهب المرء إلى الحمام فلا يستطيع أن يوصد الباب، إذ لا مفتاح ولا رتاج، وهذا عجيب، إذا ذهبت تعتبر أن الشيخ علي كلف نفسه أن يجهز الحمام بحوض كبير، وقد تكون في الحوض عاريًا فيفتح الباب خادم أو واحد من هؤلاء الفلاحين الذين لا يدري إبراهيم أهم خدم أم أقارب أم من عمال الأرض، والواحد يذهب إلى حيث يشاء في الليل أو النهار، فلا يسأل أحد فيما يرى إلى أين أو لماذا أو متى تعود؟ وأدهش إبراهيم أنه لا يعلم أين يبيت هؤلاء الرجال الذين يبصرهم في النهار رائحين غادين، وداخلين خارجين، وأدهشه فوق ذلك أنه لا يرى أحدًا يقلقه اختفاؤهم دفعة واحدة، بل لا أحد يذكرهم أبدًا، ولم يذكر إبراهيم أنه رأى أحدًا يلعب شيئًا خارج البيت — كل ما رأى من الألعاب، وهو لايعدو الورق أو الطاولة، يؤدى داخل البيوت وعلى الكراسي أو الوسائد. ولم يعجب إبراهيم لهذا فإن الزراعة رياضة كافية. وما حاجة الفلاح الذي يقضي يومه عاملًا في الحقل إلى كرة أو متوازييْن؟ ولم يسعٍ إبراهيم إلا أن يعترف على الرغم من كل ذلك بأنه يشعر أن هناك روحًا تمسك البيت وتحفظ عليه وحدته — روحًا أو لعلها فتاة في ثوب قان من الصوف.. آه شوشو مرة أخرى! تالله ما ألح هذا الخاطر وأشد تشبثه بالنفس! أتراه هجر السرير في هذا الليل المقرور ليعود إلى التفكير فيها؟ أو لم يفرغ من هذا الأمر؟ ألم ينته منذ لحظة إلى وجوب القنوط والإقناط؟ وقطع عليه تفكيره صوت تهامس خافت. فأرهف أذنيه وتسمع، وكانت حاسة السمع عنده قوية. فخيل إليه إن إنسانًا يخلع نعليه. فهز رأسه ومشى على أطراف أصابعه إلى الباب ووقف بجانب الحائط يترقب ويفكر. ما العمل إذا كان هذا الطارق لصًا؟ ليس معه سلاحه يدافع به عن نفسه، ولا هو قوي مفتول الساعد فيستغني بقوته عن السلاح، فماذا يصنع؟ والهم في هذه اللحظة أن يستغل الظلمة، فعاد إلى السرير فسحب اللحاف عليه وسوّاه كأنه نائم تحته ليوهم القادم، ورجع إلى حيث كان بجانب الباب واعتزم أن يدع اللص — إذا كان لصًا — يدخل في سكون ومن غير أن يعترضه. وأن يتسلل هو فيخرج، وإذا وسعه فوق النجاة بنفسه أن يوصد الباب على الضيف الثقيل ويغلقه بالمفتاح، كان ذلك خيرًا. وسمع قرقعة كأنما داس اللص المحتمل على بندقة فارغة، فابتسم وقال لنفسه: «سيكون هذا الظلام عوني وحليفي»، لأن هذا الصوت الفرقعة تلته صرخة خافتة مكتومة، فحيّره ذلك لأن هذا الصوت قد يند عن طفل أو امرأة أما عن رجل فلا. ونازعته نفسه أن يطل برأسه ولكنه استحمق هذا الخاطر فطرده، ولم يطل وقوفه وانتظاره فقد بدأ مصراع الباب — وكان مواربًا — يتحرك ببطء شديد حتى لامس الحائط منه شيء فعض إبراهيم شفته وأدرك أن المفتاح من الداخل. إذًا لن يوصد الباب على هذا الوغل؟ وليس من الحزم أن يعالج إخراج المفتاح والواغل منه قريب. فلم يبق إلا أن يترك كل شيء للحظ ولإلهام الموقف، وعليه أن يحافظ على هدوئه واتزان أعصابه ليتأتى له أن يتصرف بحكمة. وأطل شيء كالكرة الحمراء فلصق بالحائط جدًا، وحدق في هذه الكرة العجيبة والتي بدأت ترتفع حتى حاذت رأسه، وامتدت ذراع ليس لها كف ظاهرة، إلى الحائط الآخر؛ وكأنما اطمأن صاحب هذه الأعضاء الغريبة، فخطا بجرأة. فما أسرع ما غير إبراهيم ما كان قد صمم عليه، فأهوى إلى ساقي الداخل وجرهما بقوة فوقع صاحبهما على وجهه وندت عنه صرخة أيقن منها إبراهيم أن هذه امرأة. فحمد الله على أن حماه عار الفرار من امرأة؛ وحنق عليها لأنه كان يوشك أن يبدو لها جبانا، وتقدم إليها في ثبات وركلها برجله وصاح بها: «قومي أيتها اللعينة». فتوسلت إليه المسكينة: «في عرضك يا سيدى. في عرضك». فشد ذراعيها بعنف وقال: ماذا تصنعين هنا يا بنت الكلب؟ انطقي! وركلها برجله. فلم تقدر المسكينة على القيام وجعلت تكرر وهي تنتحت: «في عرضك» وغاظ إبراهيم أنها تبكي وأنها لا تزيد على التوسل، وأنه لن يقف على سر هذه الزيارة، فكاد يجن وقبض على عنقها وهو يصيح: سأقتلك إن لم تنطقي. قولي ماذا جاء بك؟ – أنا! فخلى عنها وانتفض قائمًا إلى مصدر الصوت في مدخل الباب. ثم دفع فاطمة برجله وقال: «قومي هاتي المصباح». ومضى إلى الكنبة في سكون. وقالت شوشو وتقدمت إليه: «معذرة يا بن خالتي. لا داعى للمصباح. أنا أرسلتها إليها ورافقتها حتى لا تخاف». فلم يدعها إلى الجلوس، وقال فى جفوة متكلفة: أريد أن أفهم معنى هذا. فارتبكت شوشو؛ ولم يكن شيء من هذا كله مما تتوقع، ولم يخف عليها أنها كانت طائشة فيما فعلت، وأنه مصيب في سؤاله محق في غضبه؛ ولكنها على عادة جنسها نسيت ذلك وتعلقت بلهجته الجافية فحزت في نفسها وسالت الدموع على وجنتيها، ووقفت ترد النشيج بجهد، ولم يكن إبراهيم ملتفتًا إليها لأنه آلى أن يتكلف الجفوة، وأتيحت له الفرصة فاغتنمها ولم يكن هذا بالهين ولكنه كان الواجب في اعتقاده فلم يتردد، ومضى يقول لنفسه وهو جالس لا ينظر إلى شوشو: «إن الحياة كالنظر إلى الظلام. والمرء لا يعرف أي شيء هذا المقبل عليه وإنما يخمن ويقدر، كما يقدر في الظلام ويخمن أي شجرة هذه التي تصادفه في طريقه، وكما يحاول أن يتبين وهو سائر هل بلغ شفا شيء؟ والإنسان وحده هو الذي يفكر ويتبرم ويعنّي نفسه بهذا وذاك — بالحياة والموت، وبالمستقبل، وبالنور والظلام، وبالحب والبغض، لقد كنت في الصباح مع شوشو هذه في الحديقة، ومازلت أذكر وهي على صدري تلك النحلة الصغيرة التي طارت فوق رأسينا ومضت إلى الحشائش وغرزت رأسها فنامت. فيا ليت أنا كهذه النحلة نحيا في كل لحظة أتم حياة، فإذا تعبنا ألقينا رؤوسنا ونمنا، أما لو أن شوشو ليست هنا الآن! مسكينة شوشو واقفة وحدها في الظلام تحدق في سواد اليأس الذي لا يتخلله عرق واحد من النور.. مسكينة مسكينة». ونهض ومضى إلى النافذة ففتحها وأطل منها. فتضوع إلى أنفه نسيم الروض العطر. ولم يكن يرى شيئًا ولكنه لم يشكَّ في أن كل ورقة على غصنها، وكل زهرة وكل عود نابت — كل أولئك متآمر أن يذيع كل ما فيه من عبير وعطر، وتنهد وهو يحدث نفسه أن كل هذه الحيوات الصغيرة متحابة متعاشقة. وإلا لما اتسقٍ جمالها كل هذا الاتساق. وأغلق النافذة وعاد فلم يجد أحدًا في الغرفة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/63502629/
إبراهيم الكاتب
إبراهيم عبد القادر المازني
يعاني إبراهيم الكاتب بطل هذه الرواية من التشتت الوجداني بعد وفاة زوجته، حيث خاض العديد من قصص الحب، التي لم يُقَدَّر له التوفيق في أي منها. فهو تارة يهرب من ماري ممرضته التي وقع في غرامها، وتارة أخرى يأنس إلى شوشو ابنة خالته ويستلطفها، إلا أنه يجد من ينافسه في حبه لها، ويجد من ينافسها في حبها له! فآثر الهروب من ساحة هذا الصراع العاطفي إلى الأقصر، وهناك التقى بليلى بين أعمدة الكرنك، تلك السيدة عذبة اللسان حلوة الحديث. ولكنه في نهاية المطاف ارتضى بسميرة التي اختارتها له أمه، والتي لم تكن لتخطر له على بال. لا يروي لنا المازني في هذا العمل المتميز مجرد رواية تحكي تجربة وجدانية شعورية ذاتية يعيشها البطل، وإنما يغزل هذه التجربة بالتقاليد الاجتماعية والنفسية السائدة في المجتمع المصري — خصوصًا الريفي — في ذلك الوقت. ويُقَدِّم ذلك في أسلوب شيِّق وسلس بعيد عن التكلُّف.
https://www.hindawi.org/books/63502629/14/
«حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب ليرعى بين الجنات ويجمع السوسن»
كان أول ما رآه إبراهيم من حياة الريف — غير ما في البيت الأنيق الذي شاده الشيخ علي — أحمد الميت راقدًا في حظيرة البهائم، وكان إبراهيم قد اعتزم أن يقلل من المكث في البيت وأن يكثر من الخروج إلى الحقول والتجواب في القرية، على الأقل في النهار، حتى يجيء الشيخ علي من الإسكندرية، فقادته رجلاه إلى هذه الحظيرة وهو لا يدرى. وكان أحمد قد سكر فلما بلغ الحظيرة عرج عليها وارتمى فيها، ولم يكن يدري لا هو ولا سواه كم ساعة قضاها هناك راقدًا يغط، بعمامته وجلبابه الأسود وحذائه الأصفر الشامي، وعلى أنه لم يكترث لذلك. بل لم يكن يبالي كم ساعة أخرى يمكن أن يقضيها هناك. ولم يكن منظر هذا السكران الطافح بالغريب على ما يظهر فى القرية، يدل على هذا أن إبراهيم رأى قريبًا من رأس النائم حجرًا منصوبًا كأنما أراد واضعه أن يتماجن على النائم — وشهرته الميت — فرفع عليه حجرًا كالذي ينصب على القبور، وفيما عدا هذا الماجن المجهول لم يتبين إبراهيم أن أحمد أزعجه أحد آخر، إذا استثنينا حمارًا كان مطلقًا في الحظيرة وكان لا ينفك يدنو من هذا الراقد ويشمه كأنما يحسبه بعض المذاود أو بعض ما يوضع فيها. ويضاف إلى الحمار كلب — لم ينس إبراهيم أنه رآه ليلة جاء إلى هذه القرية — مستلقيًا عند قدميه ولا يزال يرفع رأسه فتقع الشمس في عينيه فتختلج جفونه. وقف إبراهيم ينظر إلى هذا «الميت» ويفكر فيما ينبغي أن يصنع ويعجب للشيخ على كيف يتخذ مثل هذا المجنون السكير وكيلًا له ويعهد إليه في الإشراف على شؤون ضيعته. ثم تقدم فدفع الحجر برجله فألقاه، ولاحظ أن عمامة الرجل على الأرض وأن رأسه عار وأن أشعة الشمس واقعة عليه، وظن أن هذا قد يجديه فالتقط العمامة وغطى بها جبينه وعينيه وترك له فمه وأنقه ليتنفس، ولم يجد أن في وسعه شيئًا آخر فأولاه ظهره ومضى، ولكنه تلفت مرة قبل أن يخرج. فإذا بالعمامة على الأرض مرة أخرى وإذا بأحمد الميت قاعدًا يقول كلامًا غير مفهوم. والحقيقة أن أحمد الميت — على خلاف أهل الريف — لم يكن يطيق أن ينام وعلى رأسه غطاء، ولعله يؤمن في أعماق نفسه بفائدة الشمس للجسم ولا يخشى وقوعها حتى على رأسه، وكان منذ حداثته يأبى أن يضع على رأسه شيئًا وهو نائم، ولكنه وهو قاعد ورجلاه ممدودتان لم يستطع أن يفضي إلى إبراهيم بعقيدته هذه ولا أن يبين له أن تلك عادته ولم تنفرج شفتاه إلا عن تمتمة غير مفهومة، فكرّ إليه إبراهيم وزجره أن ينهض إلى بيته إن كان له بيت غير هذه الحظيرة. فنهض أحمد إلى قدميه وسأل إبراهيم: البيت؟ لماذا أذهب إلى البيت؟ ولم يكن هذا بالسؤال الذي يلقى على إبراهيم، ولكنه مع ذلك قال له وهو ممتعض من منظره: اغسل هذه الأقذار التى على جسدك أيها البهيم القذر. ولم يكد يقولها حتى كان أحمد الميت يخلع ثيابه ويقذف حذاءه ويعدو في قميصه وسرواليه المصفرين، إلى النهر، فدهش إبراهيم وأيقن أن الرجل لا مفر له من الغرق، ولما كان لا يدري كيف ينقذه فقد بدا أن يرجع إلى البيت ويخبر من فيه. دفع إبراهيم باب الحديقة الخلفي بقدمه، وانثنى إلى اليسار ثم وقف. ذلك أن شوشو كانت حانية على حوض الزهر تقطف زهرة من أزهار الأراولة وظهرها إليه. فعض شفته وخطر له أن يتراجع غير أنه خشي أنه تنتبه، فظل واقفًا وقد بدأ المنظر يروقه، فقد نفخت شوشو الزهرة لتطير عنها الحشرات، ثم قبلتها ثلاثًا وراحت تنزع غلائها المستطيلة المتحازية على مدار كأسها — واحدة واحدة — وتلقيها وهى تقول على التوالي: «نعم، لا، نعم، لا.» فوافقت «لا» آخر ورقة، فتجهم وجهها وتفلت ما بقي من الزهرة من بين أصابعها إلى الأرض، ولبثت هنيهة جامدة لا تتحرك، ثم أهوت على الحوض فجأة واقتلعت زهرة أخرى وأعادت التجربة فكان ختامها «نعم» في هذه المرة، فلم تكد تقوى على الوقوف ساكنة وراحت تدب برجليها وتضم كأس الزهرة إلى فمها بكلتا يديها. ثم كأنما طاف برأسها أن الكفتين متعادلتان وأن «نعم» يقابلها «لا» فالمسألة لم تتزحزح عن موضعها الذي كانت فيه من قبل، فلابد من تجربة ثالثة للترجيح، وشكت في أنها بدأت التجربة الثانية كما بدأت الأولى «نعم» فقد يكون عدد الغلائل واحدًا في كل زهرة من هذه الأزهار، فإن كان هذا هكذا فلا شك أن النتيجة تختلف تبعًا لاختلاف ما تبدأ به. وإذا صح أن البدايتين اختلفتا، وأن عدد الغلائل واحد. فهل غشت إلا نفسها؟ وهل يمكن أن تكون النتيجة إلا واحدة فى كل مرة؟ ولكن هل الغلائل عددها متساوِ؟ هذه هي المسألة! ولحلها حنت على الزهر فقطفت اثنتين ومضت تشد الورق وتعد، فاختلف الرقمان، فتهلل وجهها وبدا السرور في وقفتها وحركاتها، فقد صار التجريب معقولًا، والأمر متروكًا للمصادفة والاتفاق، وليس مما يسهل العلم بنتيجته من غير أن يتكلف المرء قطف الزهر وإفساده بنزع ورقه، وصاحت «لنبدأ من جديد». فعلم إبراهيم أنها محت التجربتين وأسقطتهما من حسابها، وراحت تنزع الورق في تؤدة وأناة وتثني رأسها على صدرها في كل مرة، حتى بقيت ورقة واحدة قالت من غير أن تنزعها «نعم» طويلة ممطوطة كأنها الصعداء تتنفسها وتحط بها عن كاهلها وقرًا، ثم وقفت ساكنة لا تصنع شيئًا ولا تتحرك. ورأسها مثني على صدرها وعينها ترنو إلى الكاس الذي لم تبق على حافته سوى ورقة واحدة وفي وجهها طول، وفي هيئتها استرخاء كأن جسمها موشك أن يتهافت وأن يهوي إلى الأرض كومًا مفكك الذرات. فعجب إبراهيم لهذه التي كانت تطفر كالفراشة قبل دقيقة لماذا وجمت بغتة؛ وللنفس الإنسانية وسرعة انتقالها من المرح والكآبة، ولخفاء البواعث التي تفضى إلى هذا أو ذاك؛ على حين تدعو الظواهر إلى النقيض، وود في هذه اللحظة لو يستطيع أن يرد إليها البِشْرَ الذي كان ينضح به وجهها، والخفةَ التى كانت فى روحها، والمرحَ اَلذي كان في سلوكها، والضحكاتِ الكروانية والدعابة التي كانت تركب بها الحياة نفسها — في ليالِ معدودات — غاب كل هذا، وذهبت شوشو اللعوب المفراح التي لم تحتج يومًا أن تفكر أن تمد بصرها إلى ما وراء اللحظة التي هي فيها. ولكن هذا ليس في وسعه، وما هو بأحسن منها حالًا ولا بأقل حاجة إلى الغوث، نعم، الغوث، ولكنه رجل مجرب وهي فتاة غريرة، وهو قد خاض العباب وغالب التيار وتدرب على المكافحة، وهذا أول عهدها باللجة الطامية، وما أهول الغصص التي تعانيها وهي تغوص وتطفو وتختنق وتشرق وتدفع باليدين والرجلين وتحاول أن تصيح طلبا للنجدة فيخرسها الماء الذي يملأ فمها، وتومئ فلا يراها أحد، ومن ذا الذي يغيث في هذا الخضم الضاغي؟ أين اليد التي ليست في شاغل من أمرها؟ ومع أن ما كانت شوشو فيه، واضح المعنى، فقد شاء إبراهيم أن يتجاهله وارتد إلى الباب ففتحه ثم أغلقه بعنف كأنما كان داخلًا لتوه، وأقبل على شوشو التي انتبهت على صوت الباب، وتكلف البشاشة وفي صدره أظافر تمزقه وبسط إليها كفيه وقال وهو يسرع إليها: ما أبدع الجو في البكور! هل أفطرت؟ فمنحته كلتا يديها وسألته بصوت خافت: أين كنت؟ فأبقى كفيها في يديه ونظر إليها وقال بلا تكلف: ما ابدعك! – إبراهيم! – إنك تفرغين على الحديقة جمالًا جديدًا. أحب أن أخبرك أني اليوم مجرم … لماذا تتراجعين؟ أتتخلين عني في محنتي؟ نعم لقد قتلت رجلًا. لا تُراعي! إنه ليس إلا أحمد الميت؟ غرق أو هو يغرق الآن أو لا أدري فقد يعود إلى الحياة ثانية! على كل حال ليست هذه أول ميتاته إن صح ما تحكون عنه. ولما رآها حائرة مضطربة قص عليها ما حدث وبالغ في الوصف فسرّى عنها وأغربت في الضحك وجعلت هي تطمئنه وتؤكد له أن لا خوف أن يقاد به. ••• وجاءت هي إليه بالطعام في غرفته، فلما جلس إليه علىٍ البساط أسندت ظهرها إلى الكنبة فنظر إليها فقالت: «لا أحس جوعًا» فالتفت إليها وقال بلهجة الجد الصارم: سأرخي لحيتي احتجاجًا. فقالت وهي تضحك: ولكن لماذا؟ ما علاقة لحيتك بأن آكل أو لا آكل. فقال: «تصوري منظر قريبك وقد أرسل حول خديه وتحت ذقنه لحية كثة! إنه منظر يوقظ الضمير النائم. وما أظنك ترتاحين إلى لقائي بعد ذلك ولحيتي في يدي. أفهمت الآن»؟ وبعد أن أصابا شبعهما قال: «والآن أين القهوة يا فتاتي المهملة؟ ألا تعلمين أن لي معك حديثًا خطيرًا يتطلب كل ما في رأسي من اتزان وحكمة». ولم تدر أهو يجد أو يهزل، ومضت عنه ولكنها ما عتمت أن عادت لا بالقهوة بل بأدواتها: بحُقِّ البن وحُقِّ السكر، والسبرتو، وقعدت أمامه تصنعها. وقال دون أن ينظر إليها بصوت لا يكاد يسمع فكأنه يتنفس أو يحدث نفسه: شوشو أيتها الفتاة الرائعة، لقد رأيتك اليوم تنزعين ورق «الأراولة» وتجربين حظك أو تستوحين هذه الزهرة الفاتنة، تسأليها عن مصيرنا.. فتحولت إلى جانبه ولم تتكلم، فأراح ذراعه على كتفها ومضى في حديثه أو مناجاته. – هممت أن أصرفك عن استنباء الزهرة، ولكني قلت أدع لها ذكرى حميدة تنعم بها في يوم من الأيام المقبلة. أترك لها حلمها الجميل وإن كنت في شك من أن الأحلام ليست خطرة. شوشو، إن أنفاسك لا تتعلق أو تحتبس حين ترينني مقبلًا أو مدبرًا …». فتمتمت في حياء: «ولكني آسر..». فقال: «ربما» (فرفعت إليه عينيها بسرعة فلم يعبأ بهذه الحركة ومضى إلى غايته) «على أن هذا أشبه بأن يكون شعورًا أخويًا منه بأن يكون أ.. أ.. تعرفين ما أعني؟ نحن قريبان وبيننا من الود فوق ما يكون بين الأقرباء في العادة. ولكن هذا ليس معناه أننا … أننا … أكثر من ذلك … اسمعي يا شوشو. لقد أخطأتُ حين جئت إلى هنا. لو كنت أعلم أن هذا سيحدث لما جئت. ولكن هذا لا ينهض عذرًا لي. أنا الملوم. ماذا جرى؟ أتبكين؟ يا ألله»! وجذبها إليه فأسندت خدها إلى صدره وهي تنشج فكاد قلبه يتمزق رقة لها وعطفًا عليها وعلى نفسه أيضًا؛ ولم يسعه إلا أن يهمس في أذنها: شوشو يا فتاتي الساحرة. ازجري العين عن بكاها. إنك تعلمين أني أتصنع أني كاذب لا أعني ما أقول. إني مجنون بك وسأظل مجنونًا. هذه هي الحقيقة وليكن ما شاءت المقادير فلن تصبو نفسي إلى غيرك. وكان صوته يرتعش ويده ترتجف وكيانه كله يهتز فالتفت ذراعها بعنقه وقالت هامسة: أعرف ذلك. وهدأت الأعصاب، وبعد لحظةً ادار إليها وجهه ولثم شفتيها ثم قال: اصغي إلي. فما أستطيع أن أرفع صوتي. سأبكي إذا فعلت. فدنت منه حتى لصقت به، وشد هو نفسه حتى خيل إليه أنه صار كالصخرة، ولكن صوته ظل متهدجًا على الرغم منه. – إني اكبر منك سنًا وأكثر تجارب، ولم يكن من حقي أن أدع الأمر بيننا يبلغ هذا الحد، وعلى أن لك على صغرك وغضارة سنك وقلة خبرتك، من الذكاء ما يعينك على التقدير السديد والنظر السليم، وإني لأعلم كما تعلمين أن بيننا.. تفاهمًا.. تفاهمًا مباركًا.. ولست أعتقد أن بين اثنين سوانا مثل هذا التعاطف الطبيعي. كلانا خلق لصاحبه، ولكن لهذه الأمور مقتضياتها، مستلزمات لا مفر منها ولا معدى عنها، إذا لم يكن الزواج هو المصير فليس يجوز أن ينشأ بيننا أو يظل مثل هذا التفاهم. إنه تحدٍّ للطبيعة: أن يتحاب اثنان ثم لا شيء. الشأن شأننا في الحقيقة. والأمر لا يعني سوانا ولكن الأيام مقلوبة. والعادات والتقاليد سخيفة ومنافية للعقل والواجب. صارمة أيضًا. ونحن نوشك أن نحدث في سورها ثغرة … أن نقتحم الحصن المنيع الذي بناه الجهل … ولست أراك تقوين على ذلك. ولا أحسبني خيرًا منك. ينبغي أن نفتح عيوننا. عاجلًا أو آجلًا. أنا أوثر أن يكون ذلك آجلآ. وهو أحلى وأعذب وأندى على النفس. ولكنه لن يكون إلا حلمًا مهما طال. ونحن ننسى أحيانًا مصير كل شيء لا يساير التيار، ولا يوافق الزمن ولا يطابق روح الأيام. وإذا كان لابد من التحطم على صخور التقاليد فليكن ذلك … اليوم». فخنقت الفتاة عبرتها وتعلقت به يائسة ثم قالت، وكلتا ذراعيها حول عنقه ووجهها مدفون في صدره: لا أقدر … لا أقدر … مرة واحدة … كلا لا أقدر. فمسح لها شعرها في رفق وقال: «لابد … وإنك لتعلمين ذلك. لابد أن نكسر قلبينا». فقالت: «نكسر؟ ولكن أوه! أوه! لماذا نمزق قلبينا؟ دعني أيامًا … أمهلني وقتًا كافيًا. لا هكذا في دقيقة واحدة، بالتدريج، إبراهيم. بالتدريج، ليبقى لي شيء أذكره. أحلم به. أدّخره للأيام السود. دع لي شعاعًا واحدًا من النور، لا أكثر، لا تهشم حياتي كلها اليوم. لا تمح دنياي بلفظة. حتى التعذيب يجب أن يكون تدريجًا ليحتمل». فابتسم لها — في عينيها. وكما أن لمسه ألانه وفتره وسرَّى عنه أيضًا، كذلك ضعفها قواه وأمر عزمه وقال: كلا! يا شوشوِ. ليس هذا خليقًا بك. يجب أن نصدق أنفسنا ونكون أقوى منها أيضًا. نحلق فوق مقاديرنا. وسيفسد كل شيء إذا لم نختم هذه الحكاية الآن ثم ننهض مبتسميْن. لقد غرسنا معًا أجمل زهرة. ونمت وتفتحت حتى صارت منى النفس وريحانة العين والأنف — حسن منظر وذكاء مشم. وقد آن أن نقطفها … يجب أن يكون قطفها كما ينبغي. لا ورقة ورقة، فلا تبقى هناك زهرة. وتصوري جمال الذكرى. ذكرى الزهرة الجميلة التي كانت لنا والتي لم نخف أن نقطفها … لما أينعت … سنزهى بذلك ونسعد أيضًا حين نذكره. نذكر زهرتنا التي لم ندعها تذبل أو تموت … ويجب أن نقطفها بابتسامة يا شوشو من أجلك وأجلي …». – أوه! إن هذا كالموت. لا أستطيع أن أواجهه. – بل تقدرين معي. نحن الاثنين نستطيع أن نواجه أي شيء، وماذا يعنينا من الموت ما دمنا نستطيع أن نسير في الحياة بقلب سليم؟ فرفعت شوشو رأسها وقالت: أنت محق. يجب أن نسير بقلوب سليمة. وتحولت عينها إلى النافذة وارتفعت منها إلى السماء. ثم ارتدت إليه ومدت يدها البضة ولمست شعره ومشطته بأصابعها إلى الوراء وتركها هو تداعب شعره كما تحب؛ ثم قالت وهي باسمة وفي صوتها حنو دافق: فلنقطف زهرتنا الآن. فابتسم لها.. والتقت شفاههما في قبلة طويلة ودارت الأرض حولهما، ثم أرخى ذراعيه فتخلت عنه وتناول كفها فلثم أطراف أصابعها ثم اضطجع على الكنبة وأخرج سيجارة وأخذ يلعب بها وهو يفكر ويبتسم، ثم رفع رأسه وقال: شوشو، ما قولك في مكثى أيامًا أخرى؟ لقد كنت معتزمًا أن أرحل، لكني أظن أننا نستحق أن نبقى معًا قليلًا — كأخوين! فقالت وهى تنهض وتشده معها: «لقد ترفقت بي على الرغم من قسوتك». وغادرا الغرفة معًا إلى حيث أختها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/13572470/
إبراهيم الثاني
إبراهيم عبد القادر المازني
ليس من قبيل الصدفة أن يكون اسم بطل رواية إبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم» الثاني، وفي رواية أخرى «إبراهيم» الكاتب، فقد تعمَّد الروائي أن يسمي البطل باسمه. ذلك أن المازني جمع في هذه الرواية بين جانب من حياته وجانب من خياله، ويعترف المازني لنفسه بذلك، حيث يذكر في مطلع روايته أبيات من الشعر تدل على هذا المعنى! إنها رواية سيكولوجية بامتياز، تهيم في الأبعاد النفسية للنفس الإنسانية، فهي رواية الحب قبل الزواج وبعده، وهي أيضًا رواية الخوف من الشيخوخة والموت، باختصار هي رواية اعترافات. إن هذا العمل يمثل بحق جزءًا من تاريخ الرواية العربية. وتتميز الرواية بأسلوب فريد، يشهد للمازني بمكانة كبيرة في أدبنا العربي.
https://www.hindawi.org/books/13572470/0/
إهداء الكتاب
null
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/13572470/
إبراهيم الثاني
إبراهيم عبد القادر المازني
ليس من قبيل الصدفة أن يكون اسم بطل رواية إبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم» الثاني، وفي رواية أخرى «إبراهيم» الكاتب، فقد تعمَّد الروائي أن يسمي البطل باسمه. ذلك أن المازني جمع في هذه الرواية بين جانب من حياته وجانب من خياله، ويعترف المازني لنفسه بذلك، حيث يذكر في مطلع روايته أبيات من الشعر تدل على هذا المعنى! إنها رواية سيكولوجية بامتياز، تهيم في الأبعاد النفسية للنفس الإنسانية، فهي رواية الحب قبل الزواج وبعده، وهي أيضًا رواية الخوف من الشيخوخة والموت، باختصار هي رواية اعترافات. إن هذا العمل يمثل بحق جزءًا من تاريخ الرواية العربية. وتتميز الرواية بأسلوب فريد، يشهد للمازني بمكانة كبيرة في أدبنا العربي.
https://www.hindawi.org/books/13572470/1/
الفصل الأول
أصبح إبراهيم، ذات يوم مكتئبا، متبرما، يشكو إلى كل من يلقاه من الإخوان أنه لا قدرة له على فهم «هذه المرأة». ولم يكن يعنى امرأة خاصة على الرغم من اسم الإشارة. وإنما كان — وهو يتكلم ويبسط كفه، ويمد ذراعه، ويطوح بها فى الهواء — كأنما يومئ إلى «الجنس» كله ويدل عليه. وكان فى العقد الخامس من عمره، ولكنه كان ذا وسواس. وكان أخوف ما يخاف، أن يكون قد شيِّخ، أو أشفى على الشيخوخة. ولم يكن لهذا الوهم ما يسوغه سوى إرباء إحساسه بالحياة على القدر الذى تتسنى به الراحة فيها. وكانت امرأته ذكية رحيبةَ أفقِ النفس، بعيدة مطارح العين. وكانت تتوخى أن تجدد نفسها له وتحرص على أن تحيطه بجو من «الشباب»، ولا تفتأ تدعو من ذوات القربى، أو من بنات المعارف، الفتيات الناهدات، واللاتى ما زلن فى عنفوان الشباب. وكانت ترجو بهذا أن يجد بعلها ما ينعشه وينشطه، ويميط عنه أذى الإحساس بالشيخوخة المخوفة أو المتوهمة. ولم تكن تخشى عليه الفتنة، فقد كانت تعرفه رزينا حكيما، وحَييًّا محتشمًا. غير أن هذا الذى تحرَّته معه، كان يعمِّق شعوره بأنه ارتفع عن حد الشباب، ودخل فى الكهولة، أو هو على عتبتها الباردة. وصار يحس أن به حاجة إلى ما يطمئنه على شبابه الذى ينضب معينه بسرعة. وكان يعلم أن امرأته تحبه — أو لا تزال تحبه — غير أنه كان يخشى أن يكون حبها له عادة، أو بفضل الذاكرة وتشبثها بما نعمت به منه فى شبابهما. فاشتاق أن تحبه غيرها واشتهى أن يسمع كلمات الحب والإعجاب من فم آخر. ولم يكن يعدم ثناء سارًا، بل ودًا صريحًا، من الفتيات اللواتى يحطن به. ولكنه كان يقول لنفسه إن هؤلاء غريرات لا خبرة لهن بالحياة ولا تجربة لهن فيها، فلا اعتداد برأيهن فيه. وكان يستريب بالمجربات الحاذقات، ولا يطمئن إلى صدقهن، وخلوص سريرتهن. فصار الأمر مشكلاً، لا حب امرأته يقنعه، ولا مودة الغريرات بها اجتزاء، ولا ثقة له بغيرهن. وعرف فتاة — فى بيته، وبفضل امرأته — اختلط أمرها عليه. فما كانت، فيما يرى، من الغريرات، ولا كانت تبدو ذات تجربة ما. وكانت متزنة ذات عين فاحصة ولكنها غير صارمة. وكانت أحلى ما تكون حين تبتسم وتتقارب جفونها حتى لتكاد تنطبق. وكانت على سكونها وهدوء مظهرها فى كل حال، لايشك الناظر إليها فى أنها زاخرة بالحياة الفوَّارة، بهذا كانت تنطق كل حركة وإيماءة، ونظرة، ولفتة. وكان اتزانها فيما يبدو له، كالسد الذى يحبس الماء وراءه، ويمنعه أن يتدفق. ولم تكن مع هذا يبدو عليها الكبت، ولا كان سكون طائرها تكلفًا، بل كان خفرًا طبيعيًّا واحتشامًا مكتسبًا بالعادة على الأرجح. وما أسرع ما توادا، بل ائتلفا — لا يدرى كيف؟ — وصغا إليها، وصغت إليه. وأنس بها، وأنست به. التقيا مرة فى غير داره، اتفاقا، فوقفا هنيهة يتبادلان التحية والكلام الذى لا محصول وراءه. وكان يهم أن يدعوها إلى مرافقته فلا يسعفه لسانه. فلما وضعت يدها فى يده وهى تودعه وتفتر له عن ابتسامة رقيقة، وأيقن أنها ذاهبة، وأن الفرصة قد لا تسنح مرة أخرى، انطلق اللسان المحتبس، وزايله حذره المألوف فسألها هل تسمح بمقابلته فى يوم آخر؟ وكان يتوقع الاعتذار. وإذا بها تتقبل دعوته باغتباط وبساطة عجيبة. وصارا يلتقيان. واتفقا على أيام معينة يخلوان فيها بنفسيهما بنجوة من الرقباء. وأعادته بسكونها، فهدأت ثورة القلق وذهبت عنه الوحشة التى كان يكابدها إذ يكون مع الناس. ونفثت فيه من حرارة شبابها فنسى أوهامه، وعادت إليه الثقة والاطمئنان — إلى حد ما — وصدق ظنه أن سكينتها سد وراءه فيض زاخر من الحيوية محتبس، حتى لصار يخشى جدًّا أن تنفتح «البوابات» كلها دفعة واحدة، فيغرقها — ويغرقه معها — التيار الجارف. وراح يقنع بعلمه باضطراب الماء واصطفاقه وراء الأبواب الموصدة. وسعد بها، وسعدت به، وصارت له، وصار لها، مألفة. وكانت دائمة البشر والبشاشة، سلسة كالجدول الرقراق، فلا سورات غضب، ولا دلال تتكلفه، ولا هستيريا. وكان هو أيضًا معها على هذا النحو الموافق من الرقة، ولين الجانب؟ لأنه أمن منها البطر وسوء السلوك. غير أنه أقلقه عليها — ومنها — ما علمه من صدها الخُطَّاب وزهدها فى الزواج. وكان يقول لها، وهو يحاورها، إن هذه حياة غير طبيعية، فتقول إنها قانعة راضية وأنها لا تطمع فى غير ذلك، ولا تتطلع إلى ما يجاوزه، وأنها سعيدة هكذا فلماذا تغير الحال؟ وكان هذا يسره، ويسوءُه. فأما وجه السرور فذاك أنه وجد فتاة لا ينقصها المعجبون والعشاق ترضى غروره بهذه القناعة به وتقوِّى شعوره بأنه ما زال كفؤا للحياة، وأن ما كان يخشاه لم يكن إلا وهمًا ووسواسًا أورثه إياهما تلف الأعصاب. وأما ما ساءه — كما قال لها مرارًا — فذاك أن عمر هذه الصلة لا يمكن أن يكون إلا محدودًا. فإنه أسن منها أكثر من خمسة عشر عامًا، فهى تستقبل الدنيا، وهو يستدبرها شيئًا فشيئًا. فكان ردها الذى لا يختلف أنه لا يزال بينهما وبين هذه الخاتمة التى يراها محتومة أمدٌ طويل، وما زال أوانها بعيدًا، فلماذا تحمل همها سلفًا؟ فيأبى أن يقتنع ويقول: «وهل تظنين أن الرغبة فيك ستظل كما هى الاَن بعد سنوات أخرى؟» فتقول: «ولم لا؟ إن لكل سن مزيتها، ولكل امرأة من يطلبها فى سنها. دعنا من هذا، خلِّنا فى الحاضر، فإن الغد غيب..». وكان لتلف أعصابه يتطير أحيانًا من هذا الكلام، ويذكر أن فتاة أخرى كانت لا تنفك تبدئ وتعيد فى أنها لن تتزوج، وقد صدقت وما تزوجت لأنها ماتت. فكان يحدث نفسه أن لعل هذا يحدث له أو لصاحبته فيموت أو تموت. وكانت تضحك من كلامه هذا وتصرفه عن هذا اللون الثقيل من التفكير وتقول له: «وماذا إذا مت أنا؟ أليس خيرًا أن أموت سعيدة فى شبابى؟ أم تراك تريد أن ترانى شمطاء تشيح عنها الوجوه وتتحول عنها العيون نافرة، وتجفوها القلوب؟ لا يا سيدى..». فيقول: «ولكن أنا؟ أنا؟ إنى أخب إلى الشيخوخة..». فتقول: «يمكنك أن تثق أنى سأظل صديقة وفية ولا ألومك على شيخوخة لم تجنها على نفسك، ولم تدركك بفعلك، ولم تتعمد أن تبلغها لتكايدنى». ولم يجد جدوى فى مثل هذا الحوار الذى كان ينتهى فى كل مرة إلى غير نتيجة يحسن السكوت عليها، أو يمكن الاقتناع بها. وراح يطفو معها على متن التيار، وكان تيارًا رقيقًا لا يطغى به ولا يعنف. وكانت هى قريرة العين، صريحة البشر في غير تعمل. وظلا سنتين على هذا الحال، لم يقع بينهما خلاف مرة، ولم تنظر إليه قط بغير الابتسام والبشاشة، وخلت حياتهما معًا من العتاب والغيرة. وكان خير ما يسره منها أنها لا تعرف قولة «لا»، فما سمعها منها ولامرة واحدة فى عامين طويلين. وكانت تكل إليه أمرها واثقة مطمئنة، فكان لهذا حفيًا بها، متحرزًا من أجلها ساهرًا عليها، لا هم له إلا أن يذيقها أقصى ما يدخل فى الطوق البشرى المحدود من السعادة الميسورة، وكانت كأنها على يقين من هذا. إلى أن كان يوم وقعت فيه بينهما جفوة لسبب سخيف. وكانا قد استأجرا سيارة «تاكسى» ومضيا فى الطريق الزراعى الذى ينتهى إلى الإسماعيلية، لينعما بنضارة الخضرة على جانبيه. فلما صارا على مسافة فراسخ من القاهرة، انثقبت إحدى العجلات، فوقف السائق ليضع مكانها العجلة الاحتياطية فإذا هى فارغة من الهواء. ولم يكن معه منفاخ، فحمل المسكين العجلتين وذهب بهما ليصلحهما. وبقيا على الطريق ينتظران ويتحدثان، ويتضاحكان. ولكن الانتظار طال فثقل عليها واربد وجهها. وحاول أن يسرى عنها ويعيد إلى محياها البشر المألوف الذى لم يعهد سواه فأخفق. وبعد ساعات عاد السائق المسكين يحمل عجلة ويدحرج أخرى. ورجع بهما إلى القاهرة. فلما بلغاها أبت أن يصحبها وأصرت على ركوب الترام وحدها، وكانت مقطبة. وكثيرًا ما عاد بها الترام وحدها فليس فى هذا جديد، ولكن الجديد هو التعبيس الذى يراه أول مرة فى عامين. ولم ير أن له ذنبًا، أو أنه يستحق هذا التقطيب، وثارت نفسه على الظلم، وكره أن يفضى بهما الأمر إلى الشجار والنقار السخيفين، وعجز عن فهم البواعث التى جاءت بهذه السحب وعكرت صفاء وجهها ونفسها، فانصرف ناقمًا ساخطًا، أثقل ما يعانيه أنه غير فاهم شيئًا. وظل بضعة أيام يحدث نفسه كالموسوس بتعبيس صاحبته «ميمى». وكان امرأ فى أصل طباعه الجد الصارم، وإن كان قد عود نفسه، ابتغاء الراحة، أن يأخذ الأمور من ماَخذها السهلة، القريبة، وأن ينظر إلى الحياة من ناحيتها المشرقة الوضاءة، من غير أن تغيب عنه نواحيها الحالكة الكالحة. وكان مما راض به نفسه على ذلك قوله لها وهو يناجيها حين يخلو بها: «إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأى فى خلقنا نحن. وإنما جئنا لأن نواميس الحياة اقتضت أن نجىء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا. ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة. فالصبر والحلم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شىء على حسن الفهم وحصة الإدراك. وليس هذا من قبيل قولهم ليس فى الإمكان أبدع مما كان، فإن كل ما فى الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب، وإن لم يكن فى ذاته غاية فى السوء والفساد». واكتسب بالأناة، على الأيام، الإنصاف حتى من نفسه. وصارت له قدرة نادرة على وضع نفسه فى موضع غيره، وتصور ما يصدرون عنه من بواعث، وكيف يجيبون ما يهيب بهم من هواتف. وما أكثر ما حزن وتألم، ولكنه كان يستطيع، وهو يعانى ما يعانى، أن يمهد العذر للذى أورثه الألم أو الحزن. وقال لنفسه: «إن ميمى تظلمنى، فما لى ذنب فيما كان. وتظلمنى ظلمًا ثانيًا حين يثقل على كاهل صبرها أنها حرمت ما كانت تتطلع إليه، فقد كان الحرمان نصيبى أنا أيضًا. ثم إنها تنسى ما أتجشم فى سبيلها لأنيلها أكبر حظ من السعادة. وإنى لأعرض عن فتيات كثيرات فى وسعى أن أصل سببى بأسبابهن بغير عناء. وإنى لأنفق فوق ما يشير به حسن التدبير، فما أنا بذى سعة عظيمة فى الرزق. وأكون على موعد معها فلا أبالى ما يفوتنى فى سبيل لقائها، وأكون مريضًا، أو متعبًا، فأتحامل على نفسى فألقاها ولا أكون معها إلا هاشًا باشًا — ضاحكًا مازحًا — لأسرها. ولقد حَرمتُ زوجتى بعض حقها، حين اختصصت ميمى بهذه العناية. فما من شك فى أنى أهمل امرأتى بعض الإهمال، وما جنت شيئا تستحق به ذلك، ولا ذنب لها فيما اعترانى من ملل لطول العشرة وفرط الألفة. وإنها أيضًا لجديرة أن تمل وتسأم ولعلها تفعل، غير أنها تتجلد وتتشدد، ولا تبدى لى إلا الود والعطف، وإلا الفرح والإعجاب والزهو بى.. بى أنا المتلهى عنها بميمى.. أفلا تكون هذه الزوجة معذورة إذا اقتاست بى واحتذت مثالى، وذهبت تنشد التسلّى والتلهِّى برجل آخر أصبى منى؟ رجل تكون فى عينه جديدة كميمى فى عينى؟ كل هذا تنساه أو تغض عنه ولا تحفله ميمى، ويسوءها — فتتجهم — أن عجلة انثقبت فقعدنا فى الطريق ساعة ننتظر إصلاحها وفاتنا ما يسهل اجتناؤه فى يوم آخر. وكان جمال الطريق مبتغانا، فتملينا بحسنه قاعدين، لا رائحين غادين. وتأخرت عن موعد عودها إلى بيتها قليلا». وأحس أن ثورة نفسه تتفاقم، لا على ميمى، بل على نفسه وعلى الدنيا كلها، وما أصاره إلى هذا الحال، وعلى كفرانه حق زوجته. فقد كان فى قرارة نفسه يحبها ويجلها، ولا يستطيع أن يتصور دنياه خالية منها، ولكن إلفه لها فتره، فذهب يلتمس ما به يتجدد، وينشط، وينبعث. وأراد أن يكبح هذه الثورة فقال لنفسه: «وميمى؟ ألا تتجشم فى سبيلى مثل ما أتجشم؟ ما حاجتها إلىَّ؟ إن فى وسعها أن تتزوج وتهنأ، ولكنها لا تفعل. وليست فقيرة إلى مالى، فما لى مال يطمع فيه طامع، وما عرفت فيها الطمع، والقليل الذى أهديه إليها، تُهدى إلىَّ خيرًا منه وأنفس. وهى تحرص على لقائى فى مواعيده ولو انطبقت السماء على الأرض. وأمها لا ينقضى عجبها لهذا الخروج فى أيام لا تختلف ساعة ولا تتقدم أو تتأخر دقيقة واحدة، ولا تنفك تلح عليها بالسؤال، وتلج فى استكشاف السر، ولم تستطع فى عامين طويلين أن تهتدى إلى الحقيقة. ولو شاءت ميمى، أو طاشت، لورطتني عمدًا أو عفوًا. ولكنها لا تتطلع إلى شىء ولا تبغى إلا أن أكون معها.. هكذا.. ليس إلا.. وما عرفتها ندمت أو قلقت، أو عنيت بأن تمد عينها إلى الغد المحجوب، وما عسى أن يكون حالها فيه. وإنى لأحاول أن أحملها على تدبر هذا الغد، فتأبى إلا أن تصدف عنه وتعرض، لا يأسًا منه، ولا مجازفة، بل لأنها راضية قانعة. وما أكثر ما قلت لها إنها تضيِّع شبابها معى، وإنها لتعيرنى من حرارته، ولكنها لا تستطيع أن ترد علىّ شبابى بما تنفث فى من حرارة شبابها، وأنه أولى بها أن تكون ذات بعل شاب مثلها، فتصغى بعناية ولكن بابتسام ساخر، ثم تقول: «شاب؟ شاب إيه؟ ماذا أصنع بالشباب؟ الطيش والغرور؟ إذا حاولت أن أضع له اللجام، نبا فى العنان، وإذا ألقيته له جمح. وأنا الشقية فى الحالين. ثم الأولاد.. والبيت.. والمطبخ.. لا ياسيدى.. بدرى.. بدرى.. كل شىء فى أوانه. ثم ما عيبك أنت؟ رجل رزين حكيم، مجرب، ولم يذهب شبابك كما لا تفتأ تزعم. أو تحسب أن الشباب سواد الشعر ونضارة الجلد؟ إنك بنفسك أصبى من ألف شاب. وأنا أجد فى صحبتك ما لا يعرف الشبان كيف يتيحونه لى.. إن لى كل يوم جديد مُتعة أفيدها منك، وقد رفعتنى إليك، وأخلق بالشاب أن يهبًط بى معه. ومنحتنى ما كان خليقًا أن يفوتنى لولاك.. مزيتك هى مزية الكهولة الناضجة — لا تقاطع — لا تقل إنك لست الوحيد فى الدنيا أو الذى لا ند له، فإنى أعرف ذلك. ولكنى لا أعرف، ولم أعرف سواك. ثم إنى معك فى أمان من المخاوف. لا سوء عاقبة، ولا طرد من الجنة. أتذكر يوم قلت لى ليت أبانا آدم أكل من شجرة الحياة، ولم يأكل من شجرة المعرفة؟ لقد دار هذا فى نفسى مذ سمعته منك، فهل تعلم أنك أطعمتنى من شجرة الحياة، ومن شجرة المعرفة جميعًا؟ ثق أنى معك أحيا، وأتعلم، وبلا ثمن أيضًا، أو بثمن هين. وإنى لاكون شقية لو استقللت ذلك.. ثم مالك أنت ما دمت أنا راضية قريرة العين؟» فكان يدهشه منها حكمة الطبع، وهى فى مثل سنها الغضة عجيبة نادرة. وانتهى من هذا الحوار مع نفسه إلى أن الأولى أن ينتظر حتى يلقاها مرة أخرى فيرى ما يكون منها. فإذا عاد إليها بشرها تناسى الأمر كله. وإلا.. وإلا.. وإلا ماذا؟ لا يدرى.. ولكنه لا يطيق هذا التعبيس، وما من موجب لاحتمال ثقله، ثم إنه لا يفهم لماذا يتكلف الناس ما يفسدون به حياتهم؟ والتكلف جهد على الحالين فلماذا يتكلف الناس ما ينغص العيش ولا يتكلفون ما به يطيب؟ ولقيها فى الموعد المضروب. وكان ينتظرها على رصيف مسجد، وراَها قبل أن تراه. وكان يسره منها أنها لا تتثنى فى مشيتها، ولا تتقصع، وأنها تسير غير ملتفتة أو عابئة بأحد. وسره منها فى يومه هذا أنها جاءت فى أحب ثيابها إليه وأشرحها لصدره، وكانت لا زاهية ولا قاتمة، ولا قطعة واحدة بل اثنتين، واحدة كالصدرية، بيضاء مخططة خطوطًا زرقاء، دقيقة النسج، رحيبة، ولكنها لا فضفاضة ولا محبوكة، ولا تحجب ما يحسن أن يظهر من فتنة الصدر الممتلئ، ولا تبدى ما يجب — رفقًا بطينة الإنسان — أن يُستر. والكمَّان إلى القرب من المرفق، ففيهما من الاحتشام ما لا يمنع أن تحس العين لين الساعد ونعومته ورقته. وقالت له: «كدت أتأخر.. جاءت بنت خالتى لزيارتنا ودعتنى للخروج معها لقضاء حاجات لها، واضحك.. لما دقت الجرس لم أكن أعرف من الزائرة أو الزائر فخفت أن أتأخر. وكان باقيًا على موعد الخروج ربع ساعة فأسرعت وتناولت هذه الثياب فطرحتها على كرسى بحيث يراها من يدخل فيعرف أنى كنت أتهيأ للبسها أى للخروج فلا يطيل.. وقد سألتنى حين رأت الثوب: «أكنت خارجة؟» قلت: «نعم»، وشرعت فى ارتدائها أمامها، فقالت: طيب نخرج معًا. قلت: لا يا ستى.. طريقى غير طريقك.. أنا مستعجلة.. فإذا كنت غير مستعجلة، فأنت فى بيتك. وقد كان. خرجت وتركتها، فما رأيك؟ أو لعل الأولى أن أسأل عن رأى أمى حين أعود فأسمعه منها». وكانت تضحك وهى تروى له هذا الخبر. وكانت تقص عليه كل شىء فهى لا تقصد إلى المنّ. فنسى ما كان أمضه فى لقائهما السابق، وقال لها: «أظنك أخطأت حين تركتها.. كان ينبغى أن تبقى معها قليلا.. فما فى وقوفى لحظة أنتظر من بأس ما دام لك هذا العذر». قالت: «لا يا سيدى … لا بنت خالتى ولا بنت عمتى … ومالك أنت على كل حال؟» وكانت هذه العبارة أقوى حججها، فلهج بها فى سره، وصار يقول لنفسه: «ومالى أنا على كل حال؟» غير أنه لم يقتنع، فقد كان يؤثر — ويعنيه — أن لا تتعرض لخلاف مع أهلها بسببه. وحدث نفسه وهو يرى طلاقة وجهها وإقبالها عليه، وسرورها به، أنه لا يزال عاجزًا عن فهم «هذه المرأة».. كانت غاضبة ثم رضيت. ففيم كان الغضب؟ وفيم كان الرضى؟ وكانت ميمى فتاة يسعها أن تكون مستقلة، وسيدة نفسها، وأمرها جميعه بيدها، ولكنها نشأت على ما «كان» عوَّدها أبوها، من أن تكون «بنت ناس» ومؤدبة مهذبة. والأدب والتهذيب فى عرف «أبى حمزة» كما يكنى نفسه، أن تلزم بيتها لا تريمه، فإذا احتاجت أن تخرج لحاجة لها فليكن ذلك بصحبة أمها أو إحدى قريباتها العجائز، أو «ولد» من ذوى قرابتها. والشرط بعد ذلك أن يكون الخروج نهارًا والإياب قبل المغرب، وعليها أن لا تبدى زينتها فى الطريق أو من النافذة، وأن تكون فى كل حال متجملة محتشمة. وكان أبو حمزة يريد البنين. فلما لم تجئه امرأته — فى عشر سنوات — بغير هذه الفتاة، ضجر ونفد صبره، فطلقها وترك القاهرة وعاد إلى قريته — على مقربة من دمنهور — واتخذ زوجة غيرها ولدت له ما لم يكن يبغى من بنات وفوق ما كان يبغى من بنين، ولزم القرية إلا فى بعض الأعياد والمواسم الكبرى. ولكنه لم يهمل مطلقته وفتاته، فكان يرسل إليهما نفقة كافية من الأرز والزبد والقمح والجبن وما إلى ذلك. ولا يقتر على ابنته «القاهرية» فيما يتطلبه تعليمها وتثقيفها. ولا ينفك معِنيًا بها وبأمها، ومتعهدًا لهما «بالمراسلة»، فما طلق امرأته كراهة لها، بل كراهة لبقائها فى عصمته وهو مع غيرها فى بلد ناء، فأبرأ ذمته وأرضى شعوره بواجبه لنفسه ولبنته، ولما يفهم من معنى «العرض» بهذه الطريقة التى لا تخلو من غرابة. ولم يكن أغرب منه إلا مطلقته، فقد حرصت على أن يكون سلوكها حياله وهى مطلقة كما يجب أن يكون وهى زوجة. كانت رسائله إليها فى منزلة الأوامر التى تطاع ولا تُعصى فتفعل ما يأمر، وتتقى ما ينهى عنه، أو ما كان خليقًا أن ينهى عنه لو كان معها. وكانت تتوخى فى تربية «ميمى» ما تعلم أن فيه مرضاة أبيها. وكانت «ميمى» تؤثر أن تدرس الطب، ولكن أباها أبى ذلك كل الإباء. فلما ثقل عليه إلحاحها وضاق صدره بلجاجتها، قطع عنها نفقة التعليم. وكان لها من صلابته وعناده حظ غير ضئيل، فلما رأت منه ذلك تحولت عن الطب إلى مدرسة للمعلمات، نزوعًا منها إلى الاستقلال والاستغناء عن والد يغضب فيقطع النفقة. فجفاها أبو حمزة زمنا، ثم غلبه الحب والحنو فعاد إلى الرضى وألقى لها الحبل على الغارب، فصارت معلمة فى وسعها — كما أسلفنا — أن تستغنى عن معونته، إلا أنها ورثت عن أمها لينها ووفاءها فبقيت على توقيرها له. ولم تكن تخالط إلا ذوى قرابتها وقليلين جدًّا من المعارف من بينهم أسرة إبراهيم. وكان لها ابن خالة اسمه «صادق» لم يكد يفرغ من التعليم الابتدائى حتى مل وكف، وعجز أبوه — وكان فى سعة — عن كبحه فرمى إليه بالزمام، وأطلق له، غير مخير، أن يصنع ما بدا له، فصار نهاره ليله، وليله نهاره، وأمله المفرد ومطمعه الوحيد، أن يكون «منولوجست» مشهورًا يذيع «قطعه» فى الراديو، وراح على سبيل التمهيد يجمع حوله لفيفًا من أترابه وأشباهه العاطلين، وسربًا من بنات الحى ويقضى الوقت مع هؤلاء وأولئك فى التدرب. وكانت له ملكة فى الزجل، وطبع فى الموسيقى، ولكن التحصيل ينقصه فبقى حيث هو، لا يبلغ شيئاً، ولا يدرك غاية، ولا يزيد على أنه عاطل. «هوِّنى عليك. فما الإنسان إلا حيوان، وكلنا ذلك الحيوان إذا أردت الحقيقة. وليست المدنية سوى صقل لا يمنع أن الحيوانية — وهى الأصل — كامنة متحفّزة للظهور على الرغم من كل هذا الصقل إذا أتيحت لها الفرصة، أو استثارها مستثير قوى. وما زالت أساليبنا فى حياتنا هى أساليب الحيوان، أو الوحش الضارى، ولكنها ملطفة مهذبة مرققة، أو قولى إنها «منظمة» بالقوانين، والتقاليد والعادات المرعية، ومن هنا تخفى حقيقتها، ومن هنا يروعك صادق لأن فيه تمردًا على الظواهر والطلاء، وإخلاصًا للأصل». وكانت ميمى إذا سمعت منه هذا التأويل تهز رأسها غير مقتنعة، أو مطمئنة، وهو الأصح، وتقول له: «إن دأبك أن تنظر إلى الأمور هذه النظرة الهادئة المريحة وأن تحاول أن تنصف غيرك. ولكن ألا يخطر لك أنى أنا أيضًا جديرة بالإنصاف؟» فيسألها: «كيف؟ ماذا تعنين؟» فتقول: «إن حياتى مثلاً تجرى فى مجرى سلس. ولكن صادقًا وأضرابه يحدثون فيه اضطرابًا شديدًا». فيقول لها: «إنى إنما أحاول أن أريك الجانب الذى ينبغى أن تنظرى إليه حين تتدبرين هذا القريب المثير. إنه لم يجد من يصقل له جانبه الخشن أو يقلَم له أظافر الوحشية الكامنة فى نفوسنا، وفى وسعك أن تفعلى ذلك بأن تبدى له صفحة الود والتقدير. إنك بذلك — لا بالنفور والتحقير — تستطيعين أن تُظهرى وتنمى بذور الخير والفضيلة فى نفسه، وثقى أن فى نفسه — فى نفس كل إنسان — بذورًا كثيرة للخير. ولكن صادقًا لم يلق من يعينه على معرفة نفسه، ولقى، على العكس، من يستفزه، ويحنقه، ويستثير شر ما فى نفسه، بالتحقير والنفور والسخط والانصراف عنه يأسا منه، والقول أبدًا أنه خائب لا خير فيه ولا أمل … امنحيه ودك يا ميمى وانظرى ماذا يكون منه … امنحيه الثقة على الخصوص، فإن ظمأه إليها — تلهفه عليها — أعظم مما تتوهمين. صدقينى.. إن إيلاءهُ الحب والثقة خليق أن يجعل منه إنسانًا جديدًا.. جربى.. عرفيه بنفسه المطوية.. أديرى له عينه فيها … افتحيها له عليها … لا تجعلى بالك إلى ثرثرة لسانه بما دفعه جهل الناس وسوء سيرتهم معه إلى اللغط به. فإن هذه الثرثرة ليست منه إلا من قبيل الدفاع عن النفس … أهله جميعًا يستخفون به، ويحقّرونه، وينفضون أيديهم منه، ولا يرونه جديرًا بأدنى عناية، أو أضأل حظ من الثقة. كفروا به جميعًا، فهل يلام إذا ثار، وتمرد، وكفر هو أيضًا بهم وبما يمثلون مما أغروه بكرهه؟ ولا تقولى إنى أنصفه دونك.. فإنى أنصفك أيضًا.. أنت تظلمينه وأنا أحاول أن أريك كيف تنصفينه وترفعينه إلى منازل الكرامة والشرف والفضيلة عندك. فإذا استطعت هذا — وأنا واثق أنك تستطيعين — فإن هذا يكون انتصارًا لك.. فماذا تبغين من الإنصاف أكثر من هذا؟» وقد أطاعته ميمى فكفت عن مجافاة صادق. ولكنها ظلت تخشاه فى قرارة نفسها، وإن كانت تكتم هذا ولا تبديه ولا تدعه يظهر على وجهها أو فى سلوكها معه. وفرح صادق بهذا التحول من ميمى إلى محاسنته، فسلس قياده فى يدها، ولكنه طمع أيضًا، أو على الأصح زاد طمعه فيها، فكان أحيانًا ينظر إليها وكأنه يريد أن يأكلها، فتفزع وتعانى مشقة عظيمة فى كتمان ما يساورها من الخوف وتستعين على التجلد والتشدد بما قاله إبراهيم. وكانت ثقتها به كبيرة واطمئنانها إلى حكمته وسداد رأيه عظيما، بل تامًا، فوطنت نفسها على أن تروض هذا الحيوان وأن تكون له أما رءومًا، وإن كانت ربما حدثت نفسها أن ما لها هى. ولم يكن عندها جواب لذلك، سوى أنه يطاردها، وإن الصد والنفور لم تعد لهما أى جدوى، فما هو بالذى يصده شىء، فلعل الرفق يكون خيرًا، وعسى أن تكون الحسنى أردّ عائدة. وطمأنها قليلا أنها استطاعت ذات ليلة أن تقنعه — على ما بدا لها — بأن يدع ذكر الحب واللغط به، وأن يقنع منها بالصداقة. وقد سخر فى البداية من هذه الصداقة التى تعرضها بديلا من الحب، ولكنها لطفت به، ولم تزل تحاوره وتداوره، حتى سكن وأمسك، ثم أظهر لها الرضى والاقتناع، وقال بابتسامة لم تخل من سخره المعهود: «ألا تعطيننى عربونًا لهذه الصداقة التى جملتها فى عينى؟» ولمحت السخر الذى فى عينه، وتوجست شرًّا من نبرة صوته، ولم تكن عبارته مما يبعث الاطمئنان، ولكنها تشددت وتحاملت على نفسها، وآلت لتمضين فى التجربة إلى نهايتها المقدورة، ومالت عليه فلثمت جبينه، فرفع إليها فمه وقال: «هنا موضع التقبيل … ثم ألسنا قد صرنا صديقين؟» فامتقع وجهها وحدثت نفسها بأن هذه التجربة «الإبراهيمية» قد تؤدى إلى كثير لم يكن فى الحسبان، ولكنه أدهشها بوداعته وقناعته، فلم يحاول إطالة القبلة، ولم يهم بالضم والعناق، وارتد عنها مغتبطًا ومضى إلى الباب. ثم كأنما أبى إلا إزعاجها وإقلاقها فقال ويده عليه: «لا أدرى من أشكر على هذه القبلة الأخوية. وأكبر الظن أنى مدين بالشكر للأستاذ …». ولم يفته تغير لونها عند ذكر إبراهيم، فقال: «اشكريه عنى من فضلك إذا لقيته قبلى». وتركها مبلبلة موسوسة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/13572470/
إبراهيم الثاني
إبراهيم عبد القادر المازني
ليس من قبيل الصدفة أن يكون اسم بطل رواية إبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم» الثاني، وفي رواية أخرى «إبراهيم» الكاتب، فقد تعمَّد الروائي أن يسمي البطل باسمه. ذلك أن المازني جمع في هذه الرواية بين جانب من حياته وجانب من خياله، ويعترف المازني لنفسه بذلك، حيث يذكر في مطلع روايته أبيات من الشعر تدل على هذا المعنى! إنها رواية سيكولوجية بامتياز، تهيم في الأبعاد النفسية للنفس الإنسانية، فهي رواية الحب قبل الزواج وبعده، وهي أيضًا رواية الخوف من الشيخوخة والموت، باختصار هي رواية اعترافات. إن هذا العمل يمثل بحق جزءًا من تاريخ الرواية العربية. وتتميز الرواية بأسلوب فريد، يشهد للمازني بمكانة كبيرة في أدبنا العربي.
https://www.hindawi.org/books/13572470/2/
الفصل الثانى
لم يكن إبراهيم حين استقر رأيه على الزواج من تحية يعرف قبل ذلك بدقائق — أى نعم بدقائق — أنه سيتزوجها، أو ينوى ذلك، أو يفكر فى زواج. وكان ابن عمته حامد — أو ابن بنت عمة أبيه إذا أردت الدقة — قد دعاه إلى ضيعته لقضاء أيام مع لفيف من الأهل والأصهار، وقال له فيما قال إن أسرة «طاهر بك» — عميد إحدى القرى المجاورة — ستكون هناك. ومعها ابنتها «تحية». وابتسم … فقال إبراهيم: «هذا الجمع يحشد إذن لهذا؟» فقال حامد: «الحقيقة أنها فى حكم الخطيبة، وإن لم يجر كلام فى الموضوع». قال إبراهيم: «إنك تذكرنى بمن قال لأمه إنه سيتزوج بنت السلطان، فما ينقصه إلا أن يوافق السلطان وبنته. هل أعرفها؟» قال حامد: «لا أظن. فقد تعلمت فى الإسكندرية حيث اتخذ أبوها دارًا فى الرمل قريبًا من دارنا التى بعناها. وفى دارنا عرفناها وأعجبت بها. وأنت تعرف رغبة أبى فى تزويجى، ولكن بلدتنا ليس فيها كفؤ لنا. وقد أدرت عينى فى مركزنا كله فلم أجد من هو أكرم وأرفع منزلة من طاهر بك وإن كان دوننا ثروة». فتبسم إبراهيم وقال: «يخيل إلى من يسمع كلامك أنك ستتزوج طاهر بك أو بقراته وعجوله أو أرضه، أو جاهه..». فهم حامد بكلام صرفه عنه إبراهيم بقوله: «لا تقل شيئًا.. إنى فاهم. هذا أنت.. كالريال النمسوى الذى ضرب فى القرن التاسع عشر.. يتعاملون به فى الحبشة، وقد بطل استعماله فى بلاده». وأزجى إليه التهنئات «سلفًا» ووعد بالسفر. وخطر له وهو فى القطار أنه آن لحامد أن يتزوج، فقد ناهز الخامسة والثلاثين، ولأبيه الحق فى الإلحاح عليه فما رزق من الولد غيره. ولا خير فى العزوبة لرجل انقطع للعمل فى الأرض فما يفارق القرية إلا فى الندرة القليلة ولأمر تستدعيه مطالب الزراعة. وحدث نفسه أن حامدًا حكيم حازم، وأن أباه موفق. ومن حكمته أنه أقنع أباه بالتخلص من الدار التى بالرمل؟ فإن الإقامة فيها معظم شهور السنة تنأى عن «الغيط»، وتكل أمره إلى الأجراء الذين لا يبالون أجاد الزرع أم كندت به الأرض. وانثنى إلى نفسه فقال إنه هو أيضًا فى مثل سنه أو أعلى منها، ولا علاقة هناك تؤذن بزواج. وطافت برأسه صور الماضى فنحاها، كما يهش المرء الذباب. وليس له أرض يحمل همها، فقد كان له أخ أسن منه — عليه رحمة الله — «كنس ومسح» كما تقول العامة وأعفاه من هذا العناء. وقد عنيت أمه بتعليمه، وآتته القدرة على كسب رزقه بعرق الجبين، فما حاجته لأرض؟ وإنه ليكسب كثيرًا، ولكنه متلاف لايبقى على شىء ولا يحسن أن يدخر قرشًا أبيض ليوم أسود، أترى هى الوراثة؟ وإن ابن عمته ليرى إنفاقه عن سعة فيتوهمه أغنى منه وخيرًا حالا.. وضحك إبراهيم وقال: إن هذا هو «الستر» الذى لا ينفك الجمهور الأكبر من الناس يسألون الله أن يضفيه عليهم. ولقد عمل فى الصحافة — وإنه الاَن لحر — يكتب فى الصحف والمجلات، ويؤلف الكتب، و«يدبج» التقارير والمذكرات لمديرى الشركات بالعربية الذين يحسنون غيرها، ولا يجحد فضل الله عليه. وما زالت أمه تحثه على الزواج وتدعوه إليه وتقول له: إنها مريضة، إحدى رجليها فى الدنيا والأخرى فى … العياذ بالله.. ولا قدَّر الله. وكبر فى وهمه أنه خليق بأن يضل ويشقى إذا فقد أمه؟ فإنها عصمة له. وثقلت عليه وطأة هذا الخاطر، فنفاه بجهد، وذهب يفكر فى تحية، كيف هى ياترى؟ وماذا عسى أن يبلغ من صبرها على حياة الريف وهى بنت الإسكندرية، المشرقة الوضاءة؟ وبلغ القرية، وقد مالت الشمس للمغيب، فاستقبله على الجسر، عند مدخلها خادم أبلغه أنه أعد له «الكشك» الذى فى الجزيرة، وأركبه زورقًا إليها، وكان الجو سجسجًا، وأشعة الشمس الذهبية ترقص على الماء، فانشرح صدره، وأمر الخادم أن يكف عن التجديف، فبقى — الخادم — كالتمثال، ومقبضا المجدافين فى حجره، وطرفاهما يقطر منهما الماء، والزورق يسبح على غير هدى. وصارت الشمس فى عينيه فرفع كفه وحجبها، فعاد يرى النهر المتوهج و«الكشك» القائم على شاطئه والخضرة اليانعة حوله، وود فى هذه اللحظة لو أنه كان إلى جانبه.. من؟ وأحس أن حياته ناقصة.. ودار فى نفسه ما يشبه الحسد لقريبه، فأنكر هذا، وبادر فقال إنه يرجو له السعادة مع تحية … ترى كيف هى؟ طويلة؟ قصيرة؟ ثقيلة؟ خفيفة؟ ومتكلفة أم على الفطرة؟ وهز كتفه ومط بوزه، وتنهد. وأمر الخادم أن يرسو به. وكان الكشك عبارة عن بيت من خشب، فيه غرفتان أرضيتان، واحدة للخادم والأخرى متخذة مخزنًا لما عسى أن يحتاج إليه الضيف، وفوقهما غرفتان أخريان للنوم والجلوس، وحولهما شرفة من جهات ثلاث. والأثاث بسيط مريح: طارقتان — كنبتان — بينهما «كليم» من نسج الصعيد، فوقه منضدة مستديرة عليها رخامة، وإلى جانبها كرسيان من الخيرزان، ورف بجانب الباب عليه أكواب وفناجين للقهوة والشاى. وفى غرفة النوم سرير وكرسى هزاز، ومشجب ومنضدة صغيرة. وعلى حافة الشرفة قلل شتى الأحجام والأشكال ملأى بالماء ليبترد، وعلى أرضها وسائد منتثرة للجلوس. «بكشك بجزيرة فى مجرى النيل بين قريتى كذا وكذا، لا يمكن أن يخطئها عامل البريد إلا إذا غلط وركب النيل على فرعه الاَخر». وخطر له وهو ينظر إلى الماء والخضرة، أنه لا يريد أن يعبر إلى حيث القوم فى «الدوار»، وماذا يصنع فى ذلك الزحام؟ إن حاجته إلى هذا السكون المريح. وقد يستغربون تخلفه عن العشاء معهم، ولكن فى وسعه أن يعتذر غدًا بطول الرحلة وتعب السفر ووجع الرأس. وعلى ذكر ذلك قال لنفسه إن رأسه سيوجعه على التحقيق إذا ظل يعب فى هذا الشراب. ونهض وانحدر على درجات السلم الخشبى وتلفت فلم يجد أحدًا، حتى الزورق اختفى، لابد أن يكون «آدم» قد عاد به إلى الضفة الثانية. إذن سيجىء على الأرجح بحمولة أخرى. وقطب، فقد كان يؤثر أن يظل وحده فى هذه الجزيرة الساكنة، وأن يسعه أن يقول كما قال الشاعر بلسان مستفرد وحادٍ فى جزيرة كهذه: «إنى ملك على كل ما أرى!». وراح يتمشى، فأشرف على مزرعة بطيخ، فنزع واحدة صغيرة ودقها على ركبته فانفلقت وانشطرت، فإذا هى حمراء مغرية، فقضم، فاستحلاها، فعكف على القضم، وابتل أنفه وخداه، وهو لا يحفل ذلك، ورمى القشرة البيضاء الماسخة، واستأنف المشى غير جاعل باله إلى الوقت. ودخل الليل فقعد على الأرض، ومد ساقيه، ومد بصره أيضًا ليرى الماء. وكان يسمع خريره، ولا يبصر إلا سوادًا يخلطه فى رأى العين بالأرض، إلا حين تلتمع صفحته من بعيد. وشاع فى نفسه الاغتباط، فصح عزمه على التخلف عن العشاء هناك. وحدث نفسه أنه اعتاد، فى حياته المضطربة أن يتقبل بقبول حسن ما تجيئه به الساعة التى يكون فيها، وأن لا يضيع أو يفسد ما يفيد فيها بالطمع فيما عسى أن يجنى من سواها. وإنه لكذلك. وإذا بحفيف توهمه بادئ الأمر من أوراق الشجر، وكان الظلام والسكون قد أرهفا سمعه، فخيل إليه أن أحدًا قادم، فحدق فى الليل فلم ير شيئًا. وكانت الكلاب تنبح — على الناحية الأخرى من النيل — والضفادع تنقنق حوله، ولكن هذه الأصوات كانت تزيد السكون عمق وقع فى نفسه. وخاطبه صوت عذب فيه نبرة الشباب: «وحدك؟» فوثب إلى قدميه من الدهشة، فقد كان صوت فتاة، ما فى ذلك شك. واضطرب وهو ينهض بسرعة، فكاد يقع، لعجلته ولقلة استواء الأرض، وامتدت يداه كأنما يحاول أن يمسك شيئًا يعتمد عليه فيتقى الوقوع. فعل ذلك بالغريزة، ولو أتيح له أن يفكر لما دفع يديه. وكانت دهشته أعظم لما التقت يداه وهما تذهبان فى الهواء بجسم لين، ولو فكر لما تعجب. وقالت: «لا تفعل هذا مرة أخرى. كدت توقعنى فى الماء». كأنما كان قد تعمده. فقال — وفاته أن يعتذر —: «لم أكن أدرى أن الماء قريب من هنا». وكان لا يرى منها إلا ثوبها الأبيض، وكان مع ذلك غامضًا. ولم يسمع جوابًا فقال: «أنا إبراهيم … قريب حامد». وانتظر، فجاءه الجواب فى الظلام الدامس: «أنا تحية.. تحية طاهر». وأضحكه أنه كان ينحنى لها فى الظلام، ولكنه صد نفسه عن هذا العبث وقال: «ستكونين سعيدة مع حامد.. رجل طيب جدًّا.. لا لأنه قريبى. بل لأنه طيب». فلم تجب عن هذا، وقالت: لأ أظنك تتعجب وتتساءل عما جاء بى إلى هنا؟ وحدى فى الليل … لا ألومك إذا تعجبت … ولكنه لم يكن يسعنى إلا أن أفعل … كان لابد أن أفر … لم أعد أطيق الزحام … ضاق صدرى جدًّا … عمتك ست طيبة جدًّا … غريبة … لا متعلمة ولا.. مثقفة.. ولكنها ذكية.. ذكية جدًّا.. أدركت حاجتى إلى الهواء الطلق.. وإلى البعد من هذا الزحام.. والراحة من الضجة.. ورافقتنى إلى هنا!. وضحكت ثم قالت: «لفت نفسها بملاءة سوداء، كأن أحدًا يمكن أن يراها فى هذا الظلام، وجاءت معى، تركتها فى الكشك، وخرجت أبحث لها عنك، فما جاءت إلا من أجلك. تالله ما أطيبها … تحبك كحامد». ولم يستغرب ما أنبأته به، فقد كان يعرف حبها له، ولا عجب فإنها بنت عمة أبيه. ولكنها كانت تحنو عليه حنوًا شديدًا، ولعل كل هذه الرقة منها له، مصدرها حبها لأمه هو؟ فقد كانتا صديقتين. امرأة طيبة على كل حال، ولها عنده منزلة تقارب، وإن كانت لا تعادل، منزلة أمه. فإن هذه لا شريك لها ولا مزاحم وكلهم يعرف ذلك، وما من أحد يسوءه أن منزلته عنده دون منزلتها. وقالت تحية: «إنهم هناك يلغطون بغيابك». قال: «أحسب أنى فررت سلفًا. كما تفرين من الضجة». وسكتا. وراعه بعد هنيهة أنها تدندن — بصوت خافت ولكنه يسرى إليه — بكلام لا يتبينه. ثم قالت وقطعت الغناء: «لست أحسن أن أغنى. ولكن هذا الليل الساجى … وهذه الجزيرة المنعزلة.. والماء الذى يومض من بعيد وإن كان أدنى شىء … كل هذا أغرانى … سامحنى». فلم يقل شيئًا. وبقيا واقفين برهة، ثم قالت، وخيل إليه أنها تبتسم: «إن حديثنا عبارة عن فترات من الصمت، هل نعود؟» فمشى خلفها صامتًا، وسمعها تقول، كأنها تحدث نفسها: «غريب … منذ نصف ساعة كنت بين عشرين أو يزيدون، وإذا بى أشعر فجأة أنى وحدى … أحسست بوحشة عجيبة وسط القوم.. أعنى أنى لم أشعر فى نفسى بوجودهم حولى.. كيف تعلل ذلك؟» قال: «لعله الحب». وندم على ما قاله، وود لو كان لسانه استل أو قطع، ولم يقله، وخشى أن تحمله على محمل السخرية أو التقريع. وخيل إليه أنها استدارت ونظرت إليه. على أنها لم تقل شيئًا، حتى بلغا الكشك. وراَها فى الكشك — على ضوء مصباح بترول تحمله حلقة مدلاة من السقف — وخيل إليه أن وجهها متهضم، ولونها باهت، وأن شفتيها ذابلتان، وأن جسمها كله صغير منحوف لا تُرى عليه نعمة، وخطر له أن لعل هذا اليبس والسهوم من ضوء المصباح، أو لعلها أساءت اختيار الثوب ولونه أو لم تحسن تفصيله على قدها، ونصف جمال المرأة يستفاد من تفصيل الثوب ولونه. وقالت له عمته، بعد أن رحبت به، وربتت عليه، ولثمت جبينه، ولثم هو يدها: «يا ابنى. لماذا أبطأت علينا؟» فقال بإيجاز: «السفر، والكسل، والاسترخاء». قالت: «لا. هذه آفة العزوبة الطويلة، اعتدت الوحدة». وابتسمت فانبسطت أسارير وجهها المخدد، وقالت: «عندى لك عروس. تعال، وتمل بالنظر إلى حسن وجهها». قال: «من تكون المسكينة؟» قالت: «إيه؟ لا تقل هذا، إنك لقطة». فقهقه وقال: «أنت وأمى … لا أدرى أيكما شر؟» واشتركت تحية فى الحديث، فقالت: «هى زهرة … زهرة غضة نضيرة». فألفى نفسه يسألها: «مثلك؟» قالت: «لا تسخر منى». وقالت عمته: «نعم ياسمينة مثل تحية». وهز رأسه كالموافق. وحدث نفسه أنه لا يسعه غير هذا. وسمع تحية تقول: «ليتنى كنت ذاك، ولكن الحقيقة أنى … إن الذى يرضى بى يحتاج إلى الصبر الطويل، والحلم الكثير. فإنى كثيرة النسيان، أنسى مشابك شعرى ولا أذكر أين وضعتها … وأهم بقطف قرنفلة فأقطف وردة، وأذهل عن الطعام وأنا أقرأ، وأذهب إلى محل أو بيت أعرفه، فادخل فى شارع غير شارعه، وأترك نقودى ومناديلى وأشيائى الأخرى فى كل مكان، ثم أروح أزعج الناس بالسؤال والبحث، ثم إنى لا أحسن شيئًا، ولست أكتم عيوبى أو أخفيها، ولكنهم يضحكون ولا يصدقون». فألفى نفسه يقول مرة أخرى: «سيسعد بك حامد». ودار فى نفسه قولها إنها دائمة النسيان، وإنها لا تحسن شيئًا، وإنها تشغل بالزهرة والكتاب عن الطعام وتدبير المنزل. وكان يسمع خرير الماء، تحت قدميه فيما يحس، ويرى ضوءًا خافتًا على الضفة الأخرى. وحدث نفسه؟ وهو يكلم المرأتين — العجوز والصبية — أن تحية لن تكون ربة بيت كأمه، ولكنها أجدى له منها … ومن يدرى!. لعل زهرة مطلولة تكون أشهى — وألزم أيضًا — من حكمة ربة البيت المدبرة، وعسى أن يكون الفل والياسمين والقرنفل والنرجس والورد على أغصانه أو فى زهريته أجلب لطيب الحياة، ورغد العيش. ولم يطل عمر هذا الخاطر سوى هنيهة ثم طرده ونحاه. وراح يقول لنفسه إن المرأة التى يتزوجها، إذا قسم له الزواج، تحتاج أن تكون كأمه، حسن تدبير، وسيكون عليها أن تؤدى طوائف شتى من الواجبات المختلفة، ولن تكون فى بيته للزينة والمتعة وحدهما. كلا. فليس هذا جزاء أمه. ورأى نفسه يقول: «صبرًا حتى تتزوجى. وحينئذ تتغيرين». وأمنت العجوز على ذلك وأكدت لتحية أن الزواج يذهب بكل ما أحدث التدليل والفراغ. وقالت تحية لإبراهيم: «أواثق أنت أن الزواج يفعل هذا؟ ليته يفعل». قال: «هذا أثره فى العادة … يحدث تغييرًا على كل حال». قالت: «لا أدرى لماذا كنت أتوقع أن تقول لى شيئًا آخر … أهم». قال وهو يبتسم: «آسف.. ربما كان حامد أقدر على ذلك … وأولى». وبدا له أن كل هذا الحوار غير لائق، فى الكشك، وفى جزيرة منعزلة. وخيل إليه مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتحرك، ولا يقدر أن يعبر إلى الضفة الأخرى … فى هذه الليلة على الخصوص. وكبر فى وهمه أن لا وسيلة إلى الاتصال بهذه الضفة الأخرى، كأن الجزيرة قد سبحت وانتقلت إلى موقع اَخر قصى … موقع ليس له حدود، ولا على جانبيه ضفتان. وكم من «ضفة أخرى» فى الحياة ينشدها المرء ويشتهيها ويتمناها ولا يبلغها. ولم تقل له عمته من العروس التى اختارت له. ولكنه عرفها تخمينًا، وهل فى القرية كلها من بنات الأسر الظاهرة من تستحق أن توصف بالجمال غير «كريمة»؟ وكان أبوها قد اختفى بعد مولدها وانقطعت أخباره فليس يعرف أحد أحى هو فيرجى، أم ميت فيندب؟ وآثرت زوجته له الموت كراهة منها لأن يكون حيًّا، ويهجرها هذا الهجر القبيح، وإن كان قد ترك لهما أرضه ولم يبعها ولم يرهنها، فنشأت كريمة يتيمة وإن كانت لعلها غير ذلك. وكان عهد إبراهيم بالبلدة غير قريب ولكنه تذكر كريمة كما راَها آخر مرة: وكانت تفرق شعرها الوحف من الوسط وترسله على جانبى وجهها وتربطه من الخلف بأنشوطة، فكأن محياها من شعرها الدجوجى فى إطار. وكانت وجنتاها كالوردتين، وعيناها سوداوين نجلاوين، وفيهما سعة وفتور. وقدر إبراهيم أن تكون قد ناهزت السادسة عشر من عمرها الغض فهى صغيرة، ولكنها لابد أن تكون الآن ناضجة. وتبسم إذ تذكر حديثًا رُوى له لما كان فى البلدة اَخر مرة، وكان على الطعام مع الأسرة، وكانت كريمة وأمها حاضرتين. وكانت كريمة تتهامس هى وجارة لها فى مثل سنها، وكان ذلك يستغرقهما ويكاد يلهيهما عن الطعام. وكانت عمته على يمينه، وإلى جانبها فتاة صغيرة أخرى، فمالت الفتاة على عمته فألصقت فمها الدقيق — وعليه ابتسامة رفافة — بأذنها وقالت همسًا — كذلك جرت الرواية —: «هل تعرفين فى أى شىء تتحدث كريمة وفتحية؟» قالت المرأة: «كلا. ولكنا نحن أيضًا نستطيع أن نتهامس مثلهما». قالت الصغيرة: «ولكن لا يجوز أن يسمع إبراهيم ما أقول»، فوعدتها الكبيرة أن تكتم الخبر، وأكدت أن الكلام سيدخل من أذن ويخرج من أذن. فزوت الصغيرة ما بين عينيها وقالت: «إذن سيصك سمعه لا محالة»، فضحكت الكبيرة وطمأنتها على أن الكلام الخارج من الأذن الأخرى لن يبلغه، فأنبأتها أن كريمة تحب إبراهيم … وأقبل الخادم الهرم «عم آدم» يسأله ألا ينوى أن يتعشى؟ فقال إبراهيم إنه يكتفى ببطيخة، وطلب منه أن يقطعها ويقشرها ويضعها على الشرفة لتبرد. ففعل، ووضع معها سكينة، فاستغرب إبراهيم وقال له: «كان الأولى أن تجىء بشوكة إذا كان لابد من شىء آكل به» قال: «هذه لتصرف الشمامة» فلم يفهم وسأله «أى شمامة؟» قال: «التى تشم البطيخ»، فضحك إبراهيم وصرفه، وغطى الطبق بفوطة. ولكنه نام قبل أن يأكل منها فى ليلته. وفى الصباح عبر النهر إلى الضفة الأخرى التى زايلها الغموض والنأى فى النهار، فالتقى بالقوم جميعًا جلوسًا إلى المائدة يفطرون. وكان الجو رقيقًا، والهواء معطرًا بأنفاس الحقول والرياض. وأقبلت تحية تسلم عليه كأنها لم تره من قبل، فاستغرب هذا وكبر فى ظنه أن لعلهما كتمتا رحلتهما إليه البارحة فلماذا؟ أتراهما يخشيان أن يثير الخبر غيرة حامد؟ ومم يغار الأبله؟ وأيتهما صاحبة الرأى فى الكتمان؟ وألفى نفسه يسخط على عمته. وحدث نفسه وهو يختلس النظرات إلى تحية أنها أقل جمالاً حتى مما توهمها البارحة فى الظلام. ولم يخدعه المصباح حين أراه أن خديها متهضمان، ووجد أن عينيها عسليتان، وبدا له أن جمال شعرها فى أنه كأنما يأبى أن يخضع للتمشيط أو التصفيف أو الترجيل. وكانت لا قصيرة ولا طويلة. على أنه أحس أن عليه أن يغير رأيه فيها، وإن كان لم يدمن النظر إليها، فإن لها لجمالاً، وإن شبابها ليفيض عليها رونقًا عجيبًا، وإن فى صوتها لحيوية «حادة» هذا هو الوصف الوحيد لما يصافح سمعه من نبراتها، وخيل إليه أن حيويتها تكاد «تؤلمها». واستغرب منها أنها طويلة النظرات حديدتها، ولكن فيها مع ذلك رقة مستوردة، ولينا وراء هذه اللحظات الحداد. ثم رشاقة جسمها ومرونة بدنها … وأمسك عن الاسترسال، وأنكر من نفسه أن تطوف برأسه هذه الخواطر، وشعر بارتباك، فأطبق فمه وزمه كأنما كان يتكلم. وأحس أن وجهه يضطرم، وخشى أن يلاحظ أحدهم ذلك، وسمع حامدًا يقول لتحية، وكأن الصوت يأتى من بعيد: «إنك خليقة أن تحبى إبراهيم فإنه من هؤلاء الخياليين الذين تعجبين بهم. يحلم بدنيا سعيدة حافلة بالخير، له ولمن حوله من أهل وإخوان». وسمع نفسه يقول فى جواب ذلك: «إنى ما فكرت فى هذا قط، ولكنك لابد أن تكون على صواب». وغاظه ما انطوى عليه كلام حامد من التهكم، وأعياه أن يجد له مسوغًا وراح يتعجب لتحية مرة أخرى.. كيف يا ترى ستكون حياتها مع هذا الرجل الذى لا يلبس إلا الجلاليب الفضفاضة، ولا يعنى بغير القطن والفول والذرة والبرسيم والجاموسة والثور؟ وود فى هذه اللحظة لو يعرف رأى حامد فى تحية.. وانثنى من هذا يسأل نفسه عن رأيه هو فيها؟ وامتعض وقال لنفسه إنه لا حاجة به إلى جواب، ولا حق له فى أن يكون له رأى فيها، فإن شأنها لا يعنيه. ونهضوا عن المائدة وذهب هو إلى الشرفة المطلة على النيل من بعيد، وكانت كريمة قد سبقته إليها وهو لا يدرى. فخشى أن يساء تأويل ذلك عند قوم عهده بهم أنهم لا تفوتهم كلمة أو حركة من ضيف، ولا يبعد أن يحملوا ما يكون منه على غير محمله، وخطر له أن يقظتهم وسوء ظنهم ثمرة عصور طويلة من الظلم والاستبداد وقلة الأمن والاطمئنان، وأنهم ورثوا ضعف الثقة بالعدل وحسن النيات. وكانت كريمة متكئة على السور، فاعتدلت لما دنا منها، وتبسمت له. ولكن لسانه لم يسعفه، فلم يجد كلامًا حاضرا، وكان يرى جانب وجهها المتورد، وشعرها الفاحم المرسل، وتذكر فى هذه اللحظة تحية — لا يدرى لماذا؟ — وهى تدندن بما لا يتبين فى ظلام الليل على حافة الجزيرة. وأغضبه أن تنثنى خواطره مرتدة إلى تحية، وأن لا يستطيع الكلام مع هذه الفتاة المشرقة الديباجة، الصابحة المحيا، كأن على فمه شبح يد يصده عن فتحه.. ورآها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الفاترتين، ويفتر فمها الدقيق المغرى، وخيل إليه أن أنفاسها أسرعت، وأن صدرها يعلو ويهبط، وأحس أن شبابها يحمل عليها حملة رجا ألا تكون عنيفة هوجاء. وقال فجأة، ومن غير أن يفكر: «أنت أجمل من رأيت يا كريمة». فاتقد محياها وقالت وهى مطرقة: «يسرنى أن هذا رأيك». ورآها جادة، وكان صوتها عميقًا ساكنًا كصوت الماء حين ينتهى إلى بركة. ووقفا بعد ذلك صامتين. ثم مضت بخطوات بطيئة إلى الداخل. فلما بلغت الباب التفتت إليه ولم تقل شيئًا، وألقت إليه ابتسامة خفيفة. وارتد بعدها داخلاً فالتقى بتحية فسألها متبسمًا: «متى الزواج إن شاء الله؟» فهزت كتفيها، ثم قالت وأغفلت سؤاله: «الجزيرة أحلى من هنا». فلم يدر أهى تصرفه، أم تبدى رأيا. وقال: «الحق معك. سأعود إليها». قالت: «الآن». وقال وقد ذهب عنه الشك: «نعم، فإنى بى حاجة إلى عزلتها. هى عالم اَخر تسكن فيه النفس، وتطمئن، وتكف عن الجيشان، وتستريح من شدة المخض. ثم هناك الخضرة والماء — كهنا — ولكنهما هناك أوقع، حتى كأن الماء أمهى، والخضرة أخضر». قالت: «والوجه الحسن»؟ قال: «هذا أتركه لحامد». ولم يدر لماذا قال هذا. وكأنما لم تلتفت إلى ما سمعت، فسألته ورفعت حاجبيها قليلاً: «والمخض؟» فابتسم، وأطرق هنيهة ثم رفع رأسه، وحدق فى وجهها الشاحب، وهم بكلام، ثم عدل. وتركها … إلى الجزيرة. وقال لعمه — كما اعتاد أن يدعوه —: «إن ضيفكم يدعوكم أن تكونوا ضيوفه». فضحك الشيخ وصار فمه الفارغ كمدخل الكهف. وكان فى يده مغزل وصوف يصنع منه جوارب للشتاء. وقال إنه ليس هناك ضيف ومضيف. فقال إبراهيم: «إنما أعنى أن الجزيرة أحلى وأطيب، وأن المقام فيها أحرى أن يكون حميدًا فى كل وقت». وألفى نفسه قد حمس وهو يقول: «ثق يا عم أنها قطعة من الجنة وإن كانت كلها بطيخًا، وليس فيها سوى حوض واحد صغير من الورد خلف الكشك. ولكن أليس البطيخ نصف فاكهة أمة محمد؟ وما أراها ينقصها إلا الحور العين، فأرسلهن إليها، وأطلقهن فيها واعمرها بهن، وسأسبقهن لأعد لهن متكاَت أو حصيرًا مما فى المخزن. وما أظن أن الحصير مما يفرش فى الجنة لأهلها السعداء، ولكننى أظن أن الحصير فى جنة، يكون أوثر من السجاد العجمى، والعبرة بشعورك بأنك فى جنة». واضطجع فى الزورق ويده على الدفة، وأمامه فى وسط الزورق عم آدم يجدف، وطاف برأسه خيال كريمة، فانطلق يفكرْ فيها وفى شبابها الغض وشعرها الوحف، وتذكر أنهما تقاذفا كرة قبل بضع سنوات، فكان ثدياها الناهدان يرتجان، فكف عن ملاعبتها إشفاقا على نفسه. وكان لطول ما استنفدت الوحدة من حياته كثير التفكير طويله، يستطرد من خاطر إلى خاطر ببطء وعلى مهل، كالذى أمامه الدهر كله فلا موجب للعجلة. ومن أجل ذلك كانت عباراته — حين يتحدث — قصيرة موجزة، وأشبه بفهرس الكتاب، تومئ إلى ما فيه ولا تبسطه، إلا حين يقصد إلى الإفهام، أو يرى مدعاة للبيان. وكان فى الأغلب هادئًا لا يكاد يخرجه شىء عن طوره، ولا يسبق لسانه عقله وإن كان عصبيًا، لطول ما راض نفسه على الحلم والاتزان. وخطر له وهو مضطجع فى الزورق أن لسانه أفلت منه زمامه وهو يحادث تحية. وهز رأسه لما خطر له ذلك مستنكرًا «فضول» تحية وتطفلها على خواطره، كأنما كانت هى التى أقحمت نفسها. وترك الزورق ورده إلى الضفة الأخرى ليجئ بمن يشاء أن يجىء ممن يقبل دعوته. واستلقى على الوسائد فى الشرفة فنام. ثم استيقظ على مثل أصوات العصافير تناديه، فألفى عمته قاعدة على عليا درجات السلم الخشبى. وأجال عينه فرأى كريمة حيث كان هو قاعدًا فى الزورق، وعينها على الماء، وكفاها على الحافتين وعلى صفحة خدها الوردية خصلة متمردة من شعرها المرسل، فخطر له أن هذه فرصة … بعد دقيقة أو اثنتين — إذا ظلت كما هى — أهبط إليها. ونطت سمكة من الماء ثم غطست. وأبصر «ذهبية» مقبلة يقطرها زورق بخارى كبير فوقف ينتظر مرورها، ودنت فأبصر الذين على سطحها يطلون على الجزيرة، فتمنى لو كان معهم. وإذا بأحدهم يصيح: «يا ولاد الكلب …»، وأضحك إبراهيم هذا الأسلوب فى الإعراب عن الإعجاب، واستغرب أن يحسد ركاب الذهبية الأنيقة الفخمة سكان جزيرة ليس فيها سوى البطيخ، ونسى أنه وصفها بأنها قطعة من الجنة، ولكن لعل الجنة ليست جنة إلا نسبيًا، وفى أوقات دون أخرى. ولم تبرح كريمة مكانها من الزورق، ولم ينزل إبراهيم إليها، وكأنما أتعبتها الجلسة فتحركت ووضعت يديها وراء رأسها فبرز صدرها الناهد. ولم يسعه إلا أن يرى أحد ثدييها ناتئًا راسخًا كالكمثرى. وسخط على نفسه حين جرى بباله هذا، فرد عينه عن النظر، وأدارها فى الجزيرة، فرأى تحية مع أتراب لها، فتذكر دندنتها فى الظلام وشعر بأسف لأن ألفاظ الأغنية قد فاتته، فخطا خطوة، فضربت الشمس وجهه وأزاغت بصره، فلم يعد يرى سوى نقط سود ترقص فى الجو، فلفت وجهه، فرأى تحية تنظر إليه. وخيل إليه أن فى نظرتها حيرة واضطرابا، وأنها أجمل من رأى — أجمل على كل حال من كريمة — ونزل إليها لا إلى كريمة. وقال بلا مناسبة: «لقد كانت الشمس فى عينى»، فلم تقل شيئًا، ولم تنظر إليه. وكان وجهها إلى الشمس وشفتاها منفرجتين، وكفها مرفوعة إلى جبينها. ثم التفتت إليه وقالت: «أحسست بشىء غريب …» وأمسكت ولم تزد، وأطرقت هنيهة ثم مضت عنه — فى صمت — إلى الكشك. ولم يحدث فى بقية ذلك النهار سوى أن الطعام جاءهم من «الدوار» فى الزورق فأكلوا وتلاغطوا، ثم رقد من رقد، وذهبت البقية تتمشى فى أرض الجزيرة. وكان إبراهيم ممن رقدوا، فقد كانت عادته أن ينام قليلاً بعد الغداء. وأطل على حوض الزهر من غرفة نومه، فبدا له كالمنديل الموشى. وطلب القهوة، وكان يتوقع أن يجيئه بها عم اَدم، فجاءته بها كريمة، فجرى بخاطره أن هذا من مكر عمته، أو من يدرى؟ لعلها بريئة وهو يظلمها. وصبتها له فى الفنجانة، وناولته إياها، كما تفعل المرأة إذ تقوم على خدمة بعلها. وثقل على نفسه هذا الخاطر. وجلست أمامه وهو مغمض عنها لغير علة يدركها، فتوجع لها فى سره، وعكف على القهوة يترشفها، والسيجارة يدخنها ولا يكاد يرفع رأسه، وفى أذنيه دندنة تحية، وفى عينيه منظرها وهى واقفة تظلل نفسها من الشمس براحتها. وملت كريمة الانتظار والإعراض فسألته: «فيم تفكر؟» فقال — بلا تفكير —: «فيك». فضحكت ضحكة السرور والخوف والأمل والشك وقالت: «إن هذا خير على كل حال من الصمت». ولم يكذب إبراهيم حين قال إن تفكيره كان يدور عليها، وهو يتصور تحية، فقد كانت خواطره تروح وتجىء من هذه إلى تلك كرقاص الساعة. وكان يشعر بحيرة لا يدرى لها سببًا، فإن تحية خطيبة حامد أو فى حكم الخطيبة، فلا داعى لانثناء خواطره إليها، وقد يسعدها أو لا يسعدها فذاك شأنهما وحظها. أما كريمة فشأنها مختلف جدًّا، وهى حرة طليقة مثله ومن واجبه أن يقصر خواطره عليها وأن لا يعدوها إلى سواها — إلى تحية على الخصوص — إذا كان لا معدى عن التفكير فى إحداهما. فإذا اقتنع بأن زواجه بكريمة يكون ملائمًا فبها، والا … وإلا فقد انتهى الأمر. فما هو مقيدًا بشىء. وليس من الضرورى أن تكون المسألة مسألة حب … فى البداية لا ضرورة … فإن الحب شجرة تنمو، ولا تخلق كاملة فى لحظة بأغصانها وأورا قها ونوارها. وجاء الليل، على عجل فيما أحس، وتمشى مع ضيوفه فى الجزيرة. وانفض من حوله، وبقى هو على الشرفة وحده وخلا بنفسه وخوالجه. ولم يكن ما يدور فى نفسه يبلغ أن يكون خواطر أو معانى، فقد كان لمحات خاطفة ينقصها الاتصال والتسلسل، كالشرار المنبعث من وقع حوافر الجياد على أرض صلبة. ولا كان «عواطف»، على قدر ما كان يستطيع أن يتبين. وكان الأمر يبدو له أشبه بالومضات من خلال السحب. وأورثه ذلك الغموض اكتئابًا لا تعليل له يعرفه.. كلا لم يكن هذا اكتئابًا، وإنما كان رأياً لا يتكون ويتولد شيئًا فشيئًا ويبرز من هذا الغموض الذى كان يلفه فى مثل الضباب الكثيف.. وإذا به يدرك فجأة أنه لا يستطيع أن يتزوج كريمة. وأدهشه إدراكه لهذا. وحاولى أن يطرد ما باغته منه، ولكنه شعر أن هذا عبث وأن لا مفر له من الاعتراف بهذه الحقيقة التى كأنما صاح بها فى وجهه صائح. وأحس بمثل اللطمة حين تبين أنه لا يحبها، ولا يستطيع أن يحبها، لا لعيب فيها، بل لأن هذا هو شعور قلبه. ورفض ما كان يقول من أن الحب خليق أن يجىء على مهل وبحكم الألفة.. كلا لا سبيل إلى هذا. ولو تزوجها لقضى عليها بالشقاء السرمدى.. وليس الأمر أمر امرأة يلقى إليها بزمام بيته. ولو كان كذلك لكان سهلاً وخيرًا أيضًا. وخطر له أن لعله قد شط وأسرف، فأراد أن يراجع نفسه ويحاسبها، فسألها: «ما عيب كريمة؟» ونفى أن بها عيبًا. فإن لها لجمالاً، وإنها لعلى حظ من التعليم، وفى مقدورها بفضل نشأتها أن تتولى أمور بيته، وتريح أمه. وكره هذا اللون من التفكير، وحدث نفسه أنه لا يشترى بقرة من السوق. إذن ما علة هذا النفور من كريمة، وستشقى المسكينة، إذا صح ما كان بلغه عنها من. حبها له، وإذا صدقت دلائل ما رآه اليوم منها.. ولكن هل هى تحبه؟ إنها صغيرة، ولا يبعد أن يكون ما تشعر به — إذا كانت تشعر بشىء — ثمرة الإيحاء وجنايته. ولعل عمته الماكرة قد ظلت تحدثها عنه وتعدها به حتى تعلقت المسكينة بهذا الأمر، وشغل به خيالها، وصارت تحدث به نفسها وتناجيها. ولكن شبابها خليق أن يكون عونًا لها، وسيندمل الجرح بسرعة، والشباب كفيل بذلك. والآن ماذا ينبغى أن يصنع؟ هل يخاطب عمته لتكف عن إلقاء الفتاة عليه؟ أو لا يقول ولا يصنع شيئًا؟ ونهض. وفى مرجوه أن يفتح الله عليه بالرأى الأصوب، وانحدر ومضى إلى الشمال حتى بلغ حوض الورد، وكان الظلام قد أرخى سدوله، فاستغرب أن يبدو له الورد أسود فى الليل، وخطر له أنه لم يلاحظ ذلك من قبل. ثم استأنف المشى، فالتقى بمن لم يتبين، ولكنه قال: «تحية؟» نطق اسمها غير مستغرب كأنما كان يدور على لسانه طول عمره. ولم تجبه. ولكنها بدت له كأنها تترنح، وكبر فى ظنه أنها ستقع، فخطا إليها ودنا منها وأحاطها بذراعيه، فلم تدفعه، ولم تلق بنفسها عليه. وكانت كأنها غير مفيقة وليست تامة الوعى، وكان رأسها مطرقًا، وذراعها على ذراعه. وظلا هكذا برهة، وهو مطوقها بذراعيه، وهى واقفة لا تبدى حراكًا، ولا تُقبل ولا تنفر، كأنما ليس لها فى الأمر رأى أو خيار، ثم رفعت رأسها، فأحنى رأسه، وباسها. ولم يشعر حين باسها بنشوة، وإنما كان شعوره باغتباط هادئى. وكان مبلغ إدراكه لما هو فيه شبيهًا بصوت الموجة مقبلة من بعيد. وتلقت قبلته أول الأمر بلا مجاوبة، كأنها تمثال، ثم حركت شفتيها بغتة، وباسته، فأحس كأنه يكاد يختنق. وكأنما ارتجت الأرض فتحاجزا، وتراخت السواعد إلى الجنوب. وكان يستطيع أن يرى، على الرغم من الظلام، جانب خدها وبياض جيدها، ويحس رشاقة قوامها، ويود لو تكلمت، لو نطقت بأى شىء، ولكنه لم يسمع سوى أنفاس غير منتظمة، ولم يجد هو كلامًا يقوله سوى: «يحسن أن نجلس». وجلسا، متباعدين، غير متلامسين. وخطر له وهو يتدبر تعمدها التباعد، أنها المعرفة التى أحوجت آدم وحواء إلى الخصف بورق الجنة، وكانا قبل ذلك لا يستحييان من العرى ولا ينكران شيئًا. ثم قال بعد برهة: «لست آسفًا، فلا تتوقعى منى الإعراب عن أسف». وقالت بعد فترة: «ولا أنا. كلا، لست اَسفة، وإنى …». ولم تتمها. فهم بكلام، فرفعت كفها الدقيقة الرخصة إلى فمه تصده، وقالت: «إنك لا تدرى … ولكنى تمنيت أن يحدث ما حدث … لم يبق إلا أن تقال الحقيقة فلأقلها. ولم أكن أدرك على وجه واضح ما أبغى، ولكنى كنت أحس برغبة غامضة فى شىء غير جلى. أخشى أن ترى كلامى هذا فارغًا، ولكنى لا أعرف كيف أقول غير ذلك، وإنما أصف ما خامرنى». قال: «لست أراه فارغًا، فإن له لصدى فى نفسى. أنا أيضًا كنت جاهلاً ما يضطرب به صدرى، وكنت أحسى دفع الدوافع إلى مجهول أو غامض يأبى أن يخرج إلى النور. وقد عرفنا الآن، وهذا هو المهم، وسأخبرهم بما حدث، فما يليق ولا يعقل أن يبقى هذا مكتومًا وموقفهم منك ما تعلمين وأعلم. يجب أن يسدل ستار على هذا الفصل، وإلا صار هزلا مرًا». فألحت عليه أن لا يقول شيئًا، وأن يدع لها تدبير الفكاك من الموقف، فإنه موقفها، فأبى. فعادت تلح، وقالت: «إن ظهور الحقيقة يثير العداوة بينه وبين أهله، وبينهم وبين أهلها، ويخلق لغطًا هم جميعًا فى غنى عنه، وقد يحمل أباها على العناد فيأبى عليهما الزواج. وفى الوسع اتقاء هذا كله بالحكمة وحسن التدبير». وبدت له الحكمة فيما تشير به. ولكنه رأى فيه ضربًا من التاَمر والتواطؤ غير لائق، وذهب إلى أن الصراحة أمثل وأكرم. فوافقت على أن هذا تآمر قد تأباه المروءة، ولكنه تآمر يتقيان به ما هو شر من لوثته — يتقيان به لغطًا أليمًا لا داعى له ولا مسوغ؛ وعداوة يسهل اجتنابها، وعذابًا غليظًا قد يجره عليهما استنكاف أبيها، وما قد يغريه به من العناد، ويكسبان به أخيرًا سعادتهما. فأصر على الإباء أنفة منه أن يسلك هذه السبيل العوجاء، وأنفة — لم يصارحها بها — من أن يكل إلى امرأة تدبير أمره. فعرفت له ذلك، ولكنها هى أيضًا أصرت على رأيها. ولما رأته لا يقتنع أنذرته أنها لا تملك إذن إلا أن تتحامل على نفسها وتضحى بها، وتتزوج حامدًا إذا طلبها، وخيرته بين الإذعان لرأيها وركوبها هذا المركب الصعب، فلم ير سبيلاً إلى غير الإذعان. ولكنه قال لها: «سأرحل فى الصباح على أول قطار، فما أرانى أطيق أن ألقاهم وفى قلبى هذا السر». وأصبح الصباح فسافر من غير أن يعلم بسفره غير «عم اَدم». وبعد شهور وشهور — كأنها الأحقاب طولا — تزوج تحية، وعاشا فى «تبات ونبات»، ولكنهما لم يرزقا ما يرزق الأزواج، من صبيان وبنات. وعاش إبراهيم مع تحية سنوات، وفيا لها بالعين والقلب. وكان يطوف ويعمل ويكد، ويعود إلى البيت فيلقى إليها بما أفاد من مال. وكان ما يكسب من الرزق يجيئه من هنا وههنا، وبين بعضه والبعض الآخر فترات تطول وتقصر. ولكنه فى جملته — وبفضل تدبير أمه ثم تحية — واف بالحاجة، كاف لستر المظهر. وكانت أمه هى ربة بيته، وظلت كذلك زمنًا بعد زواجه؛ فلما آنست من تحية الرشد وشامت من سيرتها الخير، ألقت إليها بالزمام اَمنة مطمئنة، ولم تجشم نفسها حتى عناء الإيحاء والتوجيه، ووكلت كل شىء إلى ذكائها وفطنتها وعقلها وحكمتها. وكانت كبيرة السن ضعيفة القلب، فأتيحت لها الراحة التى تعذرت قبل زواجه، ووسعها أن تقول لتحية يومًا: (الآن أستطيع أن أودعكما، وأنا سعيدة قريرة العين. فإنك كنز ظفر به، ووقع عليه إبراهيم، وأرجو أن يكون رأيك أنه أهل له. على أن فى يديك أن تجعليه كذلك، وكما تحبين. والرجال يحبون أن يكونوا سادة، ولكنهم يكونون بين يدى المرأة الحكيمة أطفالاً رضعًا، وأنا أحب أن يطول عمرى فأسعد بسعادتكما، ولكن وجودك أغنانى عن البقاء والتلبث، وأشعرنى أنى كنت متعبة مرهقة، وأفقدنى الباعث على التشدد، فأنا أنهد بسرعة. وليس لى إلا رجاء واحد إليك، فقد كنت لابنى أمًا وصديقًا، وأخشى أن لا يهون عليه أن يفقدهما جميعًا بعد طول الإلفة، فيتغير وتنكرى منه ما لا عهد لك به، فلا تحملى ذلك منه على غير محمله ورديه إلى ما عرفتك، لا إلى ما عسى أن يطوف برأسك من البواعث، وآثرى معه الحسنى — في كل حال — وطول الإناة، ولا تنسى أنه إنسان مخلوق من طين، وثقى إذا فعلت ذلك أنه سيعود إليك — كما كان يعود إلى — فيفتح لك مغاليق قلبه. وقد يكلفك هذا شططًا، ولكنك حقيقة أن تحمدى المغبة إذا رضت نفسك على أن تكونى صديقته لا زوجته فقط. لا تجعليه يشعر أنه فقد أمه؟ أى صديقته، فإنه يتعزى عن فقد الأم ولا يتعزى عن فقد الصديقة. والذنب لى فقد أنسيته الأم لما صرت له صديقة. لقد كان يفضى إلى بما لا تسمعه أم من بنيها أو بناتها لأنه كان يثق أنى أفهم وأعذر. فى حجرى هذا كان يدفن وجهه ويبكى كالطفل فيتفطر قلبى. فليس أقسى ولا أوجع من بكاء رجل … نحن النساء يا بنتى دموعنا قريبة، وإن ذلك لمن رحمة الله بنا. ولكن الرجل لايبكى.. لم يخلق للبكاء مهما بلغ من لوعة الحزن.. فهل تدرين ماذا كنت أصنع؟ كان يرتد بين يدى طفلاً فأرتد أول الأمر أمًا، ولا نخجل — لا هو ولا أنا، فما يستطيع أن ينسى، ولا أستطيع أن أنسى أنه رضع من ثديي هذين، ثم أعود فأصير له صديقًا. لقد كان الأمر أسهل على لأنه رضع من ثديي، ولم يرضع منك، ولكنك تستطيعين أن تعوضى ذلك إذا استطعت أن تكونى صديقة قبل أن تكونى زوجة. دعى الحقوق والواجبات … تناسيها … نحيها، وغضى عنها، فإنها قيود لك وله.. وصدقينى فقد جربت.. لم يكن أبوه مثال الوفاء والقناعة فى نظر الزوجة، فقد كان مزواجًا.. وقد شقيت به زمنًا وكدت أخسره، ولكنى استعدت وفاءه وثقته وحبه واحترامه لما أنسيته أن لى حقوقًا عليه، وأن عليه واجبات لى، وأن بيننا هذا الحساب الذى لا ينقضى، فصرت بذلك امرأة جديدة عنده وتكشفت له جوانب لم يكن يفطن إليها أو يراها.. وإنها لفى كل امرأة. ولكن النساء اللواتى تزوج لم يبدينها له كما أبديتها ولم يقدرن على ما قدرت، فعاد لى بقلبه وعقله جميعًا. ووصيتى الأخيرة يا تحية أن تجعلى دأبك ووكدك أن تجددى نفسك له؛ فإنى أخشى فتور الألفة. لا تكونى له فى يومك كما كنت فى أمسك، ولا تظهرى له فى مباذلك أبدًا. ولا تقولى إنه زوجى ويعرفنى معرفتى نفسى فما داعى التكلف؟ لا.. ينبغى أن تكونى له فى كل يوم امرأة جديدة تتصدى له وتغريه وتفتنه. وإنه لعناء يا بنتى ولكنها لعنة جنسنا، ولا حيلة لنا إلا أن نتكلف العناء إذا أردنا أن نحتفظ ببعولنا.. وسامحينى يا تحية واغفرى. لى أنى أنصح لك كأنى أسىء الظن بعقلك فإنها تجربتى، ومن أنفع بها إذا لم أنفعكما؟» فقالت تحية، وهى ترد الدمع بجهد: «أخشى يا نينا — أى يا أم وكانت هكذا تدعوها — أن أكون خيبت أملك»، تشير إلى أنها لم تجئها بذرية وإلى الخوف من أن تكون أعقمت. قالت: «لا تقولى لى هذا فإنها إرادة الله. فإن تكن خيبة أمل فهى لك قبل أن تكون لى. وإنى كون جاحدة فضل الله على إذا لم أشكره، فقد كان لى ولد فصار لى ولد وبنت. ولا أتكلف التواضع فأقول إنى لا أستحق هذه النعمة، فقد أنعم الله على بها، فلابد أنى عنده أهل لها. نعم، لقد رضى الله عنى حين رزقنى بك، ولا قنوط يا بنتى من رحمة الله فاصبرى تؤجرى». قالت: «إنما أسفى من أجله لا من أجلى، فإنى راضية قريرة العين، ولكن أكبر خوفى أن يثقل عليه هذا الحرمان». قالت: «لا تخافى فإنى أعرف ابنى لا بال له إلى هذا. همه ما يقرأ ويكتب. وما يُخرج خير عنده من البنين والحفدة — أو هو عدله على الأقل — وهذا من لطف الله فلا تقلقى فإنى أخاف أن يذبلك القلق، ولا تضمرى الحسرة واللهفة فإنها شر ما جنى على المرأة وحياتها مع بعلها. ويا بنتى إن ذلك ليس فى أيدينا، وإنما نحن كالأرض لزارعيها، ولسنا ننبت إلا ما زرعوا». وجاء يوم آذنت فيه بفراق، وكانت تحية وحدها معها فى البيت، فامتنع صبرها — على فرط تجلدها لهذا التوديع الذى كانت تعلم أنه لابد آت — وانحدرت العبرات — «كاللؤلؤ الرطب» — من مدامع قرحات، واضطرمت فى أحشائها نار أليمة الحرقات. وكانت المسكينة كالمشفى على الغرق، وهو لا يحسن من السباحة إلا الغوص. وكان التمزيق الذى تحسه فى صدرها يجعلها — على الرغم منها — تدفع يديها ورجليها فى الهواء، كأنما تحاول أن تتعلق بشىء. وكانت تنفخ كأنما فى جوفها بركان حام هائج. وعيناها متفتحتان جاحظتان، ولكنهما لا تكادان تبصران، وحملاقهما ثابت لا يتحير أو يتحرك، وجيدها يكاد ينخلع من شدة التلوى، وعروقه ناتئة، وأوردته دارة كالوارمة. وكان منظرها هذا وما تكابده من الآلام المبرحة يقطع من تحية نياط قلبها، فارتبكت لحظة ثم عاد إليها الرشد فدعت طبيبًا ثم آخر وودت لو استطاعت — أو أجدى — أن تحشد لها جمهرة الأطباء الحذاق. وجاء أولهما — وكان وثيق الصلة بالأسرة — فدخل عليها هاشًا باشًا كعادته، فتجلدت وتكلفت الابتسام له، فقال هذا أحسن وفحصها وهو يمازحها وطمأنها. وجاء الثانى فتشاورا ثم حقناها بالمورفين واتفقا على العلاج. وانصرف ثانيهما وبقى الأول حتى جاء إبراهيم، فارتمت على صدره تحية تبكى بأربع. وقال الطبيب إننا نفعل ما نستطيع والله يقضى بما يشاء، ولكنى غير يائس. وحبست تحية نفسها عليها تمرضها. وكان الطبيب يعودها فى اليوم مرة واثنتين. واستراحت الأم من الاَلام فى اليومين الأولين واَذنت الحالة بالتماثل وقاربت أن تشابه أحوال الصحة، فاستبشر إبراهيم وتحية، ولكن الطبيب ظل يقول إذا مضت لها سبعة أيام رجوت لها البرء. وكان ما خاف أن يكون، فانتابها كالاختناق، فتسترخى إحدى العينين، ويتهدل أحد الشدقين، ويغيض الدم من الوجه، وتصبح الحدقة زجاجة. وكان هذا ربما طال ربع ساعة. ولكن فترات الراحة كانت طويلة، ثم قصرت وتلاحقت هذه الأزمات على قصر مدتها، وضعفت المقاومة وزهدت فيما وصف لها من طعام ودواء، فكانت لا تقبل من ذلك شيئًا إلا مرضاة لابنها وتحية. وكان صباح، فأومأت إلى تحية أن تدنو منها وقالت لها همسًا: «يا تحية أوصيك بأمور. إنى أعرف أنى هامة اليوم. فلا صراخ ولا عويل، فإنه أنكر ماسك مسمع حى. ولا نساء يحتشدن حولى، ويبكين مخلصات أو منافقات أو مجاملات. ولا سواد تلبسينه على. ولا مأتم يقام ولا جنازة تشيع، وإكرام الميت دفنه، فعجلوا به، والله يبارك لكما فى حياتكما». وأمسكت هنيهة تستريح ثم تبسمت لها فى عينيها، وقبلت ما بينهما. وفاضت روحها فى قبلتها، على جبين تحية. وخالف إبراهيم وصية أمه — بكرهه — فقد كان يخشى شماتة بعض من يعلم أنهم يتنسمون أخباره ويتمنون له السوء. وخاف أن يحملوا العمل بالوصية على محمل الفقر والعجز، فكلف نفسه شططًا، واحتفل بدفن أمه وأقام لها مأتمًا «كنجوم الليل زهرًا» ولم يذرف دمعة واحدة وهم يدفنونها، ولم يقل لدافنيها ترفقوا بها وإن كان قد هم بذلك، حين رآهم يحملونها بغير احتفال. وسبقهم فانحدر إلى القبر فسوى لها التراب بيديه، وكاد يعفر به وجهه. وتلقى تعزيات المشيعين — وهو باسم — وقلبه يدمى، والدموع فى حلقه. ولكنه على فرط تجلده لم يستطع البقاء فى البيت، فقد كان يرى أمه فى كل مكان، وكان كل شىء يذكره بها. وانتابه الأرق والوسواس، وتلفت أعصابه حتى صار يشق عليه أن ينام وحده على سريره. واحتاج أن يشعر لإنسان آخر إلى جانبه. وكان هذا الاضطراب يخجله، فتحامل على نفسه وأخفى ضعفه. غير أن تحية فطنت إلى ما به، وكانت عينها عليه، وقلبها معه، فزعمت أنها خائفة فهل يسمح لها بالانتقال إلى جانبه فى سريره؟ ففعل مرحبًا مسرورًا. ولم يفطن إلى حيلتها. ووسعه أن يغالط نفسه ويوهمها أنه يحمى امرأته ويرعاها ويحرسها، وفتر إزعاج الهواجس، وضعف صوت الهواتف. ولكنه ظل لا يطيق البيت فتحول عنه إلى سواه، وإن كان عزيزًا عليه حافلاً بالذكريات الحبيبة إليه. وخالفت تحية الوصية أيضًا فلبست السواد. وكانت تعرف أن السواد والبياض سيان، وأن العبرة بما ينطوى عليه القلب. ولكنها خشيت سوء القالة والتأويل، وإن كان لها من الشجاعة وقوة النفس ما يعينها على مخالفة العادات وإهمال التقاليد. ولكن إبراهيم كان يكره السواد ولا يطيق لونه، فانتظر حتى مضت الأربعون، ثم قال لها: «إننا لا نزور ولا نزار — على الأقل الآن — فما فى زيارة حزين متعة، ولا للناس فى ذلك رغبة صادقة، فاخلعى هذا السواد فإنه يثقل على نفسى. وما أظن بك إلا أنه يثقل عليك أيضًا. إنه لون قابض يجثم على الصدر، ويشد الجلد، ويسقم القلب، وأنت تعرفين حبى لأمى، وأنا أعرف حبك لها، فهل تظنين أنها تطيب نفسًا — لو كانت دارية — بحالنا هذا وما نحن فيه؟» فنضت السواد — على كره وإشفاق — ولغطت نساء بذلك فيما بينهن، ولكنها لم تجعل بالها إليهن، وإن كن يجدن الوسيلة إلى إبلاغها ما يقلن فيها. وكان عزاؤها حين يتأدى إليها هذا اللغط أن: «هى تعرف، هى تعرف. لا سواها». وكان الانتقال إلى الحياة العادية بطيئًا بطبيعة الحال. ولكنهما عادا سيرتهما الأولى على الأيام. ولم ينسيا هذه الأم الكريمة، وأنَّى لهما أن يفعلا؟، ولكن حزنهما عليها تحول إلى اغتباط عجيب بذكرها. فكانا يقضيان بعض الوقت — أحيانًا — وهما يتساقيان ذكرياتها، فينتشيان. وكانت تحية ربما توقفت وهى تلبس ثيابها استعدادًا للخروج معه إلى السينما أو لزيارة صديق أو قريب، وألقت إليه نظرة وديعة، فيها لين وحنين، فيفهم. ويذهب بها إلى قبر أمه فيقفان عليه لحظة — لا يقولان شيئًا ولا يقراَن حتى الفاتحة — ثم يعودان من حيث جاءا، ويذهبان إلى حيث شاءا، وقد استراحا وشعرا أنهما سراها. وقال لها إبراهيم يومًا: «هل تعرفين يا تحية أن أمى فترت إرادة الحياة فى نفسها وضعف تعلقها بها لما اطمأنت إليك ووثقت أنك لى أم وزوجة وصديق فى آن معًا؟» فلم تدر أينبغى أن تسر أم تألم؟ ولكن السرور غلبها مع ذلك وقالت: «لقد استراحت فقد كانت تكتم ألمها وتحاذر أن تبديه. وكنت أعرف ذلك، وأعرف أنه يسرها أن لا أظهر أنى أعرف ما تكابد. لم أر أشجع منها ولا أرق قلبًا. لو وزع حنو قلبها على الناس جميعًا لعادوا ملائكة رحمة». ولكن إبراهيم خامره خاطر غريب جعل يقوى ويستبد بنفسه على الأيام. وكان يدرك بعقله أن هذا من تلف أعصابه. ولكنه مع ذلك لم يستطع أن ينحيه. ولم يفد فى دفعه ما أحاطته به تحية من وسائل التسرية وأسباب التلهى. وكان منطق هذا الوسواس أعجب من الوسواس نفسه، فكان يقول لنفسه إنه كبر وأسن. أليست أمه قد ماتت؟ والأمهات يمتن فى كل سن، عن بنيهن، فى كل عمر. ولكن أمه قد ماتت وهى مقتنعة بأن به الاَن غنى عنها. فما معنى ذلك؟ أليس معناه أنه شب عن الطوق جدًّا جدًّا؟ ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية؟ فهو يدلف الاَن إلى الشيخوخة. لقد كانت أمه تشعره فى حياتها أنه ما زال حدثًا بل صبيًا صغيرًا. وكان هو يشعر بين يديها أن فى وسعه — بل ما زال من حقه — أن يرتمى على صدرها ويرضع ثدييها لا يصده عن ذلك شاربان ولحية، وإن كان يحلقها ولا يبقى عليها، فكان وجودها يفيض عليه شعورًا قويًا بالشباب والفتوة. وكان يحس أنه لن يكبر ما بقيت حية. فلما فقدها فقد هذا الشعور وأحس أنه ارتفع عن تلك السن التى كان لا يحس أنها تعلو فى حياتها. كان فرعًا من أصل، فاجتُث الأصل واقتُلع، واقتطع الفرع وغرس فصار أصلاً له عروق وأطناب. وراح يشعر أنه من الأرض مباشرة وإليها. نعم بقيت له تحية، وهى لا تنى تبره وتسره، وتتعهده، وتحنو عليه. ولكنها تعتمد عليه أيضًا — تتكئ عليه كالعصا — تقوى نفسها وتُصيبها بالاستمداد منه، كما كان هو يقوى نفسه ويصيبها بالاستمداد من أمه، فصار هو لتحية ما كانت أمه له، متكأً، ومعتمدًا، ومعين قوة، وينبوع حرارة، وليس له هو أحد يمتح منه … وهو لم يرزق ولدًا، وليس هذا لمحزنه. ولكن أهو يا ترى عقم؟ وتمثلت له أرضان، واحدة خصيبة والأخرى جديبة. واحدة يرف نباتها ويربو ويهتز، ويوحى إلى النفس معنى القوة والنعمة والرى. والأخرى خاوية موحشة توحى معانى الفناء والعبث. وتراءت لعينيه شجرتان واحدة عليها ثمرها ونوارها، والأخرى لا ثمر عليها ولا زهر لها. وتساءل عن الشجرة اليابسة ما انتفاعها بالثمرة المضمرة التى لا تطرح؟ ثم أليس الإثمار تفتحًا والعقم انسدادًا؟ ودار فى نفسه ما هو أثقل وأبعد من الصحة. أحس أنه وثب فجأة من الطفولة التى أطالت أمه عهدها إلى الكهولة دفعة واحدة، وأن شبابه ذهب خطفًا، ومر كالقذيفة، فلم يتلبث ولم ينعم هو به وألفى نفسه يتساءل — وينكر من نفسه تساؤلها — ترى كيف طعم الشباب؟ وخطر له أن هذا جحود، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الحاضر إلا بعد أن يصبح ماضيًا، وأن من تضييع الحاضر والماضى جميعًا — وتقصير العمر أيضًا — أن يترك نفسه يفكر على هذا النحو وينكر شبابه، ويمحوه ويمسحه من لوح الذاكرة التى لا يحسن الإدراك والفهم إلا بها. وانثنت خواطره إلى تحية. فحدث نفسه أن شباب المرء يشعر به المرء فى سواه — على الأقل أكثر مما يشعر به فى نفسه. وتساءل: كيف هذا؟ أترانى خرفت؟ لا. ليس هذا من الخرف.. إن صدى شبابى فى نفوس الناس.. أثره ووقعه.. إحساسهم به.. مجاوبتهم له.. هذا هو الذى يُشعر المرء بشبابه.. يعنى ماذا؟ هل معنى هذا أن الشباب — أو الشعور به — إيحاء؟ وقال لنفسه، بعد إطراق طويل إنه يحسب أن الأمر كذلك إلى حد كبير.. كل شىء فى هذه الدنيا يكاد يرجع فى مرد أمره إلى الإيحاء.. لو اجتمع نفر على واحد، وألحوا عليه بالإيحاء الخفى أو الظاهر لأقنعوه بما شاءوا.. بأنه عاقل أو مجنون.. وشاب أو كهل، وظريف أو ثقيل … ولا يمنع هذا أنه فى الواقع غير ذلك.. نعم الشباب قوة ذاتية ولكن الشعور به رهن أيضًا بما يتلقى المرء من إيحاء الحياة. وكان يشعر ويدرك أن فى تفكيره عوجًا، أو على الأقل يحب أن يعتقد ذلك. ولكنه لم يستطع أن يقيم العوج أو يثنى خواطره ويصرفها إلى مجرى اَخر. ووجد نفسه يتساءل عما توحى إليه حياته وعن نوع إيحائها أهو إيحاء بالشباب والقوة، أم بالكهولة ودلوف الشيخوخة وذهاب النعمة والغضوضة؟ وتنهد أسفًا فليس فى حياته غير تحية. وليست تحية بالامتحان الكافى أو المقنع. واستهجن أن يجرى هذا بخاطره، وعده ظلمًا لتحية، وقلة وفاء. وعالج أن يطرده ولكنه أبى إلا أن يستولى على نفسه حتى صارت المسألة عنده كيف يكون الأمتحان. وانتابه وسواس آخر جرته عليه النوراستينيا، وكان قد أصيب بها فى صباه وعانى تبريحها سنوات، وكان أخوف ما يخافه فى هذا العهد الأول «الحمى» فكان لا يكاد يأكل شيئًا أو يتعب إلا توهم أنه يجد مسها وأنه سيحس بعد ذلك نفضها وإرعادها ثم تشتد عليه حرارتها وتدوم فيموت. وكان لا يريحه ويعفيه من هذه الأوهام إلا أن يشرب شيئًا يُسيل العرق فيهدأ ويطمئن. وكان فى قرارة نفسه يعرف — كما يدرك بعقله — أن هذا كله من فعل الأعصاب وأنها أوهام فى أوهام وأنه لا شىء به يشكوه ولا خوف عليه من حمى نافض أو صالب. غير أن ما كان يعتريه كان يغلب إرادته فكان يحس هذا الخوف على حين يبقى عقله مطمئنًا. وكان ربما قعد على الطعام وهو سليم مبرأ وفى ظنه أن سيقش كل ما على المائدة من شدة الرغبة فيه والشهوة له، فلا تكاد تمتلئ عينه منه حتى يرد يده عنه وينهض ويلبس الصوف — حتى فى وقدة الصيف — ويلف عليه بطانية سميكة ويقول: «اغلوا لى كراويا»، فتتنهد أمه اَسفة وتقوم إليه حتى تسرى عنه. ويا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت، أو صادفه رجل له وجه حانوتى، أو مر به غراب يخطف، أو وقعت عينه على بومة.. وأتعبه الأطباء ولم يجده ما كانوا يشيرون به عليه، وأحس أنه لو صدر عن رأيهم لطار عقله، فقد كانوا يأمرونه بالراحة والكف عن العمل وينصحون له باتقاء الإجهاد ويشيرون بالسكنى فى مكان خلوى ساكن لا ضوضاء فيه. وكان هو يرى أن العمل تسلية وأن الراحة تلتمس لا بالكف عن العمل، بل بتنويعه والانتقال من شىء إلى شىء، وأن التعب يجعل نومه هادئًا عميقًا وأنه على كل حال لا يطيق السكون والجمود، وأنه إذا كف عن العمل لم يسعه إلا أن يدير عينه فى نفسه ويفكر فى حاله فيزداد اضطرابًا. وكان يحدث أمه بهذا ويروى لها حواره مع الأطباء، ويحاول أن يقنعها بصواب ما يذهب إليه وخطأ ما يشيرون به، كأن اقتناعها بأحد الأمرين يرجح الكفة ويحسم النزاع، ففهمت أمه حقيقة الحالة وأدركت أنها هى التى بيدها علاجه. وكان رأيها أن الأطباء على حق وأن ابنها أيضًا مصيب، فقصدت إلى طبيبه زاعمة أنها هى المريضة وعادت وقد استقر رأيها على النهج الذى بدا لها أنه أوفق. وكانت تعرف حب ابنها لها فأرادت أن تصرفه عن نفسه وتحول عنايته إليها. واختارت للسكنى بيتًا فى ضاحية جميلة وله حديقة صغيرة، قائلة إن ضجات المدينة تحرمها الرقاد وتسلبها الراحة، وأغرته بزراعة الأزهار والخضر، وصارت تخرج تتمشى فيرافقها من تلقاء نفسه وهى تبدى الزهد فى ذلك وتدعى أنها تخشى عليه التعب، وما كان خروجها إلا من أجله لا من أجلها. وكانت تحرص على أن لا يدرك أنه هو المقصود بما تصنع وما تتكلف حتى لا يشعر أنه مريض يُعالج، وحتى تجىء الصحة التى تستفاد من هذه الحياة الجديدة بثمراتها المنشودة. ولاحظت أنه اتخذ عصا وأنه اعتاد أن يحملها معه كلما خرج ليرافقها. وكانت تراقبه خلسة فبدا لها أنه وهو يتوكأ على العصا يثنى رأسه ويمشى مطرقًا متجمعًا، وخيل إليها أن هذه العصا توحى إليه شعورًا بالضعف وأنه يتخذ سمت الشيوخ الوقورين، فزعمت أن المشى يتعبها قليلاً، ورغبت فى الاعتماد على العصا، فناولها إياها فلم تدعها له بعد ذلك. وسرها أن رأته يمشى خفيفًا، وكان المشى والعمل فى الحديقة مشغلة كافية، فقلت مطالعاته وطال نومه وصح بدنه وأذهلته العناية بأمه عن العناية بنفسه، وأنسته معظم وساوسه فعاد إلى ما كان قد كاد يخرج عنه من حدود الصحة. فلما ماتت عاودته الوساوس ولكن فى صورة أخرى، فصار يخشى الموت بالسكتة أو الذبحة، وبتوهم أن قلبه ضعيف. أليست أمه قد أصيبت بالذبحة؟ ألم يكن قلبها ضعيفًا؟ أليس هو ابنها، فهو لعله قد ورث بعض ضعفها؟ وصار يزعجه ويؤرقه ويثير مخاوفه على نفسه أنه يسمع — حين يضع رأسه على الوسادة — دقات قلبه، فكان يؤثر النوم قاعدًا فيرص المخدات وراء ظهره لتسنده، حتى إذا خفت صوت هذه الدقات وكاد النوم يغلبه انحدر عن المخدات برفق وحذر ونام كالعادة. وكثر تردده على الأطباء ليقولوا له كيف حال قلبه، ويبينوا له ما خطبه، فقال له صديق له منهم: «يا سيدى إن قلبك سليم، وأنت رجل جسمه ليس بالضخم الهائل الأنحاء فهو لا يكلف طلمبة قلبك — فما القلب إلا طلمبة — جهدًا ولا يتعبه ولا يرهقه. ولا أدعى أن لك قلب مصارع أو ملاكم أو رجل مغرى بالرياضة البدنية، ولكنه كاف جدًّا لجسمك وخليق أن يظل كافيًا زمنًا طويلاً. فلا تقلق عليه، واعلم أن الذى بك هو تلف الأعصاب ليس إلا. إن جسمك — وصدقنى فقد درسته وأنا أعرف به منك — أقول إن جسمك عبارة عن شبكة معقدة من الأعصاب، وهى أعصاب حساسة مرهفة جدًّا، وهذه الأعصاب فى إطار من الجلد، تحمله عظام وقد وضع هنا قلب وهنا معدة وهنا كلية إلى اَخر ذلك، وكل هذا سليم لا عيب فيه ولا مرض، وإنما البلاء أعصابك هذه، فاعرف ذلك ورد كل ما تحس به وتقلق من جرائه إلى هذا واحمد الله واشكر نعمته، فإن إخوانًا لك أصغر منك سنًا، وكانوا أصح منك أبدانًا، قد أصيبوا بأمراض وبيلة، وأنت تجيئنى متغير اللون مربد الوجه من الفزع وتقول لى: قلبى مريض.. أسمع دقاته وأنا نائم.. يا أخى كل إنسان يستطيع أن يسمع دقات قلبه وهو راقد إذا جعل باله إليها، فاصنع معروفًا وأرح نفسك من هذه الوساوس وابتسم واضحك والعب وأدخل السرور على نفسك، ولا تجالس من يقول لك إن الدنيا دار شقاء وإن الحياة ذميمة، فما أعطينا الحياة لنشقى بها بل لنحياها على خير ما نستطيع وفى أسعد حالة تتيسر لنا.. ثم ما هذه الضجة بالله؟ ماذا تخاف؟ أو هو الموت؟ فإنا جميعًا أبناء الموت ولا مهرب لنا منه، ولو أعطيت أقوى قلب فى الدنيا لما منع ذلك أن تموت فى يوم ما. فلماذا نعنى أنفسنا بالموت طول حياتنا؟ وإنه لحال مقلوب، فى شبابك — لا تضحك فإنك مازلت فى شبابك — أقول فى شبابك يسود الخوف من الموت عيشك، وتعلو سنك شيئًا فشيئًا وتدلف إلى الكهولة والشيخوخة فيكون من أثر هذا أن يوطن نفسك ويروضك على المصير المحتوم، وفى الشيخوخة يشعر المرء بالبلادة كلما طاف برأسه خاطر الموت — لأن الشيخوخة عبارة عن تبليد هو بمثابة الإعداد للموت — ففى صباك، فى نضارة عمرك، فى عهد القوة والفتوة واستطاعة الانتفاع بالحياة والاستمتاع بها، تنغص على نفسك هذه الحياة وتفسدها بالموت والفزع منه، ثم ينقضى الشباب الذى لم تصنع به شيئًا ولم تركب به ما يُركب، وتجىء الشيخوخة — إذا مد الله فى عمرك — فيفتر وقع الموت فى نفسك ولا يعود له ذلك التنغيص القديم، ولكن ما الفائدة حينئذ؟ أليس هذا حالاً مقلوبًا؟ اذهب.. اذهب يا رجل واختش.. وانتفع بما لا يزال لك من شباب». ولم تخل هذه «المحاضرة» من أثر، وصار تفكيره أن صدق الطبيب والله! ولقد أضعت شبابى بين الخوف والحذر! أنفقته فى غير ما ينفق فيه، بددته تبديد سفيه أخرق.. لا فى لذات ومتع، بل فى بلابل ووساوس وهواجس ما أنزل الله بها من سلطان.. ليت أن من الممكن الحجر على الشباب كالحجر على المال.. إذن لأمكن أن يحجر أحدهم — أمى مثلاً أو تحية زوجتى — على شبابى فيظل محفوظًا لى مصونًا حتى أرشد كما أكاد أرشد الآن، حتى أفيق وأصحو من غاشية الأوهام وأستطيع أن أحسن الانتفاع بهذا الشباب الذى يولى ولا يتمهل … أو ليت العمر يُرفى كما يُرفى الثوب كلما بلى منه شىء.. ولكنه لا يرفى ولا سبيل إلى الحجر على الشباب وصونه من البعثرة والتبديد والإنفاق بخرق وحماقة.. فهل ضاعت الفرصة؟ وكرَّ إلى رأس أمره من توهم الدلوف إلى الكهولة المنذرة بالعجز.. العجز عن ماذا؟ إنه يستطيع التفكير، وتفكيره أنضج وأسد وأحكم، ورأيه أقوم. فالعجز عن أى شىء إذن؟ ما هى هذه الحياة؟ أهى الفكر؟ العقل؟ إن كانت هذا فلا قيمة للشيخوخة المخوفة، ولعل بلوغها يجعل الحياة أتم وأكمل. أهى الإحساس؟ فإنى أراه قد صار أعمق على الأيام. إن كل يوم يمضى يزيد ذخيرتى من الشعور والإحساس، ويتركنى أقدر مما كنت على التلقى والاستجابة، لأنى أزداد فهمًا ورحابة أفق، وحياتى تتسع وتعمق، كالماء المتحدر، تحدره يوسع مجراه ويعمقه. أهى القوة البدنية؟ إن القوة ليست مطلبًا بل وسيلة، وليست غاية بل أداة إلى غيرها. فما غيرها هذا؟ أهى القدرة على كسب الرزق؟ ما أسخف أن تكون الغاية من الحياة لقمة! أهى السعادة؟ وتذكر قول شاعر أن السعادة أشبه بعود من البرسيم معلق أمام عينى حمار، فهو لا يزال يعدو ليبلغه ولا يزداد دنوًا منه ولا بعدًا. أهى القدرة على إسداء الخير إلى الجماعة؟ قد تكون هذه من غايات الإنسان المحس المدرك، بل هى ينبغى أن تكون من غاياته. ولكن ما الغاية التى ينشدها لنفسه، فإن لنفسه عليه حقًا وما يستطيع أن ينسى هذه النفس أو حقها. وكاذب مغالط من يقول غير هذا.. فماذا يطلب بالقوة لنفسه؟ شيئًا من النعيم فى الدنيا؟ نعيم العقل والإحساس والجسم؟ وخطر له أنه يوشك أن يغالط نفسه، فما هذا العقل الذى يتميز من الجسم؟ وما هو هذا الإحساس الذى لا يتصل بالجسم؟ إن هذا وذاك بعض الجسم أو بعض ما يؤدى إليه تركيب الجسم وتكوينه على هذا النحو. فالمسألة أولاً وقبل كل شىء مسألة جسم. وكل ما نباهى به ونعتز، ثمرة هذا التكوين الجسمانى الخاص فلا داعى للمغالطة وتقسيم الإنسان إلى جسم وعقل أو غير ذلك، فإنه لايتجزأ، أليس كل شىء يذهب ويتعطل حين يتعطل ما يجعل الجسم كائنًا حيًّا؟ لا يبقى عقل، ولا يبقى شعور، ولا يبقى أى شىء اَخر حين تعدو المنية على هذا الجسم الذى نغالط أنفسنا باحتقاره. هل نقول إن العقل يبقى بآثاره؟ هذه مغالطة أخرى فما أمكن أن توجد هذه الآثار إلا لما كان الجسم موجودًا وحيًا. انتهينا إذن، والمسألة مسألة جسم.. وهذا الجسم له حقوق فى السعادة الميسورة والنعيم المتاح. والعقل والشعور يشقيان إذا شقى الجسم المزدرى. وقال لنفسه لما انتهى إلى هذه النتيجة: «إن كل حالات الإنسان، كل ما يقوى عليه، وكل ما يكون منه ويصدر عنه، ونوعه، وصفته، وقيمته — كل ذلك رهن بحالة جسمه». وحدث نفسه أن مغالطات الشباب لا محل لها فى مثل سنه، فإنه يوشك أن يخرج عن حد الشباب. وحينئذ تكون صحة الفهم بعد الأوان غصة ونقمة. ولحرى به أن يعجل.. يعجل؟ يعجل بماذا؟ هذا هو السؤال. وتردد فى الإجابة الصريحة. فما بالسهل أن يخالف ما جرى عليه طول عمره، وأحس، وخاف. إنه صار حزمة من العادات حتى فى تفكيره.. وأسخطه هذا وأثار نقمته، وحنقه، وآلى ليفكن هذه الحزمة وليبعثرنها. فما يريد أن يكون كهذا الترام الذى لا يستطيع أن يخرج عن قضبانه، ولا يصلح لشىء إذا هو خرج عنها، والأولى به أن يكون كالسيارة التى لا تتقيد بقضبان ولا تعجز عن الانثناء إلى أية ناحية والسير فى أى اتجاه. وهبط قلبه إذ خطر له مفاجأة أن تحية إحدى عاداته، فهل يتحرر من هذه العادة أيضًا؟ ورأى نفسه يستعيذ بالله، وينثنى فيقول، إن التفكير على هذا النحو يقود إلى الشطط. وسأل نفسه — وخيل إليه وهو يفعل ذلك أنه انتزع من نفسه شخصًا آخر يضعه أمامهِ ويلقى عليه السؤال — هل يستطيع أن يحتمل خلو حياته من تحية؟ وقال: «الأن نريد الجواب الصريح».. وكان الجواب الذى دار فى نفسه أنه لا يستطيع.. ثم قال إنه استطاع أن يحتمل حياته من غير أمه.. شق عليه ذلك أول الأمر، ولكن الإنسان رُزق الكفاية من المرونة، أى القدرة على التكيف. فهو يألف كل حال، وإن بدا فى أول الأمر عسيرًا.. فهل معنى هذا أنه يقدر أن يألف خلو حياته من تحية؟ نعم. وساءه هذا اللون من التفكير. فغضب وصاح بنفسه «ولكن ما الحاجة إلى إخراج تحية من دنياى؟» ثم إنه لا يشعر أن حبه لتحية قد ضعف، وإنما يشعر أن به فتورًا عنها كامرأة ليس إلا.. وليس هذا بذى قيمة، وهى عسى أن تكون مدركة لهذا، ولعل بها مثل فتوره. فإنها تتوخى أن تكون له صديقًا، وهو يحمد منها هذا، ويراه أطيب وأوفق. غير أن تحولهما إلى صفة الصديقين أوجد بينهما نوعًا من الحياء، وأقام فواصل خفية يتطلب الأمر فى بعض الأحيان تنحيتها. فهما يتكلفان جهدًا واضحًا حين يحاولان أن يتجاوزا حد الصديقين ويعودا زوجين أى رجلاً وامرأة. وهذا عناء يزيده فتور الألفة ويبدو أحيانًا ممتعًا ولكنه على كل حال عناء. وإذا طال الأمر على هذا النحو فأخلق بأن تكثر الحوائل بينهما، لأن كل حال تتقرر بالعادة.. أفلا يمكن أن تُزال هذه الحوائل دفعة واحدة ليعودا كما كانا؟ ممكن ولا شك. ولكن ما القول فى الفتور؟ ما خير أن تزال الحوائل مع بقاء هذا الفتور اللعين؟ وصار الأمر فيما يرى معضلاً، وأعياه التماس الوسيلة لحل هذا الإشكال. وألفى نفسه يتساءل: أليس على تحية — كما علىَّ — أن تعالج حل العقدة؟ لماذا تتركنى أنفرد وحدى دونها بمعاناة هذه المشقة والأمر مشترك بينى وبينها؟ وقال فى جواب ذلك إنه هو الرجل، وإن المرأة ما زالت تنتظر أن يكون السعى من جانب الرجل ابتداء، لأنها مازالت أضعف منه وهو أقوى منها، وله السيادة والسلطان على الرغم من كل هذا التحرير الذى لم يحررها، لأنه لم يكسبها إلى الآن ما ينقصها من أسباب القوة التى للرجل. وقد يجىء زمن يتساويان فيه. وقد يجىء زمن تصبح فيه أقوى منه، وحينئذ لا تنتظر سعيه بل تسعى هى جهرة. وإنها الاَن لتسعى سعيها إلى ما تريد من الرجل، ولكن خفية وبخبث، وإنها لتبلغ من غاياتها أكثر مما يبلغ الرجل من غاياته، بالحيلة التى تتقنها ولا يتقن الرجل مثلها، لأنه لشعوره بقوته وإربائها على قوة المرأة اعتاد أن يسير إلى غايته جهرة، ويمضى إلى ما يطلب غير متكلف هذا الضرب من المكر الذى تحسنه المرأة. وإنها لتغلبه وتسيطر عليه من حيث لا يشعر — وأحيانًا من حيث يشعر — ضعفا منه إذا كان ضعيفًا أو التذاذًا لرؤيتها تسيطر عليه، وتتوهم أن لها هذه السيطرة فعلاً. وعاد يقول لنفسه: «لا يا شيخ. والله إن المرأة لمسكينة». وأطرق قليلاً ونفسه فياضة بالعطف على المرأة المظلومة، ثم وجد نفسه يثور على هذا الخاطر ويقول: «إن المرأة هى التى أوحت إلينا أنها ضعيفة مسكينة لتغرينا بإلقاء السلاح والكف عن الكفاح فتبلغ ما تريد، والله ما المسكين إلا الرجل المخدوع». وضاق صدرًا بهذا كله فصاح: «ولكن ما دخل كل هذا فى أمرى وأمر تحية؟ لماذا أرانى أذهب أتفلسف هذه الفلسفة العقيمة كلما فكرت فيما ينبغى أن تكون عليه حياتى وكيف أنتفع بها؟ هذه أيضًا عادة، وهى أولى من سواها بالترك. فإن الذى يطول تفكيره على هذا النحو قلما يصنع شيئًا. وأنا أريد سيرة أسيرها، لا فلسفة أتفلسفها، فلنضع حدًا لهذا العبث». ولم يضع هو الحد بإرادته — ولو ترك لها لما صنع شيئًا — وإنما تكفلت بهذا الأقدار.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/13572470/
إبراهيم الثاني
إبراهيم عبد القادر المازني
ليس من قبيل الصدفة أن يكون اسم بطل رواية إبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم» الثاني، وفي رواية أخرى «إبراهيم» الكاتب، فقد تعمَّد الروائي أن يسمي البطل باسمه. ذلك أن المازني جمع في هذه الرواية بين جانب من حياته وجانب من خياله، ويعترف المازني لنفسه بذلك، حيث يذكر في مطلع روايته أبيات من الشعر تدل على هذا المعنى! إنها رواية سيكولوجية بامتياز، تهيم في الأبعاد النفسية للنفس الإنسانية، فهي رواية الحب قبل الزواج وبعده، وهي أيضًا رواية الخوف من الشيخوخة والموت، باختصار هي رواية اعترافات. إن هذا العمل يمثل بحق جزءًا من تاريخ الرواية العربية. وتتميز الرواية بأسلوب فريد، يشهد للمازني بمكانة كبيرة في أدبنا العربي.
https://www.hindawi.org/books/13572470/3/
الفصل الثالث
كان إبراهيم جالسًا إلى مكتبه وأمامه نافذة مفتوحة. وكان وجهه إلى النافذة ولكنه لا يرى، لفرض اشتغاله بما يجول فى رأسه وذهوله به عن النظر. ثم كأنما تقشع غمام فأبصر فتاة هيفاء ممشوقة، متكئة على درابزين السلم الذى ينحدر إلى حديقة بيتها، وهى فى منامة — بيجاما — من الحرير الأبيض. وكان بناء داره هو على مقربة من الطريق، والحديقة من الخلف. فترك ما كان مشغولاً به وتساءل من عسى تكون هذه الجارة؟ وقديمة هى يا ترى أم حديثة؟ إن لى هنا سنوات طويلات ومع ذلك لم تأخذ عينى إنسانًا يدخل أو يخرج من هذه الفيلا حتى لقد حسبتها مهجورة.. لم أر حتى بوابًا أو بستانيًّا، ومع ذلك.. غريب هذا.. لقد تذكرت الاَن فقط أن حديقتها غير مهملة.. وأتأر الفتاة بنظرة فخيل إليه أنها جميلة رشيقة، وأعجبه منها مرونة بينة على الرغم من سكون أوصالها وقلة حركتها. وراقه شعرها الذى تفرقه من الوسط وترسله على جانبى وجهها — مثل كريمة — وحدث نفسه أنها نحيفة.. نحيفة جدًّا.. ولكن النحافة خير من إلحاح اللحم.. ونظرتها؟ كيف هى يا ترى؟ إن عينها تبدو له من هذا البعد حوراء واسعة، وفى نظرتها لين وعذوبة.. فتنة. وأحس من نفسه شوقًا إلى معرفتها. وضحك إذ خطر له أن هذا هو الحب من أول نظرة! ومط بوزه ساخرًا، فما ارتجت نفسه إلا مرة واحدة من قبل. وليس حبه لتحية بالفائر الثائر، وإنه لساكن جدًّا، وأشبه بحب المرء لأخته. وقد نسى على كل حال مبلغ اضطرام شعوره فى البدايات — إذا كان قد اضطرم — فهو لا يذكر ولا يعرف إلا أن تحية صديقته التى لاغنى به عنها. وظل برهة طويلة هكذا … لا يفعل شيئًا سوى أنه ينظر إلى الفتاة. والفتاة التى يتأملها قبالته معتمدة على الدرابزين. وقال لنفسه إن الجديد من الأمر يتطلب جديدًا من التصرف والتدبير، فماذا يصنع؟ لو كانت له خبرة بمثل هذه المواقف، أو سبق له بها عهد لقاس حاضره على ماضيه وأجراه فى مجاريه. وغريب أن ينقضى شبابه وهو جاهل بهذه الشئون؟ ثم يشارف الكهولة ويقف على بابها ويأخذ الأبيض يختلط بالأسود، ويبدأ الزمن يرسم خطوطه فإذا هو يشتهى أن يفعل ما يفعل الشبان. وارتفعت يده إلى وجهه متحسسة، وإلى شعر رأسه كأنما يحاول باللمس أن يعرف كيف وخط الشيب لمته. وهل هذا إيذان باندلاع نار المشيب ذات الوقود؟ وتلفت ولكن غرفة المكتب ليس بها مراَة.. وخطر له وهو يفعل ذلك أنه لا يذكر أنه عنى مرة بالنظر فى المراَة. وألقى القلم — فقد كان يكتب — واضطجع. وقال يناجى نفسه وهو يضحك ساخرًا: «هل أصنع كما يصنعون فى الروايات الكثيرة التى قرأتها؟ وعلى ذكر ذلك ماذا ترى أبطال هذه الروايات يصنعون فى حالات كهذه؟ لقد نسيت والله. فكأنى ما قرأتها، ولا وقعت عينى عليها. وهبنى كنت ذاكرًا فهل يصح من دنيا الحقيقة ما يصف الخيال». واستطرد من هذا إلى القول بأن الروايات ليست، ولا يمكن أن تكون خيالاً بحتًا، أو شيئًا يخلقه الإنسان من لا شىء ولا يحور فيه إلى أصل من حقائق الحياة. وأنكر قدرة الإنسان على هذا الخلق من لا شىء. وذهب إلى أن كل ما يسعه هو التوليد، وهو أن يلفق القصة من جملة ما شهد وجرب وسمع، ويكون الشخصيات من أشتات ما عرف، ثم تعمل الفطنة الطبيعية واللب العبقرى فعلهما بعد ذلك. فليست القصص خيالاً ولا ما تصفه محالاً. اذن يكون تقليدها ميسورًا. أو دع كونه ميسورًا أو غير ميسور، وقل إنه لا يكون شططًا. ولم يرض عن هذا الرأى، فقال: إن القصص يعنى فيها واضعها بترتيب الأحوال والمواقف على النحو الذى يؤثره هو ويراه أوفق لغايته، ومن عسى يرتب لى دنياى كما يرتب مؤلف القصة دنيا أبطاله؟ أم أستشير صديقًا مجربًا؟ ولكن هذا مخجل. ثم إن العبرة بنوع استجابة الفرد لوقع الحياة فى نفسه هو. والاستجابة تختلف باختلاف الأفراد. والذى يفعله إنسان ما، فى موقف ما، ليس من المحتم — ولا من المعقول — أن يفعله كل إنسان فى الموقف عينه. فالاستشارات عبث ولا خير فيها ولا جدوى منها إلا الفضيحة. الفضيحة؟ نعم أليس فضيحة أن تفتح قلبك لمخلوق غيرك وتبيحه سرك وتكشف له عن ضعفك وتدع عينه ترى مقاتلك؟ ولكن هل معنى هذا أن الحب ضعف؟ وأسخطه هذا السؤال وقال إنه لا داعى له فما بلغ الأمر الحب.. أى حب يا هذا؟ إن المسألة كلها أنى أرى فتاة جميلة للمرة الأولى فمن الطبيعى أن أتعجب. وإذا كنت أشعر برغبة فى معرفتها فليس هذا أيضًا بمستغرب. وبدا له من الحزامة أن يصرف نفسه عن الفتاة. فأكب على عمله ساعة ثم نهض متثاقلاً. وحانت منه التفاتة إلى النافذة فلم ير الفتاة، فاستغرب، ثم ضحك، وقال متهكما: «أترانى كنت أتوقع أن تظل واقفة هنا إلى الأبد، أن تقضى حياتها كلها على رأس السلم كالتمثال؟» وعالج أن يتشاغل فى الأيام التالية ولكن الجهد الذى أحس أنه يتكلفه فى هذه السبيل أقنعه بأنه معنى بالفتاة، وإن ما يفعله ليس سوى مكابرة. وقال لنفسه إنه لا يرى بأسًا من الإقرار بأنه يؤثر أن يعرف الفتاة، بل إن معرفتها تكون أجلب لراحة نفسه. وقال يومًا لنفسه، وهو يناجيها على عادته: إن فى هذا الحى بضع مئات أو بضعة اَلاف من الناس لو رحلوا جميعًا لما حزنت عليهم ولا أسيت لهم، ولا استوحشت، ولا أحسست نقصًا أو خسارة، ولا أسفت على خلو الحى وخرابه، وقعودى فيه وحدى على تله. ولكنى لو علمت أن هذه الفتاة جرح أصبعها أو أصابها زكام لبت كاسف البال — لا أقول مسهد القلب ولا أظن أن الدنيا تسود فى عينى — ولكنى كنت على التحقيق أشعر بأسف وعطف. ومع ذلك لا أعرفها.. ومن يدرى؟ لعلها مزكومة.. مسكينة! وصد نفسه بجهد عن هذه السخافة، وأمر فنقل مكتبه إلى ركن آخر فى الغرفة. ولكنه لا يفتأ ينهف ويدنو من النافذة ويحاول أن يرى من غير أن يظهر، فلا يبصر شيئًا. فيعود «وينحط على الكرسى، ولا يستطيع أن يعود إلى العمل إلا بمشقة. واستغرب أن شبابيكها وأبوابها لا تكاد تفتح.. أو لا تفتح أبدًا فما رآها قط إلا موصدة.. أو لا تخرج هذه الفتاة للنزهة أو السينما أو لزيارة؟ أو لا يزورها أحد؟ إنها ليست من الطراز القديم، فإن بنات الطراز القديم، لا يلبسن المنامات. وأدهشه أنها خرجت إلى الحديقة أو أطلت من رأس السلم وليس على بدنها سوى هذه المنامة، فإنها ليست مما يليق أن تبرز فيه فتاة. ولكنها صغيرة ولعلها لا تجد من يرشدها أو ينبهها. وعلى ذكر ذلك قال إنه يتكلم عنها كأنما ليس فى البيت سواها وليس هذا بمقبول. وخطرت له فكرة.. لماذا لا يزور هذا الجار؟ ولكن من المحتمل أن لا يكون فى البيت رجل.. فلمن تكون الزيارة إذن؟ هل يسأل خادمًا؟ واستحى أن يفعل، وماذا عسى أن يقول للخادم؟ وبماذا يسوغ السؤال؟ وسيبدو عليه التكلف ولا شك حين يلقى السؤال، وهو يحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث. وفرك عينيه بأصبعه وهو يدير هذا كله فى نفسه، ثم أطبق جفونه وراح يحاول أن يحضر صورتها لذهنه كما بدت له على رأس السلم، فلم يجد عناء فى ذلك، فقد كانت الصورة مطبوعة على صدره. وذكر قول العقاد من قصيدة مرقصة له «ذهبى الشعر ساجى الطرف حلو اللفتات». وقال لنفسه أما أنها ذهبية الشعر فنعم. وأما سجو الطوف فأشهد أنى ما رأيت أحلى من نظرتها ولا أسحر للب فكيف إذا ابتسمت وأشرق وجهها الواضح الصبيح؟ وأما حلاوة لفتاتها فلا شك فيها، ولكنه ينقصه أن يذوق هذه الحلاوة. وراح يقطع الغرفة الواسعة المكظوظة بالرفوف والكتب وغير ذلك. وحدثته نفسه أن يركب الحياة بما يركبها به الشاب، ثم ضحك وقال: لم يكن باقيًا إلا هذا: أمسح لها شعرى بكفى، أو أعبث — على مرأى منها — بوردة أرجوانية (كتفاح خدها الأرجوانى)، أو أبعث إليها مع النسيم بقبلة؟ أو هو هو هو! وقهقه وهو يتخيل نفسه فاعلاً ما يفعل الشبان والأحداث. ثم أشعل سيجارة وارتمى على مقعد وسألى نفسه أترانى أحتقر الشبان وأسخر مما يصنعون؟ من الذى عليه أن يتصدى للآخر؟ الرجل أم المرأة؟ كلاهما يفعل ذلك. فأما المرأة فتصديها مخايلة بالجمال وألوانه وبالزينة لزيادة فتنته، وبالشفوف والأفواف والأدهان والأصباغ والشعر المصفف أو المرجل والمشية المغرية، والخطرة، وبما تعرض وما تستر إلى آخر ذلك. وأما الرجل فتصديه يكون بالإقدام لأنه هو القوى الذى عليه أن يطلب ويسعى ويخطو. فلا محل لتكلف الزراية على الشبان فإنهم يصنعون ما يصنعون بوحى الفطرة والأصل الذى فى الطباع. وهذا الاحتشام الذى اعتدته آفة — وليس نعمة — وما أراه فى قرارة نفسى — فضيلة.. لا لا، إنه ضعفْ ولا أعنى أن التوقح والتهجم فضيلة، أو حكمة، أو عمل مقبول. ولكنى أعنى أن المبالغة فى الاحتشام والخروج به عن حده ضعف كالحياء، لأنه ينافى الطبيعة التى ينبغى أن يصدر عنها الرجل، وهى طبيعة تفرض عليه السعى إلى المرأة، لا القعود حتى تتكلف المرأة السعى إليه. وخرج عصر يوم مع تحية، وإنه لواقف بالباب ينتظرها وإذا بجارته نازلة على درجات السلم وكانت فى ثوب وردى اللون محبوك، مفصل على قدها تفصيلا يجلو محاسنها كلها، ويعرض مفاتنها جميعًا. وكان نحرها يضىء — أى نعم يضىء — وثدياها الناهدان يبدوان من تحت الثوب بارزى الحلمتين … ما أعظم فتنة هذا الجسم الغض الجديد الذى لم تبتذله السن ولم يرهله الزواج؟ وكان شعرها الوحف الأثيث اللامع الناعم مرخى. وكان الضوء المراق عليه يخيل للناظر إليه أن فيه نجومًا زهرًا أبهى وأسنى من نجوم السماء. وكان وجهها الدقيق المعارف مشرق الديباجة — «يا ويل الرجال من هذا الفم الذى لم يعرف الأصباغ، وهو مع ذلك يبدو لى كأنما غذته الورود!» — وقد لانت نظرتها ورقت. وبدا خداها كأنهما غلالتا وردة جورية. وتذكر قول الشاعر مهيار: «آه على الرقة فى خدودها لو أنها تسرى إلى فؤادها». صحيح.. وليس من يدرى كيف فؤاد هذه الفتاة الرائعة الرقيقة الخدين اللينة النظرة.. أرقيق هو يا ترى كخديها أم.. كلا.. لا يمكن أن يكون إلا رقيقًا.. ولكن لماذا؟ وأى منطق هذا؟ على كل حال لا يزال أوان السؤال بعيدًا.. بعيدًا جدًّا.. وما حاجتى إلى الاطمئنان من هذه الناحية ولا صلة هناك ولا كلام ولا حتى إشارة؟ وستكون بعد ثانية على الباب وتخرج أمامى ولا تلقى إلى نظرة أو إيماءة. وأقبلت تحية فبادرها بهذا السؤال: «من تكون هذه البنت الحلوة؟» سألها عن ذلك بغير تفكير أو تحرز أو إشفاق من أن تسىء امرأته الظن! فنظرت تحية إليها ثم إليه وقالت: «ألا تعرفها؟ إنها عايدة … تعالى يا عايدة هذا زوجى يسألنى من تكون هذه البنت الحلوة.. لن نعرفك بعد الآن إلا بهذا الوصف … من اليوم فصاعدًا سيكون اسمك على لسانى البنت الحلوة. وقد صدق». فخجلت عايدة واتقدت وجنتاها. واندلعت النار فى وجه إبراهيم، وقال لامرأته بصوت يكاد يكون همسًا: «إنك خبيثة.. ما كان ينبغى أن تفضحينى هكذا». قالت: «لا تخف.. فإن ثناءك سرها.. ألا يسرك يا عايدة ثناؤه؟». فغلبها الحياء والخفر. وقالت تحية: «إن زوجى ذو عين فاحصة وذوق سليم، أليس كذلك؟» فوجد إبراهيم لسانه، وأراد أن يزيل أثر هذه الحادثة فقال: «كل ما يشهد لى بذلك أنى اخترتك». والتفتت تحية إلى عايدة وسألتها: «إلى أين؟» قالت: «والله مترددة بين السينما واﻟ …». فقالت تحية مقاطعة: «تعالى إذن معنا، لا تخجلى. فإن بعلى هذا رجل طيب، وثقى أنه أليف لا يعض». فضحكتا وابتسم، وشكر لتحية فى قلبه حكمتها ورحابة صدرها وعقلها. وذهبوا جميعًا إلى السينما لأن عايدة ذكرتها. وشهدوا رواية فيها مهندس ناهز الأربعين يقول لفتاة صغيرة السن إن عليها أن تخشى أمثاله من الكبار المجربين فإن لهم لحيلا وخبرة باقتناص قلوب العذارى، وليس للشبان مثل خبرتهم أو قدرتهم على الاحتيال، فهم — أى الكبار المجربون — أخطر من الشبان على الفتيات الغريرات. ومال على عايدة وقال: «هذا صحيح. لقد أخلص الرجل لها النصح». فقالت عايدة: «ألك خبرة مثله؟» فأحرجه هذا السؤال، ولم يدر كيف يجيب. لأنه لو قال إنه لا خبرة له صار فى عينها غريرًا وفقد مزية السن. وإن قال إنه ذو خبرة كان هذا اعترافًا غير لائق. فاَثر أن يكتفى بنظرة، فألقاها إليها كأنما يريد أن يقول: «يا خبيثة» فابتسمت وثنت رأسها ناظرة إلى حجرها. واستغرب هو جرأتها على هذا السؤال. وكبر فى وهمه أنه ممن تخلفوا عن ركب الحياة، فلعل الجيل الجديد لا يرى فى السؤال ما يعد اجتراء غير لائق. وأبت تحية إلا أن تتعشى عايدة معهما: «لتتوثق الصلة بينك وبين زوجى» كما قالت، فرفعت هذه البساطة الكلفة. وأحس الجميع أنهم من أسرة واحدة، وأن معرفتهم ترجع إلى عهد بعيد. وعادت عايدة تسأل: «هل صحيح ما قاله هذا المهندس فى الرواية من أن الكبار أخطر على الفتيات من الشبان؟» فلم يرتح إلى هذه الكرة إلى الموضوع، وثقلت عليه. وآلى ليحرجنها كما تحرجه فقال: «قولى لنا أنت أولاً ما رأيك؟» فقالت ببساطة: «أنا لا أحب الشبان»، ثم نظرت إليه وسألته: «وما رأيك أنت؟» قال: «رأيي أن الكبار يمكن أن يقال على العموم إنهم أعقل وأرشد، وأقل اندفاعًا، وأأمن على الفتيات». والتفتت تحية إليه وقالت: «أليس صحيحًا أن الكبار حين يعشقون يندبون ويغرقون إلى الاَذان؟» فقال: «ليس هناك ضابط لهذه الأمور، ولا يمكن استخلاص قاعدة أو حكم عام. فمن الشبان المندفع، والذى يضبط نفسه ويكبحها. ومن الشيوخ أو على الأصح الكبار، الذى يفقد إرادته والذى يحتفظ بها. والدنيا تحتاج إلى كل صنوف الناس لتكون دنيا.. كلا.. ليس هناك حكم عام ولا سبيل إلى الجزم بشىء». وخيل إليه أن هذه الفتاة أجرأ من رأى فى حياته، فقد عادت تسأله: «ومن أى الفريقين أنت؟ المندفع أم الحكيم؟» فابتسم ابتسامة متكلفة لم تخف سخطه على السؤال والسائلة وقال: «هذا تُسأل عنه تحية». فعادت تقول: «ألا تعرف نفسك؟» قال: «لو عرفت نفسى لكنت أحكم الحكماء». واغتنم الفرص فاستطرد وقال: «إن الإنسان كثيرًا ما يتوهم أنه يعرف نفسه، ولكن هذا خطأ أو غرور لأنه لا يستطيع أن يعرف كيف يكون سلوكه فى المواقف التى تعرض له، وأنا لم أجرب كل حالة ممكنة، حتى أستطيع أن أعرف كيف يكون سلوكى فى كل موقف محتمل. ثم إن الإنسان يتغير، والذى يراه اليوم صوابًا قد يراه فى غده خطأ. والذى كان يعده بالأمس فضيلة، قد يعده فى يوم آخر ضعفًا أو قلة حيلة. وكل إنسان فى الحقيقة عبارة عن عدة أناس يجىء بعضها فى أثر بعض. رأيه يتغير، وإحساسه يختلف، كما يتغير جسمه سنة بعد سنة، ويختلف مظهره على كر الأعوام. وقد يفعل المرء الشىء اليوم فإذا كان الغد فعل غيره، لأن كل شىء تغير، هو والدنيا». ورأت تحية من حال زوجها — على الرغم من تحرزه — أنه يصغو بوده إلى عايدة، فأقلقها ما يقلق المرأة، ولكن معرفتها وخبرتها به وثقتها أنه لا يندفع ولا يتورط، ويقينها أن حدة شعوره بذاته وشدة تحفظه بكرامته، تساعده على تغليب إرادته وعقله على هواه. كل هذا طمأنها وأقنعها بأن لا خوف عليه من عايدة أو سوها، وأن الحزامة أن لا تعترض سبيله، أو تحاول أن تأخذ عليه مُتوجَّهه. فقد كان فيه عناد وجموح، لا يخفيهما أنه لين سلس القياد. فما قال لها قط: «لا»، ولكنها ما استطاعت فى حياتها الطويلة معه أن تفعل شيئًا على خلاف رأيه، ولا نازعتها نفسها أن تخالفه. وذكرت قوله لها مرات عديدة، بعبارات شتى، إن الناس فى ركب الحياة رفقاء إلى حين، فليس أسخف من أن يقضوا الفترة القصيرة المتاحة لهم فى خلاف ونزاع، وشجار ونقار. والمثل الحكيم يقول اختر الرفيق قبل الطريق. ولست أعلم أن للمرء اختيارًا، وأنا أشك فى حريته فى ذلك. ولكن المثل مع ذلك يعجبنى. والرفيق لا يختار ويتخذ للتنغيص والتغثية. وسواء أكان أم لم يكن للمرء اختيار، فإن الحكمة تقتضى أن يحاول الرفقاء فى هذه الرحلة أن يجعلوها مرضية على قدر ما يتسنى لهم ذلك، وإلا كانوا قليلى العقل. وما خلقت الدنيا لواحد دون واحد، ولا أعطيت الحياة لمخلوق دون مخلوق، والخلق جميعًا سواء فى الحقوق والواجبات. أفليس الأولى إذن أن يتحروا التعاون ويجروا على سنة التسامح؟ ولفظ التسامح هنا فى غير موضعه، وخير من ذلك أن نقول الاعتراف بحق كل امرئ فى عمل ما لا يضير غيره». وكان منحاه الخاص فى التفكير، وما تعرفه بالتجربة من حرصه على احترام حق غيره، كاحترامه حق نفسه، واتقائه أن يسىء إلى أحد، وقدرته على وضع نفسه فى موضع سواه ليكون أشد إنصافًا له. كان هذا هو الذى طمأنها، فأقدمت غير مترددة على توثيق صلته بعايدة وإن كانت أصبى منها وآنق حسنًا وأنضر شبابًا وأكثر رونقًا. وناهيك بقلب امرأة تحتمل الإقدام على ما قد يؤدى إلى تضحية. وكان شعور خفى فى قرارة نفسها يقول لها إن زوجها سيعرف لها هذا الجميل ويحفظه، فإنها تعده شكورًا غير جحود، ومنصفًا لا يظلم ولا يغبن. وسرها من نفسها أنها قصت عليه من أخبار عايدة ما هو خليق أن يعطف قلبه عليها. وكانت فى هذا حكيمة وهى لا تدرى، فقد جعلت علاقته بها علاقة عطف ورحمة، وحمتها أن تكون علاقة حب وعشق، فحكت له أن أباها كان رجلاً حسن الحال، ميسور الرزق، ولكنه كان متلافًا. فلما قضى نحبه فجأة لم يترك شيئًا. وكان من حسن الحظ أن أمها استطاعت أن تحتفظ ببضعة فدادين قليلة لا تزيد على العشرة، وبنصف بيت فى حى وطنى لا يغل أكثر من ثلاثة جنيهات، وبهذه الدار المقابلة لدارهما. ولعايدة أخت كبرى متزوجة، مرفهة، ولكنها تحاول أن تغرى أمها أن تبيعها الأرض والعقار. وعايدة تقاوم ذلك وتجاهد أن تصرف أمها عنه، ليبقى لها شىء تعتمد عليه فى حياتها. وقد أورث عايدة هذا الأضطراب تلفًا فى الأعصاب وأصيبت إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، لولا لطف الله وقد صنع لها الطبيب بعد شفائها نظارة أوصاها أن لا تنزعها، ولا تضعها عن عينها. ولكنها تخجل وتتوهم أن اتخاذ النظارة يسلكها مع العميان، فيزداد ما تتوهمه من زهد الرجال فيها، وانصرافهم عنها. وكأنما هذا لم يكن كافيًا، فاعتراها وسواس يخيل إليها أنها مريضة الصدر، وأنها ستصاب لا محالة بذات الرئة. فهى لا تزال تعرض نفسها على الأطباء، ولا تنفك كل بضعة شهور تصور صدرها بالأشعة لتطمئن، فلا تطمئن، ولا تزول الهواجس. وقد قل أكلها، وطال سهدها وتعب قلبها قليلاً، والأزمات العصبية تنتابها وتتركها مهدمة محطمة. على أن تحية عنيت أيضًا بأن تحيط زوجها بغير عايدة من الفتيات الحسان من معارفها، حتى لا تصبح عايدة عادة له ولتدخل السرور على نفسه، وتضىء وجوه العيش فى عينه، وتنشر البشر والبشاشة فى جو حياته. غير أنه كان يؤثر عايدة على الأخريات، ويختصها بالميل والود. فلما رأت تحية ذلك كفت عن «التوسع» وتركته معها على ما يحب من الحال. وكان هو فى أول الأمر يقنع بالحديث والنظر، وقلما كانت تقول شيئًا أو تزيد على السؤال، فيروح يتدفق، ويسره منها حسن إصغائها، وإن كان يسخطه أنها شديدة الاحترام له، حتى لبلغ من ذلك أنها ما كانت تجرؤ أن تدعوه باسمه فكانت تدعوه «الأستاذ»، وتستغنى بذلك عنٍ الأسماء والألقاب. وكان هو يكره ذلك ويشعر أنه يجعل بينهما بونًا يتعاظم المجتاز، أو على الأقل يقيم بينهما حدودًا من التكلف لا داعى لها، ولا خير فيها. فما كان مطلبه «الاحترام»، ولا كان ينقصه أن يعرف أن له فى النفوس مهابة، وإنما كان يريد — وهو يخاطبها — أن ينسى أن بينه وبينها مسافة من العمر تزيد على عشرين عامًا. وكان حديثهما — من ناحيتها — عبارة عن محاولة لجعله «شخصيًا»، ومن ناحيته هو عبارة عن إصرار على إبقائه «نظريًا» عامًا لا يدور على شخص بعينه. فكانت هى تلقى عليه السؤال من شأنه أن يغريه بالتحدث عن نفسه، فيصرفه هو إلى العموم دون الخصوص، ويحيله أشبه بالدرس والمحاضرة. ويراها تتابعه فيجد لذة فى رفعها إليه، وتقريبها منه، وترحيب أفقها وتوسيع دائرة نظرها، ويشعر أن هذا خليق أن يساعدها على تخفيف ما تعانى. وكان أشد ما يبدو له أنها تعانيه الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها. وكان يخشى عليها عاقبة هذا، ويرد إليه كل ما يرى من يأسها من الخير فى الدنيا. وقد قالت له مرة وكان يحاول أن يغريها بالأمل: «لا فائدة فإنى واثقة أنى سأموت قبل أن تلوح أية بارقة من الأمل فيما تصفه لى، وتمنينى به»، فقال لها: «اسمعى يا عايدة، إننا أُعطينا الحياة ولم نُعطها بشرط. وقد أُعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة — ونسى وهو يقول لها ذلك أنه هو نفسه موسوس — ولا قيمة لطول العمر أو قصره. فإن العمر لا يقاس بعدد السنين، بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر. ورب معمر أربت سنه على المائة وكأنه مات يوم ولد. ورب فتى فى العشرين قد حفلت حياته بما يجعلها أطول فى الحقيقة، وفى إحساسه هو نفسه، من عمر نوح الذى يقال إنه ناهز الألف. وأنت بنت مرهفة الحس والشعور قوية الإدراك، فأنت تعيشين فى كل دقيقة أطول مما يعيش غيرك فى أعوام. وأنت الاَن فى العشرين من عمرك الغض، ولكنك فى الحقيقة أسن من امرأة فى الأربعين. ثم لماذا تفكرين فى الموت؟» وأحس وهو يسألها كأنما الخطاب موجه إلى نفسه: «إن المرء يعيش ما يعيش — زمنًا طويلاً أو قصيرًا — ثم يوافيه الأجل المحتوم. وما دام على ظهر الأرض فهو حى، وهذا كل ما ينبغى أن يعنيه. فإذا مات — كما لابد أن يحدث — فإنه يصبح غير دار، فيستوى حينئذ أن يكون عاش عشرين عامًا أو عمر ألفًا». فقالت: «هذا صحيح، ولكن ما فائدة الحياة؟ ما هو الخير الذى نصيبه فيها؟» فقال: «آه.. هذا سؤال من العبث أن نلتمس له جوابًا، فالحياة لا يسأل فيها عن الفائدة منها، وإنما علينا أن نحياها على خير وجه وأصلحه. ثم إنك أنت الملومة إذا كنت لا تصيبين منها خيرًا. الدنيا كلها أمامك فماذا يمنعك أن تنشدى هذا الخير الذى تسألين عنه؟ تمسكين عن التماس الخير ونشدانه والسعى إليه، ثم تروحين تلومين الحياة وتسخطين على الدنيا؟ هل هذا عدل؟ تقعدين وفمك مفتوح منتظرة أن تحشوه لك الملائكة سكرًا، ثم تشكين إذا حشته الأيام ترابًا؟ لا يا سيدتى لومى نفسك». فسألته: «ولكن ماذا تصنع فتاة مثلى؟ ما حيلتها؟» فسألها: «ماذا تشعرين أن بك حاجة إليه وأنه ينقصك وأنك حُرمته؟ لا تجيبى.. إنما أسأل لأقول إن كل شىء يجىء فى أوانه». قالت: «أو تعرف إذن ما ينقصنى؟» قال: «أستطيع أن أخمن فإن الطبيعة الإنسانية واحدة لا تختلف ولا تتفاوت، وحكمها معروف لا شك فيه. وفى وسع الإنسان دائمًا بتحويل إحساسه إلى مجار أخرى غير التى يحس أنه يتجه إليها، وفى وسعه أن يخفف من ثقل وطأته وينتفع بهذا التحويل. أنا مثلاً، ولست أعنى شخصى وانما أضرب مثلاً.. أحس ضغط إحساس معين، وأشعر أن إرضاءه وإراحة نفسى من ثقله عسير أو غير مرغوب فيه، فأعكف على كتاب أقرأه أو أخرج فأتمشى مدة كافية، وأحول هذا الإحساس الضاغط عرقًا يتصبب فأستريح وأعود فأنام ملء جفونى». فعادت تسأله «ولكن لماذا هذا التكلف إذا كان الإحساس طبيعيًا؟» فقال: «عقلى يقول لى إنه لا داعى للتكلف. وإن إرضاء الإحساس الطبيعى أولى، ولا عيب فيه، ولا ضير منه. ولكن العقل ليس هو وحده المسيطر على حياتنا، فلا تحسبى أنك الوحيدة التى تعيش فى أسر تتمردين عليه، وتسودين عيشك بالضجر منه». وكان أكثر ما يجتمعان فى البيت، وتحية معهما تسمع وتتركهما لحظة وتعود إليهما، وقلما تشترك فى حوارهما. وكان يحس أن هذه الفتاة محتاجة للرياضة، وأن انتقالها من بيتها إلى بيته ساعة لا يغير من حالها، ولا يجد لها شيئًا، وأن كل ما يحدثها به ويشرحه لها لا جدوى منه، ولا أثر إلا زيادة الشعور بالكبت، وأن المسألة مسألة جسم، يجب الترفيه عنه، وإراحة أعصابه. فقال لتحية إنه يرى أن تخرج بها من حين إلى حين للتنزه. فقالت تحية: «يا عبيط. ليس للمرأة فى المرأة لذة. اخرجٍ أنت معها». قال: «على شرط أن تكونى معنا» قالت: «لا تكن سخيفا.. إن وجودى يشعرها بالقيد وأنت تريد لها الانطلاق، وإنك لعلى حق». قال: «ولكن الانطلاق لا يستدعى أن لا تكونى معنا». قالت: «أنا واثقة ولست خائفة. فاذهب أنت معها». وأصرت، فحمل عايدة إلى حيث الهواء طلق، والحرية تامة فى الجرى والنط والضحك. وكان ربما حمل معه طعامًا خفيفًا مما أعدت تحية، فكانت عايدة تعود من هذه الرحلات متقدة الوجنتين ولكنها متعبة. وحدث مرة أن كانا يتقاذفان كرة صغيرة يرميها فتلقفها. فدنت منه والكرة فى كفها وقلبها يخفق خفقًا شديدًا، وعلى فمها ابتسامة، وألقت نفسها على صدره، وأراحت كفيها على كتفيه، فوقف برهة لا ينطق بكلمة، ولا يسألها شيئًا، أو يحاول أن يتبين حالها. وتركها على صدره، ولم يكن يسعه إلا أن يحس بثدييها، فثنى عينه إلى شعرها الناعم المرسل، وقد رقدت خصلة على ثوبه تحت أنفه، ولكنه طرد هذه الخواطر ورفع عينيه إلى السماء. وأفاقت عايدة وصعدت عينها إليه، وهى لا تزال على صدره، وقالت له بصوت خفيض كالهمس: «بُسنى يا أستاذ». فتبسم وقد دار رأسه ومال عليها فقبل جبينها فرفعت نفسها عنه وقالت: «لكأنك أبى.. لا. لست أبى.. لم أعد أطيق صبرًا.. أنت حبيبى. نعم.. لا تفتح فمك هكذا كأنى رميتك بحجر. وما حيلتى؟ كن منصفًا. ألقاك كل يوم وأسمع حديثك وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك وأحس عطفك.. بل أعلم أنك ترتاح إلى وجودى وترغب فيه، ومع ذلك أحس أنك بعيد كنجوم السماء. ألست معذورة؟ لقد علمتنى أشياء، وإنك لمسئول عنى، ولا أمل لى فى الحياة، ليس لى غيرك، أنت عزائى فيها». فدنا منها وتناول كفها ومضى بها إلى حجر كبير، وخلع سترته وطرحها عليه لجلوسهما، وقال: «اسمعى يا عايدة. إنك عزيزة على وأثيرة عندى، ولكن الحب شىء اَخر. لا ينبغى أن يكون بيننا هذا. إنه يفسد كل شىء على وعليك. أنت فتاة صغيرة غريرة ومستقبلك كله أمامك. وأنا رجل كهل قد خلفت صباى ورائى. ثم إن لى زوجة تحبك وتأتمنك على زوجها كما تأتمننى عليك. ثم ماذا يكون مصير الحب إذا قامت عليه علاقتنا؟ لا مصير إلا الاضطراب والآلامٍ. واسمحى أن أقول إنى لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلاً مثلى. كلا. ليس هذا حبًا وإنما هو فورة إحساس. إنها حركة نفس مكبوتة ليس إلا.. نشوة عارضة طارئة تحسينها وتغلطين وتتوهمينها حبًا، كما يشرب الرجل كأسًا من خمر فيبذل وهو البخيل، ويشعر بالقوة وهو الضعيف، ويهيج وهو الساكن الرزين، ويغضب وهو الحليم الرضى. هى نشوة لا أكثر ولا أقل. ثقى بذلك. وستفيقين منها وتعرفين حيئذ أنى على صواب وتشكرين لى أنى حميتك من نفسك». فضحكت ضحكة مرة وقالت: «ولكن لماذا تريد أن تحمينى من نفسى وأنا لا أريد هذه الحماية؟ أليس لى حق فى نعيم الحياة؟ ألست مخلوقة كغيرى؟ أليس لى قلب وشعور؟ لماذا يجب أن أعيش محرومة مذادة عن نعم العيش ومتع الحياة..». قال: «لست محرومة فإن هذا من الوهم.. أنت تنعمين بالكثير الذى لا تحفلين به ولا تجعلين بالك إليه. والذى ترين نفسك قد حُرمته سيجئ أوانه كما قلت لك من قبل.. كل مخلوق يطول به انتظار ما ينشد». قالت: «ما أملى؟ الزواج على ما أظن؟ ومن يتزوجنى؟ ولماذا يتزوجنى أحد؟ جمالى؟ مالى؟ مقامى؟ أسرتى العظيمة؟ لا يا سيدى إنى أعرف أنى قصيرة العمر. وقد فتحت لى عينى فأشكرك، ولكنك مطالب الاَن بأن تغمض لى عينى كما كانت، أو تسمح لى بأن أحبك». فلاطفها ولاينها وسايرها قليلاً ليعدل بها إلى الطريق الأقوم فما ازدادت على ذلك إلا صلابة وعنادًا. وأنذرته أنها جنت وأنها إذا ظل على تمنعه ستلقى بنفسها على أول رجل تصادفه، ففزع، فقد رأى من لهجتها الجادة ما أخافه وأقنعه أنها لا تمزح. وأيقن أن هذا الجنون ثمرة الكبت الطويل. وحار ماذا يصنع، واستمهلها دقائق ليفكر. فضحكت وتهكمت وقالت: «لابد أن يكون كل شىء بالمنطق.. كل شىء لابد أن يوزن ويقاس..». ثم قالت جادة: «الآن اقتنعت أنك لا تستطيع أن تحب امرأة. إنك آلة مفكرة لا إنسان من دم ولحم». وثارت حتى لأشفق عليها وعالجها، حتى فاءت إلى السكينة. وخطر له أنه ليس من المروءة — ولا من العدل — أن يمضى فى المقاومة فإنها تكون صدمة مخوفة العاقبة. وبدا له أن من الحكمة أن يأخذها باللين ولا بأس من قبلة أو قبلات. وفى وسعه أن يسعدها بالقليل الذى لا ضير منه وفيه راحتها وسكونها. وحدث نفسه أن من حق هذه الفتاة أن تسعد قليلاً، وغالط نفسه فقال إن جهده معها سيكون جهد الطبيب المعالج. ولكن ماذا يقول لتحية؟ يكتم؟ فبأى وجه يلقاها وهو يطوى عنها هذا السر؟ يكذب؟ إن الكذب نقص فى الرجولة وغض من المروءة.. يصارحها؟ ولكن كيف يصارحها؟ وكيف يرجو أن تطيق هذا وتصبر عليه؟ إنها واسعة الصدر كريم النفس ولكن هذا ما توصد دونه أبواب الغفران. وبأى شىء يعتذر لها؟ يلقى التبعة على عايدة ويزعم أنها هى التى أغرته وأبت إلا هذا وأنها مريضة ولابد من مسايرتها؟ ما شاء الله! ما أكبر هذه الرجولة!. ثم إن هذا ليس بصحيح. نعم إنها فاجأته بهذا، ولكن أصح من ذلك أنه هو الذى رغب فى صحبتها وهو الذى جرها إلى هذا الموقف، وكانت قبل ذلك بعيدة غير معنية به فلم يزل بها حتى صار (عادة) لها. وشعر فى قرارة نفسه أن حب هذه الفتاة يسره ويغره، ومن هذا الذى لا يسره أن تحبه فتاة جميلة كهذه؟ ولكن هل هى تحبه؟ أليست لعلها مخدوعة؟ ألا يمكن أن يكون الأمر كما وصفه لها نشوة طارئة ليس إلا؟ ولكنه هو على كل حال مصدر النشوة وباعثها.. أتراها لو كانت تعرف غيره من الرجال أكانت تخصه بهذا الحب كائنة ما كانت حقيقته؟ وتحية؟ أليست قد شجعته ويسرت له الاتصال بعايدة؟ وما معنى هذا؟ هل أريد أن أحملها التبعة؟ هل أعد حرصها على سرورى ذنبًا لها، وثقتها بى واطمئنانها إلى عقلى خطأ منها؟ كان هذا كله وما يشبهه يدور بنفسه وهو يحنو على عايدة، ويلثم فمها وهى متعلقة برقبته كأنما تريد أن تخلعها، أو تخاف أن يطير من يديها. وأحس بحرارة الصبى فى شفتيها. وحدث نفسه أن هذه الحرارة العجيبة لا يجدها — الآن — من شفتى تحية. واستهجن هذه المقارنة، وأنف أن يجعل تحية موضعًا لها ثم عاد عقله يقول له ولم لا؟ أين الزراية بتحية فى هذه المقارنة؟ ولماذا هذا الغض من عايدة؟ إنها ليست سوقية، ولقد قبلت تحية قبلة الحب وقبلتنى مثلها قبل زواجنا، فما الفرق؟ ولكنى تزوجت تحية ولست أنوى — ولا عايدة تنتظر — أن أتزوجها. هذا هو الفرق. وكان يتعجب لعايدة وزهدها فى الزواج، ويتساءل: «أتراها خاب لها أمل؟». وقد عرف من تحية أن هذه الفتاة شقية بأختها. وأدرك أن أمها ضعيفة، وأن قيادها سلس فى يد بنتها الكبرى، وأنها لعلها تحب عايدة كحبها لتلك، ولكن تلك لها عليها سلطان ليس لعايدة. غير أن هذا ليس حقيقًا أن ينفر عايدة من الزواج، وإن إحساسها الجنسى لقوى، وإنه ليبدو أقوى فيها منه فى الفتيات الأخريات المطمئنات. وخطر له أن لعل قلة اطمئنانها وكثرة قلقها واضطرابها يثيران إحساسها الجنسى، أو يخيلان إليها أن إرضاءه — على نحو ما — هو علاجها مما تكابد، ولكن ماذا تكابد غير ذلك؟ وذكرت مرة ابن عم لها بلهجة واشية بالمرارة، فسألها: «لم أكن أعلم أن لك ابن عم؟ فأين هو؟» قالت: «انقطعت الصلة مذ تزوج». فسألها: «لماذا يقطعها أنه تزوج؟» فامتقع لونها، وحاولت أن تهرب من الجواب، غير أنه ألح عليها، فعرف أنه كان يمنيها الزواج، ويتودد إليها، ويظهر لها الحب. واستخلص من زلات لسانها أنها كانت فرحة بهذا الحب، وكانت ترجو أن يخرج بها من جو القلق الذى أحاطتها به أختها، إلى الاطمئنان. وكانت لهذا حريصة على رضاه. وإذا به يتخلى عنها فجأة ويتزوج غيرها، فوقعت النبوة، وحلت الجفوة، وكانت هذه القطيعة. وسألها إبراهيم: «اصدقينى يا عايدة.. هل قبلك؟» قالت: «وأى بأس فى هذا؟ إنه ابن عمى». قال: «نعم، ولكن بالى ليس إلى البأس أو سواه. إنما أسأل عن الواقع، وسأشرح لك باعثى على السؤال بعد أن أسمع جوابك». قالت: «نعم». قال: «بس؟» فأطرقت شيئًا ثم رفعت رأسها وقالت: «إنك تعرف كيف تكون الفتاة حين تنضج وتستيقظ أنوثتها. ثم إنى كنت حريصة على رضاه، لأنى كنت أحب أن أسعده فى حياتى، وكان ينوى أن يتزوجنى، فسايرته إلى حد». قال: «إلى أى حد؟» قالت: «لم يسرف فى الطلب». قال: «ولو كان أسرف؟» قالت بغير تردد: «ما أظننى كنت أضن عليه بما يريد إذا كان فى ذلك سعادته». وكانا يتمشيان فى الجزيرة. فاقترح أن يركبا زورقًا فى النيل. وكان الوقت عصرًا، فقضيا ساعة أو بعض ساعة يسبح بهما الزورق على الماء فى رفق. لا يتكلمان ولا يسمعان إلا وقع المجدافين إذ يخبط الملاح بهما الماء. وكان إبراهيم ثابت الحملاق ينظر إلى حيَث تلتقى الأرض والماء بالسماء عند الأفق. وعايدة تتلفت منه إلى حيث ينظر، وتجيل عينها فى هذا الشاطئ وذاك، ولا تنبس بحرف. وكأنما عجزت عن احتمال هذا الصمت الطويل الثقيل فصاحت فجأة؟ «أى نزهة هذه؟» فرد إبراهيم عينه إليها، وتبسم بجهد وقال: «معذرة. لقد كنت أفكر فيك. والآن يحسن أن نرجع فإن عندى كلامًا طويلاً أريد أن أحدثك به». حكى أن فتاة مات أبوها وهى تلميذة فى السنة الأولى من مدرسة ثانوية. وكان متلافًا فلم يخلف لها مالاً. ولولا بعض مال لأمها لافتقرت بعد غنى. ولكن مال أمها لم يمنع أن تعانى الفتاة الضيق بعد السعة. وكانت تنظر إلى مستقبلها مشفقة واجفة القلب. فقد كانت ترجو فى حياة أبيها أن تستوفى حظها كاملاً من التعليم. فالآن لا أمل فى أكثر من التعليم الثانوى، وقد تعجز عن إتمامه. وكانت ترجو أن تجد زوجًا صالحًا، فأما وقد مات أبوها فمن ذا عسى أن يرغب فيها؟ إن شبان هذا الزمان يسألون عن مال الفتاة وجاه أسرتها قبل أن يسألوا عن الفتاة وأدبها وخلقها وجمالها. وزاد الطين بلة أن أختها الكبرى المتزوجة الحسنة الحال طمعت فى مال أمها وسعت للاستئثار به دون هذه الفتاة. وأبى سوء الحظ لفتاتنا إلا أن تصاب إحدى عينيها بما كاد يذهب ببصرها، واحتاجت بعد علاج طويل، وشفاء كان ميئوسًا منه، أن تضع على عينها نظارة كانت تأنف وتستحى أن تضعها، فتخالف وصية الطبيب، نفورًا من تشويه النظارة لحسن الوجه، ولأنها قد توهم من يبصرها أنها عمياء. وهكذا كبر فى وهمها أنها ليست ممن يرغب الشبان فيهن، فلا هى غنية، ولا أسرتها — بعد وفاة أبيها — ذات جاه، ولا هى جميلة. وفوق هذا كله يأمرها الطبيب أن تشوه وجهها بنظارة! فملأ قلبها الخوف، وخلا من الثقة بالنفس. الخوف من مستقبل يسوده طمع الأخت، وضعف الأم، وقلة الثقة المتولدة من اجتماع كل ما ذكرت. فماذا بقى لها؟ لم يبق إلا أنها أنثى. أنثى قد تُشتهى لأنوثتها وصباها وغضاضة بدنها، وجدة بشرتها التى لم تبتذل، ولكنها لا تُحب لذاتها، ولا تطلب لمزية أخرى فيها. واضطرت، كما توقعت، أن تنقطع عن المدرسة، لأن مواصلة الإكباب على الدرس كانت خليقة أن تؤذى عينها التى شفيت ولما تكد. فزاد هذا فى خوفها الباطن وقلة الثقة التى استحوذت على نفسها. وفى هذا الوقت جاء ابن عم كان خليقًا بها — لولا ما صارت إليه من سوء الحالة النفسية — أن تفطن إلى أنه أولى بنفورها منه بإقبالها. ولكنها كانت ظمأى إلى الحب والعطف، متلهفة على الاستقرار والاطمئنان. وكانت تتوهم أن الوسيلة إلى ذلك — إلى الأمن والرى والراحة — هى المطاوعة وإسلاس العنان. كانت تطيع أمها وتتوخى مرضاتها لتمنع أن تخطف الأخت حقها. وكانت تتزلف إلى أختها لتعطف عليها، فتكف عما تسعى له من هذا الخطف. والآن وقد جاء ابن العم يُظهر الحب، وُيلوح بالزواج والأمن والراحة من هذه المزعجات، فما عليها إلا أن تجيبه إلى ما يُهيب بها إليه لتستبقى رغبته فيها. ولما كانت قد وقع فى روعها أنها ليست إلا أنثى تُشتهى لأنوثتها، ولا تُحب لذاتها، فسبيلها إلى ما تنشد هى أن تجعل أنوثتها متاعًا له مخافة أن تفقد حبه. ولو أسرف فى الطلب، وأغرق فى طلب المتعة، لما أحجمت عن التلبية. وكانت تتوهم أنها بهذا تسعده، وأن سعادته هى كل مبتغاها، وأنها مستعدة للتضحية فى سبيل ذلك. وكانت تحدث نفسها أن أنوثتها استيقظت، فهى تجاوبه لهذا، وتجد من قبلاته وضماته وقربه مثل ما يجد. ولكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما كانت خائفة قليلة الثقة بنفسها، وكان هذا هو الذى يغريها بالمسايرة والمطاوعة، بل بلغ من خوفها وضعفها أنها صارت لا تقتصر على المسايرة، بل تتجاوزها إلى المجاوبة. وكانت تجهل أن الزواج الصالح إنما يكون بين كفوءين لا بين سيد وجارية، وإنها لم تكن تحبه، ولكنها تخشى فقده، وأن الحب الذى يكون كله تضحية من جانب واحد، ليس حبًا، بل عبودية لا خير فيها للجنس الإنسانى، وليس الحب أن تهب ولا توهب، بل أن تُعطى وتأخذ. وجفاها ابن عمها وملها، ونباها وتخلى عنها، وبنى بغيرها، أو لعله أساء الظن بها، ولم يحمد سيرتها معه، وأغلب الظن أنه كان نذلاً. فلما اعتاض منها سواها، صارت أقل ثقة بنفسها، وأضعف، وأعظم خوفًا من المستقبل. ولقيت كهلاً ذا زوجة، وآنست منه ودًّا، فقالت أمنحه من نفسى ما يحب، لأنها لا تزال تعتقد أنها أنثى تُشتهى، ولا تُحب لذاتها أو لمزية لها. ولو عرفت نفسها معرفتها لأدركت أنها لا تحتاج إلى البذل، وإنما تحتاج إلى الثقة بالنفس، وتفتقر إلى اطمئنان القلب وانتفاء الخوف، ولعرفت أن حدة الإحساس الجنسى هى الزى الذى اتخذه الضعف والخوف. وفى الوسع تلطيف هذه الحدة، وكبح هذا الجماح، فإن الإحساس الجنسى ليس مستعصيًا على الضبط. ولو راضت فتاتنا نفسها على السكون إلى الصداقة والعطف والقناعة بالمودة التى تكون بين الرجلين، ولا يندر أن تكون بين رجل وامرأة، ووثقت بنفسها، ونفت عنها هذه المخاوف التى تتلف أعصابها، وتدفع إحساسها فى مجرى غير صالح ولا مأمون، لو فعلت ذلك لاستراحت، ونعمت. والآن ما رأيك فى هذه القصة؟ فلم تجب. وكانت قد أصغت، ولم تحاول أن تقاطع. فقال: «يحسن أن تفكرى فيها، فإنها قصة حقيقية، ولا عمل فيها للخيال». وعاد إلى بيته فى تلك الليلة وهو مطرق، ولكنه غير ساهم، فقالت له تحية: «مالك؟» قال: «اَه لو كنت درست الطب، كما كنت أبغى». قالت: «ما هى الحكاية؟» قال: «أظننى أصلح أن أكون طبيبًا نفسيًا … هل تظنين أنى كنت أرزق التوفيق؟» قالت: «لا أزال أنتظر جواب سؤالى». فلما قص عليها القصة قالت: «لعل وعسى». ولم تزد. وخطر له وهو يأوى إلى فراشه أنه ليس خيرًا من عايدة حالاً، وأنه لعله هو أولى بما قال لها. ولكن عايدة لم تقتنع. ولم يشفها العلاج النفسانى الذى رجا إبراهيم وتحية أن يشفيها مما بها، فتعقدت الأمور فى حياته، وصار يحس أن المتع اليسيرة لا تُنال إلا بأضعاف أضعافها من الاَلام ومما يحاذر.. فهو يحب زوجته حبًا هادئًا، ويكبرها، ويطيب بها نفسًا، ولا يطيق أن يتصور أنه قد يفقد — فى يوم ما — حبها واحترامها، وإن كانت وطأة الفتور الذى عراه معها قد ثقلت على كاهل صبره. وقد وجد فى عايدة الصبا والجدة. ولكن عايدة فتاة غريرة مكبوته ضعيفة البنية، وهنانتها، وخائفة وجلة، ولا يتزعزع يقينها بأن عمرها عمر الورود. فما كادت تلتقى به حتى انطلقت تريد أن تعدو بغير عنان وتحاول وتطلب أن تعتصر وتختزل فى القليل الباقى لها من العمر، فيما تعتقد، كل ما يخطر على بالها أن تستفيده من متع الحياة ولذات العيش. وهو يجاهد أن يكبح هذا الجماح، ويردها إلى القصد والاعتدال، ولا يسلس فى يده قيادُها إلا بعناء شديد ومشقة عظيمة. وكان يقول لها فيما يقول إن من الجهل أن تسرفى فى إنفاق حياتك على هذا النحو، فتقول إنها لا تنفق وإنما تستفيد وتكسب، فيقول لها: «كلا. وإنك لكالرجل الذى يريد أن يذوق الخمر ويجرب الخفيف من نشوتها فيروح يعب فيها حتى تطير فى رأسه، ويُدار به، ويفتر ويسترخى، ويفقد الإحساس بما هو فيه، فلا يخرج بغير هذا الأذى. وكان خيرًا له لو قنع بالدبيب الهين والتمشى اللين، فيبقى له وعيه ويظل مدركًا لما أفاد من سرور، شاعرًا بما أكسبته من انتعاش. ثم إنك تزعمين أنه لا أمل لك فى طول العمر. أفلا ترين إذن أنك تنفقين من رأس مالك بلا حساب؟ ولو حرصت عليه لطال استمتاعك به.. ثم إنك جاهلة جهلاً آخر، ذلك أن أمتع ما يستفاد من نعيم الحياة هو ذكراه. نعم الذكرى أمتع من النعيم نفسه ساعة الفوز به ومواقعته. فإن المرء يكون مستغرقًا فيه فلا يستطيع أن يحيط بصوره ومعانيه ومختلف ما ظفر به من وجوهه ومتعدد ما شاع فى نفسه منه. وإنما يتيسر ذلك بعد انقضائه وعند إدراكه فى هدوء. مثال ذلك أنك تظمئين فتشربين. ولا شك أنك تجدين لذة وأنت ترشفين الماء على ظمأ، ولكن ألذ من ذلك أن تتذكرى ما كان من ظمئك، وما كان من حلاوة الماء فى لسانك وحلقك، وطيب انحداره باردًا إلى جوفك الحار، وحسن ما شعرت به من الارتواء بعد الحر والأوام، وكيف كنت قبل ذلك تجمعين ريقك تحت لسانك، لتبلى به لثاتك، وكيف كان الكوب الذى رفعته بالماء إلى شفتيك الجافتين، إلى آخر ذلك. ولا سبيل إلى إدراك هذا كله وجمع صوره، وإحضارها إلى الذهن، وتمثلها، إلا بعد حصول الشرب والارتواء، حين يجد العقل فسحة فيكر راجعًا إلى ما كان مما عانى وما أفاد. أما قبل ذلك وعند الشرب فهو مشغول بحر العطش، والحاجة إلى إطفائه، وبتناول الماء لإطفاء الحرقة الأليمة. وهكذا فى كل أمر آخر، فإن متعة تفوزين بها فى خمس دقائق قصيرات لا تشعرين فى أثنائها بكل ما تشعرين به فيما بعد خين تذكرين ما كنت فيه. والذكرى هى التى تغريك بالمعاودة. فإذا أنت رحت تنهبين اللذات نهبًا بكلتا يديك كما تريدين أن تفعلى، كنت كذلك السكران الذى ضربت لك مثله، والذى لم يورثه فرط عبه فى الخمر إلا أذاها». وكان مخلصًا فى إشفاقه عليها من هذا الجموح. وكان يدرك عذرها ويمهده لها من شبابها وغرارتها وطول كبتها وسوء أحوالها، وهذا الاعتقاد الثقيل الذى لا يزايلها بأنها قصيرة العمر. ولكنه كان مقتنعًا بأن شططها خليق أن يزيد عمرها قصرًا. وكان يرى أن ليس من حقه أن يسايرها، وأن الأولى والأرشد أن يقاومها ويضع لها اللجُم ويروضها فتكسب ولا تخسر، وتعتاد ذلك على الأيام. ولكنه كان يراها فى أيام كثيرة ذابلة ثقيلة الجفون مسترخية الهدب متغيرة اللون، فخطر له أن لعلها فتحت لنفسها بابًا نفذت منه إلى ما صدها عنه؟ وأنها لم تقتنع بما أبدأ وأعاد فيه من النصح. وإنما أظهرت الإذعان لما رأت من إصراره على خطته وإبائه أن يجاوز معها حد القصد، وأضمرت التمرد وآثرت اللجاجة فيما بينها وبين نفسها، ولا حيلة له فى هذا ولاسبيل إلى شىء يصنعه. وكانت تحية لا تبدى خلاف ما ألف منها وعهد. ولم يكن هذا المظهر يخدعه. وكان يشق عليه أن يجمح بها الخيال فتتوهم الأمر أكبر مما هو فى الواقع والحقيقة. فما كان به حب عايدة، ولعله عاجز عن هذا الحب المستغرق الاَخذ بالكليتين، انما كان ما ينطوى عليه لعايدة مزيجًا من العطف والمودة والفرح بصباها وأثر الشباب فى نفسه. على أن الحقيقة — وإن كانت يسيرة هينة وليس فيها ما يغير من حاله مع زوجته — لم تكن هذه الحقيقة مع ذلك مما يمكن أن يكون موضع بحث وجدل بينهما. فكان مضطرًا أن يصبر على تركها تكبر فى وهمها الحبة حتى تصبح عندها قبة. وكان هذا يشق عليه، ولكنه لم تكن له فيه أيضًا حيلة. وقد همت تحية مرات بأن تفتح الموضوع ثم أحجمت، وآثرت أن تستعيد ما توهمت أنها فقدته من حب زوجها بالصبر والحكمة والإيثار. وهمت مرات أخرى أن تستأذنه فى قضاء وقت مع أبيها فى البلدة، ولكنها ردت نفسها عن ذلك لأنه أشبه بأن يكون خطوة لا تخلو من صفة الحسم، ثم لأنها بذلك تترك الميدان لمن تزاحمها عليه فى ظنها، فتكون هذه بداية الهزيمة المخوفة. وكانت إلى هذا مترددة فى الجزم، ولو استطاعت أن تجزم لاستراحت، فما زال صحيحًا أن اليأس إحدى الراحتين. فقد كانت ترى حال عايدة فلا يخامرها شك فى أن الأمر بلغ مداه، ثم تراها مضعضعة وكأنها مشفية على التلف، فيعصر قلبها العطفُ والمرثية. فقد كانت تعرف أن قلبها ليس بالقوى، وأن همومها غير هينة وأن أختها علة بلائها، وكانت تنظر إلى إبراهيم فترى المعهود من ضبطه لنفسه، ولا يبدو لها من نظرته إلى عايدة حين تراهما معًا ما يريب أو يثير القلق. وكل ما كانت تلاحظه أنه بادى الأنس بها، وليس الأنس ما تكره له وتأبى عليه. ولقد حاولت هى أن توفر له أسبابه. وكانت هذه المظاهر المتناقضة المتعارضة لا تسمح لها بالاستقرار على رأى والانتهاء إلى حكم، وكان هذا عذابًا لها، ولكنها كانت تحمد الله عليه أحيانًا وتحدث نفسها أن اليقين خليق أن يذهب بلبها. وظل هذا الحال عامًا وبعض عام. وكانت عايدة تزداد نحافة وهزالاً وذبولاً، وصارت عيناها أوسع، وقل لحم خديها ونتأت عظام وجنتيها. وذهب شيئًا فشيئًا ذلك البهاء والحسن المالئ للعين، ورونق الورد الريان على ديباجة محياها المشرق الوضاء. وأصيبت بالدوسنتاريا وتحاملت على نفسها وأهملت، فكادت تيبس من الهزال، وذبلت الشفتان الرقيقتان واتخذت الأحمر لهما وللخدين لتستر ما عراهما من إدبار النضرة. وصار إبراهيم معها كالممرضة. ورق لها قلب تحية فأرخت الحبل لبعلها وألقته له وقد وسعها أن تكون كريمة. فكان إبراهيم يحملها فى مركبة أو سيارة — فما عادت تقوى على المشى الطويل المجهد — ويحاول أن يرفه عنها ويعيد إليها البشر والنعمة والرى بالهواء النقى والطعام المنتقى يحمله معه لها، ويشاركها فيه ليشجعها وهى لا تتناول إلا بقدر. وكان يرى زهدها هذا فى الطعام فيخشى عليها فقر الدم مع ضعفها البادى. وكان هذا رأى الأطباء أيضًا. ولكنها هى لم تكن تحفل هذا أو تباليه، وكانت تقول له كلما ألح عليها أن تعنى بنفسها، وراح يبين لها أن العناية سهلة وأسبابها قريبة وغناءها مكفول: «ما الفائدة؟ ثم إنى لست آسفة.. والفضل لك. ألم أقل لك إنى قصيرة العمر؟ فأنت ترى أنى كنت صادقة، وإنى لأحس من نفسى وأعرف ما لا يحس سواى أو يعرف — لا الطبيب ولا أنت — ولولاك لمت وما كنت قد حييت، ولكنك أحسنت إلى، وجُدت على بالحياة قبل أن يوافى الأجل». فلم يكن يجد ما يجيب به، وإن كان لايقصر فيما يعتقد أنه خليق أن يبعث فى نفسها الأمل، ويقوى الرغبة فى الحياة، ويوقظ إرادتها عبثًا، فما كان يبدو منها ما يدل على أنها تريد البقاء. واتفق بعد ذلك أن انقلب ماعون فيه ماء مغلى على رجل أمها، فقامت عايدة على خدمتها، وانقطعت لها وكفت عن الخروج للقاء إبراهيم، وأبت عليه زيارتها كما أبتها على تحية. وقيل برئت، ولكنه كان برءًا على بغى، فقد بقى فى الأصبع شىء من النغل، فاحتيج إلى الجراح لبتره. ثم صحت ورجعت إليها القوة. ولكن عايدة انهارت، فقد أبت أن يشاركها فى السهر على أمها أحد — ولا أختها — وانفردت بذلك ليلاً ونهارًا. وكانت نفقة العلاج باهظة والمورد شحيح فقترت على نفسها. وكانت لا تتخذ طاهيًا أو طاهية، وشغلت بأمها عن الطبخ فكانت تكتفى بالكسرة من الخبز وبجبن أو زيتون أو نحو ذلك. ولا تتكلف الطهو إلا لأمها فهد ذلك كيانها. ولم تكد أمها تشفى وتنهض حتى خرج بها التعب وسوء التغذية عن كل حد للصحة، فدنفت وبراها المرض، ثم ثقلت وأثبتت فصارت لا تبرح الفراش. وكانت تبعث إليه كل يوم بكتاب، قصاصة من كراسة تقطعها وتخط عليها كلمات الشوق، وتتقى أن تقول فيها ما عسى أن يسوء وقعه فى نفس تحية إذا وقعت فى يدها أو فتحتها. وكانت لا تزال تأبى الزيارة، فكان لا يعلم شيئًا عن حقيقة حالها. أما تحية فكانت تزور أمها وتعرف منها ما صار إليه هذا الحال، غير أنها كتمته عن زوجها. وفى ضحى يوم من الأيام بعثت عايدة إليه برسالة شفوية مع خادمة صغيرة فحواها أنها تطلب منه أن يشترى لها تفاحًا ولوزًا محمصًا، فاستغرب الطلب. وحدث به تحية، فلم تكن أحسن فهمًا له أو أقدر على تأويله. ولكنه قضى لها حاجتها ووجهها إليها مع الخادم. وكانت تحية تريد أن تحملها إليها لعلها تستطيع أن تقف على سر هذا الطلب، ولكن إبراهيم أبى ذلك. وعاد الخادم يقول أن الست الكبيرة — الأم — أخذت منه التفاح واللوز وقالت وعلى خديها عبراتها: «لوز إيه وتفاح إيه يا بنى … ده حالها حال.. الأمر لله». ولم يكد يتلقى هذه الرواية حتى أقبلت الخادمة الصغيرة تقول أن ستها الصغيرة تطلب إبراهيم. فنظر إلى امرأته، فأومأت إليه برأسها أن اذهب بسرعة. ودخل على عايدة فى غرفة نومها. وكانت راقدة فى سريرها على ظهرها والملاءة البيضاء عليها، فخيل إليه أنه ينظر إلى جثة، فقد كان وجهها أصفر وعيناها مغمضتين ويداها ممدودتين إلى جانبيها، وكانت أنفاسها مضطربة، وكانت شفتاها تتحركان بتمتمة خفيفة، لا تبلغ أن تكون صوتًا مسموعًا. فقعد على كرسى وقد كبر فى ظنه أنه ما بقى منها إلا شَفا. ودار رأسه وهو ينظر إليها، ويتعجب لهذا الوجه الذى كان ينضح بالدم الحار، ويرف على صفحتيه ماء الحياة، وتونق فيه نضرة الصبا، كيف ذبل ويبس وأربد، وحلت به الكمدة فى عامين اثنين ليس إلا؟ وهاجت حرقاته، واضطرم سخطه على الدنيا وقسمة الحظوظ فيها. وكاد غيظه، قبل حزنه، يبكيه، لولا أنه جامد العين بعيد العبرة جافها، يحس بها تتردد فى صدره وحلقه، ولا تترقرق أو تنحدر من جفنه. ولبث عشر دقائق ناظرًا إليها لا هو يقول شيئًا، ولا هى تفيق، ثم نهض وقد أحس بالعجز عن احتمال ذلك. وتعجب وهو خارج، للمرأة وقدرتها على الصبر على ما لا صبر للرجل عليه.. أهى بلادة فيها ونقص فى الإحساس أو الإدراك أو الخيال؟ أم هى غريزة الأمومة تجعل المرأة تفيض حنانًا، ويستغرقها حنانها فيطغى على كل إحساس اَخر؟ من يدرى؟ وقال لتحية: «لست فاهمًا شيئًا.. كيف أمكن أن يحدث هذا»؟ قالت: «لكأنى بك لا يعنيك إلا أن تفهم كيف ولماذا؟ مسكينة». قال: «لا تظنى أن قلبى غير موجع، فإنه موجع. ولكنى أريد أن أفهم … هذه فتاة لم أر أول ما رأيتها شبابًا اكثر من شبابها رًيا ونعيمًا ونضرة. لم يكن يبدو عليها أن بها مرضًا دفينًا. كلا. كانت مظاهر الصحة مجتمعة. ولست أعلم أنها رقيقة الحال، فإن عند أمها فوق الكفاية لاثنين. وقد كانت دائمًا حسنة الثياب. وكنت أرى معها أكثر مما تحتاج إليه لنفقتها. وليس بأمها بخل. فكيف أصابها هذا الذوى السريع؟ وما علته؟ نعم كانت مكبوتة ولكن الكبت قد يتلف الأعصاب، أو يورث مرضًا غير مستعص، أو حتى يجن. ولكن هل يمكن أن يقتل على هذا النحو وبهذه السرعة إذا كان يقتل؟ وأعرف أنها كانت شقية بأختها.. فقد حدثتنى أنت بذلك. ولكن أين الإنسان الذى تصفو حياته ولا تعكرها الهموم أو تخلو من المنغصات؟ وشقاؤها بأختها كانت علته أنها منهومة لا تشبع، وأنها تطمع فى مال أمها ولا تبالى حرمان أختها. ولكن الأم لم تستجب للبنت الطامعة، ولم تطاوعها ولم تضيع على بنتها الأخرى شيئًا. فشقاؤها بأختها كان يلطفه ويخففه الواقع، وهو أنه لم يحدث ما تخاف. ثم إنى لا أرانى قادرًا على التوفيق بين هذه المتناقضات. كانت عايدة تعتقد أنها قصيرة العمر وأن أجلها لن يطول حتى تنعم بالزواج. ومع ذلك كانت شقية، لأن أختها تطمع فى مال أمها وتحاول أن تغتصبه، وتحرم عايدة منه، فعايدة قلقة على مستقبلها. ثم لماذا كانت لا تأكل؟ لماذا أهملت نفسها إلى هذا الحد الوبيل؟ إنه أشبه بالانتحار فيما يبدو لى، لم تكن غبية أو ضعيفة الفهم أو جاهلة أو عاجزة عن تبين ما لا بد أن يورثها هذا الإهمال. أم كانت تهمل أن تأكل لأنها لا تشتهى الطعام؟ لماذا؟ إن هذه الأمور تحيرنى». فلم تقل تحية شيئًا لأنها كانت تعرف أن زوجها يحس «بعقله»، أى يحول كل إحساس إلى فكرة، ويروح يعرضها على عينيه ويتأمل وجوهها. وخواطره هى الصور التى تتخذها إحساساته. وكثيرًا ما تتحول الفكرة عنده إلى إحساس. فهذا يتسرب فى ذلك، وذاك يعود فيتسرب فى هذا، ولا نهاية لهذا التحول عنده. وقضت عايدة نحبها دون أن تفيق. أو لعلها أفاقت وما درى بها أحد.. ومن يدرى. ووجم إبراهيم لما جاءه نعيها، فقالت له تحية وهى تربت له على كتفه: «اسمع. إنى لم أكلمك فى هذا قط، ولكنى أقول لك الاَن إنى آسفة.. اَسفة من أجلها. والموت حسم، فاطو أنت أيضًا الصفحة». قال: «ولكنها لم تكن صفحة.. لا ليست صفحة فى حياتى … هنا خطؤك. إنها كانت كتابًا كاملاً. ولكنه خُطف من يدى، وأنا مازلت أجيل عينى فى صفحاته الأولى.. أوه أظن أنى أقول كلامًا سخيفًا.. لم يعد فى رأسى عقل. كل ما أشعر به أو أدريه أنه لم يكن ثم من بأس لو بقيت هذه المسكينهَ.. هل عندنا شىء من الشراب؟ هذا الموت ثقيل.. أكاد أرتاب فى حكمة الحياة والموت.. فى كل شىء.. لا ينبغى أن أكف عن التفكير فى أى شىء فى هذا اليوم». ففهمت تحية وعذرت. وكانت تعرف تلف أعصابه وما عانى فى سنوات طويلات من عذاب النوراستينيا. وما أكثر ما تفهم وتعذر المرأة الطيبة المخلصة الرحيمة.. ولعلها أجمل وأروع ما فى الدنيا. أحس إبراهيم فى الشهور القليلة الأولى التى تلت وفاة عايدة أنه تغير، وأن حياته خلت من بعض ما كانت تجمل به وتطيب، وإن كانت هذه الفتاة المسكينة لم تستطع أن تملأ حياته. وكان هو ربما أحس أنه لم يعرفها معرفتها، وأنها مرت به تخطف ولا تتلبث. وصار يلزم بيته ويعتكف فيه، معظم الوقت، ولا يخرج إلا لحاجة ملحة. وكانت تحية تدعه لخواطره ولا تتطفل عليه إلا أن يدعوها أو ينشد مجلسها فتكون معه ساكنة وادعة، متكلفة متجملة. وكان يمهد لها العذر ولا يلوم. فما احتملت امرأة مثل ما احتملت تحية منه، ولا تجاوزت بنت لحواء عن مثل ما تجاوزت عنه، وإن كان الذى كبر فى ظنها أوهامًا. ولكنه كان مع ذلك يحس أن ليس له صديق، وأنه فقد الصديق يوم فقد أمه. وكان يقول لنفسه إن ألف ألف من أنصاف الصداقات خير منها صداقة واحدة تامة. وكل إنسان منا عالم قائم بذاته. والذى يستطيع أن يدير عينه فى حياة إنسان اَخر ويتبينها على حقيقتها يكون قد استطاع أن يرى ويعرف عالمًا جديدًا. ولم تكن تحية تتجهم أو تقصر فى لقائه بما تعرف أنه يحب، ولكنها كانت ساكنة، وكان هذا لا يشجع على التبسط أو المصارحة والتفاهم. وما أكثر ما تعجب فى خلوته الطويلة بنفسه لقدرة المرأة على إشقاء الرجل وتعذيبه من غير أن تنطق بكلمة جافية أو تفعل شيئًا ينطوى على القسوة! وكان ربما خطر له أن قوة المرأة مهولة، وصولتها فظيعة، وسطوتها لا يستخف بها عاقل؟ وأنها لهذا خطرة ومستبدة، وأن ودها من أجل ذلك له قيمته، وعطفها جدير أن يُطلب وينشد. على أنه لم يسخط ولم يتذمر، فقد كان يؤثر الإنصاف على صعوبته ومشقة التكلف فيه. فكان يحدث نفسه أنه هو الذى جنى هذا، وأن عليه أن يمهل تحية — أو يستمهلها — حتى ترى منه ما يعيد إليها البشاشة والطلاقة والخفة والنشاط، ولابد لذلك من عودة الثقة وحصول الاطمئنان. ولم يسعه إلا أن يبتسم، إذ خطر له أن الزواج يشبه لبس الحذاء، والأعزب كالذى اعتاد الحفى، فإذا لبس حذاء شعر بالضيق والكرب. والزوج الذى يهمل زوجته زمنًا ما، يكون كالذى ترك حذاء وتحذى سواه. فإذا عاد إلى الأول أتعبه وأحس أنه ناشف، لا يلين لقدمه، أو أن رأسه المستدق أضيق مما ينبغى، أو أن لسانه قد تلوى، أو أن جانبيه قد تقبضا، أو أنه يُزم زمًا محكمًا. والمواظبة والصبر لا غنى عنهما حتى يلين الحذاء ويعود مريحًا كما كان. وذكر بهذا المثل الحذاء الصينى الذى يقال إن المرأة تصب قدمها فى قالب منه. فقال لنفسه إن هذا هو مثال اطراد الحياة على نسق واحد لا يتغير. وليست الحياة — أو لا ينبغى أن تكون — كذلك، وإنما الحياة — كما يقول سبنسر — محاولة مستمرة لتنسيق العلاقات الخارجية والداخلية أو التوفيق بين النفس وغيرها. فإذا كان كل ما أفادنى من التحصيل والتجربة لا يعيننى على التوفيق بين نفسى وبين الحياة، فأنا إذن لا خير فى ولا أمل. فالصبر الصبر يا هذا. وأراد أن يسرها ويبرها، فإن الصبر وحده لا يكفى، ولا مفر من مجهود يبذله لتعود فتسكن إليه وتثق بأنه عاد إليها كله لا بجانب من نفسه. وذكر أنها كانت قالت له لما اتخذ هذا البيت مسكنًا: «إن ساكن الضواحى القصية لا يستغنى عن سيارة»، فسألها يومئذ: «هل تشتهين أن تكون لك سيارة؟» فكان ردها: «وأى امرأة لا تشتهى ذلك؟ ولكنه بذخ لا أحسبه يدخل فى طوقنا فلا تعجل». فسكت، ونسى، إلى أن كان ما كان مما أسلفنا عليه القول، فاغتنم فرصة مزاد تباع فيه مقتنيات إنجليزى أزمع العودة إلى وطنه. وكان بين المعروضات سيارة متينة البناء سليمة المحرك إلا أنها حائلة اللون، غير ذات رونق، فاشتراها بمبلغ زهيد. ستين جنيهًا ليس إلا. وبعث بها إلى من طلاها وأعاد إليها جمال الشكل وبهاء المنظر. وأعدها — ومعها سائقها — أمام الباب فى ساعة معينة. فعل هذا كله دون أن يخبر زوجته. وفى مأموله أن يفاجئها بما يعتقد أنه يسرها. ودعاها إلى الخروج، وفى عينيه بريق يكاد يفضحه، فما كان يحسن التكلف. فنظرت إلى وجهه مستغربة، وخرجت طائعة، فلما رأت السيارة وقفت والتفتت إليه وسألته: «ما هذا؟» قال: «أتعجبك؟» قالت: «إنها جميلة. ولكنى لا أفهم». قال: «إنها لك». قالت: «لى أنا؟ متى اشتريتها؟ ولماذا لم تخبرنى؟» قال: «لو أخبرتك لما كانت هناك مفاجأة». فعبست وقالت: «ولكن هذا إسراف». وغالبت نفسها فتبسمت وفتحت الباب ودخلت. ولما انطلقت بهما السيارة قالت له: «لولا خوفى عليك لقلت لك تعلم قيادتها، لنقتصد على الأقل أجر السائق». قالى: «لا تخافى على. سأتعلم وأعلمك أيضًا فما اشتريتها إلا لك». وصمتا برهة قالت بعدها: «لا تظن أنى غير شاكرة فإنى شاكرة. ولكن الثمن الذى ذهب فيها، والتكاليف، وأجر السائق! أليست هذه مجازفة؟» قال: «ربما. ولكن الذى لا يجازف لا ينال شيئًا». وتمتم: «وفاز باللذة الجسور». وسرت تحية، فما كان يسعها إلا أن تُسر بالتفاتته هذه. وخيل إليها أنها بداية لعودة العصفور إلى عشه، لا بجسمه، فما كان فارقه، بل بقلبه وروحه. ولكنها على هذا لم تكن تبدو سعيدة كما كان يرجو أن يراها. وبدا له أن الحزامة أن يصارحها، فما يطيق أو يستطيع أن يظل معها هكذا متكلفًا متظاهرًا بالرضى، وأن يدعها تتعمل وتتكلف هى أيضًا، ولعل خواطرها سود حالكة. وما ثم خير فى ترك الأمور تستفحل وتتفاقم وفى الوسع منعها من ذلك. وقد لا تجدى المصارحة، ولكنها على التحقيق لن تزيد الحال سوءًا. واغتنم الفرصة ذات ليلة، وهما يشربان الشاى وحدهما قبيل النوم — وكانت تلك عادتهما — فقال لها إنه يراها متغيرة منذ زمن وإنه جاهد ليردها إلى سابق العهد بها، ولكنه لا يرى أنه أفلح. فما هى الحكاية؟ فحاولت أن تهرب من الموضوع، وزعمت أن النعاس يغالبها، ويكاد يثنى رأسها على صدرها، وأن للكلام وقتًا آخر، إذا كان لا بد من ذلك، فألح وأصر. فقالت له إنها لا تستغرب أن تكون تغيرت، فإنه هو أيضًا قد تغير. ولعل مرد الحالين إلى أمر واحد. فسألها: «هل تعنين عايدة؟» قالت: «لا أحب أن أذكرها بغير الخير. وإنى لأرثى لها وأتوجع لما حاق بها وصارت إليه. ولكنى لا أكتمك أن حكايتها معك قد أورثتنى برغمى هذا الذى تنكره من حالى. وثق أنى لا أسىء بك الظن، ولكنى امرأتك، ولا أكون أنثى إذا لم يصبنى ما أصابنى». قال: «لقد كنت أراها كل يوم تقريبًا، وكنت تعرفين ذلك، وكنت أنبئك أنا إذا لم تعرفى، وكنت أحرص على هذا لتطمئنى. على أنى أقول لك إنى أؤثر المرأة التى لها عقل رجل، لا لأنها تكون أحلى أو أفتن، بل لأنى أرانى عاجزًا عن فهمها إذا لم تكن كذلك». قالت، وهى تبتسم: «بل أحلى منها عقل امرأة وزينة امرأة». قال: «هذا صحيح، وليست المرأة امرأة إلا بذلك، ولكن الأخرى التى يكون لها عقل رجل، تجذبنى لأنها شاذة، ونادرة. وأقول لك إنى أحمد عهد عايدة ولا أزال أذكره شاكرًا. ولكن الطريق الذى سرنا فيه لم يفض بنا إلى ما يدعو إلى هذا منك». قالت: «كان يمكن». قال: «ربما، جائز، ولكنه لم يكن. أفمن أجل أن أمرًا ما، كان يمكن أن يقع، تعذبين نفسك وتعذبيننى هذا العذاب؟» قالت: «ألست معذورة؟» قال: «نعم. ولكن هذا الاحتمال موجود أبدًا، ولا يحتاج إلى عايدة على الخصوص ليمكن أن يكون ما دام الأمر كله أمر إمكان وجواز واحتمال». فأحست الخوف، فقد كانت هذه أول مرة يبسط لها فيها الأمر على هذا النحو الواضح، وشعرت أن لا سبيل إلى أمن أو اطمئنان ما دام هذا جائزًا ومحتملاً فى أى وقت. ولكنها غالبت نفسها وقالت بابتسام كأنما تمزح: «إنى أعتقد أنك من الرجال الذين يمكن أن يحبوا أية امرأة بشرط أن يكون لها من المفاتن الكفاية». وكان من الجلى — من نظرتها وابتسامتها ولهجتها — أنها تمزح، ولا تقول هذا جادة. أو لعلها كانت جادة، ولكنها آثرت أن تبطن كلامها بالمزاح. ولم يغضب، ولم يسؤه هذا، بل قال وقد انتوى أن يذهب فى المصارحة — ما دام قد بدأ — إلى النهاية: «إنك مخطئة خطأين كبيرين، الأول قولك أنى مستعد أن أحب أية امرأة إذا كان لها من الجمال القدر الكافى للإغراء أو استثارة الإعجاب. والحقيقة أنى مستعد أن أحب كل امرأة ولو كانت دميمة، فإن للدمامة فتنتها أيضًا، والبراعة فى تكوينها جديرة بالإعجاب، والمرأة الدميمة المزهود فيها خليقة بالرحمة. ألم تسمعى قول ابن المعتز: «وأرحم القبح فأهواه؟». وخطؤك الثانى ظنك إنى بدع فى الرجال. فاصغى إلى جيدًا.. إن الرجل الذى يقدر على الحب هو الذى يحب المرأة أولاً — الجنس كله، النساء جميعًا — ثم بعد ذلك يحب امرأة معينة. وإنه ليحسن بكل امرأة أن تعرف هذه الحقيقة الأولية لأنها حيوية. إنك تخطئين حين تتوهمين أن رجلاً لا تعنيه النساء، يستطيع أن يحبك ويفهمك ويقدرك. لا يا ستى ليس إلى هذا السبيل. فإن الانتقال يكون من العموم إلى الخصوص. وأنت أيضًا لا تستطيعين أن تمقتى «الرجل» وتحبى رجلاً. إن الذى يعرف كيف يحب امرأة هو الذى يحب المرأة، أو فكر المرأة، والأمران سيان. فإذا كنت تطلبين الشاذ والاستثناء، فاعلمى أن الشذوذ فى هذا يفضى إلى شذوذ آخر، لا تصلح به حياة المرأة الطبيعية التى لا تعانى شذوذًا فى طبيعتها». فبدا عليها الرعب، ولكنه لم يرحمها وألح عليها فقال: «إنك تريدين أن تفوزى بلذات الحب ونعيمه من رجل محدود، ضيق الأفق والنفس، أعمى العين والقلب، فلماذا تزوجتنى إذن؟ تطلبين الدفء من رجل بارد مقرور النفس! تشتهين نظرة الحب المثيرة من عين كالزجاج لا معنى فيها ولا تعبير لها، لأن من لا يرى ولا يحس لا يستطيع أن يعبر. تريدين أن يخفق لك قلب بعلك بالحب والحنان وهو لا يخفق إلا لمنظر الحمام المحشو، والبطاطس فى الصينية، إذا كان يخفق حتى لهذا … لماذا خلق الله هذه الدنيا وما حفلت به من جمال؟ ما خيرها لنا إذا كنا سنعمى عنها؟ هل تذكرين الجبن اللذيذ الذى أكلنا منه ظهر اليوم؟» وكان الانتقال مفاجئًا، ولا صلة له بما هو فيه. ولكنها ألفت منه هذه الوثبات، فتبسمت وقالت: نعم. ماله؟» قال: «لقد كان هذا جبنًا طيبًا. وكان طعمه لذيذًا. وهو صالح نافع أيضًا.. ولكن إذا تركناه زمنًا كافيًا، فإن شيئًا غريبًا ممتعًا يحدث له. تدب فيه حشرة طفيلية نسميها الدودة، وتتكاثر الديدان، وتجعله كالأسفنج.. من أين جاء الدود؟ إنه لم يجىء من الخارج. وهو طفيلى، وعلامة فساد وانحلال.. أنتجه الفساد الذى دب فى الجبن. وكذلك النفس لاتفسد وتتعفن بشىء يجىء من الخارج، بل يكون ما يظهر فيها من الخوارج السود القبيحة نتيجة الفساد الذى اعتراها من الباطن». واضطجع فى كرسيه وغام وجهه وهو يقول: «يخيل إلى، أن من الممكن أن نكون نحن الآدميين، وغيرنا من صور الحياة، علامات فساد وانحلال. وعسى أن نكون ظهرنا فى هذه الدنيا كما يظهر الدود فى الجبن أو المش، ومن يدرى؟ لعلنا حشرات طفيلية يغص بها كيان ضخم، فهى تعيث فيه.. كيان ظل موجودًا أكثر مما ينبغى.. ففسد.. وصار جديرًا بأن يرمى أو يمحى». فشق عليها أن يسبح هذه السبحة، ورق له قلبها، فقد أيقنت أنه هو أيضًا يتعذب، وأنه يتألم لنفسه ولها، لنفسه على الاثر لأنه فقد ما يطيب به نفسًا، ولكن الذى فقد، هو الذى أحب منها. فصاحت: «إبراهيم.. أرجو … أرجو أن لا تتكلم هكذا». فصاح بها هو أيضا: «لماذا؟ لماذا تطبقين جفونك وتحجبين عقلك؟ لست أمية ولا أنت عمياء، ولا أنت بليدة. ألا تعرفين أن النظر إلى الجمال والإعجاب به، بل حبه، كقراءة الشعر يجعل الإنسان أعرق فى الإنسانية؟ ألا تعرفين أن الرجل البليد كالسفينة التى تسير بغير بوصلة؟ ألا تدركين أن الفطنة إلى الجمال فى مظاهره المتنوعة يعينك حتى على حسن الاختيار، حتى حين تشترين حذاءً أو تفصلين ثوبًا؟ أهملى ما فى الدنيا من مباهج العيش، وفتن الحياة، وحلاوة الحسن، وروعة الجلال، وانظرى كيف تصير الدنيا والناس؟ بهائم فى مرعى، لا تدرك حتى أن ما ترعاه أخضر. لا ترفع عينها مرة إلى السماء، لأنها لا تدرى أن فوقها سماء. إن الإنسان إنما صار إنسانًا لأنه رفع عينه، وأجالها، وأحس وأدرك.. ماذا جرى لك؟ أتبغين الموت فى الحياة؟ أتريدين أن أكون مخلوقًا ذا بعدين اثنين فى عالم ليس فيه حتى ولا أشباح؟» فقالت بلهجة وديعة: «إنى لم أعد أدرى ماذا أنا حتى أعرف ماذا أريد». قال: «ولست مع ذلك بالغبية، ولو كنت، لأقصرت. فما يلام النبات من أجل أنه نبات.. وإنك لذكية، وفيك فكاهة، وذهنك سريع، وحيوَيتك دافقة.. ولكنك تنفقين كل ذلك عبثًا، تبعثرينه سدى، تضيعينه فى غيرة سخيفة. لقد تعبت ونشفت ريقى فاسقنى شيئًا». فأشارت إلى إبريق الشاى، فأشار إليها أن لا، فجاءته بقدح صبت فيه قليلاً من الويسكى، وهمت أن تشعشعه بالماء، فهز رأسه، وتناول القدح، وقلبه على فمه، فاكتوى حلقه، وقطب، ونهض واتجه إلى الباب فى صمت. فلحقت به ووضعت راحتها على كتفه، وقالت بلهجة هى أعذب وأرق ما صافح سمعه فى سنوات: «آسفة … مسكين … اعذرنى وسامحنى …». وارتمى على سريره فى تلك الليلة وهو يقول لنفسه: «ألا إنها لمعذورة، وتالله لأنا الذى جنيت هذا كله.. فما أقدر الإنسان على الثرثرة والمغالطة». وأدركه النوم وهو يحاور نفسه ويسألها: «أترانى كنت أغالطها؟ أكنت أتفلسف عليها لأرد عنها ما يسوءها، ويثقل عليها، ولأدفع عنها ما يعذبها، كما يفتح أحدنا الشمسية ويرفعها فوق رأسه ليتقى الشمس أو المطر؟ وهل ينفى هذا أن الشمس عظيمة الوقدة أو أن المطر يهطل؟» ودخل فى عالم آخر قبل أن يجيب أو يعرف الجواب.. عالم ملؤه السكينة التى لا تخلو مع ذلك من مغالطة الأحلام.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/13572470/
إبراهيم الثاني
إبراهيم عبد القادر المازني
ليس من قبيل الصدفة أن يكون اسم بطل رواية إبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم» الثاني، وفي رواية أخرى «إبراهيم» الكاتب، فقد تعمَّد الروائي أن يسمي البطل باسمه. ذلك أن المازني جمع في هذه الرواية بين جانب من حياته وجانب من خياله، ويعترف المازني لنفسه بذلك، حيث يذكر في مطلع روايته أبيات من الشعر تدل على هذا المعنى! إنها رواية سيكولوجية بامتياز، تهيم في الأبعاد النفسية للنفس الإنسانية، فهي رواية الحب قبل الزواج وبعده، وهي أيضًا رواية الخوف من الشيخوخة والموت، باختصار هي رواية اعترافات. إن هذا العمل يمثل بحق جزءًا من تاريخ الرواية العربية. وتتميز الرواية بأسلوب فريد، يشهد للمازني بمكانة كبيرة في أدبنا العربي.
https://www.hindawi.org/books/13572470/4/
الفصل الرابع
ثم كانت «ميمى». وهى طراز اَخر من الأنوثة. لا تشابه تحية، ولا تشاكل عايدة، شبابها ريان، وجسمها بض فى نصاعة لون، ووجهها كأنما يترقرق فيه ماء الحياة من نضرة النعمة، رشوف، عبقة، لبقة، لينة فى منطقها وعملها، ناعمة فى ملمسها، مطواع، لا كبر بها ولا تكلف، تتجمع أنوثتها فى عينيها الدعجاوين، وتنطق منهما حين تبتسم فتضيقان. لا تعرف قولة «لا» ولا تحسن أن تقول: «نعم» ولكنها تحسن أن تفعلها. أبرز صفاتها البساطة والقناعة. فهى تأخذ الأمور مأخذًا سهلاً وتتناولها من قريب، وتقنع بالميسور، ولا تعنى نفسها بما كان خليقًا أن يكون من خير أو شر. وتنظر إلى ما يسوء من جهته التى تجعله أضوأ أو أخف وأهون. وكانت صادقة لا تكذب، لأنها ما عرفت ولا أحست حاجة تدعوها إلى الكتمان أو مجانبة الحق. ولم تكن غريرة، ولكنها لم تكن مجربة، فهى تدرك مطالب أنوثتها. ولكن ما اعتادت — أو ما فطرت عليه — من تلقى الحياة بالرضى والتسليم والتهوين، يمنعها أن تلج بها رغبة، ويحميها أن يجمح بها مشتهى أو يشقيها حرمان أو يذلها للرجل أنها مفتقرة إليه. ولم تكن بها جفوة أو جمود، ولكنها كانت ساكنة متزنة، إذا جاعت صبرت ولم تتلهف، وإذا شبعت شكرت، ولم تر أن تصيح من فوق الماَذن بشكرها وسرورها، ولم يبطرها أو يغرها إحساسها بالشبع والرضى. وكانت دائمة البشاشة والتهلل، لا تستطيع أن تقطب حتى حين يغضبها أو يؤلمها شىء. وكانت لبسة صناعا تحسن انتقاء الألوان وتؤثرها بسيطة، ولا تحبها زاهية أو مختلطة أو كثيرة الوشى والتفويف. وكانت تبدو كأنها لا تدرك أن لها من المحاسن ما يصبى الرجل إليها، ويفتنه بها. فكان يحاول على سبيل التجربة أن يثير فيها هذا الإدراك الذى خيل إليه أنه ناقص، فيروح يصف لها مواطن الحسن فى تكوينها وفى طباعها، فتبتسم أو تضحك. ولكنها لا تبدو كأنها تصدق. وكانت ربما قالت له حين يلح عليها بهذا الكلام كأنما يدعوها إلى الإعجاب بنفسها: «إذا رسمت صورة جميلة فهل يكون للصورة فضل فى جمالها؟» فكان يقول لها: «اسمعى. إن لكل إنسان حظه الموفور من الغرور، ولست أدرى — ولا أنا أستطيع أن أتصور — كيف يمكن أن يطيق الإنسان الحياة لو فقد الغرور، والغر ور فيما يرى الناس رذيلة، ولكنى أراه نعمة، أو على الأقل القدر الكافى منه لإطاقة العيش. وأنت كغيرك لا بد أن يكون لك شعور بنفسك، وإلا كنت كالحيوان الأعجم الذاهل عن نفسه وعن الدنيا. والإنسان يصاحب الحيوان ويبادله قدرًا من الود والإحساس، ولكنه لا لذة له فى مصاحبة إنسان مثله إذا كان معدوم الإحساس بنفسه. وأحسبك تتكلفين هذا الذهول، وإنه لتواضع أو أدب منك جميل. ولكن الإفراط فى تكلفه يخرج بك عن حد الطبيعة القويمة التى لا تعترف بهذا التجاهل التام للنفس». فتقول: «ولكنى كما تقول مغرورة، وحظى من الغرور أوفر مما تظن. ولكن هذا لا يدعو إلى الإثقال على الناس». فيقول: «إذا قلت لك بلهجة المؤمن بما يقول، المخلص فيه، إنك دميمة أفلا يسوءك هذا؟» فتقول: «نعم. ولكنك لست الناس جميعًا، والذى تراه أنت قبيحًا قد يراه غيرك جميلاً أو حميدًا». فيسره منها هذا الأسلوب فى تناول الأمور، والنظر إليها من أكثر من وجه واحد لتسهل به وتهون. فيعود فيقول لها: «وقياسًا على هذا يسرك أن تسمعى من رجل أنك جميلة». فتقول: «طبعًا. ويزيد فى سرورى أن يفيض ذلك، ويبدئ ويعيد، حتى ولو لم يكن مخلصًا». فيقول: «إذن لماذا تبدين كل هذه الدهشة حين أذكر مفاتنك؟» فتضحك وتقول: «لأستزيدك ولأغريك بالتكرير والتأكيد». ولم يستطع أن يثير فيها الإعجاب «الظاهر» بنفسها، ولكن إلحاحه عليها بالثناء على ما يحمد من مزاياها وصفاتها المحببة، أثمر شيئًا آخر هو حرصها على دوام تميزها بهذه الصفات، وضنها بها أن تحتجب أو تفتر. وهذا فعل الإيحاء. وكان الإيحاء الخفى اللبق سبيله مع المرأة، يصبها به فى القالب الذى هو أشهى إليه وأحب. وقد حذق ذلك حتى لقد قالت عنه تحية مرة: «إنى لا أستطيع أن أقاومه أو أغالبه، لأنه يستولى على، كالنوم، بلا ضجة أو عنف أو رجة، بل من غير أن أشعر، وبعد أن يقهرنى يدعنى للطبيعة، ولا يحاول التظاهر بصولته وقدرته. ومن يدرى؟ لعله لو كان اشتغل بالتنويم المغناطيسى لكان أبرع فيه من «طهرا بك» الذى يفعل العجائب ويأتى بما يشبه السحر». وكانت هذه مبالغة من امرأته. ولعله يسرها أن تبدى جانب الضعف والخضوع ليلقى سلاحه ويطمئن ويحسب نفسه قد أمن، فتعود فتكر عليه وهو غافل، ومن مأمنه يؤتى الحذر. وبفضل الإيحاء صارت ميمى مطواعًا له، حريصة على مرضاته، بما استقر فى نفسها أنه مزيتها التى تحببها إليه. ولم تكن تعرف رجلاً غيره معرفة تستحق الذكر، أو يمكن أن يكون لها أثر فى نفسها أو سيرتها إلا صادقًا قريبها. ولكن صادقًا شاب يفزعها بما يحمل عليها به من فورة الشباب، فيغريها بالتوقى والتحرز، ويدفعها إلى النفور. ولم يكن الحب هو الذى يبعثها على الاحتماء منه، فليس الحب بمزهود فيه، وإنه لمنية قلبها وهوى نفسها. ولقد كانت فى سريرتها مزهوة بحبه، ولكنها كانت ترى صادقًا كالعباب الطاغى المربد المُزبد، فتشعر بالخوف على نفسها من الغرق فيه، وتحس أنه خليق أن يحملها على متنه الصاخب، ويرميها على صخرة تتحطم عليها. على حين كان إبراهيم يبدو لها كالغدير الصافى المترقرق فى روضة انف حالية بالزهر — لا يخيف، ولا يروع، ولا يقلق أو يزعج، بل يبعث فيها الأنس، ويشيع فيها السكينة، ويحلو التمشى على حفافه، والتنعم بمنظره وبنضرة ما حواليه. وإنه لسهل أن تغرق فى مائه الرقراق، كما يمكن أن تغرق فى العباب الخضم الراغى الطاغى، ولكنها إذا غرقت فيه، تغرق وهى حالمة ناعمة مطمئنة، واثقة من السلامة، بل منساقة إليه وراضية بالغرق فيه. فهنا اطمئنان، قد يكون كاذبًا ولكنه يغرى بالمطاوعة والمسايرة والانسياق، مع الاستحلاء والاستمتاع. وهناك خوف من الضيعة، وإشفاق من مصير جارف، لا تملك لنفسها حياله مقاومة أو مدافعة. ومن أجل هذا كانت تنفر من صادق، وتقبل على إبراهيم. وزاد إقبالها أنها كانت ترى وجوهًا شتى، ومعانى عدة، وتنعم بصور من المتع هى ثمرة التجربة والخبرة والفهم وصحة الإدراك وسعة الأفق. على حين لم يكن عند صادق إلا حبه المضطرم، واللون واحد والصورة لا تتغير، والمعانى لا تتعدد، والحلاوات المرتقبة أو المتخيلة لا تتفاوت طعومها، فهى خليقة أن تُمل وتُسأم. وكان إبراهيم يحرص على تنويع أحوالها معه، بل لقد كان يتقى أن يكون كلامه على وتيرة واحدة، أو نسق لا يتغير، وكان يخشى أن تقول لنفسها: «إنى أعرف ماذا سيقول لى حين يلقانى، وبأى كلام سيبدأ حديثه». وكان لهذا يتحرى أن يخلف ظنها، فيلقاها كل مرة بجديد من القول والاستقبال والاقتراح والمتعة، وكان هذا لا يخلو من مشقة وعسر، ولكنه كان يهون الأمر على نفسه بقوله: «إن من الجمود الذى ينبغى أن يتقيه الإنسان أن يجرى فى حياته مجرى واحدا. والحروف فى كل لغة — إلا الصينية على ما يقال وأمثالها، إذا كان لها أمثال — محدودة العدد — سبعة وعشرون تنقص أو تزيد واحدًا أو اثنين. وانظر ماذا يتألف منها من الكلمات؟ عشرات الاَلاف فى كل لغة.. وانظر ماذا تؤدى من المعانى؟ شىء لا يأخذه حصر. وكل هذا مستطاع ببضعة حروف قليلة لا تزيد على الثلاثين. فإذا كان هذا مستطاعًا فى اللغة التى نتخذها للتفاهم والبيان، فلماذا لا يكون مستطاعًا فى غيرها؟ فى كل شىء؟ إن قلة الاستطاعة كسل، أو نقص فى الخيال، أو القدرة على الابتكار، نقص على كل حال. ولن تكون الحياة كاملة بذلك. ولن يكون الإنسان قد أحسن الانتفاع بحياته إذا لم يستطع أن يجد لها كل يوم جديدًا». وكان يجد لذة فى هذا العناء، بل لذات.. لذة السعى والاجتهاد، ولذة النجاح حين ينجح، ولذة الرضى الذى يحسه من ميمى. ولكن ضميره كان ربما نغص عليه عيشه وأفسد هذه اللذات جميعًا. فقد كان بعد أن يودع ميمى، ويكر راجعًا إلى البيت، يحاسب نفسه ويقول لها ولماذا لا أجتهد مثل هذا الاجتهاد مع تحية؟ أليست جديرة أن أتعب فى سبيلها كما أتعب فى سبيل ميمى أو سبيل نفسى معها؟ ولعلها، لو فعلت، تكون أسعد، وأكون أنا معها أسعد، ولا أحتاج حينئذ إلى ميمى أو سواها». ثم ينقلب مدافعًا عن نفسه فيقول: «ولكنها سعدت باجتهادى معها سنوات حتى تعبتُ ومللتُ.. ثم لماذا لا تجتهد هى أيضًا بعض الاجتهاد؟ لماذا أحمل أنا العبء وحدى كله حتى أنوء به؟ لقد كان كل الاجتهاد من جانبى، وكان كل عملها أن تنعم بما أسرها به، وكانت كل مجاوبتها إظهار الشكر والرضى». ثم يعود فيقول لنفسه: «ألست أنت الرجل؟ أتعد صبرها عليك وأنت منصرف عنها فتورًا منها، وزهادة فى تكلف مرضاتك؟ وهى إنما تبغى أن تفسح لك فى الوقت حتى تراجع نفسك فترجع إليها. إنها تنتظر متجلدة، فماذا يكون الحال، إذا ملت الانتظار والصبر، ودفعها اليأس منك إلى مثل ما دفعك الملل إليه؟ كن منصفًا. إنها تصبر على مضض، ولا تنشد عزاء أو تسلية، ولا تفكر إلا فيك، ولا تتطلع إلا إليك، ولا تحلم إلا بعودك، ولا تسعد إلا بذلك، وأنت تروح تقطف الأزهار اليانعة، وتنعم بشمها ومنظرها، وتنساها إلى أن تؤوب إلى بيتك، فتدخله كأنك داخل سجنًا أو فندقًا، تقوم فيه هذه المرأة الصابرة التقية على خدمتك فيه، ولا تسألك أين كنت ولا ماذا فعلت.. ثم تجىء وتحملها وزر ما أنت صانع. لا يا صاحبي.. ليس هذا من العدل فى شىء». وكان العجز عن إقناع نفسه بأنه على حق، وأنه لا يفعل ما يسوء، هو الذى ينغص عليه ما يفوز به من ميمى من الأنس والروح والريحان. وكانت ميمى — وهذه إحدى مزاياها — تخفف عنه بعض هذا التنغيص بصحة إدراكها لواجبه لتحية، فكانت لا تطالبه بأكثر من منزلة الصديقة ولا تتطلع إلى ما فوقها ولا تكتم شكرها — بسلوكها إذا لم يكن بلسانها — لهذه المنزلة عنده. وكانت تأبى أن يتكرر لقاؤه لها فى الأسبوع الواحد أكثر من مرة، وتقولى له إن حق امرأته أولى بالرعاية. وكانت مخلصة فى هذا لا تحاول به أن تزيد اجتذابه إليها. فكان يقول لها: «إن حق تحية أمانة فى عنقى أنا لا فى عنقك. ولست مسئولة عنها ولا عنى فكفى عن هذا». فتقول له: «كلا.. بل أنا أخشى أن يعترى صداقتنا ما ينغصها أو يجعلها تكليفًا شاقًا إذا أنت لم تحسن حالك مع تحية. فعالج هذا فإنه خير لك ولي». فيقول: «إذا حسن الحال على نحو ما تبغين فإن الأمر خليق أن يفسد بينى وبينك». فتقول: «لا يفسد.. لأنها صداقة تظل منشودة لما تنطوى عليه من تحرر مما يربطنى ويربطك، وما عسى أن يثقل على أو عليك فى المستقبل، وثق أنى أعرف ما أقول». فيقول معترفًا: «المصيبة والبلاء أنى مقتنع أنك على صواب». ويروح يفكر فى ميمى وحكمة هذا الطبع النادر، ويحمد الله لأنه وقاها الغيرة المرذولة التى تفسد حياة الرجل والمرأة جميعًا. وكانت ميمى هى التى أبت عليه أن يستخدم سيارته فى نزهاتهما. وقالت له: «إنك اشتريتها وأهديتها إلى تحية. فليس من اللائق أن تعود فتسلبها إياها وتتنزه بها معى. لا.. إنى لا أسيغ هذا.. فدع السيارة فما بنا حاجة إليها». وكان إبراهيم قد حرص فى هذه المرة أن يكتم صلته بميمى عن تحية، حتى لا تتعذب كما تعذبت من جراء صلته بعايدة. وكان الكتمان يثقل عليه، ولكنه رآه أدعى لراحتها وراحته، وأرشد على العموم. وكانت ميمى تزور تحية غبا وتطيل فترات الغياب، وتتحرى أن تكون الزيارة فى وقت تعلم أن إبراهيم ليس فيه فى البيت، ولم يكن هذا بالعسير فقد كانت تطلعه على نياتها، فيتعمد الخروج قبل أن تأتى. واتفق يومًا أن كان إبراهيم ذاهبًا مع تحية لقضاء حاجة من حاجات البيت التى لا تنتهى. وكانا فى السيارة، فوقفا على باب بقال كبير. وإذا بميمى وصادق خارجان من دكان يحملان لفافتين كبيرتين، فتبادلوا التحيات المألوفة. ودعت تحية ميمى إلى الانتظار ريثما تشترى ما تريد ثم تحملها معها لتخفف عنها هذا الحمل، فقبلت وذهبوا جميعًا إلى بيت ميمى. ورضى إبراهيم وتحية أن يبقيا قليلاً للقهوة أو الشاى، ولم يدر حديث يستحق الرواية. ولكن صادقًا كان لا يكف عن لحظان إبراهيم وزوجته ولا يكاد يحول عينه عنهما. فلما انصرفا قال لميمى: «صديقك هذا.. أثق به وأرتاب فى آن معًا. هيئته. كلامه. لهجته الرزينة الهادئة. إشاراته القليلة، بل النادرة. سكونه. كل ذلك يحملنى على الأطمئنان. ولكن عينيه.. نظراتهما تحيرنى. تشكنى أحيانًا كأنما تريد أن تنفذ إلى ما تحت جلدى، وتغمض وتغيم أحيانًا أخرى، حتى لأحسبه ذاهلاً عن الدنيا وما فيها، فما يعنيه من الخلق شىء. هل هو يحب زوجته؟» فقالت: «طبعًا يحبها.. ما هذا الكلام الفارغ؟» فهز رأسه وقال: «ربما.. لعلك أدرى.. ولكن من أدراك؟» فقالت: «أما إنه لسؤال عجيب..». فسألها: «أتعرفينه هو أو امرأته؟ أعنى أيهما صديقك؟» قالت: «كلاهما». قالى: «ولكنى أراك حفية به هو على الخصوص». قالت: «إنه الرجل، ثم إنه رجل.. رجل محترم.. ما هذه الأسئلة البايخة؟» قال متهكمًا: «بايخة.. ربما.. الحق معك.. لكنى ليتنى أعرف سر تأثيره فى نفسك». قالت: «وما شأنك أنت بهذا أو غيره». قال: «شأنى أنى أحبك.. ألا تعرفين هذا؟ ألم أخبرك به؟ تالله ما أعظم تقصيرى». قالت: «عدنا.. ألم أخبرك أنا أيضًا أن الذى حملنى على احتمالك هو إبراهيم الذى تستريب به الاَن؟» فلم يزد على أن قال: «شكرًا له ولك على تذكيرى». ونهض يتمشى فى الغرفة، ولا يتكلم. ثم اتجه إلى الباب وقال: «إنك ثمرة لا يطيب لى أن يقطفها لى أحد ويناولنى إياها على طبق. لا. سأقطفها أنا بيدى متى استطعت، بل متى أردت فاعرفى ذلك. وأحبينى أو ابغضينى. سيان». فاستوقفته وكان يهم بالخروج. وقالت له ويدها على كتفه: «صادق … ألم نتفق أن نكون صديقين؟ قل إنك سكنت.. فإن هذه الثورات ترعبنى.. وثق بإبراهيم.. ثق أنه يفهمك أحسن مما تفهم نفسك.. ولا يضمر لك إلا الخير». قال: «طيب هدأت … ولكنى مع ذلك سأقطف الثمرة.. فى أوانها.. متى نضجت للقطف». فآثرت ملاينته، وقالت: «متى نضجت … متى نضجت». ومضى وتركها قلقة. تشعر أن وراء ما قال، ما كانت تود أن تعرفه لتطمئن وتأخذ حذرها. وودت لو كان معها إبراهيم فى هذه الساعة ليمسح على قلبها، ويرد إليها سكينة نفسها. وأقبل العيد، فأصبح الناس مفطرين بسنة الله الرضية، بعد أن صاموا رمضان بالبر. وكانت عادة إبراهيم منذ ماتت أمه أن يقضى العيد — كل عيد — مع تحية عند أبيها فى البلدة، لا طلبًا للسكون، ولا رغبة فى التملى بجمال الريف، فما كان بيته بالصاخب، ولا الضاحية غير جميلة. ولكنه كان يثقل عليه أن يرى بيته فى العيد وليست فيه أمه. وكانت تحية هى التى فطنت إلى هذا، فاقترحت أن يزورا القبر ثم يرحلا إلى البلدة، فصارت هذه عادة مرعية. وكان يود لو قضى يومًا من العيد مع ميمى، ولكنها هى أيضًا كانت تهم بالسفر إلى أبيها فقال لها: «تعالى إذن معنا فإنا ذاهبون بالسيارة فنقطع الطريق إلى دمنهور على مهل، وهناك نفترق على أن نلتقى مرة أخرى فى الإياب». فأبت، وقالت: «إن تحية خليقة أن تستغرب هذا، وليس يحسن أن نثير هواجسها فحسبها ما عانت». وكانت ميمى تعرف قصة عايدة، فقد حدثها بها. وعرف صادق أن ميمى مزمعة سفرًا إلى أبيها، فاقترح عليها أن يذهب بها بالسيارة — سيارة أبيه — إلى الإسكندرية، وهناك يقضيان النهار كله، ثم يكران راجعين إلى دمنهور، فترددت ميمى فما كانت لها ثقة بهذا الفتى المقلق. فسألها: «أتخشيننى يا ميمى؟» ولم تستطع أن تبدو له مترددة، ولا أن يجىء جوابها أسرع مما ينبغى فيكون أدل على الخشية، فتمهلت هنيهة، وسترت ما تنطوى عليه بنظرة فاحصة ألقتها إليه، وطيف ابتسامة ساخرة على شفتيها. ثم قالت: «أتظن جادًا أنى أخشاك؟» فقال وهو يروح ويجئ وعينه إلى الأرض: «إنك فتاة عجيبة. وما أدرى والله ماذا أظن، ولكنك لا تخشيننى، وهذا جلى فلا ترفضى إذن.. تصورى يومًا كاملاً نقضيه فى الهواء الطلق.. سأذهب بك إلى أجمل ناحية فى الرمل، وسأكون خادمك، بل عبدك. ولا أكون معك إلا على الحال الذى ترضين. لا لا لا.. لا تنظرى إلى هكذا.. كونى امرأة حقيقية مرة واحدة فى العمر. على الأقل معى …». فصاحت به: «صادق». قال: «ليس هناك أى سبب يمنع أن تذهبى معى.. وسأعنى بك وأسهر على راحتك.. لماذا تحرمين نفسك هذه المتع البريئة؟» ففكرت فيما كان إبراهيم قال لها وأشار به عليها، من إيلائه الثقة التى يضن بها عليه الناس، وأهله خاصة. وقالت: «وماذا أعددت فى رأسك لى من هذه المتع؟» قال: «إن كل ما رسمته رهن بموافقتك، نذهب من الطريق الصحراوى، ونستريح عند محطة (شل)، ثم نستأنف السير فنقطع الطريق كله فى ثلاث ساعات ونصف ساعة، فإذا قمنا من هنا فى الساعة الرابعة صباحًا استطعنا أن نبلغ الإسكندرية فى الثامنة على الأكثر، ويبقى أمامنا النهار كله نرتع ونلعب إلى الخامسة مساء. وتكفى ساعة واحدة للوصول إلى دمنهور». قالت: «وإلى أين نويت أن تأخذنى فى الرمل؟» قال: «لو أخبرتك بكل ما أعددت لك فى رأسى لضاعت مزية الرحلة. انتظرى حتى يجىء كل شىء فى أوانه، لتكون المتعة مضاعفة. على أنى أستطيع أن أقول لك الآن إنى أنوى أن ألقى إليك بالزمام لتفعلى ما تشائين». قالت: «ولكن الرابعة صباحًا؟» قال: «كما تشائين.. لتكن الخامسة.. ما عليك إلا أن تأمرى فإنى من الساعة خادمك المطيع». وكان فى صوته وهو يقول ذلك نبرة سرور صبيانية. وبلغا أول الطريق الصحراوى، وهما صامتان. فأما صادق فكان كأنما أسدل على وجهه نقابًا كثيفًا. وكانت هى ربما أقلقها أنها ترى نفسها عاجزة عن استشفاف خواطره أو التفطن إلى ما عسى أن يكون دائرًا فى نفسه. ولكنها هى أيضًا كانت تحس بفتور عن الحديث وزهد فيه. وكانت تريد أن تستمتع بالبكرة المطلولة والحركة السريعة، ولم تكن تخشى السرعة، فقد كانت تعرف أن صادقًا جرىء ولكنه حريص. وليست هذه أول مرة حملها فى السيارة. وخطر لها أن هذا أقل ما ينبغى أن يحسنه شاب عاطل ميسر الرزق. وانثنت خواطرها إلى إبراهيم فذكرت أنه هو أيضًا سيكون على الطريق بعد قليل، وابتسمت وقد تذكرت أنه لن يتخلى عن القيادة لزوجته، وإن كان يشهد لها بأنها أقدر عليها، لا لأنه يجد فيها لذة، بل لأنه يرى أن الرجل يجب أن يكون فى يديه الزمام فى كل حال، حتى فى مثل هذا الأمر الصغير، لا ينزل عما يعتقد أن الرجولة تفرضه عليه. وشعرت وهى تفكر فى إبراهيم أنه لا يخلو من غموض، نعم يقص عليها أخبارًا شتى، ويكاشفها بما يفعل أو يترك، ولكنه يأبى أن يجعل تحية زوجته موضع لغط بينهما. وكثيرًا ما تعجز عن فهمه؟ فقد قالت له مرة وقد خالجها خوف غامض: «ألا تشعر بندم حين تفكر فيما نحن فيه؟» فنظر إليها مقطبًا وأطرق قليلاً، حتى لخشيت أن يقول لها إنه نادم. ثم رفع رأسه إليها وحدجها بنظرة قوية وقال: «لماذا تسألين؟ لا. لست نادمًا إذا كان يعنيك أن تعلمى». فأحست حين سمعت منه ذلك أنه يوبخها، ولكنه قال بعد ذلك: «لا. لست نادمًا. إن الندم لا ينطوى على إخلاص صادق». فاستغربت قوله، وسألته عما يعنى، فقال: «إنه يا فتاتى الساذجة أشبه بالأسف على توسيخ ثوب جميل، هذا هو الندم. الرجل يريح نفسه من ثقل ضغطه باللغط به، والمرأة تريح نفسها منه بالبكاء. كلاهما يهرب مما ينبغى أن يستتبعه الندم الصادق بدلاً من أن يعمق شعوره به. فإذا سمعت من يقول لك إنه نادم فاعلمى أنه بلسانه يحاول أن يوجد متنفسًا لما يضيق صدره به، أو يدافع بلسانه عن نفسه. لا.. لا محل للفظ الندم.. فإنه أكذوبة. فإما التوبة النصوح، وإما المضى على الوجه بغير تلفت. أما أن تكون عين فى الجنة وعين فى النار، فأنا على الأقل لا يطيب لى هذا». ولم تستطع ميمى أن تتبين معنى هذا مقرونًا إلى سلوكه معها ومع زوجته، وألفت تتساءل: «هل هو ينطوى لى على حب؟» ولم تستطع أن تهتدى إلى الجواب. فإن إبراهيم لا يلهج بالحب، ولا يجرى به لسانه إلا نادرًا. وقد سألته مرة عن الحب ورغبت أن تسمع منه كلامًا فسألها: «أى حب تعنين؟» قال هذا، كأنما هناك دكان فيه ألف صنف من الحب. ثم أمسك وقال لها بعد قليل: «لا تكونى حمقاء.. إذا كنت راضية عما أنت فيه فلا تفسديه بأن تطلبى أن تسمعى كلامًا فارغًا حلوًا، فلا تسمعى إلا كلامًا يفسد عليك حلاوة ما تنعمين به. ثم إياك والغيرة فإنها بلاء. وفسحة العيش أقصر من أن نضيعها، أو نضيع دقيقة واحدة منها، فيما تجره الغيرة السخيفة من عناء وبلاء». فأرادت أن تبين له أن سؤالها لم يكن مصدره الغيرة، فأبى أن يسمع وقال: «اسمعى. أنت لا تغارين من أحد فيما يتعلق بى، وأنا لا أغار من أحد فيما يتعلق بك. هذه سبيل الراحة والوسيلة إلى صفو الود بيننا». وكان هذا أول درس تلقته عنه، ولم تفهمه كل الفهم، ولكنها أذعنت. وخطر لها والسيارة تخطف فى طريق الصحراء أن سلوكه مع زوجته لابد أن يكون مختلفًا، وأحست وهى تفكر فى هذا أن يد صادق قد صارت على يدها، فالتفتت كالمذعورة وسحبت يدها، فضحك بل قهقه وقال: «ألا ترين أنك تخشيننى؟ والحق معك فإنى وحش.. أحيانًا.. ولكن من الخير أن يواجه الإنسان الوحش لا أن يفر منه.. على أنك رضته يا ميمى.. أتذكرين؟ لقد قبلت هذا الوحش مرة، وكانت هذه القبلة أعظم ما فاز به فى حياته». وكان يتلفت إليها وهو ويقول ذلك، ولكن نظرته كانت وديعة لينة كأنما يريد أن يطمئنها ويصرف عنها الخوف، فقالت: «لقد ظللت بعدها أتساءل أترانى لم أخطئ حين قبلت الوحش؟» قال: «إذن كفى عن التساؤل. فقد صارعت هذا الوحش الذى فى نفسى بعدها ولا أقول إنى صرعته، ولكنى أعرف الاَن أن فى وسعى أن أواجهه، وهذا كله بفضل قبلة واحدة قصيرة». فتنهدت وشعرت أن هذا الكلام لا يقرر الثقة مع ذلك فى نفسها، ولا ينفى القلق. وألفت نفسها تتلهف على الطمأنينة التى تجدها حين تكون مع إبراهيم، وولكنها ردت نفسها عن الاسترسال فى هذه الخواطر، وقالت: «إذا كانت قبلتى قد صنعت هذا فلست آسفة عليها». فرمى إليها ابتسامة عوجاء، وقال: «أظنك ستجعليننى رجلاً طيبًا إن شاء الله». قالت: «إنما أريد أن تكون كخير ما تستطيع». قال: «أحسب أنك رسمت لى الصورة التى تريدين أن أكون مثلها». وضحك ثم قال: «مما يدعو إلى الأسف أن الصورة التى فى رأسك ليست إلا أسطورة.. جميلة بلا شك، ولكنها من نسج خيالك البديع». وبلغا محطة «شل» فترجلا وذهبا يعدوان إلى المقاعد، ويصفقان للخادم، فمال صادق نحوها، وقال: «ما قولك فى قضاء النهار هنا بدلاً من الإسكندرية؟» فخفق قلبها مرتاعًا، فإن المكان موحش، وليس صادق بالرفيق المأمون. وليس ثم أحد فيما ترى إلا الخدم. ولكنها تجلدت وقالت: «أتعبت؟» قال: «لا. وإنما أود أن تعرفى أن ههنا مطعمًا وفندقًا فإذا شئت بقينا.. بل بتنا أيضًا وإلا فإلى الإسكندرية.. لماذا يجمح بك سوء الظن؟» فتشهدت. وجاءت القهوة فشرباها. ونهض صادق ليتزود لسيارته من البنزين والزيت، وغاب قليلاً ثم عاد بوجه كاسف وقال: «يظهر أن المحرك به بعض التلف.. أظنه يسيرًا. وقد تركت عاملاً يعالج أن يصلحه.. لا تخافى سنصل إلى الإسكندرية ولكن بعد الوقت الذى قدرناه.. هذا كل ما فى الأمر». فعاودها الخوف وقالت: «وإذا تلف فى الطريق مرة أخرى؟» فلم يطمئنها، بل زادها قلقًا فقال: «يكون الله فى عوننا». قالت: «ماذا تعنى؟» قال: «ليس فى الطريق محطة أخرى ولست أتوقع أن يحدث تلف آخر. ولكن إذا حدث فإنه لا يكون فى وسعنا أكثر من أن ننتظر نجدة أحد المسافرين إذا كان يستطيع النجدة». قالت: «فإذا لم يستطع». قال: «نبيت فى السيارة، أو يحملنا أحد المسافرين معه إلى القاهرة أو الأسكندرية». فنهضت تتمشى وهى تقول: «كان ينبغى أن أتوقع هذا». فلم يرحمها وقال: «ألا ترين أن الأفضل والأسلم أن نبقى هنا؟» قالت: «بل نعود إلى القاهرة.. ماذا يقول أبى؟ ماذا تقول أمى؟ ماذا..؟» فأشار إليها أن كفى وقال: «أظن أننا سنتشنج». قالت: «أنا لا أتشنج أبدًا». قال: «هذا بشير خير.. إذن كونى عاقلة وتقبلى ما يكون بالحلم والصبر.. ليس لى فيما حدث حيلة ثم إنه لا يحوج إلى كل هذا». ولكن نصف النهار انقضى والسيارة تأبى أن تصلح، فدعاها إلى الغداء، ولكنها رفضت أن تتناول شيئًا. ولم يبق لها هم إلا أن تعود إلى القاهرة، وكانت لا تفتأ تصيح به: «ما هذا التلف المفاجئ الذى أصابها؟ إنى لا أصدق.. لقد وصلنا إلى هنا وهى على خير حال.. فلا بد أن تكون قد صنعت شيئًا أتلفها عمدًا. إن السيارات لا تفسد هكذا فجأة بلا مناسبة. ثم إنها جديدة، فغير معقول أن تفسد بهذه السرعة، وفجأة بعد أن كانت تسير كالجواد الأصيل». قال: «إن الرجل يبحث عن العلة». قالت: «ومتى ينتهى؟» فهز كتفيه وقال: «علمى علمك. فإنى لا أحسن إلا القيادة». قالت: «أنا لا أعتقد أن السيارة أصابها شىء». قال: «سلى العامل». قالت: «أشكرك.. وماذا يمنع مثلك أن يرشوه ليكذب؟» قال: «اسمعى. أوسعينى سوء ظن. فإن هذا لا يعنينى، ولست أول مخلوق فعل ذلك. كل الدنيا تعدنى مخلوقًا لا خير فيه. لا بأس: زيديهم واحدًا. ولكنى لم أصنع هذا الذى ترميننى به. صدقى أو لا تصدقى. سيان. لقد حاولت أن أكون طيبًا كما تريدين.. سنة كاملة وأنا أعالج وأجتهد أن أعيش بالفضيلة والخير كما دعوتنى.. طلبًا لمرضاتك. لا لأنى شرير، فلست بذاك، وليس من الشر أن أحبك، بل لأنك ترين أن تغيرى ما بى. لا أدرى لماذا. فأنا أروض نفسى على السلوك الذى هو أحب إليك. ثم ماذا كانت النتيجة؟ إنك مازلت على رأى الناس جميعًا فى. وأقول لك الحق إنى مللت هذه الفضيلة كما تتصورينها.. الفضيلة التى تأبى أن يكون الإنسان كما خلقه الله. أى عيب فى أن أحبك؟ أى رذيلة فى هذا؟» وسكت وراح يتمشى ثم التفت إليها وقال: «لقد كففت عن هذه المحاولة وأرحت نفسى من عناء باطل». فزوت ما بين عينيها، وقالت وهى ترجو أن تتألفه بالكلام اللين: «لقد كنت أرجو أن تنتهى إلى غير هذا». فقال: «كيف يمكن؟ عام كامل وأنا أحيا حياة الأولياء الصالحين. تصورى هذا فى سنى. ثم ماذا؟ لا أرانى أدنى إليك أو أحب مما كنت.. لا يا ستى. إنى شاب وهذه الخطوات البطيئة لا تطاق.. ولست أستطيع أن أظل هكذا إلى ما لا نهاية». قالت وهى لا تزال تحاول التسكين: «ومن الذى يستطيع أن يعرف أين أو متى تكون النهاية، أو ماذا قسم الله لنا؟» قال: «آه هذا كلام خليق بإبراهيم وأظنه مما لقنك.. لا يا ستى مرة أخرى. إنى أعرف ما أريد وأعرف الطريق إليه. الطريق الذى يبلغ لا الذى يقصى». وقعد على كرسى بعيدًا وساد الصمت برهة، وهى تفكر فيما قال، وفى دلالته التى لا تخفى ثم قالت: «ليت هذا العامل يسرع». فنهض وأشار إليها أن تتبعه ومضى بها إلى حيث السيارة والعامل، فقال لهما إنه اهتدى إلى العلة وهى فى الأسلاك، وسيعالجها بأسرع ما يستطيع. فمضيا عنه وراحا يتمشيان، وقد اطمأنت قليلاً وجرى فى بالها أنه يستوى أن تذهب إلى الإسكندرية أو القاهرة، فإنها تستطيع بعد ذلك أن تتخلص من صاحبها. وإنما العقدة فى الطريق والله المسئول أن يلطف بها. وكانا يسيران فى صمت ثم تلفت صادق فلم ير أحدًا فانثنى إلى ميمى يقول فجأة: «هل مللت الانتظار؟ إذن لا انتظار بعد ذلك». فأحست بمثل لسع النار من أنفاسه على وجهها. وقبل أن تتبين ما هو صانع، كان فمه على فمها. وراح يقبلها كما لم يقبلها أحد فى حياتها، وكانت تنتفض وترتعد، ولكنها عاجزة عن التخلص من عناقه، وكان تطويق ذراعيه لها يؤلمها. وصاحت به، وقد رفع فمه: «هل جننت؟ دعنى». قال: «نعم جننت». وأهوى عليها مرة أخرى بفمه المضطرم. وعادت هى تحس بلسع النار من فرعها إلى قدمها، وحاولت عبثًا أن تقاومه فقد كان كالوحش الضارى. ثم أمسك فجأة وخلاها، وتراجع خطوة، وهو يقول: «أتظنين أنك تستطيعين أن تقصينى إلى ما لا نهاية؟ إذن فاعلمى أن هذا يزيدنى جنونًا. ولماذا تقاومين ما كتب الله كما تقولين؟ لقد بذلت من المقاومة ما فيه الكفاية ولقد انهزمت أخيرًا. حولى وجهك عنى إذا شئت. سيان. لقد ظللت أنتظر أن تسنح لى مثل هذه الفرصة، وقد شاءت إرادة الله أن تسنح، فأنا اغتنمها. لقد كنت إلى الاَن كأنك فوق منصة عالية تلقين منها الأوامر إلى. أما بعد الآن، أما اليوم فأنت امرأة ليس إلا». فكادت تيأس. ولكنها أحست ومض أمل خافت بأن النجاة ليست مستحيلة. وكان إحساسها بالغريزة وحدها لا بالعقل، كما يحس الحيوان المطارد. وكانت تعلم أنها معه هنا كأنها فى قلب غابة تحترق، ولكنها مع ذلك لم تفقد الأمل. وأيقظ الفزع نفسها فقالت: «ومع ذلك تقول إنك تحبنى» فصاح بها: «إيه؟ أتجرئين على الشك فى هذا؟ هل تريدين امتحانى؟ أتريدين أن أقدم لك الدليل؟» قالت: «نعم». فأخلى سبيلها وقالى: «والاَن ماذا؟» فكادت تسقط بعد أن فك إسارها بغتة. وخطر لها أنه ما أطلق سراحها إلا ليسخر منها. وخيل إليها أنها تنظر فى عين نمر، ولكنها تشددت وقالت: «والآن يجب أن نتفاهم». فضحك ملء شدقيه وقال: «نتفاهم؟ ألم تفهمى أن مثلى حين يريد شيئًا يأخذه ولا ينتظر أن يعطاه؟» فاعتدلت فى وقفتها وقالت له بلهجة كلها كبر: «أو تظننى من اللواتى يؤخذن؟ أو تحسبنى ملكك؟ إذا كنت تظن ذلك أو تتوهمه فإنه ينقصك أن تعرفنى. ولا أنا مع الأسف كنت أعرفك». فقال: «نعم، أعتقد أنك ملكى، وأنك لى، ويجب أن تعترفى لى بأنى كنت صبورًا جدًّا». قالت: «كلا. إنك تبنى على أساس من الرمل، ولخير لك أن تدرك خطأك بسرعة. لقد عاملتك كما ينبغى أن يعامل القريب وزدت فعددتك صديقًا. وتوهمت أن من الممكن أن أثق بك، ولكنى لن أرتكب هذا الغلط مرة أخرى». قال: «ولماذا تقولين لى هذا الآن كأنه يمكن أن يغير شيئًا؟» ولم يزد منها قربًا أو بعدًا، ولكنها أحست أنه متربص للوثبة وقالت: «نعم يغير أشياء». قال: «هذا وهم منك، وإنك لتخدعين نفسك، ولكنك لا تخدعيننى. لقد نفذ صبرى، فانا آخذ عنوة ما لا يؤخذ صبرًا». قالت ساخرة: «وتسمى هذا حبًا؟» قال: «سميه ما شئت فلست فيلسوفًا كصاحبك. كل ما أعرفه أن أنوى أن أجعل من هذا التمثال امرأة من لحم ودم. إن لم أستطع أن أصعد إلى الذروة التى تقعدين فوقها، فعليك أن تنزلى إلى حضيضى ليمكن أن تكونى آدمية حية». وسمعا العامل يناديهما من بعيد فارتدا إليه. وكانت ميمى وهى راجعة مع صادق إلى حيث العامل والسيارة، تدير عينها فى هذه الصحراء المتقاذفة، وفى الشمس التى أخذت تميل، وتطيل الظلال، وفى هذا القريب الذى تخشى أن تعصف بها ثورة نفسه، وهياج حرقاته، وما تعلم ويعلم من قلة النصير، وفيما يحسن أن تصنع لتخرج من هذا المأزق بغير ضجة، وتؤنب نفسها على مطاوعتها له وثقتها به، ولا تبخل باللوم على إبراهيم؛ لأنه هو الذى أغراها بالاطمئنان إلى هذا الفتى الأحمق ودعاها إلى إيلائه الثقة التى تبينت الاَن أنه لا يستحقها، ومع ذلك كانت تتمنى لو تيسر لها أن تتصل بإبراهيم لتستشيره. وسمعت صادقًا يقولى لها بصوت امتزجت فيه الرقة بالعنف: «ماذا جرى؟ إنك كنت تحبيننى». وسمعت نفسها تقول وكأن الصوت غير صوتها: «أنا ما أحببتك قط. إنما كنت لك صديقًا». فقال: «كنت؟ هل تعنين أنك تبغضيننى الاَن؟» قالت: «لا.. ليس لك فى قلبى حتى ولا البغض». فقال وهو يضحك ولا يفهم: «لا بغض، ولا حب. فماذا إذن؟» قالت: «الاحتقار. ليس إلا». وعضت لسانها نادمة وأدركت أنها زلت، وخشيت أن يزيده هذا حماقة وطيشًا. وراح رأسها يدور وأحست أن الأرض غير مستقرة أو ثابتة، وأزعجها أن تحتاج إلى الاتكاء على صادق، فتشددت وتماسكت بجهد. واستغربت من نفسها أنها تذكرت فى هذه اللحظة الحافلة بالاحتمالات المخيفة، يوم دخلت على التلميذات وحدها أول مرة وفى يسراها دفتران واحد للأسماء والاَخر لتحضير الدروس، وكانت قد أعدت درسها بعناية وكتبته بخط واضح جميل، ووضعت تحت العناوين خطوطًا حمراء، وتوقعت أن تبهر التلميذات بالوقار والسمت وحسن الإلقاء والبيان، وإذا بالتلميذات يقف بعضهن — أقلهن — وهن جميعًا يتلاغطن، ورؤوسهن متدانية، وأصابعهن مشيرة إليها. ومنهن من وضعن أيديهن على أفواههن ليكتمن الضحك، ومنهن اللواتى ضحكن غير متحرزات أو عابئات، وهى واقفة لا تدرى ماذا تصنع لتفىء بهن إلى الصمت والسكون، وما يجب أن يتلقين به معلمتهن من التوقير. وظلت هكذا لا تقول أو تفعل شيئا ولا تحرك يدها بإشارة، ثم افتر ثغرها بكرهها عن ابتسامة خيل إليها فيما بعد أنها ابتسامة السخر من نفسها أو اليأس من قدرتها على السيطرة على هؤلاء التلميذات. وإذا بهن يبادلنها ابتسامًا بابتسام، ويرخين أيديهن، ويقفن معتدلات القدود، فأشارت إليهن أن اقعدن، فقد أشفقت أن تنطق فيشى صوتها باضطرابها. وسلس لها الأمر بعد ذلك، ولم تعان مشقة معهن. وخطر لها — وهذه الصورة ماثلة لعينيها — أن لعل إبراهيم على صواب، وعسى أن يكون رأيه ونهجه أسد، وقد تكون الحسنى أرشد وأحق أن تبلغها أمنها. وبلغا السيارة، وجرب صادق محركها، وحمد ما صنع العامل، وأنقده أجره وسخا فيه، ودعا ميمى إلى الركوب. فقالت وهى تبتسم: «ألا ترى أن الأحزم أن نتزود للطريق». ورأى ابتسامها، ونظر إليها مليًا، كأنما يتفرس، ثم وثب إلى الأرض وتركها تتمشى حول السيارة ثم عاد بسجاير وطعام. وكان فى السيارة (ترمس) صغير وآخر كبير فأراق ما فيهما من ماء وذهب بهما إلى المقصف وعاد بعد برهة، وقد ملأ الصغير قهوة، والكبير ماء مثلوجًا. وأشار إليها أن اركبى ففعلت بلا سؤال، فأدار المحرك مرة أخرى وخرج بالسيارة من نطاق المحطة حتى بلغ الطريق المعبد، فوقف وسألها: إلى أين؟ فأبدت قلة اكتراث وقالت: «كما تشاء». فانطلق فى طريق الإسكندرية. وأحست بالجوع ففكت إحدى اللفافتين وأخرجت منها أربعة سندوتشات وجعلت تأكل وتطعمه، وتنفض عن ثيابه ما يتساقط من الفتات، وهو بادى الرضى والسرور، وإذا بالسيارة كأنما يقف محركها ثم يعود إلى العمل من تلقاء نفسه. وكان لهذا العارض رجة خفيفة شعرا بها، ولكنها لم تتكرر إلا بعد عشرة كيلومترات أو نحو ذلك. وبدا على صادق القلق ولا سيما بعد أن أحس هذا العارض مرة ثالثة بعد مسافة قصيرة، فأراد أن يسرع ولكن السيارة كانت كأنما لا تستطيع أن تمضى بأسرع مما تفعل. وقطعا على هذا الحال، ومن غير أن ينبسا ببنت شفة أكثر من سبعين كيلو مترًا، واذا بالسيارة يخرج منها صوت كالحشرجة ثم يقف المحرك. وعبثًا حاول صادق أن يديره مرة أخرى، وقد ظل يجاهد حتى تصبب منه العرق. فقالت ميمى: «يحسن أن تستريح». وتكلفت أن تهون الأمر فقالت مازحة: «من يدرى.. لعل بالسيارة أيضًا حاجة إلى الراحة». فصاح: «كلام فارغ.. هذا العامل حمار ولا يستحق مليمًا مما أخذ.. ولعله أتلفها وهو يحسب أنه أصلحها». قالت: «لا فائدة من هذا الكلام الاَن». قال: «ولكن ماذا نصنع الاَن؟ لو كنا بقينا فى المحطة لأمكن أن نجد لنا حيلة.. وكنا نستطيع أن نبيت إلى أن تأتينا نجدة. أما الآن فهل نبيت فى الصحراء؟» قالت: «ولماذا؟ ألا يمكن أن تمر بنا سيارة فتحملنا؟» قال: «ونترك سيارتنا؟ مستحيل. هذا تخريف». قالت: «للضرورة أحكام». فعاد يقول: «مستحيل». قالت: «ابق إذن مع السيارة العزيزة أما أنا». قال: «ها … أهو ذاك؟ تظنين أنك نجوت منى؟ سترين أنك مخطئة. فما لك نجاة وقد وقعت فى يدى». قالت ساخرة: «وقوع العصفور فى فم الأفعوان؟» قال: «تمامًا.. الاَن فهمت سر هذا اللطف والظرف..». وهز رأسه ودس يده فى جيبه وأخرج رأس مسدس وقال: «أتعرفين هذا؟ هل رأيت مثله فى حياتك؟ هل تعرفين ماذا يصنع الناس به؟» فاصفر وجهها وارتجفت شفتاها وهى تقول: «لقد كان ينقصنى أن أعرف أنك نذل ووغد». فقال وأعاد المسدس إلى مكانه وكان فارغًا غير محشو، ولكنها لم تكن تعرف هذا: «أنا كل هذا وزيادة، وليس يعنينى أن يسوء رأيك فى وإنما يعنينى أن أنال مأربى. ولا تحسبى أنى سأقتلك.. كلا.. إنى احتفظ بك لنفسى وأدخرك لمتع كثيرة سأفوز بها منك.. برضاك أو بكرهك.. سيان». قالت: «لن تقتلنى ولن تقتل نفسك طبعًا لأنك تدخرنى لمتعتك. فلماذا تحمله إذن؟» قال: «لأقتل به من علمك كرهى». فضحكت، ولكنها كفت فجأة وقد خطر لها أن لعلى المعنى إبراهيم، وصاحت وقد ارتفعت يدها إلى جانبها: «لا لا لا لا». فدنا منها ورماها بنظرة فيها من الغضب والغيرة معان. وقال: «تحبينه؟» فرفعت رأسها وحدجته بنظرة المتحدى: «وما شأنك إذا كنت أحبه أو لا أحبه؟» قال: «يا للجبانة.. لا تجرئين حتى على الاعتراف بحبه.. وإذا كنت لا تحبينه فلماذا تفضلين رجلاً على رجل؟» فصاحت: «يا سافل.. كيف تجرؤ على هذا الكلام؟» قال: «أتحسبين أنى لا أعرف أنك تخرجين معه. فهل تريدين أن تزعمى أنكما تخرجان للصلاة والتعبد؟» فلم تجبه أنفة ومضت عنه إلى سلم السيارة فقعدت عليه، وتناولت سيجارة أشعلتها. ولم يكن التدخين عادة لها، ولكنها كانت تجد فيه راحة وتفيد منه سكينة. ودنا منها وأشرف عليها وقال: «هذا أحسن.. نعم فكرى بهدوء فى هذا.. أعنى أنى أنا أولى منه بك». فانتفضت قائمة ولطمته على وجهه، ثم انحطت على السلم وكادت تسقط على الأرض مغشيًا عليها، فما كانت تشعر أن فيها ذرة من القوة، لولا أنه انطلق يقهقه كالمجنون فرد هذا إليها رشدها، فرفعت رأسها إليه وحملقت فى وجهه فانحنى عليها وقال: «هذه اللطمة إقرار منك بأنك فهمت ما أعنى أتم فهم وأدقه. ألست أولى منه؟ اعترفى بهذا أيضًا. اعترفى بيدك إذا كنت لا تجدين لسانك. هذا خدى الطميه مرة أخرى». فكادت تبكى من الغيظ والشعور بالعجز. ولكنها ردت الدموع مخافة أن تشى بما هى فيه، وودت لو مرت فى هذه اللحظة سيارة لتصيح بمن فيها مستنجدة ولكن الشمس كانت تنحدر والأفق يلتقى بالصحراء، والطريق يذهب شمالاً وجنوبًا كالنهر، ولا يبدو شىء مقبل من هنا أو هنا. وأحست بالحاجة إلى تمزيق وجه صادق بأظافرها أو تمزيق ثيابها هى، وخطر لها أنه قد يروقه — فإنه حيوان — أن يرى المحجوب من مفاتنها. فلم تمزق ثيابها ولكنها ضمتها على صدرها. ولم تفت صادقًا هذه الحركة فسألها: «هل تشعرين ببرد؟» قالت: «نعم»، بصوت خيل إليها أنه خارج من جوف الأرض لشدة خفوته وضعفه، فخلع سترته وأراد أن يلقيها على ظهرها فانتزعتها من يده ورمتها على الأرض وداستها بقدمها. وسرها أنها مرغت فى التراب شيئًا له وتمنت لو كان هذا وجهه. ولكن صادقًا لم يعبًا بهذا شيئًا وقال وهو يقعد على الأرض فوق السترة: «أشكرك.. إن السترة أوثر من الرمل، ثم إن الرمل لا يوسخ شيئًا، وهذه مزية الصحراء. وبعد قليل يدخل علينا الليل ويلفنا فى شملته.. وليل الصحراء بارد يا مولاتى.. وستضطرين أن تلوذى بالسيارة وستحتاجين إلى قربى للدفء.. أى نعم.. الخيرة فى الواقع.. لا بد أن الله أراد هذا، وإلا فلماذا تعطلت سيارة جديدة كهذه فى قلب الصحراء، وما اشتراها الوالد المحترم إلا منذ أربعة شهور ليس إلا؟ وفى أربعة شهور لا تخرب السيارة الجديدة. هى مشيئة الله يا مولاتى». فألفت نفسها تقول: «أليس حتى لأبيك احترام عندك؟» فقال: «وهل من قلة الاحترام أن أدعوه الوالد المحترم؟ سبحان الله العظيم وتالله ما أظلمك». فلم تجب. وبعد برهة عاد يقول: «معذرة يا ستنا ميمى … سؤال لا يليق ولكن أظن الموقف يوحى به.. أترى لو كان إبراهيم مكانى وكانت سيارته هى التى تعطلت بك معه، أكان يسوؤكما أن تتاح لكما هذه الفرصة؟» فوضعت رجلاً على رجل وأشاحت عنه بوجهها. ومضى هو فى تعذيبها فقال: «إن له سيارة لا بأس بها ولكنه يتركها للزوجة المسكينة.. يضحك بها عليها.. يلهيها بها.. ويخرج معك فى تاكسى أو مركبة خيل.. هذا الرجل لا سافل ولا نذل.. ولا وغد ولا شىء مما تفضلت به على من النعوت الجميلة. وأنا السافل، أنا النذل.. ليس لى زوجة وإنما لى قريبة أحبها ومن حقى أن أحبها.. وهى أيضًا ليس لها زوج.. ومن واجبها أن تتوقع أن يرغب فيها من كان مثلها.. لا امرأة له.. ليس فى هذا ما يستغرب.. لأنه هو الطبيعى.. ولكن الطبيعى ليس هو الطبيعى فى نظر المدموازيل ميمى.. لأن المدموازيل ميمى ترى أن تهب نفسها لرجل له زوجة وتضن بنفسها على رجل ليست له زوجة.. ويصبر هذا المحروم بغير حق.. ويطول صبره حتى ينفد.. ولكل شىء آخر. وبعد أن ينفد صبره تستغرب المدموازيل ميمى أنه لم يبق له صبر، وتقول له إنه نذل.. نذل لماذا؟ لأنه يحبها بحقه.. يحبها كما تعرف فما كتمها حبه.. ولو كانت تقبلت حبه لما احتاج أن يلجأ إلى الوسيلة التى يشير بها اليأس ولكنها أيأسته.. أيأسته حتى لم يعد فى وسعه أن يصدقها إذا قالت له، وأقسمت إنها تتقبل حبه لأن هذا لن يكون منها إلا محاولة للإفلات من يده. كونى منصفة وقولى إن هذا الرجل معذور». فثارت به تلعنه وتقول له فيما تقول: «وماذا تظننى؟ سلعة.. كتابًا على رف؟ أحبب من تشاء، ولكن أليس لى رأى فى نفسى؟» فقال بتهكم «ترى ماذا أعجبك من إبراهيم هذا؟ سفسطته وثرثرته؟ فلسفته العجر؟ ماذا بالله؟ لا بد أن يكون شىء أعجبك؟» وفى هذه اللحظة أقبلت سيارة تخطف فنهضت وجعلت تشير إليها ولكنها مرت ولم تتلبث. وكان صادق قد التفت أيضًا إلى السيارة وأشفق أن تقف، فلما مضت تبسم وقال: «لا فائدة يا قريبتى العزيزة.. وطنى نفسك على التسليم لقضاء الله». وارتمت ميمى على السلم مرة أخرى وقد بدأ اليأس يخامرها. وماذا يكون مصيرها إذا ظلت كل سيارة تقبل وتمر خطفًا ولا تقف؟ وسيجئ الليل كما أنذرها فتخفى فى ظلامه الإشارة. وقد لا يسمع صوتها أحد ممن فى السيارات إذا صاحت مستنجدة، ومن يدرى فقد يخطر لهذا المجنون أن يكمم فمها ويقيدها. وقال صادق: «اسمحى لى.. أعنى أنى أرجو أن تنهضى عن السلم فإنى أريد أن أجر السيارة عن الطريق مسافة متر أو مترين لتكون ونكون فيها فى مأمن من الحوادث. ألا توافقين؟» فنهضت وهى تقول: «وماذا يهم؟» وتمنت أن يصدمها صادم فيكون هذا مخرجًا لها. وأقبل صادق على السيارة يدفعها ويحولها عن الطريق إلى الأرض الرملية، على حين وقفت تتلفت يائسة فما كانت ترى شيئًا. وانحدرت الدموع بكرهها فكفكفتها. وكان صادق مشغولاً بالسيارة وتحويلها — يدير العجلات ثم يروح يدفعها من الأمام وهكذا — حين أقبلت سيارة صغيرة لم ترها ميمى إلا وهى على مسافة قصيرة، فاندفعت إلى وسط الطريق ورفعت كلتا يديها وراحت تشير إشارة الوقوف، وتنظر عن عرض إلى صادق وكان ظهره إليها فهو لا يرى. وخطر لها أن السيارة الآتية قد تدوسها إذا ظلت واقفة فى طريقها هكذا، ولكنها كانت لا تبالى أوتعبأ شيئًا بما عسى أن يصيبها، بل لقد تمنت أن تداس، فإن هذا منج على كل حال. غير أن السيارة لم تدسها بل وقفت على مترين منهاً، ونزل منها إنجليزى رفع القبعة وسألها هل يستطيع أن يساعدها. وإذا بها تسقط على الأرض مغشيًا عليها. وأدركها الرجل وحملها على يديه، ونظر إلى صادق وسيارته ورأى ما يصنع، فمضى بميمى إلى سيارته هو ووضع رجله على السلم وأراح جسم ميمى على فخذه، وفتح الباب وترفق بها وهو يضعها على المقعد الخلفى، ثم شرع يحاول إنعاشها وردها إلى الدنيا. وتنبه صادق إلى ما هو حاصل، فترك السيارة وأقبل على الرجل فقال له هذا: «والآن يا صاحبى يحسن بك أن تركب معنا أيضًا. دع السيارة إلى الصباح، وفى الإسكندرية تستطيع أن تجد من تبعث به ليصلحها». فهمَّ صادق بكلام، ولكنه كان لا يحسن الإنجليزية، وكان إلى هذا يحس أنه لا فائدة من المكابرة، فقد خرج الأمر من يديه، وأراد شيئًا وأراد الله خلافه. فعاد إلى السيارة وحمل ما فيها ونقله إلى سيارة هذا الإنجليزى المتطفل الذى جاء فى وقت الحاجة إلى غيابه. وفتحت ميمى عينها فتشهدت واعتدلت على المقعد، ومالت قليلاً إلى الأمام ولمست كتف الرجل وقالت له لما أدار إليها وجهه قليلاً: «أشكرك»، فابتسم الرجل وهز رأسه ولم يزد. ثم كأنما تذكرت شيئًا فاعتدلت مرة أخرى والتفتت إلى صادق وقالت له: «هات هذا المسدس». فلم يسعه إلا أن يخرجه ويناولها إياه، وهم أن يقول إنه فارغ. ولكنها فتحت النافذة وقذفت به على الرمل، وقالت لصادق وهى تغلق الزجاج: «ابحث عنه حين تعود لتأخذ السيارة». فقرض صادق أسنانه ولم يقل شيئًا. لم يحمد إبراهيم من ميمى أنها قصت عليه ما كان من صادق معها فى رحلتهما المضطربة. فما فيها ما يخف على اللسان جريه أو على الأذن سماعه وإن كانت قد انتهت بخير على ما روت، ولم يشك فى صدقها، ولكنه كان وهو يصغى إليها يحس كأنها تصكه بالحجارة، وكان أمرأ يكره المشاكل والتعقيد والضجات ولا يحب وجع الرأس والقلب. وزاد امتعاضه أنه شعر أن ميمى تحمله تبعة بغير حق. وكان قد عاد من رحلته مع تحية إلى بلدة أبيها مسرورًا راضيًا، شرحت صدره مناظر الريف وبساطة أهله وحفاوة صهره، وإقباله عليه ومساناته له، فأضمر أن يسر تحية ويبرها، وكان يتكلف ذلك فى أول الأمر، ثم ألفى نفسه محمولاً على متن التيار كالممثل الذى وافقه دوره فاستغرقه حتى نسى أنه يمثل. وكانت تحية ترى إقباله عليها ورغبته فيها وتحريه ما يسرها فتحمله على محمل الحرص على إخفاء الفتور الذى عراهما، عن أبيها وقومها. وكان هذا مبتغاها هى أيضًا فسايرته متكلفة مثله ثم شامت منه الإخلاص، واَنست صدق السريرة، فهتف قلبها، وازدهاها الفرح وأولته من نفسها ما كان بعد العهد به قد فترها عنه، فصارا كاللذين خرجا للتنزه وجاء كل منهما بطعامه فتاَكلا فى موضع واحد، وعادا إلى القاهرة وما يذكران أنهما فازا بمثل هذه السعادة. ولو أن إبراهيم سئل عن إحساسه لما التقى بميمى بعد هذه الأوبة المرضية لما استطاع أن يبين، فقد كان مغتبطًا بهذا الصفو بعد الكدر، وكان لا يفكر إلا فى طيبه ولا يعنى إلا باستدامته. وكانت حلاوة ما سقته تحية من حبها المتين قد بغضت إليه المخادعة والغش. ولم يخطر له أن ينقض عهد ميمى، ولكنه أحس أنه لا يستطيع أن يعطيها باللسان ما ليس فى القلب. وانتوى أن يرتد بها رويدًا رويدًا إلى حد من الصداقة يرضيانه ولا ينكره عليهما منكر. وكان يدرك أن هذا ليس مما يهون، ولكنه توكل على الله وآلى أن يمضى فى هذا النهج الذى بدا له أنه أحكم ما يستطيع أن يأخذ فيه. وكان يقول لنفسه وهو فى طريقه إلى ميمى إنه لم يملها وإنها لا تمل ولكنه فاز بطيبات زهدته فى الطلب. وكان كالشبعان الذى أكل حتى هنئ، فهو لا يستطيع أن ينظر بعينيه إلى طعام، وإنه من يدرى؟ لعل الصداقة التى يرجو أن يقيم على حدودها علاقته بميمى تكون أمتع لهما جميعًا. ولميمى مستقبلها وستتزوج يومًا ما وليس هو بالذى يستطيع أن يغنيها عن الزواج، وأنه لا سنه ولا حاله تسمحان باستقامة الأمور على الأيام مع ميمى مع سنها وحالها. ولكن هل تقتنع المرأة بالصداقة؟ أو هل تسمح لها طبيعتها أن لا تخلطها بالحب والجنس؟ وخشى أن لا تستطيع المرأة ذلك مع الرجل كما يستطيعه الرجلان.. فإن قطب الرحى فى حياة المرأة هو الغريزة النوعية، ولا حيلة لها فى هذا ولا لوم عليها فيه، فإنه الذى تقضى به طبيعة خلقها والوظيفة التى كلفتها ووكلت إليها، ولكنه مع ذلك رجا أن يجد من عقل ميمى وحكمة طبعها عونًا له. ولماذا لا يحضها على الزواج ويزينه لها؟ ولكن أين أو من أين يجيئها بهذا الزوج الصالح؟ وتالله ما أثقل أن يكلف نفسه عناء هذا السعى أوحتى أن يفكر فيه. ولقيته ميمى بهذه القصة فاستهجن موضوعها واستنكر ما انطوى عليه تحديثه بها من إشعاره أن هناك تبعة ولو ضمنية خفيفة يحملها. ولم يعبأ شيئًا بتهديد هذا الفتى، وإن كان لا يخفىِ عليه ما عسى أن يجر إليه طيش الشباب وحنق الحب الفائر المُحلأ عما يطفئ الغلة وينقع الظمأ. ولكنه لم يجعل باله إلى هذا، وبدا له أن العقدة كلها تحل إذا هو حل عقدته. وكان همه كله فى هذه الاَونة أن يشعر أن كل ما يفعل أو يترك لا يمكن أن يكون فيه ما يكتم عن تحية أو ما يعد خيانة لثقتها به وائتمانها له. وإن لميمى عليه لحقًا أيضًا. ولكن حقها يجىء بعد حق تحية ما فى هذا شك. أو هكذا يجب أن يكون الأمر. وقال لميمى بعد أن أصغى إلى القصة: «إن صادقا هذا قريبك، وهو شاب، ثم إنه يحبك، وليس فى هذا ما يعاب أو يستنكر، وإنه ليثنى عليك حين يقول إنه يحبك، والحب مجهوده فهو الحقيق أن يتيه به عليك. نعم أنت الباعث، ولكن الطبيعة هى الباعث الحقيقى، وما أنت إلا أداة وإنها لأداة قوية ثمينة ولكنها أداة ليس إلا، وأنت كالزهرة على عودها، ولا تستوى زهرة فى صحراء لا يراها فيها أو يحسها مخلوق، وأخرى حيث يراها الناس ويحمدون منظرها وطيب مشمها، فأنت حقيقة بأن تفرحى بحب هذا الفتى، والذى بدا لك من جنونه هو من فورة هذا الحب، وعنف عصفه بنفسه، فأنت أولى بأن تزيدى سرورًا لا أن تسخطى وتنفرى. وما أراك أحسنت إلى نفسك بجحود فضله، نعم فإن حبه من فضله عليك. ولو ثقل على نفسك هذا المعنى فإنه الحقيقة، وما أراك أنصفته أو أنصفت عقلك، فأين كان عقلك حين استثرته وهيجته وأغريته بهذه الحماقة؟ قالت متعجبة: «وماذا كنت تريد منى أن أصنع؟ أترانى كتابًا على رف من شاء أن يمد يده ويتناوله فله ذاك؟» قال: «ليس الأمر كما تتصورين، لا أنت كتاب ولا هو يريد أن يغتصبك، واسمحى لى أن أقول لك إنك عمياء». قالت: «عمياء؟ ماذا تعنى؟» قال: «أعنى أنك تحبينه وأنت لا تدرين». فضحكت. قال: «لك أن تضحكى ولكنك ستعرفين أنى صادق الفراسة حين تستطيعين وأنت ساكنة النفس أن تديرى عينيك فى قلبك وتتبينى ما فيه». قالت: «كله إلا هذا». قال: «والحقيقة أيضًا أن الذى يستر حبك عن عينك هو خوفك وفزعك من حبه الطاغى العاتى». قالت: «أما أنى أخافه وأفزع منه فصحيح وأما أنى أحبه فلا». قال: «هذا أكبر ظنك.. إذن قولى واصدقينى». قالت: «إنك تعلم أنى لا أكتمك شيئًا». قال: «ليتك تفعلين أحيانًا». قالت: «لماذا؟» قال: «لتزيد فتنتك.. ليس مما يطيب للمرء فى كل حال أن تكون المرأة كالصفحة المرفوعة لعينه، وكل ما فيها مسطور بالخط الكبير». فنظرت إليه كأنما تحاولى أن تستشف المعنى من هيئته لا من ألفاظه، ولكنها لم تقل شيئًا ولعلها لم تستطع أن تستوضح شيئًا. ومضى هو فى كلامه فقال: «ألا تحسين أنك تتمنين لو كان يلقاك هادئًا غير فاتر». قالت: «هذا أشهى إلى كل نفس، فما لأحد لذة فى هذه الثورات المزعجة». قال: «ليس إلى كل نفس، ولا إلى نفسك أنت. وإنه ليسرك — فى قرارة نفسك — أن حرقاته تهيج من فرط حبه لك. ولكن عنصر الفزع يستر هذا السرور. ولو كنت تشعرين بالأمن أو بأن لك حيلة أو أن زمامك لا يوشك أن ينتزع من يدك لبدا لك السرور المحجوب. وإنه ليسرك أيضًا أن ينتزع الزمام من يدك، ولكن الأوان لم يأت، لأنك لم تفطنى إلى حبك له فأنت لا تزالين تقاومين الشعور الخفى بأنك يوشك أن تغلبى على أمرك وتلقى السلاح وتفتحى ذراعيك». قالت: «هذه خيالات.. إن خيالك يجمح بك». قال: «كلا … ليست هذه خيالات وإنما هى حقائق أراها ماثلة كما أراك. وستعلمين بعد حين أنى على صواب». قالت: «لماذا تتكلم كأنى لست إلا كتابًا تبدى فيه رأيك؟» ففطن إلى مرادها وأغضى عنه وقال مجيبًا: «لأن فى وسعى أن أنتزع من نفسى شخصًا اَخر، أى أن أتجرد وأدرسه كأنه إنسان غيرى على قدر ما يتيسر هذا لإنسان». قالت: «ولكنى أحس كأنك لا يعنيك مصيرى». قال: «لو كان لا يعنينى لما حاولت أن أفتح لك عينيك. إنى أبغى لك السعادة وأدلك عليها». قالت بلهجة التهكم: «السعادة مع هذا الفتى؟» قال: «نعم مع هذا الفتى. إن عقلك يقول لك إنه فتى عاطل، وأنت فتاة تكدحين لكسب رزقك، ويقول لك عقلك وما عودك التدريس من احترام نفسك إنه لا يليق بك أن يستولى على قلبك فتى عاطل، أو أن يعرف عنك أنك قد تدلهت بمثله، ولكن قلبك يحن إليه بل يتفطر لهفة. هل تستطيعين أن تذكرى لى ماذا كان شعورك الحقيقى لما تناولك بين ذراعيه كرهًا، وأهوى عليك بالقبل الحرار، وأنت تحاولين أن تتفلتى من عناقه العنيف؟» قالت وقد اتقدت وجنتاها: «هذا سهل. لم يكن لى شعور غير الاشمئزاز والنقمة، ولو استطعت أن أمزق له جلدة وجهه لفعلت». قال: «لا شك، لا شك. ولو شعرت بغير ذلك لما كنت ميمى التى أعرفها، بل لما كنت امرأة لها قيمة. ولكن ألم تشعرى أن دمك قد صار أسرع فى عروقك؟ ألم تحسى بمثل الدوار الخفيف الذى يجعل الأعضاء تسترخى؟ فكرى.. أديرى عينيك فى قلبك». قالت: «نعم. ولكن هذا كان من الغيظ والضعف». قال: «ومن شىء آخر. ولو عنف بك هذا العنف فى بيتك وأمك فى غرفة أخرى بحيث تسمع إذا نوديت لاختلف الحال.. كان الاشمئزاز يبقى، ولكنه كان خليقًا أن لا يبلغ مبلغًا يحجب الشعور باستطابة القبلات، أو يمنع الرغبة فى المجاوبة أن تظهر ولو اَثرت أن تقاوميها.. ولكن عامل الخوف فى الصحراء الموحشة تغلب». قالت: «ماذا تريد أن تقول؟» قال: «أريد أن أقول إنك تحبينه يا فتاتى. أصدقى نفسك فإن هذا يكون أعون لك فى موقفك». قالت: «موقفى؟ ما هو موقفى؟ إنه لم يتغير». قال: «سيتغير.. لا تعجلى.. هذا الفتى يحبك وأنت تحبينه فواجهى الأمر من هذه الناحية فإنه أجدى عليك». قالت: «يخيل إلى أنك تريد أن تتخلص منى.. قل هذا بصراحة إذا كنت تعنيه وتضمره». قال: «لا.. لا خلاص لى ولا رغبة لى فى خلاص.. ولا خلاص لك منى إلا بإرادتك. إنما أريد أن أوجهك الوجهة القويمة التى تصلح بها حياتك». قالت بضعف: «ولكنى لا أحبه.. ثم إنه عاطل». قال: «ما دمنا قد دخلنا فى أسباب عدم الحب، فقد اعترفنا بأن الحب هناك». قالت: «إنى لم أعترف». قال: «بل اعترفت.. وعلى أنى لا أطلب اعترافك لأنى أعرف». قالت: «أما إنك لغريب اليوم.. ماذا جرى؟» قال: «الذى جرى هو أنك تحبين هذا الفتى.. ألا تذكرين أنى أوصيتك بمحاسنته؟» قالت: «أكان هذا هو السبب؟» قال: «تقولين إن هذا الفتى عاطل. وإنه لكذلك. وفى يدك أنت كما قلت لك من قبل أن تصلحى من أمره.. أن تجعلى منه شيئًا له قيمة فى الحياة. إن كونه يحبك فرصة لك.. وجهيه.. بثى فى نفسه الثقة والاطمئنان.. أطمعيه فى حبك واحترامك.. إنه الاَن حائر ضال لا يهتدى، حبه المزدرى يغريه بالاستحواذ عليك بالقوة … يريد أن يعلمك احترامه بالوسيلة الطبيعية الساذجة.. بالقوة … وسيلة أهل الكهوف من أجدادنا الأقدمين.. ولكنه إذا آنس منك الاستعداد لاحترامه، إذا التمسه من طريق آخر فلا أحسبه يتردد فى اكتسابه من الطريق الذى تصفين وتؤثرين. طاوعينى وأطمعيه فى احترامك، فإن به حاجة إليك. يكفى أنه قريبك فله عليك هذا الحق.. حق التوجيه الصالح». قالت: «هذا واجب أبويه قبل أن يكون واجبى». قال: «بل هو واجبك الآن. انظرى إليه على أنه محبك المفتون بك لا أنه ابن أبويه.. وكابرى إذا شئت فى حبك له، فما هذا بالذى يقدم أو يؤخر، وسترين حين يهدأ وتهدئين أن الأمر كما أصف، وأنى أستحق منك قبلة الشكر». قالت برقة: «أترانى أضن عليك بالقبلة حتى تؤدى ثمنها؟» قال: «إنما أريدها فى أوانها قبلة شكر.. قبلة شكر تستطيعين أن تمنحينى إياها على عينه وبرضاه.. قبلة يشاركك هو فى معنى الشكر الذى يبعث على منحها». فأطرقت كالمفكرة ثم رفعت رأسها وقالت: «أتعلم ماذا؟ لكأنى بك تغرينى به.. لا أدرى.. ولكن هذا ما يبدو لى.. لعلى مخطئة فاعذرنى». قال: «لست أغريك به فما بك حاجة إلى الإغراء. وعلى أنى لو كنت أغريك به لما كنت إلا حكيمًا». فابتسمت وقالت: «دع الحب وقل لأى شىء يصلح هذا الفتى؟» قال: «لماذا لا يوليه أبوه شئون زراعته؟ إنه قوى وذكى وخفيف كالثعلب وآفته أنه لا يعمل شيئًا.. لو كان مغرى بالألعاب الرياضية، أو ذا عمل يشغله زمنًا لما أمكن أن تبلغ ثورته هذا الحد الذى يفزعك ويحجب عنك إيثارك له». قالت متهكمة: «لقد كانت المحاضرة يا سيدى الأستاذ مدهشة، وأظن أننا نستحق شيئًا من الراحة بعدها، فهل تسمح بأن أدق الجرس؟» قال: «كان فى وسعك أن تدقيه من اللحظة الأولى. ومعذرة إذا كان موضوع المحاضرة يا تلميذتى النجيبة قد ثقل عليك.. ولكنك تعرفين الأساتذة.. ثرثارين.. لا يكاد المرء يفتح لهم بابًا حتى ينطلقوا كالقنبلة.. ما علينا ولنخرج إلى فضاء الله بعد هذه الجلسة المتعبة». ونهضا وذهبا يتمشيان. ولبثا هنيهة لا يتكلمان. وهو يفكر فيما قال لها وكان مؤمنًا بصحة نظرته وصدق فراسته، وراضيًا عن نفسه لأنه فتح لها عينها، وبدا له أن هذا خير حل، وأنه المخرج المأمون من ورطته. وهى تفكر فيما سمعت ولا تكاد تصدق ولا تريد أن تسلم. ثم التفتت إليه فجأة وقالت: «ولكنى لا أحبه.. إنما أحب..». وأمسكت. فقال ولم يلتفت إليها: «لا تخدعى نفسك.. كلا لست تحبين أحدًا سواه. نعم، أعرف أنك لا تنطوين لى على كره. بل أستطيع أن أزعم أنك تحبيننى ولكنه حب من طراز آخر. هو تعلق بمن أيقظ شعورك وأزخر تيارًا كان راكدًا وأفادك بعض النعيم بشبابك.. تعلق بمن أعدك لما أنت حقيقة به من نعيم الحياة.. ثم تفوزين بالنعيم المذخور لك فتشعرين أن الغدير يصب فى نهر عظيم، أو أن النهر يصب فى بحر. وللنهر جماله، وللغدير حسنه وطيبه، ولكن البحر أروع وأجل، وأعظم استغراقًا للنفس. وتلقيننى وألقاك فنتساقى التذكر فنكون كأننا تساقينا خمرًا كما يقول الشريف، ونحمد ما كان ونشكر الله عليه، وتظل ذكريات هذا العهد الحميد رباطًا وثيقًا.. أليس هذا أجمل؟» فوضعت أصابعها على ذراعه، وقالت: «مالك تتكلم كأن هذا وداع؟» قال: «هو وداع.. ليس بالمعنى الذى يسبق إلى الذهن. كلا.. ولكنى انظر إلى غد فأراك زوجة صادق.. وأراك راضية ناعمة قريرة العين.. وأرانى فرحًا بك وبسعادتك مغتبطًا بأنى يسرتها لك، وأعفيتك من مشقات التخبط حتى تناليها فيكون هذا حينئذ وداعا.. توديعًا لعهدنا الخاص». فوقفت وقالت: «لست أصدق.. كلا، لا أصدق.. ما لك تقذفنى هكذا؟ ألا تمهلنى حتى أتدبر؟ إن رأسى يدور وأعصابى كالخيوط التى اختلطت وتعقدت، ولولا أنك أنت لما أمكن أن يحدث لى ذلك». قال: «وهذا أول يوم أراك فيه غير دائمة الابتسام». قالت: «هذا فعلك». قال: «تبسمى.. تبسمى.. اَه، هذا أحسن.. والاَن تعالى نأكل لقمة فإنى أتضور». وكانا فى الجيزة فمضى بها إلى مطعم على النيل وطلب لها ولنفسه حمامًا مشويًا وزجاجة من البيرة، صب لها قليلاً فى كوب وقال: «هذا نخب سعادتك» قالت وهى ترفع الكوب: «نعم، ولكن معك.. لماذا تريد أن تحرمنى سعادتى هذه؟ إنى قانعة بها ولا أتطلع إلى سواها». قال: «ستتطلعين حين تعرفين نفسك». قالت: «لا فائدة.. إنك عنيد.. وليس هذا عهدى بك، ولكنى لا أدرى ماذا جرى لك.. ولا أرى لى حيلة فيحسن أن أقصر.. ولكنى واثقة أنك ستعود فى الأسبوع الآتى كما كنت». قالى: «وأنا واثق أنك ستهتدين إلى نفسك هذا الأسبوع». فقالت: «كيف يمكن؟ ألم أقل لك؟» قال: «نعم. ولكنك لم تقولى غير ما أعرف.. وسترين أنى أعرف بك من نفسك». فأمسكت. ولما هما بالافتراق فى يومهما دنت منه، وقالت: «إنك لم تقبلنى اليوم». قال: «أقول لك الحق إنى أشعر أن ليس لى هذا الحق». فلم تسؤها قسوته وقالت: «ولكنه حقى أنا ولست أنزل عنه». فضحك وقال: «لا يضيع حق وراءه مطالب ملحاح». وقبلها قبلة من يحس أنه سيحرم مثلها. ولم يفتها هذا الطعم الجديد، ولكنها لم تقل شيئًا. ولما عاد فى تلك الليلة إلى بيته قال لتحية: «هل تعرفين أن ميمى ستتزوج صادقًا قريبها؟» فقالت: «متى؟ من قال؟ لماذا لم أعلم من قبل لأفكر فى هدية؟» قال: «هو هو..! على مهلك.. إنى أنا الذى أقول ذلك.. وليس يعلمه سواى حتى ولا صادق». قالت: «لست فاهمة». قال: «ستفهمين.. وسترين.. كل شىء فى أوانه.. أتحسبين أن المرأة وحدها هى التى تحسن تدبير هذه الأمور؟» فدهشت، وكادت ترتاب، وهمت بسؤال، ولكن وجهه طمأنها. ولكن الأمر لم يكن من السهولة بالمكان الذى يتصوره المرء من حديث إبراهيم مع صاحبته. فقد جمح به الخيال، فراح يتكلم كأنما كشف له عن الغيب. وكان امرأ تستغرقه اللحظة التى هو فيها ما دام فيها، ويفتنه المعنى الذى يخطر له فيسترسل فيه ويصفيه، ويذهله سحر ذلك أو حلاوته عما عداه. وكان لهذا يبدو لعارفيه كأنه أكثر من إنسان واحد. فهو فى سيرته رجل عملى حازم سريع البت، يتناول الأمور من حيث هى أقرب ويمضى إلى غايته من أوجز الطرق وأسهلها وأسلسها. وإذا اعترضته الموانع تدبرها ووزنها وقاس قوتها إلى ما يتقاضاه تخطيها أو تذليلها من جهد. فإذا أيقن إنها هينة أو إذا رأى أن الأمر يستحق العناء، أقدم مصممًا وإلا تحول، غير أسف، إلى ما هو أولى وأرشد. فما كان أبغض إليه من بعثرة الجهد وتبديد القوة فى غير طائل، وتكلف ما هو عبث أو محال استحياء من أن يقال انهزم أو ضعف. ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، واحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. ولكنهم كثيرًا ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف تتحول عنده إلى فكرة، فهى غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة فى بدنه. وقد اعتاد أن يراجع نفسه ويدير عينه فى كل ما فى نفسه من خوالج. وما من عاطفة تستطيع أن تحتفظ بقوة العصف مع هذا «الأجترار» المتواصل. وكان إذا قرأ، أو كتب، يغيب عن الدنيا وما فيها، ومن فيها، ولا يعود له إحساس إلا بما يعالج، فيبدو للناظر رجل خيال لا يعرف الدنيا ولا تعنيه حقائق الحياة لفرط انصرافه عن ذلك كله، وتمام استيلاء ما هو فيه عليه. وكان يكره الضجات وينفر من الأصوات العالية. وكان خافت الصوت يحوج السامع إلى حسن الإصغاء وإرهاف الأذن، ولم يكن هذا عن ضعف، بل لأنه كان يسمع صوته يدوى فى جوانب رأسه من الباطن، فلا يزال يخفضه ويهوى بطبقته حتى تفتر هذه الأصداء الباطنية وينقطع إزعاجها. وأعانه على رياضة نفسه على خفوت الصوت، أنه يرى أن الحديث له لذته وإمتاعه، ولزومه أيضًا. ولكنه جهد معظمه ضائع فى الهواء وذاهب مع الرياح الأربع، فلا داعى لتكليف النفس فوق ما يقتضيه الأمر من جهد. وأحجى أن يدخر المرء كل ما يستطيع إدخاره من قوته، وأن لا ينفقه فى باطل لا خير فيه. وكان لهذا، على كونه ثرثارة، يطول صمته أحيانًا حتى ليثقل على جليسه. وكان إذا مرض أطبق فمه واستغنى بالإشارة عن اللسان، وأبى أن يعوده أو يدخل عليه أحد، حتى لا يتكلف جهد الكلام أو الإصغاء، وليحتفظ بجهد نفسه كله لمغالبة الوعك. ومع ذلك كان يتفق وهو فى بيته ومع زوجته وبين ضيوفه أن يغيب عنهم جميعًا، وينطوى على نفسه فلا يعود يسمع ما يقال، أو يحفل ضجة الحديث فكأنه فى خلوة تامة، أو كأنه فى غيبوبة، لولا أن الوعى لم يفارقه. وكانت تحية تعرف فيه هذه القدرة — وما كان يسعها إلا أن تعرفها — وكانت ربما مازحت ضيوفها وراهنتهم على أن ليس فى وسع أكبر ضجة أن ترده إلى الدنيا إذا غاب بنفسه عنها. فكانت تفتح «الراديو» ولا تزال ترفع طبقة الصوت شيئًا فشيئًا، حتى يبلغ أقصى قوته وهو كأنه دمية، أو ليس من بنى الإنسان أو أصم أو مذهوب بسمعه، فيضحك الضيوف ويستغربون. ويبلغ من عجبهم ودهشتهم أن يخافتوا بحديثهم، حتى يصير همسًا، ويكون أبعث على تعجبهم أن الهمس يوقظه ويرده إليهم، كما ينام المرء وهو فى «القطار» على ضجته حتى إذا بلغ المحطة وسكنت الضوضاء استيقظ. وراح إبراهيم بعد ذلك الحديث الذى ألح فيه على ميمى بأنها تحب صادقا وهى لا تدرى، يسأل نفسه، على عادته فى مراجعتها، ألا يمكن أن تكون فراسته قد خانته؟ ولماذا لج فى قوله لها إنها تحب صادقا؟ أتراه اندفع، بقوة شعوره بالرضى الجديد بتحية وعنها؟ أتراه يريد أن يخرج من ورطة علاقته بميمى؟ ولكن هل هذه ورطة؟ إنها صداقة أفاد منها متعة لا تنسى ولا تستقل. ولكن الأمر لم يبلغ حد التورط فى شىء، وقد سقاها ما يشبه كئوسًا من خمر الحب، ولكنها فى رأيه خمر لها نشوة ولا شك. غير أنها لا تشتد لها سورة، ولا يأخذ فى شاربها دبيبها، ولا يعنف به تمشيها. غير أنه من يدرى؟ إن القليل الهين فى ظنه قد يكون كثيرًا فى إحساس ميمى. أليست قد قالت له إنها تحبه؟ ولقد أمسكت وصدت نفسها عن إتمام الجملة. ولكن الجملة الناقصة كانت أفصح وأقوى. وما ردت لسانها إلا لعلمها أنه يستثقل دوران اللسان بألفاظ الحب، ويستهجن اللغط به ويؤثر حقيقته على وصفه، أو لعلها خافت أن لا يصدقها. فقد قال لها مرارًا إنه لا يصدق أن امرأة يمكن أن تحبه لما يعرف من النقص فى نفسه، والقصور عما يجعل المرء جديرًا بالحب، وأنه من أجل هذا يؤمن بالصداقة ولا يؤمن بالحب. ولكن من يدرى مع ذلك؟ إن هؤلاء النساء أمرهن عجيب والذى يستطيع أن يعرفهن ويفهمهن على حقيقتهن، لم يخلق بعد. ولقد قيل إن المرأة خلقت من أحد أضلاع الرجل. فليكن … فما يدل هذا إلا على أنها قريبة منه، ولكن خلقها غير خلقه وبدنها غير بدنه. واختلاف التكوين يؤدى إلى اختلاف الوظائف فاختلاف أساليب التفكير والإحساس.. ولكن ماذا يكون إذا صح أن ميمى تحبه؟ هل يتفق الحب والقناعة وانعدام الغيرة؟ إن ميمى قانعة راضية لا تطمع فى غير ما هى فيه ولا تتطلع إلى خلافه أو مزيد عليه، ولا تبدو عليها رغبة فى الاستئثار به، أو غيرة من امرأة أخرى، أو امتعاض من الحظ الأوفر المذخور لتحية من قلبه وحياته. بل إنه لينزل تحية منزلة القداسة ويجعلها فوق أن يجرى حديث عنها بينهما، أو بينه وبين إنسان آخر — رجلاً كان أو امرأة — ومع ذلك لا يثقل عليها أنه يضعها فى هذا المحل الأدنى، وأنه يرفع تحية هذا المقام الكريم الذى لا يتسامى إليه اللحظ. فأى حب يكون هذا الذى تحبه ميمى، إذا كانت تحبه؟ أتراه يمكن أن يكون من ذلك الضرب الخيالى الذى يعز فى الحياة والذى تكون فيه التضحية بالذات، وإنكار النفس بل فناؤها، لذة ما بعدها لذة؟ وحدث نفسه أن هذا كلام فارغ، وأن الأقرب إلى العقل، والأرجح فى الظن، هو أن ميمى لا تنطوى له على أكثر من صداقة كريمة لا تبلغ درجة الحب المستغرق الاَخذ بالكليتين. ولكن هبها.. هبها تحبه؟ إنها إذن تكون مسكينة فما يستطيع أن ينيلها فوق ما تنال من وده إلا بخيانة تحية. وهو لا ينوى ولا يستمرئ أن يخونها، ولا موجب لأن يعنى نفسه بهذا. ولكل شىء أوانه، ولكنه مع ذلك لم يسترح، ولم يكف عن تقليب الأمر على كل وجه. ولم تكن ميمى أقل منه حيرة، وقد عادت بعد هذا اللقاء الأخير، وهى تحس كأنها تمشى على رأسها. فقد باغتها إبراهيم وألح عليها ولم يترفق بها. فكانت كالسابح الذى فاجأته موجة عظيمة، وغمرته ودفعته، فهمه أن يرفع رأسه فوق الماء ليتنفس وينظر أين هو. وكانت قبل اليوم لا تفكر فى أمرها معه، ولا تحاول أن تتبين حالها ومكانها وموقفها. وكانت تذهب إلى لقائه، كما تذهب إلى مدرستها بطبيعة الحال، أو كما تستيقظ من النوم، لأن هذا هو الذى يكون ولا يكون سواه، سواء أفكر أم لم يفكر فيه الإنسان. وكان التعليم ربما ثقل عليها أحيانًا، وشعرت بالزهادة فيه، والرغبة فى الانقطاع عنه، والقعود فى البيت والانصراف إلى شئونه. وكانت تحسن الطهو، وتدبير أمور المنزل، ولا تكف عن العمل فيه فى أيام البطالة، مؤثرة ذلك على الخروج إلا فى اليوم الذى تلقى فيه إبراهيم. فقد كانت تنفض يدها من كل شىء وتتخلى لموعدها معه. ولا تفعل ذلك وهى مضطربة، أو متطلعة، أو متلهفة، بل كأن هذا بعض عملها اليومى. وكان الذى تعرفه أمها، وناظرة مدرستها، وزميلاتها المعلمات، أنها فى ذلك اليوم المعين للقاء إبراهيم تذهب لإعطاء «درس خصوصى» لإحدى البنات فى بيتها. وكانت الناظرة تحمد لها حسن إقبالها على عملها وإخلاصها فيه، وعنايتها به، وندرة تخلفها، فأخلتها فى ذلك اليوم من العمل بعد الظهر، ورتبت لها جدول دروسها على نحو يتيسر لها معه أن تتغدى فى بيتها، ثم تذهب إلى «درسها». وكانت زميلاتها المعلمات ربما عابثنها مازحات وسألنها عن هذا الدرس العجيب الذى استمر سنتين، ولم يختلف موعده مرة واحدة؟ ولكنهن كن يرين جدها واحتشامها، وعدم اختلاف حالها عن المعهود من إشراق ديباجة الوجه، وافترار الثغر، وحسن الأدب، وسكينة النفس، فلا يخالجهن شك، ولا يستربن. وقد ائتمرن بها مرة مع الناظرة، وأوهمنها أن إحدى زميلاتهن مرضت فجأة، وأن عملها بعد الظهر لابد من توزيعه على الباقيات الخاليات وهى فى جملتهن. وكان ظنهن أنها ستمتعض أو تعتذر، ولكنها تقبلت «الحصة» الإضافية الموهومة بابتسام، وزادت فسألت عن عنوان المعلمة لتعودها، فارتبكن ثم أنبأنها بالحقيقة، فلم يبد عليها أن إعفاءها من هذا التكليف أدخل على نفسها سرورًا خاصًا. وكان الذى سهل الأمر على ميمى أن هذا التكليف لا يؤخرها عن موعدها، وإن كان يحرمها الغداء فى بيتها، وليس هذا الحرمان بالذى يشق احتماله. ولكن زميلاتها ما كن يعرفن هذا، ولا كن يدرين أنها إنما تحرص على الخروج قبلهن، لتلقى إبراهيم وهى فى أمان من عيونهن وفضولهن. فقد تحب إحداهن أن تصحبها، أو تسايرها، فلا تأمن حينئذ أن تطلع على سرها ولو اتفاقًا ومصادفة. ولو سئلت ميمى عن المدرسة، وماذا يحببها إليها لقالت إنها تحب إحدى تلميذاتها، وهى فتاة فى الرابعة عشرة، دميمة معروقة، إلا أنها خفيفة الروح كبيرة القلب. وكانت هذه الفتاة شديدة التعلق بميمى — أبله ميمى، وكانت تهجم عليها وتقبلها كل صباح وعلى مرأى من التلميذات جميعًا. وكانت ميمى تكل إليها بعض عملها، وتستعين بها فى رسم الخرائط، وحمل الكراسات إلى خزانتها، أو درجها، وتلقى إليها بمفاتيحها وتتركها معها. فهى تتولى عنها أمر الخزانة وما فيها من معطف أبيض ومثبنة، ومناديل وصابون وفوط وغير ذلك. وكانت ميمى فخورة مزهوة بحب هذه الفتاة الصغيرة لها. وكانت ربما شعرت أنها تتطلع إلى لقاء إبراهيم فى موعده، كما تذهب إلى المدرسة كل يوم متطلعة إلى قبلة هذه الفتاة المحبة المخلصة. ولكن إبراهيم ليس بفتاة، ولا هو بصغير. اذا كانت لا تظهر لهفة على لقائه، ولا تبدو معه عليها اضطراب، فإنها تدرك — ولا تكتم نفسها — حرصها على ما تفيد منه، ورغبتها فيه. وكزهوها بالفتاة الصغيرة وحبها، زهوها بأن لها صديقًا وامقًا له منزلة إبراهيم وعلمه وأدبه وفضله وسنه وتجربته. ولكن هل هى تحبه حب المرأة للرجل؟ ولو سئلت عن هذا قبل أن يدير لها رأسها بكلامه عن صادق، وإصراره على أنها تحبه وهى غير دارية لما كان جوابها إلا: «نعم، على التحقيق». ومازال الجواب: «نعم»، ولكنه لم يعد بعد هذه الزلزلة: «على التحقيق»، وشعرت أنها تستطيع أن تقول: «لا. على التحقيق»، وبلا أدنى شك إذا سئلت: «هل تستطيعين أن تستغنى عنه وتكفى عن لقائه؟» بل شعرت أنها لا تقول إلا؟ «لا. على التحقيق». وإذا سئلت: «هل تستطيعين إذا تزوجت أن تفارقيه وتبتى صلتك به؟» لا، بل هى تضمر إذا تزوجت صادقًا أو غيره — فما لهذا قيمة — أن تحافظ على صلتها به، كما هى الآن بكل ما تنطوى عليه. وخطر لها أن لعل إبراهيم لا يود ذلك. فإن له لشذوذًا.. وغاب عنها أن من الشذوذ أن تود هى استمرار هذه الصلة بعد زواجها إذا كتب لها الزواج. أو لعله أراد بحديثه أن يمهد للفراق. ولكنها نفت هذا الخاطر، وأبت أن تطيل الوقوف عنده، وقالت لنفسها إن إبراهيم لا ينطوى على خبث أو غدر. وذكرت نفسها بأنه قال لها إنه لا يريد التخلص منها ولا يود معاناة ذلك، وأنه يضن بصداقتها أن يعتريها فتور أو ملال. وحكاية صادق هذه التى طلع عليها إبراهيم بها فجأة، ما الرأى فيها؟ أيمكن أن يكون صحيحًا ما قاله من أنها تحبه وهى لا تدرى؟ وأضحكها أنها يمكن أن تكون عاشقة غير دارية. وهزت رأسها منكرة ذلك. وودت لو استطاعت أن تنتزع قلبها وتضعه أمامها وتعكف عليه فاحصة منقبة مستقصية. وقالت لنفسها إن صادقًا قريبها، وإنها تحبه لهذا. ولكن حبها لقريب لا يمكن أن يشبه حب امرأة لرجل. وهو لا يخلو من مزايا وصفات تحببه إليها، ولكنه طائش وجموح، وعاطل، وخائب. ثم إنه أصغر منها، وهى أسن منه.. تكبره بسنتين، فهى أشبه بأخت كبيرة له. وقد جربت منه ما يفزع وينفر. فهل يمكن أن يكون صحيحًا قول إبراهيم إنه لو انتفى عامل الفزع لبان المستور؟ وهل صحيح قوله إن النفس فى حالة الفزع تكون شبيهة بالماء المضطرب، فلا يستطاع أن يُرى ما فى قاعه ما دام مربدًا ولكن ذلك يتسنى إذا سكن وصفا؟ ربما. ولكن كيف يتيسر ذلك؟ أترانى لو أقبل صادق الآن وهو ساكن وادع لا يثير مخاوفى بكلمة أو إشارة، أو نظرة أو حركة، أستطيع أن أتبين حقيقة هذا الشعور الذى يقول لى إبراهيم إنه مستور، تحجبه الخشية والرغبة الطبيعية فى الدفاع عن النفس؟ وملت هذا الحوار الذى لا يفيدها الاستقرار، وكانت بطبيعتها تؤثر الراحة وتنفر من الاضطراب، وتتقى بواعثه، وتهرب من المثيرات، فكفت وقالت لنفسها إن لها الساعة التى هى فيها، وإن المستقبل غيب، وسيتسع الوقت للتفكير فيه حين يجىء، بما يجىء به، وكل ما أعرفه الاَن أن إبراهيم صاحبى الذى أضن به على الدهر. أما صادق … ومطت بوزها. وكان إبراهيم يتطير من لا شىء، ومن كل شىء. وليست الطيرة فى الطباع، كما يزعم ابن الرومى، ولكنها إلا تكن فيها ليست مما يستغرب. ولعل مكافحتها أدل على معاناتها من الإقرار، فما يغالب المرء غير موجود، أو يصارع معدومًا. وإذا قيل إنه يطرد وهمًا، فالوهم حادث والشعور به حقيقى، وله أصل ينجم منه، وعلة تحدثه. ولم تكن طيرة إبراهيم عن ضعف فى العقل أو نقص فى صحة الإدراك؟ بل كانت بعض ما أورثته النوراستنيا، وتلف الأعصاب. وكان يعرف أن طيرته خرف وكان لهذا يكتمها. ومن ذلك أنه كان يكره أن يصبح على غير وجه «تحية» فإذا أصبح على غيره، ظل يومه متوجسًا غير منشرح الصدر، وكان يستثقل، ولا يهون عليه أن يوقظها ويزعجها فى البكرة المطلولة، فقد كان يبكر فى القيام، وينهض من فراشه — صيفًا وشتاء — حين يبدو الصبح بأصوات العصافير، فيكتفى بأن يذهب إلى سريرها — على أطراف أصابعه — ويتملى بالنظر إلى وجهها الصابح، وربما اتفق أن يكون وجهها للحائط، فيدور حول السرير ويشب، لينظر من فوق شباكه، ومن أجل هذا أقنعها بأن تجعل بين السرير والحائط مسافة شبرين، وزعم أن البقعة خاوية وأن للبيت حديقة فهو لا يأمن أن تدب الحشرات إلى البيت. وإنما فعل ذلك ليتسنى له أن يدخل بين السرير والحائط وينظر إلى وجهها حين تكون مائلة أو نائمة على جنبها الأيسر. وكان لهذا أيضًا يغريها بالنوم على الجنب الأيمن ويزينه لها، ويقول لها، إنه أصح وأرفق بالقلب حتى ولو كانت المعدة فارغة. وكان إذا تعذر أن يراها قبل أن يرى سواها، قصد إلى المرآة وابتسم لنفسه فى صقالها، وقال: «هذا على كل حال وجهى، ولا حيلة فيه، وهو على دمامته أحب إلى من وجوه الناس». وكان يحب أن يرى الهلال — أول ما يراه — وفى يده قطع من النقود الفضية، فينظر إلى الهلال، ثم إليها، ويلثمها ويلمس بها جبينه. وإذا اتفق له ذلك عفوًا، وبغير تدبير سابق، كان أشرح لصدره وأبعث له على الاستبشار. على أنه مع ذلك كان لا يترك الأمر للمصادفة، فيحرص على إدخار بضع قطع فضية لرؤية الهلال، مؤثرًا ذلك على ما فيه من التكلف على رؤية الهلال على وجوه الناس. وكان ينفر من الألوان القاتمة عامة، واللون الأسود خاصة، فينقبض صدره منها ويضيق، ولكنه على هذا، لا يلبس من الثياب ما كان لونه زاهيًا ويفضل ما هو أقرب إلى الحشمة، وأشبه بالوقار. حتى كسوة الكراسى والمقاعد آثر فيها البساطة والخلو من الزينة، وما هو أدعى إلى راحة العين وأبعث على سكينة النفس. حتى الضوء مال فيه إلى الخفوت ونفر من السطوع. وكانت عادته أن ينزع كل صباح ورقة من التقويم المعلق، فإذا أقبل اليوم الثالث عشر من الشهر، زعم أنه سها، وترك ورقة اليوم الثانى عشر، ونزع فى صباح اليوم التالى ورقتين معًا، وطواهما وألقاهما فى سلة دون أن ينظر فيهما لشدة اشمئزازه من رقم ١٣. وكان أبغض شىء إليه أن يفجأه صياح أو صراخ، أو صوت باك أو باكية، أو جنازة أو تابوت، ولو كان فارغًا، وما يجرى هذا المجرى. ومن تطيره أنه أبى أن يقتنى أثرًا فرعونيًا، أو ما هو على غراره فى الصنعة. وكان يفزع من الثعابين والحشرات والهوام بأنواعها، وقد أهدى إليه أحد أصحابه مرة، منشة أو مذبة من صنعة أسيوط وعصا رأسها على هيئة الثعبان فاحتفظ بالمنشة لأنها لا صورة فيها، ودق رأس العصا حتى طحنها، وأبى أن يهديها إلى أحد، أو حتى أن يتركها وينساها فى مكان ما — فى الترام أو فى مقهى أو غير ذلك — لئلا يحيق شرها بأحد. ولم تكن تحية تعرف أنه يتطير. فقد كانت طيرته تخجله، فهو يخفيها، ولا يعدم ما يفسر لها به، ما يبدو من الشذوذ فى سلوكه. وكان يقول لها فى تعليل ذلك إنه لا ضابط هناك ولا قاعدة للمزاج الخاص، والأمر فيما يرتاح إليه الإنسان أو ينفر منه من لون أو شىء لا يرجع إلى العقل، بل إلى الإحساس أى إلى الأعصاب، والأعصاب شىء معقد وبعض حالها موروث، والبعض اكتساب فلا تعجبى، ولكن اعذرى. وكل امرئ مهما جل شأنه، وكبر عقله، وعظم علمه، لا يسلم حاله مما يفتقر فيه إلى تمهيد العذر والصفح، والإغضاء، والتسامح. وفى كل امرئ مواطن ضعف تذكر بأنه — على علو قدره — ما زال من بنى الإنسان المخلوق من الطين الواهى أو الحمأ المسنون.. أى نعم. نحن من الطين، ففينا كل عيوبه وضعفه وهوانه أيضًا يا امرأتى العزيزة، فلا تنسى هذا، وكونى أبدًا منه على ذكر. يقول هذا وأمثاله مازحًا، وعلى سبيل التهوين من الأمر واجتنابًا للصدق فى الإبانة، وهو فى قرارة نفسه يحس بما يسخر منه إحساسًا حقيقيًا يشيع فيه علوًا وسفلاً.. من فرعه إلى أخمص قدميه. واستيقظ يومًا، فتنبه فجأة، ومازالت عينه مفتوحة كمغمضة، إلى أن هذا هو الثالث عشر من الشهر، فاستعاذ بالله وأطبق جفونه، وانقلب على جنبه وأدار وجهه إلى الحائط وود لو ينام إلى صباح اليوم التالى. ثم قال لنفسه وهو يتكلف البشر: «لا حيلة لى أعرفها لأختزل بها هذا النهار الذى لن يكون فيما أعتقد إلا ذميمًا». وكانت عادته — ودأبه — أن يتوقع الذى هو أسوأ، فإذا نجا، أو كان ما هو أخف سوءًا وأهون على العموم، اغتبط، وتشهد. ونهض متثاقلاً، ومشى على أطراف أصابعه إلى سرير تحية، فألقاها على جنبها وذراعها على خدها، فهو لا يكاد يرى سوى أرنبة أنفها. فقال لنفسه وهو يتنهد مستسلمًا لقضاء الحظ فيه: «لاعجب فإنه اليوم المنحوس من كل شهر، وأول نحوسه أن أحتاج إلى النظر إلى وجهى فى المرآة …». وتذكر قول الحطيئة «فقبح من وجه، وقبح حامله»، وساءه أن يذكر هذا الشطر من شعر ذلك الشاعر السليط اللسان، وتساءل لماذا لم يذكر إلا هذه اللعنة على الريق؟ أليس فى شعر العرب أجمعين، وفى شعر الغربيين قاطبة ما كان يمكن أن يطفو إلى السطح غير هذا الكلام الثقيل؟ وأسلم أمره إلى الله. وقال لن أوقظ الخادمة. وصب الماء فى إبريق للشاى ليغليه. فلما غلى الماء، أنزله عن النار وكشف الغطاء ليلقى بالشاى فلسعه، فقال: هذا جزاء من يصبح على هذا الوجه، وأهون به إذا اقتصر الأمر عليه. وخطر له أن يلزم داره يومه، فدار فى نفسه قول القائل: فانقبض صدره. وأحس أن هذا نذير، وحمل الأبريق على الصينية، وحاول والصينية على كفه أن يفتح الخزانة ويتناول الفنجان، فوقعت الصينية بما عليها على الأرض، وكانت لها ضجة أيقظت تحية، ولم يصبه من اندلاق الماء المغلى سوء. وأقبلت تحية تسأل: «ماذا جرى؟ لماذا لم توقظنى أو توقظ الخادمة؟» فترك المطبخ وهو يقول: «لا تصنعى شيئًا.. لا تصنعى شيئًا.. فما أظن إلا أن كل ما أتناول فى يومى سيقف فى حلقى ويخنقنى». فلحقت به تحية وقالت: «مالك؟ إنك مضطرب.. اقعد هنا (وأدنت منه كرسيًا وثيرًا) سأعد لك بيدى أنا..». فقاطعها وهو ينحط على الكرسى: «لا لا لا.. قلت لك لاتصنعى شيئًا.. كل ما أريد هو الراحة». قالت: «ألم ترتح فى نومك؟ مالك؟» قال: «مالى؟ أوه لا شىء. كان النوم مريحًا.. لا حلم فيه، ولكن انظرى بماذا يجىء الصباح الجديد؟ أباريق مقلوبة.. وأصابع ملسوعة.. ومن يدرى ماذا يخبئ هذا النهار البديع أيضًا؟ سنرى». قالت: «هذه غلطتك.. لماذا تتكلف ما لا تحسن؟ هذا عملنا نحن. ونحن هنا لخدمتك.. لا بأس. أرنى أصابعك..». ومالت عليه، فابتسم لها، وقال: «لا شىء بها.. كانت اللسعة مؤلمة فى وقتها، ولكنها لم تزد على ذلك.. صحيح». وصنعت له الشاى، وجلست قبالته تشاربه، وتحادثه، وتسرى عنه. وكانت تعرف أنها تستطيع أن تلهيه عما يثيره أو يؤلمه، أو يخامره، إذا استطاعت أن تجره إلى حوار تستثير فيه عقله، وتغريه بالتفلسف. وقالت تستدرجه: «هذا يثبت أنكم معشر الرجال أطفال … تزعمون أنكم أنتم المجاهدون فى الحياة. ومع ذلك لا يحسن الواحد منكم أن يصنع فنجان شاى، أو يقلى أو يسلق بيضة. وتدعون أن النساء لا يصلحن إلا لشئون البيت.. وأنهن أداة للنسل ليس إلا.. يطبخن ويحملن ويلدن، ولا خير فيهن لغير ذلك … حسن. ولكن ماذا يحسن الرجل ولا تستطيع المرأة أن تحسن مثله؟ هل يعجزها أن تجلس إلى مكتب فى ديوان وتدخن وتشرب القهوة، وتكتب بضع رسائل قصيرة؟ أو إذا تلقت من التعليم كفاية، أن تكتب مقالات كمقالاتك، أو إذا تعلمت الطب أو الهندسة أن تحذق ذلك كحذقكم؟ وانظر إلى براعتكم فى الهندسة، جعلتم البيوت كالمقابر.. لا شمس ولا هواء! وبراعتكم فى الطب.. كل طبكم تخمين وتجارب.. كالذى يمد يده ليتحسس فى الظلام. وأى امرأة متعلمة يعييها أن تتولى أمر الحساب فى المصارف؟» فأقبل عليها يجادلها، ونسى ما كان، وتلهى عن طيرته. ولما نهض انحنى عليها وقبلها وقال وهو يعتدل: «يا امرأة ماذا عسانى كنت أصنع لولاك؟» فقالت وهى تضحك: «كنت تكسر كل يوم ما فى بيتك من أطباق وفناجين، وتخرج كل يوم، ولا هم لك إلا أن تشترى جديدًا سليمًا بدلاً من المكسور». ثم دنت منه حتى لصقت به، وأرخت جفونها وسألته جادة، وأصابعها تعبث بزرار المنامة (البيجامة): «صحيح؟» فلم يجبها بكلام، وضمها إلى صدره، وقبلها قبلة طويلة حارة. وكان العصر موعده مع ميمى، على باب المسجد كالعادة فسألها: «أين نذهب اليوم؟» ولم يكن ينتظر رأيها، ولكن كانت عادته أن يجاملها بالسؤال، وعزمه موطن على ما يفعل، فأمالت إليه وجهها وتبسمت، وهزت كتفيها، هزة خفيفة، فقال: «حسن، إذن فإلى المعادى» كأنما كان هذا ما اقترحت. قالت: «ما هذا الإسراف؟» قال: «إسراف؟ أمن الإسراف أن نمشى على الأقدام إلى محطة باب اللوق ونركب القطار ذهابًا وإيابًا ببضعة قروش؟» فرفعت حاجبيها وهو تبتسم له، كأنما تقول: «لا بأس، لقد خفت أن تستأجر تاكسى لهذا المشوار الطويل». وسألها فجأة: «هل رأيت صادقًا فى الأيام الأخيرة؟» فالتفتت إليه، واجهته وقالت: «ألا يمكن أن تعفينى من ذكره؟» قال معتذرًا: «إنما أردت أن أقول شيئًا، وكان هذا أول ما خطر لى». قالت: «ولماذا لا يخطر لك سواه؟» وابتسمت وهى تقول: «أهذا من الغيرة؟» وكان يسرها أن يقول: «نعم»، ولكنه قال: «لا.. ليس هذا من الغيرة.. لا أظن.. ثم إنى منصف، ومن شيمتى إنصاف الناس حتى من نفسى، لست أفاخر، ولكنها الحقيقة. ويخيل إلى أحيانًا أن هذا ليس إنصافًا وإنما هو بلادة، على كل حال أريد أن أقول إن له فيك من الحق أكثر مما لى وإنه أولى بك». قالت بفتور: «لقد سمعت هذا من قبل». قال: «لا تعجلى.. فما أريد أن أعود إلى ذلك الحديث.. كلا.. ولكنك تسألين فأجيب». قالت: «سألتك عن شىء فأجبت عن خلافه». قال: «لا.. ليس عن خلافه. فما يمكن أن تكون الغيرة من لا شىء والشىء هنا هو صادق. فما ذنبى؟ كونى منصفة». قالت: «دع ذكره بالله فإنه لا يطيب الآن». وبعد خطوات قالت: «هل تعرف؟ لقد زارنا البارحة … وبقى معنا إلى العشاء وكان ظريفًا لطيفًا، ووديعًا، هادئًا. ولكن مشيته كمشية الثعلب … مشية مريبة مقلقة فلا تحس به إلا وهو أمامك. كأنما خرج من جوف الأرض، ثم إذا به قد صار فِى غرفة أخرى أو فى المطبخ أو الدهليز. ويخيل إلى، وأنا أراه ينظر إلى، أو يمشى أمامى، كأنه لابد أن يخطف أو يسرق منى شيئًا، وأنى لن أشعر بما فقدت إلا فيما بعد، وهذا هو الذى يخيفنى … شعورى بأنى معه لست فى أمان … وهو الوحيد الذى يخامرنى منه هذا الشعور … أنا معك مثلاً لا أخاف ولا أحذر …». والتفتت إليه وقالت برقة: «قل لى … هل تشعر أنى حرمتك شيئًا تريده أو أبيت عليك أمرًا لك رغبة فيه …». فتناول ذراعها وقال: «أنت أكرم من ذلك … ثم إنك أعرف بى من أن تحتاجى إلى الحذر، أو تخافى عاقبة الطمع». قالت: «اصدقنى». قال: «سأصدقك … نعم رغبت فى الكثير … وزهدت فيه، أو قنعت بما دونه أو رضت نفسى على القناعة، لا خوفًا من ضنك، بل خوفًا عليك من نفسك. والإنسان طماع يا ميمى، ولا نهاية لما يريد، أو آخر لما يتطلع إليه ويشتهيه. وما يكف عن الرغبة إلا حين تنقطع أنفاسه ويملأ تراب الأرض فمه. ولكن هناك يا ميمى ما هو أجل وأمتع أيضًا من إدراك المآرب. هناك لذة القدرة على ضبط النفس، والاكتفاء بما يفيد السعادة، وكبح النفس عن الإسراف والشطط بغير موجب. هذا الإدراك الصحيح الدقيق لقيمة ما ينال المرء بالقناعة، وللقيمة الحقيقية لما يشتهى وما تلج به الرغبة فيه، إذا ناله … هذا الوزن الدقيق لهذه الأمور هو الذى يساعد على كبح النفس بلا أسف أو شعور بخسارة». قالت ضاحكة: «هذا دأبك … تتفلسف دائمًا». فسألها: «إذن أصدقينى أنت … هل أنت قانعة؟» فأطرقت وهى سائرة. وتركت لحظات تمر قبل أن تقول: «لا أدرى.. هذه أول مرة أُلقى فيها هذا السؤال على.. من نفسى أو منك.. لم أسمعه منك على ما أذكر، ولم أوجهه إلى نفسى.. وأقول الحق أنى مترددة..». قال: «التردد معناه أن القناعة غير حاصلة». قالت: «إنما أريد أن أقول أنى لم أفكر فى الأمر من قبل. ولكن سؤالك يثير فى نفسى خواطر وصورًا شتى. وهذا ذنبك … لماذا سألتنى؟ لماذا تغرى عينى بالامتداد إلى ما بعد الحاضر والواقع؟» قال: «لا لا.. ليس هذا فعل السؤال.. لا تجهلى..». قالت: «كيف؟ ألست أنت الذى تفتح لى آفاقًا جديدة من النظر والرغبة كنت مصروفة عنها؟» قال: «ليس السؤال هو الذى فعل ذلك، وإنما هو فعل ما استيقظ فى نفسك حين دار فيها الوسواس الجديد.. أن لعلك تحبين صادقًا.. وهل أنت تحبينه أو لا تحبينه.. وهل قسم لك الزواج منه أو لم يقسم.. وهل ستتزوجين أو لا تتزوجين.. هذه الخواطر تبدو فى ظاهرها مجرد أسئلة.. ويبدو أن الغرض منها الاستبانة أو الاستشفاف أو الاستجلاء، ولكنها تنطوى على أكثر من ذلك، لأن كل سؤال مقترن فى الخيال بصورة.. بل بصور.. صور شتى للحياة كما هى فى حاضرها، وللحياة كما يمكن، أو يُرجى، أو يُخشى، أن تكون فى الغد القريب أو البعيد. وهذه الصور تكون فى أول الأمر غامضة ملتاثة، ثم تتضح شيئًا فشيئًا، وتتجسد، وتتخذ أشكالاً تكاد تُلمس وتُحس. ولا يقتصر الأمر على هذا، بل تشرع الصور التى تتمثل للخيال وتزداد جلاء وتجسدًا على الأيام، ومع طول مناجاة النفس، أقول تشرع فى الإيحاء إلى النفس … فتحرك إحساس الإنسان، وتثير رغبته وتبعث ما كان كامنًا، وتوقظ ما كان راقدًا، وتزيد ما لا ينقصه الابتعاثُ، قوةً. ومن هنا تضعف وتقل القناعة بالحاصل الموجود». وأمسك، وسارا خطوات وهما صامتان، وذراعه ما يزال فى ذراعها. ثم رفعت إليه وجهها، وقالت مرة أخرى — بابتسام يخفف من وقع التهكم، إذا كان فى عبارتها تهكم: «تتفلسف دائمًا.. أليس هذا دأبك؟» قال مستغربًا: «أتفلسف؟ أعوذ بالله.. لماذا تعدين بسط الحقيقة أو مواجهتها فلسفة أو تكلفًا للفلسفة؟» قالت: «لقد بلغنا المحطة.. خلنا فى الدرجة الثانية». قال: «يا خبيثة، إنما تريدين أن تستريحى من فلسفتى.. بل سنركب فى الدرجة الأولى.. واطمئنى فإنى لا أستطيع الكلام مع ضجة القطار.. وحسبى أن تتكلمى أنت وأسمع.. جاء دورك.. تعالى». وأخذ التذكرتين — ذهابًا وإيابًا — ومضى بها إلى مركبة الدرجة الأولى. ولكنه تكلم على طول الطريق من باب اللوق إلى المعادى. ذلك أنه ما كاد يقعد وميمى إلى جانبه، حتى دخل رجل طويل موخوط الشعر، وانحط على مقعد قريب منهما، فهمست ميمى فى أذنه: «هذا الرجل يتبعنى». فسألها بصوت خفيض، ومن غير أن يحول وجهه إليها: «من هو؟» قالت: «هو الجار الذى حدثتك عنه». وكانت قد حدثته مرة من قبل، أن بين أسرتها، وأسرة هذا الجار المراقب، معرفة وتزوارا. فحدث مرة أن لقيها وهى عائدة من المدرسة، فقال لها إنه يود أن تكون زوجته، فنهرته وزجرته، وقالت له: «إنك رجل متزوج ولك بنون وحفدة، وإن هذا الكلام منك لا يليق». فلم يرعو. ولم يغن عنها ما كانت تؤثره معه من الإغلاظ فى القول، وقال لها مرة: «إذا كنت لا تريدين أن تكونى زوجة لى، فلتكونى صاحبتى». فأنذرته أنها ستقص الخبر بحذافيره على زوجته. وزعم لها، فيما زعم، أنه زار إبراهيم وسأله عنها، وأن إبراهيم ذكرها بخير وأثنى له عليها. وكان هذا كذبًا صراحًا فما رأى إبراهيم وجهه من قبل. ودعا إبراهيم ربه وهو يخالس الرجل النظر: «اللهم ارزقنى الدم البارد، وآتنى السكينة والحلم والرزانة». واعتزم أمرًا. فالتفت إلى الرجل وقال له: «ألا تتفضل معنا؟ إن بيننا معرفة وإن كنت لا تدرى..». فدهش الرجل، ولكنه تحول إلى مقعد أمامهما. فقال إبراهيم: «أظنك تعرف الاَنسة ميمى.. فقد حدثتنى عنك وقصت على ما كان منك.. كل شىء.. ولعلك كنت متتبعنا طول الطريق، وها أنت ذا قد ركبت القطار معنا لترى إلى أين هى ذاهبة». فتلعثم الرجل واضطرب لهذه المفاجأة، ثم وجد لسانه، فزعم أن له بأبيها معرفة، وأن أباها كان أوصاه بها، وأنه استغرب أن تذهب فى طريق حلوان، فما لها أهل أو معارف على هذا الطريق. فشد عليه إبراهيم ولم يرحمه، ولم يتق أن يسمع الناس، وقال: «وأوصاك أبوها أن تعرض عليها الزواج بغير علمه؟ وأوصاك أن تقترح عليها أن تكون خليلة لك؟» فوقف بعد ذلك كل كلام فى حلق الرجل. ومضى إبراهيم بصوت هادئ متزن وبابتسامة متكلفة يقول: «ما دمت تبغى المعرفة، فابق معنا لترى بعينك إلى أين هى ذاهبة، وسترى وتطمئن إن شاء الله، وتكتب إلى أبيها بما يؤيد حسن الظن بك». ولما بلغوا المعادى، وقف الرجل على الرصيف يعتذر ويطلب الصفح. ثم انتقل إلى الرصيف الآخر ليعود من حيث جاء. ولم ينقض عجب إبراهيم من جرأة هذا الرجل على مطاردة ميمى، ولا عجب ميمى من هدوء إبراهيم، وأخذه بتلابيب الرجل على هذا النحو. وكانت وقدة الحر شديدة فمالا إلى روضة مقهى على النيل، وانحدرا إلى شاطئه واتخذا مكانهما فى ظل شجرة وارفة. ونضا إبراهيم سترته، وحل رباط رقبته، وألقاهما على كرسى، واضطجع وهو يقول: «أكثر ما نلبس، للزينة. ولا تكاد تحتمل الزينة، مهما خفت، فى هذا الحر. وأحسب أن لو كان هذا أول لقاء لنا، لكان الأرجح أن أتشدد وأتكلف الصبر على ما أعانى من الضيق والاختناق، رغبة فى حسن رأيك. ولكنك قدمت يا فتاتى، وعرفتنى معرفتى، فلا حاجة بى معك إلى معونة الثياب الأنيقة والهندام الجميل». فضحكت وقالت: «ليتنى أستطيع أن أصنع كما تصنع، ولكن ما على بدنى هو أقل ما ينبغى للستر فلا حيلة لى إلا الصبر». قال: «مهلاً. مهلاً. لو علمت امرأة أن التجرد أفتن، لما عبأت شيئًا بالستر والحشمة، والحياء والخفر. لا يا فتاتى، لا تغالطى نفسك فى الحقائق. فليس مطلب المرأة الستر، بل الفتنة والإغراء. ولا تحسبى أن للتقاليد والعادات والآداب أثرًا فى هذا. فإنها نتيجة لا سبب. وأنت تتخذين الثياب، وتُبدين بها شيئًا وتُخفين أشياء، لا لأن الآداب والعادات والتقاليد تقضى بذلك، بل لأن المرأة أدركت بفطرتها الذكية أن الثياب زينة، فوق أنها نافعة، وأنها تضاعف جمالها، وتزيد سحرها، وتقوى عوامل الأغراء، ولو أن الأية انقلبت، والقضية انعكست، وكان العرى أجمل، لكانت الآداب والتقاليد والعادات تستنكر الثياب، وتستهجن لبسها، وتقضى بنبذها. أى نعم. المرأة هى التى تقرر لنا آدابنا وعاداتنا لا الرجل». قالت: «ما أقوى هذه المرأة.. وهى مع ذلك مغلوبة على أمرها. ومازال الرجل هو القوام عليها». قال: «نعم هو كذلك. وإنها لضعيفة إذا قيست إلى الرجل، ولكن لها قوتين لا يستخف بهما إلا أبله؟ قوة الحيلة التى أنماها ضعفها البدنى. وقوة الجمال الذى ضمنته «الحياة» واختزلت فيه كل قوتها. فأين وجه العجب إذا كانت المرأة تصوغ للرجل دنياه؟» وكانا قد طلبا شايًا له وعصير ليمون مثلوجًا لها، فأقبل الخادم بصينية واسعة فضية اللمعان، وأقبلا عليها يتناولان مما فوقها. وأدنت ميمى قدح الليمون من شفتيها، ثم ردته والتفتت إليه وقالت: «فى نفسى سؤال». قال: «هاتيه». قالت: «هل يثقل عليك أن أحشر نفسى فيما لا يعنينى؟» قال: «إنه لا يعنينى الآن إلا سرورى بوجودك معى، فى هذه البقعة الجميلة، والنيل يجرى تحت أقدامنا والشجرة الوريقة تظللنا». قالت: «ألم يخطر لك قط أنك مسرف مبذر؟ إن الباعث لى على..». فقال مقاطعًا: «دعى البواعث.. نعم أنا كما قلت، مسرف مبذر. ولكنى لم أفكر فى هذا، لأنى خلقت هكذا، كما لا يفكر الإنسان كيف يمشى أو لماذا يمشى». قالت: «صحيح أنك كريم سخى اليد ولكن». فعاد إلى مقاطعتها وقال: «لا تغلطى.. ليس هذا كرمًا، ولا هو من الكرم فى شىء، وإنما هو التبذير ليس إلا، والفرق كبير بين الأمرين. ولست أجهل قيمة المال، ولست أدعى أنى أحتقره، وأنى لأعرف أن لو كان لى مال لكان لى شأن اَخر فى الدنيا بين الناس، تصورى مثلاً ما كان خليقًا أن يكون لى من مقام، وما كنت جديرًا أن أبلغه من المراكز الملحوظة لو كنت ذا مال. وكنت أستطيع مثلاً أن أدعو إلى بيتى هؤلاء وأولئك من أصحاب المناصب العالية والجاه العريض، والنفوذ العظيم، وأن أدعى إلى بيوتهم — أو قصورهم — وأن أكون معهم كأنى من أندادهم وأقرانهم، أشهد معهم سباق الخيل وأغشى ما يغشون من أندية وغيرها وأقامر مع من يقامرون، من يدرى حينئذ ماذا كنت خليقًا أن أكون؟ أعرف كل هذا، ولا يخفى على شىء منه، ولكنى لا أتحسر على فوته، ولا يحزننى عجزى عنه لأنه ليس مطلبى فى الحياة، أو همى من دنياى، ولست أشتهيه، أو أرغب فيه، أو أحس بما يغرينى به. وقد بلغت حيث أريد بفقرى، واستطعت — بذراعى، وبغير مدد من المال والناس — أن أكون حيث أنا، ولست بالقانع، ولكن ما أطمع فيه لا يحوجنى إلى مال، ووسيلتى إليه ما أرجو أن يكون هنا». ووضع أصبعه على جبينه. فقالت: «لست أعنى هذا. ولكنى أعنى أنك لا تدخر شيئًا لشيخوختك». قال: «اليوم الذى أعجز فيه عن كسب رزقى بعرق جبينى هو اليوم الذى لن أحتاج بعده إلى مدخر. وليس لى ولد، وإذا كنت تشفقين على تحية فإن أباها بخير وهو يكفلها إذا طال عمره، وقد أفرد لها من ماله ما هو فوق الكفاية، فلماذا أضيق على نفسى وعليها، احتياطًا لمستقبل لا داعى للاحتياط له؟» قالت: «ولكنك قد ترزق الولد». قال: «صحيح، قد يحدث هذا، ولكنى أرى أنه يكون خيرًا لبنى أن يبدأوا حياتهم فقراء.. لا تستغربى. لقد كنت فى حياة أبى، وإذ أنا فى رخاء ورغد، تلميذًا بليدًا، خائبًا، فلما مات وحلت بنا الفاقة، ذهبت البلادة، وتعودتُ الجلد، واستفدت القدرة على معاناة الحياة، ومغالبة الصعاب، وخوض العباب. كلا، لست أوثر لأبنائى — لو كان لى أبناء — الترف واللين والطراوة، ولحسب كل ولد أن يكفل له والداه الكفاية من التعليم، وخير له بعد ذلك، أن يقذف به فى بحر الحياة المتلاطم». قالت باسمة: «والفتاة؟» قال: «والفتاة أيضًا، فإن المناعة لا تكتسب بين أربعة جدران، بل بالمعاناة والمكابدة، أم تخشين العاقبة على الفضيلة؟ — وضحك — إن فضيلة معظم فتياتنا هى فضيلة الجدران السميكة، ولهذا لا تكاد الفتاة تزايل ما يحيط بها من الجدران — المادية والمعنوية — حتى تضل، لأنها لا تستطيع، ولا تعرف، كيف تقاوم، كالذى يلبس ثيابًا كثيرة كثيفة، فهذه الثياب هى التى تقاوم وتحميه، ويكفى أيسر التعرض لإصابته بالمرض الذى يتقيه، وعلى خلاف ذلك من يعتاد التخفيف، فإن بدنه يحتاج إلى المقاومة فيتعودها ولا يضيره التعرض، كما يضير الذى يبالغ فى التوقى». وكان وجهه إلى الماء، وهى جالسة بحيث ترى معظم المقهى، فقالت بلهجة أقرب إلى الخفوت: «لو كنت أسدل على وجهى نقابًا كثيفًا، لكان خيرًا لى الاَن على الأقل». فلفته خفوت الصوت، واضطراب النبرة، وقال، وأمال وجهه إليها: «ماذا تعنين؟» قالت: «صادق، ومعه فتاة». قال: «آه … لم يكن هذا فى الحساب.. تبسمى له وادعيه». ففعلت بجهد. وأقبل صادق يحمل على ذراعه فتاة بارعة الحسن، زاهية الثياب، وعلى رأسها قبعة كبيرة من الخوص. وحياهما إبراهيم كأنما كان على موعد معهما، ولكنه لم يبالغ فى الترحيب حتى لا يخرج إلى التكلف. وسألته ميمى: «ماذا جاء بك إلى هنا؟» قال: «لأن هذا المكان، فى مثل هذا الوقت، يكون أحلى من غيره. ففى وسعنا أن ندندن ببعض المنولوجات التى أعددتها للإذاعة. على فكرة.. هذه فتحية.. تلميذتى.. أو إحدى تلميذاتى.. أبرعهن جميعًا فى الحقيقة وأحلاهن صوتًا.. وهذا.. الأستاذ إبراهيم.. وميمى بنت خالتى.. حدثتك عنها كثيرًا. ألا تذكرين؟» وقال بعضهم لبعض: «تشرفنا». وقالت فتحية بصوت أجش، استغرب إبراهيم أن يصلح للغناء: «لماذا لم تعلم ميمى منولوجاتك؟» فتبسمت ميمى متهكمة. وقال صادق: «نسيت أن أقول إنها معلمة. ولا يتسع وقتها لهذا، ولا يليق أيضًا بها». فرفع إبراهيم حاجبيه متعجبًا لقلة ذوقه. وقالت ميمى: «المكان خالى تقريبًا إلا من الخدم.. وهم بعيدون.. فأسمعونا شيئًا». فقالت فتحية: «لا. ليس هنا … إنى أستحى». فقال إبراهيم: «سأغطى وجهى … أو — إذا كان هذا لا يكفى — سأسد أذنى». وضحكوا. وقال صادق: «ليس هذا وقته». وقالت ميمى: «ولكنكما جئتما لهذا. فهل وجودنا …». قال: «نعم … وجودكما يغير كل شىء..». وضحك ثم قال: «لا داعى للعجلة فما استطعت إلى الآن إقناع محطة الإذاعة بقبول مونولوجاتى». فقال إبراهيم: «إذا كانت فتحية تستحى، فأنت — ولا مؤاخذة — لا تستحى. فلماذا لا تسمعنا شيئًا، لنرى أيكما على حق، أنت أو المحطة؟» فأبى كل الإباء. وقال إن ميمى تسخر منه، وتعد من السخافة أن يحاول أن يكون منولوجست. ولم تنف ميمى أنها تفعل ذلك، ولم تفارقها ابتسامتها، وكانت كأنها مطبوعة على شفتيها. ولم يفت إبراهيم هذا، وسره ما رأى وأفزعه أيضًا؟ سره أن يتبين أن جمودها هذا من الغيرة، حين رأت هذه الفتاة الجميلة وإن كانت قبيحة الصوت، على ذراع صادق. وأفزعه أن تغلبها الغيرة وتجنبها الحكمة. غير أنه رجا أن تظل — كعهده بها — متزنة الأعصاب، وإن كان لم يختبر متانة أعصابها فى موقف تعصف بها فيه عاطفة قوية. وحدث نفسه وهو ينظر إلى صادق أنه لا عجب إذا أحبته ميمى، وخشيته فى آن معًا، فإنه شاب قوى وسيم، ونظرته فاحصة نافذة، ومعارف وجهه كلها ناطقة بقوة العزم والجرأة، وفى خفة حركته وخبث نظرته ما يريب ويقلق ولا شك، ولكنه ليس على هذا بشرير. وإن كان ما عامله به أهله قد جعله ينطوى للناس على المقت والرغبة فى الأذى، وأغراه بالاندفاع والتهور دون الاعتدال أو محاولة اكتساب حسن الظن به وطيب الرأى فيه. وقال لنفسه وهو يدير هذه المعانى فى صدره إنه لم يخطئ حين حض ميمى على إيلائه الثقة وإيثار الحسنى معه، وتشجيعه، بدلاً من الزراية عليه. وصفق، فجاء الخادم، وقال صادق: «إذا سمحت يا أستاذ فإنى أفضل أن أشرب قليلاً من البيرة». فقال: «والله إنه لرأى، فإنها فى هذا الحر أوفق، فما قولك يا ميمى؟» فالتفتت، وقد تنبهت على صوته، وسألته: «إيه؟» فلم يعد السؤال، وقال للخادم: «زجاجتان من البيرة، وأربعة أقداح يا مولانا بسرعة». فاعترضت ميمى، فقال: «هذه مناسبة طيبة.. أعنى اجتماعنا بصادق وفتحية فى هذا المكان الجميل». واغتنم الفرصة، التفت إلى صادق وقال: «سمعت منك أنك تظن أن ميمى تسخر منك.. فاسمح لى أن أقول إنك لا تعرف ميمى إذا كنت تظن هذا.. إنها الوحيدة المعنية بأمرك ومستقبلك والراغبة فى أن تراك — كما تريد أن تكون — شيئًا مذكورًا. وهى لا ترغب فى هذا فقط بل تثق بك، ولا يخالجها شك فى أن لك مواهب عظيمة تستطيع أن تشق بها طريقك فى الحياة. وإذا كانت تكتمك هذا فلأنها امرأة، أعنى أنها تحبك، وتتعجل صلاحك، وتسخطها الحاجة إلى الصبر فتبدى خلاف ما تضمر. أليس كذلك يا ميمى؟» فلم تدر ميمى ماذا تقول، واستغربت أن يحرجها على مسمع ومرأى من هذه الفتاة، وشعرت بموجة من الأشمئزاز، وكادت — على خلاف عادتها — تقطب لولا أن أنقذها الخادم، فقالت: «سأصب لكم البيرة، ولكنى أرجو أن تعفونى». فأصر أن تشرب، وملأ لها كوبها، فأذعنت. وارتفعت الأكواب إلى الشفاه وحسا كل واحد حسوة، إلا ميمى، فقد راحت تعب فى الكوب حتى أتت على ما فيه، ثم حطته فارغًا إلا من الرغوة، وتنهدت كأنما انحط عن صدرها حجر. فقال إبراهيم وهو يضحك: «لم أكن أعرف أنك سكيرة يا ميمى». وألقى إليه صادق نظرة استفسار فقال: «حقيقة لا أعرفها تشرب شيئًا، وأخشى أن أكون قد أخطأت بإثقالى عليها بالإلحاح. ولكن لا بأس، فما فى البيرة ضير». وكانت ميمى تسمع وكأن الأمر لا يعنيها، ولم يسعها إلا أن تتعجب — فى سرها — له مرة أخرى. لماذا كذب؟ وليست هذه شيمته، فقد شاربته غير مرة، ولم تكثر ولم تفرط، ولكنها شاربته البيرة والنبيذ ليس إلا. وغاظها منه أن بسلوكه هذا يرمى إلى ما لا تعرف أو تتبين، ونفت فيما بينها وبين نفسها أنه يريد أن يصقلها فى عين صادق، فإن صادقًا لا يصرفه عنها، بل قد يزيد إقباله عليها وطمعه فيها، أنها تشرب قليلاً من البيرة من حين إلى حين. وخطر لها أن لعله يقول هذا لتسمعه فتحية، على حد قول المثل «وإياك أعنى يا جارة». وودت فى هذه اللحظة لو خلت دقائق — دقائق فقط — بإبراهيم، فتسأله رأيه فى صادق وفتحية. ومن أدراها أنه لا يعرف فتيات أخريات غير فتحية، يخرج معهن فى سيارته الفخمة إلى المتنزهات الخلوية ليدربهن على المشاركة فى إلقاء منولوجاته.. منولوجاته حقًا؟ أهذه وسيلته إلى الفتيات؟ لا عجب إذن إذا كان لم يبلغ سؤله منها هى، فما تعبأ شيئًا بمونولوجاته السخيفة، وإنها لتحتقرها، وتحتقره أيضَا. وهذا هو الفتى الذى يتعقبها، ويطاردها بحبه المزعوم ويطمع أن تجاوبه، وتبادله حبًا بحب. منولوجست.. يعوج طربوشه وفمه وساقيه ويروح يتحرك حركات مضحكة وينطق بهراء، أو يلبس جلابية حمراء مخططة، وعلى وسطه حزام من حبل وقدماه حافيتان، لأن المنولوج قد يقتضى هذا المنظر (البلدى) أو يلبس (طرطورًا) ويصبغ وجهه … هذا هو صادق.. فليقنع بفتحية وأمثالها. ونهضت، وراحت تتمشى على الشاطئ بخطوات بطيئة، وهم صادق أن يتبعها، فرده إبراهيم، ورمى إليه نظرة فهمها صادق فهز رأسه وابتسم، وخف هو إليها، فلما صار إلى جانبها قال: «ليست هذه ميمى التى أعرفها». قالت وهى تنظر إليه: «نعم ولا أنت الذى أعرفك». قال: «أسمعينى رأيك الجديد فى العبد لله». قالت: «لا تمزح … لماذا كذبت؟» قال: «لأن ما تفعلينه وأنت معى وحدى، لا أرى من حقى أن أدع لسانى يثرثر ويلغط به». قالت: «لم يسألك أحد حتى تحتاج إلى الكتمان». قال: «سؤال الحال أبلغ يا فتاتى.. يراك تشربين البيرة.. بطبيعة الحال وبغير تردد، كأنما تفعلين ذلك منذ نعومة أظفارك فماذا يظن بك وبى؟» قالت: «وماذا يعنينى من ظنه بى؟ بل ماذا يدعونى إلى كتمان علاقتى بك؟ ماذا يمنعنى أن أصارحه بهذا؟ ما شأنه هو؟ أى حق له على؟ وسأصارحه وأحسم هذا الأمر الذى طال». قال: «هل ساءك منه أن معه هذه الفتاة؟ كونى أوسع صدرًا وأرحب أفقًا». قالت: «ولماذا يسوءنى؟ وما شأنى إذا كان معه ألف فتاة؟ إنه حر وأنا أيضًا حرة». فلم ير أن الموقف يسمح بطول الحديث وقال: «طبعًا. طبعًا. والآن أرينا هذه الابتسامة التى احتجبت عنا اليوم. أرينيها، وأرى صادقًا أيضًا، هاتى». فأدركت مراده، وغالبت نفسها حتى استطاعت أن تبتسم. فقال: «هذا أحسن.. ولا تبخلى على.. علينا جميعًا.. بحلاوتها وفتنتها حين نعود إليهما. أريد أن أرى ميمى — اليوم على الخصوص — كما أعرفها.. تمامًا». فهزت له رأسها هزة خفيفة، وألقت إليه نظرة شكر. فقال وهو يعود بها: «والآن. من الاَن سنكون ضيوفك، فأذيقينا كرمك، واحتقبى شكرنا وشكر العبد لله خاصة، وثقى أنك ستحمدين ما أكلفك». قالت: «هذا يقينى. وأنت تعرف ثقتى بك». ورأى صادق بشرها، وتطلق وجهها، فتعجب لسلطان إبراهيم عليها، وود لو كان له مثله، وشعر بالغيرة تدب فى نفسه. وانحدرت الشمس. فخرجت الدنيا من الحر، وطاب الوقت، واعتدل الجو وطالت الجلسة على النهر، وانشرحت الصدور. ولم يعد إبراهيم يلمح ما كاد يعكر الصفو قبل ساعة. وسره من ميمى أنها قدرت على مغالبة نفسها وارتدت إلى السجاحة والبشاشة، وحسن الإيناس. وأعجبه من صادق أنه يتكلم بسهولة، ولا يبدو عليه تكلف، أو تحرز، كأنما لا يعنيه من ميمى شىء. أما فتحية فكانت معظم الوقت صامتة وكان هذا خير ما يمكن أن تصنع فى رأى إبراهيم، فقد كان يشعر، حين تتكلم، أن صوتها يجرح أذنه، أو يصك سمعه بمثل الحجارة. وآن أن ينصرفوا. وكان صادق يود لو لبثوا ساعة أخرى، ولكن ميمى ألقت إليه نظرة رقيقة فيها من الأسف والتوسل والاعتذار معان، وقالت: «أنت تعرف خالتك»، فهز رأسه وهو مطرق، ثم التفت إلى إبراهيم وقال: «لا داعى لركوب القطار فإن معى السيارة. والطريق جميل». فقال إبراهيم: «ونرمى فلوسنا؟» وأخرج من جيبه التذكرتين. ووقفوا أمام السيارة. ودار إبراهيم حولها معجبًا بها، متمنيًا لو كان له مثلها، فعرض عليه صادق أن يتولى عنه قيادتها فأبى وقال: «لا يا سيدى، فإنى أخشى أن أتلفها، ثم إنى، إذا قدت هذه، لا أحسبنى أرضى بعدها عن سيارتى الحقيرة. فاصنع معروفًا ودعنى قانعًا بما أملك». وخيل إلى صادق أنه يبالغ فى إعجابه بالسيارة، والغض من سيارته هو لأمر ما، فقال — لا يدرى لماذا —: «إنها سيارة الوالد المحترم، ولم أشترها أنا بمال لى». ولم يسر ميمى أن تسمع عبارة (الوالد المحترم)، فقد أذكرتها بما كان من أمره معها فى طريق الإسكندرية، وهى تجربة لا تمحى ذكراها ولا تحمد، لشدة ما يختلط فيها الحلو بالمر، والأمل بالخوف، والوهم بالحقيقة. وسمعت إبراهيم يقول، وهو يفتح الباب ويشير إليها أن تركب: «أحسب أن بلادنا هى الوحيدة التى يجتمع فيها هذا العدد الضخم من السيارات الفخمة من كل طراز أوروبى وأمريكى. أو لعل الأصح أن أقول بلادنا ونظائرها من البلدان التى لا تصنع السيارات، وإنما تقتنيها. ولا أعد هذا مظهر غنى، أو اَية رخاء، وانما هو عندى مظهر غفلة، أوآية تخلف. والمثل العامى يقول (رزق العبط على المجانين) ونحن الأمم المتخلفة فى ركب الحضارة العالمية، المجانين الذين تجد أوروبا وأمريكا رزقهما عندهم». واتخذ صادق مقعد القيادة، وإلى يمينه تلميذته. واحتل إبراهيم وميمى المقعد الخلفى. ودارت السيارة، ومضت على مهل. وكان القمر فى ليلة السواء، والطريق على جانبيه الشجر، وجله وريق منتشر الأغصان، ملتبس بعضها ببعض فوق الرءوس، والقليل منه أمرد انجرد من الورق، والأرض دنانير رقاصة. وكان صادق متمهلاً، ولكن إبراهيم مع ذلك لا يطمئن. وكان لا ينفك يدفع قدميه كأنما يحاول أن (يربط)، وتلك آفة من يحسنون قيادة السيارات حين يتولى غيرهم قيادها. وأكثر من يفعلون ذلك من ذوى المزاج العصبى. وكانت عين إبراهيم على الطريق لا تتحول عنه. وكان لا يفتأ يحرك رأسه يمنة ويسرة ليستبين فلم يكن باله، من أجل ذلك، إلى جارته. ولا كان يستطيع الكلام أو الإصغاء. بل ما كان ينعم بجمال الطريق وسحره فى هذه الليلة المقمرة الساجية لفرط اشتغاله بالطريق وما يصنع صادق. على أنه على قلقه كان يتقى أن ينبه صادقًا أو يحذره، مخافة أن يحدث له اضطرابًا، فإن كثيرين يرتبكون إذا صحت بهم فجأة. وكان شر ما يزعجه أن الحقول على يمين الطريق أوطأ وأدنى، فهو يخاف أن تنقلب السيارة، ويود لو توسط صادق ونأى عن الحافة. ولم تكن كثرة الشجر تطمئنه وتنفى ما يحاذر من الانقلاب، فإن المسافة ما بين الشجرة والشجرة غير قصيرة. ولكنهم بلغوا مصر القديمة فى سلام ومن غير أن يقع لهم حادث. وكان حق إبراهيم أن يتشهد ولكنه لم يفعل. وقال لنفسه إن شوارع المدينة غاصة بالترام والمركبات والسيارات، والناس الذين يسيرون وكأنهم يتنزهون فى حدائق بيوتهم. وهم مرات أن يستأذن ويركب الترام، فإنه آمن فيما كان يحس، غير أنه استحى وطال تردده فضاعت الفرصة. وصاروا فى ميدان الإسماعيلية. ولم يكن نظام المرور فى ذلك الوقت وافيًا بالحاجة بل لم يكن ثم نظام ما، فكان كل سائق يمضى على هواه، إلى حيث يشاء وهو آمن أو مجازف. وكاد إبراهيم، والسيارة تقتحم هذا الميدان المضطرب، يثب من السيارة إلى الأرض من فرط الجزع، ولكن صادقًا كان حاذقًا فمر كالسهم، بسلام، من بين قطارى ترام، فاضطجع إبراهيم، ومسح العرق المتصبب بكفه، ونظرت إليه ميمى فأدركت ما به وقالت بابتسام: «خائف؟» قال: «بل ميت من الخوف.. مت مائة مرة وسأموت مائة مرة أخرى إذا لم أنزل». قالت: «لا تخف وثق بصادق..» وضحكت: «غريب أن أدعوك أنا إلى الثقة به وأنت الذى تلح على بذلك». قال: «هذا شىء آخر، مختلف جدًّا». قالت: «على كل حال قربنا، أعنى أن فى وسعك إذا شئت أن تتركنا عند شارع فؤاد». قال: «يؤسفنى أن أقول إن هذه ستكون أسعد لحظة». ولكن صادقًا أبى أن يدعه، وأصر على أن يبلغه بيته بعد الفتاتين، — فضحكت ميمى وقالت: «هذا امتحانك، فأرنا إرادتك القوية». فتنهد وقال: «لا إرادة ولا شبهها.. الأمر لله، ثم لهذا المجنون». قالت: «ولكنه ليس مجنونًا.. إنه متمهل جدًّا، ومحاذر جدًّا». قال: «محاذر؟ ألا ترين كيف يمرق بين السيارات كأنه بسكليت؟» قالت: «هل تريد أن يقف حتى يخلو له الشارع من كل راكب وراجل؟» قال: «تركت لك البيعة». وفى هذه اللحظة، وقبل أن يتم ما كان ينوى أن يقول، وقعت الحادثة! ولا يدرى أحد كيف وقعت، أو كيف تعذر اتقاؤها. وكان صادق فى هذه اللحظة يقطع شارع فؤاد وهو مقبل من شارع سليمان باشا، ويحاول أن ينثنى متجهًا إلى اليسار فرأى على ما يقول، موتوسيكلاً مقبلاً بسرعة من اليمين فخشى أن يصطدما فمال ميلاً شديدًا إلى اليسار ليفسح له، فاصطدم بالترام الواقف فى محطته، ولم يصب أحد بسوء يستحق الذكر، ولكن السيارة تحطم مصباحها الأيسر، وانطبق جناحها على العجلة، فوجب رفعه عنها ليتسنى لها أن تدور، أما الترام فلم ينله أذى. «اسمع، لا أستطيع أن أجيئك بالمسئول الحقيقى، ولكنك ترى أن سيارتى هى التى تحطمت، وأن الترام ليس به شىء، ومن حسن الحظ أننا نجونا ولم يحق بنا مكروه، فهل لك أن تتفضل وتصرف هؤلاء الناس وتدعنى أمضى فى سبيلى؟» قال الشرطى: «لا بد من المعاينة وكتابة المحضر». قال: «معاينة لماذا؟ ومحضر لأى شىء؟ سيارتى هى التى تلفت، وبفعلى أنا، والترام بخير، وأنا أعلن هذا على مسمع من ألف واحد يستطيعون أن يكونوا شهودًا لك وللترام، وعلى، فاصنع معروفًا ودعنى، فما بأحد أية حاجة إلى معاينة أو محضر». وبدا على الشرطى التردد، وانقسم الجمهور فريقين، واحدًا يريد التطويل لتطول متعته، وآخر يحمد من صادق أنه لا يكابر، ويعجبه منه إقراره بالحق وأنه يشهد على نفسه. ونظر الشرطى إلى سائق الترام فقال هذا: «إذا كان الأفندى يريد أن يصرف الحكاية، فلا مانع عندى ولكن خذ رقمه واسمه ودون اعترافه، حتى لا يعود فيدعى علينا زورًا أننا كسرنا سيارته». فقال صادق: «هذا عدل». وأخرج بطاقة كتب عليها إقراره، ودون الساعة والدقيقة ورقم السيارة، ومد يده بها إلى الشرطى، فقدمها هذا إلى السائق. ولم يستغرق هذا كله سوى دقائق عشر، وكانت هذه أعجوبة، ثم عادت السيارة فانطلقت فى طريقها، وإبراهيم معجب بحزم صادق، وما أظهر من رجولة وقدرة على الحسم السريع، وحمد له تعجيله بإخراجهم من هذه «الزفة»، وحدث نفسه أنه لم يخطئ حين قال لميمى إن صادقًا ذو مواهب قد تكون معطلة ولكنها موجودة، وإن كانت كامنة، ولو أتيح لها مجال أو فرصة لظهرت. وخطر له وهو مضطجع أنه لا يستغرب أن يحدث هذا فى اليوم الثالث عشر، وحمد الله على اللطف فى قضائه. ولاحظ إبراهيم أن صادقًا مالك لأعصابه على الرغم من رجة الحادث، وأن عقله حاضر غير غائب، ولم يفته أنه ذهب بفتحية إلى بيتها، قبل غيرها، فنزلت أول من نزل، ثم عاد فعرج على بيت ميمى، وهنا ألح إبراهيم فى الاستئذان إشفاقًا على صادق، وإيثارًا لراحته — هكذا زعم — ولكن صادقا ظل على إصراره، ووقف الرجلان أمام البيت يتجادلان، فقالت لهما ميمى: «الأولى أن تدخلا إذن». فقال إبراهيم: «كلا اصعدى أنت واستريحى، ولا حاجة إلى جدل فإنى ذاهب». ورأى صادق صحة العزم فى صوته ووجهه فأقصر آسفا. وكان الذى دعا إبراهيم إلى الإصرار على ترك صادق، أنه خاف عاقبة اصطحابه والتقائه بتحية، فما يستطيع، ولا يليق، أن يكلفه رحلة طويلة ثم يصرفه من الباب بكلمة شكر فارغة. ولا بد أن تساله تحية عما حدثها به زوجها من أنه — أى صادق — يوشك أن يتزوج ميمى، والنساء ثرثارات، وليس أحب إليهن من اللغط بقصص الزواج والشروع فيه. وقد يحدثها صادق عن الحادثة، وعن جلسة المعادى، ولا يبعد أن يروى الأمر على وجهه الصحيح وأن يتحرى الدقة، فيذكر أنه وجدهما معًا فماذا عسى أن تظن زوجته إذا علمت أنه يتواعد مع ميمى، ويلقاها ويذهب بها إلى هنا وههنا ولا يخبرها بشىء من ذلك؟ إن هذه تكون صدمة جديدة تردها إلى الوجوم القديم، وتقوى سوء ظنها به، وقد تدفعها إلى اليأس منه، أو من قدرتها على الاحتفاظ به، وليس مما يقوى على احتماله أن يعانى هذه المحنة مرة أخرى، وأن يفقد ثقة تحية وحبها على الأرجح، وسيفقد ميمى يوم تعرف ما تبطن لصادق من الحب، فإذا ترك صادقًا يصاحبه فإنه خليق أن يفقد المرأتين جميعًا. وهب صادقًا لم يقل شيئًا، وتحية لم تسأله عن شىء، فإنه حقيق أن يبدو بينهما مرتبكًا مضطربًا، فيثير الوساوس أو الشكوك فى نفس تحية، فالخير كل الخير، أن يبقى هذا الشاب حيث يشاء إلا معه، وأن يلقى من شاء غير تحية، على الأقل إلى حين. وفى تلك الليلة خلا اثنان بنفسيهما، أستاذ وتلميذته، كل على حدة. فأما التلميذة فميمى. ذهب بها صادق إلى بيتها، وصعد معها فتركته مع أمها ريثما تغير ثيابها وتصلح من شأنها، ولكنها لم تغيرها ولا كانت بها حاجة إلى ذلك. وإنما قعدت على كرسى بين السرير والمرآة وقالت لنفسها: «لست أستطيع أن أجرد من نفسى شخصًا ثانيًا — كما يصنع إبراهيم — ولكنى أستطيع أن انظر إلى خيالى فى المرآة». وأقبلت على الخيال البادى فى صقال المرآة تتأمله، وتُميل وجهها يمنة ويسرة وتسوى شعرها ببنانها، وأخرجت (الأحمر) فمرت به مرًا خفيفًا على شفتها السفلى ثم أطبقت العليا عليها، وتبسمت إذ تذكرت أن إبراهيم كان إذا بلغ بها مأمنًا أشار إلى ثغرها، فتخرج منديلاً وتبله بريقها، بطرف لسانها، وتمسح هذا الأحمر الذى لا يطيقه إبراهيم، وإن كان يغضى عنه فى الطريق، ولا يأبى عليها زينته وهى غادية أو رائحة. وتساءلت ميمى أتراه يخشى أن يبقى بفمه أثر منه؟ ونفت ذلك. وقالت إن تحية لا تصبغ شفتيها بهذا الأحمر، ولا تمسح وجههابالمساحيق، بل ليس فى بيتها شىء من هذا. وعكفت على إصلاح هندامها وهى تحدث نفسهما أن إبراهيم ينطوى لتحية على حب عميق متغلغل فى شعاب نفسه، إلا أنه ساكن لا يثور ولا يفور، وأنه لم يرفعها — هى — هذا المقام فبقيت فى منزلة الصديقة ليس إلا. نعم أقطعها من نفسه مكانًا كريمًا، ولكنه أبى أن يجاوز هذا الحد الذى خطه من أول يوم، وأولاها وده وعطفه، وآثرها على غيرها — وكان لها أبًا وأخًا وصاحبًا — غير أنه فى سنوات طويلات المدد لم يجر لسانه — ولا مرة واحدة — بذكر الحب، ولم يقل لها قط إنه يحبها، وزجرها مرارًا عن اللغط بهذا اللفظ. حتى فى اللحظات القصار التى يسهل فيها، من فرط النشوة، وطيب المتعة، أن تنتزع العاطفة اللجام وتنطلق به جامحة، كان الزمام لا يفلت من أصابعه، والرشد لا يخرج من كفيه، والعقل لا يفقد سلطانه وسيطرته، واللسان لا يجرى إلا بقدر. وتذكرت كيف أنه كاد مرة ينسى نفسه، ويعدو ما خط ورسم، فقد رق حتى قارب أن يذوب، ثم هاجه لما به ما لا تدرى، فانتفض وانقض عليها يطوقها، ويعصرها، ويهصرها، كأنما يريد أن يشق بها ضلوعه إلى قلبه وهى تلين له فى العناق، وتئن من طيب ما تجد وألمه، ويلثم فاها ووجنتيها وعينيها، وجبينها، وشعرها — ويشمه أيضًا — ويدفع راحتيه متحسسًا، ويملأ قبضته بلحمها كأنما يريد أن يقتطع منه، وهى مُدار بها كالمسحورة أو المخمورة من دهشة المفاجأة وسرعة التحول من اللين إلى العنف، وحلاوة الأخذ بقوة، ولسع الرغبة المضطرمة، وتود لو مضى إلى ما يشاء من مدى، وتشفق أن لا يفعل، وترجو أن يطول أمد النشوة. وإذا به يدفعها عنه فجأة، كما جذبها فجأة، وينأى عنها وصدره كالخضم مضطرب، ويقول بجهد واضح: «كلا. ما ينبغى هذا فلست لى، ولا أنا لك، وسنندم — كلانا — إذا لم نرشد». ومر أمام عينها — كشريط السينما، ولكن كخطف البرق — كل ما كان بينها وبينه، ولم يسعها إلا أن تعترف بأنه أمتعها ولم يحرمها، كما قال لها مرة وهو يضحك: «إلا استيفاءات يتم بها (المحضر)، ولا يعد ناقصًا بغيرها على حد تعبير الشرطة». ونهضت ودارت أمام المرآة، وتأملت قدها من الجانبين، ومن خلف ومن قدام، وحدثت نفسها أنها هى أيضًا أمتعته. ولم تقل ذلك على سبيل المن، بل إعجابًا بحسنها، فما كان يخفى عليها — ولا كانت فى هذه اللحظة تنكر — أنه كان أسهل شىء على إبراهيم أن ينال منها كل منال. فما كانت تشعر، إذ تكون معه أن لها إرادة غير ما يريد، وكانت ربما اشتهت أن يرخى أصابعه ويدع اللجام يفلت من بينها. ولكن وطأة هذه الرغبة لم تكن تثقل عليها أو تلج بها. وكانت تحس — ويخيل إليها — أنها ما تمنت ذلك أحيانًا إلا من أجله، ولتهبه من السعادة كل ما لعله يحلم به. وكان يطيب لها أن تغالط نفسها على هذا النحو، وأن تتصور أنها مصدر سعادة له، وأن عندها ذخائر من الاستمتاع بحسنها فوق ما فاز به ونعم. وكانت ربما تعجبت لزهادته وقناعته، وخشيت أن يكون ذلك مرده إلى نقص فى فتنتها وقوة جذبها عن حد الكفاية. فلولا صراحة إعجابه بها، وخوفه عليها، وضنه بها، لعذبها هذا الشك الذى كانت وساوسه تهجس فى خاطرها كلما أقصر. وألفت نفسها تكبر منه، وتحمد له، أنه أكرمها، ووقاها ما كان غيره خليقًا أن يجرها إليه، وصانها عن الشعور بالابتذال. ولقد قتر عليها، ولم يعاطها الحب إلا بقدر يكفى أن يعفيها من عذاب الالتياح وإن كان لا يبلغ أن يكون ارتواء. ولكنه قتر على نفسه أيضًا، وتجشم فى ذلك ما لم تتجشمه هى، فقد كان الزمام فى يديه، والمجهود كله مجهوده، فإن شاء أخب وأوضع وإن شاء تمهل وترفق، فأبى إلا التحرز. وأحست أن نفسها تفيض بالشكران له على ما توخى من تجنيبها الامتهان، ولو كان أزال ما يجب أن يصان، لما وسعها أن تلقى صادقًا بما لقيته وتلقاه به. صادق … وأدارت اسمه على لسانها كأنما تريد لتتذوقه.. فأحست بمثل النار تندلع فى صدرها، وتتقد علوًا وسفلاً، فرفعت يدها إلى وجهها تتحسسه وتجسه، فوجدت بردًا، ولم تجد حرًا، وحدثت نفسها ساخرة أن هذا لنعم القريب المحب العاشق.. توليه الثقة التى لا يستحقها، عملاً بمشورة إبراهيم وتؤثر معه الحسنى، وتبدى له صفحة الود، لتتألفه وتغريه بأن يكون شيئًا، فينقلب وحشًا يستدرجها إلى مهمة قفر ليفتك بها زاعمًا أن هذا من الحب! وهو مع ذلك قريبها، ومن لحمها ودمها، فكان حقه أن يصونها ويعف كما عف عنها إبراهيم وليس من نسبها، فإذا كان يهم بها هذا الهم، ولا تمنعه قرابة الدم أن يحاول اغتصابها، فماذا تراه يصنع باللواتى لا تصله بهن صلة رحم كفتحية مثلاً؟ تلميذته التى ترى له عليها حق الأمر. ومطت شفتيها لما ذكرت فتحية. ولم تنكر أن لها جمالاً ولكنها أنكرت أن صوتها يطاق، وشبهته بصوت زمارة ينفخ فيها من لا يحسن الزمر. وليست هذه بالتلميذة الوحيدة … وكل همه أن يكون مونولوجست.. بففف! وإن أباه لفى سعة، ولكن لا هو ولا أبوه يخطر لهما أن يصنعا شيئًا يعالجان به هذه البطالة المزرية. هى فتاة تكسب رزقها بعرق جبينها، وهو فتى لا يستنكف أن يعيش حميلة على ذويه، وهذا هو الذى يطمع فى، ويحلم بأن أكون له زوجة. ومع ذلك أحست أن قلبها يرق له. وإنه لجدير بكل ما صبت على رأسه من نعوت ولكنها لا تحفل ذلك كثيرًا وإن كان يمضها ويرمضها. أليس من رحمها وإن كان عاطلاً؟ وإن الفتيات ليحمن ويلبن عليه كالذباب.. أى نعم كالذباب. فما هى بخير منه ولا أطهر.. فلا بد أن له مزية.. فتنة.. جذبًا.. وإلا لما قدر على ذلك. واعترفت أن له جذبًا. ولكنه يخيفها ويفزعها. أما لو لا ذلك، لولا خشيته لأمكن أن.. ماذا؟ أترى إبراهيم قد صدق، وصحت فراسته حين قال لها إنها تحبه فى قرارة نفسها وهى لا تدرى؟ نعم تنطوى له على الود والعطف والأسف لما هو فيه. ولكن.. كيف تحبه وهو عاطل؟ وكيف تأمنه وتطمئن إليه وهو لا ينفك يحمل على ذراعه فتحية ونظائرها ولا يشعر بارتباك أو خجل حين تلقاهما معًا؟؟ وذهبت تقطع الغرفة جيئة وذهوبًا، ثم انحطت على الكرسى وقد أحست أنها تعبت. وتجمعت العبرات فى مدمعها وحلقها، وجاهدت أن تردها، ولكنها ارفضَّت فتركتها تقطر على خديها، أو تنهمل، ولم يكن يُسمع لها بكاء. ولكن صادقًا كان قد استبطأها، فدخل عليها — كالثعلب — فالفاها هكذا جالسة، ورأسها مثنى على صدرها، والدموع تتسايل على وجهها، وتقطر على كفيها فى حجرها، فخطا إليها بسرعة وجثا أمامها وراح يلثم راحتيها باطنًا وظاهرًا، ثم رفع رأسها وجفف لها دموعها بمنديل، ثم ضمها إليه حانيًا عليها، مريحًا خده على شعرها. فتنهدت وهمست: «صادق». قال: «نعم يا ميمى». قالت: «تعدنى! …». قال: «إنما لك الأمر وعلى الطاعة». قالت: «وتترك المونولوجات … وفتحية وغيرها؟» قال: «كل ما لا يرضيك لا أفعله». قالت: «و.. و.. ولكنك عاطل …». قالتها بعد تردد وتلعثم وتشجع، ولم تقذف بها فى وجهه. فقال: «من الغد أحاول جادًا أن أغير هذا». فاستدارت شفتاها لشفتيه. وتحاجزا، فقال صادق: «أشكرك يا ميمى». قالت: «بل اشكر إبراهيم، هو الذى فتح لى عينى.. أو علمنى حبك.. لا أدرى». قال: «ما أغربه». ولم يزد. وأما الأستاذ إبراهيم. دخل كالصاروخ، وكانت تحية تنتظره، وفى يدها كومة من ورق اللعب تلقيه متجاورًا على المنضدة فى صفوف متتالية، وتتبين حظها من تقارب ورقات معينة، أو تباعدها، فابتسمت له ابتسامة السرور والترحيب بأوبته وتوقعًا لسخره مما هى فيه. ولكنه مضى إلى باب غرفة المكتب وقال وهو يهم بالدخول: «لا تدخلى على حتى أدعوك. وسأدعوك». ورأت صرامة نظرته وتجهم وجهه، فتحجرت الأبتسامة — لم تغض بل صارت رسمًا تنقصه الألوان والمعنى — ولم يكن هذا عهدها به إلا حين يكربه هم ثقيل. فقلقت، وارتدت عينها إلى الورقات المتجاورة فنحتها بكلتا يديها، واتكأت بكوعها على المنضدة وأسندت رأسها إلى كفها، وراحت تنتظر قضاء الحظ فيها. وارتمى إبراهيم على كرسى وهو يقول لنفسه: «إن الأمر جاوز الحد. هذا الجار الذى انشقت عنه الأرض اليوم، وأقبل بتعقبنا، من يدرينى أنه ليس هناك غيره، يرى، ويتتبع، ويستخبر، ويروح يلغط؟ وإذا ألح الرجال على ميمى بالمطاردة فما عسى أن تكون العقبى؟ وتحية؟ تحية التى رددت إلى محياها البشر والتطلق، هل أعود فأعذبها هذا العذاب الغليظ الذى لم أرحها منه إلا بمشقة؟» وخطر له أن يرجئ البت فى هذه الأمور الإشكال إلى الغد، فإن اليوم هو يوم النحس الثالث عشر.. ثم عاد يقولى: «كلام فارغ.. الأمر أكبر من ذلك وأنا هنا الساعة لأراجع نفسى وأحاسبها وأستقر على رأى لا تردد بعده. وماذا تقولْ تحية إذا خرجت إليها متحيرًا بعد أن وقع فى روعها من كلامى ولهجتى وهيئتى أنى مزمع أمرًا له ما بعده؟» واضطجع وشرع فى الحساب. وخيل إليه، وقد استغرقه ذلك، أن نفسه تتمثل له جالسة قبالته، مضطجعة مثله، وإحدى ساقيها ملتفة بالأخرى. وكبر هذا فى وهمه حتى لقد هم أن يقدم لها سيجارة. وقال: «إن السؤال الأول — والأولى بالتقديم، والذى يقع على المحز ولا يترك سبيلاً إلى المراوغة والهرب — هو: هل أستطيع أن أستغنى عن تحية؟» فهزت نفسه رأسها بشدة أن: «لا». قال: «كلا، لا أحسبنى قادرًا على ذلك، أو مطيقًا له، وما أظن بتحية إلا أنها قد صارت «عادة لى». فقالت نفسه: «نعم عادة، ولم لا؟ أى ضير فى هذا؟ إن كل إنسان حزمة من عادات تكبر وتضخم، شيئًا فشيئًا، على الأيام مع ارتفاع السن، ويحسن أن توطن نفسك على هذا، وليست تحية بالعادة المفردة فإن هذا الحساب العقيم الذى لا تزال تؤديه، وتكلفنى أداءه، وتسود به عيشى معك، عادة أخرى. وأقول الحق إنك أتعبتنى وقد مللت صحبتك، ولو كنت تصدر عن رأيي، وتعمل بمشورتى، ولكنك عنيد مكابر». قال: «وكيف بالله أصنع وأنت تشيرين بالرأى ونقيضه؟» فأحست نفسه أنها تهورت، فأقصرت وقالت: «مهلاً، فليس هذا وقته، لقد كنا نقول إنه لا غنى عن تحية، وإنها عادة لك، انتهينا إذن». فقال: «كلا لم ننته، فهل أنا أحبها؟» قالت: «يا أخى ما قيمة هذا؟ ثم إنك تحبها ولا شك حبًا هادئًا لا فائرًا عارمًا كما كان فى البداية، ولكل فورة سكون، ولكل جديد لذته ثم تبلى الجدة، وتذهب معها اللذة، كالثياب..». فثار بها مقاطعًا: «قبحك الله، تشبهين تحية بثوب يبلى وُيطرح، وُيخلع على فقير؟» قالت: «ها، ألم أقل لك إنك تضمر لها حبًا وإكبارًا؟» قال: «دعى هذا. المهم أنه لا غنى بنا عنها ولا طيب للحياة بدونها». قالت: «ولماذا كل هذا النفور، بل الفزع، من ذكر الحب؟ أتراك أصبحت كمصاصة القصب التى ذهب عصيرها؟ فأنت تنفر مما لم تعد قادرًا عليه لأنك جففت ونشفت؟» قال: «أما إنك لثقيلة، ثم إنك لم تصدقى، فما عجزت عن الحب، ولكن». قالت مقاطعة: «مع غيرها … اختش يا شيخ، هبها ملتك كما مللتها وذهبت تنشد التسلى كما تنشده..». فصاح بها «اخرسى..». قالت: «إذن أنصفها، ولا تكلفها إلا ما تكلف نفسك، وإلا زهقت روحها إذا ظلت على التصبر والتشدد، ولم تذهب تتعزى وتتلهى مثلك، وعلى فكرة … إن روحها تكاد تزهق الاَن من القلق والاضطراب. ما أقل ذوقك معها وأسخف رعايتك لها.. ألا ترى أن الأوفق أن تفض الجلسة وتخرج لترد إليها روحها؟» قال: «صدقت، وإنى لوحش، فلنعجل، إذن لا معدى عن عمل نعمله؟» قالت: «طبعًا، وإنه لسهل». قال: «سهل؟ تقولين سهل؟؟» قالت: «نعم. إذا كانت علة الفتور أنها لم تستطع أن تجدد نفسها لك فجددها أنت لنفسك». قالى: «يبدو لى أن هذا غير معقول ولكن كيف؟» قالت: لا تكن بليدًا. فكر.. اختر لها ثيابها برأيك.. مثلاً.. فصلها على قدها على هواك، فلن يسوءها، بل أخلق أن يسرها أنك معنى بها وبتجَميلها فى عينك.. غير لها ولك المناظر التى تحيط بكما.. اذهب بها إلى لبنان، ولا تخش ولا تقبل منها اعتراضًا، واذكر أنك حفيد أولئك الأجداد الحكماء العمليين من أهل الكهوف والغيران، وأنها هى أيضًا حفيدة أولئك الجدات اللواتى كن يفرحن بقوة الرجل وسطوته ويلتذذن طاعتهن له». قال: «أظنك على صواب، وهذا يذكرنى بقول أبى تمام: بل الحياة نفسها إنما كانت لها هذه المحبة لأنها ليست بسرمد، اتفقنا.. وإلى لبنان إذن». وهم بالنهوض، فأومات إليه أن مهلاً، وقالت: «ميمى؟» قال: «هى عاقلة، تفهم، وتعذر». قالت: «خير لك أن تكتب إليها، هذا أسهل». قال: «الحق معك». ودعا تحية فأقبلت واجفة القلب فابتدرها بقوله: «سنسافر فاستعدى». فريعت، وتوهمت أن مكروهًا حاق بأحد من الأهل، ولمح آية الجزع والفزع فى محياها، ووخزته نفسه وهمست فى أذنه: يا شيخ حرام عليك». فتبسم وقال: «إلى الشام». فوضعت يدها على صدرها وتنهدت، ثم سألته: «الشام؟» قال: «نعم بأسرع ما نستطيع». قالت: «ولكن الشام؟ هذا.. كلا. ليس الآن». قال: «ماذا تعنين؟ الشام قلت، وإلى الشام سنذهب». فهمست نفسه فى أذنه معجبة به راضية عنه: «هكذا يتكلم الرجل … برافو …». قالت: «ولكنك غير فاهم، ليست المسألة أنى لا أريد السفر فإنى أريده وأشتهيه ولكن.. ولكن..». وتلعثمت واتقد وجهها كالجمرة، وغضت من بصرها، فدنا منها وأحاطها بذراعه وسألها بحنو: «مالك؟» قالت وهى مطرقة، وشفتها تختلج: «إنى … إنى … أنا حامل». فقال على البديهة، وبغير تفكير، وذهنه متجه إلى الحجة لا إلى الخبر: «كلام فارغ.. أليس فى لبنان حوامل!». ثم تنبه فصاح بها: «إيه؟ ماذا تقولين؟» فضحكت ما وسعها أن تضحك، بعد أن أجرت لسانها بما كانت مستحيية كالعذراء من ذكره. فانحنى عليها وقبلها، وضمها ضمًا خفيفًا. وجلس وأجلسها على حجره، ومسح لها شعرها بكفه وأسندها إلى صدره وقال: «أظن أن أمى يسرها هذا، لو أمكن أن تدرى». قالت: «فى الصباح نذهب إليها ونخبرها». قال: «ثم إلى الشام». قالت: «إذا شئت». وأغمض عينيه، وذهب يتصور أنه يوشك أن يصبح أبًا، وذهل حتى عن تحية على حجره، فغمزته نفسه وهمست: «لا تنس من فرحتك أن تكتب إلى ميمى». فقال بضجر وصوت عال: «كيف يمكن أن أنسى؟» فاستغربت تحية وسألته: «تنسى؟ تنسى ماذا؟» فتنبه، وسخط على «نفسه» التى كادت توقعه فى ورطة، وقال: «لا شىء، أحسبنى كنت أفكر فى هذا.. كل جديد من الأمر يتطلب جديدًا من التفكير». فضحكت ونهضت عن حجره، وقالت وهى تسوى خصل شعرها: «هذا دأبك أبدًا.. لا يمكن أن تتغير». فحدق فى وجهها وقال: «بل أنا أتغير كل ساعة، وقد تغيرت الاَن منذ لحظة … فلو أنى..». «ليس فى عينى». ومالت عليه ولثمته: «ولا فى قلبى».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/47162571/
الست هدى
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية الملهاوية حول بطلة تدعى السيدة هدى، أنعم الله عليها بالثراء، فكانت تملك ثلاثين فدانًا من الأراضي، وهو الأمر الذي دفع الرجال بالتزاحم حولها من أجل الزواج منها. وفي كل مرة كانت تتزوج بواحد منهم إذا به ما يلبث أن يلقى ربه قبلها، حتى قدر الله لواحد منهم أن يحيا إلى أن ماتت هي. وقد ظن هذا الرجل بالفعل أنه أصاب منها الثراء، إلا أنه ما لبث أن اكتشف بعد ذلك أنها أوصت بجميع أمولها لجهات البر وبعض صديقاتها، فجن جنونه. وقد سعى أمير الشعراء أحمد شوقي جاهدًا من خلال هذا العمل المسرحي إلى إبراز هذا العيب الأخلاقي والانحراف الاجتماعي المتفشي في المجتمع المصري آنذاك.
https://www.hindawi.org/books/47162571/0/
تمهيد
null
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/47162571/
الست هدى
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية الملهاوية حول بطلة تدعى السيدة هدى، أنعم الله عليها بالثراء، فكانت تملك ثلاثين فدانًا من الأراضي، وهو الأمر الذي دفع الرجال بالتزاحم حولها من أجل الزواج منها. وفي كل مرة كانت تتزوج بواحد منهم إذا به ما يلبث أن يلقى ربه قبلها، حتى قدر الله لواحد منهم أن يحيا إلى أن ماتت هي. وقد ظن هذا الرجل بالفعل أنه أصاب منها الثراء، إلا أنه ما لبث أن اكتشف بعد ذلك أنها أوصت بجميع أمولها لجهات البر وبعض صديقاتها، فجن جنونه. وقد سعى أمير الشعراء أحمد شوقي جاهدًا من خلال هذا العمل المسرحي إلى إبراز هذا العيب الأخلاقي والانحراف الاجتماعي المتفشي في المجتمع المصري آنذاك.
https://www.hindawi.org/books/47162571/1/
الفصل الأول
(في دار صغيرة مؤلفة من: «مندرة» في الطبقة السفلى، ومن سُلم يُصعد منه إلى قاعة صغيرة، وثلاث حجرات، والمنزل مطلٌّ على مسجد «أبي الليف» بحيِّ «السيدة زينب».) (الست «هدى» وجارتها «زينب» في إحدى الحجرات.) (لزوجها) (تدخلان الحجرة وتستتران وراء الباب.) (يجتاز «عبد المنعم» القاعة إلى حجرة نومه.) (تخرج زينب.) (تسمع ضجة بالسلم …) (تدخل أربع فتيات من بنات الجيران: «خديجة» و«أسماء» و«بهية» و«إقبال».) (لبهية) (يُسمع صوت خارج الحجرة.) (تُناولْه قهوةً.) (وهي تلبس): (للأغا) (للفتيات): (الفتيات يشتغلن بلباسها.)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/47162571/
الست هدى
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية الملهاوية حول بطلة تدعى السيدة هدى، أنعم الله عليها بالثراء، فكانت تملك ثلاثين فدانًا من الأراضي، وهو الأمر الذي دفع الرجال بالتزاحم حولها من أجل الزواج منها. وفي كل مرة كانت تتزوج بواحد منهم إذا به ما يلبث أن يلقى ربه قبلها، حتى قدر الله لواحد منهم أن يحيا إلى أن ماتت هي. وقد ظن هذا الرجل بالفعل أنه أصاب منها الثراء، إلا أنه ما لبث أن اكتشف بعد ذلك أنها أوصت بجميع أمولها لجهات البر وبعض صديقاتها، فجن جنونه. وقد سعى أمير الشعراء أحمد شوقي جاهدًا من خلال هذا العمل المسرحي إلى إبراز هذا العيب الأخلاقي والانحراف الاجتماعي المتفشي في المجتمع المصري آنذاك.
https://www.hindawi.org/books/47162571/2/
الفصل الثاني
(في قاعة الدار.) (عبد المنعم يتناول طعام الفطور … الست هدى.) (عبد المنعم ينادي حلمي الكاتب وهو تحت.) (يحضر حلمي.) (وهو يأكل.) (لزوجها) (لزوجها) (زينب تنصرف مذعورة ويظهر «ألماز أغا» لدى الباب.) (لزوجها) (تخبئ الزبيب، فيدخل الأغا.) (همسًا) (للمحامي) (السيدة والأغا يخرجان.) (ويخرج الكأس من مخبئها بين قدميه.) (تدخل هدى.) (لنفسها) (لحلمي) (تنادي) (يدخل رضوان) (يخرج رضوان.) (عبد المنعم يتمشى مغضبًا.) (وتتناول عصا.) (تدخل زينب ثائرة وراءها نساء من الحارة.) (تضربه) (تخرج عقد زواجها.)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/47162571/
الست هدى
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية الملهاوية حول بطلة تدعى السيدة هدى، أنعم الله عليها بالثراء، فكانت تملك ثلاثين فدانًا من الأراضي، وهو الأمر الذي دفع الرجال بالتزاحم حولها من أجل الزواج منها. وفي كل مرة كانت تتزوج بواحد منهم إذا به ما يلبث أن يلقى ربه قبلها، حتى قدر الله لواحد منهم أن يحيا إلى أن ماتت هي. وقد ظن هذا الرجل بالفعل أنه أصاب منها الثراء، إلا أنه ما لبث أن اكتشف بعد ذلك أنها أوصت بجميع أمولها لجهات البر وبعض صديقاتها، فجن جنونه. وقد سعى أمير الشعراء أحمد شوقي جاهدًا من خلال هذا العمل المسرحي إلى إبراز هذا العيب الأخلاقي والانحراف الاجتماعي المتفشي في المجتمع المصري آنذاك.
https://www.hindawi.org/books/47162571/3/
الفصل الثالث
(بحجرة بالطبقة العليا من دار المرحومة «الست هدى»، «السيد العجيزي» من أعيان الريف وزوج المرحومة «الست هدى».) (ينادي) (يحضر) (صوت من الطبقة السفلى): (لرضوان) (الثلاثة يصعدون.) (ويخرج) (يدخل العجيزي فيقول): (زائر ينادي من تحت): (للحاضرين) (يدخل النشاشقي والشيخ.) «للحاضرين» (لرضوان) (للحاضرين) (وهو ينظر إلى جوانب البيت.) (للحاضرين) (وينزل فيصرف «داود» ويعود.) (يدخل سلمان ويقول للعجيزي). (همسًا) (ينصرفان) (يعودان) (يتناول كلٌّ من مصطفى وعامر عصاه.) (صوت من الخارج.) (ويقع مغمًى عليه.) (لرضوان) (للعجيزي) (ويتمايل الأغا ثم يسقط.) (ويتمايل كالنشوان.) (يغمى عليه.) (للأغا)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/0.1/
مقدمة
هذه مقالات مختلفة فى موضوعات شتى كتبت فى أوقات متفاوتة وفى أحوال وظروف لا علم لك بها ولا خبر على الأرجح. وقد جمعت الآن وطبعت وهى تباع المجموعة منها بعشرة قروش لا أكثر! ولست أدعى لنفسى فيها شيئًا من العمق أو الابتكار أو السداد، ولا أنا أزعمها ستحدث انقلابًا فقريّا فى مصر أو فيما هو دونها، ولكنى أقسم أنك تشترى عصارة عقلى وإن كان فجًّا، وثمرة اطلاعى وهو واسع، ومجهود أعصابى وهى سقيمة، بأبخس الأثمان! وتعال نتحاسب! إن فى الكتاب أكثر من أربعين مقالًا تختلف طولًا وقصرًا وعمقًا وضحولة. وأنت تشترى كل أربعة منها بقرش! وما أحسبك ستزعم أنك تبذل فى تحصيل القرش مثل ما أبذل فى كتابة المقالات الأربع من جسمى ونفسى ومن يومى وأمسى ومن عقلى وحسى، أو مثل ما يبذل الناشر فى طبعها وإذاعتها من ماله ووقته وصبره. ثم إنك تشترى بهذه القروش العشرة كتابًا، هبه لا يعمر من رأسك خرابًا ولا يصقل لك نفسًا أو يفتح عينًا أو ينبه مشاعر، فهو — على القليل — يصلح أن تقطع به أوقات الفراغ وتقتل به ساعات الملل والوحشة. أو هو — على الأقل — زينة على مكتبك. والزينة أقدم فى تاريخنا معاشر الاَدميين النفعيين من المنفعة وأعرق، والمرء أطلب لها فى مسكنه وملبسه وطعامه وشرابه، وأكلف بها مما يظن أو يحب أن يعترف. على أنك قد لا تهضم أكلة مثلًا فيضيق صدرك ويسوء خلقك وتشعر بالحاجة إلى التسرية والنفث وتلقى أمامك هذا الكتاب فالعن صاحبه وناشره ما شئت! فإنى أعرف كيف أحوِّل لعناتك إلى من هو أحق بها! ثم أنت بعد ذلك تستطيع أن تبيعه وتنكب به غيرك! أو تفككه وتلفف فى ورقه المنثور ما يُلف، أو توقد به نارًا على طعام أو شراب أو غير ذلك! أفقليل كل هذا بعشرة قروش؟ أما أنا فمن يرد إلىّ ما أنفقت فيه؟! من يعيد لى ما سلخت فى كتابته من ساعات العمر الذى لا يرجع منه فائت، ولا يتجدد كالشجر وتعود أخضر بعد إذ كان أصفر، ولا يُرقع كالثياب أو يُر فى؟! وفى الكتاب عيب هو الوضوح فاعرفه! وستقرؤه بلا نصب، وتفهمه بلا عناء.. ثم يخيّل إليك من أجل ذلك أنك كنت تعرف هذا من قبل وأنك لم تزد به علمًا! فرجائى إليك أن توقن من الاَن أن الأمر ليس كذلك وأن الحال على نقيض ذلك! واعلم أنه لا يعنينى رأيك فيه! نعم.. يسرنى أن تمدحه كما يسر الوالد أن تثنى على بنيه، ولكنه لا يسوءنى أن تبسط لسإنك فيه إذ كنتُ أعرف بعيوبه ومآخذه منك. وما أخلقنى بأن أضحك من العاتبين وأن أخرج لهم لسانى إذ أراهم لا يهتدون إلى ما يبغون وإن كان تحت أنوفهم! ومهما يكن من الأمر، وسواء أرضيت أم سخطت، وشكرت أم جحدت، فاذكر، هداك الله، أنك اخر من يحق له أن يزعم أن قروشه ضاعت عليه! — أولى بالشكوى منك الناشر ثم الكاتب.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/1/
على تخوم العالمين
بيتى على حدود الأبد — لو أنه كان للأبد حدود! — وليس هو ببيتى وإن كنت ساكنه، وما أعرف لى شبر أرض فى كل هذه الكرة، ولقد كانت لى قصور — ولكن فى الاَخرة!! — بعت بعضها والبعض مرهون بحينه من الضياع، ووقفت معلقًا بين الحياتين، كما سكنت على تخوم العالمين! ••• ولغيرى الأحراز والأملاك، ولكنّ من الصعب أن يتصور المرء أن «أرضًا» ملكه — ملكه كيف؟! يستطيع أن يزرعها إذا شاء، أو يبنى فوقها إذا أحب، ولكن هذا ليس إلانوعًا من الارتفاق. فأما أن يفهم العقل على وجه مقبول جلى أن هذا القطعة من الأرض — هذه القشرة المنتشرة على كتلة العالم، هذه الطبقة المتصلة بطبقاتٍ دونها — ملكه! فمما لا أصدقه ولا أدركه!! وتصور أن جبلًا من الجبال ملكك؟! جبلًا أشم شامخًا تتجاوب فى مخارمه الأصداء، وتصارع كتلته الرازحة الرياج والأنواء — ملكك؟! لأصدقُ من ذلك وأقربُ إلى الصواب فيه أن تقول إنك أنت ملكه! ••• وإلى يمينى الصحراء، وإلى يسارى.. الصحراء، وفى كل ناحية يرتمى فى فجاجها الطرف.. الصحراء، وفى الصدر.. لا أدرى سوى أنه قواء!! وفى كل يوم أهبط إلى ساحل الحياة وأتريث على حفافيها برهةً أشهد عبابها المتدفق ينهزم على الرمال ويتكسر على الحصى والصخور ويقذف بأشلاء غرقاه ثم يرتد ليؤوب بسواهم، مطويين فى أكفان أثباجه، محمولين على نعوش من مربد أمواجه. وبعد أن أقضى حق العين من التأمل والشهود، كأنى موكل بعدّ الموتى وحساب البيود، أكر راجعًا إلى صحراواتى! والقمر يضيئها كما يضيئكم أبناء الحياة! ويبسط على رمالها الصفراء نوره الفضى اللين اللألاء، ويضربها سارى الطل ضربة الروضة الفيحاء، وتوامض بلوراتها الأنجم الزهراء، وتطلع عليها الشمس وتغيب كل صباح ومساء، فما تميز «العناية» بين ممرعة وجدباء، وكل شىء عند الطبيعة ككل شىء سواء بسواء، ولو خلت منكم الدنيا لما أحست فقدكم لا الأرضُ ولا السماء! ••• ويزحف الليل فأبرز إلى الصحراء، فيلفنى الظلام فى شملته، وتلطمنى الريح وتدفعنى وترد من خطاى كأنما تريد لتصدنى عن هولها، وأعود كبعض ذراتها لا تراها العين، ولا يحسها ولا يحفل بها كون، فليت من تخدعهم الحياة وتنسيهم ضآلة أقدارهم يخرجون ليلة إلى الصحراء! وماذا يعرف عن الليل من يسكن المدن ويعيش بين أضوائها الناسخة للظلمة، المضيعة لوقعها فى النفس؟! ها هنا الليل الطاغى العاتى يا من ألفتم نعومة الحياة وطراوة العيش! فوقك السماء لا تراها ولكن تحس أنها دنت منك، وأسفَّت إلتك، فلو رفعت يدك لدفعتها.. وتحتك الرمل تغوص فيه قدمك وتريد أن تقتلعها منه ويأبى أن يدعها لك كأنما شوّقه طولُ الجدب إلى غرسٍ ولو كان إنسانًا!! ومن الريح فى أذنيك الرعدُ مرسلًا دافقًا — هل رأيت «الدوامة» فى الماء؟ إليها تنحدر كل موجة، وصوبها يجرى كل طاف، وفيها يغرق كل محمول على متن التيار — كذلك تكون أذناك للريح! فيهما ينصب صفيرها، وإليهما يجرى مزمزمها. كأنما آضتا قطبًا شماليّا يجذب الرياح من الجهات الأربع! فيالفرحة الريح بطارق الصحراء!! ••• ويتجرد الإنسان فيها من اسمه، ولا يعود فلانًا بن فلان — كائنًا من كان هذان الفلانان — بل بعضها وأهون ما فيها، وتسقط عن نفسه — كأوراق الشجر الذاوية — عواطف الغضب والألم والمراح واالأمل واليأس والندم والأسف والطماح، وتسكن الشهوات الجامحة وتختفى النزعات المقلقة الطائشة ولا يبقى سوى طمأنينة وادعة، كصفحة الغدير المصقولة إذ يمسحها النسيم الوانى، حتى والريح تعصف والظلمة مسحنككة. ويحدّث نفسه إذا شاء — بل هو لا يسعه إلا أن يحدثها — ولا ينكر صوته ولا يستغرب أو يلحظ أنه تغير وأنه صار أشبه شىء بالصدى واثبًا عن جوانب الغار. ويغنيها فى الليلة القمراء.. ••• وقد تزاحف الناس ببناهم فما عمروا منها فيما أرى خرابًا، ولا تحيفوا منها طرفًا أو ضيقوا لها رحابًا، هى أبدٌ صغير، وله ينتقص من الأبد كر الأيام والشهور! والمرء ينفض فوقها غبار الحياة، وينضو عندها كل ثوب مستعار، وينسى أنه سعى وفاز أو خاب، وأن عليه أن يعود كرته إلى خوض قديم العباب. ويا عجبًا لها! أهبط إلى ساحل العيش كل يوم وأعود وبى حاجة إلى أن أميط عن نفسى ما علق بها من الأوحال، فأغشى الصحراء فأصفو من الأخلاط والأوشاب، وأرجع ولم يعلق حتى بثوبى التراب.. أنا الساعة فى خلوة بنفسى — لا سمير إلا طيف الماضى — هذا أنيسى، يعمر لى فجاج الصحراء، ويكظها بالأشباح الجوفاء، ويحيطنى بحاشية من الذكريات ليس لها، انتهاء، ويُطرفنى بأحاديث أيامى التى تقضت، وأحلامى التى انتسخت، وهماتى التى فترت، وبساتين امالى التى صوّحت.. رقدتُ على الرمال وجعلت عينى قيد هذه السماء المجلوة التى لا تعرف فن الإمطار. وكان القمر طالعًا ولكنه باهت كابى الضوء، كالذكرى، يغرى بالوجوم ولا يُشيع فى النفس حرارة.. وهفا فوقى عصيفير حط على صخرة.. هناك!.. هناك حيت لم أكن أجلس وحدى! … وانطلق يغرد. اه لو علمت عُصيفيرى أن صوتك كان يكون أصفى، وتغريدك أحلى وأشجى.. ولكن عينها لن تُفتح على هذه السماء، وسمعها لن يرده هذا الغناء!! والمرء فى خلوته يكون أقرب إلى الجنون إذا ذهبتَ تعتبر سلوكه، كما يقول ماكسيم جوركى، لأنه يرسل نفسه على سجيتها حين يأمن عيون الرقباء، وتقول أو يفعل ما بدا له غير محتشم. وقد أذكرتنى كلمة جوركى أنى أحيانًا أجدنى أنحنى ساخرًا من شخص لا وجود له إلا فى وهمى، أو أحك أنفى بأصبعى مكايدًا من أتخيل أنى أعابثه، أو أخرج لسانى لصورتى فى المرآة! وكأن العصفور أعدانى فرحت أغنى.. وما أنا بالمحتمل الصوت ولا هذا من عاداتى، وإنّ فى طبعى لاحتشامًا، كثيرًا ما ينغص علىّ متعى ولذاذاتى. غير أنى لم ألتفت إلى صوتى ولا أحسبنى حتى سمعته، وإنما هو ذهول عرانى فمضيت أرسل من الأصوات ما كان يطربنى حين يصافح أذنى كأنما أردت لأستدنى به نائيًا … فخيل إلىّ أنى سامع وقع قدمين تدلفان نحوى … ولكن الطيف مرّ بى لم يتريث، واشتمل عليه ظلام الليل كما طوى صاحبه ظلامُ الأبد! ••• وا أسفى عليكِ! — لا بل علىّ — لم يبق منك إلا طيفٌ يعتاد ذاكرتى! لا أثر على الرمال الخائنة التى كنا نمشى فوقها ونرقد عليها، ونملأ أكفنا منها، وندعُ ذراتها تتساقط خيوطًا من بين فروج أصابعنا! ولقد نسيتكِ النجومُ التى كنت تحبينها وتشيرين إليها ببنانك وتعدينها ولم تستوحش خلو مكانك إلى جانبى تحت عيونها المتلامحة — بل هى لم تذكرك حتى يقال نسيتك — والقمر الذى كنت تأنسين بطلعته وتخالسينه النظر من بين خصل شعرك الدجوجى المرخى على وجهك تحت ضوئه الفضى اللين — لا يزال يبتسم كالعهد به ابتسامة السخر والسهوم كأنه لم يفتقدك! كلا! ما من شىء فيما أرى يحس افتقادك كأنك لم تحبى وجه هذه الطبيعة الخامدة الحس، الميتة المشاعر، التى تروعنا وهى لا تحفلنا، وتسبينا ولا تذكرنا. حتى أنا الباكى عليك تعرونى رعدة كلما تصورت ما يصنع البلى بك! شفتاك الحساستان اللتان كانتا تستديران لتتلقيا قبلتى، ماذا صارتا الآن؟ صديدًا سائلًا! وعيناك؟ أليستا الساعة كهفين بشعين أعالج أن أطرد من مخيلتى صورتهما؟ وأنفك الأشم المنسجم لعله فى هذه اللحظة مرتع ديدان ومرعى حشرات! وأناملك الغضة التى كانت تضاغط كفى عن أرق عاطفة وأحناها؟ إيه ما أشنعها صورة وأهولها!! وماذا أنا الآن؟ حى من الأحياء لايدرى الناس أنى مت منذ سنين وأنى قبر متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها أو صورة باهتة لما كنتُه فى حياتى. وما أعد فيمن لا يزالون على قيد الحياة إلا لأنى ينقصنى أن تكتب لى شهادة بالوفاة! ولقد كنتُ كما يتوهمنى الناس الآن، حيّا تتدفق الدماء الحارة فى عروقى، فلما تأملت مصائر الخلق ركدت الدماء قليلًا وابتردت ومات منى شىء! ثم قضى ولدانا فأحسست دبيب الفناء، وضَحِىَ ظلُّك فتساقطت أزهار الحياة بين يدىّ وذوت نوارات امإلى تحت عينى، وإذا كفى ملأى بميت الزهر مما قطفت قدمًا، فشاع فىّ الموت علوّا وسفلًا..!! وإنى لأقضى أيامى على نحو ما — أروح وأجىء وأكتب وأتكلم وأضحك واَكل وأشرب، ولكنى لا أرجو ولا أغضب، ولا أحزن ولا أطرب، ولا أرهب ولا أرغب لأنى لست أحيا الآن!! ••• وإنى لغارق فى لجج هذه الخواطر، وإذا بفتاة رودٍ تعدو إلى وتنادينى باسمى، فأفقت ورُددت إلى الدنيا ولكن كما يفيق المغشىّ عليه: يتلفت فى كل ناحية ويسأل أين هو؟ ويعجب لنفسه ولمن حوله، وبذهنه بعض الكلال، وعلى عينيه كالغشاوة، ثم اعتدلت فوق الرمل ونبهت حواسى ومداركى بجهد وقلت: «من عسى تكونين يا فتاتى؟». قلت: نعم (ولكنى لم أذكرها). فمضت فى كلامها وهى تلهث وتلقى علىّ الأسئلة ولا تنتظر جوابها: «إنى كل ليلة أتسلل إلى البيت وجرتى تحت مُلاءتى وأدفع الباب برفق. لماذا لا توصد بابك؟ ألا تخشى سارقًا؟ ولكن لو كنت توصده لتعذر علىّ أحيانًا الدخول ولكنت أخجل أن أزعجكم كل ليلة من أجل جرة ماء! وبعد أن أدخل وأضع جرتى فى الحوض أتركها تمتلئ على مهل وأرود الحديقة، ولكنى والله لم أقطف منها شيئًا، وإن كنت أحب ثمر الحناء! وقد انتهرتنى ليلة وأنا أتمشى تحسبنى أريد أن أسرق، فخفت وبكيت فى الطريق وقلت: كيف يسىء الظن بى؟ نعم كيف أسأت الظن بى؟!». فقلت: «لم أكن أعرفك يا فتاتى فلا تغضبى وخذى ما شئت من الحديقة فما بها ما يستحق أن يضن به المرء». فانحنت إلىّ وأنا قاعد على الرمل، ووضعت راحتيها على ركبتيها وأكبّت بوجهها على وجهى وحدّقت فى عينىّ وقالت بلهجة العاتب المحاسب: «كيف لم تكن تعرفنى؟ ألستُ أحييك كلما دخلت ورأيتك جالسًا فى ذلك الركن المظلم تحت الكرمة؟». فتناولت وجهها بين كفىّ وجذبته إلىّ فى رفق وقبلتها إذ لم يكن ثمة بد من ذلك، وقلت: «لا تغضبى يا فتاتى. وإذا كنت تريدين ثمر الحناء فاجنيه كله، أو العنب فعناقيده لك، ولكن خبرينى: من دلك على مكانى؟» ونهضتُ. فعادت إلى التحذر وقالت: «من دلنى؟! يا له من سؤال! كأن الدنيا كلها لا تعرف! ولقد وجدت بابك الليلة موصدًا فعلمت أنك خرجت إلى هنا فجئت أبحث عنك لتفتحه لى فإنى أستحيى أن أقرعه». قلت: «أحسنت، فتعالى إلى هذه الصخرة». قالت: «لماذا؟». قلت: «لتعدّى لى النجوم!». قالت: «أوَ هذا ممكن؟ إنها كثيرة جدّا جدّا!». قلت: «نعم، ولكنك كلما عددت نجمًا وأشرت إليه بإصبعك اختفى واستسر حتى لا يبقى فى السماء ولا الأرض إلا عيناك!». قالت: «أصحيح هذا؟» وجعلت تثب وتصفق حتى لخلتها إحدى بنات الليل.. ومضينا إلى الصخرة، وجلست وأجلستها على ركبتى وطوقتها بذراعى وانطلقت هى تعد النجوم وأنا ألثم فاها كلما عدَّت واحدًا، وهى فرحة بلثماتى، تردها مضاعفة حارة وتهز رأسها وتنفض شعرها ثم تلقى بنفسها على ذراعى كرة أخرى وتستأنف العد، ووجهها إلى السماء، وشعرها المرسل متدل إلى الأرض. ولبثنا كذلك لا أدرى كم! ولكن الذى أدريه أن سنى حسنها طرد خفافيش خواطرى التى كانت تمرح فى ظلام رأسى! ••• ••• ••• •••
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/2/
النجاح
قال أحد كتاب الروس، ولست أذكر اسمه لأرويه: كان بمدينة كذا رجل ضعيف العقل. وكان الناس لا يمسكون عن الخوض فى أمره والتحدث بتخلف ذهنه وغلظ عقله.. فكرَبهُ ذلك وساءه، وأحب أن يغير رأى الناس فيه، فلم يزل يعمل فكره حتى هداه طول التفكير والتدبر إلى ما هو خليق بأن يبلغه أمنيته ويحقق له غايته ورغبته.. وذلك أنه صار كلما لقى واحدًا من معارفه وإخوانه يستسخف رأيه ويستجهله. فإذا ذكر أمامه كتابًا ورأى أنه يستجيده قال له: هذا كتاب سخيف ليس فيه معنى ولا وراءه محصول، وإنك إذ تستحسنه وتستجيده لتدل برأيك فيه على تخلفك عن عصرك وتأخرك عنه. وإذا امتدح أحد صورة على مسمع منه انبرى له بالتنقص والاغتماض قائلًا: ليس فى هذه الصورة شىء يستجاد، وإنك بمدحك إياها وإكبارك لها لتثبت أنك متأخر عن عصرك. وهكذا ظل صاحبنا يستهجن كل ما يستحسنه الناس ويتهمهم بضعف، العقل ويرميهم بالقصور والتخلف عن الزمن وبجهل ما عفّى عليه من الآراء وأجدّ من الحقائق، فيمضون عنه وهم خجلون من سقاطهم وعثراتهم حتى أكبروا عقله وإن أفزعتهم وقاحته وراعتهم جرأته. وبلغ من نجاح صاحبنا فى ما قصد إليه أن صاحب جريدة استكتبه وسأله أن يوافيه بارائه فى الأدب والفنون والاجتماع! فلم يحد عن خطته التى رسمها لنفسه وهى تنقص كل عمل ورمى مستجيديه بالتخلف وعدم الاطلاع على أحدث الآراء التى أنتجها العصر! فصار قوة لا يملك إهمإلها الكتاب والمؤلفون والمصورون وسائر الفنيين. وقد أراد واضع القصة أن يدل القارئ بها على سر من أسرار النجاح. ولم نرد نحن بإيرادها أن نذهب إلى أن الدعوى والتبجح لازمان فى الحياة وأنهما وسيلة النجاح لا وسيلة سواهما، ولكنا أردنا أن نقول إن الحياء شىء حسن له فضله ومزيته، ولكنه، على ذلك، ثوب يحسن أن يخلعه المرء إذا شاء أن يفوز بحقه ويظفر بما هو أهل له. فقد تكون أقوى الناس استعدادًا وأكثرهم مواهب وملكات وأقدرهم على الاضطلاع بالأعباء والقيام بخطيرات الأمور وجلائل المساعى، ويحرمك الحياء أن تجنى ثمرة تعبك وزهرة غرسك. وليس فى الخجل معنى فى الحياة أو نتيجة، إلا أن الناس يملئون بطونهم وأنت جائع، ويدخلون وأنت واقف بالباب، ويتقدمونك وأنت متردد! واعلم أنك إذا أنزلت نفسك دون المنزلة التى تستحقها، لم يرفعك الناس إليها، بل أغلب الظن أنهم يدفعونك عما هو دونها أيضًا ويزحزحونك إلى ما هو وراءها، لأن التزاحم على طيبات الحياة شديد، والجهاد والتنازع لا يدعان للعدل والإنصاف مجالًا للعمل. فلا تصدق من يشيرون عليك بالترفق والوداعة وينصحون لك بالاستحياء، فإنه لا حياء فى الحق ولا خجل من السعى لإحراز ما تستحقه من الأنصباء. وأحسبُ هؤلاء النصحاء أرادوا أن يستأثروا بالسبق فأشاروا عليك بالتقاعد! ويستبدوا بالفوز فزينوا لك الزهد والقناعة! ألست ترى إلى الدول كيف تعلن عن فضائلها ومحاسن صفاتها ومميزاتها وهى قد أوتيت كل الرذائل والمقابح والخسائس؟ وكيف تدعى سمو العقل ونبل المقاصد وشرف المنازع وهى فائرة الصدور بالحقد والضغينة؟ وكيف تتظاهر بالزهد والعفة عما فى يد الغير وهو شاغل شعاب مطامعها ومالئ جو آمالها؟ وكيف تزعم أنها تفيض عطفًا على أمم العالم وحبا لبشر وإيثارا لخيره، وهى قد أكل قلبها الكره والاحتقار؟ وكيف تقاوم كل حركة رقى وهى تباهى بأنها مولد الآراء الجديدة؟ كيف تفاخر بما تسنمته من تلاع الرقى وأنجاد الرفعة وهى تجر رجليها وراء أصغر الشعوب؟ وكيف تتشدق بمبادئ الحق والعدل وهى تظلم الضعفاء وتسترقهم وتسلبهم حريتهم وتنتهك كل حرمة وتفجر فى كل عهد وتنقض كل وعد؟ والناس يسمعون هذه الدعاوى الخلابة وتسحرهم فتنتها ويصدقونها ولا ينتبهون — ولو نبهتهم — إلى أن اليد لا تكترث لما يجرى به اللسان!! وإذا كان هذا مبلغ التبجح بالباطل فماذا عسى ينبغى أن يكون مقدار الجرأة فى الحق؟ لو كان فى هذه الدنيا موازين لا تغل شعيرة تزن أقدار الناس والأمم وتقسم الحقوق بالعدل والقسطاس لما عادت بنا حاجة إلى النصح بالمغامرة واطِّراح الحياء والخجل ونفض غبار التقاعد والخمول، ولكن ما تستحقه رهن بتقديرك وحدك دون سواك. فمن أفحش الحمق أن تدع أمرك موكولا لإنصاف خصمك — نقول خصمك لأن كل الناس وكل الأمم خصوم على الحقيقة — وما من أحد إلا وفوزك بشىء أو سبقك إليه، يحرمه إياه فهو مضطر إلى مغالطتك فيه وصرفك عنه ومغالبتك بالقوة عليه إذا لم تجدِ معك الحيلة.. وعلى قدر سعى المرء وما يبذله من الجهود يكون استحقاقه، لأن الحياة هى الحركة والجهاد لا النوم والتواكل، وما أحق من يقعد ويفتح فمه أن يملأه الزمان ترابًا!!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/3/
شكسبير فى اللغة العربية
ما هو الابتكار؟ سؤال نحس بالحاجة إلى الإجابة عنه لما ركب الناس فى أمره من الخطأ، ودخل عليهم فيه من الوهم، حتى صاروا يفهمون من الابتكار أن يأتى المرء بشىء جديد لا صلة قربى له بالقديم ولا لحمة نسب بينه وبين الحاضر الذى يكتنفه. فإذا قيل «فلان» شاعر أو كاتب مبتكر، توقع جمهور القراء وعامة الخواص منهم الذين لا قِبل لهم، لسبب ما، بالتقصى فى البحت والتدقيق فى النظر — أن يفجأهم الشاعر أو الكاتب بما يختلف عن كل ما قرءوه أو سمعوا به اختلاف الإنسان عن النبات! وذهبوا يطالبون هذا الشاعر أو الكاتب بأن يكون «كالعنكبوت لا ينسج خيوط بيته إلا مما تؤتيه إياه أمعاؤه». ولكن الطبيعة مقتصدة غير مسرفة، وهى لا تكترث للفظ نحته الناس وأرادوا أن يفهموا منه معنى معينًا يخالف قوانينها وسننها ولا يتسع له ضيق الحياة الفردية وقصرُ الآجال الشخصية. فهى تأبى إلا أن تجعل أعظم الشعراء أكبرهم دينًا. وتعجبنى كلمة لأمرسون شبه فيها نبوغ الشاعر فى قومه بظهور البطل فى إبان المعركة، وعنفوان الوعكة. وليس أمامى كتابه فأسوق ما قاله بحروفه ولكن هذا مفاد التشبيه وليس أعون منه على تصور حقيقة الواقع وعلى إصلاح الخطأ الشائع. فكما أن البطل مدين لغيره من سابقيه ومعاصريه، ولظروف الأحوال، بأدوات القتال وبمادة الحرب وبجانب من أساليبها وبإلهاب نار الحماسة وبتمركز الخواطر واستجماع شتاتها، وإنما يكون فضله فى حسن استخدامه لذلك كله، والانتفاع به على أصلح وجه وأكفله بالنجاح، وفى حذقه وأستاذيته فى توجيه الجهود وتصريفها، وفى قدرته على الاستيلاء على النفوس بما رزق مَن قوة الجذب — كذلك ليس على الشاعر أن يخلق مادته ويوجد من العدم بضاعته، وإنما يُلفى الطين مهيأ، والحجر منحوتًا، والقاعدة مرصوصة، فيشيد على هذه بذاك ويخرج لك مما وجد بناءً ليست قيمته فى انقطاع النظائر بل فى مبلغ اتساع الأفق وبعد المدى والإحاطة. وماذا عساها كانت حال الإنسان تكون لو أنه كان على كل فرد أن يخلق مادته التى يستخدمها؟ كانت إذًا كل حياة تكون تجارب لا ينتفع بها أحد، تضيع فيها الأعمار ولا تكون فيها عائدة على الفرد ولا على الجماعة. ولكن الطبيعة لحسن الحظ تأبى هذه الفردية الضيقة وترفضها ولا تسمح بالعظمة للفرد إلا مستلخصةً من قوى الجماعة وقائمةً على جهودها. وماذا كان شكسبير يستطيع كما يتساءل أمرسون أيضًا لو أن الطبيعة لم تُزخر له تيار الحياة ولم تخرج كيد ومالون وجرين وجونسون وشابمان وديكر وهيوود ومدلتون وبل وفورد وما سنجر وبومنت وفلتشر؟ بل ماذا كان يصنع لو لم يكن المسرح فى عهد ظهوره مستوليًا على هوى الجمهور؟ بل لو لم تكن قد تكدست قبله كل تلك الروايات التى لا يعرف أحد تاريخها ولا حفظ الزمن أسماء واضعيها أو مؤلفيها أو منقحيها، والتى ظلت زمنًا وهى ملك خالص للمسارح يأخذ منها كل شاعر ويحوّر فيها كما شاء قلمه واستوجب زمنه؟! وكأنا بالطبيعة مع حفظها حقوق التأليف لنوابغ الأفراد الذين يكون من حسن طالعهم أن يظهروا بعد انقضاء عصور الاستيحاش والظلمة — كأنا بها لا تحب أن تغمط الجَماعة حقها أو تسلبها فضلها. ولكن تاريخ فن الشعر مع ذلك هو تاريخ لجور الفرد على حق الجماعة. ومن الذى يخطر له أن يعزو شيئًا من فضل شكسبير أو هومر أو إيسكيلاس إلى غيرهم؟ لقد كان الشعر الأول أغانى تشترك فيها الجماعة كلها.. وكان الشعر — إذا صح استقراؤنا — ينظم فى ظروف اجتماعية وينشد فى اجتماع القبيلة أو العشيرة كلها، وكإن الرقص والغناء والموسيقى شيئًا واحدًا، وكانت الألفاظ أقل شأنا إذ كانت العاطفة أسبق إلى إيجاد التعبير عنها من الفكر، ولم يكن التأليف معروفًا فى هذه الدرجة من تاريخ البشر.. ثم أخذ الفرد يظهَر لما أحس أن له عواطف وخواطر خاصة به وحده وأن له استقلالًا عقليّا، وصار على قدر ظهوره واستقلاله اختفاءُ الجماعة وغموض أثرها حتى صارت طائفة تجتمع لسماع قصيدة تُنشد أو تُغنى وهى لا تحس أثرها فيها بعد أن كانت فيما خلا من العصر هى المؤلفة لها، شأنها فى ذلك كشأنها مع رجال السياسة والحكومة. ولا ريب فى أن الجماعة تظل زمنًا مشاركةً للشاعر فى حالته النفسية، ولكنها لا تلبث أن يستبد بالأمر الفنىُّ الماهر ويروح يوحى إليها — وإن كان ما زال يستمد منها — ويبعثها على مشاطرته هذه الحالة النفسية ويحيى فيها راقد مشاعرها كما يرسل المرء الصوت فتتجاوب بأصدائه أركان الكهف — وهذا تطور طبيعى فإن المدنية معناها «كلّ له عمل» أى الأخصاء. ومتى انتقل مركز الثقل فى حياة الجماعة، بعد أن تتألف تأليفًا سياسيّا، انتقل معه المركز الأدبى، ولكن أثر الجماعة لا يزول وإن كانت لا تدريه ولا تحسه، وقد لا يحسن أحد التفطن إلى تقدير مبلغ هذا الأثر إلا بعد جيل أو أجيال. ••• قدمنا هذا على سبيل التوطئة للكلام على رواية «تاجر البندقية» التى نقلها إلى لغتنا الأستاذ خليل مطران الشاعر المعروف. ومن قبل ذلك ما نقل رواية عطاء الله أو عطيل كما آثر أن يسميها وهى لشكسبير كذلك كما يعرف القراء، وإنه لطماح مشكور له على كل حال، وتسام محمود عن الإسفاف إلى الروايات والقصص الفاترة السخيفة التى تخرجها مطابع الغرب والتى كلف بترجمتها بعض شبابنا المساكين. ولكن هناك مسألة معضلة يجدر بكل ذى رأى أن يفكر فى حلها خدمة للغة العربية نفسها: ذلك أن رواية شكسبير كلها شعر وليس فيها من النثر إلا صفحات معدودة يجريها على ألسنة بعض أشخاصه من حين إلى حين لغرض مفهوم وعلة واضحة. ولكن الأستاذ أسبغ على رواية تاجر البندقية حلة من النثر كستها من فاتحتها إلى ختامها ما عدا بضعة عشر بيتا، وحل بهذه الطريقة مشكلًا نراه نحن أعوص وأشد تعقيدا من أن يحل على هذا الوجه. ونحن ممن يقولون بأنه يجب أن تكون هناك، إلى جانب الترجمة الشعرية، ترجمه نثرية حرفية.. ونقول إلى جانب الترجمة الشعرية لأن النثر، وإن كان أدعى إلى الدقة فى النقل وأعون على الاحتفاظ بما فى الأصل، يجرد الرواية من مزية الشعر، وليست هذه بالضئيلة التى لا يقام لها وزن. ولو كان يستوى أن تسوق الكلام نثرًا أو شعرًا لما نشأت الحاجة إلى الشعر بل لكان الشعر قيدًا اختياريّا لا معنى له ولا مزية فيه، ولكن الواقع أن الشعر فن قائم بذاته لم يخترعه الإنسان، ولكن سبق إليه وتدفقت عواطفه — وهى الأصل فى كل شعر — على أوزانه، ونشأ مع الجنس الإنسانى مذ صار الإنسان حيوانًا اجتماعيّا. فنقل الشعر من لغة إلى أخرى نثرًا لا ينفى وجوب ترجمته شعرًا. ولكن كيف يكون ذلك فى لغتنا العربية؟ هذا هو محل الإشكال. وأى البحور تختار لشعر شكسبير وغيره من الروائيين؟ إنهم يستخدمون فى لغات الغرب الشعر المرسل وهو بحر سلس التدفق لا يكاد القارئ يحس مقاطعه فضلًا عن إطلاقه من قيد القافية. وبحور الشعر العربى أصلح ما تكون للشعر الغنائى أو ما يطلقون عليه فى الغرب لفظة «ليريك» وهو لا يصلح لحوار الروايات التمثيلية لفرط غلبة الموسيقية عليه. والحوار التمثيلى أحوج ما يكون إلى بحر لين لا يظهر فيه التوقيع الموسيقى كما يظهر فى سواء. أضف إلى ذلك أن البيت من الشعر فى القصيدة العربية «وحدة» تامة فى ذاتها قائمة بنفسها من حيت التأليف اللفظى وتعلق الكلام بعضه ببعض على معانى النحو، وليس يربطه بما قبله وبعده من الأبيات — إذا ربطه شىء — إلا المعنى.. وليس كذلك البيت أو «السطر» فى الشعر الغربى، فهو هناك ليس بوحدة ولا يجب فيه أن يكون مشتملًا على جملة أو جمل تامة من حيت التأليف اللفظى، وكثيرًا ما تستوعب الجملة الواحدة عدة أبيات أو «أسطر» متلاحقة. وإمكان مثل ذلك فى الشعر العربى عسير إلى الآن. وواضح من موجز ما بينا أن ترجمة شكسبير وأمثاله شعرا تستوجب اختراع بحر جديد شبيه بالوزن «الأبيض» كما يسمونه، وتستدعى ألّا يكون البيت أو السطر وحدة كما هو إلى الآن. ولم نشر إلى القافية لأن قيدها مما يسهل صدعه والتحرر منه. فليفكر معنا من يعنيهم الأمر — وهو يعنى كل أحد. «أصل هذه القصة أحدوثة جرت على الألسنة فى إيطاليا محصلها أن فتاة ذات مال وافر، وجمال باهر، وعقل كالكوكب الزاهر، مات عنها أبوها فخطبها إلى نفسها ملك مراكش وأمير أراغون فى جملة النبهاء ممن خطبها. ولكنها وجدت نفسها أميل إلى شاب رقيق الحال من مسقط رأسها استدان المال الذى أنفقه فى الزلفى إليها بضمان صديق له رهن لليهودى الذى أقرضه ذلك المال رطلًا من لحم صدره. فاستخارت الفتاة الله فى مستقبلها وناطت أمرها بثلاثة صناديق: ذهبى. وفضى. ورصاصى. جعلت فى الأول منها جمجمة ميت، وفى الثانى رأس هزأة أبله، وفى الثالث رسمها. ومن اختار «الأخير» أصبحت له حليلة. وقد جاء فى هذه الحكاية ما يجىء عادة فى أمثالها: أن حبيب الفتاة هو الذى ألهم الصواب ففرحت به واحتالت لإنقاذ صديقه من تبعة ضمانه لليهودى بأن تزيت بزى عالم قانونى وقضت على المرابى». صدق الأستاذ المترجم فإن مصدر القصة إيطاليا. ولكنها لم تكن قصة واحدة، كما جعلها شكسبير، بل عدة قصص جمع هو شتاتها وألف بينها من خمسة مصادر على ما يظن الشراح، أولها «جستا رومانورام» وهى مجموعة حكايات باللاتينية، وفيها قصة الضمان ورطل اللحم والنصول من شرط الضمان بنفس الحيلة. وثانيها «آل بيكورونى» وهى كالأولى طائفة من القصص وردت فيها، فضلا عن حكاية الضمان، حادثة تبادل الخواتم. وثالثها «الخطيب» لسلفين وفيه فصل عن يهودى يريد فى مقابلة دينه رطلًا من لحم رجل مسيحى. ورابعها «قصة جرنوتوس يهودى البندقية» وفيها زيادة على ما سبق أن اليهودى «يشحذ سكينه» استعدادًا لقطع رطل اللحم. وخامسها «يهودى مالطة» لمارلو، وفيها نظير لعلاقة لورنزو المسيحى وجسكا اليهودية، وذلك أن براباس اليهودى، فى رواية مارلو، له ابنة تحب مسيحيّا وتتنصر لأجله. ومن المعروف أن مارلو كان له تأثير كبير فى صدر حياة شكسبير. هذا إلى مصادر أخرى عديدة لا يعقل أن يكون شكسبير قد اطلع عليها. ومهما يكن من الأمر فإن الثابت الذى لا مجاز إلى الشك فيه هوأن شكسبير لم يخلق حكايته. ولكن ما قيمة هذا؟ وكيف يغض من قدر الشاعر ويطأ من منزلته التى تبوأها وحده؟ إن القصص والحكايات التى تصلح للروايات التمثيلية لا يأخذها حصر ولا ينالها حساب. وهى كالحجارة ملقاة فى طريقنا جميعًا، ولكن ليس كل أحد يستطيع أن يخرج من إحداها رواية كتاجر البندقية. فإن كان أحد يشك فى ذلك فما عليه إلا أن يجرب! هذا أصل القصة موجود فى أكثر من كتاب واحد، وتلك رواية شكسبير قريبة المنال ممن شاء، فليأخذ هذه وتلك وليضع هو رواية مثلها ليقيس عجزه إلى قدرة شكسبير وعبقريته! وليس فضل شكسبير ومزيته فى أنه ما من خصلة من خصال الخير أو الشر إلا أحسن تصويرها، أو كما يقول الأستاذ المترجم: «تجد الطمع فتقول لا يصور بأدق من هذا. تجد الجبن فتقول لو تمثل رجلًا لكان هذا. تلمح الحقد فتقول كأننى بفلان وفلان وفلان وقد كشف كلٌّ عن جزء من الحقد الذى فى قلبه، فاجتمع من الثلاثة الأجزاء هذا النوعُ التام من الحقد، بل النوع الأتم. وهكذا الحكم فى كل ما تصدى شكسبير لإظهاره بمظهره البشرى». نقول ليس الأمر كذلك لأن النفس الإنسانية ليست خزانة مرصوفة فيها الفضائل والرذائل — أو الصفات — كما ترصف الكتب بحيت تستطيع أن تنتزع إحداها من بين أخواتها ثم تصورها كأنها شيء قائم بذاته لا صلة بينه وبين أخواته. وإنما النفس ميدان لتنازع الغرائز والعواطف. والمزية كل المزية فى رسم الخلق الحادث من تفاعل هذه الغرائز والعواطف والصفات ومؤثرات البيئة والنشأة. خذ مثلًا لذلك شيلوخ فى هذه الرواية التى هى موضوع كلامنا والتى عليها مدار البحث. يهودى فى القرون الوسطى — ومن ذا الذى لا يعرف ما كان اليهودى يعانيه فى تلك العصور المظلمة؟ — مهدد فى كل ساعة من عمره، ككل أبناء جلدته، بأن يحرق حيا وأن يُسطى عليه وتُنهب ماله وُتنفى ويشرد عن بلده وعياله.. وهبه نجا، لحسن طالعه من ذلك، فهو ليس بمنجاة من الامتهان والسب والضرب واللعن. ولم يكن اليهود إذ ذاك أقل تعصبًا ومقتًا لأديان غيرهم، ولا أكثر تسامحًا من حيث العقيدة والجنس، ولكنهم كانوا الضعفاء الذين لا حول لهم ولا سلطان. يضطرهم الحرمانُ من الأعمال الاجتماعية المباحة لغيرهم أن يقصروا همهم على استرباء المال.. ولا بدع إذا تعلم شيلوخ، من طول الاضطهاد واليأس من الإنصاف، أن يتظاهر بالخنوع وأن يداجى وأن يكتم ما ينطوى عليه من مقت وتحفز وألّا يُجرى لسانه إلا بالمعسول من الألفاظ. وإذا تفلتت منه كلمةٌ واشية بمرارة نفسه وبما ضُمت عليه أضالعه من النزوع إلى التمرد على هذا الظلم، عاد فمسح من خصمه فى الذروة والغارب. انظر هذا الحوار الذى استدعاه طلب الاقتراض منه، والذى كأنما أراد به شكسبير أن يليح للقارئ بنية اليهودى وإسراره الانتقام. وهو لهذا أيضًا سئ الظن، يخشى كل شىء، ويتوهم الغدر من كل ناحية يطمئن إليها غيرُه، ولا يثق حتى ببنته، لأن سوء المعاملة أفسد عليه نفسه، ولذلك تراه يخشى أن يكون بينها وبين خادمه لونسلوت اتفاقٌ أو مؤامرة، ولا يكتم قلقه لدعوة مسيحى له أن يتعشى معه. «ولكن لماذا أذهب؟ … إنهم لا يدعوننى عن حب!». ويطلب إلى ابنته — إذ يذهب — أن تحكم إيصاد الأبواب والنوافذ التى يسميها «آذان بيته» ويحذرها أن تطل بوجهها من الكوة إذا هى سمعت طبلًا أو زمرًا إذ يطوف «أولئك النصارى البلهاء».. ويزعم أنه قد لا يلبث أن يعود كأنّ من عادته أن يراقبها مستريبًا. فيا لها من حياة ليس فيها ذرة من الطمأنينة! وإنه للمرءُ الذى حب المال عنده سواء والسجود، حتى لقد حإل قانون الأخلاق عنده قانونًا ماليا! فأنطونيو «رجل طيب» أى قادر على الوفاء إذا اقترض! ولئن كان يكره أنطونيو لنصرانيته فهو أشد كرهًا له «لأنه أبله يقرض المال بلا ربح ويسقط قيمة الربا هنا بيننا فى البندقية». ولقد سوى بين المال وابنته لما فرت به وجعل يصيح: «بنيتى! دوقياتى! وابنيتاه! فرت مع نصرانى! وا دنانيرى المتنصرة!». ولكن حب المالى عفَّى حتى على غريزة حب الاَباء للأبناء، فصرخ وبه من خسارة المال مثلُ الجنون: «ليت بنتى ميتة عند قدمى وفى أذنيها الماستان!». وقد برح به ما لاقاه من صنوف الأذى والتحقير فنزعت نفسه إلى الانتقام، واحتج له احتجاجًا قويّا فصيحًا مقنعًا يُشعر القارئ بأنّ فى مرارة مقته لأنطونيو إحساسًا قويّا عميقًا بالعدل ممتزجًا بهذه المرارة. وهل تكاد تنفصل الرغبةُ فى الانتقام عن الشعور المتغلغل بوقع الظلم؟ إن المرء ليحس عطفًا على هذه الروح المتمردة تحت هذه العباءة «اليهودية» — روح استفزها إلى الجنون الألمُ من تكرر الاستثارة بلا مسوغ، ودفعها إلى معالجة اطراح ثقل الظلم بالالتجاء إلى الانتقام عن طريق القانون. وكأن شكسبير أراد إثارة هذا العطف حين أجرى على لسانه هذه العبارة البديعة ردّا على بسانيو النصرانى إذ سأله ماذا تفيده بضعة من لحم أنطونيو. وجدير بمثل هذه الحدة فى طلب الانتقام أن تنبه راقد المواهب وتبعث كامن الذكاء، ولذلك ترى شيلوخ متحفز الذهن ساهد القلب يعصف بكلام خصومه بحججه الدامغة المحتذاة على مثال مبادئهم وأساليبهم. انظر كيف يفحم الدوج. وهو ككل الضعفاء المضطهدين، إذا تمكن طغى ولم يرحم. ومن هنا كان رفضه مرة بعد أخرى أن ينزل عن رطل اللحم وأن يأخذ دينه مضاعفًا أو مثله أضعافًا كثيرة. ولكن شيلوخ ليس بوحش! وإنه لإنسان تعجبك منه نعرة قومية صادقة. لا يذكر قومه إلا واصفًا إياهم بأنهم «أمتنا المقدسة» وليس بغضه للنصارى شخصيّا بل إن العامل فيه جنسى. ومظالم الفرد عنده متسربة فى مظالم الجنس كله. ومع استهوالك أن يذهب شيلوخ إلى المحكمة مستعدّا بسكينه وميزانه، واستبشاعك شحذه السكين على نعله كأنما تجرد من كل إحساس بشرى — مع كل هذا، وعلى الرغم منه، تحس إذ تنهار قضيته ويخرج من المحكمة مصادرة كل أمواله كأن الرجل مظلوم! هذا هو شيلوخ كما صوره شكسبير. وإلى جانب هذه الصورة التامة الرائعة البارزة ماذا عسى أن تكون قيمة المصادر التى أخذ منها هيكل الحكاية العريان؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/4/
المدينة الفاضلة
ودرو — ولسن رجل حالم، أو إن شئت فقل كمالى يتسخط نظام الأمم ويتبرم به ويرى فيه أصل الشر ورأس البلاء ويود أن يديل منه، وأن يبدله من فساده صلاحًا. فهو من طراز توماس مور صاحب «اليوتوبيا» وهو كتاب لذيذ ظريف يذكرنا به وبمؤلفه ما يبذله ولسن من المجهودات لإعادهّ تنظيم العالم على قواعد الحق والعدل والحرية — نقول «كتاب لذيذ ظريف» ولا نخشى لائمة العار فيه لأنا لا نتنقصه وإنما نعنى أن محاولة فرد إصلاح ما فى الدنيا من خلل لا يمكن أن يكون إلا فكاهة يضحك من جرأتها القدر — ولكنها على هذا فكاهة جليلة تبعث الرجاء وتنشئ الأمل فى تحقيق … المستحيل!! ونظام حياة الأمم ليس من صنع صانع ولا وضع واضع، ولكنما يتكون على الأدهار والأحقاب — كجزائر المرجان — وهو يتحول ويتعدل لأن الحياة قائمة على التطور، مبنية على التغير، لا لأن إنسانًا هنا أو هناك أراد هذا أو أشار به. وقد يظهر من حين إلى حين رجل يكون من دقة الإحساس ولطف الإدراك بحيت يشعر بتيار الزمن واتجاه التدفق فى مجرى الحياة فيعالج العبارة عن هذا الذى تولته مشاعره، وتعلقت به مداركه، ويحاول أن ينطق بلسان الحوادث. ويكون من قوة الخيال وفرط الاعتداد بالنفس بحيث يحسب أن نطقه هو الصحيح، وفهمه هو الصواب. ومن هذا النوع ولسن ومنه أيضًا توماس مور. والناس يعلمون عن الأول ما فيه الكفاية، أما الثانى فلا يعرفه إلا أهل الاطلاع الواسع ولذلك نورد هنا ترجمته باختصار. ولد مور فى عام ١٤٧٨ أى فى عصر النهضة العلمية، وذهب إلى أكسفورد ثم انتقل بعد عامين إلى لندن لدراسة الحقوق. وفى الحادية والعشرين من عمره انتخب للبرلمان فلم يلبث أن أحس به زملاؤه. وفى ١٥١٥ أرسل إلى البلاد الواطئة (هولاندة وبلجيكا) وظل شهورًا فى أنفرس وبروكسل يفاوض رسل الإمبراطور شارل الخامس. وهناك عرف «إرسم» والتقى زميل صباه بيتر جيلز وإليه أهدى كتابه، ثم صار رئيس مجلس العموم فى عام ١٥٢٣، ولما سقط الوزير ولزى صار مور أكبر رجال هنرى الثامن، فأراد الملك أن يطلق من زوجته فلم يشايعه مور على رأيه فذهب ضحية ذلك. وقد توخى مور فى كتابه أن يصور الدنيا كما ينبغى أن تكون لا كما كانت فى أيامه، وأن يصف المدينة الفاضلة الكاملة كما هى فى ذهنه. وكان مخلصًا جادّا فى ذلك لا هازلًا ولا مدلسًا، ولكنه اتخذ كتابه على الرغم من هذا ذريعة للزراية على الحياة الاجتماعية. والكتاب غاص بالغمزات وبما لا بد فى فهمه من الإحاطة بأحوال زمانه، ولكن كثيرًا مما يعيب به عصره وينعاه على زمانه واضح بيّن لا يحتاج إلى إعنات روية أو مراجعة. ومن قوله: «ولما كانت كل الأمم الأخرى — يعنى غير يوتوبيا — لا تفتأ تبرم المحالفات أو تنقصها، فإنهم — أى أهل يوتوبيا — لا يحالفون أمة كائنة ما كانت لأن المحالفات فى رأيهم عديمة الجدوى. وإذا كانت روابط الإنشانية لا تؤلف بين الناس فليس للعهود والوعود عمل كبير أو نفع». وإلى هذا الرأى يميل ولسن وإن خالفت حجته فى الزهد فى المحالفات حجة مور. وأكثر الكتاب عبارة عن رواية حديث جرى بين مور وصديقه جيلز من ناحية وبين ثالث يدعى رفائيل صادفاه فى أنفرس، وهو رحالة عاد من يوتوبيا بعد أن لبث بها خمس سنين، وعلى لسانه وضع المؤلف وصف هذه البلاد السعيدة! وحكومة يوتوبيا مؤلفة من نفر يختارون لسنة واحدة ويمثل الواحد منهم ثلاثين أسرة ولكن ولايتهم الحكم لا تميزهم عن غيرهم من أهل البلاد. وواجباتهم المفروضة عليهم كبيرة، غير أنهم مع هذا لا يختلفون عن سواهم فى أساليب حياتهم. والحياة الاجتماعية فى يوتوبيا أساسها الأسرة، وهى تتكون من عدد لا يقل عن عشرة أشخاص ولا يزيد على ستة عشر، فإذا جاوز عددهم الحد الأقصى نقل بعضهم إلى أسرة أخرى. وأهل يوتوبيا لا يستعملون النقود فيما بينهم، وليس عندهم بيع ولا شراء لأن الخير وفير وكل امرئ واجد ما يشتهى، وإنما يستخدمون المال فى الاتجار مع الأمم الأخرى — وفيها معادن ثمينة ولكنّ أحقر الأشياء وأتفهها تصنع من الذهب والفضة، وكذلك الأغلال التى يقيد بها الأرقاء حتى لا يزهى الناس بهذين المعدنين أو يقبلوا على احتجانهما! والاستقرار فى يوتوبيا مباح كما هو فى جمهورية أفلاطون، والأرقاء يُتخذون من المجرمين ومن الأغراب الذين أغرتهم مزايا الحياة فى يوتوبيا بانتجاعها، وهم يقومون بالأعمال الدنيئة القذرة ويكون منهم القصابون، لأن أهل يوتوبيا لا يرتضون أن يذبحوا الماشية لأن ذبح الحيوان من شأنه أن يبلد الإحساس بالرحمة التى هى من خير ما ولد مع الإنسان، ولا يسمحون لمتزوج أن ترتبط حياته بشريك سقيم عليل يساهمه العيش حتى يغيب أحدهما اللحدُ، وقوانينهم قليلة وليس عندهم محامون!! ولم يغفل مور أمر الحرب، فقد جعل أهل يوتوبيا يذهبون إلى ضرورة التأهب إذا استوجبت الحال ذلك، غير أنهم لا يرون فى الحرب مجدًا يجتبى، أو ثمرة تجتنى ويعتقدون أن مما يفرضه عليهم الواجب أن يقاتلوا إذا اعتدت أمة على جارتها أو حاولت إكساد تجارتها، ويخجلهم أن يحرزوا نصرًا داميًا على أعدائهم فلا يزالون فى الحرب أهل رفق وإبقاء على خصومهم، وإذا لم يكن من القتال بد فعليهم أن يذيعوا فى بلاد العدو الوعد «بإجزال العطاء لمن يقتل الأمير وغيره ممن أوقدوا نار الحرب». وهم عدا ذلك يعتمدون الإحسان إلى الأسرى ليتألفوا قلوبهم «ولأن أكثرهم لم يقاتل عن رغبة فى إهراق الدماء وإنما ساقته إلى الحرب طغوى الأمير». أما من حيت العقيدة فهم يؤمنون بالله، ولا يرون من حقهم أن يتصدوا لأحدٍ بإعناتٍ من أجل رأى أو معتقد. وختام الكتاب زراية واستطالة على نظام الاجتماع الذى يترك الناس طبقتين: أغنياء متبطلين، وفقراء متوجدين. وهذه خلاصة وجيزة لصورة الحياة الكاملة فى رأى مور. وقد يلاحظ أن مثل هذه الاراء والصور إنما تظهر فى العصور التى تؤذن بتطور كبير. ولعل القارئ بعد هذا يتساءل، وما معنى «يوتوبيا» وأين هى؟ فنقول: معناها «لا وجود له» وكذلك الكمال فى الدنيا لا سبيل إليه!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/5/
ديوان العقاد
فى حومة السياسة الآن ركدة قصيرة الأجل، يرصد فى خلالها كل فريق أهبته، ويحشد لما بعدها قوته، وغدًا سنشبع من الطبل والصيال، ومن أبواق الدعوة إلى أقدس النضال. فما علينا لو اهتبلنا هذه الفرصة وأركضنا الفكر فى حلبة الأدب؟ فى ميدان خالص لوجه الإنسانية قاطبة، لا تعتلج فيه إلا القوى النزاعة إلى الكمال، ولا تشرئب فيه العيون إلا إلى مثل الجمال والجلال؟! نعم ماذا علينا وأى بأس من ذلك؟ أليست حياة الأدب خاصة، والفنون عامة، هى طليعة كل نهضة سياسية واجتماعية؟ أين فى التاريخ أمة وثبت إلى الحياة القوية دون أن يهيئ لها الأدب أسبابها؟ أليس الواضح الذى لا يحتاج إلى إبانة أو تدليل أنه لا بد من أن يفطن المرء إلى وجوده، ويعرف نفسه، ويدرك صلتها بما حولها، ويطلع على جوانب حياته، قبل أن يسع مجموع الأمة أن يقدر وجوده وحقوقه بين أمثاله وأنداده؟ لا ريب فى أن هذا كذلك! وإنها لمن أعجب القسم أن يضطر أحدنا إلى الدفاع عن نفسه وتسويغ عمله فى مستهل كلام له يهم به على الأدب حتى فى وقدة المعمعة السياسية!! وكان حسب كل منا أن يسأل نفسه: بأى حيلة شاعت مثل الحياة العليا بين الجماهير الساذجة؟ وكيف شغلت من النفوس كل خلية؟ وما الذى أعد القلوب لاستيلاء الاَمال القومية على هواها؟ ولعمرى إن هذا لبعض ما يؤديه الأدب لأنه عالمى فى اثاره كما هو إنسانى فى بواعثه الأولى. ومن يا ترى ينكر علينا قولتنا هذه ممن يعلمون أن مرد انتفاء الأمية بانتشار القراءة والكتابة يكفل للشعوب الأخذ بأسباب النهوض؟ وكأنى بالقارئ قد طالت به الفاتحة وشقى صبره فأحب أن يخلص منها إلى الخاتمة، والعبرة بها! أليس كذلك؟ فهو يقول «وماذا بعد؟» بعدُ أن أخانا العقاد أصدر الجزء الثالث من ديوان شعره فى نيف ومائة صفحة بالحرف الدقيق. وليس هذا كل ما قاله مذ ظهر جزؤه الثانى ولكنه طائفة كبيرة منه لا يسعنا أن نتناولها كلها قصيدة قصيدة ولكنا مجتزئون بواحدة منها لغاية سنجلوها للقارئ. لأول مرة فى تاريخ الأدب المصرى — والعربى أيضًا — يرى القارئ عملًا فنيّا تامّا قائمًا على فكرة معينة تدور على محورها القصيدة وتجول. ولعل هذا من أظهر مميزات الأدب الحديث وأكبرها. فقد كان الرجل يقول القصيدة مسوقًا إلى قرضها بباعث مستقل عن النفس، ولكنك هنا ترى بناءً مشيدًا نبتت فكرته لسبب مفهوم وعلة طبيعية مشروحة وأعمل الشاعر ذهنه فى جملتها وتفاصيلها ثم أفرغها فى قالب تخيره لها بعد الروية، وعرضها فى أسلوب فنى موسيقى أبدعه لها. فأما موضوع القصيدة — كما هو ظاهر من عنوان هذا المقال — فترجمة شيطان: فهوى الشيطان إلى الأرض ليضل فيها من يشاء فحار بادئى الرأى أين يمضى: فهبط أول ما هبط فى أرض الزنوج حيث: فاحتقرهم الشيطان اللعين المزهو، وسخر من قسمته «ومشى ينغم فى غير طرب» إلى أن استقر به المقام «حول بحر الروم أو بحر العجم»: وتمادى اللعين فى شره «كلما أنبت زرعًا ينعا».. غير أنه استهدف للتلف لمداخلته الناس من جهات الضعف فى نفوسهم، ثم أنف من فتنته أممًا هو يأنف من إهلاكها: فكفر الشيطان بالشر الذى تبذره كفاه، وذلك كفر شر من الكفر بالخير «لأنه يرى الخير أهون من أن يستحق العناية بإزالته ورصد المكائد له، فالراشد والغاوى عنده سيان». وعد الله منه ذلك ندمًا وأدخله جنته: فنزل الشيطان من الجنة «منزلًا يرضى به الفن الجميل»: على أن الشاعر مع ذلك لا يسعه إلا أن يطيع قوة خياله وإلا أن ينزل على حكم الشاعرية الضخمة، فألم بصورة خلابة من إبداعه فى عشر مقطوعات. غير أن الشيطان لم تخلد نفسه الخبيثة إلى الخلد، فكان «يزداد على التسبيح قبضًا». ونظرت الملائكة إلى وجهه فرأت شيئًا عجبًا لم تألفه، وكان راكبًا فى رفقة منها فوق السلسبيل «مركبًا يزجيه سلسال النغم». فلما تمادى الأمر سئموا وناموا نوم الأطفال غلب عليهم الملال، وتساءلوا لدهشتهم وطهارة قلوبهم: «هل الويل الذى يصيب أهل وادى جهنم هو هذه الفترة التى تجلب النعاس للعيون»؟ وسأل الملائكة: كيف تروننا ها هنا؟ فقال أحدهم: إننا للفائزون: فذعروا «كالجيش فى هول الفرار» وساءهم ألّا يحسدهم فى الجنة وأن ينكر عليهم السعادة ويسلبهم إياها بإنكارها، وينغص عليهم مقامهم فى الفردوس، ويعلمهم ما لم يعلموه من الغضب. ولطف الله فلم يرجموه بالنجوم. ثم أوحى الله الوحى فى جنته: وانجلى الموقف «عن جلال الله فردًا فى علاه»: وحاقت اللعنة بالجانى الذى لا يندم، وجهر اللعين بعصيانه، وأخذ يبرره بكبرياء لا تسمح له أن يطلب العفو أو يصغى حتى للوم، «وجعل يستصغر الفردوس لأن له رجاء فوقها ولذلك لا يسميه فردوسًا ولا يعد الرضا به نهاية السعادة، كما أن الضب يرضى بجحره وليس جحره بأقصى ما ترتقى إليه الآمال.. وجعل يتسخط قيمته ويقول: كيف يرضى بهذه القسمة الخالدون؟ أيعافون ذلك الشأو الذى فوقهم وهو لا يعاف؟ أو يجهلونه والجهل نقص فى مرتبة الخلود؟ أو يطلبونه فلا ينالونه فيكونون من المحرومين؟». فرأى الله من الرحمة بالخلق أن يخمد جذوته: فمسخه صخرًا! ولكن هل يزول الطبع؟ إنه لا يزال يستهوى العقول فى الدمى والتماثيل. ولم يأسف عليه إبليس، بل عجب كيف طاش لسانه وأخذته الغيرة على الصراحة وشك فى أنه شيطان صميم: وليس ما أوردناه من خلاصتها إلا هيكلًا عارًيا لهذه القصيدة التى تقع فى أكثر من ثلاثمائة بيت على هذا النسق البديع الرائع، وقد كان الباعث على وضعها ما انتاب الشاعر فى أواخر الحرب وفى إبان الحوادث المصرية الأولى من الشك والغيظ اللذين رجّا عنده «كل قواعد الرأى وشوّها كل حالات الوجود الإنسانى فوقر عنده أن الحياة، كما قال سليمان الحكيم بعد تجربتها «قبض الريح، وباطل الأباطيل»، ولكن هذه الغيمة انجلت فعاد إلى رأيه الأول «فى الحق والعدل معتقدًا أن الحق كائن فى صميم الأشياء وأن الوجود والباطل نقيضان لا يتفقان إلا كما يتفق الوجود والعدم». أما نحن فإنا نحمد غيمة هذا الشك التى دفعته إلى صوغ هذه الاَية الفريدة فى لغة العرب والتى يحق لنا أن نباهى بها براعات الغرب. وإن فى ظهورها لدليلًا على انتهاء دور التمهيد الذى اضطرنا إليه ركودُ اللغة قرونًا عدة، وإننا الآن فى دور البناء الفنى. وإذا كانت اللغة قد اتسعت للشعر القصصى على هذا النسق فهى لن تضيق عن غيره من فنون الشعر بحمد الله ثم بفضل العقاد.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/6/
الأدب ينهض فى عصور المشادة لا عصور اللين والامن
مجموعة مقالات فى الأدب والاجتماع، وطائفة من الخطرات والشذور فى موضوعات شتى، ينظمها فى سلك واحد تيارُ الفكر الذى أنضجها وما بينها من التناسب والاشتراك فى المنحى: فمن نظرات فى فلسفة المعرى إلى نقد لسير الرجال وتقدير لحياتهم وأعمالهم، ومن مقال فى الألعاب الرياضية إلى ساعات مقضية بين الكتب واَراء فى الشعراء وخارجياتهم، ومن تحليل للإحساس بجمال الطبيعة وتبيين لمواضع الملاحة فى الإنسان، إلى وصف لمغنى المجالس، ومن «جولة فى الماء محدودة وجولة فى السماء غير محدودة» إلى اراء فى الأساطير ونقد للكتب وتعليل لما يلقاه مثل شارل شابلن من الحفاوة فى حيثما حل. ولو شئنا، وكان ذلك يلائم مزاجنا ويليق بمهمة النهضة بالأدب وتحريره، لباهينا بالمذهب الجديد فيه وبفوزه على صنوف الاستبداد التى همت به وعالجت خنقه، فقد خرج من كل ما خاض من المعارك. إلى هذه الساعة، صادقَ الرجولة تام الاتزان، مبرأً من عيبين على وجه الخصوص: مجال الماضى البائد، وطيش الانتقال وما تغرى به أدوار الانقلابات الأدبية من التعلق بالتطرف ومجاوزة المدى المعقول والحد الطبيعى. وناهيك به من فوز على الاستبداد السياسى الذى تعانيه الأمة، وتجرع مرارته، وتضج من أذاه منذ سنين على فرض تشددها، وعنتِ التحيز الذى يأبى إلا أن يقضى — لو استطاع — على ما لا يجب أو يخاف أن يظهر، واستبداد التعصب حيال الجديد، واستبداد الشهرة الذى يمكّن صاحبها من تخطى الرقاب والاستغناء عن الإخلاص والصدق، واستبداد الأغلبية العمياء التى يفتنها العابثون والمحتالون بالكلام الخلاب والعبارات الجوفاء، ثم استبداد الجهل الذى يجعل كل ضرب من ضروب الاستبداد الأخرى ميسورًا مستطاعًا. فاز المذهب الجديد على هذه وغيرها من صنوف العنت وضروب الاستبداد. ولكنّ العراك العنيف الذى دارت أرجاؤه لم يستثر — كما يحدث كثيرًا — العواطفَ الدنيا ولا شيئًا من الشهوات المرذولة أو الطغيان الذى يحيل النصر فى اخر الأمر شرّا من الهزيمة، لأن دعاة هذا المذهب يفهمون الحرية على حقيقتها ويبغون الحقيقة وحدها، ولا ينشدون سوى تنبيه خير ما فى الطبيعة الإنسانية، ولا يطلبون أن يرفعوا نير الجهل ويفكوا القيود العارقة ويتحرروا ليستبدوا بغيرهم ويضعوا اللجم كأسلافهم فى الأفواه، والأصفاد حول الأعضاد، والعقبات فى سبيل النفوس الناشئة السائرة على الدرب. وما خير أن يحتذى المرء مثال رجال الثورة الكبرى فى فرنسا حين نفضوا عنهم استبداد البورين ثم لم يلبثوا، لما عاد المجد القومى على يد بونابرت، أن أقاموا مقامه الاستبداد العسكرى! ومن المظاهر الغريبة لهذا العراك والصراع أن دعاة المذهب الجديد كانوا — وما يزالون — مستعدين لمنازلة من شاء ومقارعته بالحجة الدامغة والبرهان القاطع، ولكن المذهب القديم لا يعول على حجة ولا يستند إلى عقل، فكان وما يزال حسبه من المقاومة الاعتماد على الجهل الفاشى وعلى غفلة النفوس وعلى اعتياد الجماهير الطريقة القديمة وعلى الصعوبة الطبيعية التى تواجه كل من يعالج تحويل التيار وصرف النفوس عما ألفت والقلوب عما اعتنقت، بالغًا ما بلغ ذلك من الخطل والضلال. ولا شك فى أن الأدب على الخصوص خطا خطوات واسعة فى هذا الجيل وأن نهضته هذه لم تكن فى ظل الحرية! أفليس من العجيب أن ينشأ فى مصر أدب صحيح وأن تصبح هذه البلاد مهد الأدب والتهذيب فى الشرف على الرغم مما ترسف فيه من الأغلال؟ ولكن هذه الظاهرة ليس فيها شىء من الغرابة، ولا هى فذة نادرة فى تاريخ الأدب فى الأمم الأخرى. والواقع الذى يهدى إليه الاستقراء هو أن من المشكوك فيه جدّا أن تستطيع أمة اَمنة طامحة إلى الرخاء القومى والرفاهية المادية أن تأتى جليلًا فى عالم الأدب والفنون. ولقد كانت أزهى وأمجد عصور الأدب فى إنجلترا ورومية هى العصور التى كانت فيها هاتان الدولتان تذودان عن كيانهما وتناهضان ما يتهددهما بالقضاء عليهما وينذرهما بالإلواء بهما. ألم يكن عصر اليصابات مقاومة مستمرة لعدوان إسبانيا فى الخارج ولشتى الخصوم فى الداخل؟ ألم يُخرج فيرجيل وهوراس وليفى وغيرهم من كتاب «العصر الذهبى» فى رومية براعاتهم فى إبان الحرب الأهلية الكبرى التى جعلت أغسطس إمبر اطورًا أو بعده! مباشرة؟ وتأمل بعد هذين، ألمانيا أيام تفككها وانحلالها، وحين كانت تر هقها عشرات الحكومات الصغيرة المستبدة وا لأوليجاركيات والإمارات والأسقفيات ومدن الإمبراطورية «الحرة»؟ لم يكن فى ألمانيا لذلك العهد من حر سوى الفكر. ولقد كان فردريك الكبير يفخر بالاتفاق بينه وبين رعاياه على أن يفعل ما يشاء وأن يدعهم أحرارًا فيما يرتئون ويقولون. أما فرنسا فكانت منغمسة فى التوسع غارقة فى لجج النظريات السياسية، أسيرة لشهوة الفتح.. وأما إنجلترا فكانت تُثرى وتفعم جيوبها وتنقاد إلى شهوة الرخاء المادى على حين كانت ألمانيا المنقسمة المتدابرة المتطاحنة التى تقيمها وتقعدها الدسائس والأحقاد الوراثية — خالصة لها دولةُ العقل أو «ملك السماء» كما شاء بومةُ ألمانيا، جان بول رختر، أن يقول — وشبيه بهذا ما حدث فى إيطاليا قبل نيف وثلاثمائة عام حين أخرجت للعالم أساتذة النهضة الأدبية والفنية فيما يسمونه عصر الرينسانس. ومثل هذا أيضًا وقع فى بلاد الإغريق قبل ألفى عام أو أكثر. وهذه الروسيا خير أدبائها وأفحلهم من نبغوا فى ظل الاستبداد القيصرى مثل تولستوى وديستويفسكى وتورجينيف وجوركى وهاتزيباشيف ولينين أيضًا! وتعليل ذلك سهل. فإن عصور الأمن عصور طراوة ودعة لا تحفز النفوس ولا تستثير قواها الكامنة. وعلى النقيض من ذلك عصور المشادة والجهاد التى تحرك أعماق النفوس وتزخر كل تياراتها، وتبتعث رواقدها، لما تتطلبه طبيعة العراك من استمداد كل قوة. نعم إن عهد الاستبداد يغرى النفوس بالتماس الفرار من الإحساس بوقع الظلم ومرارة العسف، فيكثر الإقبال على أسباب التلف، والإفراط فى معاقرة المتع الضئيلة واللذاذات الحقيرة. ولكنه لا يكلف بذلك إلا النفوسُ الجدباء التى لا خير فيها فى أى عصر، أما ما عداها فسلواها تأمل نفسها وما حولها، ودرس هاتيك جميعًا، وقياس بعضها إلى بعض، ومعالجة جعل ظروف الحياة وفق مطالبها وآمالها. وقد لا يبيح لها الاستبدادُ إلا توخى ما يحسبه أسلمَ الأعمال وآمنها مغبة، كوضع الروايات وهو ما جرى فى الروسيا. ويظن المستبدون أن لا ضير فى هذه ولا بأس منها! كأن تصوير ظروف الحياة ووقعها للقارئ الغافل أو العاجز عن تأليف هذه الصورة لنفسه وجمع شتاتها وتقدير أثرها — لا أثر له فى تكوين إرادة الجماعة وحفزها إلى نشدان ما ينقصها ودفع ما يرهقها. ولقد حدث أن بعض القياصرة كان يستمع إلى روايات ديستويفسكى — أو غيره — ويضحك ويعجب لمهارة الكاتب وصدق تصويره ودقة تحليله. ولم يكن يدرى أن هذه الروايات بعينها هى التى ستثل عرش أسرة رومانوف بما نفثت فى النفوس ونبهت! كما كان لويس الرابع عشر يشهد روايات موليير وتغرب فى الضحك وإن كانت على هذا من أول بواعث الانقلاب الاجتماعى! إذن فلا عجب أن ينهض الأدب فى مصر، وأن تكون نهضته قوية جارفة تعفى على القديم وتفتح أبواب الفكر، التى أغلقها التقليد، والمتنفسات التى سدتها السخافة والجهل. وإن المرء لتعروه هزة جذل حين يرى كتابًا جامعًا كهذا الذى أخرجه أخونا الأستاذ العقاد وكتب به للمذهب الحديث نصرًا جديدًا، وفوزًا آخر مبينًا. ومن ذا الذى لا يفرج لتحرر العقل وخفق أجنحته فى الفضاء الطليق؟ ولقد كانوا يعيبون على المذهب الجديد أنه يهدم ولا يبنى، كأنما يمكن أن يبنى المرء قبل أن يزيل الأنقاض ويصلح الأرض ويهيئها للبناء. فاليوم ما عساهم أن يقولوا؟ هذا كتاب كله بناء وتشييد، فهل يفرح الجاحدون كفرحنا به؟ لا نظنهم يستطيعون ذلك! وما كنا لنطالبهم بما يفوت ذرعهم ويخرج عن طوقهم. إذن فليغصّوا به إذا شاءوا!!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/7/
ماكس نورداو
أصبحت يومًا على ذكر ماكس نورداو.. وأكثر ما أذكره إذا جنحت نفسى إلى الرضا واستشعرت التفاؤل، أو إذا برمت بهذر الأدعياء وسفسطائيتهم، أو أكثرتُ من قراءة القصص.. فهو عندى دواء أجرع منه على قدر الحاجة، وأكافح به وبأمثاله عدوى أساليب التفكير الشائعة، وأدفع فتور النفس. وليس ذلك لأنه من المتطيرين، فإنه على نقيض ذلك يذهب إلى التفاؤل ويلج به الأمل على الرغم مما يشهر به وينعاه من الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، ومما يعرضه على قرائه من مظاهر الانحطاط والهستيريا فى الفنون والشعر والفلسفة. وهو ناقد ينشد الإصلاح بقوة البيان، ومرارة اللسان، ودقة التحليل، ووضوح التدليل، لا متسخط ممن يكلفون بذم كل ظواهر الوجود المعروفة ولا يرون الحياة إلا حالة سخيفة لا غاية لها ولا معنى فيها. غير أن تفاؤله هذا لا يعدى القراء ولا يكاد يتردد له فى جوانب النفس إلا صدى يذهب بأسرع مما جاء، ولكن للكلام فى هذا أوانًا لا نستعجله. «فى وسعى أن أثبت — أو على الأقل أن أظهر — أن الفنون والشعر لن تشغل إلا مكانًا ضئيلًا جدّا فى الحياة العقلية للقرون البعيدة. ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقه من الغريزة إلى المعرفة، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر. فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة، وتأخذ الإرادة — يهديها العقل — مكان الهوى. وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية، أى أن التفسيرات المغلوطة للوجود يعفى عليها فهم قوانين الطبيعة. هذا، وخليق بسير المدنية إلى الآن أن يعيننا على تقدير المصير الذى لعله مذخور للفنون والشعر فى المستقبل البعيد جدّا. ذلك أن ما كان من أهم مشاغل الرجال الراشدين وأنضج أعضاء المجتمع وخيرهم وأحكمهم يصبح شيئًا فشيئًا ملهاة ثانوية حتى يعود اَخر الأمر سلوى الأطفال، فقد كان الرقص فى الزمن الغابر على أعظم جانب من الأهمية … وليس هو اليوم إلا ملهى النساء والشبان وسيقتصر آخر الأمر على الأطفال. وكانت القصص الخرافية أسمى ما يخرجه العقل الإنسانى وكانوا يضمنونها أخفى حكمة القبيلة وأغلى تقاليدها، وهى اليوم ضرب من الأدب لا يتخذ إلا للأطفال. وكان الشعر فى الأصل النوع الوحيد من الأدب فاقتصر اليوم على تصوير العواطف وغلب النثر فى كل ما عدا ذلك. ونحن فى عصرنا هذا نرى الراية تزداد انحطاطًا ولا يكاد أهل الجلد والتثقيف يرونها خليقة بالعناية، ووقعها يزداد اقتصارًا على النساء والشبان. ولنا أن نستخلص من هذه الأمثلة أن الفنون والشعر بعد بضعة قرون ستصير آثارًا بحتة لا يتخذها غير من تغلب عليهم العاطفة أى النساء والشبان، بل الأطفال فيما يحتمل». قرأت هذا، ثم طويت الكتاب ومضيت إلى عملى وجعلت أفكر فى الطريق فى هذا الذى يستشفه نورداو من أستار غيب الله المسدلة دون المستقبل البعيد فخيل إلىّ أن ما نقلته من كلامه يمثل موطن الضعف فيه وفى أمثاله من العلماء لحاجة فى الاستقراء المنطقى ومبالغة فى التعويل على ما عرف إلى الآن من الحقائق العلمية وما ظهر من قوانين الطبيعة. وظاهر أن الخطأ فى هذا التقدير مرجعه إلى أمور كثيرة: منها افتراضه أن الأدب لم يلحقه هذا التطور الذى وصفه وقال إن علم النفس يقرره. ومنها إغفال العامل الإنسانى فى حسابه وإسقاطه طبيعة الحياة البشرية من تقديره.. وإنه لمن دواعى العجب أن يغفى هذا العقل الكبير هذه الإغفاءة فيحسب أن الحقائق لا تتعدى معامل الطبيعة والكيمياء وأن كل ما تخطى هذه الحدود انتقل إلى عالم الوهم واللهو الزائل. ومنها اعتباره الأدب والفنون سلوى وملهاة، وما هى فى شىء من هذا ولا هى تتخذ لهوًا إلا فى عصور الاضمحلال التى تعترى الأمم، وإنما هى فى الصميم من الجد بأدق معانى الكلمة. وإنى لأعجز عن تصور الأدب والفنون كيف تكون لهوًا زائلًا وسلوى يقطع بها الوقت ويقتل الفراغ. إذن فأنت تلهو إذا عشقت وإذا كرهت، أو غضبت أو خفت، أو راعك منظر فاتن، أو أقضك خاطر مخامر أو هم باطن.. وهذا الذى تراه من ظواهر الطبيعة وتنوع لبوسها فى الصباح والمساء وتحت نور الشمس وفى ضوء القمر وعند ركود الجو وهبوب الرياج وما تحسه من وقع الحوادت والشخصيات — كل هذا وهم وخدعة وأكذوبة، وهذه الحياة بخيرها وشرها وسعودها ونحوسها باطل ومحال ولا حق إلا المعدة يرحمنا الله، ولا جد إلا مكرسكوب العلماء! على أن الناس عاشوا وما يزالون يعيشون بالطبع أكثر مما يعيشون بالعقل وحقائق العلم، والحياة قائمة على طبيعة النفس والغرائز. وسبيل المدنية أن نجعل قياد الغرائز البشرية والعواطف الإنسانية فى يدها وأن تتخذ منها قوى دافعة تستخدمها لإنتاج ما ليس فى الغالب من الغايات الأولى لهذه العواطف التى لولاها لآض الإنسان كتلة من اللحم والعظم لا خير فيها ولا غناء عندها كما بين ذلك نورداو نفسه فى كتاب اخر. ولا بد من تحرك هذه العواطف تحركا جديّا فى بادئ الأمر لينتفع المجموع من الفرد. وأنت قد تعلم أن العادات والأنظمة الاجتماعية ليست إلا أقنية ومسارب تتدفق فيها العواطف لتنظم وينتفع بها ويتأتى تسخيرها. أليست عاطفة الحب هى الأصل فى بقاء النوع عامة وفى نظام الزواح خاصة؟ وعاطفة الرحمة أليست هى مبعث هذا النظام الاجتماعى على ما فيه من مظاهر الأثرة والظلم وقلة ما يبدو لمتأمله من التعاطف الذى هو أصله؟ ثم أليست الأنانية هى أصل الوطنية؟ والطبيعة البشرية ثابتة لا يلحقها نقصان ولا يطرأ عليها زيادة، وهى مثل الكاليدسكوب تدير الكف قطع زجاجها الملون التى تمثل عواطفنا وامالنا ومخاوفنا ومباهجنا ومطامحنا ونزعاتنا إلى الخير والشر وغير ذلك وتزاوج بينها وتشكلها أشكالًا مختلفة ولكن العناصر المكونة لها تبقى على حالها وتبقى القطع الزجاجية لا يطرأ عليها نقص ولا زيادة. والقوانين الطبيعية التى يقولون إن المستقبل سيكون قائمًا عليها مبنيّا على فهمها كانت أبدًا موجودة فعالة منذ كانت الدنيا. ومن ذا الذى يظن أن هذه القوانين كانت غير موجودة أو معطلة قبل أن يهتدى إليها الباحثون والمفكرون؟ أكانت العوالم والأشياء متنافرة متدافعة قبل أن يوفق نيوتن إلى نظرية التجاذب وقانونه؟ أكانت العين لا تلتذ ما تأخذ من الألوان والأذن لا ترتاح إلى ما يرد عليها من الأنغام، فلم تستشعر العين لذة الألوان ولا الأذن حلاوة الألحان إلا بعد أن وقفنا على ما نشره «هلمهولتز» و«بروكه» من نتائج بحثهما، وإلا بعد أن قررا أن الإحساس بالألوان والأنغام رهن بالنسب الحسابية والهندسية البسيطة أو المركبة بين حركات الأثير أو المادة؟ وغير منكور ولا مردود أن العقل سبيله أن ينفى عن الشىء كل ما هو أجنبى منه، وأن أبحاث العلماء قد صيرت أفق المدارك أوسع، ومرامى الفكر أبعد. ولا شك فى أن أهل النظر والاجتهاد المخلصين قد أحصوا وسجلوا واجتلبوا المنافع واستدروا المرافق، غير أننا مع هذا — على قول شيللى — لا نعجز أن نتصور حال العالم لو أنهم لم يكونوا ولم يخلقوا، أو لم يبحثوا ولم يحققوا — لا يعيينا أن نتخيل العالم خلوًا من خطوط الحديد والمصانع على تعدد شكولها، ومن المعارف العلمية والاقتصادية والسياسة، ومن اراء الفلاسفة وعشاق الإنسانية. أليس كل ما كان يحدثه فقدان ذلك أن العالم كان يمضى فى هذره القديم وخلطه الأول وعنجهيته السابقة قرنا أو عدة قرون أخرى؟ وإن عددًا من الرجال والنساء والأطفال كان يرمى بالكفر والإلحاد والمروق ويحرق؟ ولكنه من وراء الطاقة أن يتصور المرء حال الدنيا لو أن الشعراء لم يكونوا، والفنيين لم يخلقوا، ولم ينقل إلينا شعر العبرانيين، ولم يستأنف الناس دراسة الأدب الإغريقى، ولم يتغلغل فيهم شعر الأديان القديمة البائدة مع عقائدها. وبالجملة خلو العالم من كل أسباب الحياة. أكان عقل الإنسان يبعثه من رقاده شىء لولا هذه؟ أكان يتاح له أن يحيط بما أحاط أو أن يخوض حيث خاض؟ ومعلوم أن الآداب والفنون إنما أتت النفس أولًا من طريق الطباع والحواس ثم من جهة النظر والروية، فهى أمس بقوانين الطبيعة رحمًا وأقوى لديها ذممًا، وأقدم لها صحبة، واكد عندها حرمة. وليس هذا الرقى إلا تطورًا فى الحق. والفرق بين حياة الإنسان فى عهده الحديث وبينها فى ما سلف ليس فى الكيف ولكن فى الكم، وفى المقادير وليس فى الصفات الغريزية. هذه هى القضية المبرمة الثابتة. فإن قلت: فماذا عساك تقول فى مخترعات العصر الحاضر وفى امتلاك الإنسان رق الطبيعة بها؟ قلنا لك ليس من قصدنا أن نتنقصها، وما ننكر ما لها من شرف المحل وجلال الخطر وعظم الأثر، وإنما نروم أن نبين لك أنها لا تدل على ميزة اختص بها هذا العصر وانفرد، واستأثر بها زمننا واستبد، ذلك لأن الاختراع والاكتشاف إنما يؤدى إليهما النظر وحب الاستطلاع المركوزان فى الطبائع المركبان فى الجبلات، وهما خاصتان فى الإنسان لم تزايلاه فى كل ما مر به من الأطوار وكر عليه من الأدوار.. ولئن اخترع اليوم الطيارة وكشف عن الكهرباء، لقد اخترع قديما المساكن والثياب وفطن إلى النار. فالخاصة الإنسانية والقدرة الطبيعية اللتان أفضتا إلى الاختراع والاكتشاف ثابتتان لم يعدمهما الإنسان فى زمن من الأزمان، وإنما الذى يقع عليه الاختلاف وتتباين فيه العصور، الأعداد والكميات وما كانت هذه لتكسب الإنسان الحديث مزية تحيله عن أصله وتخرجه عن فطرته. وقد نسى نورداو — فيما قاله عن القصص الخرافية — أن الزمن إذا كان قد عفى عليها فلقد نشأت مكانها الروايات السيكولوجية وشاعت على نحو لا نظير له فى ما مضى، ولم ينج من تأثيرها ولا قاومه حتى العلماء أمثال نورداو نفسه الذى وضع عدة روايات وإن كان يقول إن أهل الجد والثقافة لا يرونها حقيقة بالعناية! ••• دارت بنفسى هذه الخواطر. وما هى إلا ساعة وإذا بالبرق ينعى إلينا ماكس نورداو! فعجبت لهذا الاتفاق ولما كان عسى أن يقول فى مثله! وكم فى الدنيا من أسرار وألغاز لم يستطع العلم أن يحلها! وقد بدا لى أن أسوق هذه الخواطر فى مستهل الكلام عن نورداو. وما يتسع مقال واحد لذلك، فإن الرجل لم يدع بابًا من أبواب النظر والبحث إلا طرقه ونفذ منه إلى مقالة حق، ومذهب صدق. «من حيل الكلاميين أن يقسموا الإنسانية إلى شطرين: رعية كبيرة وطائفة قليلة من الرعاة، ولكن من الخطأ أن نقول إن بضعة عقول خاصة هى القوة الدافعة الوحيدة وأن نصور الجماهير كأنها العقبة المعترضة أبدًا. ولا يسعنى إلا أن أعترف أنى ظللت زمنًا طويلًا أشاطر القائلين بهذا خطأهم، وكنت أذهب إلى أن الجنس الأبيض كله يمكن أن يرد إلى مستوى العصور الوسطى، بل إلى ما هو وراءها أو قبلها لو أن عشرة الاَلاف الذين هم أمهر معاصريى وأذكاهم، والذين يخيل إلينا أنهم عماد مدنيتنا الوحيد، فصلت رؤوسهم عن أجسادهم. غير أنى الآن لم أعد أعتنق هذا الرأى وذلك لأن أسمى صفات الإنسانية ليست ميراث الشواذ القليلين دون سواهم وإنما هى صفات أساسية موزعة على الناس جميعًا، شأنها فى ذلك شأن الأعضاء والأنسجة والدم ومادة الدهن والعظام، ولا شك فى أن لبعض الأفراد نصيبًا أو فر ولكن لكل فرد حظا من هذه الصفات.. صور لنفسك طائفة من الأوساط العاديين ليس لهم مواهب عقلية خاصة أو معارف فنية غير ما يفيده المرء من مطالعة مقالات الصحف أو أحاديت المجالس، وهبهم تحطمت بهم سفينة وقذف بهم الحظ إلى جزيرة جرداء. فماذا يكون مصيرهم؟ لا شك فى أنهم فى بادئ الأمر يكونون أسوأ حالا من مستوحشى البحار الجنوبية إذ كانوا لم يتعودوا أن يستخدموا مواهبهم الطبيعية ولا يدرون أن فى الوسع أن يتناول المرء طعامه دون أن يقدمه إليه الخدم، وأن الأغذية توجد فى حيث لا أسواق.. ولكن هذه الحالة لا تطول، وأخلق بهم أن يفطنوا إلى ما كان خافيا عليهم من نفوسهم وأن يوفقوا بعد ذلك إلى اختراعات مهمة، فيظهر لهم أن لأحدهم مهارة فنية عظيمة، وأن لآخر مواهب فلسفية، وأن ثالثًا قد رُزق القدرة على التنظيم، فلا يلبثون أن يعيدوا فى خلال جيل أو جيلين تاريخ التقدم الإنسانى كله. ولما كانوا قد رأوا الآلات التجارية — وإن كانوا على الأرجح لا يعرفون على وجه الدقة كيف تركيبها — فسرعان ما يهديهم التفكير إلى أصل المسألة فيصنعون لأنفسهم الة من هذا النوع.. وهكذا فى غير ذلك، فيصبح هؤلاء الأوساط صورًا مصغرة من نيوتون ووطسن وهلمهولتز، وجراهام بلز لأنهم بين ظروف المدنية كانت تعوزهم تلك الفرصة التى أتاحتها لهم الجزيرة الجرداء». ويقول نورداو فى ذيل هذا: «ولا أحتاج إلى عناء كبير لأعتقد أن فى كل رجل عادى النضوج، مواهب يمكن أن تجعله عاملًا كبيرًا فى تقدم المدنية، وكل ما يحتاج إليه الأمر هو أن يضطر إلى أن يصير كذلك. كما يمكن اتخاذ الجذور من أغصان الأشجار إذا دُليت وغرست رؤوسها فى الأرض وأكرهت بهذه الطريقة على امتصاص الغذاء اللازم لها من الثرى». وبعبارة أخرى يقول نورداو: (١) إنه ليس ثم قوة دافعة من شواذ الأفراد وعقبة معترضة من كتلة الجماهير، و(٢) إن الصفات الإنسانية يشترك فيها الناس جميعًا وإنما تتفاوت الأنصبة، و(٣) إن الضرورة «مدعاة الجد ومبعث التفكير العميق وأم الاختراع»، و(٤) إن تاريخ الرقى الإنسانى خليق أن يتكرر هنا على وجه مختزل وهذا هو ما لا خلاف بيننا وبينه فيه. وفى كلامه فيما عدا هذا مواضع للنظر. إذا صح أن من الخطأ أن يذهب أحد إلى أن المتفوقين هم القوة الدافعة وأن الجماهير عقبة معترضة، فليتصور القارئ حال الدنيا — دنيا الإنسان — كيف تكون وأى رقى يحدث إذا لم يظهر فيها أناس يمتازون بجرأة أو أمل أو إرادة أو عقل، أى بنصيب أوفر من نصيب الرجل العادى من المواهب والملكات والصفات الإنسانية كما يقول نورداو، لا علماء يخدمون النوع بما يحصون ويقيدون ويستنبطون، ولا أدباء أو فنيين يوقظون الحواس الراكدة، والمشاعر الخامدة، ويملئون الصدور، ويحركون الطبيعة البشرية، ويبتعثونها على نشدان الكمال والتماس تحقيق المثل العليا التى ينزعون إليها، ولا يفتحون العيون ويوقظون القلوب على عظمة الجلال والأبد والحق، ولا زعماء ولا قادة يغرون الناس بالمجد. ماذا تصير الحياة؟ هشيمًا يابسًا ولا شك. وأخلق بالجنس الإنسانى إذن أن يعود كغيره من أجناس الحيوان. وأن يروح الآدميون ولا عمل لهم فى الحياة سوى الطعام والشراب والتناسل. لا يتميز بعضهم عن بعض إلا بضخامة الأجسام أو ضالتها، ومتانة العضلات أو رخاوتها، وحدة الأنياب أو كلالها. ثم ليتصور القارئ بعد هذا أن الجماهير الإنسانية لا تقاوم ولا تقف عقبة فى سبيل سعى، ولا يحتاج الشواذ الأفذاذ أن يجروها ويعالجوها بمختلف الوسائل وشتى الأساليب لتتبعهم وتسايرهم، بلِ تجيب كل مهيب، وتعتنق كل جديد، وتلبى كل دعوة. ونضرب مثلَا متطرفًا بعض التطرف لنعين القارئ على تصور الحال ولنحضر فى ذهنه مثال ما ندعوه إلى تخيله. فنقول إن الحج فى الإسلام أشق قواعده والذى لا طاقة لكل امرئ به، ومن أجل هذا لم يحتمه الشارع تحتيمًا لا مفر منه ولا معدى عنه بل فرضه على المطيق دون ظاهر العجز عنه. فهب رجلا منا قام يدعو إلى دين هو كالإسلام فى كل ما دق وجل من أحكامه وأصوله واَدابه وأوامره ونواهيه ولا يختلف عنه إلا فى إسقاط الحج وتحريمه على أتباعه: أتظن الناس يسرعون إلى الدخول فى هذا الذى ليس فيه من جديد على الحقيقة والذى لا يختلف عن الإسلام إلا فى هذه القاعدة وحدها؟ ولا نفيض فى المسألة بل ندع للقارئ إتمام هذه الصورة التى رسمنا له معالمها الكبرى. ولو أن الجماهير تبذل قيادها لكل مهيب بها لعاد المجتمع ريشة فى مهاب الرياح لا استقرار له ولا انتظام، يساق ويدفع إلى كل ناحية، ويتقدم ويتأخر فى كل اتجاه. لأنه لا يكون فى هذه الحالة على الأفراد الممتازين إلا أن يفكروا ويريدوا، ولا على جمهرة الناس إلا أن يترجموا خواطرهم إلى العمل، ويخرجوا إرادتهم فى صورة محسوسة ملموسة كائنة ما كانت هذه الفكرة أو الإرادة. ولا أدرى حينئذ لماذا يكد الرجل الممتاز ويتعب ذهنه وتكلفه التفكير ويعالج إنضاج الرأى وليس ما يدعوه إلى كل ذلك والأمر لا يكلفه إلا أن يريد فيكون ما أراد؟ ونورداو نفسه لا يخفى عليه أن الأمر ليس كذلك. وهو يقول فى موضع اخر من كتاب المتناقضات الذى نأخذ منه اليوم ونسرد: «وماذا غير ذلك مما يتهم به الرجل العادى؟ إنه لا يبادر إلى التسليم أمام حملات الرجل العبقرى؟ ألا إن هذا لهو المطلوب! ومن أجل هذا ينبغى أن يبارك الرجل العادى. فإن ثقله أو اتزانه الوطيد الذى لا يسهل إزعاجه يجعله نوعًا من الجهاز الرياضى أو ضربًا من الأثقال إذا عالجه الرجل الممتاز استطاع أن يختبر قوته وأن يضاعف كذلك مُنته. ولا شك فى أن من أشق الأمور ابتعاث الأوساط على الحركة ولكن معالجة هذا تدريب نافع فلا يزال يجرب حتى يفوز بالنجاح». وهذا صحيح فإن المقاومة التى يلقاها الجديد هى التى تكشف عن مزيته وتظهر فضله. وهى كذلك الضامن ألّا ينجح إلا الأصلح والذى أوتى القوة الكافية ورزق النصيب اللازم من ملاءمة الاستعداد له، وقد لا يفوز الأفضل؟ لأن الصلاح والملاءمة، لا الفضل، شرط النجاح. وليس على القارئ ليدرك مبلغ المقاومة التى تبذلها كتلة الجماهير إلا أن يفكر فى بطء التغير الذى يلحق الأنظمة من معاشية وحكومية وقانونية، وكيف أن فيها كثيرا من المسخطات ومن بواعث الألم والكرب والضيق، وكيف أن المرء مهما كان رأيه فى العرف الذى ألفه الخلق، ومبلغ استقلاله واعتداده بنفسه، لا يسعه على هذا إلا النزول على حكم الجماعة فى كثير من العادات. وما الذى يصون القانون؟ أهو قوة الحكومة أم الرأى العام أى قوة العادة والعرف؟ والقانون نفسه ماذا هو إن لم يكن رأى الجماعة فى صورة أوامر ونواه؟ والأنظمة الديمقراطية أليست مظهر ا من مظاهر نزوع الجماعة إلى مقاومة الفرد الذى تحدثه نفسه بتسييرها كما يشاء؟ وتأمل كيف كانوا فى الأزمنة السالفة يحرقون أهل الابتداع ويحتشدون حولهم اَلافًا مؤلفة وهم يشتوون! لا شك فى أن الجهل له دخل كبير فى هذا ولكن ذلك لا يحيل المسألة عن أصلها. ••• وأرى نورداو قد تابع القدماء وحاكاهم فى اعتبار الحاجة أمَّ كل اختراع، والضرورة مبعث الفكر ومدعاة الجد.. وقديما صورها اليونانيون أم الحظوظ وزوجة «دميورجاس» — صائغ العالم ومكيفه — وأم القدر كذلك، وجعلوا سلطانها الأعلى، وسطوتها التى لا ترد ولا تدفع وجعلوا بأسها فوق بأس الآلهة أنفسهم، وعزوا إليها حروب العمالقة التى دارت أرحاؤها بينهم فى قديم الزمان قبل أن يلى «الحب» حكم العالم. ومثلوا الأرض تدور حول مغزلها الذى فى حجرها. وكان المصريون القدماء يعدونها أحد أرباب أربعة يحضرون مولد كل ادمى، والثلاثة الاَخرون هم الروح الحارس والحظ وإيروس — وكان للضرورة أو الحاجة فى قلعة كورنثة معبد يشاطرها «العنف» إياه، ولا يؤذن لأحد أن يلجه. وقد وصفها هوراس فى إحدى قصائده بأنها «رائد الحظ ورفيقه» وأنها تحمل فى كفها النحاسية مسامير هائلة ورصاصًا مصهورًا، رمزًا لقوة الشكيمة والثبات. وإنها لكذلك إلى حد لا سبيل إلى المبالغة فى بعد مداه، ولكن من الإغراق فى رأينا أن نزعمها أصل كل اختراع، وسبب كل اكتشاف، وسر كل فكر، ووحى كل عمل. ولا شك فى أن الإنسان أحس الحاجة إلى ما يقيه الحر والبرد فاتخذ الثياب، واضطر إلى المساكن فبناها وأراد التحصن والوقاية فشادها طبقات وأحاطها بالأسوار. واحتاج إلى ما يعجز الحيوان عن الفرار ويقعده عن الكر على مطاردته فاخترع السهام واستعمالها ضد خصومه وعداته. ولا ريب كذلك فى أن الحاجات الجوهرية التى تُعين ضعف الإنسان على مقاومة الطبيعة، أو تجعل الاحتفاظ بالنفس أسهل، أتت الإنسان بدافع من الضرورة. ولكن من الغلو أو من السهو أن نضع القدماء فى مواضعنا وأن نتصور أن حاجاتهم هى عين ما نحس الآن من الحاجات. وأن نقيس حياتهم على حياتنا. فالنار مثلًا لا غنى بالإنسان عنها والحياة بدونها لا ندرى كيف تدوم. وعلى أنها جوهرية فى حياتنا لا نظن أن الحاجة هى التى أغرت الإنسان القديم بالتماسها والتفكير فيها حتى اهتدى إليها. نعم إنه كان لا بد له من نشدان الدفء بشكل من الأشكال — بالثياب والمساكن والعدو والوثب، والحركة على إِلعموم، ولكن اهتداءه إلى قدح النار كان محض اتفاق لا عمد فيه، وإن كان بعد أن عرف ذلك رقاه وهذب طرقه. وهو ما يمكن أن يقال حتى عن المساكن والثياب. وكان الإنسان يأكل اللحم نيئًا كالحيوان ولا نحسبه شعر بإلحاح الحاجة إلى الشىّ فشوى طعامه وطهاه. بل جاءه ذلك وما هو إليه اتفاقًا. وتأمل فى عقب هذا، الاختراعات والاكتشافات الحديثة التى يفتح بعضها بعضًا، والتى يكون من المبالغة ولا شك أن نزعم الإنسان حتى فى حاضره الحافل تلج فيه الحاجة إلى نشدانها. على أنه ينبغى أن نميز بين حاجة الجماهير وحاجة الأفراد الممتازين الذين لا يجتزئون بالواقع ولا يقنعون بالحاضر والذين تسبق عقولهم ومطالب نفوسهم، عصورهم. هؤلاء هم أول من يشعر بالنقص وبضغط الضرورة وثقل وطأة الحاجة، وهم الذين ينبهون الجماهير إلى ذلك ويشعرونها بما يعوزهم، ولا يزالون بها حتى يتنبه فى نفوسها مثلُ إحساسهم فتطلب ما يطلبون. وقد مرت بالأمم عصور ركود كثيرة انقطع فيها مدد العظماء والممتازين فبقيت الجماهير حيث خلفها اَخرُهم، ولبثت على هذه الحالة الشبيهية بالجمود حتى تداركها الله. وقلما ينجح أول ممتاز يظهر كل النجاح، وحسبه من الفوز أن يقطع حجرًا أو اثنين من جبل هذا الجمود، ثم يأتى بعده من يواصل عمله ويتقدم خطوة أو خطوات أخرى فى التمهيد وفى زحزحة كتلة الإنسانية وفتح عيونها المغمضة، أو المفتوحة كالمغمضة، وفى تنبيه مشاعرها وإذكاء نار الحياة فيها. وهكذا حتى تتهيأ الفرصة للمجدود من الممتازين فيلفى كل شىء حاضرًا مهيأ لظهوره. ولو أنه كان فى وسع الجماعة المؤلفة من الأوساط أن تستغنى بحظها من الصفات الإنسانية الأساسية، وأن يضطرها عدم وجود الممتازين إلى استخدام ما لها من مواهب، وإنضاج ما رزقت من قدرة وملكات، لما بدت فى التاريخ هذه الفترات، فترات الركود والكلال والجزر، التى تطول أحيانًا عدة قرون حتى تتاج قوة دافعة ممن يظهرون بعد ذلك من الممتازين والنوابغ والعظماء. على أن باب التخريج والتفسير هنا واسع، ومجال الجدل الكلامى رحيب، وهو يمتد إلى غير غاية.. ولكن الذى لا يسعنا أن نؤمن به هو أن الحاجة وحدها هى أصل كل رقى، وأن العظماء ليسوا قوة دافعة تلقى البرحَ والعنت من نزعة الجماهير إلى الاحتفاظ بالقديم، وأن الإنسان كالنبات يمكن أن يُفسر قسرًا.. والمثل الذى ضربه نورداو خلاب، ولكن عيبه عيب غيره من الأمثال المنقولة من دائرة إلى أخرى، ولا يخفى أن الحيوان والنبات مختلفان، وإن اشتركا فى صفة الحياة وفى كثير من مظاهرها. ويرى القارئ من النبذ التى أوردناها من كلام نورداو أن له «متناقضات»! فبينما هو ينفى مقاومة الجماهير إذا به فى موضع اخر من الكتاب عينه يعترف بهذه المقاومة وتعللها ويذكر نفعها، وكأنا به يغتر بقدرته على نصر الموقف الذى يقفه، ويسحره بيانه وتفتنه خلابة منطقه وقوة حجته، فيمضى إلى أبعد من المدى، ويسوقه تيار علمه ومقدرته إلى حيت ينأى عن موقفه قبل صفحات. ولعله بعدُ معذور، فإن وجوه النظر كثيرة وللحياة أكثر من صفحة واحدة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/8/
التصوف فى الأدب
نريد «بالتصوف» ما يطلقون عليه فى بلاد الغرب كلمة «مستيسزم»، وهى كلمة من أشق الأمور أن يعالج المرء تعريفها على وجه الدقة، إذ كانت تدل على حالة من حالات الفكر، أو الإحساس، تبدو مقرونة بمحاولة العقل الإنسانى أن يتغلغل إلى حقائق الأشياء وأن يستجلى صفاتها الربانية، أو الاستمتاع بنعمة الوصول إلى الذات العلية والاتصال بها والتسرب فيها، ومن هنا ظهر التصوف فى الفلسفة والأدب، وفى الدين كذلك. «كل من حاول فى ليلة مظلمة أن يستجلى ظاهرة بعيدة يستطيع أن يحضر لنفسه الصورة التى يرسمها عالم الفكر لذهن الرجل الضعيف. انظر ثم! كتلة مظلمة! أى شىء هى؟ شجرة؟ كوم من الدريس؟ لص؟ حيوان مفترس؟ أينبغى أن أفر؟ أم يجب أن أحمل عليه؟ ويعود العجز عن استبانة الشىء — الذى يحرزه ولا يراه — مدعاة لإشاعة الخوف والقلق فى نفسه. وهذه هى الحالة التى يكون عليها عقل الرجل الضعيف تلقاء ما يأخذه وعيه، فيروح يعتقد أنه يرى مائة شىء فى وقت معًا، ويصل ما بين الصور التى يخيل له أنه يتبينها وبين الخاطر الذى كان مثارها.. على أنه يحس مع ذلك أن هذه العلاقة لا مفهومة ولا معللة، ولكنه مع هذا يؤلف من أشتاتت ما فى ذهنه، فكرة تناقض كل تجربة ولكنه مضطر إلى أن ينزلها من الصواب منزلة غيرها من آرائه وخواطره إذ كانت كلها قد نشأت على هذا النحو. وهذه الحالة الذهنية التى يحاول المرء معها أن يرى، ويحسب أنه يرى وهو لا يرى، ويضطر إلى أن يؤلف فكرة من خواطر تضلله وتسخر من وعيه، وتخيل له أنه يدرك علاقات مستسرة بين الظواهر الواضحة والظلال الغامضة الملتاثة — هذه هى الحالة العقلية التى تسمى التصوف». فهى حالة مرجعها إلى ضعف الإرادة ضعفًا تمتنع معه القدرة على «الالتفات» أى مواصلة الملاحظة والتمييز.. ولكن هناك نوعًا اخر من التصوف لم يفت نورداو أن يلتفت إليه، وقد عزاه بحق إلى الاضطراب فى حساسية الذهن والجهاز العصبى، وهو اضطراب يُنتج التصوف العملى ويفضى إلى الهذيان والغيبوبة حين يبلغ من عنف حركة الجزء المهتاج من الذهن أن يتعطل عمل سائره. ويعود المرء وهو لا يحس ما حوله لاستغراق خاطر واحد أو طائفة من الخواطر للوعى كله وتمتزج الغبطة والألم. ولا شأن لنا بهذا الضرب من التصوف. وقد لا نخطئ كثيرًا إذا قلنا إن التصوف فى بلاد الشرق متفرع من فلسفاتها السائدة، وإنه عبارة عن الإحساس الدينى فى حيثما ظهر، ولكنه فى الهند غيره فى فارس مثلًا. وذلك أن البرهمية التى تقول بتأليه الكون ووحدته، والبوذية التى تذهب إلى العدمية — كلاهما ينكر حقيقة العالم الظاهر وتدعو إلى التسرب فى الغاية العليا، وكلاهما يعصف بالإحساس بقيمة الشخصية الإنسانية. وقد علل الأستاذ أندرو برنجل باتيسون شيوع التصوف فى الهند بطبيعة الإقليم وما يغرى به المناخ من التسليم والفتور، وبأن فرط الخصب فى حياتى النبات والحيوان هناك يبلد الإحساس بقيمة الحياة. أما الصوفية الفارسية فأقل حدة، وهى ألطف وأرق، والصيغة الأدبية فيها أعم. والمطلع على تاريخ الأدب الفارسى يجده بعد القرن التاسع مشبعًا بروح البانثيزم (وحدة الكون وتأليهه).. ولكن الإدراك الصوفى لوحدة الأشياء وألوهيتها يزيد ويضاعف التذاذ الجمال الطبيعى والإنسانى ولا يفتره أو يصرف عنه. وهذا ملحوظ فى شعر حافظ والسعدى وغيرهما ممن كثر فى شعرهم التغنى بالخمر والغزل تغنيًا خرَّجه المفسرون تخريجًا اَخر وأولوه بغير المستفاد من لفظه فزعموا ما فيه من ذكر لذاذات الحب رمزًا لغبطة الاتصال بالذات العلية، وادعوا أن الخمارة اسم مستعار للمعبد وأن نشوة الخمر هى ذهول الحس. ولا شك فى أن لهؤلاء الشعراء قصائد بعث عليها الإحساس الدينى فى أول الأمر، وهذه تغلب عليها البانثيزم، وتحس فيها حرارة الرغبة فى خلاص الروح واتصاله بالله. ولعل هذه الحالة التى تعتريهم أحيانًا وتغريهم بعدّ الطبيعة والجمال ومتع الأرض عبثًا وباطلًا — رد فعل للإغراق فى التماس اللذاذات وإفراط فى إرضاء الجسم، أو لعلها الجانب الاَخر للصورة. ومن شعراء الفرس الذين ذاع صيتهم وسار ذكرهم فى الشرق والغرب عمر الخيام. وقد حاول بعض النقاد أن يزج به فى زمرة المتصوفة من شعراء الفرس وأن ينفى عنه ما يدل عليه ظاهر ألفاظه، وأن يخرِّج كلامه على نحو ما أسلفنا، وأن يدفع عنه تهمة الأبيقورية جهلًا كما سترى. ولكن الواقع، كما قال مترجمه إلى الإنجليزية فتزجرالد، أن عمر لم يكن أبغض إلى أحد منه إلى متصوفة عصره الذين كان يسخر منهم ويركبهم بالدعابة والتهكم «وأنه لما عجز أن يهتدى إلى شىء سوى القدر أو دنيا غير هذه — بالغًا ما بلغ خطؤه فى ذلك — قنع بحظه المقسوم له، واَثر أن يرفه عن نفسه من طريق الحواس على أن يرهق نفسه باستجلاء الغوامض». على أنه كانت له موهبة تنأى به عن التصوف، ذلك أنه كان رياضيا! بارعًا. ومما يذكر له فى هذا الباب تنقيحه التقويم السنوى تنقيحًا أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزى بالثناء عليه. وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف فى علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضى مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها، والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف. ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف. «ذهبت أيام العمر القليلة كالماء فى الوادى، أو الريح فى البيداء.. أنا لا أغتم ليومين من الأيام، اليوم الذى لم يأت واليوم الذى مضى». «الا تذكر اليوم الذى مضى، ولا تجزع من غد لم يأت بعد — طب نفسًا ولا تنغص عيشك». ويظهر أن فتزجرالد راقه قول الخيام إن أيام العمر القليلة ذهبت كالماء فى الوادى أو الريح فى البيداء، ورأى هذا المعنى مكررًا فى بعض ما ينسب إلى الخيام — وهو كثير — فنظم فيه رباعية تحرى فيها أن يصدر عن روح الخيام، فقال: «سمعت هاتفًا فى السحر من حانتنا يقول: إيه يا أخا الشراب المفتون، قم لنملأ الكأس بالخمر قبل أن يملئوا كأسنا». وقد نظمها رامى فى هذه الرباعية: فنقحها وجعلها هكذا: ولا شك فى أن نضوب الحياة أشبه بمعنى الموت من امتلاء كأسها. «نحن ألاعيب أطفال، والفلك هو اللاعب بنا، ذلك أمر حقيقى غير مجازى، لقد لعبنا مدة فى ساحة الوجود ثم ذهبنا إلى صندوق العدم واحدًا بعد واحد». وترجمها رامى هكذا: فتناولها فتزجرالد، وزاد التشبيه وضوحًا فجعله هكذا: ولا شك فى أن المعنى فى رباعية فتزجرالد، أتم وأشد منه فى الترجمة الحرفية النثرية لرباعية الخيام، وأوضح منه فى رباعية رامى، والتشبيه مستوفى من جميع نواحيه، وهو فوق ذلك أجمل وأبرع، وإن كان عيبه أننا لا ندرى أى ثان للقضاء أمام هذه الرقعة؟ أم ترى القضاء عنده عابث يلاعب نفسه؟ «كأس، وخمر، وساق فى روضة، خير من الجنة التى وعدتها. لا تسمع من أحد حديث الجنة والنار — من ذا ذهب إلى الجحيم؟ ومن ذا جاء من الجنة؟». ويظهر أن هناك رباعية أخرى تشبهها فى الفارسية، فقد وجدنا بين ما اختاره الشاعر رامى هذه الرباعية: ورباعية فتزجرالد صنو رباعية رامى إلا أنها أكثر اتزانًا: والرغيف كنصف الرغيف فى الدلالة على الكفاف، وليس وجوده كاملًا بالترف حتى يكون تنصفه رقة حال.. وتخيل المرء أن القفر انقلب شبيهًا بما تشتهيه النفس من نعم الجنة والعيشة الراضية، أقرب إلى طبيعة الإنسان وأشبه بروحه من أن يذهب يفضل اجتماع هذه الثلاثة على الملك المنيف والعيش الرغيد. وقد اكتفى فتزجرالد بتصوير ما ينشده الشاعر الخيام — كما فهمه هو — فى حياته، زق خمر يسرى به عن نفسه فتخرس ألسنة الهواتف التى لا تفتأ تذكره بالحياة والموت والقضاء والقدر. ورغيف يرمز به إلى الصناعة ويدل به على أنه ليس مبطانا همه المعدة وما تكظ به. وديوان شعر أو كتاب فى ذكره إشارة كافية إلى حياته العقلية والنفسية وإلى أن القائل — وهو شاعر — ليس مجرد حيوان.. واحتفظ فتزجرالد بالساقية، أو المؤنسة، ولكنه تلطف وارتقى بها ولم يذكر صفتها، وجعلها أشبه بالحبيبة تغنيه.. والموسيقى غذاء الروح، وهى صنو الشعر ومن معدنه، ثم آثر الاعتدال فى التعبير فقال: إذا اجتمع هذا صارت البيداء (كأنها) الفردوس المشتهى. وهناك رباعية قوية ترجمها كل من فتزجرالد ورامى، ولم نعثر عليها فى ترجمة الأستاذ الصراف. أما رامى فصاغها هكذا: أما فتزجرالد، فتناولها من اَخرها ليزيد المعنى بروزًا وتأكيدًا وليقويه فهو، يقول: والابتداء هكذا أروع فى تصوير القدر: فالقلم يخط فى اللوح، فإذا خط مضى شأنه ونفذ الحكم ولم يُجْد فى رد القضاء لا ورع ولا بكاء! وثم رباعيات لم نجدها فى ترجمة الصراف ورامى وإن كانت قوية، وهى هذه كما نظمها فتزجرالد: يعنى الإنسان — لا رأى له فى حياته ولا إرادة. ثم هذه الصرخة الخارجة من أعماق القلب: أى يا ظماَن. فماذا هو هذا الخيام؟ ما الصورة النفسية التى تخلص لنا من رباعياته هذه وأمثالها؟ الخيام الذى يصوره فتزجرالد فيما اختار من رباعياته، شاعر، لا يرتقى إلى الطبقة الأولى ولا يقاربها، ولكنه شاعر له نظره وروحه وإلهامه. أما فى الترجمتين العربيتين عن الفارسية، فهو يقصر عن ذلك ولا يرتفع إلى مستواه.. فهو مثلًا ينهض إذا انبثق الفجر ليسكر، أو كما يقول الشاعر رامى: ولكن فتزجرالد يهمل هذا الصبوح ويضرب عن ذكر الخمر كراهة منه لاستقبال الشاعر جمال الفجر وهو مخمور. وللخمر فى كل رباعية مما ترجم فتزجرالد علتها المفهومة الراجعة فى مرد أمرها إلى أسلوب تفكير الشاعر.. فهو يشرب لأن الحياة وشيكة الزوال، وكأس العمر ككأس الشراب ما أسرع ما تنضب: ولأن المقام فى هذه الدنيا قليل، والذاهب لا يرجع، أو لأن الشراب ينعش النفس ويشعرها بهجة الربيع ويطرح عن العاتق ثوب الندامة الشتوى الذى يقوس الظهر ويحنى القناة، أو لأن الخمر تزور له الحياة وتحلى مرارتها وتخفف وقعها، وتخيل إليه نشوتها أنه متمتع بما تشتهيه نفسه وما هو محروم منه، أو لأنها تبدو له أحيانًا كالنقد، وهو خير من نسيئة الخلد، أو لأنها تجلو الصدر من الأسف على ما مضى أو الخوف مما هو آت، وتوقيه التفكير فى الغد، وما الغد؟ قد يلحقه الغد بالأمس الذى ينطوى فيه سبعة اَلاف سنة، أو لأنه يريد أن يغتنم فرصة هذه الحياة أو ما بقى منها قبل أن يصبح ترابًا فى تراب.. فهو يضع الحياة أمام الموت فيعصر قليه قصر الأجل، وتهوله رقدة الموت الأبدية فيصيح: أو لأنه اقتنع بعبث الجدل لبحث يعد بحب أن يعنى نفسه بمعاودة هذا العبث: أو لأنه يريد أن يغرق فى الكاسات ذكرى فضول التساؤل: من أين جىء به؟ وإلى أين به؟ ولأن التفكير لم يفتح له الباب الذى عالجه ولم يرفع الستر الذى حاول أن يبارحه، أو لأنه، يئس من قدرة عقله المحدود أو فهمه الكفيف عن استكناه سر الحياة، فهو يصبح: ولهذا عاذ بالكأس: ولا خير بعد ذلك فى تساؤل أو تفكير، ولماذا يطيل عناءه ويعذب نفسه بالجدل والمحاولة؟ أليس الأولى به أن يسكر ويطرب؟ أليس هذا خيرًا من أن يخرج بالكآبة والأسى وبلا محصول، أو بالمر من الثمر؟ ولهذا طلق العقل وباعد ما بينه وبين التفكير والبحث: وإذا كان النبيذ الذى تشربه، والشفة التى تلثمها يصيران إلى «اللاشىء» الذى هو نهاية كل شىء — فما عليك ما دمت حيّا إلا أن تتصور أنك ما أنت صائر إليه — لا شىء — فلن تكون أقل من ذلك. وإذا كان قد انتهى إلى اليأس فهو لا يرى خيرًا فى أن ترفع بصرك إلى السماء مبتهلًا، ملتمسًا المعونة، فإن السماء مثلك لا حول لها ولا قوة، ولا هى تملك من أمرها إلا كما تملك أنت. فهو يشرب الخمر، لا لأنه عربيد مستهتر، أو بليد كثيف مغلق النفس، بل لأنه، عالج لغز الحياة فأعياه وأضناه، وحرقه، وأرقه، وأطار صوابه.. واحتياجه للخمر فى رباعيات فتزجرالد اعتذار على الحقيقة، ينطوى على إدراك صحيح لقيمة هذه التعلة وأنها ليست أكثر من مسكن يخدر الحس ويفتر الشعور وينيم العقل وتقلب نسب الأشياء أو يضعف مايجده المرء من وقعها. وليس كذلك شرب الخيام للخمر فيما ترجم الصاحبان: الصراف نثرًا، ورامى شعرًا — عن الفارسية، فهو هنا سكير «عاقر الكأس فى مجلس الحبيب ليلًا» كما يقول صديقنا رامى فى مقدمته: «فى ضوء القمر، وسحرًا عند طلوع الفجر، ومساء عند غروب الشمس على نغم الناى والرباب فى الربيع، على شفا الوادى وعلى ضفاف الغدير بين الزهر المفتر والجو العبق.. فإذا ذكر حرمانه من الخمر بعد الموت طلب أن يغتسل بها، وأن يقد نعشه من كرمها حتى إذا بلى جسمه تمنى لو تصاغ منه الدنان والأقداح.. فإذا خاف ألسنة السوء قال: لا تهتم بالناقدين. أرض نفسك قبل أن ترضى الناس. لا تظهر التقى واسخر من المتزهدين واعلم أنه ليس فى العالم إنسان كامل. وقد أحب من الخمر حتى طعمها المر ولونها الصافى، وأحب كأسها الشفافة ودنها الملاَن. وكان يجد السعادة فى مجلس الشراب بين الصاحب والنديم». ويخيل إليك وأنت تقرأ رباعياته المترجمة إلى العربية عن الفارسية كأن الخيام «كأولاد البلد» أبناء الجيل الماضى فى مصر، ممن كان همهم أن يحيوا الليل بالشراب والطرب والأنس، فإذا تنفس الصبح عادوا بمخادعهم وأسدلوا الأستار وحجبوا الضوء وألقوا رؤوسهم على الوسائد وناموا. ولا تعدم من هؤلاء أيضًا فلسفة، فقد تسمع منهم قولهم إن العمر قصير، وإن المنايا راصدة، وإن العصفور فى اليد خير من ألف عصفور على الشجرة، وبعد رأسى لا كانت الدنيا.. إلى اخر هذه الكلمات التى تخطر بكل بال وتكاد تجرى على كل لسان، والتى هى من الشيوع والابتذال بحيث لا تستحق تكريم الارتفاع بها إلى مستوى النظرات فى الحياة. فهو يقول مثلًا فيما ترجم رامى: أو يقول: أو يقول: أو يقول: أو يقول: أو يقول: إلخ … فهل ترى أن معانى هذه الرباعيات ترتفع عن طبقة المواويل والموشحات التى كانت تغنى فى ليالى «الضمم» فى الجيل الماضى؟ وهل ترى الخيام فيها إلا «ابن بلد» قح من ذلك الطراز الذى عفى عليه العصر الحاضر؟ وهل ذكر الأيام والفناء والأقدار هنا وفى أمثال هذه الرباعيات يشعرك لفح الحرارة التى تحسها من رباعيات فتزجرالد، وألم الجنون من عجز الشاعر عن حل الألغاز التى يعالجها وفك المعميات التى يعانيها وكشف الأسرار التى يغوص عليها؟ والخيام فى رباعيات الصاحبين، سكير ظريف، وأنيس حصيف، وجليس خفيف، وذكر الموت على لسانه معسول لا يفزع، والكلام على القضاء والقدر لا تحس أنه يدور على غير اللسان.. ولكن الأمر فى رباعيات فتزجرالد غير ذلك، والحال على خلافه.. هناك الخمر ملجأ من مخوف الهواجس ومرعب الخواطر، وحمى من الجنون الذى أحسه وهو يواجه عالم الفناء اللانهائى، أو «اللاشىء» الذى هو ماَل الأحياء فيما هداه تفكيره، ولسخره لذعة تحس أنت أنه هو أحسها، ولعبثه المتكلف كى أليم، وهو يضعك أمام ما انتهى إليه من الحقائق المرة.. ولعل فضل فتزجرالد أنه أضاف إلى الخيام روح الاتزان فتعادلت المرارة والتهكم، وتكافأ الهم والاستخفاف ونضح على كآبة النفس ماء الورد، وأطلق إلى جانب الفزع ضحكة، ليعتدل الميزان. ونقول بإيجاز إن الخمر فى رباعيات الصاحبين هى الأصل، ولكنها فى رباعيات فتزجرالد هى النوط الذى يعلق عليه الشاعر آراءه. ولعل الخيام لم يكن كذلك، ولكنه هكذا أحلى وأشعر، ولا ذنب للشاعر رامى ولا للأستاذ الصراف، وإنما الذنب للأصل، وهما خليقان بالشكر على أمانتهما، غير أنا نستأذنهما فى أن نقول إننا نؤثر تصرف فتزجرالد. ••• كلا! ليس الخيام أبيقوريا ولا شبهه، وعلى أن الناس كثيرا ما يركبهم الخطأ والوهم فى أمر «أبيقور» أيضًا، فلعل هذه المقابلة الوجيزة التى سنجربها بين الرجلين تكشف عن الحقيقة. ويعنينا هنا منها على وجه أخص عقيدتهما ومذهبهما الأخلاقى. لا ينكر أبيقور ما دان له الناس فى عصره من الأرباب، لكنه ينكر تدخل الاَلهة، ويقول إنها لا تحمل على عاتقها عبء هذه الدنيا، ولا تكلف نفسها حكمها وتسيير أمورها، وإنها (أى الآلهة) ليست إلا ما ينتجه نظام الطبيعة، أى إنها ليست سوى نوع راق من الإنسانية لا تتحكم فى الإنسان، ولا هى خلقت الدنيا ولا وكلت بحفظها وتسيير أمورها.. وهذا عند أبيقور لا يستوجب أن يكف الإنسان عن عبادتها غير أن هذه العبادة إن هى إلا إجلال للمثل العليا للنعيم التام، ولا ينبغى ألّا يكون الباعث عليها لا الأمل ولا الخوف، والخيام يذهب إلى عكس ذلك ونقيضه ويقول إن القلم سطر على اللوح كل شىء وإن الأقدار صاغت اخر إنسان من أول طينة للأرض وبذرت فى مبدأ الخليقة اَخر ما يحصد فى هذه الدنيا، وكتبت فى أول صبح للوجود ما سوف يقرؤه اخر فجر «للحساب» ولا حيلة لأحد فى تغيير كلمة واحدة مما جرى به القلم. ويرفض أبيقور نظرية القضاء المحتوم الذى لا مهرب منه، ويأبى أن يعتنق مذهب القائلين بأن لهذا العالم نظامًا مقدرًا لا يتغير ولا يسع الإنسان إلا امتثاله والإذعان له، وهو فى هذا يخالف «زينون» الذى يدين بالقضاء والقدر. ولا يقف أبيقور عند هذا الحد، بل يتعداه إلى رفض الاضطرار فى دائرة العمل الإنسانى، وإلى القول باستقلال البشر عن الآلهة، واستطاعة الإنسان — كالآلهة — أن يقف بمنجاة من المؤثرات الخارجية، وأن «يعيش إلهًا بين البشر». والخيام يقول بالقضاء والقدر، ويذهب إلى أن أساس الكون ومحور نظامه هو الاضطرار والجبر، وأن القدر أزلى والقضاء أعمى، وأننا اَلات بأكف الأقدار تحركنا كما تشاء أو رخاخ فى رقعة شطرنجها. وليس لنا من إرادة ولا فى وسعنا أن نستقل أو يكون لنا رأى فى حياتنا. إنما نحن كرة يلعب بنا من ألقانا فى الميدان. على أنهما اتفقا على شىء، وهو أن الإنسان إذا مات فنى وانقضى أمره، وأنه ليس له حياة غير هذه، ومن هنا لا يخاف أبيقور أهوال الآخرة ولا يرجو ثوابها. ويقول الخيام: ولا شك فى أن مذهب أبيقور مناقض للعلم، وعلة الخطأ فيه أنه لم يستطع أن يهتدى إلى انتظام الارتباط بين الظواهر الكونية ارتباطًا يجعل كل واحدة منها رهنا بما عداها، ولا يجعل فى الوسع أن يفصل المرء إحداها عن سائرها وأن يفهمها على حدة. أما فلسفة أبيقور الأخلاقية فضرب ملطف من الهيدونزم أى القول بأن السعادة هى الخير فى الحياة، وهى نتيجة منطقية لعقيدته، بيد أنه لم يدع قط إلى الشهوانية البحتة الصريحة، وإنما فعل ذلك أتباعه فيما بعد حتى صارت الأبيقورية والشهوانية الإباحية مترادفتين، وليست اللذة عنده ما يقتنصه المرء من متع الساعة الحاضرة بل هى أقرب إلى أن تكون عادة من عادات الفكر تلازم المرء طول حياته، وحالة سلبية لا إيجابية ولا فعالة، أو إذا شئت فقل إنها أشبه بالسكون والاطمئنان منها بالاستمتاع، ومحك الاستمتاع عند أبيقور هو زوال كل دواعى الألم وتحرر الجسم منه واستراحة العقل من التعب، فكأن السعادة عند أبيقور لذة جليلة رزينة — راحة القلب، وخلوّ البال، وانتفاء الآلام الجسمية والعقلية. وأين من هذا الخيام؟! إنه رجل لا يستقر على حال من القلق والتبرم ومن التساؤل والتفكير، لا البحث يهديه ولا الكأس تسليه ولا الكتاب والرغيف وزق الخمر، وغير ذلك مما ذكر فى شعره، بمؤتيه راحة النفس وفراغ الفؤاد وانتفاء الاَلام. ولقد صار الموت عنده خاطرًا مخامرًا ينغص عليه كل لذة ويكدر له صفو كل نعيم. والفزع من الموت هو أساس تفكيره والذى تقوم عليه كل نظراته. ومن ذا الذى يقرأ له هذه الصرخة الخارجة من أعماق قلبه ويخطر له بعدها أنه استشعر الراحة لحظة واحدة؟! نعم قد يمزح فى بعض شعره ويتهكم بالعقل ويقول: ولكنه تهكم الموجع الذى آلمه ألّا يهتدى إلى شىء وألّا يحل لغزًا واحدًا، وسخرية البائس الذى لا يرى إلا رحى دائرة على الناس بإلإرداء، وضحك الساخط على عجزه عن تخليص رجليه من شباك الأقدار وعن لمح بارقة واحدة تجلو له بعض ما خبأه الغد، ومزح الآسف لاضطراره إلى أن يرتد إلى اليوم الزائل حتى ليتمنى أن يقف على سر نظام هذا الكون ليمزقه ثم يعود فيصبه فى قالب أدنى إلى رغبة قلبه وهوى نفسه! وعلى طالب السعادة الأبيقورية أن يروض نفسه على توخى الحكمة واستهداء الحزم فى الموازنة بين اللذات والاَلام المقدرة، وأن يتلمس طريق الاستمتاع وأن يخطو فيه بحذر.. ومن هنا كان الحزم هو رائد السعادة الذى لا يكذب، وهو لهذا عند أبيقور أسمى الصفات وأساس الفضائل، بل هو كما يقول: «قوة أنفس من الفلسفة». ولا بد منه فى التماس الملاذ وفى تحرى نظام للحياة يكون أداة للسعادة. ومع أن الإحساس عنده هو واسطة التمييز بين الخير والشر إلا أنه يخضع للعقل ويدع له الفصل فى قيم اللذات بغية الفوز بهدوء النفس والجسم وراحة العقل. والعقل عند الخيام لا يغنى عن الإنسان شيئًا لأنه كفيف أعمى: وأحسب الناس لما عجزوا عن إثبات استهتاكه على كثرة ذكره للخمر ومحاسن التفرد والخلوة بقمره «الذى لا يعرف الأفول» كثرة ليس أدل منها على وحشة صدره والامه، ذهبوا يزعمونه صوفيّا وينفون أن الخمرة التى يذكرها «من عصير الكرم، وأن ساقيه من اللحم والدم».. واستشهدوا بكلام له يقول فيه: إنه يعاقر الخمر لعله يرشف من شفتها سر ينبوع الحياة وإنه يلمح بارقة من سنا الحق فى ألحانه يخطئ مثلها فى المعبد المظلم. ولا شبهة فى أن نشأته وكثرة غشيانه مجالس الفقهاء والصوفية، وتعلقه فى صدر أيامه بالجدل الذى كان فاشيا فى عصره — كل ذلك مضافًا إلى استعداده الفطرى — ترك فى نفسه أثرًا من التصوف مظهره نزوعه فى شعره إلى البحث فى إحساسه الدينى.. غير أنه على هذا استطاع أن يخرج سليم العقل موفور الصواب، وأن يفطن إلى عبث الكلاميات. وقد أشار إلى ذلك فى كثير من رباعياته منها: ••• فهو فى الحقيقة رجل حر الفكر لا يزال يحتج فى شعره على تحجر العقول وضيقها وعلى تشدد المتعنتين من أهل عصره، وعلى شذوذ الصوفية وهذيانهم. وإذا استعمل شيئًا من عباراتهم فإنما يتخذها أداة للنيل من التصوف الذى ضيع فيه خير شطرى عمره، والذى لم يستطع أن يعيش مع ذلك بريئًا منه. غير أنه مع هذا رجل متشائم يئوس أعياه البحث فنكص وفر من الميدان ولم يشعر بأن عليه مهمة فى هذه الحياة، ورسالة يؤديها إلى أبناء الدنيا. ولو أنه أحس شيئًا من هذا لأغراه ذلك بالبقاء فى الميدان كغيره من المتشائمين الذين يشبههم من بعض الوجوه مثل بيرون وشوبنهور.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/9/
كروبوتكين
قل من الناس هنا من يعرف شيئا — قل أوكثر — عن البرنس كروبوتكين العالم الاشتراكى الروسى الذى جاءت الأنباء بأنه توفى بمدينة موسكو بالغًا من العمر ثمانيًا وسبعين سنة، وإن كانت شهرته قد طبقت الخافقين واَثاره قد سارت فى العالمين. على أن خبر وفاته يفتقر إلى التأييد لا سيما بعد أن نفته موسكو. وليست هذه بأول مرة خفقت فيها أسلاك البرق بنعيه. فإن صح أنه حى يرزق وأنسأ الله فى أجله حتى يصل إليه تأبينه وما جرت به أقلام الكتاب فى الإشادة بذكره وإكبار أمره، فليكونن فى ذلك مسلاة له فى اَخر أيامه وفكاهة يتعلل بها فيما بقى من عمره. لولا أن مما قد يعكر عليه صفو هذه الفكاهة أن أكثر مادحيه ينظمون له عقودالثناء لاحبّا فيه بل كراهة منه لقرينه لينين! ولا نحب أن نكون من المتعجلين حتى فى هذه!! فلندع ترجمته إلى حينها ولنسق من حوادث حياته ومما لقيه من الناس ما له دلالة فى ذاته. فقد كانت حافلة بالتجارب المضنية التى ليس أقسى من امتحانها للصبر وعجمها للنفس والجسم جميعًا، ولقد ذهب بخير شطريها السجن، واستبد بالشطر الثانى النفى، ولكنه مع هذا لم يعرف عنه أنه شكا وتوجع أو بكى وتفجع.. وكان يدهش الناس بمراحه وانبساطه وإيمانه بفوز الحق فى روسيا وسواها آخر الأمر. فهو من النوع الحقيق بالحياة الكفء لأهوالها ومن طراز «بروميثيوس» — وطيد ركيز، لا يضعضعه عنت الأزمان ولا يزيده إلا رسوخ إيمان — ومن الطبقة التى تؤثر بمتانة الشخصية وبروزها أكثر مما تؤثر باثارها العقلية. والرجل ممن ضحوا بكل شىء فى مصارعته ظلم القيصرية. والروسيون أول من يقدرون له جهاده ويذكرون له بلاءه ويجازونه إحسانًا بإحسان.. حتى لينين نفسه — وهو خصمه فى الرأى وعدوه فى المذهب وإن جمعهما الخروج على النظام القديم — نقول حتى لينين نفسه عنى بتوفير أسباب الراحة للرجل فى شيخوخته. روى المستر «ميكين» وكان مراسل الديلى نيوز فى الروسيا منذ عهد قريب أن حكومة السوفيت همت أن تسلب كروبوتكين بقرة له طبقًا لأمرها ألّا يكون لأحد شىء من الماشية إلا الزراع فأمر لينين ألا يمسها أحد فبقيت له وما كان أنفعها له وأحوجه إليها. ولم يقتصر لينين على ذلك، بل رتب له جراية خاصة أكبر مما يسمح به لغيره من الناس ليعينه على استرداد العافية والاحتفاظ بالصحة المتداعية. ولكن كروبوتكين أبى له طبعه المستقل القوى أن يُميَّز عن سواه من جمهور الأمة وقال: لا اَخذ شيئًا لا سبيل لروسى عادى إليه. وظل فى شيخوخته المريضة يعانى ما يتجشمه السواد الأعظم من أبناء بلاده، وكان إذا غالبته الهموم اوى إلى مكتبته وتناساها فى أعماله الأدبية. ثم إن ذخيرته من الزيت والشمع نفدت فكان يقضى الساعات الطويلة السوداء فى ليالى الشتاء جالسًا لايعمل شيئًا ولايجد حتى من يحدثه.. ولما جاء الربيع وتيسر استخدام الكهـرباء إلى حد محدود، سمع بعض العمال بما يقاسيه فى ظلام الليل فحمل سلكًا إلى منزله وجهزه بمصباح. وكان قلما يخرج، فإذا فعل حياه الناس ولا طفوه وأعربوا له عن إجلالهم له وحبهم إياه بوسائل شتى فيرتبك ويحس بحيرة شديد ودهشة كبيرة. ولم يكن كروبوتكين غنيّا وإن كان من بيوت الشرف العريقة فى الروسيا ولكن بيته فى إنجلترا مع ذلك كان يفتح يوم الأحد لكل اللاجئين الهاربين مثله من سطوة الظلم القيصرى. وروى الرواة الثقات أنه كان قلما يصبح يوم الاثنين وفى بيته شىء يطعم لأنه كان يشاطر الناس كل شىء على أنه مع هذا كان يأبى أن يعيش على حساب الغير، وكان يستطع فى بعض الأحوال أن يعود إلى موطنه ويسترد أملاكه ولكنه رفض كل شىء والى ألّا يعيش إلا بكده وكسب يده، حتى إنه لما كان يصدر فى سويسرا صحيفة «الثورة» وثقلت عليه وطأة النفقات، تعلم صناعة الطباعة وجعل يصف الحروف بيديه ليقتصد ويتمكن من المثابرة. وكان قوى البنيه ولكن السجن هده، وسمع بعض أصدقائه فى إنجلترا بأنه أصيب بمرض فى القلب وكانوا يعلمون رقة حاله وتحامله على نفسه وإرهاقها بالعمل فرجوه أن يقصد إلى مكان حسن الجو فى إنجلترا أو غيرها وجمعوا له من المعجبين به مبلغًا كبيرًا وطلب إليه أحدهم — شارلس روللى — أن ينزل عنده ضيفًا ليتيسر له إذا شاء أن يتمم كتابه الذى كان قد بدأه فى «التعاون» بعد نشر كتابه فى «التعاون بين الحيوانات» وكان غرضه منه إثبات القانون الطبيعى الذى أشار إليه داروين، وهو أن التعاون من أكبر العوامل فى البقاء كالتنازع أو التنافس. فلم يستطع كروبوتكين أن يقبل إعانتهم إياه ورد المال كله ولم يسمح لهم حتى باستبقائه لزوجه وابنتهما « ساشا». وقد حذق كروبوتكين أكثر لغات أوربا وسأله بعضهم مرة بأيها يفكر؟ فكان رده أن هذا يتوقف على الموضوع الذى يفكر فيه وأنه يفكر بالألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو الروسية حسب مبلغ بحت أهلها للموضوع. ومن رأيه أن إحساس التضامن والتماسك خليق أن يعيّن أعمال الناس ويجددها، وينبغى أن يترك لكل امرئ حق العمل كما يتراءى له وأن يبطل حتى المجتمع فى عقاب الرجل من أجل عمل اجتماعى «إن جمهور الإنسانية — على نسبة التهذيب ومبلغ التحرر من القيود — سيعمل دائمًا بطريقة نافعة للمجتمع». وأعظم قانون اجتماعى يدين به كروبوتكين هو قانون «التعاون المتبادل».. وقد كتب أشهر مؤلفاته «التعاون» لشرح هذا القانون والدفاع عنه ضد من ينحو نحو سبنسر، وخلاصته أن قانون التعاون أهم فى نشوء الاجتماع وترقيته من قانون تنازع البقاء. وظاهر من موجز ما أوردناه من مذهبه أنه نتيجة رد فعل لإغراق النظام القيصرى فى إرهاق الروسيين وتقييدهم بكل أنواع الأغلال وتحميلهم جميع أنواع الظلم والعنت.. وواضح كذلك أن كروبوتكين من الثوريين الكمالين أو الفوضيين السلميين الذين يحلمون بجعل الأرض فردوسًا من طوائف القرى والمدن الحرة المتعاونة وأن يحلوا ذلك محل النظام الأوتوقراطى القيصرى. ولقد راعته ثورة سنة ١٩١٧ وهزته وفتحت عينيه على الحقائق الأرضية.. غير أنه مع هذا كف عن كل معارضة لحكومة السوفيت وإن كان كما أسلفنا قد استنكر منها «مركزة» القوة السياسية والصناعية وأنحى بأعنف العبارات وأمرِّها على تدابير القمح التى رأت حكومة السوفيت أنها ضرورية للدفاع عن الثورة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/10/
الجمال فى نظر المرأة
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ * وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فكأنى ما كنت قرأت هذا ولا سمعته من قبل ونسيت تنغيص القارئ وثقله، وذهلت عن ضوضاء الجمهور، وانطلقت أفكر فى أمر يوسف وما لعله كان له من رواء ساحر وحسن باهر، وذكرت هذه الصورة الملونة التى تباع له فى الطرقات ويقتنيها العامة وأشباه العامة والتى جملها رساموها ما استطاعوا. وقلت لنفسى إنى أعلم كما يعلم غيرى أن هذه السورة أحب إلى النساء واثر عندهن من سواها من الكتاب الحكيم. ولكنى مع ذلك وعلى الرغم من المأثور عن جمال يوسف عليه السلام لو كنت مصورًا لخالفت أصحابنا الرسامين الذين أشرت إليهم ولم أجعله كما جعلوه شبيهًا فى حسنه بالمرأة. بل لكنت أتخيل له من معانى الجمال ما أظن أن المرأة بفطرتها أصبى إليه وأكلف به، لا ما ألفنا أن نعجب به نحن معاشر الرجال. وإذا كان هذا يحتاج إلى إيضاح فقد خطر لى أن أقول فيه كلمة أجعلها موضوع هذا الفصل. يستغرب كثير من الناس رأى المرأة فى الجمال وما يبدو أحيانًا من شذوذها فى ذلك عما ألفه الرجال شذوذا لا مجال للشك فيه ويحيلون أكثر ما يلاحظونه من هذا على الزيغ فى الفطرة أو السقم فى الذوق أو نقص التهذيب أوغير هذا وذاك مما يرجع إلى نشأة المرأة والأوساط التى عاشت فى ظلها.. ولا ريب فى أن لهذا تأثيره إلى حد ما. ولكن هذا لا يحل المعضلة. وما أسهل أن ننفض الأكف من كل مسألة بأن نحيل على اختلاف الأذواق والفطر صحة وسقمًا. إذن لما بقى شىء يحتاج إلى نظر وتفكير! ولو أن المرأة كان لها مثل حظ الرجل من القوة والعقل والقدرة على التفكير والتقصى والترتيب لعرفنا من رأيها فى الجمال مثل ما عرفنا من رأى الرجل ولأراحنا ذلك من إجهاد النفس للإلمام بوجهة نظرها التى لم تكشف لنا عنها. ولكن طبيعة الحياة شاءت غير ذلك إلى الآن. وأبت أن تجعل الرجل والمرأة سواء. وحسبنا من الفرق ما بينهما من الاختلاف فى تكوين الجسم وما لا بد أن ينتج عن هذا التكوين المختلف من الاستعدادات والكفاءات المتنوعة. ومهما قيل عن تساوى المرأة والرجل، وعلى كثرة ما يلهج به البعض من أنهما لا فرق بينهما وأن الواجب أن يكون للمرأة مثل حقوق الرجل — نقول إن بينهما على الرغم من ذلك وسواه تباينًا جوهريّا. فليس للرجل أثداء تدر اللبن ولا ما يحول الغذاء إلى لبن يرضعه الطفل ويتغذى به، وهو لا يحمل الأجنة فى جوفه ولا فى جوفه مكان معد لذلك. وكفى بهذا اختلافا كبيرًا يحيلهما مخلوقين ويجعلهما جنسين ونحن لم نأت من وجوه الاختلاف فى التكوين إلا على بعضها وإلا على ما يحتمل المقام ذكره منها. وليس يعجز القارئ أن يتصور النوعين وأن يمضى فى المقابلة إلى نهايتها. وقد شاءت الطبيعة أن يكون الرجل أكثر تمثيلًا فى حياته للفردية منه للنوعية، فكتبت عليه — أو على الأصح استوجبت قوته منه — أن يتولى هو مكافحة الطبيعة بما فيها من قوى وكائنات من جنسه وغير جنسه وأن يتكفل بالسعى. والسعى يعرض للأخطار فلا مندوحة له عن الاحتيال لدفعها بالقوة إذا تهيأ له ذلك وبالمكر والتدبير وحسن التصرف وما إلى ذلك إذا خانته مُنته. ولمّا لم تكن الحياة لقمة سائغة فقد احتاج إلى مغالبة الصعاب ومعالجة تذليلها. وهو فى كل خطوة يخطوها يصادف ما ينبه غريزة حفظ الذات أو صيانة النفس. ومن أجل هذا صارت هذه الغريزة أقوى وأنضج وأسرع تنبهًا وأكثر عملًا، لأن حياته تجعل أعماله متصلة بها أكثرَّ من اتصالها بغريزة حفظ النوع. وهو لذلك أحس بها وأسرع تأثرًا من ناحيتها. ومن هنا كانت الأنانية فى الرجل أظهر وأقوى. والعامة يلاحظون ذلك ويفطنون إليه ويذهبون فيما وضعوه من أمثالهم إلى أن الأم أحنى على طفلها من أبيه. وقد ترى الرجل يداعب طفله برهة أو ساعة، ولكنك قل أن تجد رجلًا يقوى على ما تقوى عليه المرأة من ملازمة الطفل، والمثابرة على مداعبته، والصبر على التحدث إليه، ومن توهم فهم ما لعله يرتسم على صفحة وجهه من الحركات، أو يند عنه من الأصوات، واحتمال ذلك وما هو أشق منه ساعة بعد أخرى ويومًا بعد يوم وشهرًا تلو شهر وحولًا عقب حول. ولاحظ غير ذلك: أى الاثنين أصلح للتمريض؟ المرأة بلا نزاع! ذلك لأن المرض يرد المرء إلى مثل عجز الطفولة وحاجتها، وما عسى صبر الرجل على الطفولة وما يضاهيها؟ والمرأة أقسى من الرجل وأغلظ كبدًا منه على رأى «فيننجر» — وإلا لما احتملت أوجاع المرضى على نحو ما ترى وفر الرجل منها. أو هى تستغرقها الغريزة النوعية بكل ما تنطوى عليه، وتلك حكمة من الله بالغة. ولولا ذلك لما استطاعت المرأة أن تقوم بوظيفتها الجنسية وما ينطوى تحتها من المشاق التى لا قبل للرجل بها. ولا شك فى أن بقاء النوع رهن بالمرأة على الاكثر وهى فى ذلك مثال التضحية التامة. وحسبك دليلًا ما تتعرض له من أخطار الحمل والوضع. وهى على علمها بهذا الخطر الحيوى وفزعها منه، واستهوالها له، لو خيرت لاختارت أن تستهدف له. وهى فيماعدا ذلك ليس عليها أن تجاهد جهاد الرجل ولا أن تعالج ما يعالجه من الكفاح والتدبير ودرء الأخطار وتذليل المصاعب. ولهذا كانت المرأة أسرع تأثرًا على العموم بكل ما له علاقة بالجنس والأمومة، لأن وظيفتها دائرة على محورهما، وهى لفرط إحساسها بالأمومة تحب كل رقيق لطيف — أى ما هو كالأطفال بالقياس إلى الكبار — وتعانقه وتقبله ولو كان جمادًا لا يجيب ولا يحس لا العناق ولا التقبيل ولا يجازى لثمًا بلثم. وإذ كانت الغريزة النوعية فيها أكثر عملًا وأقوى فعلا فهى أحس بالجمال من الرجل وإن كانت أضيق فهما له. ولكن ما هو الجمال؟ هو — كما عرفه بعضهم وأصاب — الإحساس بما يهيج فى الذهن مركز التوليد من طريق مباشر أو غير مباشر أو بواسطة تسلسل الخواطر. ولما كان بين الرجل والمرأة كل هذا الاختلاف فى التكوين الجثمانى، وفى الوظيفة التى يؤديها كل منهم! فى الحياة، وفيما يترتب على اختلاف الوظائف من إرباء النضوج فى بعض الغرائز على النضوج فى البعض الآخر، فمن المعقول أن يؤدى ذلك إلى الاختلاف فى النظر إلى الجمال، وأن يكون الرجل الجميل فى نظر المرأة هو الذى تتوافر فيه الصفات التى تحس بفطرتها أنها أكفل من سواها بحفظ النوع وأعونُ على ذلك — شعرت بهذا أم لم تشعر — وليس من الضرورى حينئذ أن يكون الرجل وسيمًا قسيمًا فى نظر الرجال وأن يرزق من الملاحة وغضاضة البزة وحسن الرواء ما يطلبه الرجل فى المرأة ويسبيه منها. هذا هو الأصل والذى درجت عليه الطبيعة. معانى الجمال عند الرجل غير معانيه عند المرأة. ولكن المرأة مع ذلك طرأ على رأيها شىء من التحوير، وأصاب إحساسها مقدار من التنقيح، واستطاعت على مر الأيام أن تكون قريبة من الرجل من حيث رأيه فى الجمال. وعسى من يسأل: وكيف كان هذا وما علته؟ وجوابنا: أن الرجل أقوى من المرأة ومن أجل ذلك وسعه أن يوحى إليها ويبث فى نفسها رأيه وإحساسه شأن الأقوياء مع الضعفاء، ولا يخفى أن للإيحاء أثرًا لا يستهان به فى كل آراثنا وعواطقنا وأعمالنا. وأكثر الناس مدين بعضهم لبعض بسبب هذا الإيحاء. والقوى يستطيع أن ينقل آراءه وإحساساته ونزعاته إلى الضعيف، وأن يتغلب على مقاومته، ويثنى عزمه، ويُلين من جانبه، وينسق له ما يختلط فى ذهنه وتضطرب به نفسه على النحو الذى يريده تبعًا لمقدار قوته ومبلغ إربائها على ضعف صاحبه. ولعل معترضًا يقول: إذا كانت المرأة من الضعف بالقياس إلى الرجل بالمنزلة التى تصفها، وبحيت يتمكن الرجل من الإيحاء إليها ومن قسرها على مشايعته، فبأى شىء تعلل كون الرجل يعود ألعوبة فى يد المرأة التى يحبها، ويروح وهو أطوع لها من بنانها؟ فنقول: إنه لاشك فى أن الرجل هو الأقوى وإنه كذلك بطبيعة تكوينه، وتبعًا لما يزاوله من الكفاح ويألفه من المقاومة والتدبير مما هو ضرورى لحياته. ولا نعنى بالقوة الجسدى منها وإنما نريدها على الإطلاق، فقد يكون المرء ضعيفًا ويكون مع ذلك أقدر على التدبير والاحتيال وحسن التصرف وعلى تفادى الأخطار، ويبلغ بدهائه وعقله ما لا يبلغ سواه بمتانة الأسر وتوثق العضلات. وليس بصحح أن كل رجل تغلبه المرأة التى يحبها على أمره، ولكن هب هذا هكذا، فأى غرابة فيه؟ وما وجه العجب فى أن تتضاءل قوة الرجل أمام قوة إرادة الحياة التى تسخر المرأة لبقاء النوع وللاحتفاظ بمزايا الجنس؟ أليست المرأة المحبوبة تجمع فى شخصها كل ما يروق الرجل من المعانى الجنسية؟ أليست هى أقرب مثال مجسد لما يتصوره خياله من هذه المعانى؟ فهو — كما قال صديقنا العقاد ونحن نتكلم فى هذا — لا يواجه امرأة بل يقف أمام ممثلة لجنسها جامعة فى شخصها لكل ما فى هذا الجنس من قوة ولكل ما لغريزة حفظ النوع من سلطان على النفوس. ولكن هذا الضرب من الاستسلام ضعف على كل حال، ودليل على نقص الرجولة. نفهمه ونعللهُ ولكنا لا نستطيع أن تحترمهُ، لأن فيه إلقاء لسلاح الدفاع عن النفس. وليس من الاحتفاظ بالذات وصون النفس فى شىء أن يسلم المرء نفسه إلى مخلوق اخريبيت رهن إشارته. وإذا كان هذا دليلًا على شىء، فهو دليل على أن الغريزة الجنسية قد طغت بغريزة حفظ الذات وغلبتها، وأن مقدار الأنوثة فى الرجل أربى على مقدار الرجولة فيه — فعاد أشبه بالمرأة وإن كان له شكل الرجال. ••• ولو كنت مصورًا وبدا لى أن أثبت على اللوح صورة الرجل الجميل فى نظر المرأة، لآثرت أن أرجع إلى الأصل فى نشوء فكرة الجمال عند المرأة، وأن أثبت فى وجه الرجل ما يناسب إحساس المرأة بالغريزة النوعية، وما تبحث عنه بفطرتها الذكية من الصفات التى تتطلبها هذه الغريزة. وهذا لا يمنع أن أجعل له نصيبًا من الحسن كما هو ممثل فى خواطر الرجال. بل إن الواجب أن يكون له حظ من ذلك، لأن الذكور على العموم فى كل حيوان أجمل من الإنإت على عكس الشائع عند الناس — أو نحن معاشر الرجال نزعم ذلك ونستخلصه من المقارنات التى نجريها — ولكنى على كل حال ما كنت لأجعل له محيا امرأة كاللواتى نحس أنهن فتنة العين ومنى النفس!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/11/
الرجل والمرأة فى الهيئة الاجتماعية
الكاميليا زهرة نضيرة بيضاء أو حمراء أو شتى الأصباغ، منبتها الشرق، ومنه نقلت إلى الغرب.. والرواية التى نحن بصددها الآن من تأليف إسكندر دوماس الصغير، ولعله بها أشهر من الكبير، وقد أطلق عليها هذا الاسم لأن مرجريت التى تدور على حياتها الرواية تحبها ولا تكاد تبدو إلا بها. وهذه أول رواية كبيرة تمثلها فرقة يوسف وهبى على مسرحها.. وموضوعها غاية فى البساطة وحسن السبك: فتاة من بنات الهوى المترفات اسمها مرجريت (روزا اليوسف) يحبها أرمان (يوسف وهبى) من أبناء الشرفاء، وتجازيه هى حبّا بحب وإخلاصًا بإخلاص، وتغضى عن ضيق ذات يده بالقياس إلى خطاب ودها من مثل دى فارفيل (إستيفان روستى) والكونت دى جيرى (حسن فايق) وتذهب معه إلى ضاحية تقضى معه فيها شطرًا سعيدًا من حياتها التى ينغصها السُّلال. وكلما احتاجت إلى مال باعت مما تملك من حلى أو خيل أو غير ذلك مما يتعلق به هوى أمثالها من زينات الحياة ومتع الغرور.. وحبيبها جاهل ما تصنع، حتى إذا علم هم بالتصرف فيما ورث عن أمه وكر إلى باريس لإتمام ذلك تاركًا إياها مع عذراء من صديقاتها هى نيشت (فاطمة رشدى) وخطيبها جستاف (مختار عثمان). وكان والد أرمان (عزيز عيد) يعلم هذه العلاقة الغرامية ويتسخطها، فذهب إلى مرجريت وصادقها فى فترة غياب أرمان وانتهرها لتوهمه أنها تحتلبه، فكاشفته بالحقيقة التى كتمتها عن أرمان وأرته عقود بيع أثاثاتها وخيولها وما إلى ذلك، فأنس إليها بعد الاستيحاش، واطمأن إلى إخلاص وسمو عاطفتها، واتخذ ذلك ذريعة قاسية لحملها على التضحية بنفسها وبحبها فى سبيل ابنته التى ارتهن مستقبل زواجها ببتِّ ما بين أرمان ومرجريت من صلة، فقبلت على مضض ووعدت أن تكتم السر. وكتبت هى إلى أرمان رسالة قطيعة وعادت إلى باريس حيث عاودت حياتها الأولى، وإن كان أرمان أبدًا بالذكر والألم المر الفاجع بين العين والقلب. ويلاقيها أرمان على أمل الوقوف على سر القطيعة فتأبى إلا وفاء بعهدها لأبيه، ورعيا لوعد الكتمان الذى بذلته، وتزعم أنها تحب فارفيل الذى صارت خليلته، فيهينها على مشهد من صواحبها وأصحابها، فتصيبها نوبة عصبية ويفدحها ما تحمل من إرهاق التضحية، وفى كلمة منجاتها لو شاءت. وتثقل عليها وطأة السل فتلزم الفراش، وفى هذا الدور يكتب والد أرمان إليه بالحقيقة، وإلى مرجريت برسالة يعللها بها، فتتعزى بأخيلة الماضى وما تتوقع من حضور أرمان إليها. ويأبى القدر أن يوافيها حبيبها إلا فى اَخر أيام دنياها، ويأبى الفن على المؤلف إلا أن يجعل هذا يوم زفاف نيشت، وإلا أن تدعى مرجريت إلى الكنيسة لشهوده، وإلا أن تعتذر من التخلف بأنها ستموت قبل تمامه، وإلا أن تأتى العروس فى حلة زفافها ومعها بعلها السعيد بها إلى البيت الذى يوشك أن يقوم فيه المأتم. وإن مرجريت لتعلم أنها لا محالة قاضية نحبها فى يومها هذا.. ولكن رؤية حبيبها تنعشها وتشعرها دبيب الحياة التى عادت مطلوبة بعودة حبيبها والتى يغالبها القضاء المحتوم فتفيق ولكن إفاقة الموت، وتستحد قوة ولكن كلسان الشمعة يثب وقد أشرفت على الفناء ثم تهوى جثة هامدة بين ذراعيه. هذه هى خلاصة الرواية التى وضعها دوماس الصغير فى عام ١٨٥٢ بعد أن صاغها قصة قبل ذلك بأربع سنوات وهى، كما يرى القارئ، دفاع عن المرأة زلت بها القدم وأبى المجتمع أن يغتفر لها زلتها. وأحسب المؤلف أراد أن يقول إنه ما من إنسان يكون كل ما فيه شرّا، وإنك قد تجد فى النفوس المنبوذة، لخروجها عن عرف الجماعة ومألوف أنظمتها، عناصر من الخير قد تخطئها فيمن يلتزمون هذا العرف والمألوف. وكأنا به أراد أن يقابل بين أثرة والد أرمان وإصراره — برغم إجلاله لعاطفة مرجريت واعتقاده فيها الشرف وسمو النفس وعلو الروح — على أن تضحى بنفسها من أجل ابنته، وبين ما استطاعته مرجريت وحملت نفسها على مكروهه من الإيثار والتضحية — نقول كأنا به تعمد هذه المقابلة ليحمل القراء أو السامعين المتفرجين على مشايعتهم إياه على رأيه ومجاراته فى مذهبه ومسايرتهم له إلى غرضه. ولكن ما غرضه؟ إن كان كل نفس فيها من الخير والشر عناصر، ولها من الفضيلة والرذيلة حظوظ، وإن قبح المجتهر قد يكون دونه عفاف سر وحسن مختبر، فمن ذا الذى يجرؤ على المجادلة بالخلاف فى ذلك؟ من الذى يحسب أن النفس الإنسانية يمكن أن تكون كلها شرّا محضًا أو خيرًا محضًا؟ بل من ذا الذى يخطر له أن الشر يوجد صرفًا والخير يتجسد محضًا؟ بل نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونتساءل: من من الناس لا يعلم أن الزواج فى صورته الحالية طارئ على المجتمع وأنه لم يكن موجودا فى العصور الأولى التى مرت بالإنسان — عصور الاستيحاش التى اجتازت دورها الجماعات البشرية قبل أن تنشأ هذه الأنظمة المدنية القاسية المعقدة؟ نعم الخير والشر صنوان يلزمإن معًا، ولا ينبت كل منهما على حدة. ولا شك فى أنهما كعود الزهر فيه الوردة المعطار والشوكة الواخزة. والثابت أن الزواج نظام طارئ حديث وإن كان قديم العهد، ولكن أليس له مظهر يقوم مقامه فى حياة الإنسان الأولى؟ فى عصور الهمجية الفطرية حين كان كل امرئ مرسلًا على سجيته، منطلقًا وفق غريزته، دون ما كابح من عرف منظم أو قانون مشترع؟ ونسأل قبل ذلك: ما هو الزواج؟ أليس هو طريقة لتنظيم علاقة الرجل بالمرأة وما يترتب على ذلك من النتائج المتعلقة بالنسل؟ أليست غايته تنظيم علاقة الحب خدمة للنوع؟ وليس هذا فيما نعلم بالجديد فى تاريخ الإنسانية. فأما الحب، فهو قوام غريزة حفظ النوع، وما هو بالطارئ ولا بالذى بعثت عليه حالة الاجتماع المنظمة الحديثة، وهو ينشأ فى حيثما يلتقى إنسانان من جنسين. لأنه الوسيلة التى تتخذها الحياة لبقاء مظهرها الإنسانى، أو بعبارة أخرى هو الأداة التى تستخدم لحفظ النوع، والحب من مميزاته — لا بل من لوازمه — الأثرة التى تتطلب الانفراد بالمحبوب وتتقاضاه الوفاء، وليس الوفاء فى الحقيقة إلا مظهرًا لشهوة الملك والاحتياز، وهى شهوة عريقة فى الإنسان، وما أكثر ما يضن المرء بالتافه من الأحراز والأملاك لا إكبارًا له ولا تعلقا به لنفاسة فيه، بل كراهة منه لأن يحوزه سواء؟ وقد يعيينا أن نتصور ما أحسه الإنسان الأول — إن كان قد أحس شيئًا — حين ألفى نفسه فى عالم لا يعلم من — أمره شيئًا ولا يفهم من ظواهره لا كثيرًا ولا قليلًا. على أنه لا شك فى أن الأجيال الإنسانية الأولى اكتنهت معنى ما يحيط بها من ظواهر الطبيعة والحياة شيئًا فشيئًا، وأن أعينهم كانت تتعقب الدائرة الوضاءة بين طرفى السماء، وأنهم لاحظوا النار والنور اللذين يأتيان من حيت لا يعلمون وسمعوا جلجلة الرعد وأصداءه فى مخارم الجبال، وشهدوا اتفاق ذلك وما تحدثه العاصفة من التخريب، وإن إحساساتهم وحاجاتهم كثرت وتضاعفت وتنوعت وألحت عليهم ولجت بهم، فاندفعوا فى طريق العمل والتفكير، وساعفتهم الغريزة، واضطرهم لفح الشمس إلى الاستذراء بالشجر وتوشيج أغصانه، وخافوا فعل البرد فاكتسوا جلود الحيوان.. ولما لم تكفهم الغيران والكهوف الطبيعية، ولا وفت بحاجاتهم، صنعوا لأنفسهم ملاجئ فى أحضان الجبال، والتمسوا النور وبغوا النار وشحذوا الحجارة ليتخذوا منها أداة أو سلاحًا — وفقوا إلى ذلك وسواه على مر الأيام، وبالتدريج، لا طفرة واحدة. ولكنهم لم يتعلموا الحب بالتدريج، ولا عرفوا ما يثيره من الأثرة وطلب الانفراد دون سائر المخلوقات بسببه وباعثه على كر الحقب. بل لقنتهم الغريزة ذلك مذ وجدوا على ظهر الأرض كما أودعت غيرهم من المخلوقات ما يشبه ذلك وركبت طبائعها على الذود عن صغارها. فاباؤنا الأولون كانوا يحتازون مثلما نحن نتزوج، ويأبون إلا الاستئثار كما نأباه، ويطلبون الوفاء الذى نطلبه، ويغارون غيرتنا ويدافعون عمن استأثروا بهن من النساء دفاعنا عن زوجاتنا، وليس من فرق على الحقيقة سوى هذا العقد الذى يكتب ويسجل وتنظم به علاقة الزوجية وما ينشأ عنها من النسل والميراث. وعسى من يقول: ولكن الإنسان لا يأبى المشاركة فى الطعام فما باله يأباها فى الحب؟ فنقول: ليس الغرض من الطعام ما عسى أن يجده الآكل من اللذاذة المستفادة من نكهته ومذاقه، بل ما يؤدى إليه من الصحة ويكسب المرء من القوة التى يستعين بها على أداء مهمته فى الحياة. وليس له بعد ذلك غاية ولا ثم غرض آخر غير المساعدة على حفظ الذات. والقليل منه يكفى حتى إذا توافر الكثير. وقد تتغلب عاطفة التعاون على التنازع. ولعل المشاركة فى الطعام أشحذ أحيانًأ للشهوة، وأعون على إصابة القدر اللازم منه، وفى هذا ما يغرى بها، ويجعلها مرغوبة ومطلوبة. فالأنس المستفاد من اجتماع الأوداء، والغبطة التى يحدثها ذلك، وتنبيه المعدة وشحذها بهذه الطريقة، من العوامل المعقولة فى جعل المشاركة محبوبة أحيانًا، ولكن الإنسان مع ذلك أخلص لطبعه من أن يرضى هذه المشاركة فى كل حال. ولنفرض مثلًا أن الطعام قل أو حدث قحط لسبب من الأسباب وطغى الجوع بالناس: أتظن حينئذ أن المرء تطيب له هذه المشاركة؟ ألا يخطف المرء ويستأثر بما تصل إليه يده؟ ألا يقتل فى سبيل إشباع بطنه؟ نعم قد تكون النفوس أقوى من الجوع فيتغلب التعاطف على سورة السغب وجنونه.. ولكنا إنما نتكلم عن أوساط الناس لا القليلين النادرين من الشواذ الذين تسمو بهم نفوسهم وتحلق فوق جماهير الخلق. ثم لماذا نرى الجود مما يمدح به الناس بصفة خاصة؟ قد لا يكون الجود مما يدور عليه الثناء فى العصور الحديثة. ولكن الأدب القديم حافل به، فلماذا خطر لهؤلاء الناس أن يميزوا ممدوحهم بالجود إذا كان ذلك عامّا طبيعيّا؟ لم كان حاتم الطائى مثلًا خالد الذكر لأنه كان ينحر نياقه أو خيله لضيوفه؟ ولسنا نعنى حاتمًا على وجه التخصيص، وإنما نتخذه رمزًا لأمثاله وأنداده من أجواد العالم المذكورين. ليس الأصل فى الإنسان الكرم ولا الايثار ولا شيئا مما يجرى هذا المجرى، وإنما الأصل فيه أن يعمل وفق غريزتيه الكبريين. غريزة حفظ الذات وغريزة حفظ النوع. فإذا كانت المشاركة أعون على ذلك فيها وإلا فلا شىء إلا الأثرة والأنانية فى أقسى مظاهرهما. وإذا كانت المشاركة فى الطعام معقولة أحيانا لما تعين عليه من شحذ المعدة وتفيده من الأنس والغبطة فليس مما يتصوره العقل أن يكون من شأنها أن تعين على الغاية من الحب وهى حفظ النوع. ولا هى يمكن أن تفضى، فيما تفضى إليه، إلى الإيناس وشرح الصدر وغبطة القلب، وحسن العاطفة فى تبادلها وفيما يحسه المرء من صداها فى غير صدره وتجاوب قلب اخر بها. والحب — كما أسلفنا — يثير شهوة الملك فى نفسى المتحابين واستئثار كل منهما بالآخر. هذه طبيعة العاطفة التى نحن بصددها. وكذلك كانت مظاهرها قديمًا وكذلك هى الآن وغدًا وفى كل أوان. فماذا يريد دوماس؟ وأى شىء يبغى أن يقول فى روايته؟ ألّا ننقم من البغى شيئًا؟ وأن نجلها وننزلها منزلة المحصنات اللواتى يأبين أن يجعلن أنفسهن كالشمس لكل الناس؟ إن الفضائل لم توجد فى الدنيا عبثًا. وإذا كان الملل فى طبيعة النفس البشرية، وطلب التحول والتنقل كالنحلة بين زهرات الحياة معقولًا فإن ذلك لا يسوغ البغاء ولا ينفى ضرورة العفة. أم نفعل ذلك رحمة منا بالضعيفات اللواتى يهوين إلى هذا الدرك ولا يستطعن أن يقاومن المغريات أو يجتنبن حبائل الرجال؟ حسن أن نكون رحماء وأن نغتفر الزلات، ولكن لمن؟ لمن يستحق ذلك، لا لمن تريد أن تعيش عيالًا على المجتمع وحميلة على الخلق وأن تجرر أذيال الغنى وتقضى أيامها فى ظل البذخ والترف بغير حق وعلى حساب الشريفات المحصنات — وإذا كان هؤلاء لا يطقن أن يغالبن المؤثرات وأن يفزن على المغريات فهن ضعيفات قد يدرك الفرد العطف عليهن ولكن الحياة لا ترحم ولا ترثى لأحد وليس فى الطبيعة محل للضعيف. وقد يكون هوى أرمان فى هذه الرواية مما يعجب الشبان ويروق ضعاف النفوس والأغرار، ولكنه ليس فيه شىء مما يعجب الرجولة ويقع من قلب الفحل ذى القوة — هذا لا يفهم كيف يذيب الحبُّ النفسَ ويحيلها كالقميص البالى الذى لا يصلح لشىء أو الورقة المبلولة، وتقعدها عن أداء مهمتها فى الحياة والنهوض بفرائضها، ولا يترك لها من عمل سوى البكاء والعويل أى التخنث المرذول. ••• هذه كلمة لم نر بدّا من قولها عن رواية دوماس التى شقَّت له طريق الشهرة. فلسنا ممن يوافقونه على فكرته التى بثها فيها، وأنشأها لأجلها، ولا ممن يحمدون هذا النوع من الحب الذى يذوى النفس، ويعصف بالرجولة، وينسى المرء فرائض الحياة. وقد كان تمثيلها بديعًا وأداء الذين قإموا بأدوارها جيدًا. وجاء حسن التمثيل مسعدًا لموضوع الرواية حتى اغرورقت ماَق كثيرة!! والسيدة روزا اليوسف حقيقة بأعطر الثناء على جودة تمثيلها على الرغم من أن دورها فادح طويل مرهق.. ولقد بلغت فى الفصل الثالث الغاية التى ليس وراءها مطمح، وذلك حين يتوسل إليها والد أرمان أن تضحى بنفسها وتبذل حبها فداء لابنته، وهى جالسة سابحة فى عباب طاغ من العواطف الجائشة المتعارضة، وبين يديها زهرة الكاميليا تنثر غلائلها ولا تعى ما تفعل. ولم نر أعظم ولا أبهر من قدرتها فى هذا الفصل عينه حين يعود حبيبها وتغالب دمعها المترقرق وتعالج أن تبتسم وتضحك وفى صدرها الفائر جحيم من الألم تصارعه. ولو أنها أضافت شيئًا من السعال فى الفصل الأخير إلى تمثيلها الذى لا يبارى وقطعت كلامها لما وجدنا مأخذًا ما. وأجاد يوسف وهبى أداء دوره، وعرف كيف يجعل حركاته طبيعية ملائمة لمواقفه، وأعجبنا منه على وجه الخصوص اقتداره على تمثيل الزراية والاحتقار وجعل نظرته وهيئة جسمه فى وقفته أصدق ناطق بذلك، وحبكه دور الحائر الذى لا يفطن إلى ما انتوت حبيبته من مهاجرته. والآنسة فاطمة رشدى ماذا نقول عنها؟ كيف تمثل غرارة الصبى وسذاجة النفس واطمئنان القلب إلى حب الحبيب وفرحه بقربه إلا كما فعلت؟ إن هذه الفتاة اَية ولا يخالجنا شك فى أن مستقبلها سيكون أبهر وأروع. ذلك أن لها، كالسيدة روزا، قدرة عظيمة على تقمص الدور وتشرب روحه بحيث تصدر عنها كل كلمة أو حركة وكأن الأمر واقع والمسألة حقيقة. ومن مزاياها الواضحة التى تدل على استعدادها للتمثيل أنها تنسى الجمهور كأنه غير موجود، وهذا هو الواجب، فإن على الممثل أن يتفرغ لدوره وألّا يفرض أن هناك أحدًا ينظر إليه، على عكس الخطيب الذى لا يسعه إلا أن يعنى بجمهور السامعين وإلا أن يلاحظ التيار بينهم ليتمكن من توجيهه وجهته التى يريدها هو. ونحب أن ننبه الأستاذ عزيز عيد إلى وجوب التمكن من استظهار دوره، فإن عدم الحفظ يضطر الممثل إلى جعل باله إلى الملقن، فيصرفه ذلك عن تجويد دوره، وتحمله على ملء الفترات بين الجمل أو أبعاضها، بحركات قد لا يكون لها محل، أو تكون كثرتها وتواليها بلا مبرر سوى نسيانْ الكلام، من بواعث الضعف فى التمثيل. ولم نكن لننبه إلى ذلك لولا إعجابنا بقدرته، واعترافنا بمواهبه، ورغبتنا فى تنزيهها عن هذا العيب الصغير الذى لا تستعصى مداواته. وقد أطلنا، فليقنع الباقون من زملائهم بالشكر منا لهم على ما أجادوا وأحسنوا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/12/
الادب والفنون
الحجر لا يحس الحجر. هذا — فيما نظن! — لا نزاع فيه. ولقد غبر بنا زمنُ انحطاط كانت فيه آثار الفراعنة والعرب وغيرهم ممن حفظت مصرُ ذكرهم، حجارةً، وكان الناس شبهها لا يتنزلون إلى نظرة يلقونها عليها، وإذا أخطرها شىءٌ ببالهم عجبوا للقدماء وما تجشموه من جهد، وأضاعوه من وقت ومال فى نقل هذه الحجارة ورصفها وتوطيدها وتلوينها. وكان أهل الغرب يفدون إلى هذه الحجارة ويوسعونها نظرًا وتدبرًا وإعجابًا، ويوسعهم أهلُ مصر عجبًا وتهكمًا واستسخافًا! ويهزون رؤوسهم وهم يقولون — وعلى شفاههم ابتسامةُ الفطنة الساخرة! — «رزق العبطاء على المجانين»! فالآن تغير كل شىء. حلنا نحن وحالت الحجارة. نطقت لنا ووعينا منطقها، وارتسمت على ألواح صوانها معان ندركها ونتحرك لها، وتجسدت لعيوننا وقلوبنا وعقولنا صورُ مجدٍ قديم وعز باذخ تالد نتعشقها ونكبرها ونحنُّ إلى مثل الحياة التى أنتجتها. وإذا جاءت وفود الغرب إليها ألفونا أشد منهم «جنونًا» بها ووجدوا من بيننا من لهم فى أصل المصريين وعلاقتهم بالعرب الأقدمين نظرية لا يبعد أن يحققها ما يقال إنه ظهر فى سبأ من الاَثار الشبيهة بآثار الفراعنة الأولين. ومن من المصريين لم يحرك أغوار نفسه وأعمق أعماق قلبه ما سمعه من العثور على جثث محنطة على الطريقة المصرية فى أمريكا؟! من ذا الذى لم يشعر بأن قامته اعتدلت لما صافح أذنه هذا النبأ؟! أى حجر — ذلك الذى لم تشع فى جوانب نفسه الخيلاءُ وزهو الفخر ولم يحس أن أمته أخت الدهر؟ ومن شاء فليفرض أن هذا الخبر طُير إلى مصر منذ مائة عام: أكان فى ظنك أحد يعبأ به؟! وإذا عبأ أكان يعرب إلا عن إعجابه بهمة رجال «الغرب» وصبرهم على التنقيب؟! ألا لقد حلنا حقّا! وهذا هو الذى يطمئننا على حركتنا القومية ويذيع فى نفوسنا الإيمان بها واليقين فيها والثقة بحسن مصيرها — لا شىء سواه، وما كان بحّ الأصوات بالهتاف بالاستقلال، ولا اللجاجة فى المطالبة به، وما يبدو من التصميم على نيله كاملًا غير منقوص — ما كان لهذا وحده أن يقنعنا بأن هبتنا صادقة وحركتنا صميمة عميقة. فما رأينا فى تاريخ بلد ما، نهضةً قومية لم يكن يريدها نهضة فنية. ولعمر الحق هل يعقل أن يحس المرء بحقوقه وواجباته ووظيفته فى الحياة قبل أن يحس بنفسه وبما حوله وقبل أن يعرف ماذا هو؟ وماذا كان من شأنه؟ وقبل أن ينشئ هذا الإحساس والذكر فى نفسه الآمال؟! الفنون على نقيض السياسة لا تثير ضجة، ولا تحدث ضوضاء، ولا تخلق اللغط إلا فى الأوساط التى تُعنى بها وتفهمها وتقدرها، وإلا بين من يعرفون لها قيمتها وفعلها ويفطنون إلى دلالتها، وهؤلاء فى كل أمة قليلون، وليس ذلك لأن لها أصولًا يجهلها من لم يدرسها، إذ لو كان الأمر كذلك لما اكترث لبراعات التصوير والحفر وما إليهما إلا العارفون بهما أى رجالهما وحدهم. وهو ما يخالفه الواقع وتنقضه: وشبيه بهذا الخطأ أن يقول قائل إنه لا يقدر الشعر ولا يفهمه إلا العارف ببحوره وأصول الصناعة فيه، ولا يطرب للموسيقى إلا واضعوها والواقفون على ضروبها، وهو كلام يرفضه العقل وتنكره الغريزة والبديهة وإنما يقل من يفهمونها فهمها لاتصالها بفلسفة الحياة العالية وبأسرار الجمال العويصة. ونضرب لذلك مثلاً بسيطًا قريب التناول لا يُحفى قلمنا ولا يكد ذهن القارئ — صورة «الأمل» لجورج فردريك واطس، وهى عبارة عن فتاة على كرة، وعيناها معصوبتان ورأسها مائل إلى قيثارة فى يسراها لم يبق بها إلا وتر واحد تعالجه بأصابع يمناها، والجو جهم والسماء محلولكة. ماذا تفيدك قواعد الفن فى فهمها؟! إن هذه القواعد ليست فى الواقع إلا كالنحو فى اللغة، وكما أن النحو وظيفته أن يعصم الكاتب من الخطأ فى تعليق الكلام بعضه ببعض، ويردك عن رفع المنصوب وجر المرفوع وعن جعل المبتدأ خبرًا والحرف فعلًا، كذلك قواعد الفن لا عمل لها إلا فى بابه الصناعى على الأكثر، لا فى مجاله المعنوى والروحى. وكما أن بحور الشعر لا تخلق الشاعر إذا أعوزته روحه، كذلك قواعد التصوير والحفر وحدها لا تجعل من المرء مصورًا أو مثالًا ولو كان فيها ما كان الخليل فى العروض. وارفع هذه الصورة لعيون الناس تجدهم لا يسعهم إلا أن يدمنوا النظر إليها والتحديق فيها وإطالة الفكرة فى معانيها حتى ولو لم يعدّها أكثرُهم صورةً صادقة «للأمل». وما قيمة هذا الاسم؟ إنه رمزٌ لرمز فإحذقه إن شئت! وحسبك الصورة ففيه! الكفاية للعبارة عن ذلك الشىء الغامض الذى لا يزايل النفس مدى الحياة حتى فى أعصب الساعات المزلزلة للإيمان والأمل وإرادة الحياة. ولا ريب فى أن هذا تصوير رمزى ولعله من أشق ما يعالج الفنى وأدناه دائمًا من الإخفاق. ولم ينشأ بعد هذا الضربُ من التصوير فى مصر، ولكنا سقنا المثل منه لنطمئن القارئ غيرَ الفنى ولنقوى قلبه وننفخ فيه من روج الثقة بنفسه والاعتداد بذوقه إلى الحد المعقول. وإذا كان لا يستطيع أن يعرف وجه الإجادة والإتقان من ناحية الصناعة وأصولها فإنه يستطيع دائمًا أن يلتذ جمالها ويستمتع بمعانيها وبحسن التأليف فيها وبالبراعة فى أداء فكرتها وإبراز الغرض منها. ••• وأمامه الآن فرصة سانحة لا تتاح له إلا مرة فى كل عام. فقد افتتح أمس معرض القاهرة للفنون المصرية «بدار الفنون والصنائع المصرية». وفيه أعمال ثمانية عشر مصريّا وثلاثة عشر أجنبيّا. فى المعرض أكثر من مائتى قطعة كثيرٌ منها صور لأشخاص وليس بالقليل بينها ما هورسم للمناظر الطبيعية. ولكنها كلها على العموم نقل عن الطبيعة. ولم نر إلا قطعتين اثنتين أراد بهما صاحبها شيئًا غير مجرد النقل، ونعنى بذلك أنه جعلهما «درسًا» كما يسمون ذلك. والصورتان للأستاذ أحمد أفندى صبرى وإحداهما لغلام متشرد والثانية لخفير. ولا نتصدى للحكم عليهما من وجهة الأصول الفنية فالله ورجال الفن أعلم بذلك وأدرى. ولكن الذى ندريه أن صورة الخفير ناطقة بفراغ رأسه وخلوه من كل ما يسمى عقلًا أو خيالًا، وبامتلاء نفسه بالرضا بحاله، والتجرد من كل رغبة فى تحسينها أو التماس تغييرها. وقد خيل إلى وأنا أتأمله أنى لو نقرت بأصبعى على دماغه هذا لتجاوبت فيه أصداء النقرة! وهو ما أظن مصورنا قصد إليه من رسمه. والأولى رأس غلام فى نحو العاشرة من عمره الضائع سدى، وهو وسيم الوجه، تقول لك عينه إنه وطن نفسه على هذه الحياة الضالة إذ كان لا عهد له بغيرها ولا حيلة له فى تغييرها، وتقول لك محيّاه، الذى بواجهك بخد ويثنى عنك خدّا، وشفتاه المضمومتان، إن تحت هذه الأطمار نفسًا فيها خير كثير واستعداد قوى، ولو أن يدًا مدت إليها وساعفتها لكان لها شأن اَخر، ويا له من جمال مخبوء فى أوحال، ونفس مستعدة مطوية فى أسمال! ومن ذا الذى يرى انفراج ثوبه عن نحره وصدره ولا تتمثل لعينه صورةُ الصراع الهائل الذى يدور بين هذه النفس الغضة وبين عواصف الحياة، ومرارةُ هذا العراك وفظاعته، بين قوى شاكية مستعدة وروح عارية عزلاء مزجوج بها فى أحرّ أتون وليس لها مفزع ولا نصير لا من العلم ولا من التجربة ولا من العطف! ومما راقنا كذلك صور هزلية بالمكعبات (كيوبزم) رسمها الأستاذ محمد أمين عالى بك العمرى، وهى عبارة عن مستقيمات وأقواس لا غير.. وقد صور على هذه الطريقة أشخاصا عديدين نخص بالذكر منهم سعد باشا ورشدى باشا وحافظ بك إبراهيم الشاعر ولويد جورج. وهو أسلوب فى التصوير يحتاج إلى درس طويل للوجه، وكد شديد للذهن لمعرفة هندسته وتركيبه. وصاحبها حقيق بكل حمد وثناء. ولم تعجبنا صور الأستاذ محمود بك سعيد فى هذا العام. وقد كنا، ونحن فى طريقنا إلى المعرض، لا نفكر فى غيره، وكان الذى نتوقعه أن نشهد فى أعماله اَية التقدم، وأن نلمح فيها ما يدل على اطراد التحسن. ولقد أفردنا له وحده فى العام المنصرم مقالًا برمته.. وتسوءنا أننا مضطرون إلى أن ننقده هذه المرة. والنقد يصلح المستعد، ولو كان لا أمل لنا فيه لما عبأنا به. نعم إنه من «الهواة» ولكن له ميزة محرومًا منها رجال الفن المصريون. فإن هؤلاء لم يروا براعات الغربيين وليس أمامهم منها إلا صور منقولة عنها لا تغنى غناء الأصل. وهو يراها بمتاحف أوربا العديدة كلما ذهب إليها. ونحب أن نقول له إنه لا فائدة من التصوير إذا كان عبارة عن فوتوغرافية بالألوان، وإن مزية التصوير أنه يجمع بين الطبيعة — إذا كان نقلًا — وبين جمال الفن، وإن الوجه، ما لم يبرز المصور فيه معنى، ليس له مزية على الفوتوغرافية. وقد رأينا له صورة سيدة إنجليزية باسمة خيل إلينا أن فيها معانى قصَّر المصور فى إبرازها، وأن المرء لو غرز أصبعه فى جانب خدها لما صادف عظامًا تقاومه، وهذا خطأ فى التخييل بلا ريب، فإن الجسم عظام ولحم، ومهما بلغ من امتلاء الخدين على جانبى الفم فإن من الغلط أن يصورا بحيث تنتفى فكرةُ وجود عظام الشدقين مستورةً تحت اللحم. وليس حول السيدة جوّ ما ولا هواء فكأنها ملصقة بستار، أوكأن ظهرها ورقة على ورقة. ويجب أن يشعر الناظر بأن حول السيدة هواء كما يشعر إذ ينظر إلى صورة الغلام المتشرد، وهى مقارنة يجب على المتفرجين أن يقوموا بها ليدركوا الفرق. هذا فضلا عن الدرس الذى فى الألوان فى صورة الغلام، والمقابلة بين الوردى الباهت فيها وبين البنفسجى هى مقابلة تلذ العين وتروق النظر. قضيت فى هذا المعرض ساعات رجحت عندى بقفر العام الذى صارت تاجه وختامه. وليس ما يُلزم المرءَ أن يقسم مراحل حياته على دورة الفلك، وأن يقيسها أبدًا بمسطرة جريجوار فلا تسبق واحدة منها يناير ولا تنلكأ بها الخطا وراء ديسمبر. وما أجمل أن يصادف المرءُ فى فيافى العمر، من حين إلى حين، واحة جمال يستروح فى ظلها ويتريث عندها، ويعتدها مغنمًا تنسيه حلاوةُ الطفر به مرارةَ السعى إليه ووحشة الجدب دونه! ساعات رخية من أمتع ما يمر بالنفس وأنداه وأحلاه، وجدت فيها من السرور باستيعاب المحاسن أضعاف أضعاف ما أنا واجد من الاهتداء إلى المعايب. نعم إن استقراء المآخذ واجتلاء العيوب يرضيان غرور المرء من ناحية إظهار ذكائه وفطنته، ولكن للتفطن إلى الحسنات لذةً لا تعادلها لذة ومتعة أنعم بها من متعة. ألست ترى أننا لو كنا لا تغيب عنا محاسنُ الحياة، ولا تتخطاها عيوننا وهى تبحث عنها وتبغيها فى كل ناحية، وتنشدها من وراء كل سعى وأمل وفكر — نقول لو أنا استطعنا أن نلتذ دائمًا محاسن الحياة لخفت وطأتها وارتفع ثقلها، ولوجد المرء فى الإعجاب بالحسنات سلوى عن سيئاتها وعزاءً عن شرورها وملهاة عما ينعاه منها ويثيره عليها ويرمض نفسه إذ يتدبرها. وفى المعرض وجوه ومناظر. وإذ كنت لا أستطيع أن أجمع فى ان بين الخواطر المختلفة التى تحركها صورة الوجه وصورة المنظر فقد جعلت وكدى فى الساعات التى أتيح لى أن أقضيها هناك أن أخص كلا بحصة كاملة من وقتى، وسيكون كلامنا هنا على الوجوه دون المناظر. لذيذ جدّا أن يحس المرء أن مصورًا رأى فيه معنى يبعث عاطفته الفنية ويغريه بإبرازها، وأن يشعر بأن نفسه ليست صفحة بيضاء خالية مما يستحق أن يُقرأ بل كتابًا حقيقًا بأن تعبره العينُ وتنقّب فيه، وتختزل ما حواه بين دفتيه فى تقويسة هنا، أو ضغطة هناك، أو لمعة يشيعها المصور فى العينين. وأن يعلم أن هذا المعنى الذى لمحه المصور سيخلد على الأيام فلا يلحقه تغيير ولا تعدو عليه الصروف — لا كالمرآة تريك حاضر أمرك وما يتفق لك ساعة النظر إليها من فتور أو نشاط ومن توقد أو خمود — نعم لذيذ هذا لأنه راجع فى أصل الإحساس به إلى طلب النفس الإنسانية للتعدد ومتصلٌ فى مرد أمره بغريزة حفظ النوع التى تدفع المرء إلى التماس النسل والخلود فى الذرية. ولكن لهذا جانبا آخر حالكًا. فإن كل نفس صندوقُ أسرار، وقد لا يحب الإنسان أن يكشف عنه ويفتحه لعيون النظارة. والمصور ذو نظر فاحص منقب يفتش السريرة لينتزع منها سرها ويلقى ظله على الوجه، وما أحرى المرء أن يحس، وهو جالس إلى المصور، كأنه متهم فى حضرة محقق بحاوره ويداوره ويقلب معه البحث على كل وجه — ولكن بالعين فى الأكثر — ليهتدى إلى سر الجريمة أوبراءة الضمير. وفى هذا الشعور — إذا نشأ — ما يغرى المرء بكتمان نفسه. وقد يعجز الجالسُ إلى المصور عن جلاء شخصيته فى وجهه وعن حصر خصائصه فى معارف طلعته، فتخرج الصورة، برغم المصور، فاترة ليس فيها إلا معالم وجه مغلق لا ينطق بشىء. ولا يكون هذا راجعًا إلى ضعف المصور بل إلى عجز الجالس. دارت فى نفسى هذه الخواطر وأنا أتأمل صورة — عليها أثر التعب الذى عاناه المصور والجهد الذى بذله لانطلاق الوجه حتى عاد ظاهر تعبه فيها من عيوبها الملحوظة. وماذا يصنع المصور إذا كان صاحب الوجه أحرص على ستر نفسه من أن يدع عين أجنبى تنفذ إلى صميمها؟! ما حيلته إذا كان الجالس لا يريد أن يُطلعنا على رأيه فى نفسه؟! لا حيلة البتة! وهذا عيب الصورة فإن عليها ستارًا غير مرسوم! وليس أعجب ممن يؤاتيه النوم وهو جالس إلى المصور! هذا، ولا ريب، رجل ناصب النفس جافُّ معين الشخصية ليس فيه قطرة من الحياة المشبوبة. وإلا لما وسعه أن يطبق جفونه وأمامه رجل يشرحه ويدرسه كأنما الأمر لا يعنيه؟ ومن هذا القبيل صورة رجل ساذج، تراه فى الصورة فتشفق لتدلى رأسه — على صدره — أن ينكسر عنقه وتسأل نفسك: أليس لهذه العين جفنان ينفتحان؟ أليس فى رقدة الأبد الطويلة ما يزهدنا فى الرقاد فى أحفل الساعات بحركات النفس وأشدها اكتظاظا بالعواطف المتنوعة؟! ساعة يدرسك المصور ويحتثّك على درس نفسك والتفتيش فيها مثله باحثًا عن المعنى الذى وجده بلا عناء، ويبعث فيك كامن الغرور وتخلق بينك وبينه فى لحظة تعاطفًا متولدًا من اشتراككما فى موضوع ليس أهم منه فى نظريكما فكأنكما زوجان حبيبان بينهما غلامهما! ويقرب من هذا ويتصل به من الطرف الاَخر الأطفالُ. وهؤلاء كما لا يخفى، كل ما لهم من حيوية فى أعضائهم لا فى رؤوسهم، أما عواطفهم فساذجة لم تصقلها الحياة ولم يعقدها النضوج. فإذا ألزمتهم السكونَ — ولا بد منه فى التصوير — كادت دماؤهم تقف فى عروقهم وتركد الحيوية التى كانت منذ برهة واحدة شائعة فى أعضائهم متدفقة كالسيل، ولعل من أصدب الأمور على المصور أن يرسمهم، وكأنى به يحتاج إلى أن يداعبهم إذ كان كل حديث جدى أوهزلى معقول لا محل له معهم. ويقول بيرك فى كتاب «الجليل والجميل» إن أجمل ما فى الطبيعة جيد الحسناء البريئة — أو ما هو فى معنى ذلك — فإذا كان هذا هكذا — وأحسبه على الأقل فتنة العين — فإن المصور معذور إذا اقتصر على جانب فتنة دون جانب، فليس أخطر من رسم الوجوه وإدمان النظر إليها وإثارة حيائها بطول التحديق والفحص وتعليق العين بالعين، ولا ينقذ الفريقين من حرج الموقف إلا أن المصور يستغرقه الفن، وهو أبدًا ينتقل بينه وبين الطبيعة، وبين حياة المادة وجمود الظل. فيحول الأصل الجالس صورة تدرس ويتحول الإحساس بالمعانى إلى إحساس لذيذ بالواجب. وفى صعوبة الأداء ومشقة التعبير ما يكفى لانصراف الذهن إلى العمل. ولولا ذلك لما أمكن لمصور مثل الأستاذ ألفريد كمبيولة أن يرسم «الهانم» — أعنى أن يتمها — وهى صورة سيدة إفرنجية فى ملاءة مصرية، وعلى وجهها النقاب، وثوبها الأحمر القانى تحت الملاءة يزلّ عن كتفها. والصورة من أحسن ما رأيناه للفنيين الأجانب فى هذا العام وإن كان عليها بعض التصنع فى كتفها اليسرى.. وهى فى جملتها وتفصيلها صورة امرأة بالمعنى الجنسى! وقد كان كبار الفنيين الغربيين مثل تيتان ورفائيل يتحسرون على عجزهم عن محاكاة جمال الجسم العارى ويذهبون إلى أنه لا سبيل إلى نقل جماله إلى اللوح. وأراهم على حق لأن الجسم العارى مجمعُ كل المعانى والعواطف والإحساسات الإنسانية، دقيقها وجليلها، وساذجها ومهذبها، وعنيفها ولينها، وعميقها وخفيفها. وقد حاولت السيدة أرمه بانجية الفرنسية تصوير أخرى نصف عارية فلم تأت بشىء. جسم كل شىء فيه أسطوانى، ولونه على رغم احمراره كلون البرنز وكأنما نزعت كل العظام قبل الرسم. وتركيب العينين والأنف غير طبيعى، فلعلها تعنى بدرس تركيب الجسم الإنسانى فلا بد منه لكل مصور. زارنى ذات يوم شاب أزهرى النشأة لا تنسجم البذلةُ الإفرنجية على جسمه، ولا يعتدل الطربوش على رأسه، وكان يحمل تحت «إبطه» كراسة مما يستعمل التلاميذ فى المدارس محشوّة بكلام كثير فى الشعر عامة والشعر الوصفى خإصة. وما هو إلا أن جلس حتى استأذن فى قراءة ما كتب فى كراسته.. ولم يكد يفعل حتى قلت لنفسى إنه لم يغير شيئا حين غير ثيابه! ولم يزد على أن ردد بعبارة تعتورها الركاكة، ما كتبه ابنُ رشيق وأضرابه بلغة جزلة. ولست أدرى لماذا عنيت بأن أبين له أن ما سمعت من كلامه لا يؤدى إلى شىء تطمئن إليه النفس ويسكن إليه العقل، لكن الذى أدريه أن ظنه أن الأدب شىء يستطيع المرء أن يخبط فيه خبط العشواء، فإذا وفق كان التوفيق عفوًا، وأنه ليس هناك مقاييس عامة ولا محك مضبوط — أقول إن هذا الظن صدمنى فأنشأت أشرح له خطأه وأريه أن هناك على الأقل جدّا، مقياسًا عامّا وميزانًا لا يكاد يغل شعيرة، وأن ثم شيئًا اسمه الحدود الطبيعية، فى دائرتها يقع الإمكانُ وتكون الاستطاعة. وأعيد هنا الآن مع الإيجاز ما ضربته له من الأمثلة إيضاحًا لذلك. لنفرض أن مصورًا أراد أن يرسم الفجر، فماذا يسعه؟ إذا كان المنظر الطبيعى هو المقصود بالذات فليس يدخل فى مقدوره سوى أن يجمع لك فى رقعة اللوح الصغيرة ما تأخذه عينه من مميزات هذا المشهد الرائع الجميل. وأن يضيف إليه ويزيد عليه، جمالَ الفن نفسه وهو جمال تجتليه فى اختيار وجهة النظر، وفى الألوان وتنسيقها والمزاوجة بينها، وفى القطعة المنتقاة من المشهد الطبيعى، وفى الروح التى يصور بها هذا المنظر. ولكنه لا يخفى أن فى وسع الفنان أن يمثل لك معنى «الفجر» بأسلوب اخر وعلى نحو مختلف جدّا. فلا يعمد إلى منظر الطبيعة كما هو فى الواقع، لأن غايته قد لا تكون نقل الواقع المعجب، بل يستعين الخيال ويستوحى الوجدان والمشاعر ويضع لك على اللوح، لا منظرًا، بل رمزًا يشير به كما أسلفنا إلى ما يفهمه من الفجر: أى إلى الإحساس الذى يحركه والخالجة أو الخوالج التى يولدها — إلى فجر الحياة، لا فجر الأرض والسماء، وإلى وهج الشعور الأول الساذج بالدهش والعجب، وإلى النور الذى لم يغمر قط لا برّا ولا بحرًا والذى لا ينفك. مع ذلك مراقًا على كل شىء لا مضيئًا من خلاله — النور الذى يُليح لك بالدنيا ويثير فى نفسك الإعجاب بها وإكبارها والتيقظ لها — وبعبارة أخرى مختزلة — يرفع لعينيك صورة رمزية ليس فيها نقل عن مشاهد الطبيعة بل عن الحقائق الروحية المركزية الخالدة التى يحوم ويلوب حولها الأدب والفلسفة أيضًا ولكن من ناحية أخرى وبأسلوب اخر، أى تصوير الفكرة كما فعل فريدريك جيمس واطس حين رسم شيئا كالرباوة المعشوشبة وقفت عليها امرأة يزل ثوبها عن ظهرها إلى فخذها، وقد أمسكته بشمالها إلى جنبها، وبيمينها على يافوخها، وشعرها منهدل مرسل يعبت به النسيم الندى، وهى كالذى يتمطى من سبات (وقد منحتك ظهرها البادى إلى الردفين وانصرفت بوجهها وصدرها إلى الحياة التى يتنفس فجرها ولا تزال نجومها طالعة، وعند قدميها طائر ناشر جناحيه ينفض عنه الطل ويوقظ روحه ويعدها للحياة. قد تنظر إلى هذه الصورة فلا تدرك الغرض منها والمقصود بها لأول وهلة، ثم تقرأ كلمة الفجر تحتها فيخطر لك أن هذا الاسم كتب خطأ، وقد يجرى ببالك بعد ذلك أن المصور مجنون! ولكنك لا تلبث أن تنيم هذه الخواطر الجامحة التى تفجؤك فى أول الأمر ثم تُدمن النظر إلى الصورة الملفوفة فى مثل الضباب الرقيق الشفاف فيدب فى نواحى نفسك معنى غامضٌ قوى، وتحس أن هذه الصورة تمثل شيئا يعجز عنه التعبيرُ لأنه أعمق وأوسع من أن تأخذه العين جملة، وأخفى وأغرب من أن يكشف لك عنه كلام، وتدرك أنك واقف ترنو إلى حقيقة كبيرة تذكرك بها هذه السماءُ السوداء التى فتر فيها توامضُ النجوم الباهتة، وذلك الكوم من الرباوة والعشب، وتلك المرأة المتجردة إلى نصفها فكأنك أمام القوى والعناصر الأولى قبل أول يوم من أيام الخلق! وعلى أنه لا شأن لنا بهذا التصوير الرمزى وإن كنا قد استطردنا إلى ذكره بطبيعة الحال. وكلامنا هو على التصوير من حيث قدرته على نقل المشاهد الطبيعية. وليس من شك فى أن المصور يستطيع أن ينقل لك المنظر كما هو بادٍ لعينيه، وأن يُريك على اللوح وبالألوان ما رأى هو فى الواقع، وأن يضعك بذلك موضعه، وأن يعينك على أن تأخذ فى لحظة واحدة وبنظرة واحدة جملةً ما اكتحلت به عينه هو وتفاصيله. وليست كذلك قدرةُ الشاعر أو الكاتب، فما يستطيع مهما بلغ من تمكنه من ناصية اللغة وافتتانه وتصرفه وعلمه ودقته أن يرسم لك منظرًا كما هو أو أن يعينك بما يصف على تأليف المنظر وتخيله من أشتات العناصر والنعوت التى يقدمها إليك ويعرضها عليك. فالفرق من هذه الوجهة بين التصوير والشعر هو أن للتصوير لحظةً فى الفضاء وللشعر لحظات فى الزمن، أى أن المصور فى مقدوره أن ينقل لك المنظر الذى رآه وراقه كما هو كائن فى الطبيعة ولكن الشعر لا قبل له بذلك ولا طاقة له عليه وإنما يسع الشاعر أن يُفضى إليك «بوقع» هذا المنظر وبما يثيره فى النفس من الإحساسات والمعانى والذكر والاَمال والآلام والمخاوف والخوالج على العموم بأوسع معانى هذا اللفظ. وعلى العكس من ذلك يسع الشاعر أن يصف لك الحركات المتعاقبة فى الزمن وأن يُحضرها إلى ذهنك ويمثلها لخاطرك وذلك ما لا سبيل إليه فى التصوير. وليس من همنا أن نستقصى حدود الفنون، وأن نقيم ما بينها من الفواصل العديدة والفروق الكثيرة وأن نبيِّن ما يدخل فى دائرة كل منها، ولكن الذى نقصد إليه هو أن نقول إن الحدود التى تقيمها طبائع الأشياء مقياس أولى يكفى المبتدئ ليستطيع أن يقول هل من الميسور أن ينجح هذا الشاعر أو المصور فيما يعالج؟ وماذا عسى أن يبلغ من نجاحه فيما يزاول؟ وإلى أى درجة من الإجادة يسعه أن يوفق؟ فإذا رأى شاعرًا يحاول أن يتخذ من قلمه ريشة مصور أو فوتوغرافية كان له أن يوقن أنه مخفق لا محالة، وإذا رأى مصورًا معنيّا بأن يرسم لك على اللوح حركات متتابعة فى الزمن أو وقعَ المشاهد فى النفس فإن من حقه أن يجزم بأن الفشل نصيبه. وإلى هنا يتبين أن للمصور نقلَ المنظور وأن للشاعر وصفَ الوقع والحركات المتتابعة لا تصوير المنظر، فأين يكون مجال الموسيقى مثلا بين هذين؟ ونحسب أن ليست بنا حاجة إلى التنبيه إلى أننا إذ نذكر الموسيقى لا نعنى الشرقية منها أو المصرية إذ كانت هذه لا تزال فى الواقع شعبةً من الشعر أو الرقص لا فنّا ناضجًا مستقلا كما صارت عند الغرب. ومعلومٌ أن الموسيقى ضرب من التعبير الصوتى، وأن الأصوات أسبق فى تاريخ النشوء الإنسانى من اللغات، وأنها هى الأداة الرئيسية التى تتوسل بها الحيواناتُ الراقية أو أكثرها إلى العبارة عن إحساساتها وإثارة مثلها فى غيرها. كذلك كانت الألوان فى عالمى الحيوان والنبات أسبقَ من التصوير وأقدم. وليس يخفى ما لصيحات التحذير أو التوعد من الأهمية فى تاريخ غريزة حفظ الذات، وهى أصوات تخرجها الغريزة حين تتنبه، عفوا وبغير تفكير أو تلكؤ، كما ترى الواحد منا يثب وتقفز فجأة إذا باغته الشعور بجدارٍ ينقض أو نحو ذلك مما هو مظنةُ التهديد للحياة وهذه الحقائق وأمثالها، مما جَعل التعبير الموسيقى ظاهرة قديمة فى تاريخ الحياة، هى، فيما نرى، التى أكسبت هذا الضرب القديم من التعبير قوته السحرية وتأثيره البالغ فى نفسى السامع والموسيقى جميعًا، لأنه يوقظ غرائز أقوى — إذ كانت أقدم وألزم — من كل ما عسى أن تحركه بضعةُ خطوط يرسمها المرء بعد التفكير على سطح مستو ويذكر العينَ بواسطتها بمنظر المرئيات فى الفضاء. وما يعجب بعد ذلك أن تظل الموسيقى، على الرغم من نقصها وسذاجتها على الأقل فى الشرق، هائلة السلطان على النفوس. وكل أداة للتعبير ناقصة، ومن العسير أن يحاول امرؤ أن يعبر بالألفاظ أو غيرها من الأصوات، أو بهذه وتلك جميعًا، عن كل ما فى الأرض والسماء والجحيم من الحقائق، وعما فى النفس من الحركات ودرجاتها وظلالها التى لا يأخذها حصر، وعن أسرار الذاكرة وآلام الرغبة، ولكن الموسيقى، على كونها أداة للتعبير تُسمع ولا ترى، على خلاف التصوير، لا تصلح أن تكون وسيلة للتفاهم والتحادث، فلا تستطيع أن تقول ببضعة ألحان متعاقبة كما تقول بالألفاظ: «قمت اليوم مبكرًا وأكلت رغيفًا وشربت شايًا بغير سكر، وبعت وشريت وربحت كذا قرشا». ومن هنا قالوا إن الموسيقى لغة الروح. وهى بطبيعتها أقرب إلى الشعر وأمس به رحمًا لأن كليهما مُعوَّلُه على الأداة الصوتية وإن اختلفت اللغتان وتباينت حدود قدرتهما. ونعود الآن بعد هذه التوطئة الوجيزة التى لا مندوحة عنها إلى المثل الذى ضربناه، فنقول إن الموسيقىّ، إذا خطر له أن يؤلف قطعة موسيقية عن الفجر، لا يسعه — كما يسع الشاعر — أن يصف لك بطريقة مباشرة وقع هذا المنظر فى النفس وما يثير من الإحساسات ويوقظ من الذكريات أو ينشئ من الخواطر والآمال، ولا يدخل فى طوقه أن يرسم المنظرَّ على حقيقته كما يفعل المصور، ولكنّ له مع ذلك مضطربا واسعا يستطيع أن يصول فيه ويجول، وأن يكون له فيه عمل جليل، وإذا كان يعيبه أن «يحدثك» عن الخوالج المتنوعة التى يحركها منظرُ الفجر فى النفس وُيجيشها فى الصدر، أو أن يرسم لك المنظر بطائفة من الخطوط والألوان تريكه كما خلقه الله وأبدعته قدرته، فليس يعجزه مثلًا أن يُسمعك من الأصوات ما يذكرك به ويخطره ببالك ويجريه فى خيالك، كأن يحكى لك حفيفَ النسيم الوانى البليل إذ يهب مع الفجر ويوسوس فى آذان النبات والشجر، وتغاريدَ العصافير التى تنبه فيها ساعته الغريزةَ المغردة، وأغانى الرعاة الذين يستيقظون مع العصافير ويستولى على نفوسهم مثلها جماله وروعته فيحيونه ويناجونه بالغناء وبألحان المزامر — وبهذا وأشباه هذا، يحضر إليك الموسيقى منظرَ الفجر بما ينتقيه من الأصوات المألوفة فى ساعته والتى من شأنها أن نذكرك به، ويُعرب لك من ناحية أخرى عن الخوالج التى يبعثها ولكن بطريقة غير مباشرة يجمع فيها بين شىء من التصوير التخيلى وشىء من الشعر، وذلك أنه لا يرسم لك المنظر ولكن يسمعك أصوات الحياة المميزة له فى جميع مظاهرها الممكنة، ولا يصف لك خوالجه هو بل يُطلق عليك من الأصوات ما يحرك هذه الخوالج ويشعرك إياها بكل قوتها. وهنا نمسك القلم إذ ليس من وكدنا أن نتقصى وإنما أردنا كما قلنا أن يبين للقارئ أن هناك حدودًا طبيعية لا سبيل إلى إغفالها ولا خير فى تخطيها واهمالها. فليقس القارئ على هذا فقد دللناه على النهج، وأحْرِ به إذا سار على الدرب أن يصل.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/13/
فى معرض الفنون
أكتب هذا الفصل وحولى صحراء ما لها فى رأى العين انتهاء كأنها التى قال فيها ابن الرومى: وأذكر قول مسلم فى فدفد مثل هذا: وأسأل نفسى ترى أللتصوير قبل بهذا المنظر؟ أيسع المصورَ أن ينقل لنا على اللوح هذا الفضاء المترامى العازف بأنفاس الرياج الذى: «تعال يا سيدى. هذا هو المكان. قف ولا تتحرك. ما أهول أن يومئ المرءُ لحظة إلى هذا العمق! وما أشد عصفه بالرأس! إن الغربان الطائرة فى منتصف هذا المهوى لا تكاد تبلغ حجم الخنافس: وثَمَّ طائر يلتقط الأعشاب النابتة على الصخور. ما أخوف ما يعالج! إنه لا يبدو أكبر من رأسه! والصيادة الذين يمشون على سيف اليم أراهم كالجرذان، وذلك الزورق الطويل الراسى قد تقلّص حتى لتكاد العين تخطئه.. ولايسمع المرء من هذا العلو الشاهق صوت الماء المرغى على الحصى الراقد الذى لا يعد. سأكف عن النظر إلخ.. إلخ». فههنا ترى شكسبير قد صور لك علوَّ الصخرة وبعدَها عن مستوى الماء بأن صغَّر لك، ما تأخذه العينُ من فوقها، وبأن مثَّل لك أحجام هذه المرئيات بما تعرف ضآلته. فإذا استعنت تجربتك الشخية استطعت أن تحضر إلى ذهنك مقدار البعد أو العلو الذى تبدو منه الأشياء فى مثل هذه الضؤولة وينقطع عنده صوتُ الماء المنظور. «وقفوا على أرض سماوية ونظروا من الشاطئ إلى الهاوية السحيقة التى لا يقاس لها غور — طاغية كاليمّ، مظلمة قواء تبعث من أعماقها الرياحُ الدائرة والأواذىُّ المصطخبة مثلَ الجبال تريد أن تناطح السماء وأن تمزج بمركز الأرض قطبها». فهِذه هاوية أعمق وأهول من هاوية شكسبير بطبيعتها، ولكنّ وصف ملتون لها لا يحدث التأثير الذى يحدثه وصف شكسبير ولا يعينك على تمثل هذا القرار السحيق الذى لا يبلغ مداه، إذ كان لم يذكر ما يجعلنا نحسه الإحسإس الواجب. وإن يكن، فيما عدا ذلك، قد أحسن تصوير الموج المشرئب الطامح وجسَّم لك اشرئبابه وإلهاب الرياح له بأن قال إنه كالمريد أن ينطح السماء وأن يمزج بقطب الأرض مركزها. ونعود إلى التصوير فنقول إنه لا قبل له بمثل هذا ولا طاقة له عليه، إذ كانت رقعة الصورة محدودة، وكان التصغير الذى يضطر إليه الرسامُ لا يحرك الإحساس بالجلال تحريك الضخامة وترامى الأبعاد على الرغم مما يصنعه المصور ومما يستطيع أن يقوم به خيال الناظر. ولكن المصور مع ذلك يسعه، إلى حد، أن يعطينا فكرة عما لا يقوى على المحافظة على حقيقة أبعاده، وذلك بواسطة المقارنة بمقياس معروف مقرر فى البداءة، وخير مقياس هو الإنسان، على الرغم من تفاوت أطوال الناس واختلاف أجرامهم. وقديمًا جعل الإنسان نفسه مرجع المقاييس، واتخذ بالنسبة إلى نفسه «القدمَ» و«الذراع» و«الشبر» و«القامة» و«الخطوة» وعلى أن أمامه أشياء أخرى غير الإنسان ألفتها العين وفى الوسع اتخاذها مراجع. ولكنه بغير هذا أو ذاك لا سبيل له إلى إعطائنا ولا شبه فكرة عن المشاهد الطبيعية الضخمة. ومن السخافة الواضحة أن يعمد أحد إلى منظر جليل رائع فيصغره ويدعه على لوحة وحده، وليس إلى جانبه لا إنسان، ولا حيوان ولا منزل أو شجرة أو غير ذلك مما يناسب المشهد ويعين على تصور ضخامته. جرى هذا بذهنى وأنا أتأمل ما فى معرض التصوير الذى فتح منذ أيام من الصور التى تمثل ما فى طيبة والأقصر من المشاهد الطبيعية والمناظر الأثرية مثل صورة وادى الملوك التى رسمها عياد أفندى، ومثل منظر بهو الأعمدة فى معبد الأقصر لمصور اخر نسيتُ اسمه. كلا الرجلين اجتزأ بالمنظر الذى رسمه ولم يعن بأن يهيئ للناظر وسيلة تعينه على تصور الحقيقة الجليلة بكل ما فيها من روعة أو ببعضه. فهل تراهما لا يفهمان حدود فنهما؟ ••• إننا لا نكترث لهذه التقسيمات العرفية المتداخلة على الرغم من كل الفروق التى يضعونها والحواجز التى يقيمونها. وعلى أن الذى نعرفه هو أن التصوير قوامه عملان: أولهما وأسبقهما فى الوجود الرسم، أى التخطيط الذى تتضح به المعالم ويبدو به المرسوم، وثانيهما التلوين، أو طبقة اللون التى تنشر على صفحة الصورة. والباعث الأول على كليهما منفعى أو هو على كل حال غير فنى. قال «جرالد بولدوين براون» مؤلف كتاب الفنون فى إنجلترا القديمة: «قد لوحظ أن الهمج إذا أراد أحدهم أن يؤدى إلى زميل له وقعَ حيوان أو شىء فى نفسه، رسم بأصبعه فى الهواء المميزات التى يعرف بها هذا الحيوان أو الشىء. فإذا لم يفده ذلك ولم يبلغ به غايته، رسمه بعصا مدببة على الأرض. وليس بين هذا وبين الرسم على رقعة تنقل وتحفظ ما ينقش عليها، إلا خطوة». وقال عن التلوين: «إن الجسم الإنسانى — وهو أول ما يعنى الإنسان — رقيق حساس. والخشب — وهو من أقدم أدوات البناء والذى تتخذ منه كل السفن — عرضة للتداعى ولا سيما إذا تعرض للرطوبة. كذلك اَنية الطين القديمة نضاحة لأنها لم تكن تُحرق الإحراق الكافى. ومن هنا كان خليقا بالإنسان أن يلتفت بسرعة إلى خواص بعض المواد الصالحة لأن يُتخذ منها دهان شديد اللصوق بما يُراد وقايته أو تقويته. وبعض الهمج يدهنون أجسامهم بأنواع من الزيوت وما إليها بعد أن يمزجوها بغيرها من المواد لينالوا من وراء ادِّهانهم بها الدفء المطلوب فى المناطق الباردة، ولتحميهم من لدغ الحشرات فى الأقاليم الحارة. والقطران أو الشمع أو ما إليهما، إذا أذابته الشمس أو النار، صلح لطلى الخشب به وجعله بذلك موقى من الرطوبة. وقد اهتدى الإنسان إلى الدهانات التى تطلى بها الأوانى المصنوعة من الطين لسد مسامها. وليس هذا كله من الفن فى شىء إلا بمقدار ما يكون التخطيط أصلًا للفن. ولكن هذا يكتسب صبغة فنية متى أدّى التلوين دوره. وهناك أسباب فزيولوجية تجعل للون الأحمر تأثير الإهاجة، وللألوان القوية على العموم وقعًا فى النفس، وهذا الاستعداد للتأثر بالألوان أصل ثان بيِّن لفن التصوير». والتصوير فن «ذهنى» كالشعر، غرضه العاطفة وأداته الخيال أو الخواطر المتصلة التى توجهها العاطفة وجهتها، وإذا كانت ريشة المصور لا تستطيع أن تجارى القلم فى إيضاح القوانين التى ينبغى أن تجرى على مقتضاها حالات المعيشة وأنظمة الاجتماع وغير ذلك، فإنها تستطيع ولا شك أن تمثل بما تسعه قدرتها الام الفقر وحنان المرزوئين به ونزاعهم إلى السعادة، ومكافحتهم لقوى الطبيعة ونظام الاجتماع، وتسامى نفوسهم وتعاليها عن الدرك الذى هم فيه إلى جو أرقى وأمجد وأحفل بمعانى الحياة الحقيقية. وبذلك تحرك فى نفوس النظارة العواطف التى تتولد منها الرغبة فى التغيير والنزوع إلى الإصلاح. ومن أجل ذلك سرنا أن نرى فى المعرض صورة من صنع الأستاذ أحمد أفندى صبرى يريد بها شيئًا غير مجرد الرسم وإثبات ملامح الوجه ومعارف السحنة بالغًا ما بلغت الدقة فى ذلك والقدرة عليه. وهى صورة تمثل صبية بائسة قذرة شعثاء الشعر. يخيل إليك أنها تهم بالبكاء، وتكاد تلمح فى حملاقها الدمعة المترقرقة. وقد رسمها مرة أخرى بعد أن أصلح من حالها، وأبدلها من أقذارها وأسمالها ثوبًا نظيفًا ومنديلًا تعصب به رأسها وتجمع تحته شعرها مضفرًا، فجاءت على دقة الشبه وكأنها إنسان اخر، فيه أمل وخير، لا كتلك المتمرغة فى الفاقة التى تثير رثاثتها وبؤسها العطف والألم والرغبة فى المواساة وفى إصلاح هذا النظام الغريب الذى كم شقيت به من نفس مستعدة. ••• والتصوير فى أصله فن تقليدى، ولكن ليس معنى ذلك أن تمثيل الطبيعة، تمثيلًا لا يتجاوز مجرد النقل من دون زيادة أو نقص، هو كل ما يطلب من التصوير. ومن المسلم به أن إثبات صورة الشىء ليس عملًا فنيّا، وإنما يصبح كذلك إذا كان الإثبات بحيث يبرز صفة الشىء ويؤكد مميزاته وينفث فيه روحًا. أو بعبارة أخرى لا يكون الرسم فنيّ! إلا إذا ظهر فيه عنصرُ الجمال فى الترتيب أو التأليف، وإلا إذا صار إبرازُ الفكرة والأداءُ وعناصر التمثيل والجمال وطابع المصور فى عمله — كل ذلك واحدًا فى جوهره بحيث تصبح الصورة وليست عبارة عن فكرة رُسمت وأُلبست عمدًا هذا الثوبَ الفنى، بل فكرة خليقة ألا يكون لها وجود إلا بمقدار ما تستطاع العبارة عنها بالتصوير. ويقول لنج: «إن غاية كل فن لا يمكن أن تكون إلا ما يستطيع هذا الفن أن يبلغه دون الاستعانة بسواه من الفنون». والتصوير، على أنه فن تقليدى، لا غنى به عن عنصر الجمال، حتى ليصح أن يقال إن الجمال هو غايته التى ليست وراءها غاية. وأسمى ما يكون الجمال فى الإنسان، من ناحية واحدة هى ناحية وجود مُثل عُليا له، وذلك ما لا يكاد يكون له وجود فى الحيوان، وما لا وجود له على التحقيق فى النبات والجماد، ومن هنا كان مصورُ المناظر الطبيعية ورسامُ الأزهار والورد دون غيرهما ممن مجالهم الإنسان، إذ كان ما فى الطبيعة والأزاهر وما إليها من الجمال، عاجزًا عن كل مَثل أعلى، وكان المصور الذى يجعل وكده إثباتَ هذا الجمال لا يعدو أن يشتغل بعينه ويده. وليس أكثر فى هذا المعرض من صور الناس ولكنا لم نجد إلا صورةً واحدة نستطيع أن نقول إنها فنية. وتلك صورة للأستاذ أحمد صبرى لشابة جميلة استطاع المصور أن يثبت فى وجهها حالة مخامرة لا زائلة، وشعورًا باطنا ملازمًا، وكأن هذه الشابة تدرك أنها جميلة، ولا تخفى عليها مزاياها وما تؤهلها له هذه المزايا والمفاتنُ، ولكنها مع ذلك تشعر بأن شيئًا ينقصها، وأن حياتها تعوزها كلمة واحدة يخطها قلم المقدور. غير أنها لا تدرى ما هو هذا الذى ينقصها ويمنع حواسَّها أن تثمل بنشوة الحياة، ولا يُفيض على الدنيا أضواء الفراديس، نعمٍ لا تدرى وإن كانت تحس. وليست لجهلها ما تبغى، أقلَّ تبرمًا ومللا ونزوعًا إلى الإشاحة بوجهها عن متع الحياة، على فرط ما تنطق عيناها به من الشوق إلى ارتشاف كأس الاستمتاع الذى يعدها له، وتغريها به، نضوجُها واستيفاؤها حظّا وافيًا من تمام الجسم وجماله، بل لعلها لهذا السبب أشدُّ تبرمًا وأكثر أسى، وإن كان تبرمها التبرم الذى قد يذهلها عنه، بين آن وان، ما لا بد أنها موفَّقة إليه، ظافرة به. ولعل خير ما تسمى به هذه الصورة «النفس الظامئة».. ولكن غير هذه من الصور لا ترى فيه إلا حالة زائلة ليست هى بالتى ينبغى أن يطلبها المصور ويعالج أن يؤديها ويثبتها، إذ لم يكن فى إثباتها مزية خاصة أو براعة شاذة وقدرة وتجويد فى أدائها. وليس الحال كذلك فى تلك الصورة التى لا تكاد تمضى عنها حتى تنساها كأنك ما رأيتها. ذلك إلى عيب فى الرسم كالذى وقع فيه الأستاذ ناجى فى صورة «مدام اَدم» إذ جعل ما ينسدل على ساقيها من ثوبها وهى جالسة كأنه قطعة من الجلد الغليظ ملتفة عليهما تحسّ بعينيك سمكه وغلظه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.