text
stringlengths
3
39.1k
resource_name
stringclasses
8 values
verses_keys
stringlengths
3
77
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَعَلَّمَ آدَمَ640- حدثنا محمد بن جرير, قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يعقوب القُمّي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس، قال: بعث ربُّ العزة مَلكَ الموت فأخذ من أديم الأرض، من عذْبها ومالحها, فخلق منه آدم. ومن ثَمَّ سُمي آدم. لأنه خُلق من أديم الأرض (97) .641- وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري, قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن جده, عن علي، قال: إن آدم خُلق من أديم الأرض، فيه الطيّب والصالح والرديء, فكل ذلك أنت راءٍ في ولده، الصالح والرديء (98) .642- وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا مِسعر, عن أبي حَصين, عن سعيد بن جُبير, قال: خُلق آدم من أديم الأرض، فسمِّي آدم.643- وحدثنا ابن المثنى, قال: حدثنا أبو داود, قال: حدثنا شعبة, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير، قال: إنما سمي آدمَ لأنه خلق من أديم الأرض (99) .644- وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ ملك الموت لما بُعث ليأخذ من الأرض تربةَ آدم, أخذ من وجه الأرض وخلط فلم يأخذ من مكان واحد, وأخذ من تربة حمراء وبيضاءَ وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. ولذلك سُمي آدم, لأنه أخذ من أديم الأرض (100) .وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ يحقق ما قال مَن حكينا قوله في معنى آدم. وذلك ما-:645- حدثني به يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن عوف -وحدثنا محمد بن بشار، وعمر بن شَبة- قالا حدثنا يحيى بن سعيد -قال: حدثنا عوف- وحدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عدي، ومحمد بن جعفر، وعبد الوهاب الثقفي، قالوا: حدثنا عوف -وحدثني محمد بن عمارة الأسدي, قال: حدثنا إسماعيل بن أبان, قال: حدثنا عنبسة- عن عوف الأعرابي, عن قَسامَة بن زُهير, عن أبي موسى الأشعري, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله خلق آدم من قَبضة قَبضها من جميع الأرض , فجاء &; 1-482 &; بنو آدم على قَدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض وبين ذلك، والسهلُ والحَزْن، والخبيث والطيب (101) .فعلى التأويل الذي تأول "آدم " من تأوله، بمعنى أنه خُلق من أديم الأرض, يجب أن يكون أصْل "آدم " فعلا سُمي به أبو البشر, كما سمي" أحمد " بالفعل من الإحماد , و " أسعد " من الإسعاد, فلذلك لم يُجَرَّ. ويكون تأويله حينئذ: آدمَ المَلكُ الأرضَ, يعني به بلغ أدمتها -وأدَمتها: وجهها الظاهر لرأي العين, كما أنّ جلدة كل ذي جلدة له أدَمة. ومن ذلك سُمي الإدام إدَامًا, لأنه صار كالجلدة العليا مما هي منه- ثم نقل من الفعل فجعل اسمًا للشخص بعينه.القول في تأويل قوله تعالى: الأَسْمَاءَ كُلَّهَاقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الأسماء التي علمها آدمَ ثم عَرضها على الملائكة، فقال ابن عباس ما-:646- حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا عثمان بن سعيد, قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: علم الله آدم الأسماء كلها, وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسانٌ ودابة, وأرض وَسهل وبحر وجبل وحمار, وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. (102) .647- وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم, قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد - وحدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد، في قول الله: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: علمه اسم كل شيء.648- وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن خُصيف, عن مجاهد: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: علمه اسم كل شيء (103) .649- وحدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم الجَرمي, عن محمد بن مصعب, عن قيس بن الربيع, عن خُصيف, عن مجاهد, قال: علمه اسم الغراب والحمامة واسم كل شيء (104) .650- وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي, عن شَريك, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير, قال: علمه اسمَ كل شيء, حتى البعير والبقرة والشاة (105) .651- وحدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن شَريك, عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد، عن ابن عباس, قال: علمه اسم القصعة والفسوة والفُسَيَّة (106) .652- وحدثنا أحمد بن إسحاق, قال: حدثنا أبو أحمد, قال: حدثنا شريك, &; 1-484 &; عن عاصم بن كليب, عن الحسن بن سعد, عن ابن عباس: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: حتى الفسوة والفُسيَّة.653- حدثنا علي بن الحسن, قال: حدثنا مسلم, قال: حدثنا محمد بن مُصعب, عن قيس، عن عاصم بن كليب, عن سعيد بن مَعبد, عن ابن عباس في قول الله: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: علمه اسم كل شيء حتى الهَنة والهُنَيَّة والفسوة والضرطة.654- وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا علي بن مسهر, عن عاصم بن كليب, قال: قال ابن عباس: علمه القصعة من القُصيعة, والفسوة من الفسية (107) .655- وحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة قوله: " وعلم آدم الأسماء كلها " حتى بلغ: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ، فأنبأ كل صنف من الخلق باسمه، وألجأه إلى جنسه (108) .656- وحدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق, قال: حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: علمه اسم كل شيء، هذا جبل, وهذا بحر, وهذا كذا وهذا كذا, لكل شيء, ثم عرض تلك الأشياء على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (109) .657- وحدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن جرير بن حازم -ومبارك, عن الحسن- وأبي بكر عن الحسن وقتادة، &; 1-485 &; قالا علمه اسم كل شيء: هذه الخيل، وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش ، وجعل يسمي كل شيء باسمه. (110)658 - وحُدِّثت عن عمّار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: اسم كل شيء. (111)وقال آخرون: علم آدم الأسماء كلها، أسماء الملائكة.* ذكر من قال ذلك:659 - حُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: " وعلم آدمَ الأسماء كلها "، قال: أسماء الملائكة. (112)وقال آخرون: إنما علمه أسماء ذريته كلها.* ذكر من قال ذلك:660 - حدثني محمد بن جرير، قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " وعلم آدم الأسماء كلها "، قال: أسماء ذريته أجمعين. (113)وأوْلَى هذه الأقوال بالصواب، وأشبهها بما دل على صحته ظاهرُ التلاوة، قول من قال في قوله: " وعلم آدم الأسماء كلها " إنها أسماءُ ذرِّيَّته وأسماءُ الملائكة، دون أسماء سائر أجناس الخلق. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ، يعني بذلك أعيانَ المسمَّين بالأسماء التي علمها آدم. ولا تكادُ العرب تكني بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة. وأمّا إذا كانت عن أسماء البهائم وسائر الخلق سوَى من وصفناها، فإنها تكني عنها بالهاء والألف أو بالهاء والنون، فقالت: " عرضهن " أو " عرضها "، وكذلك تفعل إذا كنَتْ عن أصناف &; 1-486 &; من الخلق كالبهائم والطير وسائر أصناف الأمم وفيها أسماءُ بني آدم والملائكة، فإنها تكنى عنها بما وصفنا من الهاء والنون أو الهاء والألف. وربما كنَتْ عنها، إذا كان كذلك (114) بالهاء والميم، كما قال جل ثناؤه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [سورة النور: 45]، فكنى عنها بالهاء والميم، وهي أصناف مختلفة فيها الآدمي وغيره. وذلك، وإن كان جائزًا، فإن الغالب المستفيض في كلام العرب ما وَصفنا، من إخراجهم كنايةَ أسماء أجناس الأمم - إذا اختلطت - بالهاء والألف أو الهاء والنون. فلذلك قلتُ: أولى بتأويل الآية أن تكون الأسماء التي علَّمها آدمَ أسماء أعيان بني آدم وأسماء الملائكة، وإن كان ما قال ابن عباس جائزًا على مثال ما جاء في كتاب الله من قوله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ الآية. وقد ذكر أنها في حرف ابن مسعود: " ثم عَرضهن "، وأنها في حرف أبَيّ: " ثم عَرضَها ". (115)ولعل ابن عباس تأول ما تأول من قوله: علمه اسم كل شيء حتى الفسوة والفسيَّة، على قراءة أبيّ، فإنه فيما بلغنا كان يقرأ قراءة أبيّ. وتأويل ابن عباس - على ما حُكي عن أبيّ من قراءته - غيرُ مستنكر ، بل هو صحيح مستفيض في كلام العرب، على نحو ما تقدم وصفي ذلك.القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِقال أبو جعفر: قد تقدم ذكرنا التأويل الذي هو أولى بالآية، على قراءتنا ورَسم مُصْحفنا، وأن قوله: " ثم عَرَضهم "، بالدلالة على بني آدم والملائكة، &; 1-487 &; أولى منه بالدلالة على أجناس الخلق كلها، وإن كان غيرَ فاسد أن يكون دالا على جميع أصناف الأمم، للعلل التي وصفنا.ويعني جل ثناؤه بقوله: " ثم عَرضَهم "، ثم عرَض أهل الأسماء على الملائكة.وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله: " ثم عَرضَهم على الملائكة " نحو اختلافهم في قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا . وسأذكر قول من انتهى إلينا عنه فيه قولٌ.661 - حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " ثم عَرضهم على الملائكة "، ثم عرض هذه الأسماء، يعني أسماء جميع الأشياء، التي علّمها آدم من أصناف جميع الخلق. (116)662 - وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم عرضهم "، ثم عرض الخلقَ على الملائكة (117) .663 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أسماء ذريته كلِّها، أخذهم من ظَهره. قال: ثم عرضهم على الملائكة (118) .664 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: " ثم عرضهم "، قال: علمه اسم كل شيء، ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة (119) .&; 1-488 &;665 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: " ثم عرضهم "، عرض أصحاب الأسماء على الملائكة (120)666 - وحدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس، عن خُصَيف، عن مجاهد: " ثم عرضهم على الملائكة "، يعني عرض الأسماء، الحمامةَ والغراب (121) .667 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا علّمه اسم كل شيء: هذه الخيلَ، وهذه البغال، وما أشبه ذلك. وجعل يُسمي كل شيء باسمه، وعُرضت عليه أمة أمة (122) .القول في تأويل قوله: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِقال أبو جعفر: وتأويل قوله: " أنبئوني": أخبروني، كما:-668 - حدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا عثمان، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " أنبئوني"، يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء (123) .ومنه قول نابغة بني ذُبيان:وَأَنْبَــــأَهُ الْمُنَبِّـــئُ أَنَّ حَيًّـــاحُــلُولٌ مِــنْ حَــرَامٍ أَوْ جُــذَامِ (124)يعني بقوله: " أنبأه ": أخبره وأعلمه.القول في تأويل قوله جل ذكره: بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِقال أبو جعفر:669 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: " بأسماء هؤلاء "، قال: بأسماء هذه التي حدَّثتُ بها آدمَ.670- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " يقول: بأسماء هؤلاء التي حَدّثت بها آدم. (125)القول في تأويل قوله تعالى ذكره: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.671 - فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " إن كنتم صادقين "، إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة. (126)672 - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " إن كنتم صادقين " أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. (127)673 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن جرير بن حازم - ومبارك عن الحسن - وأبي بكر عن الحسن وقتادة - قالا " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " أني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (128) .قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، تأويلُ ابن عباس ومن قال بقوله. ومعنى ذلك: فقال أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيتها الملائكة - القائلون: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ من غيرنا، أم منا؟ فنحن نسبح بحمدك &; 1-491 &; ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عَصَاني ذريته وأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتّبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس. فإنكم إن كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضتُهم عليكم من خلقي، وهم مخلوقون موجودون ترونهم وتعاينونهم، وعَلِمه غيركم بتعليمي إيّاه؛ فأنتم = بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد بَعدُ، وبما هو مستتر من الأمور - التي هي موجودة - عن أعينكم = أحرى أن تكونوا غير عالمين، فلا تسألوني ما ليس لكم به علم، فإني أعلم بما يصلحكم ويصلح خلقي.وهذا الفعل من الله جل ثناؤه بملائكته - الذين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، من جهة عتابه جل ذكره إياهم - نظيرُ قوله جل جلاله لنبيه نوح صلوات الله عليه إذ قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [سورة هود: 45] -: لا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (129) . فكذلك الملائكة سألت ربها أن تكون خُلفاءه في الأرض ليسبّحوه ويقدسوه فيها ، إذ كان ذرية من أخبرهم أنه جاعلُه في الأرض خليفةً، يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فقال لهم جل ذكره: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ . يعني بذلك: إني أعلم أنّ بعضكم فاتِحُ المعاصي وخاتِمُها، وهو إبليس، منكرًا بذلك تعالى ذكره قولهم. ثم عرّفهم موضع هَفوتهم في قيلهم ما قالوا من ذلك، بتعريفهم قصور علمهم عما هم له شاهدون عيانًا، - فكيف بما لم يروه ولم يُخبَروا عنه؟ - بعرَضه ما عرض عليهم من خلقه الموجودين يومئذ، وقيله لهم: " أنبئوني &; 1-492 &; بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " أنكم إن استخلفتكم في أرضي سبّحتموني وقدستموني، وإن استخلفت فيها غيرَكم عَصَاني ذُريته وأفسدوا وسفكوا الدماء. فلما اتضح لهم موضع خطأ قيلهم، وبدت لهم هَفوة زَلتهم، أنابوا إلى الله بالتوبة فقالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، فسارعوا الرجعة من الهفوة، وبادروا الإنابة من الزلة، كما قال نوح - حين عوتب في مَسئلته فقيل له: لا تسأَلْنِ ما ليس لك به علم (130) -: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة هود: 47]. وكذلك فعلُ كل مسدَّد للحق موفَّق له - سريعة إلى الحق إنابته، قريبة إليه أوْبته.وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين "، لم يكن ذلك لأن الملائكة ادّعوا شيئا، إنما أخبر الله عن جهلهم بعلم الغيب، وعلمه بذلك وفضله، فقال: " أنبئوني إن كنتم صادقين " - كما يقول الرجل للرجل: " أنبئني بهذا إن كنت تعلم ". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهلٌ.وهذا قول إذا تدبره متدبر، علم أن بعضَه مُفسدٌ بعضًا. وذلك أن قائله زعم أن الله جل ثناؤه قال للملائكة - إذ عرَض عليهم أهل الأسماء -: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ ، وهو يعلم أنهم لا يعلمون، ولا هم ادّعوا علم شيء يوجب أن يُوبَّخوا بهذا القول.وزعم أن قوله: " إن كنتم صادقين " نظير قول الرجل للرجل: " أنبئني بهذا إن كنت تعلم ". وهو يعلم أنه لا يعلم، يريد أنه جاهل.ولا شك أن معنى قوله: " إن كنتم صادقين " إنما هو: إن كنتم صادقين، إمّا في قولكم، وإما في فعلكم. لأن الصّدق في كلام العرب، إنما هو صدق في الخبر لا في &; 1-493 &; العلم. وذلك أنه غير معقول في لغة من اللغات أن يقال: صدَق الرجل بمعنى علم. فإذْ كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الله جل ثناؤه قال للملائكة - على تأويل قول هذا الذي حكينا قوله في هذه الآية-: " أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " وهو يعلم أنهم غيرُ صادقين، يريد بذلك أنهم كاذبون. وذلك هو عين ما أنكره، لأنه زعم أن الملائكة لم تدَّع شيئًا، فكيف جاز أن يقال لهم: إن كنتم صَادقين، فأنبئوني بأسماء هؤلاء؟ هذا مع خروج هذا القول - الذي حكيناه عن صاحبه - من أقوال جميع المتقدمين والمتأخرين من أهل التأويل والتفسير.وقد حُكي عن بعض أهل التفسير أنه كان يتأول قوله: " إن كنتم صادقين " بمعنى: إذْ كنتم صادقين.ولو كانت " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع، لوجب أن تكون قراءتها بفتح ألفها، لأن " إذ " إذا تقدّمها فعل مُستقبل صارت علة للفعل وسببًا له. وذلك كقول القائل: " أقوم إذ قمت ". فمعناه أقوم من أجل أنّك قمت. والأمرُ بمعنى الاستقبال، فمعنى الكلام - لو كانت " إن " بمعنى " إذ " -: أنبئوني بأسماء هؤلاء من أجل أنكم صادقون. فإذا وُضعت " إن " مكان ذلك قيل: أنبئوني بأسماء هؤلاء أنْ كنتم صَادقين، مفتوحةَ الألف. وفي إجماع جميع قُرّاء أهل الإسلام على كسر الألف من " إنْ"، دليل واضح على خطأ تأويل من تأول " إن " بمعنى " إذ " في هذا الموضع.----------الهوامش :(97) الخبر : 640- هذا إسناد صحيح . ورواه الطبري في التاريخ أيضًا 1 : 46 ، بهذا الإسناد ، بزيادة في آخره . ولكن فيه : "بعث رب العزة إبليس" بدل"ملك الموت" . وهذا هو الصواب الموافق لسائر الروايات ، فلعل ما هنا تحريف قديم من الناسخين . وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات 1/1/6 ، عن حسين بن حسن الأشقر ، عن يعقوب بن عبد الله القمي ، بهذا الإسناد . وكذلك نقله السيوطي 1 : 47 ، مطولا ، عن ابن سعد ، والطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر .(98) الخبر : 641- رواه الطبري في التاريخ 1 : 46 ، بهذا الإسناد . وذكره السيوطي 1 : 47 ، منسوبًا للطبري وحده ، ولم أجده عند غيره . وإسناده ضعيف جدًّا . عمرو بن ثابت : هو ابن أبي المقدام الحداد ، ضعيف جدًّا ، قال ابن معين : "ليس بثقة ولا مأمون" . وأما أبوه"ثابت بن هرمز أبو المقدام" ، فإنه ثقة . ويزيد هذا الإسناد ضعفًا وإشكالا - قوله فيه : "عن جده"! فإن ترجمة ثابت في المراجع كلها ليس فيها أنه يروي عن أبيه"هرمز" . ثم لا نجد لهرمز هذا ذكرا ولا ترجمة ، فما أدرى مم هذا؟(99) الأثران : 642 ، 643- رواهما الطبري في التاريخ أيضًا 1 : 46 ، بهذين الإسنادين . وذكره بنحوه السيوطي 1 : 49 ، والشوكاني 1 : 52 . و"أبو حصين" ، فيهما بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين ، وهو : عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي ، ثقة ثبت صاحب سنة .(100) الخبر : 644- مضى ضمن خبر مطول ، بهذا الإسناد : 607 .(101) الحديث : 645- هو حديث صحيح . ورواه أحمد في المسند 4 : 400 ، 406 (حلبى) ، وابن سعد في الطبقات 1/1/5-6 ، وأبو داود : 4693 ، والترمذي 4 : 67-68 ، والحاكم 2 : 261-262 ، كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة الأعرابي ، عن قسامة بن زهير ، به . قال الترمذي : "حسن صحيح" . وقال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي ، وذكره السيوطي 1 : 46 ، ونسبه لهؤلاء ، ولعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وغيرهم . ورواه أيضًا الطبري في التاريخ 1 : 46 ، بهذه الأسانيد التي هنا ، بزيادة في آخره .(102) الخبر : 646- في ابن كثير 1 : 132 ، والدر المنثور 1 : 49 ، والشوكاني 1 : 52 وقد مضى برقم : 606 ، مطولا .(103) الأثران : 647 ، 648- في الدر المنثور 1 : 49 ، وكأنهما اختصار لما بعدهما .(104) الأثر : 649- لم أجده بنصه ولعله مطول الذي قبله ، وانظر ما سيأتي رقم : 666 . و"مسلم الجرمي" : ثبت في الأصول بالحاء . وقد مضى في : 154 ترجيحنا أنه بالجيم .(105) الأثر : 650- في الدر المنثور 1 : 49 .(106) الخبر : 651- سعيد بن معبد : تابعي ، يروي عن ابن عباس ، لم أجد له ترجمة إلا في التاريخ الكبير للبخاري 2/1/468 ، والجرح لابن أبي حاتم 2/1/63 . وكلاهما ذكر أنه يروي عن ابن عباس ، ويروي عنه : القاسم بن أبي بزة . فجاءنا الطبري بفائدة زائدة ، في هذا الإسناد ، وفي الإسناد : 653 : أنه يروي عنه أيضًا عاصم بن كليب . وهذا الخبر ذكره بنحوه : ابن كثير 1 : 132 ، والسيوطي 1 : 49 . ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم . وهذا الخبر والثلاثة بعده ، متقاربة المعنى ، هي روايات لخبر واحد .(107) الخبر : 654- عاصم بن كليب الجرمي : ثقة يحتج به . ولكنه إنما يروي عن التابعين ، فروايته عن ابن عباس هنا منقطعة . وقد دلتنا الأسانيد الثلاثة الماضية على أنه إنما روى هذا المعنى عن سعيد بن معبد ، وعن الحسن بن سعد ، عن ابن عباس .(108) الأثر : 655- في الدر المنثور 1 : 49 ، بغير هذا اللفظ . وانظر رقم : 697 .(109) الأثر : 656- في ابن كثير 1 : 133 مختصرًا ، وفي الدر المنثور 1 : 49 مطولا وفي ابن كثير : "ثم عرض تلك الأسماء" .(110) الأثر : 657- في ابن كثير 1 : 133 بغير هذا اللفظ مختصرًا ، وفي الدر المنثور 1 : 49 ، وسيأتي كما جاء فيهما برقم : 667 .(111) الأثر : 658- لم أجده .(112) الأثر : 659- في ابن كثير 1 : 132 ، والدر المنثور 1 : 49 ، والشوكاني 1 : 52 .(113) الأثر : 660- في ابن كثير 1 : 132 ، والدر المنثور 1 : 49 ، والشوكاني 1 : 52 .(114) في المطبوعة : "إذ كان . . . " وهو خطأ .(115) انظر تفسير ابن كثير 1 : 132 في التعقيب على كلام الطبري .(116) الخبر : 661- هو من تمام الآثار السالفة قريبًا .(117) الخبر : 662- مختصر من الخبر الطويل الماضي قريبًا ، وفي ابن كثير 1 : 132 .(118) الأثر : 663- في الدر المنثور 1 : 49 .(119) الأثر : 664- مختصر أثر سلف بإسناده هذا ، وفي ابن كثير 1 : 133 .(120) الأثر : 665- في ابن كثير : 1 : 133 ، والدر المنثور 1 : 49 ، والشوكاني 1 : 52 .(121) الأثر : 666- في ابن كثير 1 : 134 ، وانظر ما مضى قريبًا بإسناده .(122) الأثر : 667- انظر ما مضى رقم : 657 وابن كثير 1 : 133 ، والدر المنثور 1 : 49 .(123) الخبر : 668- مختصر من الخبر رقم : 606 .(124) ديوانه : 87 من قصيدة له ، في عمرو بن هند ، وكان غزا الشام بعد قتل المنذر أبيه . وقال أبو عبيدة : هذه القصيدة لعمرو بن الحارث الغساني في غزوة العراق . ورواية الديوان : "أن حيًّا حلولا" بالنصب ، صفة "حيًّا" وهي الرواية الجيدة . وخبر"أن" محذوف ، كأنه يقول : قد تألبوا يترصدون لك . وحذفه للتهويل في شأن اجتماعهم وترصدهم . والبيت الذي يليه دال على ذلك ، وهو قوله :وَأَنَّ الْقَـــوْمَ نَصْـــرُهُمُ جَــمِيعٌفِئَـــامٌ مُجْــلِبُونَ إِلَــى فِئَــامِورواية الرفع ، لا بأس بها ، وإن كنت لا أستجيدها . وقوله : "حرام" كأنه يعني بني حرام ابن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد هذيم . أو كأنه يعني بني حرام بن جذام بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد بن زيد . ودار جذام جبال حسمى ، وأرضها بين أيلة وجانب تيه بني إسرائيل الذي يلي أيلة ، وبين أرض بني عذرة من ظهر حرة نهيل (معجم البلدان : حسمى) . فمن أجل أن بنى عذرة هذه ديارهم قريبة من جذام ، شككت فيمن عني النابغة ببني حرام في هذا البيت .(125) الأثران : 669 ، 670- لم أجدهما في مكان .(126) الخبر : 671- مختصر من الخبر السالف رقم 606 ، وانظر التعليق ، هناك على هذه الفقرة . وانظر الشوكاني 1 : 52 .(127) الخبر : 672- مختصر من الخبر السالف رقم 607 ، وابن كثير 1 : 133 ، والدر المنثور 1 : 50 ، والشوكاني 1 : 52 .(128) الأثر : 673- مختصر من الأثر السالف رقم 611 ، وابن كثير 1 : 133 .(129) في المطبوعة : "وأنت أحكم الحاكمين فلا تسألن" ، وهو خطأ فاحش ، فإن الآية التي تلي قوله : "وأنت أحكم الحاكمين" : "قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم . . . " ، ولم يرد الطبري أن يسوق الآيتين ، بل ساق قول الله سبحانه لنبيه حين قال ما قال . والصواب ما في المخطوطة كما أثبتناه .(130) في المطبوعة هنا أيضًا : "فلا تسألن" .
الطبري
2:31
قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين[ ص: 265 ] فيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها علم عرف . وتعليمه هنا إلهام علمه ضرورة . ويحتمل أن يكون بواسطة ملك وهو جبريل عليه السلام على ما يأتي . وقرئ : " وعلم " غير مسمى الفاعل . والأول أظهر ، على ما يأتي . قال علماء الصوفية : علمها بتعليم الحق إياه وحفظها بحفظه عليه ونسي ما عهد إليه ، لأن وكله فيه إلى نفسه فقال : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . وقال ابن عطاء : لو لم يكشف لآدم علم تلك الأسماء لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها . وهذا واضح .وآدم عليه السلام يكنى أبا البشر . وقيل : أبا محمد ، كني بمحمد خاتم الأنبياء صلوات الله عليهم ، قاله السهيلي . وقيل : كنيته في الجنة أبو محمد ، وفي الأرض أبو البشر . وأصله بهمزتين ; لأنه أفعل إلا أنهم لينوا الثانية ، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها واوا فقلت : أوادم في الجمع لأنه ليس لها أصل في الياء معروف ، فجعلت الغالب عليها الواو ، عن الأخفش .واختلف في اشتقاقه ، فقيل : هو مشتق من أدمة الأرض وأديمها وهو وجهها ، فسمي بما خلق منه ، قال ابن عباس . وقيل : إنه مشتق من الأدمة وهي السمرة . واختلفوا في الأدمة ، فزعم الضحاك أنها السمرة ، وزعم النضر أنها البياض ، وأن آدم عليه السلام كان أبيض ، مأخوذ من قولهم : ناقة أدماء ، إذا كانت بيضاء . وعلى هذا الاشتقاق جمعه أدم وأوادم ، كحمر وأحامر ، ولا ينصرف بوجه . وعلى أنه مشتق من الأدمة جمعه آدمون ، ويلزم قائلو هذه المقالة صرفه .قلت : الصحيح أنه مشتق من أديم الأرض . قال سعيد بن جبير : إنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض ، وإنما سمي إنسانا لأنه نسي ، ذكره ابن سعد في الطبقات . وروى السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود في قصة خلق آدم عليه السلام قال : فبعث الله جبريل عليه السلام إلى الأرض ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني ، فرجع ولم يأخذ وقال : يا رب إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها ، فرجع فقال كما قال جبريل ، فبعث [ ص: 266 ] ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره . فأخذ من وجه الأرض وخلط ، ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين - ولذلك سمي آدم لأنه أخذ من أديم الأرض - فصعد به ، فقال الله تعالى له : أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها . فقال : أنت تصلح لقبض أرواح ولده " فبل التراب حتى عاد طينا لازبا ، اللازب : هو الذي يلتصق بعضه ببعض ، ثم ترك حتى أنتن ، فذلك حيث يقول : من حمإ مسنون قال : منتن . ثم قال للملائكة : إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فخلقه الله بيده لكيلا يتكبر إبليس عنه يقول : أتتكبر عما خلقت بيدي ولم أتكبر أنا عنه فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار تكون له صلصلة ، فذلك حين يقول : من صلصال كالفخار . ويقول لأمر ما خلقت . ودخل من فمه وخرج من دبره ، فقال إبليس للملائكة : لا ترهبوا من هذا فإنه أجوف ولئن سلطت عليه لأهلكنه . ويقال : إنه كان إذا مر عليه مع الملائكة يقول : أرأيتم هذا الذي لم تروا من الخلائق يشبهه إن فضل عليكم وأمرتم بطاعته ما أنتم فاعلون قالوا : نطيع أمر ربنا فأسر إبليس في نفسه لئن فضل علي فلا أطيعه ، ولئن فضلت عليه لأهلكنه ، فلما بلغ الحين الذي أريد أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس ، فقالت له الملائكة : قل الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربك ، فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول : خلق الإنسان من عجلفسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وذكر القصة . وروى الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض [ ص: 267 ] فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . أدم : جمع أدم ، قال الشاعر :الناس أخياف وشتى في الشيم وكلهم يجمعهم وجه الأدمفآدم مشتق من الأديم والأدم لا من الأدمة ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون منهما جميعا . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في خلق آدم في " الأنعام " وغيرها إن شاء الله تعالى .و " آدم " لا ينصرف . قال أبو جعفر النحاس : " آدم لا ينصرف في المعرفة بإجماع النحويين ، لأنه على أفعل وهو معرفة ، ولا يمتنع شيء من الصرف عند البصريين إلا لعلتين . فإن نكرته ولم يكن نعتا لم يصرفه الخليل وسيبويه ، وصرفه الأخفش سعيد ; لأنه كان نعتا وهو على وزن الفعل ، فإذا لم يكن نعتا صرفه . قال أبو إسحاق الزجاج : القول قول سيبويه ، ولا يفرق بين النعت وغيره لأنه هو ذاك بعينه " .الثانية : قوله تعالى الأسماء كلها " الأسماء " هنا بمعنى العبارات ، فإن الاسم قد يطلق ويراد به المسمى ، كقولك : زيد قائم ، والأسد شجاع . وقد يراد به التسمية ذاتها ، كقولك : أسد ثلاثة أحرف ، ففي الأول يقال : الاسم هو المسمى بمعنى يراد به المسمى ، وفي الثاني لا يراد المسمى ، وقد يجري اسم في اللغة مجرى ذات العبارة ، وهو الأكثر من استعمالها ، ومنه قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها على أشهر التأويلات ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما . ويجري مجرى الذات ، يقال : ذات ونفس وعين واسم بمعنى ، وعلى هذا حمل أكثر أهل العلم قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى تبارك اسم ربك إن هي إلا أسماء سميتموها .الثالثة : واختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علمها لآدم عليه السلام ، فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير : علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها . وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحسن بن علي قال : كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط ، قال ابن عباس : وعلم آدم الأسماء كلها .قلت : وقد روي هذا المعنى مرفوعا على ما يأتي ، وهو الذي يقتضيه لفظ " كلها " إذ هو اسم موضوع للإحاطة والعموم ، وفي البخاري من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ويجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء الحديث . قال ابن خويز منداد : في هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا ، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا . وكذلك قال ابن عباس : علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب .وروى شيبان عن قتادة قال : علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة ، وسمى كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه . قال النحاس : وهذا أحسن ما روي في هذا . والمعنى : علمه أسماء الأجناس وعرفه منافعها ، هذا كذا ، وهو يصلح لكذا . وقال الطبري : علمه أسماء الملائكة وذريته ، واختار هذا ورجحه بقوله : ثم عرضهم على الملائكةوقال ابن زيد : علمه أسماء ذريته ، كلهم .الربيع بن خثيم : أسماء الملائكة خاصة .القتي : أسماء ما خلق في الأرض . وقيل : أسماء الأجناس والأنواع .قلت : القول الأول أصح ، لما ذكرناه آنفا ولما نبينه إن شاء الله تعالى .الرابعة : واختلف المتأولون أيضا هل عرض على الملائكة أسماء الأشخاص أو الأسماء دون الأشخاص ، فقال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص لقوله تعالى : عرضهم وقوله : أنبئوني بأسماء هؤلاء . وتقول العرب : عرضت الشيء فأعرض ، أي أظهرته فظهر . ومنه : عرضت الشيء للبيع . وفي الحديث ( إنه عرضهم أمثال الذر ) . وقال ابن عباس وغيره : عرض الأسماء . وفي حرف ابن مسعود : " عرضهن " ، فأعاد على الأسماء دون الأشخاص ; لأن الهاء والنون أخص بالمؤنث . وفي حرف أبي : " عرضها " .مجاهد : أصحاب الأسماء . فمن قال في الأسماء إنها التسميات فاستقام على قراءة أبي : " عرضها " . وتقول في قراءة من قرأ عرضهم : إن لفظ الأسماء يدل على أشخاص ، [ ص: 269 ] فلذلك ساغ أن يقال للأسماء : عرضهم . وقال في هؤلاء : المراد بالإشارة : إلى أشخاص الأسماء ، لكن وإن كانت غائبة فقد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها . قال ابن عطية : والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرضهن عليه مع تلك الأجناس بأشخاصها ، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها ، ثم إن آدم قال لهم : هذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا . وقال الماوردي : وكان الأصح توجه العرض إلى المسمين . ثم في زمن عرضهم قولان : أحدهما أنه عرضهم بعد أن خلقهم . الثاني - أنه صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم .الخامسة : واختلف في أول من تكلم باللسان العربي ، فروي عن كعب الأحبار : أن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها بالألسنة كلها آدم عليه السلام . وقاله غير كعب الأحبار .فإن قيل : قد روي عن كعب الأحبار من وجه حسن قال : أول من تكلم بالعربية جبريل عليه السلام وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام وألقاها نوح على لسان ابنه سام ، ورواه ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن كعب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين ) . وقد روي أيضا : أن أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان ، وقد روي غير ذلك . قلنا : الصحيح أن أول من تكلم باللغات كلها من البشر آدم عليه السلام ، والقرآن يشهد له قال الله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها واللغات كلها أسماء فهي داخلة تحته وبهذا جاءت السنة ، قال صلى الله عليه وسلم : وعلم آدم الأسماء كلها حتى القصعة والقصيعة وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل عليه السلام . وكذلك إن صح ما سواه فإنه يكون محمولا على أن المذكور أول من تكلم من قبيلته بالعربية بدليل ما ذكرنا والله أعلم . وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة وألقاها على لسان نوح بعد أن علمها الله آدم أو جبريل ، على ما تقدم ، والله أعلم .قوله تعالى : " هؤلاء " لفظ مبني على الكسر . ولغة تميم وبعض قيس وأسد فيه القصر ، قال الأعشى :هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي ت نعالا محذوة بمثالومن العرب من يقول : هولاء ، فيحذف الألف والهمزة .السادسة : قوله تعالى : إن كنتم صادقين شرط ، والجواب محذوف تقديره : إن كنتم [ ص: 270 ] صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني ، قاله المبرد . ومعنى صادقين عالمين ، ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد ، وقالوا : سبحانك حكاه النقاش قال : ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له : كم لبثت ، فلم يشترط عليه الإصابة ، فقال ولم يصب ولم يعنف ، وهذا بين لا خفاء فيه . وحكى الطبري وأبو عبيد : أن بعض المفسرين قال إن معنى إن كنتم : إذ كنتم ، وقالا : هذا خطأ . وأنبئوني معناه أخبروني . والنبأ : الخبر ، ومنه النبيء بالهمز ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .السابعة : قال بعض العلماء : يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق لأنه علم أنهم لا يعلمون . وقال المحققون من أهل التأويل : ليس هذا على جهة التكليف ، وإنما هو على جهة التقرير والتوقيف . وسيأتي القول في تكليف ما لا يطاق - هل وقع التكليف به أم لا - في آخر السورة إن شاء الله تعالى .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:31
ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام, فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض, أراد الله تعالى, أن يبين لهم من فضل آدم, ما يعرفون به فضله, وكمال حكمة الله وعلمه فـ { عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } أي: أسماء الأشياء, وما هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمسمى, أي: الألفاظ والمعاني, حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة. { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } أي: عرض المسميات { عَلَى الْمَلَائِكَةِ } امتحانا لهم, هل يعرفونها أم لا؟. { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم وظنكم, أنكم أفضل من هذا الخليفة.
Arabic Saddi Tafseer
2:31
قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها} سمي آدم لأنه خلق أديم الأرض، وقيل: لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر فلما خلقه الله تعالى علمه أسماء الأشياء وذلك أن الملائكة قالوا: لما قال الله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أكرم عليه منا وإن كان فنحن أعلم منه لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره.فأظهر الله تعالى فضله عليهم بالعلم وفيه دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وإن كانوا رسلاً كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة.قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة"وقيل: اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة.وقال الربيع بن أنس: "أسماء الملائكة".وقيل: أسماء ذريته، وقيل: صنعة كل شيء.قال أهل التأويل: إن الله عز وجل علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد واختص كل فرقة منهم بلغة.{ثم عرضهم على الملائكة} إنما قال عرضهم ولم يقل عرضها لأن المسميات إذا جمعت من يعقل ومالا يعقل يكنى عنها بلفظ من يعقل كما يكنى عن الذكور والإناث بلفظ الذكور.وقال مقاتل: "خلق الله كل شيء الحيوان والجماد ثم عرض تلك الشخوص على الملائكة فالكناية راجعة إلى الشخوص فلذلك قال عرضهم".{فقال أنبئوني} أخبروني{بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} في أني لا أخلق خلقاً إلا وكنتم أفضل وأعلم منه.فقالت الملائكة إقراراً بالعجز:
Arabic Baghawy Tafseer
2:31
هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" أي العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: سبحان الله. قال تنزيه الله نفسه عن السوء ثم قال: قال عمر لعلي وأصحابه عنده لا إله إلا الله قد عرفناها فما سبحان الله فقال له على كلمة أحبها الله لنفسه ورضيها وأحب أن تقال. قال وحدثنا أبي حدثنا فضيل بن النضر بن عدي قال سأل رجل ميمون بن مهران عن سبحان الله قال اسم يعظم الله به ويحاشا به من السوء.
ابن كثير
2:32
قالت الملائكة: ننزِّهك يا ربَّنا، ليس لنا علم إلا ما علَّمتنا إياه. إنك أنت وحدك العليم بشئون خلقك، الحكيم في تدبيرك.
المیسر
2:32
جرد { قالوا } من الفاء لأنه محاورة كما تقدم عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وافتتاح كلامهم بالتسبيح وقوف في مقام الأدب والتعظيم لذي العظمة المطلقة ، وسبحان اسم التسبيح وقد تقدم عند قوله : { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] وهو اسم مصدر سَبَّحَ المضاعف وليس مصدراً لأنه لم يجىء على أبنية مصادر الرباعي وقيل هو مصدر سَبَحَ مخففاً بمعنى نزه فيكون كالغفران والشكران ، والكفران من غفر وشكر وكفر وقد كثر استعماله منصوباً على المفعولية المطلقة بإضمار فعله ك { معاذ الله } [ يوسف : 23 ] وقد يخرج عن ذلك نادراً قال : «سبحانك اللهم ذا السبحان» وكأنهم لما خصصوه في الاستعمال بجعله كالعلم على التنزيه عدلوا عن قياس اشتقاقه فصار سبحان كالعلم الجنسي مثل برة وفجار بكسر الراء في قول النابغة :فحملتُ برّة واحتملتُ فجارِ ... ومنعوه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال سيبويه : وأما ترك تنوين ( سبحان ) فلأنه صار عندهم معرفة وقول الملائكة : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } خبر مراد منه الاعتراف بالعجز لا الإخبار عن حالهم لأنهم يوقنون أن الله يعلم ما تضمنه كلامهم . ولا أنهم قصدوا لازم الفائدة وهي أن المخبر عالم بالخبر فتعين أن الخبر مستعمل في الاعتراف .ثم إن كلامهم هذا يدل على أن علومهم محدودة غير قابلة للزيادة فهي مقصورة على ما ألهمهم الله تعالى وما يأمرهم ، فللملائكة علم قبول المعاني لا علم استنباطها .وفي تصدير كلامهم بسبحانك إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم بقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار . والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح ويحصل آخراً لا ابتداء فكان افتتاح كلامهم بالتنزيه تعجيلاً بما يدل على ملازمة جانب الأدب العظيم { إنك أنت العليم الحكيم } ساقوه مساق التعليل لقولهم { لا علم لنا إلا ما علمتنا } لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلاً إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبول والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيىء لنا علمه بحسب فطرتنا . والذي دل على أن هذا القول مسوق للتعليل وليس مجرد ثناء هو تصديره بإن في غير مقام رد إنكار ولا تردد .قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» ومن شأن إنَّ إذا جاءت على هذا الوجه ( أي أن تقع إثر كلام وتكون لمجرد الاهتمام ) أن تغني غناء الفاء العاطفة ( مثلاً ) وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمراً عجيباً فأنت ترى الكلام بها مقطوعاً موصولاً ، وأنشد قول بشار :بَكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجير ... إنَّ ذاك النجاح في التبكيروقول بعض العرب :فغنِّها وهي لك الفِداء ... إِنَّ غِناء الإبل الحُدَاءفإنهما استغنيا بذكر إنَّ عن الفاء ، وإن خلفاً الأحمر لما سأل بشاراً لماذا لم يقل : «بكرا فالنجاح في التبكير» أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال : «فالنجاح» لصارت من كلام المولدين ( أي أجابه جواباً أحاله فيه على الذوق ) وقد بين الشيخ عبد القاهر سبَبه . وقال الشيخ في موضع آخر ألا ترى أن الغرض من قوله : «إن ذاك النجاح في التبكير» أن يبيَّن المعنى في قوله لصاحبيه «بكرا» وأن يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة منه» ا ه .( والعليم ) الكثير العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علِم المكسور اللام إلى علُم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في الرحيم ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل يجيىء لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلاً لا يجيء للمبالغة .( الحكيم ) فعيل من أَحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل . وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة ( بالتحريك ) للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير ، وأحكم فلان فلاناً منعه قال جرير :أبني حنيفة أحكموا سُفهَاءكم ... إني أَخافُ عليكم أن أَغْضَباوالحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله ، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة وأيّاً ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن معديكرب :أمن رَيحانة الدَّاعي السَّميع ... يؤرقُني وأصحابي هجوعومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه :فمن يك لم يُنجِب أبوه وأمه ... فإن لنا الأمَّ النجيبةَ والأبُأراد الأم المنجبة بدليل قوله لم ينجب أبوه وفي القرآن { بديع السماوات والأرض } [ البقرة : 117 ] ووَصف الحكيم والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول { بديع السماوات والأرض } ببديع سماواته وأرضه أي على أن ( أل ) عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى مفعول ، ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي .وتعقيب العليم بالحكيم من إتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق .وفي «معارج النور» للشيخ لطف الله الأرضرومي : وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر ( بفتح الباء ) والاطلاع على حقائق الأمور ا ه .وقال أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى» : الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء ، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء ، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله ا ه . وسيجىء الكلام على الحكمة عند قوله تعالى : { يؤتي الحكمة من يشاء } [ البقرة : 269 ] .و { أنت } في { إنك أنت العليم الحكيم } ضمير فصل ، وتوسيطه من صيغ القصر فالمعنى قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين ، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى .
Arabic Tanweer Tafseer
2:32
ثم حكى - سبحانه - ما كان من الملائكة فقال :( قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم ) .سبحان : اسم مصدر بمعنى التسبيح؛ أي التنزيه ، وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه .وهذه الآية الكريمة واقعة موقع الجواب عن سؤال يخطر في ذهن السامع للجملة السابقة ، إذ الشأن أن يقال عند سماعهم قوله - تعالى - : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء ) ماذا كان من الملائكة؟ هل أنبأوا بأسماء المسميات المعروضة عليهم؟ فقال - تعالى - : ( قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ ) إلخ الآية .ولو قال الملائكة : لا علم لنا بأسماء هذه المسميات لكان جوابهم على قدر السؤال ، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلف وجه فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئاً غير ما يعلمهم الله ، ودخل في ضمن هذا النفي العام الاعتراف بالقصور عن معرفة الأسماء المسئول عنها .ومعنى ( إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم ) أي : أنت يا ربنا العليم بكل شيء ، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء ، لك الحكمة في ذلك ، والعدل التام .وقدم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة ، ليكون وصفه بالعلم متصلا بنفيهم عن أنفسهم في قولهم : ( لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ ) .
Arabic Waseet Tafseer
2:32
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته، بالأوبة إليه، وتسليم علم ما لم يعلموه له، وتبرِّيهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئًا إلا ما علّمه تعالى ذكره.وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبرَ، والذكرى لمن ادّكر، والبيان لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيد، عمّا أودع الله جل ثناؤه آيَ هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن.وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظَهْرَانَيْه من يَهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلعَ عليها من خلقه إلا خاصًّا، ولم يكن مُدرَكًا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده، ودلّ فيها على أنّ كل مخبر خبرًا عما قد كان - أو عما هو كائن مما لم يكنْ، ولم يأته به خبر، ولم يُوضَع له على صحّته برهان، - فمتقوّلٌ ما يستوجبُ به من ربه العقوبة. ألا ترى أنّ الله جل ذكره ردّ على ملائكته قِيلَهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ، وعرفهم أن قِيلَ ذلك لم يكن جائزًا لهم، بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . فلم يكن لهم مَفزَعٌ إلا الإقرارُ بالعجز، والتبرِّي إليه أن يعلموا إلا ما علّمهم، بقولهم: " سبحانك لا عِلْمَ لنا إلا ما علّمتنا ". فكان في ذلك أوضحُ الدلالة وأبينُ الحجة، على كذب مقالة كلّ من ادعى شيئًا من علوم الغيب من الحُزاة والكهنة والعافَةِ والمنجِّمة (131) . وذكَّر بها الذين &; 1-495 &; وَصَفنا أمرَهم من أهل الكتاب - سوالفَ نعمه على آبائهم، وأياديَه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه، وإقبالهم إلى طاعته، مُستعطفَهم بذلك إلى الرشاد، ومُستعتِبَهم به إلى النجاة. وحذَّرهم - بالإصرار والتمادي في البغي والضلال - حلولَ العقاب بهم، نظيرَ ما أحلّ بعدوِّه إبليس، إذ تمادَى في الغيّ والخَسَار (132)قال: وأما تأويل قوله: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا "، فهو كما:-674 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " قالوا سبحانك " تنـزيهًا لله من أن يكون أحدٌ يعلم الغيبَ غيرُه، تُبنا إليك " لا علم لنا إلا ما عَلَّمتنا "، تبرِّيًا منهم من علم الغيب،" إلا ما علَّمتنا " كما علمت آدم (133) .وسُبحان مصدر لا تصرُّف له (134) . ومعناه: نسبِّحك، كأنهم قالوا: نسبحك تسبيحًا، وننـزهك تنـزيهًا، ونبرّئك من أن نعلم شيئًا غير ما علمتنا.القول في تأويل قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُقال أبو جعفر: وتأويل ذلك: أنك أنت يَا ربنا العليمُ من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك. وذلك أنّهم نَفَوْا عن أنفسهم بقولهم: لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا ، أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم، وأثبتوا ما نَفَوْا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم: " إنك أنتَ العليم "، &; 1-496 &; يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان مَنْ سوَاك لا يعلم شيئًا إلا بتعليم غيره إياه. والحكيم: هو ذو الحكمة. كما:-675 - حدثني به المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " العليم " الذي قد كمل في علمه، و " الحكيم " الذي قد كمل في حُكمه (135) .وقد قيل، إن معنى الحكيم: الحاكم، كما أنّ العليم بمعنى العالم، والخبير بمعنى الخابر.-------------الهوامش :(131) الحزاة جمع حاز : وهو كالكاهن ، يحرز الأشياء ويقدرها بظنه . ويقال للذي ينظر في النجوم ويتكهن حاز وحزاء ، وفي حديث هرقل أنه"كان حزاء" ، وفي الحديث : "كان لفرعون حاز" ، أي كاهن . والكهنة جمع كاهن : وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعى معرفة الأسرار . وفي المطبوعة"والقافة" مكان"والعافة" ، وهو خطأ بين ، فالقيافة ليست مما أراد الطبري في شيء ، وهي حق ، لا باطل كباطل التحزي والكهانة والتنجيم . والعافة جمع عائف : وهو الذي يعيف الطير فيزجرها ويتفاءل أو يتشاءم بأسمائها وأصواتها وممرها . واسم حرفته : العيافة ، وفي الحديث : "العيافة والطرق من الجبت" . وهو ضرب من الكهانة . والمنجم والمتنجم : الذي ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها ، ثم يربط بين ذلك وبين أحوال الدنيا والناس ، فيقول بالظن في غيب أمورهم .(132) في المطبوعة : "في البغي والخسار" ، والصواب ما في المخطوطة .(133) الخبر : 674- مختصر من الخبر رقم : 606 . وفي المطبوعة هنا"تبرؤًا منهم" .(134) انظر ما مضى : ص 474 التعليق رقم : 3 .(135) الخبر : 675 في الدر المنثور 1 : 49 ، والشوكاني 1 : 52 .
الطبري
2:32
قوله تعالى : قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قوله تعالى : قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنافيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : سبحانك أي تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك . وهذا جوابهم عن قوله : أنبئوني فأجابوا أنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم به ولم يتعاطوا ما لا علم لهم به كما يفعله الجهال منا . وما في ما علمتنا بمعنى الذي ، أي إلا الذي علمتنا ، ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إلا تعليمك إيانا .الثانية : الواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم : الله أعلم ولا أدري ، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء ، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم ، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون . وأما ما ورد من الأخبار [ ص: 271 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي البقاع شر ؟ قال : لا أدري حتى أسأل جبريل فسأل جبريل ، فقال : لا أدري حتى أسأل ميكائيل ، فجاء فقال : خير البقاع المساجد ، وشرها الأسواق . وقال الصديق للجدة : ارجعي حتى أسأل الناس . وكان علي يقول : وابردها على الكبد ، ثلاث مرات . قالوا : وما ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول : الله أعلم . وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال : لا علم لي بها ، فلما أدبر الرجل . قال ابن عمر : نعم ما قال ابن عمر ، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به ذكره الدارمي في مسنده . وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال : كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد ، فقال يحيى للقاسم : يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج ، أو علم ولا مخرج ؟ فقال له القاسم : وعم ذاك ؟ قال : لأنك ابن إمامي هدى : ابن أبي بكر وعمر . قال يقول له القاسم : أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة . فسكت فما أجابه . وقال مالك بن أنس : سمعت ابن هرمز يقول : ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم ، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال : لا أدري . وذكر الهيثم بن جميل قال : شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري .قلت : ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين . وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم . قال ابن عبد البر : من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه ، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم . روى يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت ابن وهب يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف .قلت : هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية ، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن ، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى .[ ص: 272 ] أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال : لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال ، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت : ما ذلك لك قال : ولم ؟ قالت لأن الله عز وجل يقول : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال عمر : امرأة أصابت ورجل أخطأ وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال : سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها ، فقال الرجل : ليس كذلك يا أمير المومنين ، ولكن كذا وكذا ، فقال علي : أصبت وأخطأت ، وفوق كل ذي علم عليم . وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال : لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد ، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس ، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد ، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار فقال : إنما هو مجتابي الثمار ، فقلت : إنما هو " مجتابي النمار " ، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق ، فقال لي : بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا . ثم قال لي : قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد - فإن له بمثل هذا علما ، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال : إنما هو " مجتابي النمار " - كما قلت - وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة ، جيوبهم أمامهم . والنمار جمع نمرة . فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه : رغم أنفي للحق ، رغم أنفي للحق . وانصرف . وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأحسن :إذا ما تحدثت في مجلس تناهى حديثي إلى ما علمت ولم أعد علمي إلى غيرهوكان إذا ما تناهى سكتالثالثة : قوله تعالى : سبحانك " سبحان " منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه ، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا . وقال الكسائي : هو منصوب على أنه نداء مضاف .إنك أنت العليم فعيل للمبالغة والتكبير في المعلومات في خلق الله تعالى .الحكيم معناه الحاكم ، وبينهما مزيد المبالغة . وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل ، صرف عن مفعل إلى فعيل ، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم ، قاله ابن الأنباري . وقال قوم : الحكيم المانع من الفساد ، ومنه سميت حكمة اللجام ; لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد . قال جرير : [ ص: 273 ]أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضباأي امنعوهم من الفساد . وقال زهير :القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقاالقد : الجلد . والأبق : القنب . والعرب تقول : أحكم اليتيم عن كذا وكذا ، يريدون منعه . والسورة المحكمة : الممنوعة من التغيير وكل التبديل ، وأن يلحق بها ما يخرج عنها ، ويزاد عليها ما ليس منها ، والحكمة من هذا ; لأنها تمنع صاحبها من الجهل . ويقال : أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد . فهو محكم وحكيم على التكثير .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:32
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ } أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك, ومخالفة أمرك. { لَا عِلْمَ لَنَا } بوجه من الوجوه { إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } إياه, فضلا منك وجودا، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } العليم الذي أحاط علما بكل شيء, فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض, ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق, ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقروا, واعترفوا بعلم الله وحكمته, وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.
Arabic Saddi Tafseer
2:32
{قالوا سبحانك} تنزيهاً لك.{لا علم لنا إلا ما علمتنا} معناه فإنك أَجَلّ من أن نحيط بشئ من علمك إلا ما علمتنا.{إنك أنت العليم} بخلقك{الحكيم} في أمرك. والحكيم له معنيان: أحدهما الحاكم وهو القاضي العدل والثاني المحكم للأمر كي لا يتطرق إليه الفساد. وأصل الحكمة في اللغة: المنع فهي تمنع صاحبها من الباطل؛ ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها من الاعوجاج.فلما ظهر عجزهم
Arabic Baghawy Tafseer
2:32
قوله تعالى "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال زيد بن أسلم قال أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء كلها حتى بلغ الغراب. وقال مجاهد في قول الله "قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم" قال اسم الحمامة والغراب واسم كل شيء ورُوي عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك فلما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء قال الله تعالى للملائكة "ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" أى ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال تعالى "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" وكما قال إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان "ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم" وقيل في قوله تعالى "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" غير ما ذكرناه فروى الضحاك عن ابن عباس "وأعلم ما تبدون وما كنتم" تكتمون قال أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية فهذا الذي أبدوا "وما كنتم تكتمون" يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري. واختار ذلك ابن جرير وقال أبو العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة هو قولهم لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" فكان الذي أبدوا هو قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. وكان الذي كتموا بينهم قولهم لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم قال ابن جرير حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني قال وقد سبق من الله "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" قال ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه قال فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى: "وأعلم تبدون" وأعلم مع علمي غيب السماوات والأرض ما تظهرونه بألسنتكم. وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى علي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم والذي أظهروه بألسنتهم قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها والذي كانوا يكتمون ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته. قال وصح ذلك وكما تقول العرب قتل الجيش وهزموا وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال تعالى "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات" ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم قال وكذلك قوله "وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون".
ابن كثير
2:33
قال الله: يا آدم أخبرهم بأسماء هذه الأشياء التي عجَزوا عن معرفتها. فلما أخبرهم آدم بها، قال الله للملائكة: لقد أخبرتكم أني أعلم ما خفي عنكم في السموات والأرض، وأعلم ما تظهرونه وما تخفونه.
المیسر
2:33
لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضاً كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان إقبالاً بالخطاب على غير المخاطَبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يَظهر عقبَه فضلُه عليهم في العلم من هاته الناحية فكانَ الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقاً إليهم لقوله عقب ذلك : { قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } .وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطِب بالكسر إذا تلطف مع المخاطَب بالفتح أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب ، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبيء وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول : «يا محمد ارفع رأسك سل تُعْطَ واشفع تشفَّع» وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس :أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلل ... وربما جعلوا النداء طريقاً إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي .{ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم } .الإنباء إخبارهم بالأسماء ، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم . والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير { عرضهم } ، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله : { ثم عرضهم } [ البقرة : 31 ] .وقوله : { فلما أنبأهم بأسمائهم } الضمير في ( أنبأ ) لآدم وفي ( قال ) ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسماً ظاهراً مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله : { أنبئهم } و { أنبأهم } لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم .{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } .جواب ( لما ) والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله : { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] وعادت إليه ضمائر { قال إني أعلم } [ البقرة : 30 ] و { علّم } [ البقرة : 31 ] و { عرضهم } وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة : { إني أعلم ما لا تعلمون } وذلك القول وإن لم يكن فيه : { أعلم غيب السموات والأرض } صراحة إلا أنه يتضمنه لأن عموم { ما لا تعلمون } يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا : { إني أعلم غيب السموات والأرض } بياناً لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن { ما لا تعلمون } هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله :{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } .وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحِجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة . ونظيره قول صاحب موسى : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً أما السفينة } [ الكهف : 78 ، 79 ] إلى قوله : { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 82 ] ثم قال : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } [ الكهف : 82 ] . فجاء باسم إشارة البعيد تعظيماً للتأويل بعد ظهوره . وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليماً للخلق وجرياً على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين .و { كُنتُمْ } في قوله : { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى .وصيغة المضارع في { تُبْدُونَ } و { تَكْتُمُونَ } للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم .ولبعضهم هنا تكلفات في جعل { كنتم } للدلالة على الزمان الماضي وجعل { تبدون } للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه .وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العُمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائماً مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر ، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العِلم إلا القوةُ الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلَى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولاتقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى . والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أَعْجَزَهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم .ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط ، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب :ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا ... مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندَىوالآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموعَ الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر .والاستفهام في قوله : { ألم أقل لكم } إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا يعلمون وقوعه ولا ينكرونه . وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرَّر حتى يُخيَّل إليه أنه يُسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسَّع المقرِّر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه ، فإذا أقر كان إقراره لازماً له لا مناص له منه . فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب «الكشاف» معاني آياته التي منها قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 106 ] وتوقف فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» ورده عليه شارحه . وقد يقع التقرير بالإثبات على الأصل نحو : { أأنت قلتَ للناس } [ المائدة : 116 ] وهو تقرير مُراد به إبطال دعوى النصارى ، وقوله : { قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم } [ الأنبياء : 62 ] .
Arabic Tanweer Tafseer
2:33
وبعد أن بين القرآن أن الملائكة قد اعترفوا بالعجز عن معرفة ما سئلوا عنه ، وجه - سبحانه - الخطاب إلى آدم ، يأمره فيه بأن يخبر الملائكة بالأسماء التي سئلوا عنها ، ولم يكونوا على علم بها ، فقال - تعالى - :( قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .ففي هذه الآية الكريمة أخبرنا الله - تعالى - أنه قد أذن لآدم في أن يخبر الملائكة بالأسماء التي فاتتهم معرفتها ليظهر لهم فضل آدم ، ويزدادوا اطمئنانا إلى أن إسناد الخلافة إليه ، إنما هو تدبير قائم على حكمة بالغة .وعلم الغيب يختص به واجب الوجود - سبحانه لأنه هو الذي يعلم المغيبات بذاته ، وأما العلم بشيء من المغيبات الحاصل من تعليم الله فلا يقال لصاحبه إنه يعلم الغيب .وقوله - تعالى - ( أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ . . . ) إلخ الآية ، استحضار وتأكيد لمعنى قوله قبل ذلك ، ( إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) . وإعادة له على وجه من التفصيل أفاد أن علمه يشمل ما يظهرونه بأقوالهم أو أفعالهم ، وما يضمرونه في أنفسهم .وفي قوله : ( أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ . . . ) إلخ تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، حيث بادروا بالسؤال عن الحكمة ، وكان الأولى أن يأخذوا بالأدب المناسب لمقام الألوهية ، فيتركوا السؤال عنها إلى أن يستبين لهم أمرها بوجه من وجوه العلم .ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآيات ، أن الله - تعالى - قد أظهر فيها فضل آدم - عليه السلام - من جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له ، فإن إمداد الله له بالعلم يدل على أنه محاط منه برعاية ضافية ، ثم إن العلم الذي يحصل عن طريق النظر والفكر قد يعتريه الخلل ، ويحوم حوله الخطأ . فيقع صاحبه في الإِفساد من حيث إنه يريد الإِصلاح ، بخلاف العلم الذي يتلقاه الإِنسان من تعليم الله ، فإنه علم مطابق للواقع قطعاً ، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإِصلاح ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصلح للخلافة في الأرض ، ومن هنا ، كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة ، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة في الأرض .وبعد أن بين القرآن في الآيات السابقة بعض الكرامات التي خص الله بها آدم ، انتقل إلى بيان كرامة أخرى أكرم الله بها آدم - عليه السلام - وهي أمره للملائكة بالسجود له ، ثم بيان ما حصل بينه وبين إبليس ، فقال - تعالى - :( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:33
القول في تأويل قوله تعالى: قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِقال أبو جعفر: إن الله جل ثناؤه عَرّف ملائكته - الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض، ووصَفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره، دونَ غيرهم الذين يُفسدون فيها ويسفكون الدماء - أنهم، من الجهل بمواقع تدبيره ومحلّ قَضَائه، قَبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عَرَضهم عليهم، إذ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم إياه ربهم، وأنّه يخص بما شاء من العلم من شاء من الخلق، ويمنعه منهم من شاء، كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة، ومنعهم علمها إلا بعد تعليمه إياهم.فأما تأويل قوله: " قال يا آدم أنبئهم "، يقول: أخبر الملائكةَ، والهاء والميم في قوله: " أنبئهم " عائدتان على الملائكة. وقوله: " بأسمائهم " يعني بأسماء الذين عَرَضهم على الملائكة، والهاء والميم اللتان في" أسمائهم " كناية عن ذكر &; 1-497 &; هَؤُلاءِ التي في قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ . ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ ) يقول: فلما أخبر آدمُ الملائكةَ بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يَعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خَطأ قيلهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، وأنهم قَد هَفوْا في ذلك وقالوا ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك لو وقع، على ما نطقوا به، - قال لهم ربهم: " ألم أقلْ لكُم إنّي أعلمُ غَيبَ السماوات والأرض ". والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه؛ توبيخًا من الله جل ثناؤه لهم بذلك، على ما سلف من قيلهم، وَفرَط منهم من خطأ مَسألتهم. كما:-676 - حدثنا به محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " قال يا آدمُ أنبئهم بأسمائهم "، يقول: أخبرهم بأسمائهم -" فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم " أيها الملائكة خَاصة " إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض " ولا يعلمه غيري (136) .677 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم: فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمتُه، فكذلك أخفيتُ عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يُطيعني، قال: وَسبقَ من الله: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة هود: 119، وسورة السجدة: 13]، قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوْا ما أعطى الله آدمَ من العلم أقروا لآدم بالفضل (137) .* * *&; 1-498 &;القول في تأويل قوله تعالى: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فرُوي عن ابن عباس في ذلك ما:-678 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " وأعلم ما تبدون " يقول: ما تظهرون،" وما كنتم تكتمون " يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (138) .679 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وأعلمُ ما تبدون وما كنتم تكتمون "، قال: قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، فهذا الذي أبدوْا،" وما كنتم تكتمون "، يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر (139) .680 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قوله: " وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون "، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه (140) .681 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان في قوله: " وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون "، قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبْر ألا يسجد لآدم (141) .682 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: أخبرنا الحجاج الأنماطي، قال: حدثنا مهدي بن ميمون ، قال: سمعت الحسن بن دينار، قال للحسن - ونحن جُلوس عنده في منـزله-: يا أبا سَعيد، أرأيتَ قول الله للملائكة: " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، ما الذي كتمت الملائكة؟ فقال الحسن: إن الله لمّا خلق آدم رأت الملائكة خلقًا عجيبًا، فكأنهم دَخلهم من ذلك شيء، فأقبل بعضهم إلى بعض ، وأسرّوا ذلك بينهم، فقالوا: وما يُهمكم من هذا المخلوق! إن الله لن يخلق خَلقا إلا كنا أكرمَ عليه منه (142) .683 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عَبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، قال: أسرّوا بينهم فقالوا: يخلق الله ما يشاءُ أن يخلُق، فلن يخلُق خلقًا إلا ونحن أكرم عليه منه (143) .684 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي &; 1-500 &; جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: " وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون "، فكان الذي أبدَوْا حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ، وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربّنا خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم (144) .قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى قوله: " وأعلم ما تُبدون "، وأعلم - مع علمي غيبَ السموات والأرض - ما تُظهرون بألسنتكم،" وما كنتم تكتمون "، وما كنتم تخفونه في أنفسكم، فلا يخفى عليّ شيء، سواءٌ عندي سرائركم وعلانيتكم.والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ؛ والذي كانوا يكتمونه، ما كان منطويًا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره، والتكبُّر عن طاعته. لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غيرُ خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت، وهو ما قلنا، والآخرُ ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة، ومن قال إن معنى ذلك كتمانُ الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقًا إلا كنا أكرم عليه منه. فإذ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت، ثم كان أحدهُما غيرَ موجودةٍ على صحته الدّلالةُ من الوجه الذي يجب التسليم له - صح الوجهُ الآخر.فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك، غيرُ موجودةٍ الدلالةُ على صحته من الكتاب، ولا من خبر يجب به حجة. والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبرُ الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه، إذْ دعاه إلى السجود لآدم فأبى واستكبر، وإظهارُه لسائر الملائكة من معصيته وكبره، ما كان له كاتمًا قبل ذلك.فإن ظن ظانٌّ أنّ الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه، لمّا كان &; 1-501 &; خارجًا مخرج الخبر عن الجميع، كان غيرَ جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس - ومن قال بقوله: من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبْرَ والمعصية - صحيحًا، فقد ظن غير الصواب. وذلك أنّ من شأن العرب، إذا أخبرتْ خبرًا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه، أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم، وذلك كقولهم: " قُتل الجيش وهُزموا "، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم، وهزم الواحد أو البعض. فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم، كما قال جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحجرات: 4]، ذُكر أن الذي نادَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - فنـزلت هذه الآية فيه - كان رجلا من جماعة بني تميم، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخرج الخبر عنه مُخرج الخبر عن الجماعة. فكذلك قوله: " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون "، أخرج الخبر مُخرج الخبر عن الجميع، والمراد به الواحد منهم.-----------------الهوامش :(136) الخبر : 676- مختصر من الخبر السالف رقم : 606 .(137) الأثر : 677- في ابن كثير 1 : 135 . في المخطوطة : "علم بما أردت . . . هذا عبدي" .(138) الخبر : 678- في ابن كثير 1 : 135 ، والدر المنثور 1 : 50 ، والشوكاني 1 : 52 .(139) الخبر : 679- في ابن كثير 1 : 135 ، والدر المنثور 1 : 50 والشوكاني 1 : 52 ، وهو مختصر الخبر السالف رقم : 606 .(140) الأثر : 680- لم أجده في مكان . وقد مضى في : 641 ترجمة"عمرو بن ثابت" وأبيه . وبينا ما في ذلك من شبهة الخطأ في قوله"عن جده" . وهذا الإسناد هنا صواب ، لأن"ثابت ابن هرمز" معروف بالرواية عن سعيد بن جبير .(141) الأثر : 681- لم أجده في مكان .(142) الأثر : 682- في الدر المنثور 1 : 50 . و"الحجاج الأنماطي" : هو الحجاج ابن المنهال ، وهو ثقة من شيوخ البخاري والدارمي وغيرهما . و"مهدي بن ميمون" : ثقة معروف ، روى عن الحسن البصري ، وابن سيرين وغيرهما . وهو في هذا الإسناد يصرح بأنه سمع جواب الحسن البصري ، حين سأله الحسن بن دينار . وقد نبهت على هذا ، خشية أن يظن أنه من رواية مهدي عن الحسن بن دينار . والحسن بن دينار : كذاب لا يوثق به . وله ترجمة حافلة بالمنكرات والموضوعات - في كتاب المجروحين لابن حبان ، رقم : 208 ، والميزان ، ولسان الميزان ، والتهذيب ، وترجم له البخاري في الكبير 1/2/290 - 291 ، والصغير : 185 ، وابن أبي حاتم 1/2/11 - 12 ، وابن سعد 7/2/37 .(143) الأثر : 683- في الدر المنثور 1 : 50 ، بلفظ آخر ، منسوبًا للطبري"عن قتادة والحسن" .(144) الأثر : 684- في ابن كثير 1 : 135 .
الطبري
2:33
قوله تعالى : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمونقوله تعالى : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهمفيه خمس مسائل :الأولى : قوله تعالى : أنبئهم بأسمائهم أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه ، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه . فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له ، مختصا بالعلم .الثانية : في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله ، وفي الحديث : وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من [ ص: 274 ] بين سائر عيال الله ; لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب . فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله ، ورضا منهم بالطلب له والشغل به . هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا الله منهم وفيهم ، إنه ذو فضل عظيم .الثالثة : اختلف العلماء من هذا الباب ، أيما أفضل ؟ الملائكة أو بنو آدم على قولين : فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة . وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل . احتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وقوله : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون وقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك . وفي البخاري : ( يقول الله عز وجل : من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ) . وهذا نص . احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية بالهمز ، من برأ الله الخلق . وقوله عليه السلام : وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم الحديث . أخرجه أبو داود ، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل ، والله أعلم .[ ص: 275 ] وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة ، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم ، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة ، وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا والشيعة : إن الأنبياء أفضل لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، فيقال لهم : المسجود له لا يكون أفضل من الساجد ، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها ، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة . ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى ; لأن السجود عبادة ، والعبادة لا تكون إلا لله ، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد ، وهذا واضح . وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا .الرابعة : قوله تعالى : إني أعلم غيب السماوات والأرض دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة . وسيأتي بيان هذا في " الأنعام " إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هوالخامسة : قوله تعالى : وأعلم ما تبدون أي من قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها حكاه مكي والماوردي . وقال الزهراوي : ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم .وما كنتم تكتمون قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير : المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية . قال ابن عطية : وجاء تكتمون للجماعة ، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها ، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم : أنتم فعلتم كذا . أي منكم فاعله ، وهذا مع قصد تعنيف ، ومنه قوله تعالى : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون وإنما ناداه منهم عيينة ، وقيل الأقرع . وقالت طائفة : الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع . وقال مهدي بن ميمون : كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة ؟ قال : إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا ، وكأنهم دخلهم من ذلك شيء ، قال : ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم ، فقالوا : وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم [ ص: 276 ] عليه منه . وما في قوله : ما تبدون يجوز أن ينتصب ب " أعلم " على أنه فعل ، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به ما فيكون مثل حواج بيت الله ، وقد تقدم .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:33
فحينئذ قال الله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة; فعجزوا عنها، { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } تبين للملائكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهو ما غاب عنا; فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى، { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } أي: تظهرون { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
Arabic Saddi Tafseer
2:33
{قال} الله تعالى:{يا آدم أنبئهم بأسمائهم} أخبرهم بأسمائهم فسمى آدم كل شئ باسمه وذكر الحكمة التي لأجلها خلق.{فلما أنبأهم بأسمائهم قال} الله تعالى{ألم أقل لكم} يا ملائكتي{إني أعلم غيب السماوات والأرض} ما كان منهما وما يكون لأنه قد قال لهم {إني أعلم ما لا تعلمون} [30 - البقرة].{وأعلم ما تبدون} قال الحسن وقتادة: يعني قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها{وما كنتم تكتمون} قولكم لن يخلق الله خلقاً أكرم عليه منا.قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هو أن إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيها فقال: لأمر ما خلق هذا ثم دخل في فيه وخرج من دبره وقال: إنه خلق لا يتماسك لأنه أجوف، ثم قال للملائكة الذين معه أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون؟، قالوا: نطيع أمر ربنا، فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلطت عليه لأهلكنه ولئن سلط علي لأعصينه فقال الله تعالى: {وأعلم ما تبدون} يعني ما تبديه الملائكة من الطاعة {وما كنتم تكتمون} يعني إبليس من المعصية".
Arabic Baghawy Tafseer
2:33
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وقد دل على ذلك أحاديث أيضا كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم وحديث موسى عليه السلام "رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته" قال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان خازنا من خزان الجنة قال وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي قال وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت قال وخلق الإنسان من طين فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا قال فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه فقال قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد قال فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالت الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء وإنما بعثتنا عليهم لذلك؟ فقال الله تعالى "إني أعلم ما لا تعلمون" يقول إني قد اطلعت على قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره قال ثم أمر بتربة آدم فرفعت فخلق الله آدم من طين لازب واللازب اللازج الطيب من حمأ مسنون منتن وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى وكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى "من صلصال كالفخار" يقول كالشيء المنفرج الذي ليس بمصمت قال ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشيء ما خلقت ولئن سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك. قال فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه فجعل لا يجري. شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله تعالى "وخلق الإنسان عجولا" قال ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال "الحمد لله رب العالمين" بإلهام الله فقال الله له "يرحمك الله يا آدم" قال ثم قال تعالى: للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات اسجدوا لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار فقال لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا خلقتني من نار وخلقته من طين يقول إن النار أقوى من الطين قال فلما أبى أبليس أن يسجد أبلسه الله أي آيسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم وقال لهم "أنبئوني بأسماء هؤلاء" أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون لم أجعل في الأرض خليفة قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم "قالوا سبحانك" تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك "لا علم لنا إلا ما علمتنا" تبريا منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال "يا آدم أنبئهم بأسمائهم" يقول "أخبرهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم" قال "ألم أقل لكم" أيتها الملائكة خاصة "إني أعلم غيب السماوات والأرض" ولا يعلم غيري "وأعلم ما تبدون" يقول ما تظهرون "وما كنتم تكتمون" يقول أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك فقال الله للملائكة "إني جاعل في الأرض خليفة" فقالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني من شأن إبليس. فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال يا رب إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فعاذها فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة "إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه فكان أشدهم فزعا منه إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول "من صلصال كالفخار" ويقول لأمر ما خلقت ودخل من فيه فخرج من دبره وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لأهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال فقال له الله "يرحمك الله" فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى "خلق الإنسان من عجل" فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين أبى واستكبر وكان من الكافرين قال الله له ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين قال الله له "اخرج منها فما يكون لك" يعني ما ينبغي لك "أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" والصغار هو الذل قال وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرض الخلق على الملائكة "فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء "فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" قال الله يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قال: قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها" فهذا الذي أبدوا "وأعلم ما كنتم تكتمون" يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا الإسناد بعينه أشياء ويقول على شرط البخاري. والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم لأنه لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر وسنبسط المسألة إن شاء الله تعالى عند قوله "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" ولهذا قال: محمد بن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما فذلك دعاه إلى الكبر وكان من حي يسمون جنا. وفي رواية عن خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان إبليس اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد وقال سنيد: عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا وكان له سلطان على الأرض وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس سواء. وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن وكان إبليس منهم وكان يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما رواه ابن جرير. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن وهكذا قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء رواه ابن جرير. وقال سنيد بن داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبدالرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى "إلا إبليس كان من الجن" وقال ابن جرير حدثنا محمد بن سنان البزار حدثنا أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال:إن الله خلق خلقا فقال اسجدوا لآدم فقالوا لا نفعل فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق خلقا آخر فقال "إني خالق بشرا من طين" اسجدوا لآدم قال فأبوا فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لآدم قالوا نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم - وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلا مبهما ومثله لا يحتج به والله أعلم. وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبدالله بن بريدة: قوله تعالى "وكان من الكافرين" من الذين أبوا فأحرقتهم النار وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية "وكان من الكافرين" يعني من العاصين وقال السدي "وكان من الكافرين" الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد وقال محمد بن كعب القرظي ابتدأ الله خلق إبليس من الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه خلقه على الكفر قال الله تعالى "وكان من الكافرين" وقال قتادة في قوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا" وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا. قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقال "لا. لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها" ورجحه الرازي وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال تعالى "أقم الصلاة لدلوك الشمس" وفي هذا التنظير نظر والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم إكراما وإعظاما واحتراما وسلاما وهي طاعة لله عز وجل لأنها امتثال لأمره تعالى. وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال وقال قتادة في قوله تعالى "فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين" حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني وكان بدء الذنوب الكبر استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام قلت وقد ثبت في الصحيح "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر" وقد كان في قلب إبليس من الكبر- والكفر- والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال "فكان من المغرقين" وقال "فتكونا من الظالمين" وقال الشاعر: بتيهاء فقر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها أي قد صارت وقال ابن فورك تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين ورجحه القرطبي وذكر هاهنا مسألة فقال: قال علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق العادات فليس ذلك دالا على ولايته خلافا لبعض الصوفية والرافضة هذا لفظه ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي الله بالإيمان وهو لا يقطع بنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك الأمر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يد غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال هو الدخ حين خبأ له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين" وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبدالله بن عمر وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأن يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال: يونس بن عبدالأعلى الصدفي قلت للشافعي كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله. بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء هل المأمور بالسجود لآدم خاص بملائكة الأرض أو عام بملائكة السماوات والأرض وقد رجح كلا من القولين طائفة وظاهر الآية الكريمة العموم " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس" فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم والله أعلم.
ابن كثير
2:34
واذكر -أيها الرسول- للناس تكريم الله لآدم حين قال سبحانه للملائكة: اسجدوا لآدم إكرامًا له وإظهارًا لفضله، فأطاعوا جميعًا إلا إبليس امتنع عن السجود تكبرًا وحسدًا، فصار من الجاحدين بالله، العاصين لأمره.
المیسر
2:34
عطف على جملة { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] عطفَ القصة على القصة . وإعادة ( إذ ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيهٌ على أن الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام ، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع فيقول : { فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وإن كان مضمونها في الواقع متفرعاً على مضمون التي قبلها فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأَ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإنْ الأصل في الكلام أن يكون ترتيب نظمه جارياً على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تُنصب قرينة على مخالفة ذلك .ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحِجر ( 28 ، 29 ) { إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون } فإذا سويتُه ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين لأن تلك حَكَتْ القصة بإجمال فطوتْ أَنباءها طيًّا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماءَ وَعَرْضِها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسداً في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم : { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] ، فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بياناً لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه .وقد أريد من هذه القصة إظهارُ مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عَنْ فائدة من وجوده في هذا العالم؛ وإظهارُ فضيلة المعرفة ، وبيانُ أن العالم حقيق بتعظيم مَن حوله إياه وإظهارُ ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد ، وبيانُ أن الاعتراف بالحق من خصال الفضائل الملائكية ، وأن الفساد والحسد والكبِر من مذام ذوي العقول .والقول في إعراب ( إذْ ) كالقول الذي تقدم في تفسير قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] .وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله : { قالوا سبحانك } [ البقرة : 32 ] وقوله : { فلما أنبأهم } [ البقرة : 33 ] لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المَعْطُوفة بأن تكون قصة مقصورة غير مندمجة في القصة التي قبلها .وغُير أسلوبُ إسناد القول إلى الله فأُتي به مسنداً إلى ضمير العظمة { وإذ قلنا } وأُتي به في الآية السابقة مسنداً إلى رب النبيء{ وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمراً بفعللٍ فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر ، وأما القول السابق بمجرد إعلام من الله بمراده ليظهرَ رأيهم ، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدأ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين . وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبيء صلى الله عليه وسلم كما تقدم عند قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .وحقيقة السجود طأطأة الجسد أو إِيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهَد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب ، قال تعالى : { وخروا له سجَّداً } [ يوسف : 100 ] ، وقال { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } [ فصلت : 37 ] وقال الأعشى :فلما أتانا بُعَيْد الكرى ... سجَدْنا له وخلَعْنَا العِماراوقال أيضاً :يراوح من صلوات الملي ... ك طوراً سُجوداً وطوراً جؤاراًأو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله ، قال تعالى : { فاسجدوا لله واعبدوا } [ النجم : 62 ] .والسجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام . وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم ، وقد جمع معانيه قوله تعالى : { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون } [ النحل : 49 ] . فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم .وقد عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد عى الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعاً أمام الشمس ، ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجداً لفرعون ، وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد . وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان . والسجود في صلاة الإسلام الخُرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين .وتعدية { اسجدوا } لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى : { فاسجدوا لله واعبدوا } [ النجم : 62 ] وقوله : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } [ فصلت : 37 ] ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين ، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان :أليس أول من صلى لقبلتكم ... فإن للضرورة أحكاماً . لا يناسب أن يقال بها أحسن الكلام نظاماً .وفي هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علماً لم يؤهل له الملائكة كان قدجعل آدم أنموذجاً للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم .وقرأ أبو جعفر في أشهر الرواية عنه ( للملائكةُ اسجدوا ) بضمة على التاء في حال الوصل على إتْباع حركة التاء لضمة الجيم في ( اسجدوا ) لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز غير حصين ، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج والفارسي : هذا خطأ من أبي جعفر ، وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن{ الحمدِ لله } [ الفاتحة : 2 ] بكسر الدال قال ابن جني : وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو : { وقالتُ اخرج عليهن } في سورة يوسف ( 31 ) اه وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ ، وإن كان شذوذاً في وجوه الأدَاء لا يخالف رسم المصحف .وعطف فسجدوا } بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدَّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزَّهون عن المعاصي .واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في { فسجدوا } استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكَهْففِ ( 50 ) { إلا إبليس كان من الجن } ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلاً لمن هو فيهم .وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصوداً في الخبر الذي أخبر به الملائكة { إذ قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم { اسجدوا لآدم } ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغموراً بنوع المَلك إذ خلق الله من نوعهم أفراداً كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله : { وإذ قال ربك للملائكة } [ البقرة : 30 ] ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس ، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم . وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنَتهم فجرى على ذلك السَّنَن أمداً طويلاً لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى : { ففسق عن أمر ربه } في سورة الكهف ( 50 ) فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم .وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين ، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان . وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة ، ولكن يدل لكونه معرباً أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية ، وقال وزنه على فعليل . وقال أبو عبيدة : هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لولا أنه يناكد منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك .وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها .وجمل أبى واستكبر وكان من الكافرين } استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم ، شأنه أن يثير سؤالاً في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة :وهل أنا إلا من غُزَيَّة إن غَوت ... غوَيْت وإِن ترشُد غزية أرشُدفبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله .والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه . والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيراً مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر . والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقاً لأن يسجد هو له إنكاراً عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله : { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } [ الأعراف : 12 ] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] ، لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة ، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه ، ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال :فكنتُ كذي رجلين رجللٍ صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشَلتوالاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت ، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجىء منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلباً الكبر أو متكلفاً له وما هو بكبير حقاً ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء :علوتمُ فتواضعتمْ على ثقة ... لما تواضع أقوام على غرروحقيقة الكبر قال فيها حجة الإسلام في كتاب «الإحياء» : الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلاً لها فلا يتكبر عليه ، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد ، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر .وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور : الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به للمستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتاً أو منفياً . ويظهر ذلك جلياً في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لولا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام .وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يُثبت للمستثنَى نقيضَ ما حكم به للمستثنى منه ، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به ، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه ، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه .وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة .فعلى رأي الجمهور تكون جملة { أبى واستكبر } استئنافاً بيانياً ، وعلى رأي الحنفية تكون بياناً للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين .وجملة { وكان من الكافرين } معطوف على الجمل المستأنفة ، و ( كان ) لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية ، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم ، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل ( كان ) على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود ، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله ، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهراً الطاعة مبطناً الكفر نفاقاً ، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم ، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى :{ وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } [ هود : 43 ] وقال : { وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] وقول ابن أحمر :بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضهاأي صار كافراً بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافراً صراحاً .والذي أراه أحسن الوجوه في معنى { وكان من الكافرين } أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال : { أبى واستكبر } فعدل عن مقتضى الظاهر إلى { وكان من الكافرين } لدلالة ( كان ) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها ، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفراً عميقاً في نفسه وهذا كقوله تعالى : { فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } [ الأعراف : 83 ] ، وكقوله تعالى : { ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون } [ النمل : 41 ] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء ، وأما الإتيان بخبر { كان من الكافرين } دون أن يقول وكان كافراً فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحداً من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكاً بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى : { أصدقت أم كنت من الكاذبين } [ النمل : 27 ] وقوله الذي ذكرناه آنفاً { أم تكون من الذين لا يهتدون } وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيداً في الكفر . وهذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة ( كان ) وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريباً عن قوله تعالى : { واركعوا من الراكعين } [ البقرة : 43 ] . وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله : { وكان من الكافرين } جارياً على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي .وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضاً ، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقاً لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى : { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب } [ هود : 77 ] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي «أصول الإنشاء الخطابة» .
Arabic Tanweer Tafseer
2:34
قوله - تعالى - : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ . . . ) إلخ ، معطوف على قوله - تعالى قبل ذلك ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ . . . . ) إلخ ، من باب عطف القصة على القصة ، وإعادة ( إذ ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه ، تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها ، لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام .والسجود : لغة التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره ، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .وللعلماء في كيفية السجود الذي أمر به الملائكة لآدم أقوال : أرجحها أن السجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة ، أي : أن الله - تعالى - أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهراً من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيماً ، وإقراراً له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة ، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه .وعلى هذا الرأي سار علماء أهل السنة . وقيل : إن السجود كان لله ، وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له ، وإلى هذا الرأي اتجه علماء المعتزلة ، وقد قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، فإن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة ، والصالحون من البشر أفضل من الملائكة ، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم ، وخالفت المعتزلة في ذلك ، وقالت : الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة .والذي نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح ، لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإِظهار فضل آدم هو لون من الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وينفذ ما سبق به العلم ، واقتضته المشيئة والحكمة :ثم بين - سبحانه - ما حدث من الملائكة ومن إبليس فقال :( فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين ) .إبليس : اسم مشتق من الإِبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس ، وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمي ، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حي ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك معنى داعي الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون كذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه . قال - تعالى - ( يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ ) وقوله : ( أبى واستكبر ) الإِباء : الامتناع عن الفعل أنفة مع التمكن منه . والاستكبار : التكبر والتعاظم والغرور ، بمعنى أن يرى الشخص في نفسه علواً على غيره ، وهو خلق مذموم .وكان في قوله : ( وَكَانَ مِنَ الكافرين ) بمعنى صار .وجاء العطف في قوله ( فَسَجَدُواْ . . . ) بالفاء المفيدة للتعقيب ، للإشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد ، ولم يصدهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق ، مظهر فساد وسفك دماء ، لأنهم منزهون عن المعاصي .وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أم لا قولان :أحدهما : أنه كان منهم لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لآدم ، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً ، ولما استحق الخزي والنكال .ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه . وقد اختار هذا الرأي ابن عباس ، وابن مسعود وجمهور المفسرين .وقيل إنه ليس منهم لقوله - تعالى - ( إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإِنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة . وقد اختار هذا القول الحسن وقتادة وغيرهما .وقد حاول ابن القيم أن يجمع بين الرأيين فقال : والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد ، فإن إبليس كان من الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله . كان من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافي كونه من الملائكة . والمثبت لم يتواردا على محل واحد .ولما كان استثناء إبليس من الساجدين لا يدل على أنه ترك السجود عصياناً ، إذ قد يكون تركه لعذر ، دل بقول : ( أبى واستكبر ) على أنه امتنع من السجود أنفة ، وتعاظماً ، وأردف هذا التعاظم والغرور باعتراضه على الله - في تفصيل آدم ، فصار بذلك في فريق الكافرين ، ولذا ختمت الآية بقوله - تعالى - : ( وَكَانَ مِنَ الكافرين ) أي : صار بسبب عصيانه واستكباره من الكافرين بالله ، الجاحدين لنعمه ، البعيدين عن رحمته ورضوانه .
Arabic Waseet Tafseer
2:34
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)قال أبو جعفر: أمّا قوله: " وإذ قلنا " فمعطوف على قوله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ، كأنه قال جل ذكره لليهود - الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، معددًا عليهم نعَمه، ومذكِّرهم آلاءه، على نحو الذي وصفنا فيما مضى قبل-: اذكروا فعلي بكم إذ أنعمت عليكم. &; 1-502 &; فخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، فكرمت أباكم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له. ثم استثنى من جميعهم إبليس، فدلّ باستثنائه إياه منهم على أنه منهم، وأنه ممن قد أمِر بالسجود معهم، كما قال جل ثناؤه: إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [سورة الأعراف: 11-12]، فأخبر جل ثناؤه أنه قد أمر إبليس فيمن أمرَه من الملائكة بالسجود لآدمَ. ثم استثناه جل ثناؤه مما أخبر عنهم أنهم فعلوه من السجود لآدمَ، فأخرجه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمره، ونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدم.ثم اختلف أهل التأويل فيه: هل هو من الملائكة، أم هو من غيرها؟ فقال بعضهم بما:-685 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم " الحِن "، خلقوا من نار السَّموم من بين الملائكة. قال: فكان اسمه الحارث. قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نورٍ غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذي ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت (145) .686 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس. قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصيةَ من الملائكة اسمه " عزازيل "، وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة &; 1-503 &; اجتهادًا وأكثرهم علمًا، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمون جنا (146) .687 - وحدثنا به ابن حميد مرة أخرى، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد، عن عطاء، عن طاوس، أو مجاهد أبي الحجاج، عن ابن عباس وغيره بنحوه، إلا أنه قال: كان ملكًا من الملائكة اسمه " عزازيل "، وكان من سكان الأرض وعُمَّارها، وكان سكان الأرض فيهم يسمون " الجنَّ" من بين الملائكة (147) .688 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم " الجنّ"، وإنما سُمُّوا الجن لأنهم خُزَّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنًا (148) .689 - وحدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا حسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطانُ سماء الدنيا، وكان له سلطانُ الأرض. قال: قال ابن عباس: وقوله: كَانَ مِنَ الْجِنِّ [سورة الكهف: 50] إنما يسمى بالجنان أنه كان خازنًا عليها، كما يقال للرجل مكي ومدَنيّ وكوفيّ وبصريّ. (149) .قال ابن جُريج، وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قَبيلِه، فكان اسم قبيلته الجن.690 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن صالح مولى التَّوْأمة، وشريك بن أبي نَمِر - أحدهما أو كلاهما - عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلةً من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض (150) .691 - وحدثت عن الحسن بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عُبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك بن مُزَاحم يقولُ في قوله: فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [سورة الكهف: 50]، قال: كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. ثم ذكر مثل حديث ابن جُريج الأول سواء (151) .692 - وحدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني شيبان، قال حدثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيسَ ملائكة سماء الدنيا (152) .693 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ [سورة الكهف: 50]، كان من قبيل من الملائكة يقال لهم " الجن "، &; 1-505 &; وكان ابن عباس يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا، قال: وكان قتادة يقول: جَنَّ عن طاعة ربه (153) .694 - وحدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن (154) .695 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أما العرب فيقولون: ما الجنّ إلا كل من اجتَنَّ فلم يُرَ. وأما قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي كان من الملائكة، وذلك أن الملائكة اجتنُّوا فلم يُرَوْا. وقد قال الله جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [سورة الصافات: 158]، وذلك لقول قريش: إن الملائكة بناتُ الله، فيقول الله: إن تكن الملائكة بناتي فإبليس منها، وقد جعلوا بيني وبين إبليس وذريته نسبًا. قال: وقد قال الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري، وهو يذكر سليمانَ بن داود وما أعطاه الله:وَلَـوْ كَـانَ شَـيْءٌ خَـالِدًا أَوْ مُعَمَّـرالَكَـانَ سُـلَيْمَانُ الْبَرِيءُ مِـنَ الدَّهْـرِ (155)بَــرَاهُ إِلَهِــي وَاصْطَفَــاهُ عِبَـادَهُوَمَلَّكَـهُ مَـا بَيْـنَ ثُرْيَـا إِلَـى مِصْرَ (156)وَسَـخَّرَ مِـنْ جِـنِّ الْمَلائِـكِ تِسْـعَةًقِيَامًــا لَدَيْــهِ يَعْمَلُـونَ بِـلا أَجْـرِقال: فأبت العربُ في لغتها إلا أنّ " الجن " كل ما اجتنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجن إلا أنهم اجتنُّوا فلم يُرَوا، وما سمّي بني آدم الإنس إلا أنهم ظهروا فلم يجتنوا. فما ظهر فهو إنس، وما اجتنّ فلم يُرَ فهو جنّ (157) .وقال آخرون بما:-696 - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليسُ من الملائكة طرفةَ عين قطّ، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم أصل الإنس (158) .697 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان الحسن يقول في قوله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ألجأه إلى نسبه (159) فقال الله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [سورة الكهف: 50]، وهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم (160) .698 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا &; 1-507 &; أبو سعيد اليحمَديّ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سَوار بن الجعد اليحمَديّ، عن شَهر بن حَوْشب، قوله: مِنَ الْجِنِّ ، قال: كان إبليس من الجن الذين طرَدتهم الملائكة، فأسرَه بعض الملائكة فذهب به إلى السماء (161) .699 - وحدثني علي بن الحسين، قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الخلال، قال: حدثني سنيد بن داود، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن موسى بن نُمير، وعثمان بن سعيد بن كامل، عن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجنّ، فسُبِي إبليس وكان صغيرًا، فكان مع الملائكة فتعبَّد معها، فلما أمِروا بالسجود لآدم سجدوا. فأبى إبليس. فلذلك قال الله: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ (162) .700 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثنا المبارك بن مجاهد أبو الأزهر، عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: إن منَ الملائكة قبيلا يقال لهم: الجن، فكان إبليس منهم، وكان إبليس يسوس ما بين السماء والأرض، فعصَى، فمسخه الله شيطانًا رجيما. (163)701 - قال: وحدثنا يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: إبليس أبو الجن، كما آدم أبو الإنس (164) .وعلة من قال هذه المقالة، أن الله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار، ولم يخبر عن الملائكة أنه خَلقها من شيء من ذلك، وأن الله جل ثناؤه أخبر أنه من الجنّ - فقالوا: فغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه. قالوا: ولإبليس نسلٌ وذرية، والملائكة لا تتناسل ولا تتوالد.&; 1-508 &;702 - حدثنا محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَريك، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق خلقًا، فقال: اسجدوا لآدم: فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا تُحرقهم، ثم خلق خلقًا آخر، فقال: إني خالقٌ بشرًا من طين، اسجدوا لآدم. فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم. قال: ثم خلق هؤلاء، فقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: نعم. وكان إبليسُ من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا لآدم (165) .قال أبو جعفر: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غيرُ مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خَلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى. فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عَما خَلق منه ملائكته (166) ، وإخبارِه عما خلق منه إبليس - ما يوجب أن يكون إبليس خارجًا عن معناهم. إذْ كان جائزًا أن يكون خلق صِنفًا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأنْ خَلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُـزعت من سائر الملائكة، لِمَا أراد الله به من المعصية. وأما خبرُ الله عن أنه مِنَ الْجِنِّ ، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتنّ من الأشياء عن الأبصار كلها جنًّا - كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى - فيكون إبليسُ والملائكةُ منهم، لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.القول في معنى إِبْلِيسَقال أبو جعفر: وإبليس " إفعِيل "، من الإبلاس، وهو الإياس من الخير والندمُ والحزن. كما:-703 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: إبليس، أبلسه الله من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا عقوبة لمعصيته (167) .704 - وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: كان اسم إبليس " الحارث "، وإنما سمي إبليس حين أبلس متحيِّرًا (168) .قال أبو جعفر: وكما قال الله جل ثناؤه: فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44]، يعني به: أنهم آيسون من الخير، نادمون حزنًا، كما قال العجَّاج:يَـا صَـاحِ, هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا?قَــالَ: نَعَــمْ, أَعْرِفُــهُ! وَأَبْلَسَــا (169)وقال رؤبة:وَحَـضَرَتْ يَـوْمَ الْخَـمِيسِ الأَخْمَـاسْوَفِــي الْوُجُــوهِ صُفْــرَةٌ وَإِبْلاسْ (170)يعني به اكتئابًا وكسوفًا.فإن قال قائل: فإن كان إبليس، كما قلت،" إفعيل " من الإبلاس، فهلا صُرف وأجري؟ قيل: تُرك إجراؤه استثقالا إذ كان اسمًا لا نظيرَ له من أسماء العرب، فشبَّهته العرب - إذْ كان كذلك - بأسماء العجم التي لا تُجرَى. وقد قالوا: مررت بإسحاق، فلم يُجروه. وهو من " أسحقه الله إسحاقًا "، إذْ كان وَقَع مبتدَأ اسمًا لغير العرب، ثم تسمت به العرب فجرى مَجراه - وهو من أسماء العجم - في الإعراب فلم يصرف. وكذلك " أيوب "، إنما هو " فيعول " من "آب يؤبُ".وتأويل قوله: أَبَى ، يعني جل ثناؤه بذلك إبليس، أنه امتنع من السجود لآدم فلم يسجد له. وَاسْتَكْبَرَ ، يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن طاعة الله في السجود لآدم. وهذا، وإن كان من الله جل ثناؤه خبرًا عن إبليس، فإنه تقريعٌ لضُربائه من خلق الله الذين يتكبرون عن الخضوع لأمر الله، والانقيادِ لطاعته فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه، والتسليم له فيما أوجب لبعضهم على بعض من الحق. وكان ممن تكبر عن الخضوع لأمر الله، والتذلل لطاعته، والتسليم لقضائه فيما ألزمهم من حقوق غيرهم - اليهودُ الذين كانوا بين ظهرانيْ مُهَاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبارُهم الذين كانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصِفته عارفين، وبأنه لله رسولٌ عالمين. ثم استكبروا - مع علمهم بذلك - عن الإقرار بنبوّته، والإذعان لطاعته، بَغْيًا منهم له وحسدًا. فقرَّعهم الله بخبره عن إبليس &; 1-511 &; الذي فعل في استكباره عن السجود لآدم حسدًا له وبغيًا، نظيرَ فعلهم في التكبر عن الإذعان لمحمد نبي الله صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، إذ جاءهم بالحق من عند ربهم حسدًا وبغيًا.ثم وَصَف إبليس بمثل الذي وصف به الذين ضرَبه لهم مثلا في الاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لمن أمرَه الله بالخضوع له، فقال جل ثناؤه: وَكَانَ - يعني إبليس - مِنَ الْكَافِرِينَ - من الجاحدين نعمَ الله عليه وأياديَه عنده، بخلافه عليه فيما أمرَه به من السجود لآدم، كما كفرت اليهود نعمَ ربِّها التي آتاها وآباءها قبلُ: من إطعام الله أسلافَهم المنّ والسلوى، وإظلال الغمام عليهم، وما لا يحصى من نعمه التي كانت لهم، خصوصًا ما خصَّ الذين أدركوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بإدراكهم إياه، ومشاهدتهم حجةَ الله عليهم، فجحدت نبوّته بعد علمهم به، ومعرفتهم بنبوّته حسدًا وبغيًا. فنسبه الله جل ثناؤه إلى لْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ ، فجعله من عِدَادهم في الدين والملة، وإن خالفهم في الجنس والنسبة. كما جعل أهل النفاق بعضَهم من بعض، لاجتماعهم على النفاق، وإن اختلفت أنسابهم وأجناسهم، فقال: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [سورة التوبة: 67] يعني بذلك أن بعضهم من بعض في النفاق والضلال. فكذلك قوله في إبليس: كان من الكافرين، كان منهم في الكُفر بالله ومخالفتِه أمرَه، وإن كان مخالفًا جنسُه أجناسَهم ونسبُه نسبهم. ومعنى قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ.وقد رُوي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أنه كان يقول: في تأويل قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، في هذا الموضع، وكان من العاصين.705 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ، يعني العاصين (171) .706 - وحُدّثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.وذلك شبيه بمعنى قولنا فيه.وكان سجود الملائكة لآدم تكرمةً لآدم وطاعة لله، لا عبادةً لآدم، كما:-707 - حدثنا به بشر بن معاذ: قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَد له ملائكته. (172) .-----------الهوامش :(145) الخبر : 685- مضى بتمامه في الخبر السالف رقم : 606 ، وفي ابن كثير 1 : 136 ، وفيهما معًا "إذا ألهبت" . وأعاده ابن كثير 5 : 296 . وفيه كما هنا"التهبت" . وفيه"الجن" بالجيم ، وانظر ما مضى ص : 455 تعليق : 1 .(146) الخبر : 686 في ابن كثير 1 : 139 و 5 : 296 ، والدر المنثور 1 : 150 ، والشوكاني 1 : 53 . وخلاد : هو ابن عبد الرحمن الصنعاني ، وهو ثقة ، ويروى عن طاوس ومجاهد مباشرة ، ولكنه روى عنهما ، هنا وفي الخبر التالي ، بواسطة عطاء .(147) الخبر : 687- في ابن كثير 1 : 139 عقب الذي قبله .(148) الخبر : 688- مختصر من الأثر السالف رقم : 607 .(149) الخبر : 689- في ابن كثير 1 : 139 و 5 : 296 ، والدر المنثور 1 : 178 .(150) الخبر : 690- في ابن كثير 5 : 296- 297 ، وفيه زيادة هناك . وسيأتي بإسناد آخر مطولا : 700 .(151) الخبر : 691- الحسن بن الفرج : لم أعرف من هو؟ وأبو معاذ الفضل بن خالد : هو النحوي المروزي ، وهو ثقة ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وترجمه ابن أبي حاتم 3/2/61 ، وياقوت في الأدباء 6 : 140 ، والسيوطي في البغية : 373 . وقال ياقوت : "روى عنه الأزهري في كتاب التهذيب ، فأكثر" . وليس يريد بذلك رواية السماع ، بل يريد أنه روى آراءه أو نقله في اللغة . أما رواية السماع فلا . لأن الفضل هذا مات سنة 211 ، والأزهري ولد سنة 282 . فهذا كلام موهم؛ ولم يكن يجدر بالسيوطي - وهو محدث - أن يتبعه دون تأمل!(152) الأثر : 692- في ابن كثير 1 : 139 . شيبان : هو ابن فروخ ، وهو ثقة . سلام بن مسكين الأزدي : ثقة ، أخرج له الشيخان .(153) الأثر : 693- لم نجده في مكان آخر .(154) الأثر : 694- لم نجده أيضًا . وقال الحافظ ابن كثير 5 : 297- بعد أن نقل كثيرًا من الآثار في مثل هذه المعاني : "وقد روى في هذا آثار كثيرة عن السلف . وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها ، والله أعلم بحال كثير منها . ومنها ما قد يقطع بكذبه ، لمخالفته للحق الذي بأيدينا . وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المثقدمة ، لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة . وليس لهم من الحفاظ المتقنين ، الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين- كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء ، والسادة والأتقياء ، والبررة والنجباء ، من الجهابذة النقاد ، والحفاظ الجياد . الذين دونوا الحديث وحرروه ، وبينوا صحيحه ، من حسنه ، من ضعيفه ، من منكره وموضوعه ، ومتروكه ومكذوبه . وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين ، +وغير ذلك من أصناف الرجال . كل ذلك صيانة للجناب النبوي ، والمقام المحمدي ، خاتم الرسل ، وسيد البشر ، صلى الله عليه وسلم- : أن ينسب إليه كذب ، أو يحدث عنه بما ليس منه . فرضى الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم . وقد فعل" .(155) ملحق ديوان الأعشى : 243 ، والأضداد لابن الأنباري : 293 . ولم يعن بالدهر هاهنا الأمد الممدود ، بل عني مصائب الدهر ونكباته ، كما قال عدى بن زيد ، وجعل مصائب الدهر هي الدهر نفسه :أَيُّهَــا الشَّــامِتُ المُعَــيِّر بِـالدَّهْرِ أَأَنْــــتَ المـــبرَّأُ المَوْفُـــورُ(156) ثريا : هكذا ضبط في ملحق ديوان الأعشى ، ولم أعرف الموضع ولم أجده . ولم أهتد إلى تحريفه إن كان محرفًا . وفي الأضداد : "توفى" .(157) الأثر : 695- رواه مختصرًا صاحب الأضداد : 293 ، ولم أجده في مكان آخر .(158) الأثر : 696- في ابن كثير 1 : 139 و 5 : 296 . وقال : "وهذا إسناد صحيح عن الحسن" .(159) في المطبوعة : "إلجاء إلى نسبه" ، وألجأه إلى نسبه : رده إليه . وانظر رقم : 655 .(160) الأثر : 697- لم أجده في مكان .(161) الأثر : 698- في ابن كثير 1 : 139 .(162) الأثر : 699- في ابن كير 1 : 139 .(163) الخبر : 700- هو في ابن كثير 1 : 139 . وقد مضى نحوه مختصرًا ، بإسناد آخر : 690 .(164) الأثر : 701- لم أجده في مكان .(165) الأثر : 702- في ابن كثير 1 : 139 ، والدر المنثور 1 : 50 وقال ابن كثير في إسناده : "وهذا غريب ، ولا يكاد يصح إسناده ، فإن فيه رجلا مبهمًا ، ومثله لا يحتج به ، والله أعلم" .(166) في المطبوعة : "وليس فيما نزل الله جل ثناؤه . . . " ، وهو خطأ صرف . وقوله بعد : "وإخباره عما خلق منه إبليس" معطوف على قوله : "وفي ترك . . . " .(167) الخبر : 703- مختصر من الخبر السالف رقم : 606 ، وهو في الدر المنثور 1 : 50 ، والشوكاني 1 : 53 .(168) الأثر : 704- في الدر المنثور 1 : 50 ، مقتصرًا على أوله إلى قوله : "الحارث" . وجاء النص في المطبوعة هكذا : "وإنما سمى إبليس حين أبلس فغير كما قال الله جل ثناؤه . . . " أسقطوا ما أثبتناه من المخطوطة ، لأنهم لم يحسنوا قراءة الكلمة الأخيرة ، فبدلوها ووصلوا الكلام بعد الحذف ، وهو تصرف معيب . وقوله : "متحيرًا" كتبت في المخطوطة ممجمجة هكذا"مجرا" غير معجمة . والإبلاس : الحيرة ، فكذلك قرأتها .(169) ديوانه 1 : 31 ، والكامل 1 : 352 ، واللسان : (بلس) ، (كرس) . المكرس : الذي صار فيه الكرس ، وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار . وأبلس الرجل : سكت غما وانكسر وتحير ولم ينطق .(170) ديوانه : 67 ، واللسان (بلس) ، ورواية ديوانه"وعرفت يوم الخميس" . وبين البيتين بيت آخر هو :"وَقَدْ نَـزَتْ بَيْـنَ الـتَّرَاقِي الأَنْفَـاسْ"(171) الأثر 705- في ابن كثير 1 : 140 .(172) الأثر : 707- في ابن كثير 1 : 140 ، وفي الدر المنثور 1 : 50 مطولا .
الطبري
2:34
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرينفيه عشر مسائل :الأولى : قوله تعالى : وإذ قلنا أي واذكر . وأما قول أبي عبيدة : إن إذ زائدة فليس بجائز ; لأن إذ ظرف وقد تقدم . وقال : قلنا ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره . والملائكة جمع ملك ، وروي عن أبي جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعا لضم الجيم في اسجدوا . ونظيره الحمد لله .الثانية قوله تعالى : اسجدوا لآدم السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع ، قال الشاعر :بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافرالأكم : الجبال الصغار . جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها . وعين ساجدة ، أي فاترة عن النظر ، وغايته وضع الوجه بالأرض . قال ابن فارس : سجد إذا تطامن ، وكل ما سجد فقد ذل . والإسجاد : إدامة النظر . قال أبو عمرو : وأسجد إذا طأطأ رأسه ، قال حميد بن ثور :فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارهاقال أبو عبيدة : وأنشدني أعرابي من بني أسد :وقلن له أسجد لليلى فأسجدايعني البعير إذا طأطأ رأسه . ودراهم الإسجاد : دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها ، قال :وافى بها كدراهم الإسجادالثالثة : استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة : اسجدوا لآدم . قالوا : وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم .والجواب أن معنى اسجدوا لآدم اسجدوا لي [ ص: 277 ] مستقبلين وجه آدم . وهو كقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس أي عند دلوك الشمس وكقوله : ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين . وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة .فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له ؟ قيل له : إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم . وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما . ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها لما قال لهم : إني جاعل في الأرض خليفة وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا ، فقال لهم : إني خالق بشرا من طين وجاعله خليفة ، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين . والمعنى : ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن .فإن قيل : فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون . وأمنه من العذاب بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . وقال للملائكة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم . قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه ، فلم يقل : لعمري . وأقسم بالسماء والأرض ، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع . وأقسم بالتين والزيتون . وأما قوله سبحانه : ومن يقل منهم إني إله من دونه فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين فليس فيه إذا دلالة ، والله أعلم .الرابعة : واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة ، فقال الجمهور : كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض ، كالسجود المعتاد في الصلاة ; لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع ، وعلى هذا قيل : كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله ، وطاعة لله تعالى ، وكان آدم كالقبلة لنا . ومعنى [ ص: 278 ] لآدم : إلى آدم ، كما يقال صلى للقبلة ، أي إلى القبلة . وقال قوم : لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة ، فهو من التذلل والانقياد ، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل .فسجدوا أي امتثلوا ما أمروا به .واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام ؟ فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى ، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام ، لقوله تعالى : ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين ؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل : نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد ، فقال لهم : لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين . روى ابن ماجه في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال : لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما هذا ؟ ) فقال : يا رسول الله ، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم ، فأردت أن أفعل ذلك بك ، قال : فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه . لفظ البستي . ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة . وفي بعض طرق معاذ : ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة .قلت : وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم ، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه ، ضل سعيهم وخاب عملهم .الخامسة : قوله : ( إلا إبليس ) نصب على الاستثناء المتصل ; لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور : ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم ، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر الآية . قال ابن عباس : وكان اسمه عزازيل [ ص: 279 ] وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد . روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا . وحكى الماوردي عن قتادة : أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة . وقال سعيد بن جبير : إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور . وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا : إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا ، وروي نحوه عن ابن عباس وقال : اسمه الحارث . وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين : كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب ، وحكاه الطبري عن ابن مسعود . والاستثناء على هذا منقطع ، مثل قوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وقوله : إلا ما ذكيتم في أحد القولين ، وقال الشاعر :ليس عليك عطش ولا جوع إلا الرقاد والرقاد ممنوعواحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن والجن غير الملائكة . أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه ؛ عدلا منه ، لا يسأل عما يفعل ، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه - ما يدفع أنه من الملائكة . وقول من قال : إنه كان من جن الأرض فسبي ، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة ، حكاه المهدوي وغيره . وحكى الثعلبي عن ابن عباس : أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان اسمه بالسريانية عزازيل ، وبالعربية الحارث ، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة ، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما . فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه ، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية ، وخطيئة إبليس كبرا .[ ص: 280 ] والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها ، وفي التنزيل : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام :وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجروأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها ، والله أعلم . وإبليس وزنه إفعيل ، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى . ولم ينصرف ; لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية ، قال أبو عبيدة وغيره . وقيل : هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف ، قاله الزجاج وغيره .السادسة : قوله تعالى : أبى معناه امتنع من فعل ما أمر به ، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي راوية : يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار . خرجه مسلم . يقال : أبى يأبى إباء ، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق ، وقد قيل : إن الألف مضارعة لحروف الحلق . قال الزجاج : سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول : القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق . قال النحاس : ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوا غير هذا الحرف .السابعة : قوله تعالى : واستكبر الاستكبار : الاستعظام ، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم ، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته . وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر . في رواية فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة . قال : إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس . أخرجه مسلم . ومعنى " بطر الحق " : تسفيهه وإبطاله . وغمط الناس : الاحتقار لهم والازدراء بهم . ويروى : " وغمص " بالصاد المهملة ، [ ص: 281 ] والمعنى واحد ، يقال : غمصه يغمصه غمصا واغتمصه ، أي استصغره ولم يره شيئا وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها . وغمصت عليه قولا قاله ، أي عبته عليه . وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . أأسجد لمن خلقت طينا . لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون فكفره الله بذلك . فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه ، وهذا ما لا خلاف فيه . وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال : بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر ، حسد إبليس آدم ، وشح آدم في أكله من الشجرة . وقال قتادة : حسد إبليس آدم ، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال : أنا ناري وهذا طيني . وكان بدء الذنوب الكبر ، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة ، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه .الثامنة : قوله تعالى : وكان من الكافرين قيل : كان هنا بمعنى صار ، ومنه قوله تعالى : فكان من المغرقين . وقال الشاعر :بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضهاأي صارت . وقال ابن فورك : كان هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول . وقال جمهور المتأولين : المعنى : أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر ; لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة .قلت : وهذا صحيح ، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : وإنما الأعمال بالخواتيم . وقيل : إن إبليس عبد الله تعالى ثمانين ألف سنة ، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج ، كما أعطي المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم ، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه ، فكان في رياسته ، والكبر في نفسه متمكن . قال ابن عباس : كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده ، فلذلك قال الله تعالى إخبارا عنه : أنا خير منه ، ولذلك قال الله عز وجل : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين أي استكبرت ولا كبر لك ، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي [ ص: 282 ] والكبر لي فلذلك قال : وكان من الكافرين . وكان أصل خلقته من نار العزة ، ولذلك حلف بالعزة فقال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام . وعن أبي صالح قال : خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة .التاسعة : قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - : ومن أظهر الله تعالى على يديه - ممن ليس بنبي - كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته ، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا : إن ذلك يدل على أنه ولي ، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر . ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا ، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى ، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان . ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان ، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان ، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله . قالوا : ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله ، وغيره معه ، قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره . وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم ، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته ، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم .العاشرة : واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا ؟ فقيل : لا ، وإن إبليس أول من كفر . وقيل : كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض . واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة ، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره . فمن قال إنه كفر جهلا قال : إنه سلب العلم عند كفره . ومن قال كفر عنادا قال : كفر ومعه علمه . قال ابن عطية : والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد ، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:34
ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود، { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } امتنع عن السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وهذا الإباء منه والاستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره. وفي هذه الآيات من العبر والآيات; إثبات الكلام لله تعالى; وأنه لم يزل متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالوجب عليه; التسليم; واتهام عقله; والإقرار لله بالحكمة، وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه. وفيه فضيلة العلم من وجوه: منها: أن الله تعرف لملائكته; بعلمه وحكمته ، ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون في العبد، ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم; إكراما له; لما بان فضل علمه، ومنها: أن الامتحان للغير; إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه ابتداء، ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن; وبيان فضل آدم; وأفضال الله عليه; وعداوة إبليس له; إلى غير ذلك من العبر.
Arabic Saddi Tafseer
2:34
وقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} قرأ أبو جعفر {للملائكة اسجدوا} بضم التاء على جوار ألف اسجدوا، وكذلك قرأ {قال رب احكم بالحق} [112-الأنبياء] بضم الباء وضعفه النُحَاة جداً ونسبوه إلى الغلط فيه. واختلفوا في أن هذا الخطاب مع أي الملائكة فقال بعضهم: مع الذين كانوا سكان الأرض. والأصح: أنه مع جميع الملائكة لقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [30-الحجر].وقوله: (اسجدوا) فيه قولان: الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة، كسجود إخوة يوسف له في قوله عز وجل: {وخروا له سجداً} [100-يوسف] ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض، إنما كان الانحناء، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام.وقيل: معنى قوله {اسجدوا لآدم} أي إلى آدم قِبلة، والسجود لله تعالى، كما جعلت الكعبة قِبلةً للصلاة والصلاة لله عز وجل.{فسجدوا} يعني: الملائكة.{إلا إبليس} وكان اسمه عزازيل بالسريانية، وبالعربية: الحارث، فلما عصى غير اسمه وصورته فقيل: إبليس، لأنه أبلس من رحمة الله تعالى أي يئس. واختلفوا فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: "كان إبليس من الملائكة"، وقال الحسن: "كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [50-الكهف] فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة، والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقوله {كان من الجن} أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.وقال سعيد بن جبير: "من الذين يعملون في الجنة".وقال: قوم من الملائكة الذين يصوغون حلي أهل الجنة.وقيل: إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار سموا جناً لاستتارهم عن الأعين، وإبليس كان منهم. والدليل عليه قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} [158-الصافات] وهو قولهم: الملائكة بنات الله، ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية.قوله: {أبى} أي امتنع فلم يسجد.{واستكبر} أي تكبر عن السجود (لآدم).{وكان} أي: صار{من الكافرين} وقال أكثر المفسرين: وكان في سابق علم الله من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة.أنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي أنا ابن الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي أنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد أنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنا جرير ووكيع وأبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأُمِرت بالسجود فعصيت فلي النار".
Arabic Baghawy Tafseer
2:34
يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم: أنه أمر الملائكة بالسجود فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني. حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان قال "نعم نبيا رسولا يكلمه الله قبيلا" - يعني عيانا - فقال "اسكن أنت وزوجك الجنة" وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أو في الأرض فالأكثرون على الأول وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال لما فرغ الله من معاتبة إبليس أقبل على آدم وعلمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله "إنك أنت العليم الحكيم" قال ثم ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال فيما يزعمون والله أعلم "لحمي ودمي وزوجتي" فسكن إليها فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبيلا "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين" ويقال إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة قاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما أنت؟ قالت امرأة قال ولم خلقت؟ قالت لتسكن إلي قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه ما اسمها يا آدم؟ قال حواء قالوا ولم حواء؟ قال إنها خلقت من شيء حي. قال الله "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما" وأما قوله "ولا تقربا هذه الشجرة" فهو إخبار من الله تعالى وامتحان لآدم وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي. قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم. وكذا قال سعيد بن جبير والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس قال السدي أيضا في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من الصحابة "ولا تقربا هذه الشجرة" هي الكرم. وتزعم يهود أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا أبو النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة وقال عبدالرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم فكتب إليه أبو الجلد: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن دثار وعبدالرحمن بن أبي ليلى. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر ولكن الحبة منها في الجنة ككلي البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل. وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي مالك "ولا تقربا هذه الشجرة" قال النخلة وقال ابن جرير عن مجاهد "ولا تقربا هذه الشجرة" قال التينة وبه قال قتادة وابن جريج وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث وقال عبدالرزاق: حدثنا عمر بن عبدالرحمن بن مهران قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها من بعض وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته. فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم. عندنا بأي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة وقد قيل: كانت شجرة البر. وقيل كانت شجرة العنب. وقيل كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم وكذلك رجح الإبهام الرازي في تفسيره وغيره وهو الصواب.
ابن كثير
2:35
وقال الله: يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، وتمتعا بثمارها تمتعًا هنيئًا واسعًا في أي مكان تشاءان فيها، ولا تقربا هذه الشجرة حتى لا تقعا في المعصية، فتصيرا من المتجاوزين أمر الله.
المیسر
2:35
عطف على { قلنا للملائكة اسجدوا } [ البقرة : 34 ] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاءِ الملائكة .ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم .والأمر بقوله : { اسكن } مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمراً له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به .وضمير ( أنت ) واقع لأجل عطف { وزوجك } على الضمير المستتر في { اسكن } وهواستعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام ، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيداً تأكيداً للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيداً ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في «الكشاف» بمجموع قوله : وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه .والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارن في حال ما . ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره ، فكل واحد من اثنين مقترنين في حاللٍ ما يسمى زوجاً للآخر قال تعالى : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } [ الشورى : 50 ] أي يجعل لأحد الطفلين زوجاً له أي سواه من غير صنفه ، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع .وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجاً لأنها اقترنت به وصيرته ثانياً ، ويسمى الرجل زوجاً لها لذلك بلا فرق ، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصفه . وقد لحنوا الفرزدق في قوله :وإن الذي يَسعى ليُفسِد زوجتي ... كساععٍ إلى أُسْد الثرى يستبيلُهاوتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم : القول قول الزوج ، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن .وفي «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له : هذه زوجتي فلانة " الحديث ، فقوله : زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبيء صلى الله عليه وسلموطوى في هذه الآية خلق زوج آدم ، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى : { الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف ( 189 ) .ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في «طبقاته» عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملأوه " الحديث ( طف المكيال بفتح الطاء وكسرها ما قرب من ملئه ) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة . وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني . فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه ، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال : لأنها من امرىء أخذت . وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي . وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال : أثا أي امرأة بالنبطية ، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] أن آدم دعا نفسه ، إيش ، فلعل أثا محرقة عن إشّا . واسمها بالعبرية ( خمواه ) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضاً حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيا وفي الفرنسية أي . وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى : { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] أي يأنس .والأمر في { اسكن } أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة . والكنى اتخاذ المكان مقراً لغالب أحوال الإنسان .والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله ، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات .وتعريف ( الجنة ) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في ( الجنة ) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم ، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول .وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي ، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم ولا تَعْدُو أنها ظواهرُ كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة .وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بَحْر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه ، ونقل البيضاوي عنهم أنها بستان في فِلسطين أو هو بين فَارس وكِرْمان ، وأحسب أن هذا ناشىء عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عَدْن .ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين «وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عَدْن ليعملها ويحفظها ثم قالت فأخرجه الرب الإله من جنة عدْن ليعمل الأرض التي أخذ منها» وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عَدْن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عَدْن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤُوس اسم الواحد ( قيشون ) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني ( جَيحون ) وهو المحيط بجميع أرض كوش ، واسم النهر الثالث ( حِدّا قِلْ ) وهو الجاري شرق أشَور ( دجلة ) . والنهر الرابع الفُرات .ولم أقف على ضبط عَدْن هذه . ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً وأسلم وألف كتاباً في الرد على اليهود سماه «الحُسام المحدود في الرد على اليهود» كتَبه بغِيدِن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بِعَدْن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان ، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خُلد لا يخرج ساكنها ، وهو التجاء بلا ملجىء لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلُّه جعل الله تعالى عندما أراده .واحتج أهل السنة بأن أل في ( الجنة ) للعهد الخارجي ولا معهود غيرها ، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمْل على الجنس بأنواعه الثلاثة ، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجلُ خير من المرأة ، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقاً بجنة معروفة ، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك . ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقاً بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع .وقد يقال يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى : { اسكُن أنت وزوجك الجنة } لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف ( الجنة ) منظوراً فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حُكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عَرَف به آدم مراد الله تعالى ، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليومَ بالجنة ، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أُسكنها آدم هي الجنة المعدودة داراً لجزاء المحسنين .ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثماراً وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل ( من ) تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان . ويجوز أن تكون ( من ) ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثَّمر من خيبر .والرغَد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أَكلاً رغَداً ، والرغَد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير .وقوله : { حيث شئتما } ظرفُ مكان أي من أي مواضع أرَدْتُما الأكل منها ، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم ، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به .وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشىءُ داعية وميلاً إليه ففيه الحديث « من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه » وقال ابن العربي سمعتُ الشاشي في مجلس النظر يقول : ( إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تتلَبس بالفعل ، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه ) اه . وهو غريب فإن قَرُب وقَرِب نحو كرم وسمع بمعنى دنا ، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز ، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حَسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بَعِدَ مكسور العين بالانقطاع التام وبعد مضموم العين بالتنحّي عن المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعَد ، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية :إخْوَتِي لا تَبْعَدوا أبدا ... وَبَلى واللَّه قَد بعِدواوفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أُصول مذهب مالك رحمه الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه .والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرةً وحيدة في الجنة .وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة ، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين . ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر .وقوله : { فتكونا من الظالمين } أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء ، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزْم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعُم لآدم في الجنة ، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة .
Arabic Tanweer Tafseer
2:35
وقوله - تعالى - ( وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة ) معطوف على قوله ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ . . . إلخ ) أي : بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم ، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فهذه تكرمه أكره الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإِجلال من تلقاء الملائكة .وقوله : ( اسكن ) أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار .والزوج : يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ، ولا تكاد تقول زوجة .والجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره ، من الجن ، وهو ستر الشيء عن الحاسة .وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب . التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإِطلاق .ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإِسكان آدم وزوجه ، واختلفوا في مكانه ، فقيل بفلسطين . وقيل بغيرها .وقد ساق الإِمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئاً منها .والأحوط والأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة .والمخاطب بالأمر ، بسكنى الجنة آدم وحواء ، ولكن الأسلوب جاء في صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه ، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له .ثم بين - سبحانه - أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال : ( وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ) أي كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئاً أو واسعاً في أي مكان من الجنة أردتم .يقال : رغد عيش القوم أي : اتسع وطاب ، وأرغد القوم ، أي : اخصبوا وصاروا في رزق واسع .والضمير في قوله ( مِنْهَا ) يعود إلى الجنة ، والمراد بالأكل منها : الأكل من مطاعمها وثمارها ، لأن الجنة تستلزم ثماراً هي المقصودة بالأكل .ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : ( وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ) .القرب : الدنو ، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة ، وتعليق النهي بالقرب منها إذ قال ( وَلاَ تَقْرَبَا ) القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ، إذ في النهي عن القرب من الشيء قطع لوسيلة التلبس سبه ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى ) فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهي القرب منه . وأكد النبي بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلماً فقال : ( فَتَكُونَا مِنَ الظالمين ) وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية .وقد تكلم العلماء كثيراً عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل : هي السنبلة ، وقيل هي الكرم . . الخ . إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه .وقد أحسن الإِمام ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : " والصواب في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة يعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل كانت شجرة العنب . وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به .
Arabic Waseet Tafseer
2:35
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَقال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأُسكنها آدمُ قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض. ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ . فقد تبين أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِن وأظهرَ التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلَّت عليه اللعنة. كما:-708 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن &; 1-513 &; ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليُغويَنَّ آدم وذريته وزوجَه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرِج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض. وعلَّم الله آدم الأسماء كلها (173) .709 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبَى إلا المعصية وأوقع عليه اللعنة، ثم أخرجه من الجنة، أقبل على آدمَ وقد علّمه الأسماء كلها، فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (174) .ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي خُلقت لآدم زوجته، والوقت الذي جعلت له سكنًا. فقال ابن عباس بما:-710 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرِج إبليسُ من الجنة حين لعن، وأسكِن آدم الجنة. فكان يمشي فيها وَحْشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدةٌ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة - ينظرون ما بلغ علمه-: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حيّ. فقال الله له: " يا آدمُ اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما " (175) .فهذا الخبر يُنبئ أن حواء خُلقت بعد أن سَكن آدمُ الجنةَ، فجعلت له سكنًا.وقال آخرون: بل خُلقت قبل أن يسكن آدم الجنة.* ذكر من قال ذلك:711 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الأسماء كلها فقال: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم - فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره - ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأةً ليسكن إليها. فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا " يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين " (176)قال أبو جعفر: ويقال لامرأة الرجل: زَوْجُه وزَوْجتُه، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء. والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزْد شَنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب، فهو زوجُ المرأة (177) .القول في تأويل قوله: وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَاقال أبو جعفر: أما الرَّغَد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعنِّي صاحبه. يقال: أرْغد فلان: إذا أصاب واسعًا من العيش الهنيء، كما قال امرؤ القيس بن حُجْر:بَيْنَمَـــا الْمَــرْءُ تَــرَاهُ نَاعِمَــايَــأْمَنُ الأَحْـدَاثَ فِـي عَيْشٍ رَغَـدْ (178)712 - وكما حدثني به موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،" وكلا منها رَغدا "، قال: الرغد، الهنيء. (179)713 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: " رغدًا "، قال: لا حسابَ عليهم.714 - وحدثنا المثنى، قال حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد مثله.715 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد: " وكلا منها رغدًا "، أي لا حسابَ عليهم. (180)716 - وحُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، &; 1-516 &; عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " وكلا منها رغدًا حيث شئتما "، قال: الرغد: سَعة المعيشة. (181)فمعنى الآية وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا من الجنة رزقًا واسعًا هنيئًا من العيش حيث شئتما.717 - كما حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رَغدًا حيث شئتما "، ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق، كتب على آدمَ، كما ابتُلي الخلقُ قبله، أن الله جل ثناؤه أحل له ما في الجنة أن يأكل منها رَغدا حيث شاء، غيرَ شجرة واحدة نُهي عنها، وقُدِّم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه. (182)القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَقال أبو جعفر: والشجر في كلام العرب: كلّ ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [سورة الرحمن: 6]، يعني بالنجم ما نَجمَ من الأرض من نَبت، وبالشجر ما استقلّ على ساق.ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السُّنبلة.* ذكر من قال ذلك:718 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا عبد الحميد الحِمَّاني، &; 1-517 &; عن النضر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم، هي السنبلة. (183)719 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمران بن عُتيبة - جميعًا عن حُصين، عن أبي مالك، في قوله: " ولا تقرَبا هذه الشجرة "، قال: هي السنبلة.720 - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري - قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك، مثله. (184)721 - وحدثنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية في قوله: " ولا تقربا هذه الشجرة "، قال: السنبلة. (185)722 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قال : الشجرة التي نُهي عنها آدم، هي السنبلة. (186)723 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثني رجل من بني تميم، أن ابن عباس كتب إلى أبي الجَلْد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدمُ، والشجرة التي تاب عندها: فكتب إليه أبو الجلد: " سألتني عن الشجرة التي نُهي عنها آدم، وهي السنبلة، وسألتني &; 1-518 &; عن الشجرة التي تاب عندها آدم، وهي الزيتونة " . (187)724 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل من أهل العلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه كان يقول: الشجرة التي نُهي عنها آدمَ: البُرُّ (188) .725 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزَوجته، السُّنبلة. (189)726 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل اليمن، عن وهب بن منبه اليماني، أنه كان يقول: هي البُرُّ، ولكن الحبة منها في الجنة ككُلَى البقر، ألين من الزبد وأحلى من العسل. وأهل التوراة يقولون: هي البرّ. (190)727 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة: أنه حُدِّث أنها الشجرةُ التي تحتكُّ بها الملائكة للخُلد.728 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن يَمانَ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة، عن محارب بنِ دثار، قال: هي السنبلة.729 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، &; 1-519 &; عن الحسن، قال: هي السنبلة التي جعلها الله رزقًا لولده في الدنيا (191)قال أبو جعفر: وقال آخرون: هي الكرمة.* ذكر من قال ذلك:730 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه، عن ابن عباس، قال: هي الكرمة.731 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " ولا تقرَبا هذه الشجرة "، قال: هي الكرمة، وتزعم اليهود أنها الحنطة.732 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، قال: الشجرة هي الكَرْم.733 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: هو العِنَب في قوله: " ولا تقربا هذه الشجرة ".734 - وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن خلاد الصفار، عن بَيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: " ولا تقرَبا هذه الشجرة "، قال: الكرمُ.735 - وحدثنا ابن المثنى، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة: " ولا تقربا هذه الشجرة "، قال: الكرم.736 - وحدثنا ابن حميد، وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن مغيرة ، عن الشعبي، عن جعدة بن هُبيرة، قال: الشجرة التي نُهي عنها آدم، شجرة الخمر.737 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا &; 1-520 &; عباد بن العوام، قال: حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مُسلم، عن سعيد بن جبير، قوله " ولا تقربا هذه الشجرة "، قال: الكرم.738 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السُّدّيّ، قال: العنب.739 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: عِنَب (192) .وقال آخرون: هي التِّينة.* ذكر من قال ذلك:740 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: تينة. (193)قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجَه أكلا من الشجرة التي نهاهُما ربُّهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بيّن الله جل ثناؤه لهما عَين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله: " ولا تقربا هذه الشجرة "، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطَبين بالقرآن، دلالةً على أيّ أشجار الجنة كان نهيُه آدمَ أن يقربها، بنصٍّ عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأيّ ذلك من أيٍّ رضًا، لم يُخل عبادَه من نَصْب دلالة لهم عليها يَصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضًا.فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدمَ وزوجته عن أكل &; 1-521 &; شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يَضَع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنَّى يأتي ذلك؟ (194) وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك عِلمٌ، إذا عُلم لم ينفع العالمَ به علمه (195) ، وإن جهله جاهل لم يضرَّه جهلُه به.القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَقال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل قوله: " ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ".فقال بعض نحويّي الكوفيين: تأويل ذلك: ولا تقربَا هذه الشجرة، فإنكما إن قربتماها كنتما من الظالمين. فصار الثاني في موضع جواب الجزاء. وجوابُ الجزاء يعمل فيه أوّله، كقولك: إن تَقُم أقُم، فتجزم الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله " فتكونا "، لما وقعت الفاء في موضع شرط الأوّل نُصب بها، وصُيرت &; 1-522 &; بمنـزلة " كي" في نصبها الأفعال المستقبلة، للزومها الاستقبال. إذ كان أصل الجزاء الاستقبال.وقال بعض نحويّي أهل البصرة: تأويل ذلك: لا يكن منكما قُرْبُ هذه الشجرة فأن تكونا من الظالمين. غير أنه زعم أنّ " أن " غير جائز إظهارها مع " لا "، ولكنها مضمرة لا بد منها، ليصح الكلام بعطف اسم - وهي" أن " - على الاسم. كما غير جائز في قولهم: " عسى أن يفعل "، عسى الفعل. ولا في قولك: " ما كان ليفعل ": ما كان لأن يَفعل.وهذا القولُ الثاني يُفسده إجماعُ جميعهم على تخطئة قول القائل: " سرني تقوم يا هذا "، وهو يريد سرني قيامُك. فكذلك الواجب أن يكون خطأ على هذا المذهب قول القائل: " لا تقم " إذا كان المعنى: لا يكن منك قيام. وفي إجماع جميعهم -على صحة قول القائل: " لا تقم "، وفساد قول القائل: " سرني تقوم " بمعنى سرني قيامك - الدليل الواضح على فسادِ دعوى المدعي أنّ مع " لا " التي في قوله: " ولا تقربا هذه الشجرة "، ضمير " أن " - وصحةِ القول الآخر.وفي قوله " فتكونا من الظالمين "، وجهان من التأويل:أحدهما أن يكون " فتكونا " في نية العطف على قوله " ولا تقربا "، فيكون تأويله حينئذ: ولا تقربا هذه الشجرة ولا تكونا من الظالمين. فيكون " فتكونا " حينئذ في معنى الجزم مجزومًا بما جُزم به " ولا تقربا " ، كما يقول القائل: لا تُكلم عمرا ولا تؤذه، وكما قال امرؤ القيس:فُقُلْــتُ لَــهُ: صَـوِّبْ وَلا تَجْهَدَنَّـهُفَيُـذْرِكَ مِـنْ أُخْـرَى القَطَـاةِ فَتَزْلَقِ (196)فجزم " فيذرِك " بما جزم به " لا تجهدنه "، كأنه كرّر النهي.&; 1-523 &;والثاني أن يكون " فتكونا من الظالمين "، بمعنى جواب النهي. فيكون تأويله حينئذ: لا تقربا هذه الشجرة، فإنكما إن قَرَبتماها كنتما من الظالمين. كما تقول: لا تَشتمْ عمرًا فيشتُمك، مجازاةً. فيكون " فتكونا " حينئذ في موضع نَصب، إذْ كان حرفًا عطف على غير شكله، لمّا كان في" ولا تقربا " حرف عامل فيه، ولا يصلح إعادته في" فتكونا "، فنصب على ما قد بينت في أول هذه المسألة.وأما تأويل قوله: " فتكونا من الظالمين "، فإنه يعني به فتكونا من المتعدِّين إلى غير ما أذِن لهم وأبيح لهم فيه، وإنما عَنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة، كنتما على منهاج من تعدَّى حُدودي، وَعصى أمري، واستحلَّ محارمي، لأن الظالمين بعضُهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين.وأصل " الظلم " في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعه، ومنه قول نابغة بني ذبيان:إِلا أُوَارِيَّ لأيـــًا مَـــا أُبَيِّنُهَــاوَالنُّـؤْيُ كَـالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَـةِ الْجَلَدِ (197)فجعل الأرض مظلومة، لأن الذي حفر فيها النؤى حَفر في غير موضع الحفر، فجعلها مظلومة، لموضع الحفرة منها في غير موضعها. (198) ومن ذلك قول ابن قَميئة في صفة غيث:ظَلَـمَ الْبِطَـاحَ بِهَـا انْهِـلالُ حَرِيصَةٍفَصَفَــا النِّطَـافُ لَـهُ بُعَيْـدَ الْمُقْلَـعِ (199)وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبِّه. ومنه: ظَلم الرجلُ جَزوره، وهو نحره إياه لغير علة. وذلك عند العرب وَضْع النحر في غير موضعه.وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى. وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه.------------الهوامش :(173) الخبر : 708- لم أجده في مكان .(174) الأثر : 709- لم أجده في مكان بنصه هذا ، لكنه من صدر الأثر الآتي بعد رقم : 711 .(175) الأثر : 710- في تاريخ الطبري 1 : 52 ، مع اختلاف في بعض اللفظ . وابن كثير 1 : 142 والشوكاني 1 : 56 ، وقوله : "وحشًا" أي ليس معه غيره ، خلوًا . ومكان وحش : خال .(176) الأثر : 711- في تاريخ الطبري 1 : 52 وابن كثير 1 : 141-142 . وقوله"قال له قبيلا" أي عيانًا . وفي حديث أبي ذر (ابن كثير 1 : 141)"قال : قلت يا رسول الله؛ أرأيت آدم؛ أنبيًّا كان؟ قال : نعم نبيًّا رسولا يكلمه الله قبيلا - أي عيانًا" . وجاء هذا الحرف في المطبوعة : "قال له فتلا يا آدم اسكن . . . " وهو خطأ . وفي تاريخ الطبري"قال له قيلا يا آدم . . . " وهو أيضًا خطأ .(177) انظر اختلافهم في ذلك في مادته (زوج) من لسان العرب .(178) لم أجد البيت فيما جمعوا من شعر امرئ القيس .(179) الخبر : 712 - في الدر المنثور 1 : 52 ، والشوكاني 1 : 56 .(180) الآثار : 713 - 715 في الدر المنثور 1 : 52 ، والشوكاني 1 : 56 .(181) الخبر : 716 - في الدر المنثور 1 : 52 والشوكاني 1 : 56 .(182) الأثر : 717 - في الدر المنثور 1 : 53 من غير طريق الطبري . وقوله : "قدم إليه فيها" أي أمر فيها بأمر أن لا يقربها . ويقال : تقدمت إليه بكذا وقدمت إليه بكذا : أي أمرته بكذا .(183) الخبر : 718 - في ابن كثير 1 : 142 ، والدر المنثور 1 : 53 ، والشوكاني 1 : 56 وهو إسناد ضعيف . محمد بن إسماعيل الأحمسي سبق توثيقه : 405 عبد الحميد بن عبد الرحمن ، أبو يحيى الحماني : ثقة ، وثقه ابن معين وغيره ، وأخرج له الشيخان . النضر : هو ابن عبد الرحمن ، أبو عمر الخزاز -بمعجمات - وهو ضعيف جدًّا ، قال البخاري في الكبير 4/2/91 : "منكر الحديث" . وروى ابن أبي حاتم 4/1/475 عن أحمد بن حنبل ، قال : "ليس بشيء ، ضعيف الحديث" ، وروي عن ابن معين أنه قال : "لا يحل لأحد أن يروي عنه" .(184) الأثران : 719 ، 720 - في ابن كثير 1 : 142 ، والدر المنثور 1 : 53 .(185) الأثر : 721 - عطية : هو العوفي . وقد أشار ابن كثير 1 : 142 إلى هذه الرواية عنه .(186) الأثر : 722 - لم أجده في مكان .(187) الخبر : 723 - في ابن كثير 1 : 142 ، وفي الأصول : "أبو الخلد" ، وانظر ما سلف في التعليق على الأثر رقم : 434 . وهذا الإسناد ضعيف ، لجهالة الرجل من بني تميم .(188) الخبر : 724 - ابن كثير 1 : 142 ، والدر المنثور 1 : 52 ، والشوكاني 1 : 56 . والذي في ابن كثير : "عن رجل من أهل العلم ، عن حجاج ، عن مجاهد . . . " .(189) الأثر : 725 - في ابن كثير 1 : 142 .(190) الأثر : 726 - في ابن كثير 1 : 142-143 ، والدر المنثور 1 : 52-53 . ولكن ليس فيهما قوله"وأهل التوراة . . . " .(191) الآثار : 727 - 729 : لم أجدها بلفظها في مكان .(192) الآثار : 730 -739 : مذكورة بلا تعيين في ابن كثير 1 : 142 ، والدر المنثور 1 : 53 والشوكاني 1 : 56 .(193) الخبر : 740 - في ابن كثير 1 : 143 ، والدر المنثور 1 : 53 ، والشوكاني 1 : 56 .(194) في المخطوطة خلاف ما في المطبوعة ، وهذا نصه"ولا علم عندنا بأي ذلك . وقد قيل كانت شجرة البر . . . " ، كأن الناسخ أسقط سطرا فاختل الكلام . وكان في المطبوعة : "فأنى يأتي ذلك من أتى" بزيادة قوله"من أتى" والظاهر أن التحريف قديم ، فإن ابن كثير نقل نص الطبري هذا في تفسيره 1 : 143 فحذف قوله : "فأنى يأتي ذلك" ، وقد استظهرت أن الصواب حذف"من أتى" ، ليكون الاستفهام منصبًّا على كيفية إتيان العلم بهذه الشجرة ، وليس في القرآن عليها دليل ولا في السنة الصحيحة . وأما الجملة كما جاءت في المطبوعة ، فهي فاسدة مفسدة لما أراد الطبري .(195) في المطبوعة : "وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم . . . " ، وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير (1 : 143) .(196) ديوانه ، من رواية الأعلم الشنتمري ، القصيدة رقم : 30 ، البيت : 26 . وفي معاني القرآن للفراء 1 : 26 ، ونسبه سيبويه في الكتاب 1 : 452 ، لعمرو بن عمار الطائي ، وسيذكره الطبري في (15 : 164 بولاق) غير منسوب ، ورواية سيبويه"فيدنك من أخرى القطاة" وقوله : "فقلت له" يعني غلامه ، وذكره قبل أبيات . وقوله : "صوب" ، أي خذ الفرس بالقصد في السير وأرفق به ولا تجهده بالعدو الشديد فيصرعك . أذراه عن فرسه : ألقاه وصرعه . والقطاة : مقعد الردف من الفرس . وأخرى القطاة : آخر المقعد . ورواية الشنتمري : "من أعلى القطاة" . وهما سواء .(197) سلف تخريجه وشرحه في هذا الجزء : 183 .(198) في المطبوعة : "لوضع الحفرة منها في غير موضعها" ، وفي المخطوطة أيضًا : "لموضع الحفر فيها في غير موضعها" .(199) جاء أيضًا في تفسيره (2 : 50 بولاق) منسوبًا لعمرو بن قميئة . وصحة نسبته إلى الحادرة الذبياني ، وهو في ديوان الحادرة ، قصيدة : 4 ، البيت رقم : 7 ، وشرح المفضليات : 54 . والبطاح جمع بطحاء وأبطح : وهو بطن الوادي . وأنهل المطر انهلالا : اشتد صوبه ووقعه . والحريصة والحارصة : السحابة التي تحرص مطرتها وجه الأرض ، أي تقشره من شدة وقعها . والنطاف جمع نطفة : وهي الماء القليل يبقى في الدلو وغيره . وقوله : "بعيد المقلع" : أي بعد أن أقلعت هذه السحابة . ورواية المفضليات : "ظلم البطاح له" وقوله : "له" : أي من أجله .
الطبري
2:35
قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فيه ثلاث عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند [ ص: 283 ] كفره وأبعده عن الجنة ، وبعد إخراجه قال لآدم : اسكن ، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا ، وهو محل السكون . وسكن إليه يسكن سكونا . والسكن : النار ، قال الشاعر :قد قومت بسكن وأدهانوالسكن : كل ما سكن إليه . والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح ، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته . وسكان السفينة عربي ; لأنه يسكنها عن الاضطراب .الثانية : في قوله تعالى : اسكن - تنبيه على الخروج ; لأن السكنى لا تكون ملكا ، ولهذا قال بعض العارفين : السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع ، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة .قلت : وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقوله الجمهور من العلماء : إن من أسكن رجلا مسكنا له إنه لا يملكه بالسكنى ، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان . وكان الشعبي يقول : إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات . ونحو من السكنى العمرى ، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى . وسيأتي الكلام في العمرى في " هود " إن شاء الله تعالى . قال الحربي : سمعت ابن الإعرابي يقول : لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعرية والسكنى والإطراق . وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب ، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد ، ويزيد بن قسيط .والعمرى : هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره . ومثله الرقبى : وهو أن يقول : إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك ، وهي من المراقبة . والمراقبة : أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه ، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها ، فأجازها أبو يوسف والشافعي ، وكأنها وصية عندهم . ومنعها مالك والكوفيون ; لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له ، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه . وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجه في سننه : الأول رواه جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم . الثاني رواه ابن عمر قال : قال [ ص: 284 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته . قال : والرقبى أن يقول هو للآخر : مني ومنك موتا . فقوله : ( لا رقبى ) نهي يدل على المنع ، وقوله : من أرقب شيئا فهو له يدل على الجواز ، وأخرجهما أيضا النسائي . وذكر عن ابن عباس قال : العمرى والرقبى سواء . وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها . فقد صحح الحديث ابن المنذر ، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء . وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد ، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا ، وبه قال إسحاق . وقال طاوس : من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث .والإفقار مأخوذ من فقار الظهر . أفقرتك ناقتي : أعرتك فقارها لتركبها . وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه . ومثله الإخبال ، يقال : أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه ، قال زهير :هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلواوالمنحة : العطية . والمنحة : منحة اللبن . والمنيحة : الناقة أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم . رواه أبو أمامة ، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما ، وهو صحيح . والإطراق : إعارة الفحل ، استطرق فلان فلانا فحله : إذا طلبه ليضرب في إبله ، فأطرقه إياه ، ويقال : أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي . وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها . وطروقة الفحل : أنثاه ، يقال : ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل .الثالثة : قوله تعالى : أنت وزوجك أنت تأكيد للمضمر الذي في الفعل ، ومثله : [ ص: 285 ] فاذهب أنت وربك . ولا يجوز اسكن وزوجك ، ولا اذهب وربك ، إلا في ضرورة الشعر ، كما قال :قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملاف " زهر " معطوف على المضمر في " أقبلت " ولم يؤكد ذلك المضمر . ويجوز في غير القرآن على بعد : قم وزيد .الرابعة : قوله تعالى : وزوجك لغة القرآن " زوج " بغير هاء ، وقد جاء في صحيح مسلم : " زوجة " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة : فقال يا رسول الله ، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم . وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام ، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك ، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته ، فلما انتبه قيل له : من هذه ؟ قال : امرأة قيل : وما اسمها ؟ قال : حواء ، قيل : ولم سميت امرأة ؟ قال : لأنها من المرء أخذت ، قيل : ولم سميت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من حي . روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه ، وأنهم قالوا له : أتحبها يا آدم ؟ قال : نعم ، قالوا لحواء : أتحبينه يا حواء ؟ قالت : لا ، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه . قالوا : فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء . وقال ابن مسعود وابن عباس : لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا ، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها ، فلما انتبه رآها فقال : من أنت ؟ قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي ، وهو معنى قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها . قال العلماء : ولهذا كانت المرأة [ ص: 286 ] عوجاء ، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية : وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها . وقال الشاعر :هي الضلع العوجاء ليست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتىأليس عجيبا ضعفها واقتدارهاومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال في اللحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء . فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه ، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى .الخامسة : قوله تعالى : الجنة الجنة : البستان ، وقد تقدم القول فيها . ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن . واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس ، فإن الله يقول : لا لغو فيها ولا تأثيم وقال لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا وقال : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما . وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله : وما هم منها بمخرجين . وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس ، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها . وقد لغا فيها إبليس وكذب ، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما .قالوا : وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى ؟ فالجواب : أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام ، ومن قال : أسأل الله الجنة ، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد . ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم ، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى : أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة ، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد [ ص: 287 ] المعروفة ، فلم ينكر ذلك آدم ، ولو كانت غيرها لرد على موسى ، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها . وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة ، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء . وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها ، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية ، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا . وأما قولهم : إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم ، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام ، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي ، وكذلك دار القدس . قال أبو الحسن بن بطال : وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام ، فلا معنى لقول من خالفهم . وقولهم : كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد ، فيعكس عليهم ويقال : كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء ! هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل ، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا ، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي .السادسة : قوله تعالى : وكلا منها رغدا حيث شئتما قراءة الجمهور رغدا بفتح الغين . وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها . والرغد : العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه ، قال امرؤ القيس :بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغدويقال : رغد عيشهم ورغد ( بضم الغين وكسرها ) . وأرغد القوم : أخصبوا وصاروا في رغد من العيش . وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف ، وحيث وحيث وحيث ، وحوث وحوث وحاث ، كلها لغات ، ذكرها النحاس وغيره .السابعة : قوله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة أي لا تقرباها بأكل ; لأن الإباحة فيه وقعت . قال ابن العربي : سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول : إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تلبس بالفعل ، وإذا كان ( بضم الراء ) فإن معناه لا تدن منه . وفي الصحاح : قرب الشيء يقرب قربا أي دنا . وقربته ( بالكسر ) أقربه قربانا أي دنوت منه . وقربت [ ص: 288 ] أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة ، والاسم القرب . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب ؟ فقال : سير الليل لورد الغد . وقال ابن عطية : قال بعض الحذاق : إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب . قال ابن عطية : وهذا مثال بين في سد الذرائع . وقال بعض أرباب المعاني : قوله : ولا تقربا إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة ، وأن سكناه فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى . والدليل على هذا قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة فدل على خروجه منها .الثامنة : قوله تعالى : هذه الشجرة الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير ، كقولك : مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة . وقرأ ابن محيصن : " هذي الشجرة " بالياء وهو الأصل ، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها ، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها ، وذلك لأن أصلها الياء .والشجرة والشجرة والشيرة ، ثلاث لغات وقرئ " الشجرة " بكسر الشين . والشجرة : ما كان على ساق من نبات الأرض . وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار ، وواد شجير ، ولا يقال : واد أشجر . وواحد الشجراء شجرة ، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة : شجرة وشجراء ، وقصبة وقصباء ، وطرفة وطرفاء ، وحلفة وحلفاء . وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء : حلفة ، بكسر اللام مخالفة لأخواتها . وقال سيبويه : الشجراء واحد وجمع ، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء . والمشجرة : موضع الأشجار . وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا ، قاله الجوهري .التاسعة : واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها ، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة : هي الكرم ، ولذلك حرمت علينا الخمر . وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة : هي السنبلة ، والحبة منها ككلى البقر ، أحلى من العسل وألين من الزبد ، قاله وهب بن منبه . ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه . وقال ابن جريج عن بعض الصحابة : هي شجرة التين ، وكذا روى سعيد عن قتادة ، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها ، ذكره السهيلي . قال ابن عطية : وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر ، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها . وقال القشيري أبو نصر : وكان الإمام والدي رحمه الله يقول : يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة .العاشرة : واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها ، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر . قال ابن العربي : وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول . قال : " وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث . وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا : لا حنث فيه . وقال مالك وأصحابه : إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه ، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره ، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها ، فحمل القول على اللفظ دون المعنى .وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا ، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين ، قال في الكتاب : يحنث ; لأنها هكذا تؤكل . وقال ابن المواز : لا شيء عليه ; لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة . ولو قال في يمينه : لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام ، وفيما أنبتت خلاف . وقال آخرون : تأولا النهي على الندب . قال ابن العربي : وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك هاهنا ، لقوله : فتكونا من الظالمين فقرن النهي بالوعيد ، وكذلك قوله سبحانه : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . وقال ابن المسيب : إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله . وكذلك قال يزيد بن قسيط ، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل . قال ابن العربي : وهذا فاسد نقلا وعقلا ، أما النقل فلم يصح بحال ، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال : لا فيها غول . وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم . قلت : قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى : [ ص: 290 ] فلما أنبأهم بأسمائهم فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز . وقيل : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد . قلت : وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا ، أي مخالفا . قال أبو أمامة : لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : ولم نجد له عزما .قلت : قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم . وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا . وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء . والله أعلم .قلت : والقول الأول أيضا حسن ، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال : هذان حرامان على ذكور أمتي . وقال في خبر آخر : هذان مهلكان أمتي . وإنما أراد الجنس لا العين .الحادية عشرة : يقال : إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة ، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء ، فقال : ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد ، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد ، فأتاهما من حيث أحبا - " حبك الشيء يعمي ويصم " - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد ، فألح على حواء وألحت حواء على آدم ، إلى أن قالت : أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت ، فأكلت فلم يضرها ، فأتت آدم فقالت : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب ، لقول الله تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة فجمعهما في النهي ، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا ، وخفيت على آدم هذه المسألة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن من قال لزوجتيه أو أمتيه : إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان - إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما . وقد [ ص: 291 ] اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال ، قال ابن القاسم : لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول ، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ . وقاله سحنون . وقال ابن القاسم مرة أخرى : تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما ; لأن بعض الحنث حنث ، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما . وقال أشهب : تعتق وتطلق التي دخلت وحدها ; لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها . قال ابن العربي : وهذا بعيد ; لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا .قلت : الصحيح الأول ، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما ; لأنك إذا قلت : لا تدخلا الدار ، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما ; لأن قول الله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة نهي لهما فتكونا من الظالمين جوابه ، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا ، فلما أكلت لم يصبها شيء ; لأن المنهي عنه ما وجد كاملا . وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم ، وهو معنى قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي وقيل : نسي قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى . والله أعلم .الثانية عشرة : واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رذيلة فيها شين ونقص إجماعا . عند القاضي أبي بكر ، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة ، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين : تقع الصغائر منهم . خلافا للرافضة حيث قالوا : إنهم معصومون من جميع ذلك ، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث ، وهذا ظاهر لا خفاء فيه . وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها ، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة ، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم ، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية ، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين . قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : واختلفوا في الصغائر ، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم ، وصار بعضهم إلى تجويزها ، ولا أصل لهذه المقالة . وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى [ ص: 292 ] القول الأول : الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها ، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات ، بالنسبة إلى مناصبهم وعلو أقدارهم ، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق . ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين . فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم ، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ، صلوات الله عليهم وسلامه .الثالثة عشرة : قوله تعالى : فتكونا من الظالمين الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه . والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ثم حفرت . قال النابغة .وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينهاوالنؤي كالحوض بالمظلومة الجلدويسمى ذلك التراب الظليم . قال الشاعر :فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمهاوإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم ، ومنه : . . . ظلامون للجزر .ويقال : سقانا ظليمة طيبة ، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه . وقد ظلم وطبه ، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده . واللبن مظلوم وظليم . قال :وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليمورجل ظليم : شديد الظلم . والظلم : الشرك ، قال الله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم .قوله تعالى وكلا منها رغدا حذفت النون من " كلا " لأنه أمر ، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال ، وحذفها شاذ . قال سيبويه : من العرب من يقول أؤكل ، فيتم . يقال منه : أكلت [ ص: 293 ] الطعام أكلا ومأكلا . والأكلة ( بالفتح ) : المرة الواحدة حتى تشبع . والأكلة ( بالضم ) : اللقمة ، تقول : أكلت أكلة واحدة ، أي لقمة ، وهي القرصة أيضا . وهذا الشيء أكلة لك ، أي طعمة لك . والأكل أيضا ما أكل . ويقال : فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع . رغدا نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا رغدا . قال ابن كيسان : ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال . وقال مجاهد : رغدا أي لا حساب عليهم . والرغد في اللغة : الكثير الذي لا يعنيك ، ويقال : أرغد القوم ، إذا وقعوا في خصب وسعة . وقد تقدم هذا المعنى . " حيث " مبنية على الضم ; لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف ، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت . قال الكسائي : لغة قيس وكنانة الضم ، ولغة تميم الفتح . قال الكسائي : وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض ، وينصبونها في موضع النصب ، قال الله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وتضم وتفتح .ولا تقربا هذه الشجرة الهاء من " هذه " بدل من ياء الأصل ; لأن الأصل هذي . قال النحاس : ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء هذه ومن العرب من يقول : هاتا هند ، ومنهم من يقول : هاتي هند . وحكى سيبويه : هذه هند ، بإسكان الهاء . وحكى الكسائي عن العرب : ولا تقربا هذي الشجرة . وعن شبل بن عباد قال : كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في " هذه " في جميع القرآن . وقراءة الجماعة " رغدا " بفتح الغين . وروي عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكنا الغين . وحكى سلمة عن الفراء قال يقال : هذه فعلت وهذي فعلت ، بإثبات ياء بعد الذال . وهذ فعلت ، بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء . وهاتا فعلت . قال هشام ويقال : تا فعلت . وأنشد :خليلي لولا ساكن الدار لم أقم بتا الدار إلا عابر ابن سبيلقال ابن الأنباري : وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي ، وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه . وقد قال الفراء : من قال هذ قامت - لا يسقط ها ; لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة .( فتكونا ) عطف على ( تقربا ) فلذلك حذفت النون . وزعم الجرمي أن الفاء هي الناصبة ، وكلاهما جائز .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:35
لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والأكل منها رغدا; أي: واسعا هنيئا، { حَيْثُ شِئْتُمَا } أي: من أصناف الثمار والفواكه; وقال الله له: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [أو لحكمة غير معلومة لنا] { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } دل على أن النهي للتحريم; لأنه رتب عليه الظلم.
Arabic Saddi Tafseer
2:35
قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} وذلك أن آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق الله زوجته حواء من قصيراء من شقه الأيسر، وسميت حواء لأنها خلقت من حي، خلقها الله عز وجل من غير أن أحس به آدم ولا وجد له ألماً، ولو وجد ألماً لما عطف رجل على امرأة قط فلما هب من نومه رآها جالسة عند رأسه (كأحسن ما في) خلق الله فقال لها: من أنتِ؟، قالت: زوجتك خلقني الله لك تسكن إلي وأسكن إليك.{وكلا منها رغداً} واسعاً كثيراً.{حيث شئتما} كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما.{ولا تقربا هذه الشجرة} يعني للأكل، وقال بعض العلماء: وقع النهي على جنس من الشجر.وقال آخرون: على شجرة مخصوصة، واختلفوا في تلك الشجرة.قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومقاتل: "هي السنبلة".وقال ابن مسعود: "هي شجرة العنب".وقال ابن جريج: "شجرة التين".وقال قتادة: "شجرة العلم وفيها من كل شيء".وقال علي رضي الله عنه: "شجرة الكافور".{فتكونا} فتصيرا.{من الظالمين} أي: الضارين بأنفسكما بالمعصية.وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
Arabic Baghawy Tafseer
2:35
وقوله تعالى "فأزلهما الشيطان عنها" يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائدا إلى الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم فأزالهما أي فنحاهما ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة فأزلهما أي من قبل الزلل فعلى هذا يكون تقدير الكلام "فأزلهما الشيطان عنها" أي بسببها كما قال تعالى "يؤفك عنه من أفك" أي يصرف بسببه من هو مأفوك ولهذا قال تعالى "فأخرجهما مما كانا فيه" أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة "وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" أي قرار وأرزاق وآجال - إلى حين - أي إلى وقت مؤقت ومقدار معين ثم تقوم القيامة وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم. هاهنا أخبارا إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها هاهنا والله الموفق. وقد قال ابن أبي حاتم ههنا: حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب حدثنا على بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن يا آدم مني تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا ولكن استحياء". قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي سنة أربع وخمسين ومائتين حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم أفرارا مني؟ قال: بل حياء منك قال: يا آدم أخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين". هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن كعب رضي الله عنهما. وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن باكويه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره حدثنا روح عن هشام عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم معه غصنا من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى "اهبطوا منها جميعا" فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم وإنما قبضها آسفا على الجنة حين أخرج منها. وقال عمران بن عيينة: عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أهبط آدم بدحنا أرض الهند. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال وأهبطت الحية بأصبهان رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحرث حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن سلمة: أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه مطأطئا رأسه وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه رافعا رأسه إلى السماء. وقال عبدالرزاق: قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير. وقال الزهري عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها" رواه مسلم والنسائي. وقال الرازي: اعلم أن في هذه الآية تهديدا عظيما عن كل المعاصي من وجوه "الأول" إنما يتصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي قال الشاعر: يا ناظرا يرنو بعينــــي راقد ومشاهدا للأمر غير مشاهـــد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد أنسيت ربــك حين أخـــرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد وقال ابن القاسـم: ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقول الجمهور من العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طردا قدريا والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ فالجواب أن هذا بعينه استدل به من يقول إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية وأجاب الجمهور بأجوبة أحدها أنه منع من دخول الجنة مكرما فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد.
ابن كثير
2:36
فأوقعهما الشيطان في الخطيئة: بأنْ وسوس لهما حتى أكلا من الشجرة، فتسبب في إخراجهما من الجنة ونعيمها. وقال الله لهم: اهبطوا إلى الأرض، يعادي بعضكم بعضًا -أي آدم وحواء والشيطان- ولكم في الأرض استقرار وإقامة، وانتفاع بما فيها إلى وقت انتهاء آجالكم.
المیسر
2:36
الفاء عاطفة على قوله : { ولا تقربا } [ البقرة : 35 ] وحَقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفياً لأن وقوع الإزلال كان بعدَ مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأَمد القليل . والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب .والإزلال جعل الغير زَالاًّ أي قائماً به الزلل وهو كالزَلَق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه ، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة ، وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل .والضمير في قوله : { عنها } يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائداً إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج . و ( عن ) في أصل معناها أي أزلهما إزلالاً ناشئاً عن الشجرة أي عن الأكل منها ، وتقدير المضاف دل عليه قوله : { ولا تقربا هذه الشجرة } ، وليست ( عن ) للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى : { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي : الأوْلى أن ( عن ) بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقاً صادراً عن الهوى . ويجوز كون الضمير للجنة وتكون ( عن ) على ظاهرها والإزلال مجازاً في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله : «وكم منزل لولايَ طِحْتَ» .وقولُه : { فأخرجهما مما كانا فيه } تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة ، والمراد من الموصول وصلته التعظيم ، كقولهم قد كان ما كان ، فإن جعلت الضمير في قوله : { عنها } عائداً إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصَّل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكْري المجرَّد كما في قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أوْ هُم قائلون } [ الأعراف : 4 ] وقوله : { كذَّبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجِر } [ القمر : 9 ] . أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي .وقرأ حمزة «فأزالهما» بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير { عنها } عائداً إلى الجنة لا إلى الشجرة . وقد نُبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خَرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضاراً لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى : { فغَشِيَهم من اليَمِّ ما غَشِيَهُم } [ طه : 78 ] .وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تُنبِّهُ بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربيةِ العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سبباً في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبداً ثأراً لأبيهم مُعادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى :{ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] وقوله هنا : { بعضكم لبعض عدو } . وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومَن غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثاً على أخذ الثأر .وعطفُ { وقلنا اهبطوا } بالواو دون الفاء لأنه ليس متُفرِّع عن الإخراج بل هو متقدم عليه ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبةِ سياققِ ما فعله الشيطان وغروره بآدم فلذلك قدم قوله : { فأخرجهما } إثر قوله : { فأزلهما الشيطان } . ووجه جمع الضمير في { اهبطوا } قيل لأن هبوط آدم وحواءَ اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة فكان إهباطهما إهباطاً لنسلهما ، وقيل الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أُهبط عند إبايته السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } [ الأعراف : 12 ، 13 ] إلى قوله { قال اخرجُ منها مذءوماً مدحوراً } [ الأعراف : 18 ] إلى قوله { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } [ الأعراف : 19 ] فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه والإهباطُ الأول كان إهباطَ مَنع من الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة وكلا الوجهين بعيد ، فالذي أراه أن جمع الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله : { وكُلا منها رغداً } [ البقرة : 35 ] والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس :وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم ... يقُولون لا تهلك أسىً وتجملوإنما له صاحبان لقوله : «قفا نبك» إلخ وقال تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } وسيأتي في سورة التحريم ( 4 ) .وقوله : بعضكم لبعض عدو } يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن . إن كان الضمير في { اهبطوا } لآدم وزوجه وإبليس ، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر ، إن كان ضمير { اهبطوا } لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاماً لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى : { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم } فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة وقد قال أبو تمام :لأعْديتني بالحلم إن العلا تعدي ... ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضاً له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما ، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما :{ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } [ الأعراف : 20 ] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير ، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما ، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة . وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقاً وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سبباً في اضمحلال ذلك الخاطر ، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطِر الخير فكان جزاء مجردِ الهمِّ بالحسنة حسنةً ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهَم عشرَ حسنات كما ورد في الحديث الصحيح : « مَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ثم قال ومَنْ همَّ بسيئة فعملها كُتبت له سيئةٌ واحدة » وجعل العفو عن حديث النفس مِنَّة من الله تعالى ومغفرة في حديث « إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها »إن الله تعالى خلق الإنسان خَيِّراً سالماً من الشرور والخواطر الشريرة على صفة مَلَكية وهو معنى { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] ثم جعله أطواراً فأولها طور تعليمِه النطقَ ووضععِ الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأُ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضاً ما علِمَه وجَهِلَهُ الآخرِ فكان إلهامُه اللغة مبدأَ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علَّم الناسُ بعضهم بعضاً ولذلك ترى الصبي يرى الشيءَ فيسرعُ إلى قرنائه يُناديهم ليَرَوْهُ معه حرصاً على إفادتهم فكان الإنسان معلِّماً بالطبع وكان ذلك معيناً على خيريته إلا أنه صالح أيضاً لاستعمال النطق في التمويه والكذب؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلَّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خَلْق الله تعالى إياه على تلك الاستطاعة مبدأ طَور جديد هو المشار إليه بقوله : { ثم رَدَدْناه أَسفل سافلين } [ التين : 5 ] ، ثم هداه بواسطة الشرائع فصار باتباعها يبلغ إلى مراتب الملائكة ويرجع إلى تقويمه الأول وذلك معنى قوله :{ إلا الذين آمنُوا وعملوا الصالحات } [ التين : 6 ] وقد أشير إلى هذا الطور الأخير بقوله فيما يأتي : { فإما يأتينكم مني هُدى فَمَنْ تَبِعَ هُداي } [ البقرة : 38 ] الآية .وجملة { بعضكم لبعض عدو } إما مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإما جملة حال من ضير { اهبطوا } وهي اسمية خلت من الواو ، وفي اعتبار الجملة الاسمية الخالية من الواو حالا خلاف بين أئمة العربية ، منع ذلك الفراء والزمخشري وأجازه ابن مالك وجماعة . والحق عندي أن الجملة الحالية تستغني بالضمير عن الواو وبالواو عن الضمير فإذا كانت في معنى الصفة لصاحبها اشتملت على ضميره أو ضمير سببيِّه فاستغنت عن الواو نحو الآية ونحوجاء زيد يَدُه على رأسه أو أَبُوه يرافقه ، وإلا وجبت الواو إذ لا رابط حينئذ غيرُها نحو جاء زيد والشمسُ طالعة وقوللِ تأبط شراً :فخالط سَهْلَ الأرضضِ لَمْ يَكْدَح الصَّفَا ... به كَدْحَةً والموتُ خَزيان يَنْظُروقوله : { ولكم في الأرض مستقر } ضميره راجع إلى ما رجع إليه ضمير { اهبطوا } على التقادير كلها . والحين الوقت والمراد به وقت انقراض النوع الإنساني والشيطاني بانقراض العالم ، ويحتمل أن يكون المراد من ضمير { لكم } التوزيعَ أي ولكل واحد منكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . وإنما كان ذلك متاعاً لأن الحياة أمر مرغوب لسائر البشر على أن الحياة لا تخلو من لذات وتمتع بما وَهَبَنا الله من الملائمات . هذا إن أريد بالخبر المجموع أي لجميعكم وإن أريد به التوزيع فالحين هو وقت موت كل فرد على حدِّ قولك للجيش : هذه الأفْراس لكم أي لكل واحد منكم فرس .
Arabic Tanweer Tafseer
2:36
ثم بين القرآن بعد ذلك ما وقع فيه آدم من خطأ فقال : ( فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أي : اذهبهما عن الجنة عليهما ومقاسمته أنه لهما من الناصحين .وأزل من الإِزلال وهو الإِزلاق : زل يزل زلا وزللا ، أي : زلق في طين أو منطق ، والاسم الزلة . وأزلة غيره واستزله : أي أزلقه . أطلق وأريد به لازمه وهو الإِذهاب .وقرئ ( فَأَزَلَّهُمَا ) أي : نحاهما من الإِزالة ، تقول أزلت الشيء عن مكانه إزالة : أي : نحيته وأذهيته عنه .ثم استعمل هذا اللفظ في ارتكاب الخطيئة كما استعمل في خطأ الرأي مجازاً . والضمير في قوله : ( عَنْهَا ) يعود إلى الشجرة ، ومعنى أزلهما عن الشجرة ، أوقعهما في الزلة بسببها .والتعبير بقوله : ( فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ) أبلغ في الدلالة على فخامة الخيرات التي كانا يتقلبان فيها مما لو قيل : فأخرجهما من النعيم أو من الجنة لأن من أساليب البلاغة في الدلالة على عظم الشيء أن يعبر عنه بلفظ مبهم كما هنا . لكي تذهب نفس السامع في تصور عظمته وكماله إلى أقصى ما يمكنها أن تذهب إليه .ونسبة إخراجهما من الجنة إلى الشيطان في قوله : ( فَأَخْرَجَهُمَا ) من قبيل نسبة الفعل إلى ما كان سبباً فيه ، وذلك أن أكلهما من الشجرة الذي ترتب عليه إخراجهما من الجنة إنما وقع بسبب وسوسة الشيطان لهما .وقوله - تعالى - ( وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الخطاب فيه لآدم وحواء ونسلهما .والهبوط : النزول من أعلى إلى أسفل ضد الصعود . يقال : هبط يهبِط ويهبُط أي : نزل من علو إلى أسفل .والعداوة معناها التناكر والتنافر بالقلوب .أي : قلنا لآدم وحواء والشيطان انزلوا إلى الأرض متنافرين متباغضين ، يبغى بعضكم على بعض .وعداوة الشيطان لآدم نشأت عن حسد وتكبر منذ أن أُمِر بالسجود فأبى وامتنع وقال : أنا خير منه .وعداوة آدم وذريته للشيطان من جهة أنه يكيد لهم بالوسوسة والإِغراء وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد لآدم وذريته ، ونهى لهم عن اتباع الخطوات الشيطان ، لأنه عدو لهم ، ومن شأن العدو أنه يسعى لمضرة عدوه .قال - تعالى - ( إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير ) ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - : ( وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ ) .المستقر : موضع الاستقرار والثبات ، وهو مقابل القلق والاضطراب ، والمتاع : اسم لما يستمتع به من مأكل ومشرب وملبس وحياة وأنس وغير ذلك ، مأخوذ من متع النهار متوعاً إذا ارتفع ، ويطلق على الانتفاع الممتد الوقت .والحين : الجزء من الزمان غير محدد بحد ، والمراد به هنا وقت الموت أو يوم القيامة .والمعنى : انزلوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو؛ ولكم فيها منزل وموضع استقرار . وتمتع بالعيش إلى أن يأتيكم الموت .ومن كان على ذكر دائم من أن استقراره في الأرض وتمتعه بنعيمها سينتهي في وقت ، لا يدري متى يدركه ، فشأنه أن ينتفع بخيراتها ويتمتع بطيب العيش فيها ، وهو مقبل على العمل لمرضاة الله ما استطاع ، وشاكر لأنعمه بالقلب واللسان ، لا يشغله عن الشكر شاغل من ملذات هذه الحياة ومظاهر زينتها .
Arabic Waseet Tafseer
2:36
القول في تأويل قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَاقال أبو جعفر: اختلفت القَرَأة (200) في قراءة ذلك. فقرأته عامتهم،" فأزلَّهما " بتشديد اللام، بمعنى: استزلَّهما، من قولك زلَّ الرجل في دينه: إذا هفا فيه وأخطأ، فأتى ما ليس له إتيانه فيه. وأزلَّه غيره: إذا سبب له ما يزلّ من أجله في دينه أو دنياه، ولذلك أضاف الله تعالى ذكره إلى إبليسَ خُروجَ آدم وزوجته من الجنة، فقال: فَأَخْرَجَهُمَا يعني إبليس مِمَّا كَانَا فِيهِ ، لأنه كانَ الذي سَبَّب لهما الخطيئة التي عاقبهما الله عليها بإخراجهما من الجنة.وقرأه آخرون: " فأزَالهما "، بمعنى إزَالة الشيء عن الشيء، وذلك تنحيته عنه.وقد روي عن ابن عباس في تأويل قوله: " فأزلهما "، ما:-741 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: قال ابن عباس في تأويل قوله تعالى: " فأزلهما الشيطان " قال: أغواهما. (201)وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: " فأزلَّهما "، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في الحرف الذي يتلوه. بأن إبليس أخرجهما مما كانا فيه. وذلك هو معنى قوله " فأزالهما "، فلا وجه - إذْ كان معنى الإزالة معنى التنحية والإخراج - أن يقال: " فأزالهما الشيطانُ عنها فأخرجهما مما كانا فيه " فيكون كقوله: " فأزالهما الشيطان عنها فأزالهما مما كانا فيه " . ولكن المفهوم أن يقال: (202) فاستزلهما إبليسُ عن طاعة الله - كما قال جل ثناؤه: " فأزلهما الشيطان "، وقرأت به القراء - فأخرجهما باستزلاله إياهما من الجنة.فإن قال لنا قائل: وكيف كان استزلال إبليسُ آدمَ وزوجته، حتى أضيف إليه إخراجهما من الجنة؟قيل: قد قالت العلماء في ذلك أقوالا سنذكر بعضها (203)فحكي عن وهب بن منبه في ذلك ما:-742 - حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا عمر بن عبد الرحمن بن مُهرِب (204) قال: سمعت وهب بن منبه، يقول: لما &; 1-526 &; أسكن الله آدمَ وذريته - أو زوجته - الشك من أبي جعفر: وهو في أصل كتابه " وذريته " - ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرةً غصونها متشعِّبٌ بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نَهى الله آدمَ عنها وزوجته. فلما أراد إبليس أن يستزلَّهما دَخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بُخْتِيَّة، من أحسن دابة خلقها الله - فلما دخلت الحية الجنة، خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء (205) فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواءُ فأكلَتْ منها ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظرْ إلى هذه الشجرة! ما أطيبَ ريحها وأطيبَ طعمها وأحسنَ لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتُهما. فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربُّه يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب (206) ! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحيي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خُلقتَ منها لعنةً يتحوَّل ثمرها شوكًا. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرةٌ كان أفضل من الطَّلح والسِّدر، ثم قال: يا حواء، أنت التي غرَرْتِ عبدي، فإنك لا تَحملين حَملا إلا حملته كَرْهًا ، فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنة تَتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقِبه، وحيث لقيك شدَخ رأسك. قال عمر: (207) قيل لوهب: وما كانت الملائكة تأكل؟ قال: يفعل الله ما يشاء (208) .وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة:743 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما قال الله عز وجلّ لآدم: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ، أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة، فمنعته الخزَنة. فأتى الحية - وهي دابَّة لها أربعُ قوائم كأنها البعير، وهي كأحسن الدواب - فكلمها أن تُدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم، فأدخلته في فُقْمها - قال أبو جعفر: والفقم جانب الشدق (209) - فمرت الحية على الخزنة فدخلت ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر. فكلمه من فُقمها فلم يبال كلامه (210) ، فخرج إليه فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [سورة طه: 120] يقول: هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت مَلِكًا مثل الله عز وجل، أو تكونا من الخالدين (211) ، فلا تموتان أبدًا. وحلف لهما بالله إني لكما لمن الناصحين. وإنما أراد بذلك ليبديَ لهما ما تَوارى عنهما من سَوْآتهما بهتكِ لباسهما. وكان قد علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يكن آدم يعلم ذلك. وكان لباسُهما الظُّفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتقدمت حواء فأكلت، ثم قالت: يا آدم كُلْ! فإني قد أكلتُ فلم يضرَّني. فلما أكل آدم بدت لهما سوآتُهما وَطفقا يَخصفان عليهما من ورق الجنة (212) .744 - حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدثني محدّث: أن الشيطان دخل الجنة في صورة دابة ذات قوائم، فكان يُرى أنه البعير، قال: فلعِن، فسقطت قوائمه فصار حيَّة. (213)745 - وحُدِّثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: وحدثني أبو العالية أن منَ الإبل مَا كان أوّلها من الجن، قال: فأبيحت له الجنة كلها إلا الشجرة (214) ، وقيل لهما: " لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ". قال: فأتى الشيطان حواء فبدأ بها، فقال: أنُهيتما عن شيء؟ قالت: نعم! عن هذه الشجرة فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [سورة الأعراف: 20] قال: فبدأت حواء فأكلت منها، ثم أمرت آدم فأكل منها. قال: وكانت شجرةً من أكل منها أحدث. قال: ولا ينبغي أن يكون في الجنة حَدَث. قال: " فأزالهما الشيطان عَنها فأخرجهما مما كانا فيه " (215) ، قال: فأخرج آدم من الجنة (216) .746 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من الكرامة وما أعطاه الله منها، قال: لو أن خُلدًا كان! فاغتمز فيها منه الشيطان لما سمعها منه (217) ، فأتاه من قِبَل الخلد. (218) .747 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حُدثت: أن أول ما ابتدأهما به من كيده إياهما، أنه ناح عليهما نياحَة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة. فوقع ذلك في أنفسهما. ثم أتاهما فوسوس إليهما، فقال: يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى وقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . أي تكونا مَلَكين، أو تخلدَا، إن لم تكونا ملكين (219) - في نعمة الجنة فلا تموتان. يقول الله جل ثناؤه: فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ (220) .748 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم. قال: فدعاها آدم لحاجته، قالت: لا! إلا أن تأتي ههنا. فلما أتى قالت: لا! إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدَت لهما سَوآتهما. قال: وذهب آدم هاربًا في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفرّ؟ قال: لا يا رب، ولكن حياءً منك. قال: يا آدم أنَّى أُتِيت؟ قال: من قِبَل حواء أي رب. فقال الله: فإن لها عليَّ أن أدميها في كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة (221) ، وأن أجعلها سفيهةً فقد كنت خلقتها حَليمة، وأن أجعلها تحمل كرهًا وتضع كرهًا، فقد كنت جعلتها تحمل يُسرًا وتَضع يُسرًا. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حوّاء. لكان نساء الدنيا لا يَحضن، ولَكُنَّ حليماتٍ، وكن يحملن يُسرًا ويضعن يسُرًا. (222)749 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط، عن سعيد بن المسيب، قال: سمعته يحلف بالله ما يستثْني - ما أكل آدم من الشجرة وهو يَعقل، ولكن حواء سقته الخمر، حتى إذا سكر قادته إليها فأكل (223) .750 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ليث بن أبي سُليم، عن طاوس اليماني، عن ابن عباس، قال: إن عدو الله إبليس عرض نفسه على دوابّ الأرض أيُّها يحمله حتى يدخل الجنة معها ويكلم آدم وزوجته (224) ، فكلّ الدواب أبى ذلك عليه، حتى كلّم الحية فقال لها: أمنعك من ابن آدم، فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتِني الجنة. فجعلته بين نابين من أنيابها، ثم دخلت به، فكلمهما من فيها؛ وكانت كاسية تمشي على أربع قوائم، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها. قال: يقول ابن عباس: اقتلوها حيث وَجَدتُموها، أخفروا ذمَّةَ عدوّ الله فيها (225) .751 - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، قال قال ابن إسحاق: وأهل التوراة يدرُسون: إنما كلم آدمَ الحية، ولم يفسروا كتفسير ابن عباس.752 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي مَعشر، عن محمد بن قيس، قال: نهى الله آدمَ وحواء أن يأكلا من شجرة واحدة في الجنة، ويأكلا منها رَغدًا حيث شاءَا. فجاء الشيطان فدخل في جوف الحية، فكلم حواء، ووسوس الشيطان إلى آدم فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ &; 1-531 &; النَّاصِحِينَ . قال: فقطعت (226) حواء الشجرة فدَميت الشجرة. وسقط عنهما رياشهما الذي كان عليهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة الأعراف: 22]. لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب أطعمتني حواء. قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية. قال للحية: لم أمرتِها؟ قالت: أمرني إبليس. قال: ملعونٌ مدحورٌ! أما أنت يا حواء فكما أدميْتِ الشجرة تَدْمَيْن (227) في كلّ هلال، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين جريًا على وَجهك، وَسيشدخ رأسك من لقيك بالحجر ، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ (228) .قال أبو جعفر: وقد رُويت هذه الأخبار - عمن رويناها عنه من الصحابة والتابعين وغيرهم - في صفة استزلال إبليس عدوِّ الله آدمَ وزوجتَه حتى أخرجهما من الجنة.وأولى ذلك بالحق عندنا ما كان لكتاب الله مُوافقًا. وقد أخبر الله تعالى ذكره عن إبليس أنه وسوس لآدم وزوجته ليبديَ لهما ما وُري عنهما من سَوآتهما، وأنه قال لهما: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ، وأنه " قاسمَهما إني لكما لمن الناصحين " مُدلِّيًا لهما بغرور. ففي إخباره جل ثناؤه - عن عدوّ الله أنه قاسم آدم وزوجته بقيله لهما: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ - الدليلُ الواضح على أنه قد باشر خطابهما بنفسه، إما ظاهرًا لأعينهما، وإما مستجِنًّا في غيره. وذلك أنه غير مَعقول في كلام العرب أن يقال: قاسم فلانٌ فلانًا في كذا وكذا. إذا سبّب له سببًا وصل به إليه دون أن يحلف له. والحلف لا يكون بتسبب السبب. فكذلك قوله فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ، لو كان ذلك كان منه إلى آدم - على نحو الذي منه إلى ذريته، من تزيين أكل ما نهى الله آدم &; 1-532 &; عن أكله من الشجرة، بغير مباشرة خطابه إياه بما استزلّه به من القول والحيل - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ . كما غير جائز أن يقول اليوم قائلٌ ممن أتى معصية: قاسمني إبليس أنه لي ناصحٌ فيما زيَّن لي من المعصية التي أتيتها. فكذلك الذي كان من آدمَ وزوجته، لو كان على النحو الذي يكون فيما بين إبليس اليومَ وذرية آدم - لما قال جلّ ثناؤه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ، ولكن ذلك كان - إن شاء الله - على نحو ما قال ابن عباس ومن قال بقوله.فأما سَبب وصوله إلى الجنة حتى كلم آدم بعد أن أخرجه الله منها وطرده عنها، فليس فيما رُوي عن ابن عباس ووهب بن منبه في ذلك معنى يجوز لذي فهم مُدافعته، إذ كان ذلك قولا لا يدفعه عقل ولا خبر يلزم تصديقه من حجة بخلافه (229) ، وهو من الأمور الممكنة. والقول في ذلك أنه وصل إلى خطابهما على ما أخبرنا الله جل ثناؤه (230) ؛ وممكن أن يكون وصل إلى ذلك بنحو الذي قاله المتأولون، بل ذلك - إن شاء الله - كذلك، لتتابع أقوال أهل التأويل على تصحيح ذلك. وإن كان ابن إسحاق قد قال في ذلك ما:-753 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في ذلك، والله أعلم، كما قال ابن عباس وأهل التوراة: إنه خَلص إلى آدم وزوجته بسُلطانه الذي جعل الله له ليبتلي به آدم وذريته، وأنه يأتي ابن آدم في نَوْمته وفي يَقظته، وفي كل حال من أحواله، حتى يخلص إلى ما أراد منه، حتى يدعوَه إلى المعصية، ويوقع في نفسه الشهوة وهو لا يراه. وقد قال الله عز وجلّ : " فأزلهما الشيطان عنها، فأخرَجهما مما كانا فيه " (231) ، وقال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ &; 1-533 &; الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْـزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأعراف: 27] وقد قال الله لنبيه عليه السلام: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ إلى آخر السورة. ثم ذكر الأخبار التي رُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الشيطان يجري من ابن آدمَ مَجرى الدم (232) . ثم قال ابن إسحاق (233) : وإنما أمرُ ابن آدم فيما بينه وبين عدوِّ الله، كأمره فيما بينه وبين آدم. فقال الله: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [سورة الأعراف: 13]. ثم خلص إلى آدم وزوجته حتى كلمهما، كما قصَّ الله علينا من خبرهما، فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [سورة طه: 120]، فخلص إليهما بما خلص إلى ذريته من حيث لا يريانه - فالله أعلمُ أيّ ذلك كان - فتابا إلى ربهما.* * *قال أبو جعفر: وليس في يقين ابن إسحاق - لو كان قد أيقن في نفسه - أن إبليس لم يخلص إلى آدم وزوجته بالمخاطبة بما أخبر الله عنه أنه قال لهما وخاطبهما به، ما يجوز لذي فهم الاعتراضُ به على ما ورد من القول مستفيضًا من أهل العلم، مع دلالة الكتاب على صحة ما استفاض من ذلك بينهم. فكيف بشكّه؟ والله نسأل التوفيق.&; 1-534 &;القول في تأويل قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِقال أبو جعفر: وأما تأويل قوله " فأخرجهما "، فإنه يعني: فأخرج الشيطانُ آدمَ وزوجته،" مما كانا "، يعني مما كان فيه آدمُ وزوجته من رغد العيش في الجنة، وسعة نعيمها الذي كانا فيه. وقد بينا أن الله جل ثناؤه إنما أضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان - وإن كان الله هو المخرجَ لهما - لأن خروجهما منها كان عن سبب من الشيطان ، فأضيف ذلك إليه لتسبيبه إياه (234) كما يقول القائل لرجل وَصل إليه منه أذى حتى تحوّل من أجله عن موضع كان يسكنه: " ما حوَّلني من موضعي الذي كنت فيه إلا أنت "، ولم يكن منه له تحويل، ولكنه لما كان تحوّله عن سبب منه، جازَ له إضافة تحويله إليه.القول في تأويل قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّقال أبو جعفر: يقال هَبط فلان أرضَ كذا وواديَ كذا، إذا حلّ ذلك (235) كما قال الشاعر:مَـا زِلْـتُ أَرْمُقُهُـمْ, حَـتَّى إِذَا هَبَطَتْأَيْـدِي الرِّكَـابِ بِهِـمْ مِـنْ رَاكِسٍ فَلَقَا (236)وقد أبان هذا القولُ من الله جل ثناؤه، عن صحة ما قلنا من أنّ المخرِجَ آدمَ من الجنة هو الله جل ثناؤه، وأن إضافة الله إلى إبليس ما أضاف إليه من إخراجهما، كان على ما وصفنا. ودلّ بذلك أيضًا على أنّ هبوط آدم وزوجته وعدوهما إبليس، كان في وقت واحد، بجَمْع الله إياهم في الخبر عن إهباطهم، بعد الذي كان من خطيئة آدم وزوجته، وتسبُّب إبليس ذلك لهما (237) ، على ما وصفه ربنا جل ذكره عنهم.قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: " اهبطوا "، مع إجماعهم على أن آدم وزوجته ممن عُني به.754 - فحدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عَوَانة، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح: " اهبطوا بَعضُكم لبعض عَدوٌّ"، قال: آدم وحواءُ وإبليس والحية (238) .755 - حدثنا ابن وكيع، وموسى بن هارون، قالا حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ: " اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌّ"، قال: فلعنَ الحية وقطع قوائمها وتركها تمشي على بطنها، وجعل رزقها من التراب. وأهبِط إلى الأرض آدمُ وحواء وإبليس والحية (239) .756 - وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله: " اهبِطوا بعضكم لبعض عدو "، قال: آدم وإبليس والحية (240) .&; 1-536 &;757 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو "، آدم وإبليس والحية ، ذريةٌ بعضُهم أعداءٌ لبعضٍ.758 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، عن مجاهد: " بعضكم لبعض عدوٌّ"، قال: آدم وذريته، وإبليس وذريته.759 - وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: " بعضكم لبعض عدوٌّ" قال: يعني إبليس وآدم. (241)760 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدّيّ، عمن حدثه عن ابن عباس في قوله: " اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: بعضهم لبعض عدوّ: آدم وحواء وإبليس والحية (242) .761 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهديّ، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: " اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: آدم وحواء وإبليس والحية. (243)762 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: " اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ" قال: لهما ولذريتهما. (244)قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كانت عداوة ما بين آدمَ وزوجته وإبليس والحية؟ &; 1-537 &; قيل: أما عداوة إبليس آدم وذريته، فحسدهُ إياه، واستكبارُه عن طاعة الله في السجود له حين قال لربه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [سورة ص: 76]. وأما عداوة آدم وذريته إبليس، فعداوةُ المؤمنين إياه لكفره بالله وعصيانه لربّه في تكبره عليه ومُخالفته أمرَه. وذلك من آدم ومؤمني ذريته إيمانٌ بالله. وأما عداوة إبليسَ آدمَ فكفرٌ بالله.وأما عدَاوة ما بين آدم وذريته والحية، فقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس ووهب بن منبه، وذلك هي العداوة التي بيننا وبينها، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَا سالمناهُنّ مُنذ حَاربْناهن، فمن تركهنّ خشيةَ ثأرهنَّ فليس منَّا.763 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثني حَجاج بن رِشْدين، قال: حدثنا حَيْوة بن شُريح، عن ابن عَجلانَ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما سَالمناهُنَّ مُنذ حارَبناهنّ ، فمن ترك شيئًا منهنّ خيفةً، فليس منا (245)قال أبو جعفر: وأحسبُ أن الحرب التي بيننا، كان أصله ما ذكره علماؤنا الذين قدمنا الرواية عنهم، في إدخالها إبليس الجنة بعد أن أخرجه الله منها، حتى استزلّه عن طاعة ربه في أكله ما نُهي عن أكله من الشجرة.764 - وحدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام - وحدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال: حدثني آدم - جميعًا، عن شيبان، عن جابر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن قَتل الحيَّات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خُلقتْ هي والإنسانُ كل واحد منهما عدوّ لصاحبه، إن رآها أفزعته، وإن لدَغته أوجعته، فاقتلها حَيث وجدتها (246) .القول في تأويل قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال: بعضهم بما:-765 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: " ولكم في الأرض مُستقَرٌّ" قال: هو قوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا [سورة البقرة: 22].766 - وحُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: " ولكم في الأرض مستقرٌّ"، قال: هو قوله: جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا (247) [سورة غافر: 64].&; 1-539 &;وقال آخرون : معنى ذلك ولكم في الأرض قَرَار في القبور.* ذكر من قال ذلك:767 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: " ولكم في الأرض مستقر "، يعني القبور (248) .768 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس قال: " ولكم في الأرض مستقرٌّ"، قال: القبور (249) .769 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: " ولكم في الأرض مستقر "، قال: مقامهم فيها (250) .قال أبو جعفر: والمستقرُّ في كلام العرب، هو موضع الاستقرار. فإذْ كان ذلك كذلك، فحيث كان من في الأرض موجودًا حالا فذلك المكان من الأرض مستقره.إنما عنى الله جل ثناؤه بذلك: أنّ لهم في الأرض مستقرًّا ومنـزلا بأماكنهم ومستقرِّهم من الجنة والسماء. وكذلك قوله: وَمَتَاعٌ يعني به: أن لهم فيها متاعًا بمتاعهم في الجنة.القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: ولكم فيها بَلاغ إلى الموت.* ذكر من قال ذلك:770 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا &; 1-540 &; أسباط، عن السُّدّيّ في قوله: " ومتاعٌ إلى حين "، قال يقول: بلاغ إلى الموت (251) .771 - وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن إسماعيل السُّدّيّ، قال: حدثني من سمع ابن عباس: " ومتاعٌ إلى حين "، قال: الحياة (252) .وقال آخرون: يعني بقوله: " ومتاعٌ إلى حين "، إلى قيام الساعة.* ذكر من قال ذلك:772 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: " ومتاع إلى حين "، قال: إلى يوم القيامة، إلى انقطاع الدنيا.وقال آخرون: " إلى حين "، قال: إلى أجل.* ذكر من قال ذلك:773 - حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " ومتاع إلى حين "، قال: إلى أجل (253) .والمتاع في كلام العرب: كل ما استُمتع به من شيء، من معاش استُمتع به أو رِياش أو زينة أو لذة أو غير ذلك (254) . فإذْ كان ذلك كذلك - وكان الله جل ثناؤه قد جَعل حياة كل حيّ متاعًا له يستمتع بها أيام حياته، وجعل الأرض للإنسان مَتاعًا أيام حياته، بقراره عليها، واغتذائه بما أخرج الله منها من الأقوات والثمار، والتذاذه بما خلق فيها من الملاذِّ، وجعلها من بعد وفاته لجثته كِفاتًا (255) ، ولجسمه منـزلا وَقرارا؛ وكان اسم المتاع يَشمل جميع ذلك - كان أولى التأويلات &; 1-541 &; بالآية - (256) إذْ لم يكن الله جل ثناؤه وضع دلالة دالة على أنه قَصد بقوله: " ومتاعٌ إلى حين " بعضًا دون بعض، وخاصًّا دون عامٍّ في عقل ولا خبر - أن يكون ذلك في معنى العامِّ، وأن يكون الخبر أيضًا كذلك، إلى وقت يطول استمتاع بني آدم وبني إبليس بها، وذلك إلى أن تُبدَّل الأرض غير الأرض. فإذْ كان ذلك أولى التأويلات بالآية لما وَصفنا، فالواجب إذًا أن يكون تأويل الآية: ولكم في الأرض مَنازلُ ومساكنُ تستقرُّون فيها استقراركم - كان - في السموات ، وفي الجنان في منازلكم منها (257) ، واستمتاع منكم بها وبما أخرجت لكم منها، وبما جعلت لكم فيها من المعاش والرياش والزَّين والملاذِّ، وبما أعطيتكم على ظهرها أيام حياتكم ومن بعد وفاتكم لأرْماسكم وأجدَاثكم تُدفنون فيها (258) ، وتبلغون باستمتاعكم بها إلى أن أبدلكم بها غيرها.------------------الهوامش :(200) في المطبوعة : "اختلف القراء" والقَرَأَة جمع قارئ ، وانظر ما مضى : 51 ، تعليق ، وص : 64 ، 109 وغيرهما .(201) الخبر : 741 - في الدر المنثور 1 : 53 ، والشوكاني 1 : 56 .(202) في المطبوعة : "لكن المعنى المفهوم" ، زاد ما لا جدوى فيه .(203) في المطبوعة : "سنذكر" بغير واو .(204) في المطبوعة : "عمرو" بدل"عمر" ، وفي المخطوطة وابن كثير : "مهران" ، بدل"مهرب" . وكلاهما خطأ ، صوابه ما أثبتنا : "عمر بن عبد الرحمن بن مهرب" ، فهذا الشيخ ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/1/121 ، وقال : "سمع وهب بن منبه ، روى عنه إبراهيم بن خالد الصنعاني ، وعبد الرزاق" . ثم روى عن يحيى بن معين ، قال : "عمر بن عبد الرحمن بن مهرب : ثقة" . ولم أجد له ترجمة أخرى . و"مهرب" : لم أجد نصًّا بضبطها في هذا النسب ، إلا قول صاحب القاموس أنهم سموا من مادة (هرب) بوزن"محسن" - يعني بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه . ووقع اسم هذا الشيخ محرفًا إلى شيخين ، في تاريخ الطبري 1 : 54 - في هذا الإسناد ، هكذا : "معمر عن عبد الرحمن بن مهران"!(205) في المطبوعة : "فجاء به" ، والذي أثبتناه من المخطوطة وتاريخ الطبري .(206) في المطبوعة : "أنا هنا يا رب" ، وأثبتناه ما في المخطوطة وتاريخ الطبري .(207) في المطبوعة : "قال عمرو" ، وأثبتنا الصواب من المخطوطة ، ومما ذكرنا آنفًا .(208) الأثر : 742 - في تاريخ الطبري 1 : 54 ، بهذا الإسناد ، وأوله في ابن كثير 1 : 143 .(209) في المطبوعة وتاريخ الطبري 1 : 53 : "فأدخلته في فمها ، فمرت الحية . . . " ، وما أثبتناه من المخطوطة .(210) في المطبوعة وتاريخ الطبري : "فكلمة من فمها" . وفي المطبوعة : "فلم يبال بكلامه" .(211) في المخطوطة : "وتكونا من الخالدين" .(212) الخبر : 743 . بنصه في تاريخ الطبري 1 : 53 ، وببعض الاختلاف في الدر المنثور 1 : 53 ، والشوكاني 1 : 56 .(213) الأثر : 744 - في تاريخ الطبري 1 : 55 .(214) في تاريخ الطبري 1 : 55 ، زيادة سياقها : " . . . كلها - يعني آدم - إلا الشجرة" .(215) في تاريخ الطبري 1 : 55"فأزلهما الشيطان" .(216) الأثر : 745 - في تاريخ الطبري 1 : 55(217) في التاريخ : "لو أنا خلدنا" . وفي المطبوعة : "فاغتنمها منه الشيطان" ، لم يحسنوا قراءة المخطوطة فبدلوا الحرف ، وأثبتنا ما في المخطوطة والتاريخ . يقال : سمع مني كلمة فاغتمزها ، أي استضعفها ووجد فيها مغمزًا يعاب يؤتي من قبله .(218) الأثر : 746 - في تاريخ الطبري 1 : 55 .(219) في المخطوطة : "أي تكونا ملكين ، أو تخلدان إن لم . . . " وفي التاريخ 1 : 55 : "أي تكونان ملكين أو تخلدان - أي إن لم . . . " .(220) الأثر : 747 - في تاريخ الطبري 1 : 55 .(221) في المخطوطة : "كما دمت هذه الشجرة" .(222) الأثر : 748 - في تاريخ الطبري 1 : 55 .(223) الأثر : 749 - في تاريخ الطبري 1 : 55 - 56 ، وهو هناك تام .(224) في المخطوطة والمطبوعة والدر المنثور : "أنها تحمله حتى يدخل . . . " ، وأثبت ما في تاريخ الطبري 1 : 54 ، فهو أجود وأصح .(225) الخبر : 750 - في تاريخ الطبري 1 : 53 -54 ، والدر المنثور 1 : 53 . وأخفر الذمة والعهد : نقضهما ، ولم يف بهما .(226) في المطبوعة : "فعضت حواء الشجرة" ، وأثبتنا ما في المخطوطة وتاريخ الطبري 1 : 54 .(227) في المطبوعة : "فتدمين" ، وأثبتنا ما في المخطوطة والتاريخ .(228) الأثر : 752 - في تاريخ الطبري 1 : 54 .(229) في المطبوعة : "إذا كان ذلك قولا لا يدفعه قول . . . " .(230) في المطبوعة : "والقول في ذلك . . . " .(231) في المطبوعة والمخطوطة : "وقد قال الله فوسوس لهما الشيطان ، فأخرجهما مما كان فيه" ، وهذه ليست آية ، والصواب أنه أراد آية سورة البقرة هذه .(232) حديث"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" - حديث صحيح جدًّا - رواه أحمد والشيخان وأبو داود ، من حديث أنس ، ورواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه ، من حديث صفية ، وهي بنت حيي ، أم المؤمنين ، كما في الجامع الصغير : 2036 .(233) في المطبوعة إسقاط : "ثم" .(234) في المطبوعة : "وأضيف ذلك . . . " .(235) لعل صواب العبارة : "إذا حل ذلك الموضع" ، فسقطت كلمة من الناسخين .(236) البيت لزهير بن أبي سلمى ، ديوانه : 37 ، أرمقهم : يعني أحبابه الراحلين ، وينظر إليهم حزينًا كئيبًا ، والركاب : الإبل التي يرحل عليها . وراكس : واد في ديار بني سعد بن ثعلبة ، من بني أسد . وفلق وفالق : المطمئن من الأرض بين ربوتين أو جبلين أو هضبتين ، وقالوا : فالق وفلق ، كما قالوا : يابس ويبس (بفتحتين) .(237) لعل الأجود : "وتسبيب إبليس ذلك لهما" ، وهي في المخطوطة غير منقوطة .(238) الأثر : 754 - في الدر المنثور 1 : 55 .(239) الأثر : 755 - في تاريخ الطبري 1 : 56 ، والظاهر أن إسناده هنا سقط منه شيء ، وتمامه في التاريخ : " . . . عن السدي - في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : اهبطوا . . . " . وهو الإسناد الذي يكثر الطبري من الرواية به .(240) الأثر : 756 - في تاريخ الطبري 1 : 56 .(241) الآثار : 757 - 759 لم أجدها بإسنادها في مكان .(242) الخبر : 760 - كالذي يليه من طريق آخر .(243) الخبر : 761 - في تاريخ الطبري 1 : 56 .(244) الأثر : 762 - لم أجده في مكان .(245) الحديث : 763 - إسناده جيد . والحديث مروي بأسانيد أخر صحاح ، كما سنذكر ، إن شاء الله . حجاج : هو ابن رشدين بن سعد المصري ، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/2/160 ، وذكر أنه يروي عن"حيوة بن شريح" ، ويروي عنه"محمد بن عبد الله بن عبد الحكم" . وذكر أنه سأل عنه أبا زرعة ، قال : "لا علم لي به ، لم أكتب عن أحد عنه" . وترجمه الحافظ في لسان الميزان ، ونقل أنه ضعفه ابن عدي ، وأنه مات سنة 211 ، وأن ابن يونس لم يذكر فيه جرحًا ، "وقال الخليلي : هو أمثل من أبيه ، وقال مسلمة بن قاسم : لا بأس به" ، وأن ابن حبان ذكره في الثقات . وهذا كاف في توثيقه ، خصوصًا وأن ابن يونس أعرف بتاريخ المصريين .وأبوه اسمه"رشدين" ، بكسر الراء والدال بينهما شين معجمة ساكنة ، وبعد الدال ياء ونون . ووقع في المطبوعة"رشد"؛ وهو خطأ .والحديث رواه أحمد في المسند : 9586 ، عن يحيى - وهو القطان ، 10752 ، عن صفوان - وهو ابن عيسى الزهري ، كلاهما عن ابن عجلان ، به (2 : 432 ، 520 من طبعة الحلبي) . ورواه أيضًا قبل ذلك مختصرًا : 7360 (2 : 247) عن سفيان بن عيينة . ورواه أبو داود : 5248 (4 : 534 عون المعبود) ، من طريق سفيان ، تاما . وهذه أسانيد صحاح .وورد معناه من حديث ابن عباس ، في المسند أيضًا : 2037 ، 3254 . وقريب من معناه من حديث ابن مسعود ، في المسند أيضًا : 3984 .(246) الحديث : 764 - في الدر المنثور 1 : 55 ، ونسبه للطبري فقط . وهو في مجمع الزوائد 4 : 45 بلفظ آخر ، وقال : رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه جابر غير مسمى ، والظاهر أنه الجعفي ، وثقه الثوري وشعبة ، وضعفه الأئمة أحمد وغيره .(247) الأثران : 765 - 766 : لم أجدهما في مكان .(248) الأثر : 767 - لم أجده في مكان .(249) الخبر : 768 - في الدر المنثور 1 : 55 ، وهو من تمام الخبر : 761 .(250) الأثر : 769 - لم أجده في مكان .(251) الأثر : 770 - لم أجده في مكان .(252) الأثر : 771 - في الدر المنثور 1 : 55 ، وهو من تمام الأثرين : 761 ، 768 .(253) الأثران : 772 ، 773 : لم أجدهما في مكان .(254) في المخطوطة : "في معاش استمتع . . . " .(255) الكفات : الموضع الذي يضم فيه الشيء ويقبض .(256) في المطبوعة : "إن لم يكن الله . . . " ، وهو خطأ .(257) في المطبوعة : "في الجنات" .(258) الأرماس جمع رمس ، والأجداث جمع جدث (بفتحتين) : وهما بمعنى القبر .
الطبري
2:36
قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين[ ص: 294 ] قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيهفيه عشر مسائل : الأولى : قوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها قرأ الجماعة فأزلهما بغير ألف ، من الزلة وهي الخطيئة ، أي استزلهما وأوقعهما فيها . وقرأ حمزة " فأزالهما " بألف ، من التنحية ، أي نحاهما . يقال : أزلته فزال . قال ابن كيسان : فأزالهما من الزوال ، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية .قلت : وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى ، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى . يقال منه : أزللته فزل . ودل على هذا قوله تعالى : إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ، وقوله : فوسوس لهما الشيطان والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية ، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان ، إنما قدرته على إدخاله في الزلل ، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه . وقد قيل : إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى ، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال . قال امرؤ القيس :يزل الغلام الخف عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقلوقال أيضا :كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزلالثانية : قوله تعالى : فأخرجهما مما كانا فيه إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله : ( فأخرجهما ) تأكيد وبيان للزوال ، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة ، وليس كذلك ، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض ، لأنهما خلقا منها ، وليكون آدم خليفة في الأرض . ولم يقصد إبليس - لعنه الله - إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو ، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن . قال الله جل ثناؤه : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره ، فكم بين الخليفة والجار صلى الله عليه وسلم . ونسب ذلك إلى إبليس ; لأنه كان بسببه وإغوائه . ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم ، واختلف في الكيفية ، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة ، ودليل ذلك قوله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين والمقاسمة ظاهرها المشافهة . وقال بعضهم ، وذكره عبد الرزاق عن وهب بن منبه : دخل الجنة في فم الحية وهي [ ص: 295 ] ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية ، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال : انظري إلى هذه الشجرة ، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها . ثم أغوى آدم ، وقالت له حواء : كل فإني قد أكلت فلم يضرني ، فأكل منها فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب ، فدخل آدم في جوف الشجرة ، فناداه ربه : أين أنت ؟ فقال : أنا هذا يا رب ، قال : ألا تخرج ؟ قال : أستحي منك يا رب ، قال : اهبط إلى الأرض التي خلقت منها . ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمرنا بقتلها ، على ما يأتي بيانه . وقيل لحواء : كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا . زاد الطبري والنقاش : وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة . وقالت طائفة : إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . والله أعلم . وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية ، فرحمته شجرة التين ، فأخذ من ورقه فاستتر به ، فبلي بالعري دون الشجر . والله أعلم . وقيل : إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا .الثالثة : يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك ، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب ، وقيل لها : أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك . روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس يقتلهن المحرم فذكر الحية فيهن . وروي أن إبليس قال لها : أدخليني الجنة وأنت في ذمتي ، فكان ابن عباس يقول : أخفروا ذمة إبليس . وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اقتلوا الحيات [ ص: 296 ] صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا . قال علماؤنا : وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده ، فلذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا . أخرجه مسلم وغيره .الرابعة : روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم : بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقتلوها ) فسبقتنا إلى جحر فدخلته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا . قال علماؤنا : وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى ، قالوا : فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر . فإن قيل : قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة . قيل له : يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمل على الأثر الذي جاء : لا تعذبوا بعذاب الله فكان على هذا سبيل العمل عنده .فإن قيل : فقد روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه : والمرسلات عرفا فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية ، فقال : ( اقتلوها ) ، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقاها الله شركم كما وقاكم شرها . فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها . قيل له : يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها ، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان . والله أعلم . وقوله : " وقاها الله شركم " أي قتلكم إياها " كما وقاكم شرها " أي لسعها .الخامسة : الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ، [ ص: 297 ] فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله ، لقوله : اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل . فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما . وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الأمر العام ، ولأن نوع الحيات غالبه الضرر ، فيستصحب ذلك فيه ، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية . فشجع على قتلها . وقال فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا : اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني . والله أعلم .السادسة : ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام ، لقوله عليه السلام : إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام . وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها ، قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا ، قاله ابن نافع . وقال مالك : نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد . وهو الصحيح ; لأن الله عز وجل قال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن الآية . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، الحديث . وسيأتي بكماله في سورة " الجن " إن شاء الله تعالى . وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .السابعة : روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي ، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية ، فوثبت لأقتلها ، فأشار إلي أن اجلس فجلست ، [ ص: 298 ] فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم ، فقال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة . فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا ، الحية أم الفتى قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا ، فقال : استغفروا لأخيكم - ثم قال : - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان . وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر - وقال لهم : - اذهبوا فادفنوا صاحبكم . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا ; لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة ; إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا ، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا بصاحبهم عدوا وانتقاما . وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا :قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده ورميناه بسهمين فلم نخط فؤادهوإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن بالمدينة جنا قد أسلموا ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم . روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها : لقد قتلت مسلما ، فقالت : لو كان مسلما لم يدخل [ ص: 299 ] على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك . فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله . وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة ، فتصدقت وأعتقت رقابا . وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي ، وعن علقمة نحوه .الثامنة : في صفة الإنذار ، قال مالك : أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام . وقاله عيسى بن دينار ، وإن ظهر في اليوم مرارا . ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام . وقيل : يكفي ثلاث مرار ، لقوله عليه السلام : فليؤذنه ثلاثا ، وقوله : حرجوا عليه ثلاثا ولأن ثلاثا للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات . وقول مالك أولى ، لقوله عليه السلام : ثلاثة أيام . وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل " ثلاثا " على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث . قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا . وذكر ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه .قلت : وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الإذن مرة واحدة ، والحديث يرده . والله أعلم . وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول : أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان - عليه السلام - ألا تؤذيننا وألا تظهرن علينا .التاسعة : روى جبير بن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون . وروى أبو الدرداء - واسمه عويمر - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون [ ص: 300 ] بها وآذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله .العاشرة : ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يقتل ابتداء ، لأجل إذايته من غير خلاف ، كالحية والعقرب والفأر والوزغ ، وشبهه . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم . . . . وذكر الحديث .فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها ، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به . وقال لها إبليس أنت في ذمتي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال : اقتلوها ولو كنتم في الصلاة يعني الحية والعقرب .والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت . وهذا من نوع ما يروى في الحية . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قتل وزغة فكأنما قتل كافرا . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك وفي راوية أنه قال : في أول ضربة سبعون حسنة .[ ص: 301 ] والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها . وروى عبد الرحمن بن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة . واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها . والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة . هذا كله في معنى الحية ، فلذلك ذكرناه . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في " المائدة " وغيرها إن شاء الله تعالى .قوله تعالى : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوفيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى وقلنا اهبطوا حذفت الألف من اهبطوا في اللفظ لأنها ألف وصل . وحذفت الألف من قلنا في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها . وروى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في ( اهبطوا ) ، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل . والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان ، في قول ابن عباس . وقال الحسن : آدم وحواء والوسوسة . وقال مجاهد والحسن أيضا : بنو آدم وبنو إبليس . والهبوط : النزول من فوق إلى أسفل ، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له " بوذ " ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا ، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام . وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع ، فأورث ولده الصلع . وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا الحديث وأخرجه مسلم وسيأتي . وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة ، والحية ببيسان ، وقيل : بسجستان . وسجستان أكثر بلاد الله حيات ، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لأخليت سجستان من أجل الحيات ، ذكره أبو الحسن المسعودي .الثانية : قوله تعالى بعضكم لبعض عدو بعضكم مبتدأ ، عدو خبره والجملة [ ص: 302 ] في موضع نصب على الحال ، والتقدير وهذه حالكم . وحذفت الواو من " وبعضكم " لأن في الكلام عائدا ، كما يقال : رأيتك السماء تمطر عليك . والعدو : خلاف الصديق ، وهو من عدا إذا ظلم . وذئب عدوان : يعدو على الناس . والعدوان : الظلم الصراح . وقيل : هو مأخوذ من المجاوزة ، من قولك : لا يعدوك هذا الأمر ، أي لا يتجاوزك . وعداه إذا جاوزه ، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه ، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء ، والمعنيان متقاربان ، فإن من ظلم فقد تجاوز .قلت : وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى : بعضكم لبعض عدو على الإنسان نفسه ، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى . يدل عليه قوله عليه السلام : إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا . فإن قيل : كيف قال : ( عدو ) ولم يقل : أعداء ، ففيه جوابان أحدهما : أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى ، وذلك في القرآن ، قال الله تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا على اللفظ ، وقال تعالى : وكل أتوه داخرين على المعنى . والجواب الآخر : أن عدوا يفرد في موضع الجمع ، قال الله عز وجل : وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا بمعنى أعداء ، وقال تعالى : يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو . وقال ابن فارس : العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث ، وقد يجمع .الثالثة : لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له ; لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة ، والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال إني جاعل في الأرض خليفة وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض ، وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية قلنا اهبطوا وسيأتيالرابعة : قوله تعالى : ولكم في الأرض مستقر ابتداء وخبر ، أي موضع استقرار . قاله أبو العالية وابن زيد . وقال السدي : مستقر يعني القبور .[ ص: 303 ] قلت : وقول الله تعالى : جعل لكم الأرض قرارا يحتمل المعنيين . والله أعلم .الخامسة : قوله تعالى : ومتاع المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك ، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه :وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارقالسادسة : قوله تعالى : إلى حين اختلف المتأولون في الحين على أقوال ، فقالت فرقة : إلى الموت ؛ وهذا قول من يقول : المستقر هو المقام في الدنيا وقيل إلى قيام الساعة ، وهذا قول من يقول : المستقر هو القبور وقال الربيع إلى حين إلى أجل . والحين الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد :كابي الرماد عظيم القدر جفنته حين الشتاء كحوض المنهل اللقفلقف الحوض لقفا ، أي تهور من أسفله واتسع . وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة :العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعموالحين أيضا : المدة ومنه قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر والحين الساعة قال الله تعالى أو تقول حين ترى العذاب قال ابن عرفة الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها وقوله فذرهم في غمرتهم حتى حين أي حتى تفنى آجالهم وقوله تعالى تؤتي أكلها كل حين أي كل سنة ، وقيل : بل كل ستة أشهر ، وقيل : بل غدوة وعشيا ، قال الأزهري الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة قال والحين يوم القيامة والحين الغدوة والعشية قال الله تعالى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ويقال عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا . وحان حين كذا أي قرب ، قالت بثينة :وإن سلوي عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها[ ص: 304 ]السابعة : لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم فقال الفراء الحين حينان حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ستة أشهر قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف ، وأكثر المعلوم سنة ، ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة والشافعي يرى الأقل وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر ولا معنى لقوله لأن المقدورات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أو لا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أو لا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه .قلت : هذا الاتفاق إنما هو في المذهب قال مالك رحمه الله من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر ، فذلك كله سنة . وقال عنه ابن وهب : إنه شك في الدهر أن يكون سنة وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن أن الدهر ستة أشهر وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها أنه ستة أشهر وقال الأوزاعي وأبو عبيد الحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا وقال : لا نحنثه أبدا ، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره : الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال : قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم قال إلكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين ، وقال بعض العلماء في قوله تعالى إلى حين فائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم
Arabic Qurtubi Tafseer
2:36
فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه. { وَقَاسَمَهُمَا } بالله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد; وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة. { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: آدم وذريته; أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو; يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق; وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا, تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال: { وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ } أي: مسكن وقرار، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } انقضاء آجالكم, ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها, وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة, مؤقتة عارضة, ليست مسكنا حقيقيا, وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار, ولا تعمر للاستقرار.
Arabic Saddi Tafseer
2:36
{فأزلهما} استزل.{الشيطان} آدم وحواء أي دعاهما إلى الزلة.وقرأ حمزة: فأزالهما، أي نحاهما.(( الشيطان )) فيعال من شطن، أي: بعد، سمي به لبعده عن الخير وعن الرحمة.{عنها} عن الجنة.{فأخرجهما مما كانا فيه} من النعيم، وذلك أن إبليس أراد أن يدخل ليوسوس ( إلى ) آدم وحواء فمنعته الخزنة فأتى الحية وكانت صديقةً لإبليس وكانت من أحسن الدواب، لها أربع قوائم كقوائم البعير، وكانت من خزان الجنة. فسألهما إبليس أن تدخله فمها فأدخلته ومرت به على الخزانة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة.وقال الحسن: "إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منها وقد كان آدم حين دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم قال: لو أن خلداً، فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه من قبل الخلد فلما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحة أحزنتهما، وهو أول من ناح فقالا له: ما يبكيك؟، قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة. فوقع ذلك في أنفسهما فاغتما ومضى إبليس ثم أتاهما بعد ذلك وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد؟ فأبى أن يقبل منه، وقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين، فاغترا وما ظنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها.وكان سعيد بن المسيب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته فأكل.قال إبراهيم بن أدهم: "أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً".قال ابن عباس وقتادة: "قال الله عز وجل لآدم: ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كداً فأهْبِطا من الجنة وكانا يأكلان فيها رغداً فعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث فيها وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء".قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس: "إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهي عنها قال الله عز وجل: ما حملك على ما صنعت قال يا رب زينته لي حواء قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهاً ولا تضع إلا كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل: عليك الرنة وعلى بناتك، فلما أكلا (تهافت) عنهما ثيابهما وبدت سوآتهما وأخرجا من الجنة.فذلك قوله تعالى:{وقلنا اهبطوا} أي انزلوه إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية، فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وحواء بجدة وإبليس بالآيلة والحية بأصفهان.{بعضكم لبعض عدو} أراد العداوة التي بين ذرية آدم والحية وبين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس، قال الله تعالى: {إن الشيطان لكما عدو مبين} [22-الأعراف].أنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسن بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد محمد الصفار حدثنا منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال عكرمة: لا أعلمه إلا رفع الحديث، أنه كان يأمر بقتل الحيات وقال: من تركهن خشية أو مخافة ثائر فليس منا وزاد موسى بن مسلم عن عكرمة في الحديث: ما سالمناهن منذ حاربناهن.[وروي أنه نهى عن ذوات البيوت، وروى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان "].قوله تعالى: {ولكم في الأرض مستقر} موضع قرار.{ومتاع} بلغة ومستمتع.{إلى حين} إلى انقضاء آجالكم.
Arabic Baghawy Tafseer
2:36
قيل إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" ورُوي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن معدان وعطاء الخراساني وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبوإسحاق السبيعي عن رجل من بني تميم قال: أتيت ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج. وقال سفيان الثوري عن عبدالعزيز بن رفيع أخبرني من سمع عبيد بن عمير. وفي رواية قال مجاهد عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم يا رب خطيئتي التي أخطأت شيء كتبته علي قبل أن تخلقني أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال "بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك" قال: فكما كتبته علي فاغفر لي. قال فذلك قوله تعالى "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه" وقال السدي عمن حدثه عن ابن عباس فتلقى آدم من ربه كلمات قال: قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال له بلى. قال: ونفخت في من روحك؟ قيل له بلى قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال نعم. وهكذا رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير عن ابن عباس وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وهكذا فسره السدي وعطية العوفي. وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثا شبيها بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا ابن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال آدم عليه السلام أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال نعم فذلك قوله "فتلقى آدم من ربه كلمات "وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال إن آدم لما أصاب الخطيئة قال أرأيت إن تبت يا رب وأصلحت؟ قال الله "إذا أدخلك الجنة" فهي الكلمات ومن الكلمات أيضا "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول في قول الله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى "إنه هو التواب الرحيم" أي إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده" وقوله "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه" الآية وقوله "ومن تاب وعمل صالحا" إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ويتوب على من يتوب وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده لا إله إلا هو التواب الرحيم.
ابن كثير
2:37
فتلقى آدمُ بالقبول كلماتٍ، ألهمه الله إياها توبة واستغفارًا، وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (7:23)} فتاب الله عليه، وغفر له ذنبه إنه تعالى هو التواب لمن تاب مِن عباده، الرحيم بهم.
المیسر
2:37
جاء بالفاء إيذاناً بمبادرة آدم بطلب العفو . والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقى محبوباً بل تقول لاقى العدو . واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } [ الأنفال : 45 ] الآية فالتعبير بتلقى هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالباً المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة ، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف { فتاب عليه } بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب .وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام . ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك ، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح .ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه ، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود .وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة ، ولما كانت التوبة رجوعاً من التائب إلى الطاعة ونبذاً للعصيان وكان قبولها رجوعاً من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنياً على المشاكلة .والتوبة تتركب من علم وحال وعمل ، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندماً ، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة ، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث : «الندم توبة» قاله الغزالي ، قلت : أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة .ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتباً عليها جزاءُ عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديباً عاجلاً لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد ، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام ، على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة .وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جارياً على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية ، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك ، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب ، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلى قوله خالدون } [ البقرة : 38 ، 39 ] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولاً أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكاراً لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به . وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم : { فمن تبع هداي } الآية فظهر الفرق .وقرأ الجمهور { آدم } بالرفع و { كلمات } بالنصب ، وقرأه ابن كثير بنصب ( آدم ) ورفع ( كلمات ) على تأويل ( تلقى ) بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازاً عن البلوغ بعلاقة السببية .وقوله : { إنه هو التواب الرحيم } تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي { فتاب عليه } لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب كما تقرر في علم المعاني . ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي لكثرة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة إيذان بأن ذلك لا يخص تائباً دون آخر وهو تذييل لقوله : { فتلقى آدم من ربه } المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر فالتواب هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب .وتعقيبه بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام ، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله .
Arabic Tanweer Tafseer
2:37
ثم حكى القرآن أن آدم قد بادر بطلب العو والمغفرة من ربه فقال : ( فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم ) .التلقي في الأصل : التعرض للقاء ، ثم استعمل بمعنى أخذ الشيء وقبوله ، تقول : تلقيت رسالة من فلان . أي أخذتها منه وقبلتها .والكلمات : جمع كلمة ، وهي اللفظة الموضوعة لمعنى ، وأرجح ما قيل في تعيين هذه الكلمات ، ما أشار إليه القرآن في سورة الأعراف بقوله :( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين ) والتوبة في أصل اللغة معناها : الرجوع ، وإذا عديت بعن كان معناها الرجوع عن المعصية إلى الطاعة ، وإذا عديت بعلى - كما في هذه الآية - كان معناها قبول التوبة ، فالعبد يتوب عن المعصية ، والله يتوب على العبد أي : يقبل توبته .وجملة ( إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم ) واردة مورد التعليل لقوله : ( فَتَابَ عَلَيْهِ ) .والتواب وصف له - تعالى - من تاب ، أي : قبل التوبة ، وجاء التعبير بصيغة فعّال : للإِشعار بأنه كثير القبول للتوبة من عباده ، وليدل على أنه يقبل توبة العبد وإن وقعت بعد ذنب يرتكبه ويتوب منه ثم يعود إليه بعد التوبة ثم يتوب بعد العودة إليه توبة صادقة نصوحاً .
Arabic Waseet Tafseer
2:37
القول في تأويل قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍقال أبو جعفر: أما تأويل قوله: " فتلقى آدم "، فقيل: إنه أخذ وقَبِل (259) . وأصله التفعُّل من اللقاء، كما يتلقى الرجلُ الرجلَ مُستقبلَه عند قدومه من غيبته أو سفره، فكأنَّ ذلك كذلك في قوله: " فتلقى " (260) ، كأنه استقبله فتلقاه بالقبول حين أوحى إليه أو أخبر به. فمعنى ذلك إذًا: فلقَّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقَّاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبًا، فتاب الله عليه بقيله إياها، وقبوله إياها من ربه. كما:-774 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن &; 1-542 &; زيد في قوله: " فتلقى آدمُ من ربه كلمات " الآية. قال: لقَّاهمَا هذه الآية: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (261) [سورة الأعراف: 23].* * *وقد قرأ بعضهم: " فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ"، فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك، وإن كان من وجهة العربية جائزًا - إذْ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له مُتلقّ، وما لقيه فقد لَقيه، فصار للمتكلم أن يُوجه الفعل إلى أيهما شاء، ويخرج من الفعل أيهما أحب - فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع "آدم " على أنه المتلقي الكلمات، لإجماع الحجة من القَرَأة وأهل التأويل من علماء السلف والخلف (262) ، على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات. وغيرُ جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة، بقول من يجوز عليه السهو والخطأ.واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها. آدمُ من ربه. فقال بعضهم بما:-775 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتابَ عليه "، قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب، ألم تسكني جَنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب، ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال: نعم.قال: فهو قوله: " فتلقى آدمُ من ربه كلمات " (263) .776 - وحدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا محمد بن مُصعْب، عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن كليب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، نحوه.777 - وحدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه "، قال: إن آدم قال لربه إذ عصاه: رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ فقال له ربه: إني راجعك إلى الجنة (264) .778 - وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات "، ذكر لنا أنه قال: يا رب، أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إني إذًا راجعك إلى الجنة، قال: وقال الحسن: إنهما قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . (265)779 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات "، قال: إن آدم لما أصاب الخطيئة قال: يا رب، أرأيت إن تبت وأصلحت؟ فقال الله: إذًا أرجعك إلى الجنة. فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (266) .780 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ: " فتلقى آدمُ من ربه كلمات "، قال: رب، ألم تخلقني بيدك؟ قيل له: بلى. قال: ونفخت فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال وسبقت رحمتك &; 1-544 &; غضبك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ هل كنتَ كتبتَ هذا عليّ؟ قيل له: نعم. قال: رب، إن تبت وأصلحت، هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قيل له: نعم. قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (267) [سورة طه: 122].وقال آخرون بما:-781 - حدثنا به محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: حدثني من سمع عُبيد بن عُمير يقول: قال آدم: يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشيء كتبته علي قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعتُهُ من قبل نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي. قال: فهو قول الله: " فتلقَّى آدم من ربه كلمات " (268) .782 - وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رُفَيع، قال: أخبرني من سمع عُبيد بن عُمير، بمثله.783 - وحدثنا ابن سنان، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عمن سمع عبيد بن عمير يقول: قال آدم، فذكر نحوه.784 -وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: أخبرني من سمع عبيد بن عمير، بنحوه.785 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا الثوري ، عن عبد العزيز، عن عبيد بن عمير بمثله.وقال آخرون بما:-786 - حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، قال: حدثنا عبد الرحمن &; 1-545 &; بن شَريك، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن حميد بن نبهان، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، أنه قال: قوله: " فتلقى آدمُ من ربه كلمات فتاب عليه "، قال آدم: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. (269)787- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو غسان، قال: أنبأنا أبو زهير -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: أخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، وقيس- جميعًا عن خُصَيف، عن مجاهد في قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات "، قال قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا ، حتى فرغ منها. (270)788- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثني شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، كان يقول في قول الله: " فتلقى آدم من ربه كلمات " الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم. (271)789- وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: " فتلقى آدم من ربه كلمات " هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا الآية. (272)790- وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن &; 1-546 &; ابن جُريج، عن مجاهد: " فتلقى آدم من ربه كلمات "، قال: أي رب، أتتوب عليّ إن تبت؟ قال نعم. فتاب آدم، فتاب عليه ربه. (273)791- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات "، قال: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (274) .792- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: هو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (275) .وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقَّى آدمَ كلماتٍ، فتلقَّاهُنّ آدمُ من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقِيله إياهنّ وعملِه بهنّ إلى الله من خطيئته، معترفًا بذنبه، متنصِّلا إلى ربه من خطيئته، نادمًا على ما سلف منه من خلاف أمره، فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه.والذي يدل عليه كتابُ الله، أن الكلمات التي تلقاهنّ آدمُ من ربه، هن الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصِّلا بقيلها إلى ربه، معترفًا بذنبه، وهو قوله: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . وليس ما قاله من خالف قولنا هذا -من الأقوال التي حكيناها- بمدفوع قوله، ولكنه قولٌ لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها، فيجوز لنا إضافته إلى آدم، وأنه مما تلقاه من ربّه عند إنابته إليه من ذنبه. وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم -من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائبًا إليه من خطيئته- تعريف منه جل ذكره جميعَ المخاطبين &; 1-547 &; بكتابه، كيفية التوبة إليه من الذنوب (276) ، وتنبيهٌ للمخاطبين بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [سورة البقرة: 28]، على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأنّ خلاصهم مما هم عليه مُقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، مع تذكيره إياهم به السالفَ إليهم من النعم التي خَصَّ بها أباهم آدم وغيرَه من آبائهم.القول في تأويل قوله تعالى: فَتَابَ عَلَيْهِقال أبو جعفر: وقوله: " فتاب عليه "، يعني: على آدم. والهاء التي في" عليه " عائدة على آدَمُ . وقوله: " فتاب عليه "، يعني رَزَقه التوبة من خطيئته. والتوبة معناها الإنابة إلى الله، والأوبةُ إلى طاعته مما يَكرَهُ من معصيته.القول في تأويل قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)قال أبو جعفر: وتأويل قوله: " إنه هو التواب الرحيم "، أن الله جل ثناؤه هو التوّاب على من تاب إليه - من عباده المذنبين - من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربّه، إنابتُه إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يَسْخَطه من الأمور التي كان عليها مقيمًا مما يكرهه ربه. فكذلك توبة الله على عبده، هو أن يرزقه ذلك، &; 1-548 &; ويؤوب له من غضبه عليه إلى الرضا عنه (277) ، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.وأما قوله: " الرحيم "، فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة. ورحمته إياه، إقالة عثرته، وصفحه عن عقوبة جُرمه.-------------الهوامش :(259) في المطبوعة : "أخذ . وقيل : أصله" ، وهو خطأ .(260) في المطبوعة : " . . . يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر فكذلك ذلك في قوله" ، تصرف نساخ .(261) الأثر : 774 - ابن كثير 1 : 147 ، والدر المنثور 1 : 59 ، والشوكاني 1 : 58 ، وسيأتي برقم : 792 .(262) في المطبوعة : "لإجماع الحجة من القراء" . والقَرَأَة : جمع قارئ ، كما سلف مرارًا ، انظر ما مضى ص 524 .(263) الخبر : 775 - في ابن كثير 1 : 147 ، والدر المنثور 1 : 58 ، والشوكاني 1 : 57 .(264) الخبر : 777 - لم أجده بلفظه في مكان .(265) الأثر 778 - في ابن كثير 1 : 147 .(266) الأثر : 779 - في ابن كثير 1 : 147 .(267) الأثر : 780 - لم أجده بنصه في مكان .(268) الأثر : 781 - في ابن كثير 1 : 47 . والدر المنثور 1 : 59 .(269) الأثر : 786- لم أجده في مكان . وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان : ثقة ، مترجم في التهذيب ، وقال مصعب الزبيري : "وكان رجلا صالحًا" . وقال أبو زرعة : "معاوية ، وعبد الرحمن ، وخالد - بنو يزيد بن معاوية : كانوا صالحي القوم" . وأما الراوي عنه"حميد بن نبهان" فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا ، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لا أعرفه .(270) الأثر : 787- في ابن كثير 1 : 147 ، والدر المنثور 1 : 59 ، والشوكاني 1 : 58 .(271) الأثر : 788- في ابن كثير 1 : 147 .(272) الأثر : 789- انظر الأثر السالف رقم : 787 .(273) الأثر : 790- لم أجده في مكان .(274) الأثر : 791- في ابن كثير 1 : 147 ، والدر المنثور 1 : 59 .(275) الأثر : 792- في ابن كثير 1 : 147 ، والدر المنثور 1 : 59 ، ومضى رقم : 774 .(276) في المخطوطة : "التوبة من الذنوب" ، بالحذف .(277) في المطبوعة : "ويؤوب من غضبه عليه" ، بالحذف .
الطبري
2:37
قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيمقوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلماتفيه ثمان مسائل :الأولى : قوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات تلقى قيل معناه فهم وفطن وقيل قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم ، وقيل : معنى تلقى تلقن . هذا في المعنى صحيح ، ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الأصل لأن أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا مثل تظنى من تظنن وتقصى من تقصص ، ومثله تسريت من تسررت وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال تقبى من تقبل ولا تلقى من تلقن ، فاعلم . وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها وقال الحسن : قبولها تعلمه لها وعمله بها .الثانية : واختلف أهل التأويل في الكلمات فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وعن مجاهد أيضا سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم وقالت طائفة رأى مكتوبا على ساق العرش " محمد رسول الله " فتشفع بذلك فهي الكلمات وقالت طائفة : المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء ، وقيل : الندم والاستغفار والحزن قال ابن عطية وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود ، وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقوله المذنب فقال : يقول ما قاله أبواه ربنا ظلمنا أنفسنا الآية ، وقال موسى رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ ص: 306 ] وقال يونس لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن الكلمات " سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي اغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم " وقال محمد بن كعب هي قوله " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين " وقيل : الكلمات قوله حين عطس " الحمد لله " والكلمات جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير وقد تقدم .الثالثة : قوله تعالى : فتاب عليه أي قبل توبته ، أو وفقه للتوبة . وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وتاب العبد رجع إلى طاعة ربه ، وعبد تواب كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال تاب وثاب وآب وأناب : رجع .الرابعة : إن قيل : لم قال عليه ولم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال ولا تقربا هذه الشجرة و قالا ربنا ظلمنا أنفسنا فالجواب أن آدم عليه السلام لما خوطب في أول القصة بقوله اسكن خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ; ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله وعصى آدم ربه فغوى وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله ألم أقل لك وقيل : إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء ؛ قاله الحسن وقيل : إنه مثل قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب وقال الشاعر :[ ص: 307 ]رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن فوق الطوي رمانيوفي التنزيل والله ورسوله أحق أن يرضوه فحذف إيجازا واختصاراالخامسة : إنه هو التواب الرحيم وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين قال ابن العربي ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول ، وقال آخرون : هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة وقال آخرون : توبة الله على العبد قبوله توبته ، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة .السادسة : لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى تائب اسم فاعل من تاب يتوب لأنه ليس لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين ، وإن كان في اللغة محتملا جائزا هذا هو الصحيح في هذا الباب على ما بيناه في ( الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ) قال الله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وقال وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وإنما قيل لله عز وجل تواب لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه . اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال خلافا للمعتزلة ، ومن قال بقولهم وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه قال علماؤنا وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله جل وعز وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين .الثامنة : قرأ ابن كثير فتلقى آدم من ربه كلمات والباقون برفع آدم ونصب كلمات والقراءتان ترجعان إلى معنى ؛ لأن آدم إذا تلقى الكلمات فقد تلقته وقيل لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعلة وكأن الأصل على هذه القراءة " فتلقت آدم من ربه كلمات " ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث ، وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام ، إذ جاء فعل المؤنث بغير علامة ، ومنه قولهم حضر القاضي اليوم امرأة ، وقيل : إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر وقرأ الأعمش " آدم من ربه " مدغما وقرأ أبو نوفل بن أبي عقرب " أنه " بفتح الهمزة على معنى لأنه وكسر الباقون على الاستئناف وأدغم الهاء في الهاء أبو عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم ، وقيل : لا يجوز لأن بينهما واوا في اللفظ لا في الخط قال النحاس أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد :له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زميرفعلى هذا يجوز الإدغام وهو رفع بالابتداء . " التواب " خبره ، والجملة خبر " إن " ويجوز أن يكون " هو " توكيدا للهاء ويجوز أن تكون فاصلة ، على ما تقدم . وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال : يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه فقال الحوت لئن كنت صادقا ما لي منه في البحر منجى ولا لك في البر منه مخلص .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:37
{ فَتَلَقَّى آدَمُ } أي: تلقف وتلقن, وألهمه الله { مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } وهي قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته { فَتَابَ } الله { عَلَيْهِ } ورحمه { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } لمن تاب إليه وأناب. وتوبته نوعان: توفيقه أولا, ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا. { الرَّحِيمِ } بعباده, ومن رحمته بهم, أن وفقهم للتوبة, وعفا عنهم وصفح.
Arabic Saddi Tafseer
2:37
{فتلقى} تلقى، والتلقي: هو قبول عن فطنة وفهم، وقيل: هو التعلم.{آدم من ربه كلمات} قراءة العامة: آدم برفع الميم وكلمات بخفض التاء، قرأ ابن كثير: آدم بالنصب وكلمات برفع التاء يعني جاءت الكلمات آدم من ربه، وكانت سبب توبته. واختلفوا في تلك الكلمات؛ قال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن: "هي قوله {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية".وقال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي: "هي قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت ( التواب الرحيم )".لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين.وقال عبيد بن عمير: "هي أن آدم قال يا رب أرأيت ما أتيت بشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني؟، قال الله تعالى: بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: يارب فكما قدرته قبل أن تخلقني فاغفر لي".وقيل: هي ثلاثة أشياء الحياء والدعاء والبكاء.قال ابن عباس: "بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة".وروى المسعودي عن يونس بن خباب وعلقمة بن مرثد قالوا: "لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة".قال شهر بن حوشب: "بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض مكث ثلثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى".قوله: {فتاب عليه} فتجاوز عنه.{إنه هو التواب} يقبل توبة عباده.{الرحيم} بخلقه.
Arabic Baghawy Tafseer
2:37
يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة والمراد الذرية أنه سينزل الكتب ويبعث الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان وقال مقاتل بن حيان: الهدى محمد صلى الله عليه وسلم وقال الحسن الهدى القرآن وهذان القولان صحيحان. وقول أبي العالية أعم "فمن اتبع هداي" أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل "فلا خوف عليهم" أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة "ولا هم يحزنون" على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى" قال ابن عباس فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
ابن كثير
2:38
قال الله لهم: اهبطوا من الجنة جميعًا، وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة ما فيه هدايتكم إلى الحق. فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا.
المیسر
2:38
كررت جملة { قلنا اهبطوا } فاحتمل تكريرها أن يكون لأجل ربط النظم في الآية القرآنية من غير أن تكون دالة على تكرير معناها في الكلام الذي خوطب به آدم فيكون هذا التكرير لمجرد اتصال ما تعلق بمدلول { وقلنا اهبطوا } [ البقرة : 36 ] وذلك قوله : { بعضكم لبعض عدو } [ البقرة : 36 ] وقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } . إذ قد فَصَل بين هذين المتعلقين ما اعترض بينهما من قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } [ البقرة : 37 ] فإنه لو عقب ذلك بقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } لم يرتبط كمال الارتباط ولتوهم السامع أنه خطاب للمؤمنين على عادة القرآن في التفنن فلدفع ذلك أعيد قوله : { قلنا اهبطوا } فهو قول واحد كرر مرتين لربط الكلام ولذلك لم يعطف { قلنا } لأن بينهما شبه كمال الاتصال لتنزل قوله : { قلنا اهبطوا منها جميعاً } من قوله : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } منزلة التوكيد اللفظي ثم بنى عليه قوله : { فإما يأتينكم مني هدى } الآية وهو مغاير لما بنى على قوله : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } ليحصل شيء من تجدد فائدة في الكلام لكي لا يكون إعادة { اهبطوا } مجرد توكيد ويسمى هذا الأسلوب في علم البديع بالترديد نحو قوله تعالى : { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } [ آل عمران : 188 ] وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ .وقيل هو أمر ثاني بالهبوط بأن أهبط آدم من الجنة إلى السماء الدنيا بالأمر الأول ثم أهبط من السماء الدنيا إلى الأرض فتكون إعادة { قلنا اهبطوا } للتنبيه على اختلاف زمن القولين والهبوط وهو تأويل يفيد أن المراحل والمسافات لا عبرة بها عند المسافر ولأن ضمير { منها } المتعين للعود إلى الجنة لتنسق الضمائر في قوله : { وكلا منها رغداً } [ البقرة : 35 ] وقوله : { فأزلهما الشيطان عنها } [ البقرة : 36 ] مانع من أن يكون المراد اهبطوا من السماء جميعاً إذ لم يسبق معاد للسماء فالوجه عندي على تقدير أن تكون إعادة { اهبطوا } الثاني لغير ربط نظم الكلام أن تكون لحكاية أمر ثاننٍ لآدم بالهبوط كيلا يظن أن توبة الله عليه ورضاه عنه عند مبادرته بالتوبة عقب الأمر بالهبوط قد أوجبت العفو عنه من الهبوط من الجنة فأعاد له الأمر بالهبوط بعد قبول توبته ليعلم أن ذلك كائن لا محالة لأنه مراد الله تعالى وطور من الأطوار التي أرادها الله تعالى من جعله خليفة في الأرض وهو ما أخبر به الملائكة .وفيه إشارة أخرى وهي أن العفو يكون من التائب في الزواجر والعقوبات . وأما تحقيق آثار المخالفة وهو العقوبة التأديبية فإن العفوعنها فساد في العالم لأن الفاعل للمخالفة إذا لم ير أثر فعله لم يتأدب في المستقبل فالتسامح معه في ذلك تفويت لمقتضى الحكمة ، فإن الصبي إذا لوث موضعاً وغضب عليه مربيه ثم تاب فعفا عنه فالعفو يتعلق بالعقاب وأما تكليفه بأن يزيل بيده التلويث الذي لوث به الموضع فذلك لا يحسن التسامح فيه ولذا لما تاب الله على آدم رضي عنه ولم يؤاخذه بعقوبة ولا بزاجر في الدنيا ولكنه لم يصفح عنه في تحقق أثر مخالفته وهو الهبوط من الجنة ليرى أثر حرصه وسوء ظنه ، هكذا ينبغي أن يكون التوجيه إذا كان المراد من { اهبطوا } الثاني حكاية أمر ثان بالهبوط خوطب به آدم .و { جميعاً } حال . وجميع اسم للمجتمعين مثل لفظ ( جمع ) فلذلك التزموا فيه حالة واحدة وليس هو في الأصل وصفاً وإلا لقالوا جاءوا جميعين لأن فعيلاً بمعنى فاعل يطابق موصوفه وقد تأولوا قول امرىء القيس :فلو أنها نفس تموت جميعة ... بأن التاءَ فيه للمبالغة والمعنى اهبطوا مجتمعين في الهبوط متقارنين فيه لأنهما استويا في اقتراف سبب الهبوط .وقوله : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي } شرط على شرط لأن ( إما ) شرط مركب من إن الشرطية وما الزائدة دالة على تأكيد التعليق لأن إن بمجردها دالة على الشرط فلم يكن دخول ما الزائدة عليها كدخولها على ( متى ) و ( أي ) و ( أين ) و ( أيان ) و ( ما ) و ( من ) و ( مهما ) على القول بأن أصلها ماما لأن تلك كانت زيادتها لجعلها مفيدة معنى الشرط فإن هذه الكلمات لم توضع له بخلاف ( إن ) وقد التزمت العرب تأكيد فعل الشرط مع إما بنون التوكيد لزيادة توكيد التعليق بدخول علامته على أداته وعلى فعله فهو تأكيد لا يفيد تحقيق حصول الجواب لأنه مناف للتعليق ، ولذلك لم يؤكد جواب الشرط بالنون بل يفيد تحقيق الربط أي إن كون حصول الجواب متوقفاً على حصول الشرط أمر محقق لا محالة فإن التعليق ما هو إلا خبر من الأخبار ، إذ حاصله الإخبار بتوقف حصول الجزاء على حصول الشرط فلا جرم كان كغيره من الأخبار قابلاً للتوكيد وقلما خلا فعل الشرط مع إما عن نون التوكيد كقول الأعشى :إما تريْنا حُفاةً نعال لنا ... إنا كذلك ما نحْفي وننتعلوهو غير حسن عند سيبويه والفارسي ، وقال المبرد والزجاج هوممنوع فجعلا خلو الفعل عنه ضرورة .وقوله : { فمن تبع هداي } مَن شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها { فلا خوف عليهم } لأن الفاء وإن دخلت في خبر الموصول كثيراً فذلك على معاملته معاملة الشرط فلتحمل هنا على الشرطية اختصاراً للمسافة .وأظهر لفظ الهدى في قوله : { هُداي } وهوعين الهُدى في قوله : { مني هدى } فكان المقام للضمير الرابط للشرطية الثانية بالأولى لكنه أظهر اهتماماً بالهدى ليزيد رسوخاً في أذهان المخاطبين على حد { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] ولتكون هاته الجملة مستقلة بنفسها لا تشتمل على عائد يحتاج إلى ذكر معاد حتى يتأتى تسييرها مسير المثل أو النصيحة فتُلحظ فتحفظ وتتذكرها النفوس لتهذب وترتاض كما أظهر في قوله :{ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } [ الإسراء : 81 ] لتسير هذه الجملة الأخيرة مسير المثل ومنه قول بشار :إذا بَلغ الرأي المَشُورةَ فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازمولا تجعل الشورى عليك غضاضةً ... مكانُ الخوافي قوةٌ للقوادموأدْننِ إلى الشُّورى المسدَّدَ رأيُهُ ... ولا تُشهد الشورى امرأً غير كاتمفكرر الشورى ثلاث مرات في البيتين الثاني والثالث ليكون كل نصف سائراً مسير المثل وبهذا يظهر وجه تعريف الهدى الثاني بالإضافة لضمير الجلالة دون أل مع أنها الأصل في وضع الظاهر موضع الضمير الواقع معاد لئلا يفوت هاته الجملة المستقلة شيء تضمنته الجملة الأولى إذ الجملة الأولى تضمنت وصف الهدى بأنه آت من الله والإضافة في الجملة الثانية تفيد هذا المفاد .والإتيانُ في قوله تعالى : { فإما يأتينكم } بحَرف الشرط الدال على عدم الجزم بوقوع الشرط إيذان ببقية من عتاب على عدم امتثال الهدى الأول وتعريض بأن محاولة هديكم في المستقبل لا جدوى لها كما يقول السيد لعبده إذا لم يعمل بما أوصاه به فغضب عليه ثم اعتذَر له فرضي عنه : إنْ أوصيتك يوماً آخر بشيء فلا تَعُدْ لمثل فعلتك ، يعرض له بأن تعلق الغرض بوصيته في المستقبل أمر مشكوك فيه إذ لعله قليل الجدوى ، وهذا وجه بليغ فات صاحب «الكشاف» حجبه عنه توجيهٌ تكلَّفه لإرغام الآية على أن تكون دليلاً لقول المعتزلة بعدم وجوب بعثة الرسل للاستغناء عنها بهدي العقل في الإيمان بالله مع كون هدي الله تعالى الناس واجباً عندهم ، وذلك التكلف كثير في «كتابه» وهو لا يليق برسوخ قدمه في العلم ، فكان تقريره هذا كالاعتذار عن القول بعدم وجوب بعثة الرسل على أن الهدى لا يختص بالإيمان الذي يغني فيه العقل عن الرسالة عندهم بل معظمه هدي التكاليف وكثير منها لا قِبَل للعقل بإدراكه ، وهو على أصولهم أيضاً واجب على الله إبلاغه للناس فيبقى الإشكال على الإتيان بحرف الشك هنا بحالة فلذلك كانت الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدي كله على الله تعالى لو شئنا أن نستدل بها على ذلك كما فعل البيضاوي ولكنا لا نراها واردة لأجله .وقوله : { فإما يأتينكم منّي هدى } الآية هو في معنى العهد أخذه الله على آدم فلزم ذريته أن يتبعوا كل هدى يأتيهم من الله وأن من أعرض عن هدى يأتي من الله فقد استوجب العذاب فشمل جميع الشرائع الإلهية المخاطب بها طوائف الناس لوقوع ( هدى ) نكرة في سياق الشرط وهو من صيغ العموم ، وأولى الهدي وأجدره بوجوب اتباعه الهدي الذي أتى من الله لسائر البشر وهو دين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم وبذلك تهيأ الموقع لقوله : { والذين كفروا } إلخ فالله أخذ العهد من لدن آدم على اتباع الهدي العام كقوله :{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة } [ آل عمران : 81 ] الآية .وهذه الآية تدل على أن الله لا يؤاخذ البشر بما يقترفونه من الضلال إلا بعد أن يرسل إليهم من يهديهم فأما في تفاصيل الشرائع فلا شك في ذلك ولا اختلاف وأما في توحيد الله وما يقتضيه من صفات الكمال فيجري على الخلاف بين علمائنا في مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك ، ولعل الآية تدل على أن الهدى الآتي من عند الله في ذلك قد حصل من عهد آدم ونوح وعرفه البشر كلهم فيكون خطاباً ثابتاً لا يسع البشر ادعاء جهله وهو أحد قولين عن الأشعري ، وقيل لا ، وعند المعتزلة والماتريدية أنه دليل عقلي .وقوله : { فلا خلاف عليهم } نفي لجنس الخوف . و { خوف } مرفوع في قراءة الجمهور وقرأه يعقوب مبنياً على الفتح وهما وجهان في اسم ( لا ) النافية للجنس وقد روي بالوجهين قول المرأة الرابعة من نساء حديث أم زرع «زوجي كليل تهامه لا حر ولا قُر ولا مخافة ولا سآمه» . وبناء الاسم على الفتح نص في نفي الجنس ورفعه محتمل لنفي الجنس ولنفي فرد واحد ، ولذلك فإذا انتفى اللبس استوى الوجهان كما هنا إذ القرينة ظاهرة في نفي الجنس .
Arabic Tanweer Tafseer
2:38
( قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .وليست هذه الإِعادة من قبيل التكرار الذي يقصد منه مجرد التوكيد ، بل قص الأمر بالهبوط أولا ليعلق عليه معنى؛ هو كون بعضهم لبعض عدواً .ثم قصة ثانية ليعلق عليه معنى آخر هو ما ترتب على الهبوط من تفصيل لحال المخاطبين ، وانقسامهم إلى مهتدين وضالين .والفاء في قوله ( فَإِمَّا ) لإِفادة ترتيب انقسام المخاطبين إلى مهتدين وكافرين على الهبوط المفهوم من قوله : ( اهبطوا ) .و ( إِمَّا ) هي إن الشرطية دخلت عليها " ما " لإفادة التوكيد ، ويغلب على فعل شرطها أن يكون مؤكداً بالنون وأوجب بعضهم ذلك .والهدى من الله معناه الدلالة على ما هو حق وخير بلسان رسول ، أو بآيات كتاب .وقد صرح - سبحانه - بأن الهدى صادر منه بقوله : ( مِّنِّي هُدًى ) ثم أضافه إلى نفسه بقوله : ( هُدَايَ ) للإِيذان بتعظيم أمر الهدى؛ وأنه أحق بأن يتبع ، ويتخذ سبيلا لطمأنينة النفس في الدنيا ، والفوز بالسعادة في الأخرى .والخوف : الفزع وهو تألم النفس من مكروه يتوقع حصوله .والحزن : الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب .ومعنى ( لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) أن نفوسهم آمنة مطمئنة بحيث لا يعتريها فزع ، ولا ينتابها ذعر كما أن قوله : ( وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ينفى عنهم الاغتمام لفوات مطلوب أو فقد محبوب .ونفي الخوف والحزن ورد في الآية على وجه الإِطلاق ، وظاهره أن المهتدين لا يعتريهم الخوف ولا الحزن في دنياهم ولا في آخرتهم ، ولكن قوله - تعالى - فيما يقابله من جزاء الكافرين ( أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يرجح أن يكون المراد نفي الخوف والحزن في الدار الآخرة .
Arabic Waseet Tafseer
2:38
القول في تأويل قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًاقال أبو جعفر: وقد ذكرنا القول في تأويل قوله: " قلنا اهبطوا منها جميعًا " فيما مضى، (1) فلا حاجة بنا إلى إعادته، إذْ كان معناه في هذا الموضع، هو معناه في ذلك الموضع.793- وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح، في قوله : " اهبطوا منها جميعًا "، قال: آدم وحواء والحية وإبليس. (2)القول في تأويل قوله تعالى ذكره: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًىقال أبو جعفر: وتأويل قوله: " فإما يأتينكم "، فإنْ يَأتكم. و " ما " التي مع " إن " توكيدٌ للكلام، ولدخولها مع " إن " أدخلت النون المشددة في" يأتينَّكم "، تفرقةً بدخولها بين " ما " التي تأتي بمعنى توكيد الكلام - التي تسميها أهل العربية صلة وَحشوًا - وبين " ما " التي تأتي بمعنى " الذي"، فتؤذِن بدخولها في الفعل، أنّ" ما " التي مع " إن " التي بمعنى الجزاء، توكيد، وليست " ما " التي بمعنى " الذي".وقد قال بعض نحويي أهل البصرة (3) : إنّ " إمَّا " ، " إن " زيدت معها " ما "، &; 1-549 &; وصار الفعل الذي بعده بالنون الخفيفة أو الثقيلة، وقد يكون بغير نون. وإنما حسنت فيه النون لمّا دخلته " ما "، لأن " ما " نفيٌ، فهي مما ليس بواجب، وهي الحرف الذي ينفي الواجب، فحسنت فيه النون، نحو قولهم: " بعينٍ مَّا أرَينَّك "، حين أدخلت فيها " ما " حسنت النون فيما هاهنا.وقد أنكرت جماعة من أهل العربية دعوى قائل هذه المقالة (4) : أن " ما " التي مع " بعينٍ ما أرَينَّك " بمعنى الجحد، وزعموا أن ذلك بمعنى التوكيد للكلام.وقال آخرون: بل هو حشو في الكلام، ومعناها الحذف، وإنما معنى الكلام: " بعَين أراك "، وغير جائز أن يُجْعل مع الاختلاف فيه أصلا يُقاس عليه غيره.* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره: مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)قال أبو جعفر: والهدى، في هذا الموضع، البيان والرشاد. كما:-794- حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: " فإما يأتينكم مني هدًى " قال: الهدى، الأنبياءُ والرسل والبيان. (5) .فإن كان ما قال أبو العالية في ذلك كما قال، فالخطاب بقوله: اهْبِطُوا ، وإن كان لآدم وزوجته، فيجب أن يكون مرادًا به آدمُ وزوجتُه وذريتُهما. فيكون ذلك حينئذ نظير قوله: فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [سورة فصلت: 11]، بمعنى أتينا بما فينا من الخلق طائعين، ونظيرَ قوله في قراءة &; 1-550 &; ابن مسعود: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرهم مناسكهم ) [سورة البقرة: 128]، فجمع قبل أن تكون ذريةً، وهو في قراءتنا: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا . وكما يقول القائل لآخر: " كأنك قد تزوجت وولد لك، وكثرتم وعززتم "، ونحو ذلك من الكلام.وإنما قلنا إن ذلك هو الواجب على التأويل الذي ذكرناه عن أبي العالية، لأنّ آدمَ كان هو النبيَّ أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، (6) والرسولَ من الله جل ثناؤه إلى ولده. فغير جائز أن يكون معنيًّا -وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم- بقوله: " فإما يأتينّكم منّي هُدًى "، خطابًا له ولزوجته،" فإما يأتينكم مني أنبياءُ ورسل " (7) إلا على ما وصفتُ من التأويل.وقول أبي العالية في ذلك -وإن كان وجهًا من التأويل تحتمله الآية- فأقرب إلى الصواب منه عندي وأشبهُ بظاهر التلاوة، أن يكون تأويلها: فإما يأتينكم يا معشرَ من أُهبط إلى الأرض من سمائي (8) ، وهو آدمُ وزوجته وإبليس -كما قد ذكرنا قبل في تأويل الآية التي قبلها- إما يأتينكم منّي بيانٌ من أمري وطاعتي، ورشاد إلى سبيلي وديني، فمن اتبعه منكم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإن كان قد سلف منهم قبل ذلك إليّ معصية وخلافٌ لأمري وطاعتي. يعرّفهم بذلك جل ثناؤه أنه التائبُ على من تاب إليه من ذنوبه، والرحيمُ لمن أناب إليه، كما وصف نفسه بقوله: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .وذلك أن ظاهر الخطاب بذلك إنما هو للذين قال لهم جل ثناؤه: اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ، والذين خوطبوا به هم من سمّينا في قول الحجة من الصحابة والتابعين الذين قد قدّمنا الرواية عنهم. (9) . وذلك، وإن كان خطابًا من الله جل ذكره لمن أُهبط &; 1-551 &; حينئذٍ من السماء إلى الأرض، فهو سنّة الله في جميع خلقه، وتعريفٌ منه بذلك الذين أخبر عنهم في أول هذه السورة بما أخبر عنهم في قوله (10) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة: 6]، وفي قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة: 8]، وأنّ حكمه فيهم -إن تابوا إليه وأنابوا واتبعوا ما أتاهم من البيان من عند الله على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - أنهم عنده في الآخرة ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم إن هلكوا على كُفرهم وضلالتهم قبل الإنابة والتوبة، كانوا من أهل النار المخلَّدين فيها.وقوله: " فمن تَبعَ هُدَايَ"، يعني: فمن اتبع بَياني الذي آتيتُه على ألسن رُسُلي، أو مع رسلي (11) . كما:-795- حدثنا به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " فمن تَبع هُدَاي"، يعني بياني. (12) .* * *وقوله: " فلا خوفٌ عليهم "، يعني فهم آمنون في أهوال القيامة من عقاب الله، غير خائفين عذابه، بما أطاعوا الله في الدنيا واتبعوا أمرَه وهُداه وسبيله، ولا هم يحزنون يومئذ على ما خلّفوا بعد وفاتهم في الدنيا. كما:-796- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: " لا خوفٌ عليهم "، يقول: لا خوف عليكم أمامكم (13) .وليس شيء أعظمَ في صدر الذي يموت ممّا بعد الموت. فأمّنهم منه وسَلاهم عن الدنيا فقال: " ولا هم يحزنون ".----------الهوامش :(1) انظر ص : 534 .(2) الأثر : 793- لم أجده بهذا الإسناد ، وانظر ، ما مضى الأرقام : 754 وما بعده .(3) في المطبوعة : "نحويي البصريين" .(4) في المطبوعة : "وقد أنكر جماعة . . . دعوى قائلي . . . " .(5) الأثر : 794- في ابن كثير 1 : 148 ، والدر المنثور 1 : 63 ، والشوكاني 1 : 58 .(6) في المطبوعة : "هو النبي صلى الله عليه وسلم" .(7) في المطبوعة : " . . . مني هدى أنبياء ورسل . . . " .(8) في المطبوعة : "فإما يأتينكم مني يا معشر من أهبطته . . . " .(9) في المطبوعة : "الرواية عنهم" بالحذف(10) في المطبوعة : "وتعريف منه بذلك للذين" .(11) في المطبوعة : " . . . بياني الذي أبينه على ألسن رسلي" .(12) الأثر : 795- لم أجده في مكان .(13) الأثر : 796- لم أجده في مكان .
الطبري
2:38
قوله تعالى قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنونقوله تعالى : قلنا اهبطوا كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده ، كما تقول لرجل : قم قم . وقيل : كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى . وقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض ، وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي ." جميعا " نصب على الحال وقال وهب بن منبه : لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب [ ص: 309 ] وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقي معه ومع أولاده وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ، ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه .قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى اختلف في معنى قوله هدى فقيل : كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية وقالت فرقة : الهدى الرسل وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر ، وخرجه الآجري وفي قوله " مني " إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم وقرأ الجحدري " هدي " وهو لغة هذيل يقولون هدي وعصي ومحيي ، وأنشد النحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه :سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرعقال النحاس : وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت . و " ما " في قوله " إما " زائدة على " إن " التي للشرط ، وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله فمن تبع و " من " في موضع رفع بالابتداء . و " تبع " في موضع جزم بالشرط فلا خوف جوابه . قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول . وقال الكسائي فلا خوف عليهم جواب الشرطين جميعا .قوله تعالى : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه . والتخوف التنقص ومنه قوله [ ص: 310 ] تعالى أو يأخذهم على تخوف وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب " فلا خوف " بفتح الفاء على التبرئة ، والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء ؛ لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن " لا " لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ، ويجوز أن تكون " لا " في قوله تعالى : " فلا خوف " بمعنى ليس .والحزن والحزن : ضد السرور ولا يكون إلا على ماض ، وحزن الرجل ( بالكسر ) فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ، ومحزون بني عليه قال اليزيدي : حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما واحتزن وتحزن بمعنى ، والمعنى في الآية : فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا . وقيل : ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا ، والله أعلم .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:38
تفسير الآيتين 38 و 39 :ـ كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } أي: أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي، { فمن تبع هداي } منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وفي الآية الأخرى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا, حصل ضدهما, وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء، فحصل له المرغوب, واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب بآياته. فـ { أولئك أصحاب النار } أي: الملازمون لها, ملازمة الصاحب لصاحبه, والغريم لغريمه، { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات وما أشبهها, انقسام الخلق من الجن والإنس, إلى أهل السعادة, وأهل الشقاوة, وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب, كما أنهم مثلهم, في الأمر والنهي.
Arabic Saddi Tafseer
2:38
وقوله تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) يعني هؤلاء الأربعة . وقيل : الهبوط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والهبوط ( الآخر ) من السماء الدنيا إلى الأرض ( فإما يأتينكم ) أي فإن يأتكم يا ذرية آدم ( مني هدى ) أي رشد وبيان شريعة وقيل كتاب ورسول ( فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) قرأ يعقوب : فلا خوف بالفتح في كل القرآن والآخرون بالضم والتنوين فلا خوف عليهم فيما يستقبلون هم ] ( ولا هم يحزنون ) على ما خلفوا . وقيل لا خوف عليهم في الدنيا ولا هم يحزنون في الآخرة.
Arabic Baghawy Tafseer
2:38
أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص. أورد ابن جرير هاهنا حديثا ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة" وقد رواه مسلم من حديث شعبة عن أبي سلمة به. وذكر هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم وقال آخرون بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول والله أعلم.
ابن كثير
2:39
والذين جحدوا وكذبوا بآياتنا المتلوة ودلائل توحيدنا، أولئك الذين يلازمون النار، هم فيها خالدون، لا يخرجون منها.
المیسر
2:39
وقوله : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا } يحتمل أنه من جملة ما قيل لآدم فإكمال ذكره هنا استيعاب لأقسام ذرية آدم وفيه تعريض بالمشركين من ذرية آدم وهو يعم من كذب بالمعجزات كلها ومن جملتها القرآن ، عطف على ( مَن ) الشرطية في قوله : { فمن تبع هداي } إلخ فهو من عطف جملة اسمية على جملة اسمية ، وأتى بالجملة المعطوفة غير شرطية مع ما في الشرطية من قوة الربط والتنصيص على ترتب الجزاء على الشرط وعدم الانفكاك عنه لأن معنى الترتب والتسبب وعدم الانفكاك قد حصل بطرق أخرى فحصل معنى الشرط من مفهوم قوله : { فمن تبع هداي فلا خوف عليهم } فإنه بشارة يؤذن مفهومها بنذارة من لم يتبعه فهو خائف حزين فيترقب السامع ما يبين هذا الخوف والحزن فيحصل ذلك بقوله : { والذين كفروا وكذبوا } الآية . وأما معنى التسبب فقد حصل من تعليق الخبر على الموصول وصلته المومىء إلى وجه بناء الخبر وعلته على أحد التفسيرين في الإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وأما عدم الانفكاك فقد اقتضاه الإخبار عنهم بأصحاب النار المقتضي للملازمة ثم التصريح بقوله : { هم فيها خالدون } .ويحتمل أنه تذييل ذيلت به قصة آدم لمناسبة ذكر المهتدين وليس من المقول له ، والمقصود من هذا التذييل تهديد المشركين والعود إلى عرض قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] وقوله : { كيف تكفرون بالله } [ البقرة : 28 ] فتكون الواو في قوله : { والذين كفروا } اعتراضية والمراد بالذين كفروا الذين أنكروا الخالق وأنكروا أنبياءه وجحدوا عهده كما هو اصطلاح القرآن والمعنى والذين كفروا بي وبهداي كما دلت عليه المقابلة .والآيات جمع آية وهي الشيء الدال على أمر من شأنه أن يخفى ، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات لأنهم وضعوها للإرشاد إلى الطرق الخفية في الرمال ، وتسمى الحجة آية لأنها تظهر الحق الخفي ، كما قال الحارث بن حلزة :من لنا عنده من الخير آيا ... تٌ ثلاثٌ في كلهن القضاءيعني ثلاث حجج على نصحهم وحسن بلائهم في الحرب وعلى اتصالهم بالملك عمرو بن هند . وسمى الله الدلائل على وجوده وعلى وحدانيته وعلى إبطال عقيدة الشرك آيات ، فقال : { وماتأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } [ الأنعام : 4 ] وقال : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } [ الأنعام : 97 ] إلى قوله : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } [ الأنعام : 99 ] وقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } [ الأنعام : 109 ] وسمي القرآن آية فقال : { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله إلى قوله { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } في سورة العنكبوت ( 50 ، 51 ) . وسمَّى أجزاءه آيات فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا } [ الحج : 72 ] وقال : { المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق } [ الرعد : 1 ] لأن كل سورة من القرآن يعجز البشر عن الإتيان بمثلها كما قال تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] ، فكان دالاً على صدق الرسول فيما جاء به وكانت جمله آيات لأن بها بعضَ المقدار المعجز ، ولم تسم أجزاء الكتب السماوية الأخرى آيات ، وأما ما ورد في حديث الرجم أن ابن صوريا حين نشر التوراة وضع يده على آية الرجم فذلك على تشبيه الجزء من التوراة بالجزء من القرآن وهو من تعبير راوي الحديث .وأصل الآية عند سيبويه فَعَلَة بالتحريك أَيَيَهْ أو أَوَيَهْ على الخلاف في أنها واوية أو يائية مشتقة من أي الاستفهامية أو من أوى فلما تحرك حرفَا العلة فيها قلب أحدهما وقُلب الأول تخفيفاً على غير قياس لأن قياس اجتماع حرفي علة صالحين للإعلال أن يعل ثانيهما إلا ما قل من نحو آيَة وقَاية وطَاية وثَاية ورَاية .فالمراد بآياتنا هنا آيات القرآن أي وكذبوا بالقرآن أي بأنه وحي من عند الله . والباء في قوله : { وكذبوا بآياتنا } باء يكثر دخولها على متعلق مادة التكذيب مع أن التكذيب متعد بنفسه ولم أقف في كلام أئمة اللغة على خصائص لحاقها بهذه المادة والصيغة فيحتمل أنها لتأكيد اللصوق للمبالغة في التكذيب فتكون كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وقول النابغة :لك الخير أَنْ وارتْ بك الأرضُ واحدا ... ويحتمل أن أصلها للسببية وأن الأصل أن يُقال كذَّب فلاناً بخبره ثم كثر ذلك فصار كذب به وكذَب بمعنى واحد والأكثر أن يقال كذَّب فلاناً ، وكذب بالخبر الفلاني ، فقوله : { بآياتنا } يتنازعه فعلا كَفروا وكَذبوا . وقوله : { هم فيها خالدون } بيان لمضمون قوله : { أصحاب النار } فإن الصاحب هنا بمعنى الملازم ولذلك فصلت جملة { فيها خالدون } لتنزلها من الأولى منزلة البيان فبينهما كمال الاتصال .
Arabic Tanweer Tafseer
2:39
ونفى الخوف والحزن عن المهتدين يوم القيامة كناية عن سلامتهم من العذاب وفوزهم بالنعيم الخالد في الجنة ، فتمت المقابلة بين جزاء المهتدين وجزاء الكافرين المشار إليه بقوله - تعالى - :( والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .إذ هذه الآية الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - ( فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ) . إلخ ، وورادة مورد المقابل له في تفصيل أحوال من يأتيهم الهدى من الله .ولم يقل : والذين لم يتبعوا هداى أولئك أصحاب النار . . وإنما قال : ( والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك . . . ) إلخ ، وذلك لأن من لم يتبع هدى الله يشمل من لم تبلغه الدعوة ، وغير المكلفين مثل الصبيان وفاقدي العقل ، وهؤلاء ليسو من أصحاب النار . فظهر أن قوله : ( والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ . . . ) جيء به على قدر من يستحقون الحكم عليهم بأنهم من أصحاب النار والمجازاة بالعذاب الخالد الأليم .والآيات : جمع آية ، وهي في الأصل العلامة ، وتستعمل في الطائفة من الكتاب المنزل ، وفيما يستدل به على وجود الله وتوحيده ، من نحو بدائع مصنوعاته ومظاهر عنايته بالإِنسان .وأضاف - سبحانه - الآيات إلى نفسه فقال : ( بِآيَاتِنَآ ) ليكون قبح التكذيب بها أظهر ، وأتى بنون العظمة فقال ( بآياتنا ) دون أن يقول " بآياتي " لبعث المهابة في نفوس السامعين ، وذلك أدعى إلى تلقي الوعيد باهتمام وخشية .وأصحاب : جمع صاحب مأخوذ من الصحبة ، وهي الاقتران والملازمة ، ودل بقوله : ( هُمْ فِيهَا خَالِدُون ) على أن صحبتهم للنار دائمة ، وليست من الصحبة التي تستمر مدة ثم تنقطع .هذا جانب من قصة آدم كما حكاه القرآن في هذه السورة ، ومن الحكم التي تؤخذ منها : أن سياسة الأمم على الطريقة المثلى إنما تقوم على أساس راسخ من العلم ، وأن فضل العلم النافع فوق فضل العبادة ، وأن روح الشر الخبيثة إذا طغت على نفس من النفوس ، جعلتها لا ترى البراهين الساطعة ، ولا يوجهها إلى الخير وعد ، ولا يردعها عن الشر وعيد .كما يستفاد منها كيف أن الرئيس يفسح المجال لمرؤوسيه المخلصين ، يجادلونه في أمر يريد قضاءه ، ولا يزيد عن أن يبين لهم وجهة نظره في رفق ، وإذا تجاوزوا حدود الأدب اللائق به راعى في عتابهم ما عرفه فيهم من سلامة القلب ، وتلقى أوامره بحسن الطاعة .كما يؤخذ منها أن المتقلب في نعمة يجب أن يحافظ عليها بشكر الله ، ولا يعمل عملا فيه مخالفة لأوامر الله؛ لأن مخالفة أوامر الله ، كثيراً ما تؤدى إلى زوال النعمة ، ومن أراد أن تزداد النعم بين يديه ، فعليه أن يلتزم طاعة الله وشكره .وقال بعض العلماء : وقد يتبادر إلى الذهن أن آدم قد ارتكب ما نهى عنه ، ارتكاب من يتعمد المخالفة ، فيكون أكله من الشجرة معصية ، مع أنه من الأنبياء المرسلين ، والرسل معصومون من مخالفة أوامر الله .والجواب عن ذلك أن آدم تعمد الأكل من الشجرة ، ناسياً النهي عن الأكل منها ، وفعل المنهي عنه على وجه النسيان لا يعد من قبيل المعاصي التي يرتكبها الشخص وهو متذكر أنه يرتكب محرماً ، إذ أن ارتكاب المحرم عن علم وتذكر هو الذي يجعل مرتكبه مستحقاً للعقاب ، والأنبياء معصومون من ذلك .وإذا عاتب الله بعض الأخبار من عباده عل ى ما مصدر منهم على وجه النسيان ، فلأن علمهم بالنهي يدعوهم إلى أن يقع النهي من نفوسهم موقع الاهتمام ، بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعاً يملأ نفوسهم بالنفور منها ، ويجعلهم على حذر من الوقوع في بلائها .فالذي وقع من آدم - عليه السلام - هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم في استحضار النهي وجعله نصب عينيه حتى أدركه النسيان ، ففعل ما نهى عنه غير متعمد للمخالفة ، قال - تعالى - :( وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) هذا ، وبعد أن ذكر القرآن الكريم الناس جميعاً بنعم الله عليهم ، ليحملهم بذلك على إخلاص العبادة له ، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ، ومن بين هذه النعم خلق آدم وإظهار فضله على الملائكة ، بعد كل ذلك اتجه إلى تذكير طائفة خاصة من الكافرين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو إسرائيل ، استمالة لقلوبهم نحو الإِيمان بالله ، وكسرا لعنادهم ولجاجتهم ، فقال - تعالى - :( يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ . . . ) .
Arabic Waseet Tafseer
2:39
وقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)يعني: والذين جَحدوا آياتي وكذّبوا رسلي. وآيات الله: حُجَجه وأدلتُه على وحدانيّته وربوبيّته، وما جاءت به الرُّسُل من الأعلام والشواهد على ذلك، وعلى صدقها فيما أنبأتْ عن ربّها. وقد بيّنا أن معنى الكفر، التغطيةُ على الشيء (14) ." أولئك أصحاب النار "، يعني: أهلُها الذين هم أهلها دون غيرهم، المخلدون فيها أبدًا إلى غير أمَدٍ ولا نهاية. كما:-797- حدثنا به عُقبة بن سنان البصري، قال: حدثنا غَسان بن مُضَر، قال حدثنا سعيد بن يزيد - وحدثنا سَوَّار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا أبو مَسْلَمَة سعيد بن يزيد - وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وأبو بكر بن عون، قالا حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، عن سعيد بن يزيد - عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يَحْيَون، ولكن أقوامًا أصابتْهم النارُ بخطاياهم أو بذنوبهم، فأماتتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا أُذِنَ في الشفاعة (15) .---------------الهوامش :(14) انظر ما مضى ص : 255 .(15) الحديث : 797- رواه الطبري هنا بثلاثة أسانيد ، تنتهي إلى سعيد بن يزيد . وذكره ابن كثير 1 : 158 ، ولكنه سها فذكر أنه رواه من طريقين ، وهي ثلاثة كما ترى :و"عقبة بن سنان بن عقبة بن سنان البصري" - شيخ الطبري في الإسناد الأول : ثقة ، سمع منه أبو حاتم ، وقال : "صدوق" . ولم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل 3/1/311 . و"غسان بن مضر الأزدي البصري" : ثقة من شيوخ أحمد القدماء ، وقال أحمد : "شيخ ثقة ثقة" . وترجمه البخاري في الكبير 4/1/107 ، وابن أبي حاتم 3/2/51 . و"أبو بكر بن عون" - شيخ الطبري في الإسناد الثالث : لم أستطع أن أعرف من هو؟ ولا أثر لذلك في الإسناد ، فإن الطبري رواه عنه وعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، كلاهما عن ابن علية . و"سعيد بن يزيد بن مسلمة أبو مسلمة الأزدي البصري" : تابعي ثقة ، روى له الجماعة . وترجمه البخاري 2/1/476 ، وابن أبي حاتم 2/1/73 . وكنيته"أبو مسلمة" بالميم في أولها . ووقع في تفسير ابن كثير"أبو سلمة" بحذفها ، وهو خطأ مطبعي .وهذا الحديث رواه مسلم 1 : 67-68 ، وابن ماجه : 4309- كلاهما من طريق بشر بن المفضل ، عن سعيد بن يزيد أبي مسلمة ، به . ولكنه عندهما أطول مما هنا . ولم يروه من أصحاب الكتب الستة غيرهما ، كما يدل على ذلك تخريجه في جامع الأصول لابن الأثير : 8085 . وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند : 11093 (3 : 11 حلبي) عن ابن علية . ورواه أيضًا أحمد : 11769 (3 : 78-79) ، ومسلم 1 : 68- كلاهما من طريق شعبة ، عن سعيد بن يزيد .وهو في الحقيقة جزء من حديث طويل ، ورواه أحمد في المسند ، مطولا ومختصرًا ، من أوجه ، عن أبي نضرة ، منها : 11029 ، 11168 ، 11218- 11220 (3 : 5 ، 20 ، 25-26 حلبي) .
الطبري
2:39
قوله تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قوله تعالى : والذين كفروا أي أشركوا ، لقوله : وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الصحبة : الاقتران بالشيء في حالة ما ، في زمان ما ، فإن كانت الملازمة والخلطة فهي كمال الصحبة ، وهكذا هي صحبة أهل النار لها ، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة على ما نبينه في " براءة " إن شاء الله وباقي ألفاظ الآية تقدم معناها والحمد لله .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:39
تفسير الآيتين 38 و 39 :ـ كرر الإهباط, ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } أي: أيَّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين- هدى, أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني, ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي، { فمن تبع هداي } منكم, بأن آمن برسلي وكتبي, واهتدى بهم, وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب, والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، { فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وفي الآية الأخرى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن والفرق بينهما, أن المكروه إن كان قد مضى, أحدث الحزن, وإن كان منتظرا, أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا, حصل ضدهما, وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه, حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه, من الخوف, والحزن, والضلال, والشقاء، فحصل له المرغوب, واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه, فكفر به, وكذب بآياته. فـ { أولئك أصحاب النار } أي: الملازمون لها, ملازمة الصاحب لصاحبه, والغريم لغريمه، { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات وما أشبهها, انقسام الخلق من الجن والإنس, إلى أهل السعادة, وأهل الشقاوة, وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب, كما أنهم مثلهم, في الأمر والنهي.
Arabic Saddi Tafseer
2:39
{والذين كفروا} يعني جحدوا{وكذبوا بآياتنا} بالقرآن.{أولئك أصحاب النار} يوم القيامة{هم فيها خالدون} لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
Arabic Baghawy Tafseer
2:39
يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ومهيجا لهم بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا يا ابن الشجاع بارز الأبطال يا ابن العالم اطلب العلم ونحو ذلك. ومن ذلك أيضا قوله تعالى "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا" فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي حدثنا عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال: حدثني عبدالله بن عباس قال حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم "هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ "قالوا اللهم نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم اشهد" وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبدالله بن عباس أن إسرائيل كقولك عبدالله وقوله تعالى "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" قال مجاهد نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل أو نزل عليهم الكتب قلت وهذا كقول موسى عليه السلام لهم يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يعني في زمانهم. وقال محمد بن إسحق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم" أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" قال بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم. وقال الحسن البصري هو قوله تعالى "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية وقال آخرون هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم وقال أبو العالية "وأوفوا بعهدي" قال عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه. وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف بعهدكم قال أرض عنكم وأدخلكم الجنة وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس وقوله تعالى "وإياي فارهبون" أي فاخشون قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة. وقال ابن عباس في قوله تعالى "وإياي فارهبون" أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ابن كثير
2:40
يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم، واشكروا لي، وأتموا وصيتي لكم: بأن تؤمنوا بكتبي ورسلي جميعًا، وتعملوا بشرائعي. فإن فعلتم ذلك أُتمم لكم ما وعدتكم به من الرحمة في الدنيا، والنجاة في الآخرة. وإيَّايَ -وحدي- فخافوني، واحذروا نقمتي إن نقضتم العهد، وكفرتم بي.
المیسر
2:40
انتقال من موعظة المشركين إلى موعظة الكافرين من أهل الكتاب وبذلك تتم موعظة الفرق المتقدم ذكرها ، لأن فريق المنافقين لا يعدو أن يكونوا من المشركين أو من أهل الكتاب اليهود ، ووُجه الخطاب هنا إلى بني إسرائيل وهم أشهر الأمم المتدينة ذات الكتاب الشهير والشريعة الواسعة ، وذلك لأن هذا القرآن جاء يهدي للتي هي أقوم فكانت هاته السورة التي هي فسطاطه مشتملة على الغرض الذي جاء لأجله ، وقد جاء الوفاء بهذا الغرض على أبدع الأساليب وأكمل وجوه البلاغة فكانت فاتحتها في التنويه بشأن هذا الكتاب وآثار هديه وما يكتسب متبعوه من الفلاح دنيا وأخرى ، وبالتحذير من سوء مغبة من يُعرض عن هديه ويتنكب طريقه ، ووُصف في خلال ذلك أحوال الناس تجاه تلقي هذا الكتاب من مؤمن وكافر ومنافق ، بعد ذلك أقبل على أصناف أولئك بالدعوة إلى المقصود ، وقد انحصر الأصناف الثلاثة من الناس المتلقين لهذا الكتاب بالنسبة لحالهم تجاه الدعوة الإسلامية في صنفين لأنهم إما مشرك أو متدين أي كتابي ، إذ قد اندرج صنف المنافقين في الصنف المتدين لأنهم من اليهود كما قدمناه ، فدعا المشركين إلى عبادته تعالى بقوله : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] . فالناس إن كان المراد به المشركين كماهو اصطلاح القرآن غالباً كما تقدم فظاهر ، وإن كان المراد به كل الناس فقوله : { اعبدوا ربكم } يختص بهم لا محالة إذ ليس المؤمنون بداخلين في ذلك ، وذكَّرهم بدلائل الصنعة وهي خلق أصولهم وبأصول نعم الحياة وهي خلق الأرض والسماء وإنزال الماء من السماء لإخراج الثمرات ، وعَجَّب من كفرهم مع ظهور دلائل إثبات الخالق من الحياة والموت ، وذكَّرهم بنعمه عظيمة وهي نعمة تكريم أصلهم وتوبته على أبيهم ، كل ذلك اقتصار على القدر الثابت في فطرتهم إذ لم يكن لديهم من الأصول الدينية ما يُمكن أن يُجعل مرجعاً في المحاورة والمجادلة يقتنعون به ، وخاطبهم في شأن إثبات صدق الرسول خلال ذلك بالدليل الذي تُدركه أذواقهم البلاغية فقال : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] الآيات . ولما قَضى ذلك كلَّه حقَّه أقبل بالخطاب هنا على الصنف الثاني وهم أهل الشرائع والكتاب وخَص من بينهم بني إسرائيل لأنهم أمثل أمة ذات كتاب مشهور في العالم كله وهم الأوْحِدَاء بهذا الوصف من المتكلمين باللغة العربية الساكنين المدينة وما حولها ، وهم أيضاً الذين ظهر منهم العناد والنواء لهذا الدين ، ومن أجل ذلك لم يَدْعُ اليهودَ إلى توحيد ولا اعتراف بالخالق لأنهم موحدون ولكنه دعاهم إلى تذكر نعم الله عليهم وإلى ما كانت تلاقيه أنبياؤهم من مكذبيهم ، ليذكروا أن تلك سنة الله وليرجعوا على أنفسهم بمثل ما كانوا يؤنِّبون به من كذب أنبياءهم وذكرهم ببشارات رسلهم وأنبيائهم بنبي يأتي بعدهم .ولتوجيه الخطاب إليهم طريقة أخرى وهي أنه جَادَلهم بالأدلة الدينية العلمية وإثبات صدق الرسالة بما تعارفوه من أحوال الرسل ، ولم يعرج لهم على إثبات الصدق بدلالة معجزة القرآن إذ لم يكونوا من فُرسان هذا الميدان كما قدمناه في تفسير قوله تعالى : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] فكان خطابهم هنا بالدلائل الدينية وبحجج الشريعة الموسوية ليكون دليلُ صدق الرسول في الاعتبار بحالِه وأنه جاء على وفاق أحوال إخوانه المرسلين السابقين .وقد أفاض القرآن في ذلك وتدرج فيه من درجة إلى أختها بأسلوب بديع في مجادلة المخاطبين وأفاد فيه تعليم المسلمين حتى لا يفوتهم علماءُ بني إسرائيل قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَكُنْ لهم آيةً أَنْ يعلَمَه عُلماءُ بني إسرائيل } [ الشعراء : 197 ] فقد كان العلم يومئذ معرفة التشريع ومعرفة أخبار الأنبياء والأمم الماضية وأحوال العَالَمَيْن العلوي والسفلي مع الوصايات الأدبية والمواعظ الأخلاقية ، فبذلك كان اليهود يفوقون العرب ومن أجله كانت العرب تسترشدهم في الشؤون وبه امتاز اليهود على العرب في بلادهم بالفكرة المدنية . وكان عِلم عامة اليهود في هذا الشأن ضعيفاً وإنما انفردت بعلمه علماؤهم وأحبارهم فجاء القرآن في هاته المجادلات معلماً أيضاً للمسلمين وملحقاً لهم بعلماء بني إسرائيل حتى تكون الدرجة العليا لهم لأنهم يضمون هذا العلم إلى علومهم اللسانية ونباهتهم الفكرية فتصبح عامة المسلمين مساوية في العلم لخاصة الإسرائيليين وهذا معنى عظيم من معاني تعميم التعليم والإلحاق في مسابقة التمدين . وبه تنكشف لكم حكمة من حِكَم تعرض القرآن لقصص الأمم وأحوالهم فإن في ذلك مع العبرة تعليماً اصطلاحياً . ولقد نعُدّ هذا من معجزات القرآن وهو أنه شرح من أحوال بني إسرائيل ما لا يعلمه إلا أحبارهم وخاصتهم مع حرصهم على كتمانه الاستئثار به خشية المزاحمة في الجاه والمنافع فجاء القرآن على لسان أبعد الناس عنهم وعن علمهم صادعاً بما لا يعلمه غير خاصتهم فكانت هذه المعجزة للكتابيينَ قائمةً مقام المعجزة البلاغية للأميين . وقد تقدم الإلمام بهذا في المقدمة السابعة . وقد روعيت في هذا الانتقال مسايَرة ترتيب كتب التوراة إذا عقبت كتاب التكوين بكتاب الخروج أي وصف أحوال بني إسرائيل في مدة فرعون ثم بعثة موسى ، وقد اقتصر مما في سفر التكوين على ذكر خلق آدم وإسكانه الأرض لأنه موضع العبرة وانتقل من ذلك إلى أحوال بني إسرائيل لأن فيها عبراً جمة لهم وللأمة .فقوله : { يا بني إسرائيل } خطاب لذرية يعقوب وفي ذريته انحصر سائر الأمة اليهودية ، وقد خاطبهم بهذا الوصف دون أن يقول يا أيها اليهود لكونه هو اسم القبيلة أما اليهود فهو اسم النحلة والديانة ولأن من كان متبعاً دين اليهودية من غير بني إسرائيل كحمير لم يعتد بهم لأنهم تبع لبني إسرائيل فلو آمن بنو إسرائيل بالنبيء صلى الله عليه وسلم لآمن أتباعهم لأن المقلد تبع لمقلده .ولأن هذا الخطاب للتذكير بنعم أنعم الله بها على أسلافهم وكرامات أكرمهم بها فكان لندائهم بعنوان كونهم أبناء يعقوب وأعقابه مزيد مناسبة لذلك ألا ترى أنه لما ذكروا بعنوان التدين بدين موسى ذكروا بوصف الذين هادوا في قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [ البقرة : 62 ] الآية كما سيأتي قريباً .وتوجيه الخطاب إلى جميع بني إسرائيل يشمل علماءهم وعامتهم لأن ما خوطبوا به هو من التذكير بنعمة الله على أسلافهم وبعهد الله لهم . وكذلك نجد خطابهم في الأغراض التي يراد منها التسجيل على جميعهم يكون بنحو { يا أهل الكتاب } [ آل عمران : 64 ] أو بوصف اليهود الذين هادوا أو بوصف النصارى ، فأما إذا كان الغرض التسجيل على علمائهم نجد القرآن يعنونهم بوصف { الذين أوتوا الكتاب } [ النساء : 47 ] أو { الذين آتيناهم الكتاب } [ الأنعام : 20 ] . وقد يستغنى عن ذلك بكون الخبر المسوق مما يناسب علماءهم خاصة مثل قوله تعالى : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [ البقرة : 75 ] . ونحو { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] ونحو { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } [ البقرة : 42 ] { فويل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم } [ البقرة : 79 ] الآية { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله } [ البقرة : 159 ] { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] الآية . فإذا جاء الخطاب بأسلوب شامل لعلمائهم وعامتهم صرف إلى كل طائفة من الطائفتين ما هو لائق بها .وبنون مما أُلحق بجمع المذكر السالم وليس منه لأنه دخل التكسير بحذف لامه وزيادة همزة الوصل في أوله فحقه أن يجمع على أبناء .وقد اختلف في أصل ابن فقيل هو مشتق من بني أي فهو مصدر بمعنى المفعول كالخلق فأصله بني أي مبني لأن أباه بناه وكونه فحذفت لامه للتخفيف وعوض عنها همزة الوصل ففيه مناسبة في معنى الاشتقاق إلا أن الحذف حينئذ على غير قياس لأن الياء لاموجب لحذفها إلا أن يتكلف له بأن الياء تحركت مع سكون ما قبلها فنقلت حركتها للساكن إجراء له مجرى عين الكلمة ثم لما انقلب ألفاً على تلك القاعدة خيف التباسه بفعل بني فحذفت اللام وعوض عنها همزة الوصل . وقيل أصله وأو على وزن بنْو أو بنَو بسكون النون أو بالتحريك فحذفت الواو كما حذفت من نظائره نحو أخ وأب وفي هذا الوجه بعد عن الاشتقاق وبعد عن نظائره لأن نظائره لما حذفت لاماتها لم تعوض عنها همزة الوصل .وإسرائيل لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال ابن عباس معناه عبد الله ، لأن إسرا بمعنى عبد وإيل اسم الله أي مركب من كلمتين إسرا و إيل اسم الله تعالى كما يقولون بيت إيل ( اسم لقرية تسمى لوز من أرض كنعان نزلها يعقوب عليه السلام في مهاجره فراراً من أخيه عيسو وبنى فيها مذبحاً ودعا اسمه بيت إيل ) . والذي في كتب اليهود أن سبب تسمية يعقوب إسرائيل أنه لما كان خائفاً في مهاجره من أن يلحقه أخوه عيسو لينتقم منه عرض له في إحدى الليالي شخص فعلم يعقوب أنه ربه ( أي ملك من ملائكة الله ) فأمسكه وصارعه يعقوب كامل الليل إلى طلوع الفجر فقال له أطلقني فقد طلع الفجر فقال له يعقوب : لا أطلقك حتى تباركني فقال له : ما اسمك؟ قال : يعقوب قال له : لا يدعى اسمك يعقوب بعد اليوم بل أنت إسرائيل لأنك جاهدت الله والناس وقدرت . وباركه هناك . فهذا يدل على أن إسرا في هذا الاسم راجع إلى معنى الأسر في الحرب كما هو في العربية فإذا كان هذا من أصل التوراة فهو على تأويل رؤيا رآها يعقوب جعل الله بها له شرفاً أو عرض له ملك كذلك . ثم إن يعقوب له اثنا عشر ابناً وهم المشهورون بالأسباط لأنهم أسباط إسحاق بن إبراهيم وإلى هؤلاء الأسباط يرجع نسب جميع بني إسرائيل وسيأتي ذكر الأسباط في هذه السورة .و { اذكروا } أمر من الذكر وهو أي الذكر بكسر الذال وضمها يطلق على خطور شيء ببال من نسيه ولذلك قيل ، وكيف يذكره من ليس ينساه ، ويطلق على النطق باسم الشيء الخاطر ببال الناس ، ثم أطلق على التصريح بالدالّ مطلقاً لأن الشأن أن أحداً لا ينطق باسم الشيء إلا إذا خطر بباله ، وقد فرق بعض اللغويين بين مكسور الذال ومضمومه فجعل المكسور للساني والمضموم للعقلي ولعلها تفرقة استعمالية مولدة إذ لا يحجر على المستعمل تخصيصه أحد مصدري الفعل الواحد لأحد معاني الفعل عند التعبير فيصير ذلك اصطلاحياً استعمالياً لا وضعاً حتى يكون من المترادف إذ اتحاد الفعل مانع من دعوى ترادف المصدرين فقد قال عمر رضي الله عنه : أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه فسمى النوعين ذكراً . والمقصود هنا الذكر العقلي إذ ليس المراد ذكر النعمة باللسان .والمراد بالنعمة هنا جميع ما أنعم الله به على المخاطبين مباشرة أو بواسطة الإنعام على أسلافهم فإن النعمة على الأسلاف نعمة على الأبناء لأنها سمعة لهم ، وقدوة يقتدون بها ، وبركة تعود عليهم منها ، وصلاح حالهم الحاضر كان بسببها ، وبعض النعم يكون فيما فطر الله عليه الإنسان من فطنة وسلامة ضمير وتلك قد تورث في الأبناء .ولولا تلك النعم لهلك سلفهم أو لساءت حالهم فجاء أبناؤهم في شر حال . فيشمل هذا جميع النعم التي أنعم الله بها عليهم فهو بمنزلة اذكروا نعمي عليكم . وهذا العموم مستفاد من إضافة نعمة إلى ضمير الله تعالى إذ الإضافة تأتي لما تأتي له اللام ولا يستقيم من معاني اللام العهد إذ ليس في الكلام نعمة معينة معهودة ، ولا يستقيم معنى اللام الجنسية ، فتعين أن تكون الإضافة على معنى لام الاستغراق فالعموم حصل من إضافة نعمة إلى المعرفة وقليل من علماء أصول الفقه من يذكرون المفرد المعرف بالإضافة في صيغ العموم ، وقد ذكره الإمام الرازي في «المحصول» في أثناءالاستدلال . وقال ولي الدين : الإضافة عند الإمام أدل على العموم من اللام وقال ابن السبكي في «شرح مختصر ابن الحاجب» : دلالة المفرد المضاف على العموم ما لم يتحقق عهد هو الصحيح نحو قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } [ النور : 63 ] أي كل أمره وقد تأيد قصد عموم النعمة بأن المقام للامتنان والدعوة إلى الإسلام فيناسبه تكثير النعم . والمراد النعم التي أنعم الله بها على أسلافهم وعلى الحاضرين منهم زمن نزول القرآن فإن النعمة على أسلافهم نعمة عليهم وقد تتابعت النعم عليهم إذ بوأهم قرى في بلاد العرب بعد أن سلبت بلادهم فلسطين وجعلهم في بحبوحة من العيش مع الأمن والثروة ومسالمة العرب لهم .والأمر بذكر النعمة هنا مراد منه لازمه وهوشكرها ومن أول مراتب الشكر ترك المكابرة في تلقي ما ينسب إلى الله من الرسالة بالنظر في أدلتها ومتابعة ما يأتي به المرسلون . فقوله : { التي أنعمت عليكم } وصف أشير به إلى وجوب شكر النعم لما يؤذن الموصول وصلته من التعليل فهومن باب قوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } [ المائدة : 6 ] . ويفيد مع ذلك أمرهم بتفكر النعم التي أنعم بها عليهم لينصرفوا بذلك عن حسد غيرهم فإن تذكير الحسود بما عنده من النعم عظة له وصرف له عن الحسد الناشىء عن الاشتغال بنعم الغير وهذا تعريض بهم أنهم حاسدون للعرب فيما أوتوا من الكتاب والحكمة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وانتقال النبوة من بني إسرائيل إلى العرب وإنما ذكروا بذلك لأن للنفس غفلة عما هو قائم بها وإنما تشتغل بأحوال غيرها لأن الحس هو أصل المعلومات فإذا رأى الحاسد نعم الغير نسي أنه أيضاً في نعمة فإذا أريد صرفه عن الحسد ذكر بنعمه حتى يخف حسده فإن حسدهم هو الذي حال دون تصديقهم به فيكون وزانه وزان قوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] ، وتقديمه على قوله : { وأوفوا بعهدي } من باب تقديم التخلية بالمعجمة على التحلية بالمهملة ويكون افتتاح خطابهم بهذا التذكير تهيئة لنفوسهم إلى تلقي الخطاب بسلامة طوية وإنصاف .وقوله تعالى : { وأوفوا بعهدي } هو فعل مهموز من ( وفى ) المجرد وأصل معنى وفى أتم الأمر تقول وفيته حقه ، ولما كان المجرد متعدياً للمفعول ولم يكن في المهموز زيادة تعدية للتساوي بين قولك وفيته حقه وأوفيته حقه تعينت الزيادة لمجرد المبالغة في التوفية مثل بان وأبان وشغل وأشغل وأما وفّى بالتضعيف فهو أبلغ من أوفى لأن فعل وإن شارك أفعل في معانيه إلا أنه لما كان دالاً على التقضي شيئاً بعد شيء كان أدل على المبالغة لأن شأن الأمر الذي يفعل مدرجاً أن يكون أتقن . وقد أطلق الوفاء على تحقيق الوعد والعهد إطلاقاً شائعاً صيره حقيقة .والعهد تقدم معناه عند قوله تعالى : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } [ البقرة : 27 ] في هذه السورة .والعهد هنا هو الالتزام للغير بمعاملة التزاماً لا يفرط فيه المعاهد حتى يفسخاه بينهما واستعير العهد المضاف إلى ضمير الجلالة لقبول ما يكلفهم به من الدين واستعمل مجازاً لقبول التكاليف والدخول في الدين واستعير المضاف إلى ضمير المخاطبين للوعد على ذلك بالثواب في الآخرة والنصر في الدنيا فلك أن تجعل كل عهد مجازاً مفرداً استعمل العهد الأول في التكاليف واستعمل العهد الثاني في الوعد بالثواب والنصر واستعمل الإيفاء مع كليهما في تحقيق ما التزم به كلا الجانبين مستعاراً من ملائم المشبه به إلى ملائم المشبه ليفيد ترشيحاً لاستعارته ولك أن تجعل المجموع استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من قولهم لما أمرهم الله به وأن لا يقصروا في العمل ومن وعد الله إياهم على ذلك بالثواب بهيئة المتعاهدين على التزام كل منهما بعمل للآخر ووفائه بعهده في عدم الإخلال به فاستعير لهذه الهيئة الكلام المشتمل على قوله : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وهذا أحسن وبه يتبين وجه استعمال لفظ العهد الثاني في قوله تعالى : { أوف بعهدكم } وتقربه المشاكلة .وعلى الوجهين فالعهد في الموضعين مضاف للمفعول وهو ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» لأن إضافته إلى المفعول متعينة إذا تعلق به الإيفاء إذ لا يوفي أحد إلا بعهد نفسه فإذا أضيف العهد الذي هو مفعول { أوفوا } إلى غير فاعل الإيفاء تعين أن تكون إضافته للمفعول وبذلك يتم ترشيح المجاز إن كان مفرداً كما أشار له المحقق التفتزاني فإن كان مركباً فأخلق به لأن اللفظ الموضوع للهيئة المشبه بها يضاف بقيد الإيفاء إلى مفعوله لا محالة .ومن لطائف القرآن في اختيار لفظ العهد للاستعارة هنا لتكليف الله تعالى إياهم أن ذلك خطاب لهم باللفظ المعروف عندهم في كتبهم فإن التوراة المنزلة على موسى عليه السلام تلقب عندهم بالعهد لأنها وصايات الله تعالى لهم ولذا عبر عنه في مواضع من القرآن بالميثاق وهذا من طرق الإعجاز العلمي الذي لا يعرفه إلا علماؤهم وهم أشح به منهم في كل شيء بحيث لا يعرف ذلك إلا خاصة أهل الدين فمجيئه على لسان النبيء العربي الأمي دليل على أنه وحي من العلام بالغيوب .والعهد قد أخذ على أسلافهم بواسطة رسلهم وأنبيائهم قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } [ آل عمران : 81 ] الآية وإذ قد كان المخاطبون بالآية قد تلقوا الشريعة من أسلافهم بما فيها من عهد فقد كان العهد لازماً لهم وكان الوفاء متعيناً عليهم لأنهم الذين جاء فيهم الرسول الموعود به .وقوله : { وإياي فارهبون } عطفت الواو جملة { وإياي } على الجمل المتقدمة من قوله : { وأوفوا بعهدي } إلى آخرها على طريقه الانتقال من معنى إلى المعنى المتولد عنه وهي أصل طريقة المنشئين أن يراعوا الترتيب الخارجي في الخبر والإنشاء لأنه الأصل ما لم يطرأ مقتض لتغيير الترتيب الطبيعي ومنه في القرآن قوله : { ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه } [ هود : 77 ] إلخ ، فإنه لما افتتح خطابهم بالتذكير بالنعمة الباعث على شكر المنعم ومراقبة حقه والمطهر لهم من الحسد فإنه صارف عن الاعتراف بالنعمة كما قدمنا . ثم عطف عليه قوله : { وأوفوا بعهدي } وهو مبدأ المقصود من الأمر بتصديق الرسول الموعود به على ألسنة أنبيائهم . ثم عقب ذلك بقوله : { وإياي فارهبون } فهو تتميم لذلك الأمر السابق بالنهي عما يحول بينهم وبين الإيفاء بالعهد على وجهه وذلك هو صد كبرائهم وأحْبارهم إياهم عن الانتقال عما هم عليه من التمسك بالتوراة فإنهم هم القوم الذين كانوا يقولون لمَلك بلادهم فرعون مصر يوم بعثة موسى { لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا } [ طه : 72 ] فكانوا أحرياء بأن يخاطبوا سادتهم وأحبارهم بمثل ذلك الخطاب عند البعثة المحمدية .فتقديم المفعول هنا متعين للاختصاص ليحصل من الجملة إثبات ونفي واختير من طرق القصر طريق التقديم دون ما وإلا ليكون الحاصل بالمنطوق هو الأمر برهبة الله تعالى ويكون النهي عن رهبة غيره حاصلاً بالمفهوم فإنهم إذا رهبوا الله تعالى حرصوا على الإيفاء بالعهد ولما كانت رهبتهم أحبارهم تمنعهم من الإيفاء بالعهد أدمج النهي عن رهبة غير الله مع الأمر برهبة الله تعالى في صيغة واحدة .وتقديم المفعول مع اشتغال فعله بضميره آكد في إفادة التقديم الحصر من تقديم المفعول على الفعل غير المشتغل بضميره ، فإياي ارهبون آكد من نحو إياي ارهبوا كما أشار إليه صاحب «الكشاف» إذ قال : «وهو من قولك زيداً رهبته وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إياك نعبد } » [ الفاتحة : 1 ] اه . ووجهه عندي أن تقديم المفعول يحتمل الاختصاص ، إلا أن الأصل فيه أن يدل على الاختصاص إلا إذا أقامت القرينة على التقوى فإذا كان مع التقديم اشتغال الفعل بضمير المقدم نحو زيداً ضربته كان الاختصاص أوكد أي كان احتمال التقوى أضعف وذلك لأن إسناد الفعل إلى الضمير بعد إسناده إلى الظاهر المتقدم يفيد التقوى فتعين أن تقديم المفعول للاختصاص دون التقوى إذ التقوى قد حصل بإسناد الفعل أولاً إلى الاسم أو الظاهر المتقدم وثانياً إلى ضمير المتقدم ولهذا لم يقل صاحب «الكشاف» وهو أكثر اختصاصاً ولا أقوى اختصاصاً إذ الاختصاص لا يقبل التقوية بل قال وهو أوكد في إفادة الاختصاص أي إن إفادته الاختصاص أقوى لأن احتمال كون التقديم للتقوى قد صار مع الاشتغال ضعيفاً جداً .ولسنا ندعي أن الاشتغال متعين للتخصيص فإنه قد يأتي بلا تخصيص في نحو قوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } [ القمر : 49 ] ، وقوله : { أبشراً منا واحداً نتبعه } [ القمر : 24 ] وقول زهير :فكلاً أراهم أصبحوا يعقلونه ... صحيحات مال طالعات بمخرملظهور أن لا معنى للتخصيص في شيء مما ذكرنا غير أن الغالب أن يكون التقديم مع صيغة الاشتغال للتخصيص إذ العرب لا تقدم المفعول غالباً إلا لذلك ولا التفات إلى ما وجه به صاحب «المفتاح» أن احتمال المفعول في الاشتغال التخصيص والتقوي باق على حاله ولكنك إن قدرت الفعل المحذوف متقدماً على المفعول كان التقديم للتقوي وإن قدرته بعد المفعول كان التقديم للتخصيص فإنه بناه على حالة موقع الفعل المقدر مع أن تقدير الفعل اعتبار لا يلاحظه البلغاء ولأنهم ينصبون على موقعه قرينه فتعين أن السامع إنما يعتد بالتقديم المحسوس وبتكرير التعلق وأما الاعتداد بموقع الفعل المقدر فحوالة على غير مشاهد لأن التقدير إن كان بنية المتكلم فلا قبل للسامع بمعرفة نيته ولا يصح أن يكون الخيار في التقدير للسامع .هذا والتقديم إذا اقترن بالفاء كان فيه مبالغة ، لأن الفاء كما في هذه الآية مؤذنة بشرط مقدر ولما كان هذا الشرط لا دليل عليه إلا الفاء تعين تقديره عاماً نحو إن يكن شيء أو مهما يكن شيء كما أشار له صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] حيث قال : «ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل مهما كان فلا تدع تكبيره» . فالمعنى هنا وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ومهما يكن شيء فإياي ارهبوني ، فلما حذفت جملة الشرط بعد واو العطف بقيت فاء الجواب موالية لواو العطف فزحلقت إلى أثناء الجواب كراهية توالي حرفين فقيل { وإياي فارهبون } بدلاً عن أن يقال فارهبون . والتعليق على الشرط العام يستلزم تحقق وقوع الجواب لأن التعليق الشرطي بمنزلة ربط المسبب بالسبب فإذا كان المعلق عليه أمراً محقق الوقوع لعدم خلو الحدثان عنه تعين تحقق وقوع المعلق ، وهذا مبني على مذهب سيبويه في باب الأمر والنهي يختار فيهما النصب في الاسم الذي يبنى عليه الفعل وذلك مثل قولك زيداً اضربه ومثل ذلك أما زيداً فاقتله فإذا قلت زيد فاضربه لم يستقم أن تحمله على الابتداء ألا ترى أنك لو قلت زيد فمنطلق لم يستقم ، ثم أشار إلى أن الفاء هنا في معنى فاء الجزاء فمن ثم جزم الزمخشري بأن هاته الفاء مهما وجدت في الاشتغال دلت على شرط عام محذوف وإن الفاء كانت داخلة على الاسم فزحلقت على حكم فاء جواب أما الشرطية وأحسب أن مثل هذا التركيب من مبتكر أساليب القرآن ولم أذكر أني عثرت على مثله في كلام العرب .ومما يؤيد ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» المبني على كلام سيبويه من اعتبار الفاء مشعرة بشرط مقدر ، أن غالب مواقع هاته الفاء المتقدم معها المفعول على مدخلها أن تقع بعد نهي أو أمر يناقض الأمر والنهي الذي دخلت عليه تلك الفاءُ نحو قوله تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت } إلى قوله : { بل الله فاعبد } [ الزمر : 65 ، 66 ] وقول الأعشى : «ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا» فكان ما يتقدم هاته الفاء يتولد منه شرط في المعنى وكانت الفاء مؤذنة بذلك الشرط وعلامة عليه فلأجل كونه مدلولاً عليه بدليلين أصله وفرعه كان كالمذكور كأنه قيل لئن أشركت ليحبطن عملك ، وفإن كنت عابداً شيئاً فالله فاعبد ، وكذا في البيت وهذه فائدة لم يفصح عنها السلف فخذها ولا تخف .قال التفتزاني «ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه قال : إن في قوله تعالى : { وإياي فارهبون } وجوهاً من التأكيد : تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفاً عليه ومعطوفاً تقديره إياي ارهبوا فارهبون أحدهما مقدر والثاني مظهر ، وما في ذلك من تكرار الرهبة ، وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء كأنه قيل : إن كنتم راهبين شيئاً فارهبون» اه . يريد أن في تقديم الضمير إفادة الاختصاص والاختصاص تأكيد ، قال صاحب «المفتاح» ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيداً على تأكيد وأما تأخير الضمير المتصل فلما في إعادة الإسناد من التقوي ، ومراد الزمخشري بقوله معطوفاً عليه ومعطوفاً العطف اللغوي أي معقباً ومعقباً به لا العطف النحوي إذ لا يستقيم هنا ، فتحصل أن في التعبير عن مثل هذا الاختصاص في كلام البلغاء مراتب أربع : مجرد التقديم للمفعول نحو { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] . وتقديمه على فعله العامل في ضميره نحو زيداً رهبته ، وتقديمه على فعله مع اقتران الفعل بالفاء نحو { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] وتقديمه على فعله العامل في ضميره مع اقتران الفعل بالفاء نحو { وإياي فارهبون } . فالثانية والثالثة والرابعة أوكد منهما .وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية في قوله : { فارهبون } للجمهور من العشرة في الوصل والوقف وأثبتها يعقوب في الوصل والوقف . وجمهور العرب يحذفونها في الوقف دون الوصل وهذيل يحذفونها في الوقف والوصل وأهل الحجاز يثبتونها في الحالين وإنما اتفق الجمهور هنا على حذفها في الوصل مثل الوقف لأن كلمة { فارهبون } كتبت في المصحف الإمام بدون ياء وقرئت كذلك في سُنة القراءة .ووجه ذلك أنها وقعت فاصلةً فاعتبروها كالموقوف عليها قال سيبويه في باب ما يحذف من أواخر الأسماء في الوقف «وجميع مالا يحذف في الكلام وما يختار فيه أن لا يحذف يحذف في الفواصل والقوافي» . ولأن لغة هذيل تحذفها مطلقاً ، وقراءةُ يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف جرى على لغة أهل الحجاز ولأنه رواها بالإثبات وهو وجه في العربية ويكون قد تأول كتابتها بدون ياء في المصحف أنه اعتماد على أن القارىء يجريها على روايته ولذلك لو لم تكن ياء المتكلم في كلمة هي فاصلة من الآي لما اتفق الجمهور على حذفها كما في قوله تعالى : { أجيب دعوة الداعي إذا دعان } [ البقرة : 186 ] كما سيأتي .
Arabic Tanweer Tafseer
2:40
إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - وفي إضافتهم إلى أبيهم إسرائيل تشريف لهم وتكريم ، وحث لهم على الامتثال لأوامر الله ونواهيه ، فكأنه قيل : يا بني العبد الصالح ، والنبي الكريم ، كونوا مثل أبيكم في الطاعة والعبادة .ويستعمل مثل هذا التعبير في مقام الترغيب والترهيب ، بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن ، والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ ، ففي هذا النداء . خير داع لذوي الفطر السليمة منهم إلى الإِقبال على ما يرد بعده من التذكير بالنعمة ، واستعمالها فيما خلقت له .ومعنى ( اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنافع التي أتتكم على سبيل الإِحسان منى ، وقوموا بحقوقها وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم ، فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها .والمراد بنعمة : المنعم بها عليهم ، وتجمع على نعم ، وقد وردت في القرآن الكريم بمعنى الجمع كما في قوله تعالى : ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ) فإن لفظ العدد والإِحصاء قرينة على أن المراد بالنعمة : النعم الكثيرة ، ويبدوا أن المراد بالنعمة في الآية التي معنا كذلك النعم المتعددة حيث إنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معهودة ، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع - اعتماداً على القرينة - من أبلغ الأساليب الكلامية .ثم أمرهم - سبحانه - بالوفاء بما عاهدهم عليه ، فقال تعالى : ( وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) العهد ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كاليمين والوصية وغيرهما ، ويضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً ، يقال : أوفيت بعهدي ، أي بما عاهدت غيري عليه ، وأوفيت بعهدك ، أي بما عاهدتني عليه ، وعهد الله : أوامره ونواهيه ، والوفاء به يتأتى باتباع ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، ويندرج فيه كل ما أخذ على بني إسرائيل من التوراة ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم متى بعث ، والإِيمان بما جاء به من عند الله وتصديقه فيما يخبر عن ربه .والمعنى : وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإِيمان بي ، والطاعة لي ، والتصديق برسلي ، أوف بما عاهدتكم عليه من التمكين في الأرض في الدنيا والسعادة في الآخرة .ثم أمرهم - سبحانه - بأن يجعلوا خوفهم من خالقهم وحده ، فقال - تعالى - ( وَإِيَّايَ فارهبون ) أي : خافوني ولا تخافوا سواي ، ولتكم قلوبكم عامرة بخشيتي وحدي ، فإن ذلك يعينكم على طاعتي ، ويبعدكم عن معصيتي .وحذف متعلق الرهبة للعموم ، أي ارهبوني في جميع ما تأتون ، وما تذرون ، حتى لا أنزل بكم من النقم مثل ما أنزلت بمن قبلكم من المسخ وغيره ، فالآيات الكريمة قد تضمنت وعداً ووعيداً وترغيباً وترهيباً .
Arabic Waseet Tafseer
2:40
القول في تأويل قوله تعالى ذكره: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَقال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " يا بني إسرائيل " ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن (16) وكان يعقوب يدعى " إسرائيل "، بمعنى عبد الله وصفوته من خلقه. و " إيل " هو الله، و " إسرا " هو العبد، كما قيل: " جبريل " بمعنى عبد الله. وكما:-798- حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء، عن عُمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله. (17)799- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: " إيل "، الله بالعبرانية. (18)وإنما خاطب الله جل ثناؤه بقوله: " يا بني إسرائيل " أحبارَ اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا بين ظَهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبهم جل ذكره إلى يعقوب، كما نسب ذرية آدم إلى آدم، فقال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف: 31] وما أشبه ذلك. وإنما خصّهم بالخطاب في هذه الآية والتي بعدها من الآي التي ذكَّرهم فيها نعمَه -وإن كان قد تقدّم ما أنـزل فيهم وفي غيرهم في أول هذه السورة ما قد تقدم- أن الذي احتج به من الحجج والآيات التي فيها أنباء أسلافهم، وأخبارُ أوائلهم، وَقصَصُ الأمور التي هم بعلمها مخصوصون دون غيرهم من سائر الأمم، ليس عند غيرهم من العلم بصحته وحقيقته مثلُ الذي لهم من العلم به، إلا لمن اقتبس علم ذلك منهم. فعرَّفهم بإطلاع محمّد على علمها- مع بعد قومه وعشيرته من معرفتها، وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم درَاسةَ الكتب التي فيها أنباء ذلك (19) - أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم &; 1-555 &; لم يَصلْ إلى علم ذلك إلا بوحي من الله وتنـزيلٍ منه ذلك إليه - لأنهم من عِلْم صحة ذلك بمحلّ ليس به من الأمم غيرهم، فلذلك جل ثناؤه خص بقوله: " يا بني إسرائيل " خطابهم كما:-800- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قوله: " يا بني إسرائيل "، قال: يا أهل الكتاب، للأحبار من يهود (20) .القول في تأويل قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْقال أبو جعفر: ونعمته التي أنعم بها على بني إسرائيل جلّ ذكره، اصطفاؤه منهم الرسلَ، وإنـزاله عليهم الكتب، واستنقاذُه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضَّرَّاء من فرعون وقومه، إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المنّ والسلوى. فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلَف منه إلى آبائهم على ذُكْر، وأن لا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحلّ بهم من النقم ما أحلّ بمن نسي نعمَه عنده منهم وكفرها، وجحد صنائعه عنده. كما:-801- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " اذكروا نعمتِي التي أنعمتُ عليكم "، أي آلائي عندكم وعند آبائكم، لما كان نجّاهم به من فرعون وقومه (21) .802- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن &; 1-556 &; الربيع، عن أبي العالية، في قوله: " اذكروا نعمتي"، قال: نعمتُه أنْ جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنـزل عليهم الكتب (22) .803- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم "، يعني نعمتَه التي أنعم على بني إسرائيل، فيما سمى وفيما سوَى ذلك: فجَّر لهم الحجر، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون (23) .804- وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: " نعمتي التي أنعمت عليكم " قال: نعمه عامة، ولا نعمةَ أفضلُ من الإسلام، والنعم بعدُ تبع لها، وقرأ قول الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (24) [سورة الحجرات: 17]وتذكيرُ الله الذين ذكّرهم جل ثناؤه بهذه الآية من نعمه على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرُ تذكير موسى صلوات الله عليه أسلافَهم على عهده، الذي أخبر الله عنه أنه قال لهم، وذلك قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة: 20].القول في تأويل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ (40)قال أبو جعفر: قد تقدم بياننا فيما مضى -عن معنى العهد- من كتابنا هذا (25) ، واختلاف المختلفين في تأويله، والصوابُ عندنا من القول فيه (26) . وهو في هذا الموضع: عهدُ الله ووصيته التي أخذ على بني إسرائيل في التوراة، أن يبيِّنوا للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسولٌ، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة أنه نبيّ الله، وأن يؤمنوا به وبما جاء به من عند الله." أوف بعهدكم ": وعهدُه إياهم أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة، كما قال جل ثناؤه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [سورة المائدة: 12]، وكما قال: فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا &; 1-558 &; النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (27) [سورة الأعراف: 156-157].805- وكما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " وأوفوا بعهدي" الذي أخذتُ في أعناقكم للنبِيّ محمد إذا جاءكم، (28) " أوف بعهدكم "، أي أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصْر والأغلال التي كانت في أعْناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم (29) .806- وحدثنا المثنى، قال: حدثنا آدم، قال حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: " أوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم "، قال: عهدُه إلى عباده، دينُ الإسلام أن يتبعوه،" أوف بعهدكم "، يعني الجنة (30) .807- وحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " أوفوا بعهدي أوف بعهدكم ": أما " أوفوا بعهدي"، فما عهدت إليكم في الكتاب. وأما " أوف بعهدكم " فالجنة، عهدتُ إليكم أنكم إن عملتم بطاعتي أدخلتكم الجنة (31) .808- وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: " وأفوا بعهدي أوف بعهدكم "، قال: ذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا &; 1-559 &; إلى آخر الآية [سورة المائدة: 12]. فهذا عهدُ الله الذي عهد إليهم، وهو عهد الله فينا، فمن أوفى بعهد الله وفَى الله له بعهده (32) .809- وحُدِّثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم "، يقول: أوفوا بما أمرتكم به من طاعتي ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره،" أوف بعهدكم "، يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة (33) .810- وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم "، قال: أوفوا بأمري أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ حتى بلغ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [سورة التوبة: 111]، قال: هذا عهده الذي عهده لهم (34) .* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)قال أبو جعفر: وتأويل قوله: " وإياي فارهبون "، وإياي فاخْشَوْا - واتَّقُوا أيها المضيّعون عهدي من بني إسرائيل، والمكذبون رسولي الذي أخذتُ ميثاقكم - فيما أنـزلتُ من الكتُب على أنبيائي -أن تؤمنوا به وتتبعوه- أن أُحِلّ بكمْ من عقوبتي، إن لم تنيبوا وتتوبوا إليّ باتباعه والإقرار بما أنـزلت إليه، ما أحللتُ بمن خالف أمري وكذّب رُسلي من أسلافكم. كما:-811- حدثني به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، &; 1-560 &; عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " وإيايَ فارهبون "، أن أنـزل بكم ما أنـزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمات التي قد عرفتم، من المسخ وغيره. (35)812- وحدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثني آدم العسقلاني، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: " وإياي فارهَبُون "، يقول: فاخشَوْن.813- وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " وإياي فارهبون "، يقول: وإياي فاخشون. (36)-------------الهوامش :(16) في المطبوعة : "يا ولد يعقوب . . . " بزيادة النداء" .(17) الخبر : 798- في ابن كثير 1 : : 149 ، والدر المنثور 1 : 63 . وهذا إسناد صحيح . إسماعيل بن رجاء بن ربيعة : ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه . عمير مولى ابن عباس : هو عمير بن عبد الله الهلالي ، مولى أم الفضل ، وقد ينسب إلى ولاء زوجها"العباس" ، كما ورد في إسناد حديث آخر في المسند : 77 ، وقد ينسب إلى ولاء بعض أولادها ، كما في هذا الإسناد . وهو تابعي ثقة ، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/380 ، وأخرج له الشيخان وغيرهما .(18) الأثر : 799- في الدر المنثور 1 : 63 . و"المنهال" : هو ابن عمرو الأسدي . و"عبد الله بن الحارث" : هو الأنصاري البصري أبو الوليد ، وهو تابعي ثقة .(19) قوله : "وقلة مزاولة محمد صلى الله عليه وسلم دراسة الكتب . . . " ، هو كما نقول اليوم في عبارتنا المحدثة : "وعدم مزاولة محمد . . . " . قال الجاحظ في البيان والتبيين 1 : 285 : "واستجار عون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، بمحمد بن مروان بنصيبين ، وتزوج بها امرأة فقال محمد : كيف ترى نصيبين؟ قال : "كثيرة العقارب ، قليلة الأقارب" . يريد بقوله : "قليلة" ، كقول القائل : "فلان قليل الحياء" ، وليس يريد أن هناك حياء وإن قل . يضعون : "قليلا ، في موضع"ليس" . انتهى .قلت : ومنه قول دريد بن الصمة في أخيه :قَلِيــلُ التَّشَـكِّي للمصيبـات, حـافظٌمِـنَ الْيَـوْمِ أعقـابَ الأحاديث في غَدِوسيأتي قول الطبري في تفسير قوله تعالى من (سورة البقرة : 88)"فقليلا ما يؤمنون" : (1 : 324 ، بولاق) : "وإنما قيل : فقليلا ما يؤمنون ، وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : "قلما رأيت مثل هذا قط" . وقد روى عنها سماعًا منها : "مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكراث والبصل" ، يعني ما تنبت غير الكراث والبصل ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة ، والمعنى فيه نفي جميعه" ، انتهى .وفي الحديث : "إنه كان يقل اللغو" أي لا يلغو أصلا ، قال ابن الأثير : وهذا اللفظ يستعمل في نفي أصل الشيء (اللسان : قلل) .ولولا زمان فسد فيه اللسان ، وقل الإيمان ، واشتدت بالمتهجمين الجرأة على تفسير الكلمات ، وتصيد الشبهات - ولولا أن يقول قائل فيفتري على الطبري أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدارس كتب أهل الكتاب ، لكنت في غنى عن مثل هذه الإطالة .(20) الأثر 800- في الدر المنثور 1 : 63 ، والشوكاني 1 : 61 بتمامه . وسيأتي تمامه في الأثر التالي .(21) الأثر : 801- من تمام الأثر السالف ، المراجع السالفة ، وابن كثير 1 : 149 .(22) الأثر : 802- في ابن كير 1 : 149 .(23) الأثر : 803- في ابن كثير 1 : 149 وفيه : "وفيما سوى ذلك : أن فجر" ، بالزيادة .(24) الأثر : 804- لم أجده في مكان .(25) انظر ما مضى : 410-415 .(26) في المطبوعة : "قد تقدم بياننا معنى العهد فيما مضى من كتابنا . . . " ، غيروه ليستقيم الكلام على ما ألفوه .(27) في الأصول : " . . . اثنى عشر نقيبًا ، الآية" . و"النبي الأمي ، الآية" . وآثرنا إتمام الآيتين ، كما جرينا عليه فيما سلف ، وفيما سيأتي .(28) في المطبوعة : " . . . للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم . . . " ، وفي المراجع الأخرى .(29) الأثر : 805- من تمام الأثر السالف رقم : 800 ، ورقم 801 ، ومراجعه ما سلف .(30) الأثر : 806- في ابن كثير 1 : 150 .(31) الأثر : 807- في ابن كثير 1 : 150 تضمينًا .(32) الأثر : 808- لم أجده بنصه في مكان .(33) الأثر : 809- في ابن كثير 1 : 150 ، الدر المنثور 1 : 63 ، والشوكاني 1 : 61 .(34) الأثر : 810- لم أجده في مكان .(35) الأثر : 811- من تمام الآثار السالفة الأرقام : 800 ، 801 ، 805 . وابن كثير 1 : 150 من تمام ما سلف في ص 149 . المراجع المذكورة .(36) الأثر : 813- في ابن كثير 1 : 150 .
الطبري
2:40
قوله تعالى : يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبونقوله تعالى : يا بني إسرائيل نداء مضاف علامة النصب فيه الياء وحذفت منه النون للإضافة . الواحد ابن والأصل فيه بني وقيل : بنو ، فمن قال المحذوف منه واو احتج بقولهم البنوة وهذا لا حجة فيه لأنهم قد قالوا : الفتوة وأصله الياء وقال الزجاج : [ ص: 311 ] المحذوف منه عندي ياء كأنه من بنيت ، الأخفش اختار أن يكون المحذوف منه - الواو ؛ لأن حذفها أكثر لثقلها ويقال ابن بين البنوة والتصغير بني . قالالفراء يقال يا بني ويا بني لغتان مثل يا أبت ويا أبت وقرئ بهما وهو مشتق من البناء وهو وضع الشيء على الشيء والابن فرع للأب وهو موضوع عليه .وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قال أبو الفرج الجوزي ، وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن له أسماء كثيرة ذكره في كتاب " فهوم الآثار " له .قلت : وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه السلام غير مشتق وقد سماه الله روحا وكلمة ، وكانوا يسمونه أبيل الأبيلين ذكره الجوهري في الصحاح . وذكر البيهقي في " دلائل النبوة " عن الخليل بن أحمد : خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صلى الله عليه وسلم وعيسى والمسيح وإسرائيل ويعقوب ويونس وذو النون وإلياس وذو الكفل صلى الله عليهم وسلم .قلت : ذكرنا أن لعيسى أربعة أسماء ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فله أسماء كثيرة بيانها في مواضعها .وإسرائيل اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف ، وهو في موضع خفض بالإضافة وفيه سبع لغات : إسرائيل وهي لغة القرآن وإسرائيل بمدة مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ عن ورش وإسراييل بمدة بعد الياء من غير همز وهي قراءة الأعمش وعيسى بن عمر وقرأ الحسن والزهري بغير همز ولا مد وإسرائل بغير ياء بهمزة مكسورة وإسراءل بهمزة مفتوحة وتميم يقولون إسرائين بالنون . ومعنى إسرائيل عبد الله . قال ابن عباس إسرا بالعبرانية هو عبد ، وإيل هو الله وقيل إسرا هو صفوة الله وإيل هو الله وقيل إسرا من الشد فكأن إسرائيل الذي شده الله وأتقن خلقه ذكره المهدوي . وقال السهيلي سمي إسرائيل لأنه أسرى ذات ليلة حين هاجر إلى الله تعالى فسمي إسرائيل أي أسرى إلى الله ونحو هذا ، فيكون بعض الاسم عبرانيا وبعضه موافقا للعرب ، والله أعلم .قوله : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم الذكر اسم مشترك ، فالذكر بالقلب ضد النسيان والذكر باللسان ضد الإنصات ، وذكرت الشيء بلساني وقلبي ذكرا واجعله منك على ذكر ( بضم الذال ) أي لا تنسه قال الكسائي ما كان بالضمير فهو مضموم الذال وما كان باللسان فهو مكسور الذال . وقال غيره : هما لغتان يقال ذكر وذكر ، ومعناهما واحد ، والذكر ( بفتح الذال ) خلاف الأنثى ، والذكر أيضا الشرف ومنه قوله وإنه لذكر لك ولقومك [ ص: 312 ] قال ابن الأنباري والمعنى في الآية اذكروا شكر نعمتي فحذف الشكر اكتفاء بذكر النعمة وقيل إنه أراد الذكر بالقلب وهو المطلوب أي لا تغفلوا عن نعمتي التي أنعمت عليكم ولا تناسوها وهو حسن . والنعمة هنا اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع قال الله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي نعمه ومن نعمه عليهم أن أنجاهم من آل فرعون وجعل منهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب والمن والسلوى وفجر لهم في الحجر الماء إلى ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ورسالته والنعم على الآباء نعم على الأبناء لأنهم يشرفون بشرف آبائهم .تنبيه : قال أرباب المعاني ربط سبحانه وتعالى بني إسرائيل بذكر النعمة وأسقطه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى ذكره فقال : " اذكروني أذكركم " ليكون نظر الأمم من النعمة إلى المنعم ونظر أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المنعم إلى النعمة .قوله تعالى : وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم أمر وجوابه وقرأ الزهري " أوف " ( بفتح الواو وشد الفاء ) للتكثير واختلف في هذا العهد ما هو فقال الحسن عهده قوله خذوا ما آتيناكم بقوة وقوله ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقيل هو قوله وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه وقال الزجاج أوفوا بعهدي الذي عهدت إليكم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أوف بعهدكم بما ضمنت لكم على ذلك إن أوفيتم به فلكم الجنة وقيل أوفوا بعهدي في أداء الفرائض على السنة والإخلاص أوف بقبولها منكم ومجاراتكم عليها وقال بعضهم أوفوا بعهدي في العبادات أوف بعهدكم أي أوصلكم إلى منازل الرعايات وقيل أوفوا بعهدي في حفظ آداب الظواهر أوف بعهدكم بتزيين سرائركم وقيل هو عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة وغيره هذا قول الجمهور من العلماء وهو الصحيح وعهده سبحانه وتعالى هو أن يدخلهم الجنة .قلت : وما طلب من هؤلاء من الوفاء بالعهد هو مطلوب منا قال الله تعالى أوفوا بالعقود ، [ ص: 313 ] أوفوا بعهد الله ، وهو كثير ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم لا علة له بل ذلك تفضل منه عليهمقوله تعالى : وإياي فارهبون أي خافون والرهب والرهب والرهبة الخوف ، ويتضمن الأمر به معنى التهديد ، وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية وقرأ ابن أبي إسحاق " فارهبوني " بالياء وكذا " فاتقوني " على الأصل ( وإياي ) منصوب بإضمار فعل ، وكذا الاختيار في الأمر والنهي والاستفهام ، التقدير : وإياي ارهبوا فارهبون ، ويجوز في الكلام وأنا فارهبون على الابتداء والخبر ، وكون فارهبون الخبر على تقدير الحذف ، المعنى وأنا ربكم فارهبون .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:40
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } المراد بإسرائيل: يعقوب عليه السلام، والخطاب مع فرق بني إسرائيل, الذين بالمدينة وما حولها, ويدخل فيهم من أتى من بعدهم, فأمرهم بأمر عام، فقال: { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا, وباللسان ثناء, وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه. { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } وهو ما عهده إليهم من الإيمان به, وبرسله وإقامة شرعه. { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } وهو المجازاة على ذلك. والمراد بذلك: ما ذكره الله في قوله: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ [وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي] } إلى قوله: { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده, وهو الرهبة منه تعالى, وخشيته وحده, فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه.
Arabic Saddi Tafseer
2:40
قوله تعالى: {يا بني إسرائيل} يا أولاد يعقوب.ومعنى اسرائيل: عبد الله، ((وإيل)) هو الله تعالى، وقيل صفوة الله، وقرأ أبو جعفر: إسرائيل بغير همز.{اذكروا} احفظوا، والذكر: يكون بالقلب ويكون باللسان.وقيل: أراد به الشكر، وذُكِر بلفظ الذكر لأن في الشكر ذكراً وفي الكفران نسياناً، قال الحسن: "ذكر النعمة شكرها".{نعمتي} أي: نعمي، لفظها واحد ومعناها جمع كقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [34-ابراهيم]{التي أنعمت عليكم} أي على أجدادكم وأسلافكم.قال قتادة: "هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل: من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه وتظليل الغمام عليهم في التيه، وإنزال المن والسلوى وإنزال التوراة، في نعم كثيرة لا تحصى"، وقال غيره: هي جميع النعم التي لله عز وجل على عباده.{وأوفوا بعهدي} أي بامتثال أمري.{أوف بعهدكم} بالقبول والثواب.قال قتادة ومجاهد: "أراد بهذا العهد ما ذكر في سورة المائدة {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ...}إلى أن قال: {...لأكفرن عنكم سيئاتكم} [12-المائدة] فهذا قوله: {أوف بعهدكم}".وقال الحسن: "هو قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة} [63-البقرة] فهو شريعة التوراة".وقال مقاتل: "هو قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} [83-البقرة]".وقال الكلبي: "عهد الله إلى بني إسرائيل على لسان موسى: إني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن اتبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين: وهو قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} [187-آل عمران] يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم".{وإياي فارهبون} فخافوني في نقض العهد.وأثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل (فارهبوني)، (فاتقوني)، و(اخشوني)، والآخرون يحذفونها على الخط.
Arabic Baghawy Tafseer
2:40
ولهذا قال "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم" يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العالية رحمه الله في قوله تعالى "وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم" يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم يقول لأنهم يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ورُوي عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك وقوله "ولا تكونوا أول كافر به" قال بعض المعربين أول فريق كافر به أو نحو ذلك. قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم قال أبو العالية: يقول ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس واختار ابن جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله "بما أنزلت" وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن وأما قوله "أول كافر به" فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم وقوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" يقول لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية كما قال عبدالله بن المبارك: أنبأنا عبدالرحمن بن زيد بن جابر عن هارون بن يزيد قال: سئل الحسن يعني البصري عن قوله تعالى "ثمنا قليلا" قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" إن آياته كتابه الذي أنزله إليهم وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها وقال السدي: "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" يقول لا تأخذوا طمعا قليلا ولا تكتموا اسم الله فذلك الطمع هو الثمن وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا" يقول لا تأخذوا عليه أجرا قال وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا وقيل معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة" فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ" إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" وقوله في قصة المخطوبة "زوجتكها بما معك من القرآن" فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن فأهدى له قوسا فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله" فتركه رواه أبو داود وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعا فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة والله أعلم وقوله "وإياى فاتقون" قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر الدوري حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله وأن ترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. ومعنى قوله "وإياي فاتقون" أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ابن كثير
2:41
وآمنوا- يا بني إسرائيل- بالقرآن الذي أنزَلْتُه على محمد نبي الله ورسوله، موافقًا لما تعلمونه من صحيح التوراة، ولا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر به، ولا تستبدلوا بآياتي ثمنًا قليلا من حطام الدنيا الزائل، وإياي وحدي فاعملوا بطاعتي واتركوا معصيتي.
المیسر
2:41
شروع في دعوة بني إسرائيل إلى الإسلام وهدي القرآن وهذا هو المقصود من خطابهم ولكن قدم بين يديه ما يهيىء نفوسهم إلى قبوله كما تتقدم المقدمة على الغرض ، والتخليةُ على التحلية .والإيمان بالكتاب المنزل من عند الله أو بكتب الله وإن كان من جملة ما شمله العهد المشار إليه بقوله : { وأوفوا بعهدي } [ البقرة : 40 ] إلا أنه لم يلتفت إليه هنا من تلك الجهة لأنهم عاهدوا الله على أشياء كثيرة كما تقدم ومن جملتها الإيمان بالرسل والكتب التي تأتي بعد موسى عليه السلام إلا أن ذلك مجمل في العهد فلا يتعين أن يكون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو مما عاهدوا الله عليه بل حتى يصدقوا بأنه من عند الله وأن الجائي به رسول من الله فهم مدعوُّون إلى ذلك التصديق هنا . فعطفُ قوله : { وآمنوا } على قوله : { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] كعطف المقصد على المقدمة ، وعطفهُ على قوله : { وأوفوا بعهدي } من قبيل عطف الخاص على العام في المعنى ولكن هذا من عطف الجمل فلا يقال فيه عطف خاص على عام لأنه إنما يكون في عطف الجزئي على الكلي من المفردات لا في عطف الجمل وإنما أردنا تقريب موقع الجملة وتوجيه إيرادها موصولة غير مفصولة .وفي تعليق الأمر باسم الموصول وهو ( ما أنزلت ) دون غيره من الأسماء نحو الكتاب أو القرآن أو هذا الكتاب إيماءٌ إلى تعليل الأمر بالإيمان به وهو أنه منزل من الله وهم قد أوصوا بالإيمان بكل كتاب يَثبتُ أنه منزل من الله . ولهذا أتى بالحال التي هي علة الصلة إذ جعل كونه مصدقاً لما في التوراة علامةً على أنه من عند الله . وهي العلامة الدينية المناسبة لأهل العلم من أهل الكتاب فكما جعل الإعجاز اللفظي علامة على كون القرآن من عند الله لأهل الفصاحة والبلاغة من العرب كما أشير إليه بقوله : { ألم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ، 2 ] إلى قوله : { فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] ؛ كذلك جعل الإعجاز المعنوي وهو اشتماله على الهدى الذي هو شأن الكتب الإلهية علامة على أنه من عنده لأهل الدين والعلممِ بالشرائع . ثم الإيمانُ بالقرآن يستلزم الإيمان بالذي جاء به وبالذي أنزله .والمراد بما معهم كتب التوراة الأربعة وما ألحق بها من كتب الأنبياء من بني إسرائيل كالزبور ، وكتاب أشعياء ، وأرمياء ، وحزقيال ، ودانيال وغيرها ولذا اختير التعبير بما معكم دون التوراة مع أنها عبر بها في مواضع غير هذا لأن في كتب الأنبياء من بعد موسى عليه السلام بشاراتتٍ ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم أصرحُ مما في التوراة فكان التنبيه إليها أوقع .والمراد من كون القرآن مصدقاً لما معهم أنه يشتمل على الهدى الذي دعت إليه أنبياؤهم من التوحيد والأمر بالفضائل واجتناب الرذائل وإقامة العدل ومن الوعيد والوعد والمواعظ والقَصص فما تماثل منه بها فأمره ظاهر وما اختلفَ فإنما هو لاختلاف المصالح والعصور مع دخول الجميع تحت أصل واحد ، ولذلك سمي ذلك الاختلاف نسخاً لأن النسخ إزالة حكم ثابت ولم يسم إبطالاً أو تكذبياً فظهر أنه مصدق لما معهم حتى فيما جاء مخالفاً فيه لما معهم لأنه ينادي على أن المخالفة تغيير أحكام تبعاً لتغير أحوال المصالح والمفاسد بسبب تفاوت الأعصار بحيث يكون المغيِّر والمغيَّر حقاً بحسب زمانه وليس ذلك إبطالاً ولا تكذيباً قال تعالى :{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات } [ النساء : 160 ] الآية . فالإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم ولا ما سبق من أخذ رسلهم عليهم العهد باتباعه . ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم أن الصفات التي اشتمل عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم فيكون وروده معجزة لأنبيائهم وتصديقاً آخر لدينهم وهو أحد وجهين ذكرهما الفخر والبيضاوي فيلزم تأويل التصديق بالتحقيق لأن التصديق حقيقة في إعلام المخبَر ( بفتح الباء ) بأن خبر المخبِر مطابق للواقع إما بقوله صدقت أو صدقَ فلان كما ورد في حديث جبريل في «صحيح البخاري» لما سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان أنه لما أخبره قال السائل صدقتَ قال : فعَجِبْنا له يَسْأَلُه ويُصدقه ، وإما بأن يخبر الرجل بخبر مثل ما أخبر به غيره فيكون إخباره الثاني تصديقاً لإخبار الأول . وأما إطلاق التصديق على دلالة شيء على صدققِ خبرٍ مَّا فهو إطلاق مجازي والمقصود وصف القرآن بكونه مصدقاً لما معهم بأخباره وأحكامه لا وصف الدين والنبوة كما لا يخفى .{ وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } .جمع الضمير في { تكونوا } مع إفراد لفظ { كافر } يدل على أن المراد من الكافر فريق ثبت له الكفر لا فرد واحد فإضافة { أول } إلى { كافر } بيانية تفيد معنى فريق هو أول فرق الكافرين . والضمير المجرور في { به } ظاهره أنه عائد إلى { ما أنزلت } لأنه المقصود . وهو عطف على جملة { وآمنوا بما أنزلت } وهو ارتقاء في الدعوة واستجلاب القلوب فإنه لما أمرهم بالإيمان بالقرآن وكانت صيغة الأمر محتملة لطلب الامتثال بالفور أو بالتأخير وكانوا معروفين بشدة العداوة لدين الإسلام ، عطف على أمرهم بالإيمان بالقرآن نهيهم عن أن يكونوا أول كافر بالقرآن وذلك يصدق بمعان بعضها يستفاد من حق التركيب وبعضها من لوازمه وبعضها من مستتبعاته وكلها تحتملها الآية ، فالمعنى الأول أن يحمل قوله : { أول كافر } على حقيقة معنى الأول وهو السابق غيره فيحصل من الجملة المعطوفة تأكيد الجملة المعطوف عليها بدلالة المطابقة فالنهي عن الكفر بالقرآن يؤكد قوله : { وآمنوا بما أنزلت } ثم إن وصف ( أول ) يشعر بتقييد النهي بالوصف ولكن قرينة السياق دالة على أنه لا يراد تقييد النهي عن الكفر بحالة أوليتهم في الكفر ، إذ ليس المقصود منه مجرد النهي عن أن يكونوا مبادرين بالكفر ولا سابقين به غيرهم لقلة جدوى ذلك ولكن المقصود الأهم منه أن يكونوا أول المؤمنين فأفيد ذلك بطريق الكناية التلويحية فإن وصف أول أصله السابق غيره في عمل يعمل أو شيء يذكر فالسبق والمبادرة من لوازم معنى الأولى لأنها بعض مدلول اللفظ ولما كان الإيمان والكفر نقيضين إذا انتفى أحدهما ثبت الآخر كان النهي عن أن يكونوا أول الكافرين يستلزم أن يكونوا أول المؤمنين .والمقصود من النهي توبيخهم على تأخرهم في اتباع دعوة الإسلام فيكون هذا المركب قد كني به عن معنيين من ملزوماته ، هما معنى المبادرة إلى الإسلام ومعنى التوبيخ المكنى عنه بالنهي ، فيكون معنى النهي مراداً ولازمه وهو الأمر بالمبادرة بالإيمان مراداً وهو المقصود فيكون الكلام كناية اجتمع فيها الملزوم واللازم معاً ، فباعتبار اللازم يكون النهي في معنى الأمر فيتأكد به الأمر الذي قبله كأنه قيل : وآمنوا بما أنزلت وكونوا أول المؤمنين ، وباعتبار الملزوم يكون نهياً عن الكفر بعد الأمر بالإيمان فيحصل بذلك غرضان .وهذه الكناية تعريضية لأن غرض المعنى الكنائي غير غرض المعنى الصريح وهذا هو الذي استخلصته في تحقيق معنى التعريض وهو أن يكون غرض الحكم المشار إليه به غير غرض الحكم المصرح به ، أو أن يكون المحكوم له به غيرَ المحكوم له بالصريح . وهذا الوجه مستند إلى الظاهر والتحقيق بين متناثر كلامهم في التعريض المعروف من الكناية ويندفع بهذا سؤالان مستقلان أحدهما ناشىء عما قبله : الأول كيف يصح النهي عن أن يكونوا أول الكافرين ومفهومه يقتضي أنهم لو كفروا به ثانياً لما كان كفرهم منهيًّا عنه؟ الثاني أنه قد سبقهم أهل مكة للكفر لأن آية البقرة في خطاب اليهود نزلت في المدينة فقد تحقق أن اليهود لم يكونوا أول الكافرين فالنهي عن أن يكونوا أول الكافرين تحصيل حاصل . ووجه الاندفاع أن المقصود الأهم هو المعنى التعريضي وهو يقوم قرينة على أن القصد من النهي أن لا يكونوا من المبادرين بالكفر أي لا يكونوا متأخرين في الإيمان وهذا أول الوجوه في تفسير الآية عند صاحب «الكشاف» واختاره البيضاوي فاقتصر عليه .واعلم أن التعريض في خصوص وصف «أول» وأما أصل النهي عن أن يكونوا كافرين به فذلك مدلول اللفظ حقيقة وصريحاً . والتعريض من قبيل الكناية التلويحية لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى إلى لوازمه . وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام ولعل هذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية وهو من مستتبعات التراكيب ودلالتها العقلية وسيجيء لهذا زيادة بيان عند قوله تعالى :{ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } [ البقرة : 235 ] في هذه السورة .المعنى الثاني أن يكون المقصود التعريض بالمشركين وأنهم أشد من اليهود كفراً أي لا تكونوا في عدادهم ولعل هذا هو مراد صاحب «الكشاف» من قوله : «ويجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة» ولا يريد أنه تشبيه بليغ وإن كان كلامه يوهمه وسكت عنه شراحه .المعنى الثالث : أن يراد من «أول»المبادرُ والمستعجِل لأنه من لوازم الأولية كما قال تعالى : { فأنا أول العابدين } [ الزخرف : 81 ] وقال سعيد بن مقروم الضبي :فدَعَوْا نَزَاللِ فكنتُ أولَ نازل ... وعلاَمَ أركَبُه إذا لم أنزِلِفقوله : أول نازل لا يريد تحقيق أنه لم ينزل أحد قبله وإنما أراد أنه بادر مع الناس فإن الشأن أنه إذا دعا القوم نزاللِ أن ينزل السامعون كلهم ولكنه أراد أنه ممن لم يتربص . ويكون المعنى ولا تعجَلوا بالتصريح بالكفر قبل التأمل ، فالمراد من الكفر هنا التصميم عليه لا البقاء على ما كانوا عليه فتكون الكناية بالمفرد وهو كلمة ( أول ) .المعنى الرابع : أن يكون «أول» كناية عن القدوة في الأمر لأن الرئيس وصاحب اللواء ونحوهما يتقدمون القوم ، قال تعالى : { يقدم قومه يوم القيامة } [ هود : 98 ] وقال خالد بن زهير وهو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي :فلا تَجْزَعَنْ من سُنةٍ أنتَ سِرْتَها ... فأول راضضٍ سُنةً مَن يسِيرهاأي الأجدر والناصر لسنة ، والمعنى ولا تكونوا مقرين للكافرين بكفركم فإنهم إن شاهدوا كفركم كفروا اقتداء بكم وهذا أيضاً كناية بالمفرد .المعنى الخامس : أن يكون المراد الأول بالنسبة إلى الدعوة الثانية وهي الدعوة في المدينة لأن ما بعدالهجرة هو حال ثانية للإسلام ، فيها ظهر الإسلام متميزاً مستقلاً .هذا كله مبني على جعل الضمير المجرور بالباء في قوله : { كافر به } عائداً على ما { ما أنزلتُ } أي القرآن وهو الظاهر لأنه ذكر في مقابل الإيمان به . وقيل إن الضمير عائد على ما معكم وهو التوراة قال ابن عطية : «وعلى هذا القول يجيء { أول كافر } مستقيماً على ظاهره في الأولية» ولا يخفى أن هذا الوجه تكلف لأنه مؤول بأن كفرهم بالقرآن وهو الذي جاء على نحوما وصفت التوراةُ وكتبُ أنبيائهم في بشاراتهم بنبىءٍ وكتاب يكونان من بعد موسى فإذا كذبوا بذلك فقد كفروا بصحة ما في التوراة فيُفضي إلى الكفر بما معهم .قال التفتزاني : وهذا كله إنما يتم لو كان كفرهم به بمعنى ادعائهم أنه كله كذب وأما إذا كفروا بكونه كلام الله واعتقدوا أن فيه صدقاً وكذباً فلا يتم ، ولهذا كان هذا الوجه مرجوحاً ، ورده عبد الحكيم بما لا يليق به .وبهذا كله يتضح أن قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } لا يتوهم منه أن يكون النفي منصباً على القيد بحيث يفيد عدم النهي عن أن يكونوا ثاني كافر أو ثالث كافر بسبب القرينة الظاهرة وأن أول كافر ليس من قبيل الوصف الملازم حتى يستوي في نفي موصوفه أن يذكر الوصف وأن لا يذكر كقول امرىء القيس :على لاحببٍ لا يُهتدى بمناره ... وقول ابن أحمر :ولا ترى الضَّبَّ بها ينجَحِرْ ... كما سيأتي في قوله تعالى : { ولا تشتروا بايتي ثمناً قليلاً } عقب هذا .{ وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَنًا قَلِيلاً } .عطف على النهي الذي قبله وهذا النهي موجَّه إلى علماء بني إسرائيل وهم القدوة لقومهم والمناسبة أن الذي صدهم عن قبول دعوة الإسلام هو خشيتهم أن تزول رئاستهم في قومهم فكانوا يتظاهرون بإنكار القرآن ليلتف حولهم عامة قومهم فتبقى رئاستهم عليهم ، قال النبيء صلى الله عليه وسلم " لو آمن بي عشرة من اليهود لآمَن بي اليهودُ كلهم "والاشتراء تقدم عند قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] وهو اعتياض أعياننٍ بغيرها مثلها أو ثمنها من النقدين ونحوهما كأوراق المال والسفاتج وقد استعير الاشتراء هنا لاستبدال شيء بآخر دون تبايع .والآيات جمع آية وأصلها في اللغة العلامة على المنزل أو على الطريق قال النابغة :توهَّمْتُ آياتتٍ لها فعرفتُها ... لستةِ أعوام وذا العام سابعثم أطلقت الآية على الحُجة لأن الحجة علامة على الحق قال الحارث ابن حلِّزة :مَنْ لنا عنده من الخير يا ... تٌ ثلاثٌ في كُلِّهن القضاءولذلك سميت معجزة الرسول آية كما في قوله تعالى : { في تسع آيات إلى فرعون وقومه } [ النمل : 12 ] { وإذا لم تأتهم بآية } [ الأعراف : 203 ] ، وأطلقت أيضاً على الجملة التامة من القرآن قال تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } [ آل عمران : 7 ] وفي الحديث الصحيح قال رسول الله : " أما تكفيك آية الصيف " { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] لأن جمل القرآن حجة على صدق الرسول لأن بلاغتها معجزة . وأما إطلاق آية على الجملة من التوراة في حديث الرجم في قول الراوي «فوضع المِدْراس يده على آية الرجم» فذلك مجاز على مجازٍ لعلاقة المشابهة . ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء ، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة ، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشترِي في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته ، ففي { تشتروا } استعارة تحقيقية في الفعل ، ويجوز كون { تشتروا } مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم أو بعلاقة الاستعمال المقيد في المطلق كما تقدم في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، لكن هنا الاستعارة متأتية فهي أظهر لظهور علاقة المشابهة واستغناءِ علاقة المشابهة عن تطلب وجه العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأن مقصد التشبيه وحده كاف في العدول إلى الاستعارة ، إذ التشبيه من مقاصد البلغاء .وإذ قد كان فعل الاشتراء يقتضي شيئين أبدل أحدهما بالآخر جُعل العوض المرغوب فيه هو المشتري وهو المأخوذ ويعدى إلى الفعل بنفسه ، وجعل العوض الآخر هو المدفوع ويسمى الثمن ويتعدى الفعل إليه بالباء الدالة على معنى العوض .وقد عدي الاشتراءُ هنا إلى الآيات بالباء فكانت الآيات هي الواقعة موقع الثمن لأن الثمن هو مدخل الباء فدل دخول الباء على أن الآيات شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند المستبدل ، وذكر الباء قرينة المكنية لأنها تدخل على الثمن ولا يصح كونها تبعية إذ ليس ثم معنى حقه أن يؤدى بالحرف شبه بمعنى الباء ، فها هنا يتعين سلوك طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية . ولا يصح أيضاً جعل الباء تخييلاً إذ ليست دالة على معنى مستقل يمكن تخيله .ثم عبر عن مفعول الاشتراء بلفظ الثمن وكان الظاهر أن يعطى لفظ الثمن لمدخول الباء أو أن يعبر عن كل بلفظ آخر كأن يقال : لا تشتروا بآياتي متاعاً قليلاً فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وعبر عن المتاع ونحوه بالثمن على طريق الاستعارة التحقيقية لتشبيه هذا العوض من الرئاسة أو المال بالثمن أو لأنه يشبه الثمن في كونه أعياناً وحطاماً جعلت بدلاً عن أمر نافع وفي ذلك تعريض بهم في أنهم مغبونو الصفقة إذ قد بذلوا أنفس شيء وأخذوا حظًّا ما قليلاً فكان كلا البدلين في الآية مشبهاً بالثمن إلا أن الآيات شبهت به في كونها أهون على المعتاض ، والمتاع الذي يأخذونه شبه بالثمن في كونه شيئاً مادياً يناله كل أحد أو للإشارة إلى أن كلاً من الآيات والثمن أمر هين على فريق فالآيات هانت على الأحبار والأموال هانت على العامة وخُص الهين حقيقة بإعطائه اللفظ الحقيقي الدال على أنه هين وأما الهين صورة فقد أعطى الباء المجازية وكل من الاستعارتين قرينة على الأخرى ، ولأنه لما غلب في الاستعمال إطلاق الثمن على النقدين اختير إطلاق ذلك على ما يأخذونه تلميحاً إلى أنهم يأخذون المال عن تغيير الأحكام الشرعية كقوله { يأخذون عرض هذا الأدنى } [ الأعراف : 169 ] .وقد قيل إن قوله { ثَمناً } قرينة الاستعارة في قوله { ولا تشتروا } ووجهه أنه لما أدخلت الباء على الآيات تعين أن الآيات هي ثمن الاشتراء فلما عبر بعده بلفظ { ثمناً } مفعولاً لفعل { تشتروا } عَلِم السامع أن الأول ليس بثمن حقيقي فعلم أن الاشتراء مجاز ثم هو يعلم أن المعبر عنه بالثمن بعد ذلك أيضاً ليس بثمن حقيقي تبعاً للعلم بالمجاز في الفعل الناصب له . وقد قيل إن قوله { ثمناً } تجريد وتقريره مثل تقرير كونه قرينة إذا جعلنا القرينة قوله { بآياتي } . وقيل هو ترشيح لأن لفظ الثمن من ملائم الشراء وهو قريب مما قدمناه في كونه استعارة لأن الترشيح في نفسه قد يكون استعارة من ملائم المشبه به لملائم المشبه على الاحتمالات كلها هي تدل على تجهيلهم وتقريعهم . والآيات لا تستبدل ذواتها فتعين تقدير مضاف أي لا تشتروا بقبول آياتي ثمناً .وإضافة آيات إلى ضمير الجلالة للتشريف قال الشيخ محمد بن عرفة : عظم الآيات بشيئين الجمع والإضافة إلى ضمير الجلالة وحُقر العوض بتحقيرين التنكير والوصف بالقلة اه أي وفي ذلك تعريض بغبن صفقتهم إذ استبدلوا نفيساً بخسيس وأقول وصف { قليلاً } صفة كاشفة لأن الثمن الذي تباع به إضاعة الآيات هو قليل ولو كان أعظم متمول بالنسبة إلى ما أضاعه آخذ ذلك الثمن وعلى هذا المراد ينبغي حمل كلام ابن عرفة .وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف همهم .ووَصْف { ثمناً } بقوله : { قليلاً } ليس المراد به التقييد بحيث يفيد النهي عن أخذ عوض قليل دون أخذ عوض له بال وإنما هو وصف ملازم للثمن المأخوذ عوضاً عن استبدال الآيات فإن كل ثمن في جانب ذلك هو قليل فذكر هذا القيد مقصود به تحقير كل ثمن في ذلك فهذا النفي شبيه بنفي القيود الملازمة للمقيد ليفيد نفي القيد والمقيد معاً كما في البيت المشهور لامرىء القيس :على لاَحببٍ لا يُهتدى بمناره ... إذا سافَه العَوْد الدِّيَافِي جرجراأي لا منار له فيُهتدى به لأن الاهتداء لازم للمنار ، وكذلك قول ابن أحمر :لا يُفْزِع الأرنبَ أهوالُها ... ولا ترى الضبَّ بها بنجَحِرْأي لا أرنب بها حتى يفزع من أهوالها ولا ضبَّ بها حتى ينجحر ، وقول النابغة :مِثل الزجاجة لم تكحل من الرمد ... أي عيناً لم ترمَدْ حتى تُكحل؛ لأن التكحيل لازم للعين الرمداءِ ومثله كثير في الكلام البليغ .وقد وقع { ثمناً } نكرةً في سياق النهي وهو كالنفي فشمل كل عوض ، كما وقعت الآيات جمعاً مضافاً فشملت كل آية ، كما وقع الفعل في سياق النفي فشمل كل اشتراء إذ الفعل كالنكرة .والخطاب وإن كان لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن وقصصه المتعلقة بالأمم الأخرى إنما يقصد منها الاعتبار والاتعاظ فنحن محذرون من مثل ما وقعوا فيه بطريق الأوْلى لأننا أولى بالكمالات النفسية كما قال بشار :الحُر يُلْحَى والعَصا للعبد ... وكالبيت السائر :العَبْد يُقرع بالعَصا ... والحُر تكفيه الإشَارَهفعلماؤنا منهيون على أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل من الصدف عن الحق لأعراض الدنيا وكذلك كانت سيرة السلف رضي الله عنهم .ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية وإن كان تعلقها بها ضعيفاً وهي مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين ويتفرع عنها أخذ الأجرة على تعليم العلم وعلى بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة . وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلاً عن الفقه والعلم فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبي وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والجمهور ، وحجتهم في ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال :" إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " وعليه فلا محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازي وليس في التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة . وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم . وفي «المدونة» : لا بأس بالإجارة على تعليم القرآن . ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وتمسكوا بالآية وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم فلا يؤخذ عليها أجر كذلك وبما روي عن أبي هريرة أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : «دراهم المعلمين حرام» وعن عبادة بن الصامت أنه قال : «علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوساً فسألت النبيء صلى الله عليه وسلم فقال : " إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها " وأجاب عن ذلك القرطبي بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر ، ولا دليل على ما أجاب به القرطبي . فالوجه أن ذلك كان في صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص في الأجر فيه لتعطل تعليم كثير لقلة من ينفق في ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه ومحمل حديث ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن . وأقول لا حاجة إلى هذا كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض كما علمت وأجاب القرطبي عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان وأما التعليم فعبادة متعدية فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا فارق مؤثر . وأما حديث أبي هريرة وحديث عبادة ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبي ، قلت ولا أحسب الزهري يستند لمثلهما ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجباً فلا تؤخذ عليه أجرة وقد أفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه قال في «الدرر» و«شرحه» : «ويفتى اليوم بصحتها أي الإجارة لتعليم القرآن والفقه والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصي لكن لما وقع الفتور في الأمور الدينية جوزها المتأخرون» اه .ومن فروع هاته المسألة جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة ، قال ابن عبد البر هي مأخوذة من مسألة الأجر على تعليم القرآن وحكمهما واحد ، وفي { المدونة } تجوز الإجارة على الأذان وعلى الأذان والصلاة معاً وأما على الصلاة وحدها فكرهه مالك ، قال ابن شاس جازت على الأذان لأن المؤذن لا يلزمه الإتيان به أما جمعه مع الصلاة فالأجرة على الأذان فقط ، وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الإمامة ووجهه أنه تكلف الصلاة في ذلك الموضع في ذلك الوقت ، وروى أشهب عن مالك لا بأس بالأجر على تراويح رمضان وكرهه في الفريضة قال القرطبي : وكرهها أبو حنيفة وأصحابه وفي «الدرر» ويفتى اليوم بصحتها لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس ، وقال القرافي في الفرق الخامس عشر والمائة : ولا يجوز في إمامة الصلاة الإجارة على المشهور من مذهب مالك لأنها عقد مكايسة من المعاوضات فلا يجوز أن يحصل العوضان فيها لشخص واحد لأن أجر الصلاة له فإذا أخذ عنها عوضاً اجتمع له العوضان اه .وهو تعليل مبني على أصل واه قدمه في الفرق الرابع عشر والمائة على أن في كونه من فروع ذلك الأصل نظراً لا نطيل فيه فانظره فقد نبهتك إليه ، فالحق أن الكراهة المنقولة عن مالك كراهة تنزيه . وهذه المسألة كانت قد حدثت بين ابن عرفة والدكالي وهي أنه ورد على تونس في حدود سنة سبعين وسبعمائة رجل زاهد من المغرب اسمه محمد الدكالي فكان لا يصلي مع الجماعة ولا يشهد الجمعة معتلاً بأن أئمة تونس يأخذون الأجور على الإمامة وذلك جرحة في فاعله فأنكر عليه الشيخ ابن عرفة وشاع أمره عند العامة وحدث خلاف بين الناس فخرج إلى المشرق فاراً بنفسه وبلغ أنه ذهب لمصر فكتب ابن عرفة إلى أهل مصر أبياتاً هي :يا أهل مصر ومن في الدين شاركهم ... تنبهوا لسؤال معضل نزلالزوم فسقكم أو فسق من زعمت ... أقواله أنه بالحق قد عملافي تركه الجمع والجمعات خلفكم ... وشرط إيجاب حكم الكل قد حصلاإن كان شأنكم التقوى فغيركم ... قد باء بالفسق حتى عنه ما عدلاوإن يكن عكسه فالأمر منعكس ... قولوا بحق فإن الحق ما اعتزلافيقال إن أهل مصر أجابوه بأبيات منها :ما كان من شيم الأبرار أن يسموا ... بالفسق شيخَاً على الخيرات قد جبلالا لا ولكن إذا ما أبصروا خللا ... كسوه من حسن تأويلاتهم حللاأليس قد قال في «المنهاج» صاحبُه ... يسوغ ذاك لمن قد يختشى زللاومنها :وقد رويْتَ عن ابن القاسم العُتَقي ... فيما اختصرت كلاماً أوضح السبلاما إن ترد شهادة لتاركها ... إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلانعم وقد كان في الأعلين منزلةً ... من جانب الجمع والجمعات واعتزلاكمالِككٍ غير مبد فيه معذرةً ... إلى الممات ولم يُسأل وما عُذلاهذا وإن الذي أبداه متجهاً ... أخذ الأئمة أجراً منعه نقلاوهبك أنك راءٍ حله نظراً ... فما اجتهادك أولى بالصواب ولاهكذا نسبت هذه الأبيات في بعض كتب التراجم للمغاربة أنها وردت من أهل مصر وقد قيل إنها نظمها بعض أهل تونس انتصاراً للدكالي ذكر ذلك الخفاجي في «طراز المجالس» ، وقال إن المجيب هو أبو الحسن علي السلمي التونسي وذكر أن السراج البلقيني ذكر هاته الواقعة في «فتاواه» وذكر أن والده أجاب في المسألة بأبيات لامية انظرها هناك .{ وإياى فاتقون } .القول فيه كالقول في { وإياي فارهبون } إلا أن التعبير في الأولى بارهبون وفي الثاني باتقون لأن الرهبة مقدِّمة التقوى إذ التقوى رهبة معتبر فيها العمل بالمأمورات واجتناب المنهيات بخلاف مطلق الرهبة فإنها اعتقاد وانفعال دون عمل ، ولأن الآية المتقدمة تأمرهم بالوفاء بالعهد فناسبها أن يخوفوا من نكثه ، وهذه الآية تأمرهم بالإيمان بالقرآن الذي منعهم منه بقية دهمائهم فناسبها الأمر بأن لا يتقوا إلا الله . وللتقوى معنى شرعي تقدم في قوله تعالى : { هدى للمتقين } وهي بذلك المعنى أخص لا محالة من الرهبة ولا أحسب أن ذلك هو المقصود هنا .والقول في حذف ياء المتكلم من قوله : { فاتقون } نظير القول فيه من قوله : { وإياي فارهبون } .
Arabic Tanweer Tafseer
2:41
( وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ) .وبعد أن أمر الله - عز وجل - بني إسرائيل ، أن يوفوا بعهده عموماً أتبع ذلك بأمرهم بأن يوفوا بأمر خاص وهو القرآن الكريم ، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه ، وتقخيم لأمره . وأفرد - سبحانه - أمرهم بأن يؤمنوا به مع إندراجه في قوله - تعالى - ( وَأَوْفُواْ بعهدي ) للإِشارة إلى أن الوفاء بالعهد لا يحصل منهم إلا إذا صدقوا به .والمراد بما معهم التوراة ، والتعبير عنها بذلك للإِشعار بعلمهم بتصديقه لها . والمعنى : آمنوا يا بني إسرائيل بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم المصدق لكتابكم التوارة ، ومن مظاهر هذا التصديق اشتمال دعوته على ما يحقق دعوتها ، من الأمر بتوحيد الله - تعالى - والحث على التمسك بالفضائل ، والبعد عن الرذائل ، وإخباره بما جاء بها من الإِشارة إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومطابقة ما وصفته به مطابقة واضحة جلية وموالفقته لها في أصول الدين الكلية ، وهيمنته عليها ، ولذا قال - عليه الصلاة والسلام - : " لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي " .وفي إخبار بني إسرائيل بأن القرآن الكريم مصدق لما معهم ، إثارة لهممهم لو كانوا يعقلون - للإِقبيال عليه ، متدبرين آياته ، حتى تستيقن نفوسهم أنه دعوة الحق والإِصلاح المؤدية إلى السعادة في الدنيا والآخرة وحتى تطمئن قلوبهم إلى أن الإِيمان به معناه الإِيمان بما معهم ، والكفر به ، كفر بما بين أيديهم ، حيث إن ما بين أيديهم قد بشر ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - المنزل عليه القرآن الكريم .قال الإِمام الرازي : ( وهذه الجملة الكريمة تدل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين :أولهما : أن الكتب السابقة قد بشرت به ، وشهاداتها لا تكون إلا حقاً .وثانيهما : أنه - عليه الصلاة والسلام - قد أخبرهم عما في كتبهم بدون معرفة سابقة لها ، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الوحي .وبعد أن أمرهم - سبحانه - بالإِيمان الخالص ، عرض بهم لتكذيبهم وجحوهم ، فقال - تعالى - : ( وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) أي : لا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر بالقرآن الكريم ، فيقتدى بكم أناس آخرون وبهذا تصيرون أئمة للكفر مع أن من الواجب عليكم أن تسارعوا إلى الإيمان به لأنكم أدرى الناس بأنهن من عند الله ، وأكثرهم علماً بأنه الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن ، وهو الصادق الأمين فيما يبلغه عن ربه .والمقصود من هذه الجملة الكريمة ، تبكيتهم على مسارعتهم في الكفر ، واستعظام وقوع الجحود منهم ، وتوعدهم عليه بسوء المآل .قال الإِمام الرازي : ( هذه الجملة خطاب لبني إسرائيل قبل غيرهم فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لا تكفروا بمحمد ، فإنه سيكون بعدكم كفرة ، فلا تكونوا أنتم أولهم لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإِثم ، وذلك لأنهم إذا سُبقوا إلى الكفر ، فإما أن يقتدى بهم غيرهم أولا ، فإن اقتدى بهم غيرهم كان عليهم وزره ووزر كل كافر إلى يوم القيامة ، وإن لم يقتد بهم غيرهم ، اجتمع عليهم أمران : السبق إلى الكفر؛ والتفرد به وكلاهما منقصة عظيمة ، وتؤدى إلى العاقبة الوبيلة ) .ثم نهاهم عن أن يبيعوا دينهم بديناهم ، فقال - تعالى - : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) .والاشتراء هنا استعارة للاستبدال ، والذي استبدل به الثمن القليل هو الإِيمان بالآيات ، والمراد بالآيات : البراهين المؤيدة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها القرآن الكريم والتوراة .والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه ، وما إلى ذلك من الأمور التي خافوا ضياعها لو اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم .والمعنى : لا تستبدلوا بالإِيمان بما أنزلت مصدقاً لما معكم شيئاً من حطام الدنيا ، ولا تختاروا على ثواب الله بديلا من الأموال ، فإنها مما كثرت فهي قليلة مسترذلة بالنسبة لما يناله أولو الإيمان الخالص من رعاية ضافية في الدنيا ، وخيرات حسان في الأخرى .وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بقل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات؛ إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله - عز وجل - .ونزل تمكينهم من الإِيمان بالآيات لوضوحها منزلة حصوله بالفعل ، فكأن الإِيمان كان في حوزتهم ، ولكنهم خلعوه ، ونبذوه ، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ فباءوا بغضب على غضب لكفرهم بالقرآن الكريم وبتوراتهم التي بشرت بالرسول - عليه الصلاة والسلام- .ثم حذرهم - سبحانه - من التمادي في الكفر بما أنزل ، مصدقاً لما معهم ، فقال - تعالى " وإياي فاتقون " الاتقاء معناه الحذر ، يقال : فلان اتقى الله أي حذر عقابه وبطشه ، والحذر من عقاب الله ، يستلزم امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، فمعنى " وإياي فانقون " آمنوا بي ، واتبعوا الحق وأعرضوا عن الباطل .
Arabic Waseet Tafseer
2:41
القول في تأويل قوله تعالى: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْقال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "آمنوا "، صدِّقوا، كما قد قدمنا البيان عنه قبل. (37) ويعني بقوله: " بما أنـزلت " ما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن. ويعني بقوله: " مصدِّقًا لما معكم "، أن القرآن مصدِّق لما مع اليهود من بني إسرائيل من التوراة. فأمرهم بالتصديق بالقرآن، وأخبرهم جل ثناؤه أن في تصديقهم بالقرآن تصديقًا منهم للتوراة، لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه واتباعه، نظيرُ الذي من ذلك في التوراة والإنجيل ففي تصديقهم بما &; 1-561 &; أنـزل على محمد تصديقٌ منهم لما معهم من التوراة، وفي تكذيبهم به تكذيبٌ منهم لما معهم من التوراة.وقوله: " مصدقًا "، قطع من الهاء المتروكة في" أنـزلته " من ذكر " ما " (38) . ومعنى الكلام وآمنوا بالذي أنـزلته مصدقًا لما معكم أيها اليهود، والذي معهم: هو التوراة والإنجيل. كما:-814- حدثنا به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: " وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم "، يقول: إنما أنـزلت القرآن مصدقًا لما معكم التوراة والإنجيل. (39) .815- وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.816- وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " وآمنوا بما أنـزلت مصدِّقًا لما معكم "، يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنـزلت على محمّد مصدقًا لما معكم. يقول: لأنهم يجدون محمّدًا صلى الله عليه وسلم مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. (40) .* * *القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: كيف قِيل: " ولا تكونوا أول كافر به "، &; 1-562 &; والخطاب فيه لجميع (41) ، وقوله: " كافر " واحد؟ وهل نجيز -إن كان ذلك جائزًا- أن يقول قائل: " ولا تكونوا أول رجُل قام "؟قيل له: إنما يجوز توحيد ما أضيف له " أفعل "، وهو خبر لجميع (42) إذا كان اسمًا مشتقًّا من " فعل ويفعل "، لأنه يؤدِّي عن المرادِ معه المحذوفَ من الكلام وهو " مَنْ"، ويقوم مقامه في الأداء عن معنى ما كان يؤدي عنه " مَنْ" من الجمع والتأنيث، وهو في لفظ واحد. ألا ترى أنك تقول: ولا تكونوا أوَّلَ من يكفر به." فمن " بمعنى جميع (43) ، وهو غير متصرف تصرفَ الأسماء للتثنية والجمع والتأنيث. فإذا أقيم الاسمُ المشتق من " فعل ويفعل " مُقَامه، جرى وهو موحّد مجراه في الأداء عما كان يؤدي عنه " مَنْ" من معنى الجمع والتأنيث، كقولك: " الجيش مُنهزم "،" والجند مقبلٌ" (44) ، فتوحِّد الفعلَ لتوحيد لفظ الجيش والجند. وغير جائز أن يقال: " الجيش رجل، والجند غلام "، حتى تقول: " الجند غلمان والجيش رجال ". لأن الواحد من عدد الأسماء التي هي غير مشتقة من " فعل ويفعل "، لا يؤدّي عن معنى الجماعة منهم، ومن ذلك قول الشاعر:وَإِذَا هُــمُ طَعِمُــوا فَـأَلأَمُ طَـاعِمٍوَإِذَا هُـمُ جَـاعُوا فَشَـرُّ جِيَـاعِ (45)فوحّد مَرّةً على ما وصفتُ من نية " مَنْ"، وإقامة الظاهر من الاسم الذي هو مشتق من " فعل ويفعل " مقامه، وجمع أخرى على الإخراج على عدد أسماء &; 1-563 &; المخبر عنهم، ولو وحَّد حيث جَمع، أو جمع حيث وحَّد، كان صوابًا جائزًا (46) .وأما تأويل ذلك (47) فإنه يعني به: يا معشر أحبار أهل الكتاب، صدِّقوا بما أنـزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن المصدِّق كتابَكم، والذي عندكم من التوراة والإنجيل، المعهود إليكم فيهما أنه رسولي ونبيِّيَ المبعوثُ بالحق، ولا تكونوا أوَّل أمّتكُمْ كذَّبَ به (48) وَجحد أنه من عندي، وعندكم من العلم به ما ليس عند غيركم.وكفرهم به: جُحودهم أنه من عند الله (49) . والهاء التي في" به " من ذكر " ما " التي مع قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ . كما:-817- حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، قال قال ابن جريج في قوله: " ولا تكونوا أوّل كافر به "، بالقرآن. (50)قال أبو جعفر: وروى عن أبي العالية في ذلك ما:-818- حدثني به المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " ولا تكونوا أول كافر به "، يقول: لا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. (51) .وقال بعضهم: " ولا تكونوا أول كافر به "، يعني: بكتابكم. ويتأول أنّ في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبًا منهم بكتابهم، لأن في كتابهم الأمرَ باتباع محمد صلى الله عليه وسلم.وهذان القولان من ظاهر ما تدلّ عليه التلاوة بعيدانِ. وذلك أن الله جل ثناؤه &; 1-564 &; أمر المخاطبين بهذه الآية في أولها بالإيمان بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال جل ذكره: وَآمِنُوا بِمَا أَنْـزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ . ومعقول أن الذي أنـزله الله في عصر محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا محمد، لأن محمدًا صلوات الله عليه رسولٌ مرسل، لا تنـزيلٌ مُنْـزَل، والمنْـزَل هو الكتاب. ثم نهاهم أن يكونوا أوَّل من يكفر بالذي أمرهم بالإيمان به في أول الآية (52) ، ولم يجر لمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ذكرٌ ظاهر، فيعاد عليه بذكره مكنيًّا في قوله: " ولا تكونوا أول كافر به " - وإن كان غير محال في الكلام أن يُذْكر مكنيُّ اسمٍ لم يَجْرِ له ذكرٌ ظاهر في الكلام (53) .وكذلك لا معنى لقول من زعم أنّ العائد من الذكر في" به " على " ما " التي في قوله: لِمَا مَعَكُمْ . لأن ذلك، وإن كان محتمَلا ظاهرَ الكلام (54) ، فإنه بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التلاوة والتنـزيل، لما وصفنا قبل من أن المأمور بالإيمان به في أول الآية هو القرآن. فكذلك الواجب أن يكون المنهيُّ عن الكفر به في آخرها هو القرآن (55) . وأما أن يكون المأمور بالإيمان به غيرَ المنهيّ عن الكفر به، في كلام واحد وآية واحدة، فذلك غير الأشهر الأظهر في الكلام. هذا مع بُعْد معناه في التأويل. (56) .819- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد &; 1-565 &; بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " وآمنوا بما أنـزلت مصدقًا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به "، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم (57) .* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:820- فحدثني المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " ولا تشترُوا بآياتي ثمنًا قليلا "، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا. قال: هو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا ابنَ آدم، عَلِّمْ مَجَّانًا كما عُلِّمتَ مَجَّانًا (58) .وقال آخرون بما:-821 - حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا "، يقول: لا تأخذوا طمَعًا قليلا وتكتُموا اسمَ الله، وذلك الثمن هو الطمع (59) .&; 1-566 &;فتأويل الآية إذًا: لا تبيعوا ما آتيتكم من العلم بكتابي وآياته بثمن خسيسٍ وعَرضٍ من الدنيا قليل. وبيعُهم إياه - تركهم إبانةَ ما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، وأنه مكتوب فيه أنه النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل - بثمن قليل، وهو رضاهم بالرياسة على أتباعهم من أهل ملتهم ودينهم، وأخذهم الأجرَ ممَّن بيّنوا له ذلك على ما بيّنوا له منه.وإنما قلنا بمعنى ذلك: " لا تبيعوا " (60) ، لأن مشتري الثمن القليل بآيات الله بائعٌ الآياتِ بالثمن، فكل واحد من الثمَّن والمثمَّن مبيع لصاحبه، وصاحبه به مشتري: وإنما معنى ذلك على ما تأوله أبو العالية (61) ، بينوا للناس أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا تبتغوا عليه منهم أجرًا. فيكون حينئذ نهيُه عن أخذ الأجر على تبيينه، هو النهيَ عن شراء الثمن القليل بآياته.* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِقال أبو جعفر: يقول: فاتقونِ - في بَيعكم آياتي بالخسيس من الثمن، وشرائكم بها القليل من العَرَض، وكفركم بما أنـزلت على رسولي وجحودكم نبوة نبيِّي - أنْ أُحِلّ بكم ما أحللتُ بأسلافكم الذين سلكوا سبيلكم من المَثُلات والنَّقِمَات.------------الهوامش :(37) انظر ما مضى : 234 ، 235 .(38) قوله"قطع" ، أي حال . وانظر ما سلف ص 230 : تعليق : 4 ، وص 330 تعليق : 1 .(39) الأثر : 814- في ابن كثير 1 : 150 تضمينًا ، والدر المنثور 1 : 264 ، والشوكاني 1 : 61 .(40) الأثر : 815- في ابن كثير 1 : 150 ، والدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 61 .(41) في المطبوعة في المواضع الثلاثة : "لجمع . . . لجمع . . . جمع" .(42) في المطبوعة في المواضع الثلاثة : "لجمع . . . لجمع . . . جمع" .(43) في المطبوعة في المواضع الثلاثة : "لجمع . . . لجمع . . . جمع" .(44) في المطبوعة . "الجيش ينهزم ، والجند يقبل" ، وهو خطأ صرف .(45) نوادر أبي زيد : 152 ، لرجل جاهلي ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 33 ، وهي ثلاثة أبيات نوادر ، وقبله :ومُــوَيْلكٌ زمَــعُ الكِـلابِ يَسُـبُّنِيفَسَــماعِ أسْــتَاهَ الكــلابِ سَـمَاعِهَـلْ غـير عَـدْوِكُمُ عَـلَى جَـارَاتكُمْلبُطُــونِكُمْ مَلَــثَ الظَّــلامِ دَوَاعِـيوقوله : "طعموا" أي شبعوا ، فهم عندئذ ألأم من شبع . وفي الحديث : "طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة" ، يعني شبع . الواحد قوت الاثنين ، وشبع الاثنين قوت الأربعة .(46) انظر مثل ما قال الطبري في معاني القرآن للفراء 1 : 32-33 .(47) في المطبوعة : "فأما . . . " بالفاء .(48) في المطبوعة : "أول من كذب به" ، والذي أثبتناه هو صواب بيان الطبري .(49) في المخطوطة : "وكفرهم به وجحودهم . . . " وهو خطأ .(50) الأثر : 817- في الدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 61 .(51) الأثر : 818- في ابن كثير 1 : 150 ، والدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 61 .(52) في المطبوعة زيادة بين هاتين الجملتين ، وهي مقحمة مفسدة للكلام نابية في السياق . ونصها" . . . في أول الآية من أهل الكتاب ، فذلك هو الظاهر المفهوم . ولم يجر لمحمد . . . " .(53) بيان الطبري جيد محكم ، وإن ظن بعض من نقل كلامه أن كلا القولين صحيح ، لأنهما متلازمان . لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن (ابن كثير 1 : 150) . ونعم ، كلا القولين صحيح المعنى في ذاته ، ولكن الطبري يحدد دلالة الألفاظ والضمائر في الآية ، ويعين ما يحتمله ظاهر التلاوة والتنزيل ، ويخلص معنى من معنى ، وإن كان كلاهما صحيحًا في العقل ، صحيحًا في الحكم ، صحيحًا في الدين . وما أكثر ما يتساهل الناس إذا تقاربت المعاني ، ولا يخلص معنى من معنى إلا بصير بالعربية كأبي جعفر رضي الله عنه .(54) في المطبوعة : "محتمل ظاهر الكلام" .(55) في المخطوطة : " . . . أن الأمر بالإيمان به في أول الآية . . . أن يكون النهي عن الكفر به في آخرها . . . " ، والذي في المطبوعة أجود وأبين .(56) وهذا أيضًا من جيد البصر؛ بمنطق العربية ، وإن ظنه بعضهم قريبًا من قريب .(57) الخبر : 819- من تمام الأخبار السالفة الأرقام 805 ، 811 ، في الدر المنثور 1 : 63 .(58) الأثر : 820- من تمام الأثر السالف رقم : 818 ومراجعه هناك . وفي ابن كثير 1 : 151 . والمجان : عطية الشيء بلا منة ولا ثمن . قال أبو العباس : سمعت ابن الأعرابي يقول : المجان عند العرب الباطل ، وقالوا : "ماء مجان" . قال الأزهري : العرب تقول : تمر"مجان" ، وماء"مجان" ، يريدون أنه كثير كاف . قال : واستطعمني أعرابي تمرًا فأطعمته كتلة واعتذرت إليه من قلته ، فقال : هذا والله"مجان" . أي كثير كاف . وقولهم : أخذه مجانًا : أي بلا بدل ، وهو فعال لأنه ينصرف (اللسان : مجن) .(59) الأثر : 821- في ابن كير 1 : 151 . وفي المطبوعة وابن كثير : "فذلك الطمع هو الثمن" ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو أجود .(60) في المطبوعة : "وإنما قلنا معنى ذلك . . . " .(61) في المطبوعة : "وإنما معناه على ما تأوله . . . " .
الطبري
2:41
قوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون قوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت أي صدقوا ، يعني بالقرآن ." مصدقا " حال من الضمير في " أنزلت " ، التقدير بما أنزلته مصدقا ، والعامل فيه أنزلت ويجوز أن يكون حالا من ما والعامل فيه آمنوا التقدير آمنوا بالقرآن مصدقا ويجوز أن تكون مصدرية التقدير آمنوا بإنزال .( لما معكم ) يعني من التوراةقوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به الضمير في به قيل هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية وقال ابن جريج : هو عائد على القرآن ، إذ تضمنه قوله : بما أنزلت وقيل : على التوراة ، إذ تضمنها قوله : لما معكم .فإن قيل كيف قال : " كافر " ولم يقل كافرين قيل التقدير ولا تكونوا أول فريق كافر به وزعم الأخفش والفراء أنه محمول على معنى الفعل لأن المعنى أول من كفر به وحكى سيبويه هو أظرف الفتيان وأجمله وكان ظاهر الكلام هو أظرف فتى وأجمله وقال أول كافر به وقد كان قد كفر قبلهم كفار قريش فإنما معناه من أهل الكتاب إذ هم منظور إليهم في مثل هذا لأنهم حجة مظنون بهم علم .و " أول " عند سيبويه نصب على خبر كان وهو مما لم ينطق منه بفعل وهو على أفعل ، عينه وفاؤه واو وإنما لم ينطق منه بفعل لئلا يعتل من جهتين العين والفاء ، وهذا مذهب البصريين ، وقال الكوفيون : هو من وأل إذا نجا فأصله [ ص: 314 ] أوأل ثم خففت الهمزة وأبدلت واوا وأدغمت فقيل أول كما تخفف همزة خطيئة قال الجوهري والجمع الأوائل والأوالي أيضا على القلب . وقال قوم : أصله وول على فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع وقيل هو أفعل من آل يئول ، فأصله أأول ، قلب فجاء أعفل مقلوبا من أفعل فسهل وأبدل وأدغم .مسألة : لا حجة في هذه الآية لمن يمنع القول بدليل الخطاب ، وهم الكوفيون ومن وافقهم ; لأن المقصود من الكلام النهي عن الكفر أولا وآخرا ، وخص الأول بالذكر لأن التقدم فيه أغلظ ، فكان حكم المذكور والمسكوت عنه واحدا ، وهذا واضحقوله تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ولا تشتروا معطوف على قوله ولا تكونوا نهاهم عن أن يكونوا أول من كفر وألا يأخذوا على آيات الله ثمنا أي على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم رشا ، وكان الأحبار يفعلون ذلك فنهوا عنه قاله قوم من أهل التأويل منهم الحسن وغيره ، وقيل : كانت لهم مآكل يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك ، وقيل : إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك وفي كتبهم يا ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا أي باطلا بغير أجرة قاله أبو العالية وقيل : المعنى ولا تشتروا بأوامري ونواهي وآياتي ثمنا قليلا يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له فسمي ما اعتاضوه عن ذلك ثمنا لأنهم جعلوه عوضا فانطلق عليه اسم الثمن وإن لم يكن ثمنا ، وقد تقدم هذا المعنى وقال الشاعر :إن كنت حاولت ذنبا أو ظفرت به فما أصبت بترك الحج من ثمنقلت : وهذه الآية وإن كانت خاصة ببني إسرائيل فهي تتناول من فعل فعلهم فمن أخذ رشوة على تغيير حق أو إبطاله أو امتنع من تعليم ما وجب عليه أو أداء ما علمه وقد تعين عليه حتى يأخذ عليه أجرا فقد دخل في مقتضى الآية والله أعلم وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها .[ ص: 315 ]الثانية : وقد اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم - لهذه الآية وما كان في معناها فمنع ذلك الزهري وأصحاب الرأي وقالوا : لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نية التقرب والإخلاص فلا يؤخذ عليها أجرة كالصلاة والصيام ، وقد قال تعالى : ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال معلمو صبيانكم شراركم أقلهم رحمة باليتيم وأغلظهم على المسكين . وروى أبو هريرة قال : قلت يا رسول الله ما تقول في المعلمين قال درهمهم حرام وثوبهم سحت وكلامهم رياء وروى عبادة بن الصامت قال : علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت : ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله فسألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها . وأجاز أخذ الأجرة على تعليم القرآن مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأكثر العلماء لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس حديث الرقية إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله أخرجه البخاري وهو نص يرفع الخلاف فينبغي أن يعول عليه .وأما ما احتج به المخالف من القياس على الصلاة والصيام ففاسد ، لأنه في مقابلة النص ثم إن بينهما فرقانا وهو أن الصلاة والصوم عبادات مختصة بالفاعل ، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المعلم فتجوز الأجرة على محاولته النقل كتعليم كتابة القرآن ، قال ابن المنذر وأبو حنيفة يكره تعليم القرآن بأجرة ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحا أو شعرا أو غناء معلوما بأجر معلوم . فيجوز الإجارة فيما هو معصية ويبطلها فيما هو طاعة .وأما الجواب عن الآية - فالمراد بها بنو إسرائيل ، وشرع من قبلنا هل هو شرع لنا ، فيه خلاف ، وهو لا يقول به .جواب ثان : وهو أن تكون الآية فيمن تعين عليه التعليم فأبى حتى يأخذ عليه أجرا فأما إذا لم يتعين فيجوز له أخذ الأجرة بدليل السنة في ذلك وقد يتعين عليه إلا أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه ولا على عياله فلا يجب عليه التعليم وله أن يقبل على صنعته وحرفته ، ويجب على الإمام أن يعين لإقامة الدين إعانته ، وإلا فعلى المسلمين لأن الصديق رضي الله عنه لما [ ص: 316 ] ولي الخلافة وعين لها لم يكن عنده ما يقيم به أهله فأخذ ثيابا وخرج إلى السوق فقيل له في ذلك فقال ومن أين أنفق على عيالي فردوه وفرضوا له كفايته ، وأما الأحاديث فليس شيء منها يقوم على ساق ولا يصح منها شيء عند أهل العلم بالنقل أما حديث ابن عباس فرواه سعيد بن طريف عن عكرمة عنه وسعيد متروك وأما حديث أبي هريرة فرواه علي بن عاصم عن حماد بن مسلمة عن أبي جرهم عنه وأبو جرهم مجهول لا يعرف ولم يرو حماد بن سلمة عن أحد يقال له أبو جرهم ، وإنما رواه عن أبي المهزم وهو متروك الحديث أيضا وهو حديث لا أصل له وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه أبو داود من حديث المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عنه والمغيرة معروف عند أهل العلم ولكنه له مناكير هذا منها قاله أبو عمر ثم قال وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم لأنه روي عن عبادة من وجهين وروي عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي عن أبيه عن ابن مسعود وهو منقطع وليس في الباب حديث يجب العمل به من جهة النقل ، وحديث عبادة وأبي يحتمل التأويل ; لأنه جائز أن يكون علمه لله ثم أخذ عليه أجرا ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير الناس وخير من يمشي على وجه الأرض المعلمون كلما خلق الدين جددوه أعطوهم ولا تستأجروهم فتحرجوهم فإن المعلم إذا قال للصبي قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله براءة للصبي وبراءة للمعلم وبراءة لأبويه من النار .الثالثة : واختلف العلماء في حكم المصلي بأجرة فروى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم للناس فقال أرجو ألا يكون به بأس ، وهو أشد كراهة له في الفريضة وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور لا بأس بذلك ولا بالصلاة خلفه وقال الأوزاعي لا صلاة له وكرهه أبو حنيفة وأصحابه على ما تقدم قال ابن عبد البر وهذه المسألة معلقة من التي قبلها وأصلهما واحد .قلت : ويأتي لهذا أصل آخر من الكتاب في " براءة " إن شاء الله تعالى وكره ابن القاسم أخذ الأجرة على تعليم الشعر والنحو وقال ابن حبيب لا بأس بالإجارة على تعليم الشعر والرسائل وأيام العرب ويكره من الشعر ما فيه الخمر والخنا والهجاء قال أبو الحسن اللخمي ويلزم على قوله أن يجيز الإجارة على كتبه ويجيز بيع كتبه ، وأما الغناء والنوح فممنوع على كل حال .الرابعة : روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمر بن الكميت قال حدثنا علي بن وهب الهمداني قال أخبرنا الضحاك بن موسى قال مر سليمان بن عبد الملك بالمدينة وهو يريد مكة فأقام بها أياما فقال هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له أبو حازم فأرسل إليه فلما دخل عليه قال له يا أبا حازم ما هذا الجفاء ؟ قال أبو حازم يا أمير المؤمنين وأي جفاء رأيت مني ؟ قال أتاني وجوه أهل المدينة ، ولم تأتني قال يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن ، ما عرفتني قبل هذا اليوم ولا أنا رأيتك قال فالتفت إلى محمد بن شهاب الزهري فقال أصاب الشيخ وأخطأت ، قال سليمان يا أبا حازم ما لنا نكره الموت قال لأنكم أخربتم الآخرة وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب قال أصبت يا أبا حازم فكيف القدوم غدا على الله تعالى قال أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه فبكى سليمان وقال ليت شعري ما لنا عند الله ؟ قال اعرض عملك على كتاب الله قال وأي مكان أجده قال إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال سليمان فأين رحمة الله يا أبا حازم قال أبو حازم رحمة الله قريب من المحسنين قال له سليمان يا أبا حازم فأي عباد الله أكرم ؟ قال أولو المروءة والنهى قال له سليمان فأي الأعمال أفضل قال أبو حازم أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال سليمان فأي الدعاء أسمع ؟ قال دعاء المحسن إليه للمحسن فقال أي الصدقة أفضل ؟ قال للسائل البائس وجهد المقل ليس فيها من ولا أذى قال فأي القول أعدل قال : قول الحق عند من تخافه أو ترجوه قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ قال رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها قال فأي المؤمنين أحمق ؟ قال رجل انحط في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره قال له سليمان أصبت فما تقول فيما نحن فيه قال يا أمير المؤمنين أوتعفيني قال له سليمان لا ولكن نصيحة تلقيها إلي قال يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة على غير مشورة من المسلمين ولا رضاهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة فقد ارتحلوا عنها فلو شعرت ما قالوه وما قيل لهم فقال له رجل من جلسائه بئس ما قلت يا أبا حازم قال أبو حازم كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه قال له سليمان فكيف لنا أن نصلح ؟ قال تدعون الصلف وتمسكون بالمروءة وتقسمون بالسوية قال له سليمان فكيف لنا بالمأخذ به ؟ قال أبو حازم تأخذه من حله وتضعه في أهله قال له سليمان هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب [ ص: 318 ] منك ؟ قال أعوذ بالله ! قال له سليمان ولم ذاك ؟ قال أخشى أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات قال له سليمان ارفع إلينا حوائجك قال تنجيني من النار وتدخلني الجنة قال له سليمان ليس ذاك إلي قال أبو حازم فما لي إليك حاجة غيرها قال فادع لي قال أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى قال له سليمان قط قال أبو حازم قد أوجزت وأكثرت ، إن كنت من أهله وإن لم تكن من أهله فما ينبغي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر قال لهسليمان أوصني قال سأوصيك وأوجز : عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فلما خرج من عنده بعث إليه بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك عندي مثلها كثير قال فردها عليه وكتب إليه يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلا أو ردي عليك بذلا وما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان فسألهما فقالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ; فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وذلك أنه كان جائعا خائفا لا يأمن فسأل ربه ولم يسأل الناس فلم يفطن الرعاء وفطنت الجاريتان فلما رجعتا إلى أبيهما أخبرتاه بالقصة وبقوله فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام هذا رجل جائع فقال لإحداهما اذهبي فادعيه فلما أتته عظمته وغطت وجهها وقالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فشق على موسى حين ذكرت أجر ما سقيت لنا ولم يجد بدا من أن يتبعها لأنه كان بين الجبال جائعا مستوحشا فلما تبعها هبت الريح فجعلت تصفق ثيابها على ظهرها فتصف له عجيزتها وكانت ذات عجز وجعل موسى يعرض مرة ويغض أخرى فلما عيل صبره ناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني السمت بقولك فلما دخل على شعيب إذ هو بالعشاء مهيأ فقال له شعيب اجلس يا شاب فتعش فقال له موسى عليه السلام أعوذ بالله فقال له شعيب لم ؟ أما أنت جائع ؟ قال بلى ولكني أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من ديننا بملء الأرض ذهبا فقال له شعيب لا يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى فأكل . فإن كانت هذه المائة دينار عوضا لما حدثت ، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل من هذه ، وإن كان لحق في بيت المال فلي فيها نظراء ، فإن ساويت بيننا وإلا فليس لي فيها حاجة .[ ص: 319 ] قلت : هكذا يكون الاقتداء بالكتاب والأنبياء انظروا إلى هذا الإمام الفاضل والحبر العالم كيف لم يأخذ على عمله عوضا ولا على وصيته بدلا ولا على نصيحته صفدا بل بين الحق وصدع ولم يلحقه في ذلك خوف ولا فزع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنعن أحدكم هيبة أحد أن يقول بالحق حيث كان وفي التنزيل يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمقوله تعالى : وإياي فاتقون قد تقدم معنى التقوى وقرئ " فاتقوني " بالياء وقد تقدم وقال سهل بن عبد الله قوله وإياي فاتقون قال موضع علمي السابق فيكم وإياي فارهبون قال موضع المكر والاستدراج لقول الله تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون فما استثنى نبيا ولا صديقا .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:41
ثم أمرهم بالأمر الخاص, الذي لا يتم إيمانهم, ولا يصح إلا به فقال: { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ } وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالإيمان به, واتباعه, ويستلزم ذلك, الإيمان بمن أنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم به، فقال: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب, غير مخالف لها; فلا مانع لكم من الإيمان به, لأنه جاء بما جاءت به المرسلون, فأنتم أولى من آمن به وصدق به, لكونكم أهل الكتب والعلم. وأيضا فإن في قوله: { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ } إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به, عاد ذلك عليكم, بتكذيب ما معكم, لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضا, فإن في الكتب التي بأيدكم, صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به, كذبتم ببعض ما أنزل إليكم, ومن كذب ببعض ما أنزل إليه, فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول, فقد كذب الرسل جميعهم. فلما أمرهم بالإيمان به, نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال: { وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي: بالرسول والقرآن. وفي قوله: { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أبلغ من قوله: { ولا تكفروا به } لأنهم إذا كانوا أول كافر به, كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به, عكس ما ينبغي منهم, وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان, وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال: { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل, التي يتوهمون انقطاعها, إن آمنوا بالله ورسوله, فاشتروها بآيات الله واستحبوها, وآثروها. { وَإِيَّايَ } أي: لا غيري { فَاتَّقُونِ } فإنكم إذا اتقيتم الله وحده, أوجبت لكم تقواه, تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل, فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.
Arabic Saddi Tafseer
2:41
{وآمنوا بما أنزلت} يعني القرآن.{مصدقاً لما معكم} أي موافقاً لما معكم -يعني: التوراة- في التوحيد والنبوة والأخبار ونعت النبي صلى الله عليه وسلم.نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم.{ولا تكونوا أول كافر به} أي بالقرآن، يريد من أهل الكتاب، لأن قريشاً كفرت قبل اليهود بمكة.معناه: ولا تكونوا أول من كفر بالقرآن فيتابعكم اليهود على ذلك فتبوؤا بآثامكم وآثامهم.{ثمناً قليلاً} أي عرضاً يسيراً من الدنيا وذلك أن رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل عام شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن هم بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة.{وإياي فاتقون} فاخشوني.
Arabic Baghawy Tafseer
2:41
يقول تعالى ناهيا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل. تمويهه وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" فنهاهم عن الشيئين معا وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس - ولا تلبسوا الحق بالباطل - لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب وقال أبو العالية - ولا تلبسوا الحق بالباطل - يقول ولا تخلطوا الحق بالباطل وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة "ولا تلبسوا الحق بالباطل" ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. ورُوي عن الحسن البصري نحو ذلك. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ورُوي عن أبي العالية نحو ذلك وقال مجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس "وتكتموا الحق" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "قلت" وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوما ويحتمل أن يكون منصوبا أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال لا تأكل السمك وتشرب اللبن قال الزمخشري وفي مصحف ابن مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضا ومعناه وأنتم تعلمون الحق. ويجوز أن يكون المعنى وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم والبيان الإيضاح وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل.
ابن كثير
2:42
ولا تخلِطوا الحق الذي بيَّنته لكم بالباطل الذي افتريتموه، واحذروا كتمان الحق الصريح من صفة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبكم، وأنتم تجدونها مكتوبة عندكم، فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
المیسر
2:42
معطوف على جميع ما تقدم من قوله : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } [ البقرة : 40 ] إلى هنا لأن هاته الجمل كلها لم يقصد أن الواحدة منها معطوفة على التي قبلها خاصة بل على جميع ما تقدمها لا سيما قوله : { ولا تلبسوا } فإنه مبدأ انتقال من غرض التحذير من الضلال إلى غرض التحذير من الإضلال بعد أن وسط بينهما قوله : { ولا تشتروا بآياتي } [ البقرة : 41 ] كما تقدم .وإن شئت أن تجعل كلاً معطوفاً على الذي قبله فهومعطوف على الذي قبله بعد اعتبار كون ما قبله معطوفاً على ما قبله كذلك ، وهذا شأن الجمل المتعاطفة إلا إذا أريد عطف جملة على جملة معينة لكون الثانية أعلق بالتي والتْها دون البقية وذلك كعطف { وتكتموا الحق } على { لا تلبسوا } فإنها متعينة للعطف على { تلبسوا } لا محالة إن كانت معطوفة وهو الظاهر فإن كلا الأمرين منهي عنه والتغليظ في النهي عن الجمع بينهما واضح بالأوْلى .وجوزوا أن يكون { وتكتموا الحق } منصوباً بأن مضمرة بعد واو المعية ويكون مناط النهي الجمع بين الأمرين وهو بعيد لأن كليهما منهي عنه والتفريق في المنهي يفيد النهي عن الجمع بالأوْلى بخلاف العكس اللهم إلا أن يقال إنما نهوا عن الأمرين معاً على وجه الجمع تعريضاً بهم بأنهم لا يرجا منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر . أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجا منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل .و ( الحَق ) الأمر الثابت من حَقَّ إذا ثبت ووجب وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها . والباطل في كلامهم ضد الحق فإنه الأمر الزائل الضائع يقال بطل بُطلاً وبطولاً وبطلاناً إذا ذهب ضياعاً وخسراً وذهب دمه بُطلاً أي هدراً . والمراد به هنا ما تتبرأ منه النفوس وتزيله مادامت خلية عن غرض أوهوى ، وسمي باطلاً لأنه فعل يذهب ضياعاً وخساراً على صاحبه .واللبس خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر وهو يتعدى إلى الذي اختلط عليه بعدة حروف مثل علَى واللاممِ والباءِ على اختلاف السياق الذي يقتضي معنى بعض تلك الحروف . وقد يعلق به ظرفُ عندَ . وقد يجرد عن التعليق بالحرف . ويُطلق على اختلاط المعاني وهو الغالب ، وظاهر كلام الراغب في «مفردات القرآن» أنه هو المعنى الحقيقي ، ويقال في الأمر لُبسةٌ بضم اللام أي اشتباه ، وفي حديث شق الصدر «فخفت أن يكون قد التُبس بي» أي حصل اختلاط في عقلي بحيث لا يميز بين الرؤية والخيال ، وفعله من باب ضرب وأما فعل لبس الثياب فمن باب سمِع .فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق ، وهذا اللَّبس هو مبدأ التضليل والإلحاد في الأمور المشهورة فإن المزاولين لذلك لا يروج عليهم قَصْد إبطالها فشأنُ من يريد إبطالها أن يعمد إلى خلط الحق بالباطل حتى يوهم أنه يريد الحق قال تعالى : { وكذلك زَين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبِسوا عليهم دينهم } [ الأنعام : 137 ] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام .وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل ، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة إننا كنا نعطي الزكاة للرسول ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعه ، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله ، وقد قال شاعرهم وهو الخطيل بن أوس :أطعنا رسولَ الله إذ كان بيننا ... فيا لعباد اللَّهِ مالِأَبي بكروقد فعل ذلك الناقمون على عثمان رضي الله عنه فلبَّسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبيء صلى الله عليه وسلم في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه ، وسقط من يده خاتم النبيء صلى الله عليه وسلم وذلك رمز على سقوط خلافته . وقد قالت الخوارج «لا حكم إلا لله» فقال علي رضي الله عنه : «كلمة حق أريد بها باطل» . وحرَّف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهراً وباطناً فكان من ذلك لبس كثير ، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية ، ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب «الرسائل» الملقبين بإخوان الصفاء . ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها ويعارضها نحو قوله تعالى : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة .وللتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي ، أما إذا وقع التأويل لما يُظن أنه دليل فهو تأويل باطل فإن وقع بلا دليل أصلاً فهو لعب لا تأويل ولهذا نهى الفقهاء عن اقتباس القرآن في غير المعنى الذي جاء له كما قال ابن الرومي :لئن أخطأتُ في مدْحي ... ك ما أخطأت في منعيلقد أنزلتُ حاجاتي ... بواد غير ذي زرعوقوله : { وأنتم تعلمون } حال وهو أبلغ في النهي لأن صدور ذلك من العالم أشد فمفعول ( تعلمون ) محذوف دل عليه ما تقدم ، أي وأنتم تعلمون ذلك أي لَبسكم الحق بالباطل . قال الطيبي عند قوله تعالى الآتي : { أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] إن قوله تعالى : { وأنتم تعلمون } غير منزل منزلة اللازم لأنه إذا نزل منزلة اللازم دل على أنهم موصوفون بالعلم الذي هووصف كمال وذلك ينافي قوله الآتي : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } إلى قوله : { أفلا تعقلون } [ البقرة : 44 ] إذْ نفى عنهم وصف العقل فكيف يثبت لهم هنا وصف العلم على الإطلاق .
Arabic Tanweer Tafseer
2:42
وبعد أن نهى القرآن الكريم بني إسرائيل عن الكفر والضلال ، عقب ذلك بنهيهم عن أن يعملوا لإِضلال غيرهم ، فقال - ( وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .اللبس - بفتح اللام - الخلط ، وفعله : ليس ، من باب : ضرب تقول : لبَست عليه الأمر ، ألبِسه إذا مزجت بينه بمشكله ، وحقه بباطله .ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس :إحداهما : طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله تعالى : ( وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل ) .والثانية : طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : ( وَتَكْتُمُواْ الحق ) .وقد استعمل بنو إسرائيل الطريقتين لصرف الناس عن الإِسلام ، قد كان بعضهم يؤول نصوص كتيهم الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - تأويلا فاسداً ، يخلصون فيه الحق بالباطل ، ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر ، وكان بعضهم يلقى حول الحق الظاهر شبهاً ، لوقع ضعفاء الإِيمان في حيرة وتردد ، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، والتي لا توافق أهواءهم وشهواتهم ، فنهاهم الله - تعالى - عن هذه التصرفات الخبيثة .والمعنى : ولا تخلطوا الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية ، وأيدته العقول السليمة ، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم ، إرضاء لأهوائكم ، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه ، كما تعرفون أبناءكم ، بغية انصراف الناس عنه " لأن من جهل شيئا عاداه ، فالنهي الأول عن التغيير والخلط ، والنهي الثاني عن الكتمان والإِخفاء .وقوله تعالى ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) جملة حالية ، أي وأنتم من ذوي العلم ، ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق ، أو يلبسه بالباطل ، وإذا كان هذا الفعل - وهو لبس الحق بالباطل ، أو كتمانه وإظهار الباطل وحده - يعد من كبائر الذنوب ، فإن وقعه يكون أقبح ، وفساده أكبر ، وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم ، يميز بين الحق والباطل .ففي هذه الجملة الكريمة بيان لحال بني إسرائيل ، المخاطبين بهذا النهي ، وتبكيت لهم ، لأنهم لم يفعلوا ما فعله عن جهالة ، وإنما عن علم وإصرار على سلوك هذا الطريق المعوج .قال أبو حيان في البحر : " وهذه الحال ، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ، إذ الجاهل بحال الشيء لا يردي كونه حقاً أو باطلا ، وإنما فادئتها بيان أن الإِقدام على الأشياء القبيحة ، مع العلم بها ، أفحش من الإِقدام عليها مع الجهل .
Arabic Waseet Tafseer
2:42
القول في تأويل قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِقال أبو جعفر: يعني بقوله: " ولا تلبسُوا "، لا تخلطوا. واللَّبْس هو الخلط. &; 1-567 &; يقال منه: لَبَست عليه هذا الأمر ألبِسُه لبسًا: إذا خلطته عليه (62) . كما:-822 - حُدِّثت عن المنجاب، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام: 9] يقول: لخلطنا عليهم ما يخلطون (63) .ومنه قول العجاج:لَمَّــا لَبَسْــنَ الْحَــقَّ بِــالتَّجَنِّيغَنِيــنَ وَاسْــتَبْدَلْنَ زَيْــدًا مِنِّـي (64)يعني بقوله: " لبسن "، خلطن. وأما اللُّبس فإنه يقال منه: لبِسْته ألبَسُه لُبْسًا ومَلْبَسًا، وذلك الكسوةُ يكتسيها فيلبسها (65) . ومن اللُّبس قول الأخطل:لَقَـدْ لَبِسْـتُ لِهَـذَا الدَّهْـرِ أَعْصُـرَهُحَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ واشْتَعَلا (66)ومن اللبس قول الله جل ثناؤه: وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ . [سورة الأنعام: 9]* * *فإن قال لنا قائل (67) وكيف كانوا يلبِسون الحق بالباطل وهم كفّار؟ وأيُّ حق كانوا عليه مع كفرهم بالله؟قيل: إنه كان فيهم منافقون منهم يظهرون التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويستبطنون الكفر به. وكان عُظْمُهم يقولون (68) : محمد نبيٌّ مبعوث، إلا أنه &; 1-568 &; مبعوث إلى غيرنا. فكان لَبْسُ المنافق منهم الحقَّ بالباطل، إظهارَه الحقّ بلسانه، وإقرارَه بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به جهارًا (69) ، وخلطه ذلك الظاهر من الحق بما يستبطنه (70) . وكان لَبْسُ المقرّ منهم بأنه مبعوث إلى غيرهم، الجاحدُ أنه مبعوث إليهم، إقرارَه بأنه مبعوث إلى غيرهم، وهو الحق، وجحودَه أنه مبعوث إليهم، وهو الباطل، وقد بَعثه الله إلى الخلق كافة. فذلك خلطهم الحق بالباطل ولَبْسهم إياه به. كما:-823 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: " ولا تلبِسُوا الحق بالباطل "، قال: لا تخلطوا الصدق بالكذب (71) .824 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل "، يقول: لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدُّوا النصيحةَ لعباد الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم (72) .825 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: " ولا تلبسوا الحق بالباطل "، اليهوديةَ والنصرانية بالإسلام (73) .826 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد في قوله: " ولا تلبِسُوا الحقّ بالباطل "، قال: الحقّ، التوراةُ الذي أنـزل الله على موسى، والباطلُ: الذي كتبوه بأيديهم (74) .* * *القول في تأويل قوله تعالى ذكره: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)قال أبو جعفر: وفي قوله: " وتكتموا الحق "، وجهان من التأويل:أحدُهما: أن يكون الله جل ثناؤه نهاهم عن أن يكتموا الحق، كما نهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل. فيكون تأويل ذلك حينئذ: ولا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق. ويكون قوله: " وتكتموا " عند ذلك مجزومًا بما جُزِم به تَلْبِسُوا ، عطفًا عليه.والوجه الآخر منهما: أن يكون النهي من الله جل ثناؤه لهم عن أن يلبسوا الحق بالباطل، ويكون قوله: " وتكتموا الحق " خبرًا منه عنهم بكتمانهم الحق الذي يعلمونه، فيكون قوله: " وتكتموا " حينئذ منصوبًا لانصرافه عن معنى قوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، إذ كان قوله: وَلا تَلْبِسُوا نهيًا، وقوله " وتكتموا الحق " خبرًا معطوفًا عليه، غيرَ جائز أن يعاد عليه ما عمل في قوله: تَلْبِسُوا من الحرف الجازم. وذلك هو المعنى الذي يسميه النحويون صَرْفًا (75) . ونظيرُ ذلك في المعنى والإعراب قول الشاعر:لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُعَـارٌ عَلَيْـكَ إَِذَا فَعَلْـتَ عَظِيمُ (76) &; 1-570 &;فنصب " تأتي" على التأويل الذي قلنا في قوله: " وتكتموا " (77) ، لأنه لم يرد: لا تنه عن خُلق ولا تأت مثله، وإنما معناه: لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله، فكان الأول نهيًا، والثاني خبرًا، فنصبَ الخبر إذ عطفه على غير شكله.فأما الوجه الأول من هذين الوجهين اللذين ذكرنا أن الآية تحتملهما، فهو على مذهب ابن عباس الذي:-827 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قوله: " وتكتموا الحق "، يقول: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون.828 - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " وتكتموا الحق "، أي ولا تكتموا الحق. (78) .وأما الوجه الثاني منهما، فهو على مذهب أبي العالية ومجاهد.829 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "، قال: كتموا بعث محمد صلى الله عليه وسلم (79) .830 - وحدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.831 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.وأما تأويل الحق الذي كتموه وهم يعلمونه، فهو ما:-832 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " وتكتموا الحق "، يقول: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وما جاء به، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم. (80)833 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " وتكتموا الحق "، يقول: إنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، فنهاهم عن ذلك. (81)834 - وحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "، قال: يكتم أهل الكتاب محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل (82) .835 - وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.836 - وحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: " وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون "، قال: الحقُّ هو محمد صلى الله عليه وسلم (83) .837 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا أبو جعفر، عن &; 1-572 &; الربيع، عن أبي العالية: " وتكتموا الحق وأنتم تعلمون "، قال: كتَموا بعثَ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم (84) .838 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: تكتمون محمدًا وأنتم تعلمون، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل (85) .فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوثٌ إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى جميعكم وجميع الأمم غيركم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، وتكتموا به ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وأنه رسولي إلى الناس كافة، وأنتم تعلمون أنه رسولي، وأن ما جاء به إليكم فمن عندي، وتعرفون أن من عهدي - الذي أخذت عليكم في كتابكم - الإيمانَ به وبما جاء به والتصديقَ به.---------الهوامش :(62) في المطبوعة : "لبست عليهم الأمر . . . خلطته عليهم" .(63) الخبر : 822- لم أجده في مكان ، ولم يذكره الطبري في مكانه من تفسير هذه الآية في سورة الأنعام (7 : 98 بولاق) .(64) ديوانه : 65 . غني عن الشيء واستغنى : اطرحه ورمى به من عينه ولم يلتفت إليه .(65) في المطبوعة : "وذلك في الكسوة . . . " ، بالزيادة .(66) ديوانه : 142 ، وفيه"وقد لبست" . وأعصر جمع عصر : وهو الدهر والزمان . وعني هنا اختلاف الأيام حلوها ومرها ، فجمع . ولبس له أعصره : عاش وقاسى خيره وشره . وتجلل الشيب رأسه : علاه .(67) في المطبوعة : "إن قال . . . " .(68) في المطبوعة : "وكان أعظمهم . . . " ، وهو تحريف قد مضى مثله مرارًا . وعظم الشيء : معظمه وأكثره .(69) في المطبوعة : "وإقراره لمحمد . . . " .(70) في المطبوعة : "بالباطل الذي يستبطنه" .(71) الخبر : 823- في ابن كثير 1 : 152 ، والدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 62 .(72) الأثر : 824- في ابن كثير 1 : 152 .(73) الأثر : 825- لم أجده عن مجاهد ، ومثله عن قتادة في ابن كثير 1 : 152 ، والدر المنثور 1 : 64 .(74) الأثر : 826- في الدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 62 .(75) ذكر هذا الفراء في كتابه معاني القرآن 1 : 33-34 ، ثم قال : "فإن قلت : وما الصرف؟ قلت : أن تأتي بالواو معطوفًا على كلام في أوله حادثه لا تستقيم إعادتها على ما عطف عليها ، فإذا كان كذلك فهو الصرف ، كقول الشاعر : . . . " وأنشد البيت وقال : "ألا ترى أنه لا يجوز إعادة"لا" في"تأتي مثله" ، فلذلك سمى صرفًا ، إذ كان معطوفًا ، ولم يستقم أن يعاد فيه الحادث الذي قبله" .(76) هذا من الأبيات التي رويت في عدة قصائد . كما قال صاحب الخزانة 3 : 617 . نسبه سيبويه 1 : 424 للأخطل ، وهو في قصيدة للمتوكل الليثي ، ونسب لسابق البربري ، وللطرماح ، ولأبي الأسود الدؤلي قصيدة ساقها صاحب الخزانة (3 : 618) ، وليست في ديوانه الذي نشره الأستاذ محمد حسن آل ياسين في (نفائس المخطوطات) طبع مطبعة المعارف ببغداد سنة 1373ه (1954م) ، وهذا الديوان من نسخة بخط أبي الفتح عثمان بن جنى . ولم يلحقها الأستاذ الناشر بأشتات شعر أبي الأسود التي جمعها .(77) في المطبوعة : "وتكتموا ، الآية ، لأنه . . . " ، وهو خطأ في قراءة ما في المخطوطة وهو : "وتكتموا إلا أنه لم يرد" .(78) الخبران : 827 ، 828- لم أجدهما بنصهما في مكان ، وثانيهما في ضمن خبر ابن عباس الذي سلف تخريجه رقم : 819 ، وفي ابن كثير 1 : 152 ، والدر المنثور 1 : 63 .(79) الأثر : 829- لم أجده في مكان .(80) الخبر : 832- في ابن كثير 1 : 152 ، والدر المنثور 1 : 63 ، والشوكاني 1 : 61 .(81) الخبر : 833- في الدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 62 ، إلا قوله : "فنهاهم عن ذلك" وفي المطبوعة" . . . رسول الله صلى الله عليه وسلم" .(82) الأثر : 834- في ابن كثير 1 : 152 تضمينًا .(83) الأثر : 836- في ابن كثير 1 : 152 تضمينًا ، وفي الدر المنثور 1 : 64 ، والشوكاني 1 : 62 .(84) الأثر : 837- لم أجده في مكان .(85) الأثر : 838- لم أجده بنصه في مكان . وفي المطبوعة : "تكتمون محمدًا . . . " .
الطبري
2:42
قوله تعالى : ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمونولا تلبسوا الحق بالباطل اللبس : الخلط لبست عليه الأمر ألبسه ، إذا مزجت بينه بمشكله ، وحقه بباطله قال الله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث ( إنه ملبوس عليك ، إن الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله . ) وقالت الخنساء :ترى الجليس يقول الحق تحسبه رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا صدق مقالته واحذر عداوتهوالبس عليه أمورا مثل ما لبساوقال العجاج :لما لبسن الحق بالتجني غنين واستبدلن زيدا منيروى سعيد عن قتادة في قوله : ولا تلبسوا الحق بالباطل ، يقول : لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله - الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به - الإسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة وليست من الله . والظاهر من قول عنترة :وكتيبة لبستها بكتيبة[ ص: 320 ] أنه من هذا المعنى ، ويحتمل أن يكون من اللباس . وقد قيل هذا في معنى الآية ، أي لا تغطوا ومنه لبس الثوب يقال لبست الثوب ألبسه ولباس الرجل زوجته وزوجها لباسها قال الجعديإذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت عليه فكانت لباساوقال الأخطل :وقد لبست لهذا الأمر أعصره حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلاواللبوس : كل ما يلبس من ثياب ودرع قال الله تعالى وعلمناه صنعة لبوس لكم ولابست فلانا حتى عرفت باطنه وفي فلان ملبس أي مستمتع قال :ألا إن بعد العدم للمرء قنوة وبعد المشيب طول عمر وملبساولبس الكعبة والهودج : ما عليهما من لباس ( بكسر اللام ) .قوله تعالى : " بالباطل " الباطل في كلام العرب خلاف الحق ومعناه الزائل قال لبيد :ألا كل شيء ما خلا الله باطلوبطل الشيء يبطل بطلا وبطولا وبطلانا ذهب ضياعا وخسرا وأبطله غيره ويقال ذهب دمه بطلا أي هدرا والباطل الشيطان والبطل الشجاع سمي بذلك لأنه يبطل شجاعة صاحبه قال النابغةلهم لواء بأيدي ماجد بطل لا يقطع الخرق إلا طرفه ساميوالمرأة بطلة وقد بطل الرجل ( أي بالضم ) يبطل بطولة وبطالة أي صار شجاعا وبطل الأجير ( بالفتح ) بطالة أي تعطل فهو بطال واختلف أهل التأويل في المراد بقوله " الحق بالباطل " فروي عن ابن عباس وغيره لا تخلطوا ما عندكم من الحق في الكتاب بالباطل وهو التغيير والتبديل ، وقال أبو العالية قالت اليهود محمد مبعوث ولكن إلى غيرنا فإقرارهم ببعثه حق وجحدهم أنه بعث إليهم باطل .وقال ابن زيد : المراد بالحق التوراة ، والباطل ما بدلوا فيها من ذكر محمد عليه السلام وغيره .وقال مجاهد لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقاله قتادة ، وقد تقدم .[ ص: 321 ] قلت : وقول ابن عباس أصوب ؛ لأنه عام فيدخل فيه جميع الأقوال والله المستعانقوله تعالى : وتكتموا الحق يجوز أن يكون معطوفا على تلبسوا فيكون مجزوما ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن ، التقدير لا يكن منكم لبس الحق وكتمانه أي وأن تكتموه قال ابن عباس : يعني كتمانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه . وقال محمد بن سيرين نزل عصابة من ولد هارون يثرب لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العدو عليهم والذلة ، وتلك العصابة هم حملة التوراة يومئذ فأقاموا بيثرب يرجون أن يخرج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم وهم مؤمنون مصدقون بنبوته فمضى أولئك الآباء وهم مؤمنون وخلف الأبناء وأبناء الأبناء فأدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم فكفروا به وهم يعرفونه وهو معنى قوله تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا بهقوله تعالى : وأنتم تعلمون جملة في موضع الحال أي أن محمدا عليه السلام حق ، فكفرهم كان كفر عناد ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا ودل هذا على تغليظ الذنب على من واقعه على علم وأنه أعصى من الجاهل ، وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر الآية
Arabic Qurtubi Tafseer
2:42
ثم قال: { وَلَا تَلْبِسُوا } أي: تخلطوا { الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } فنهاهم عن شيئين, عن خلط الحق بالباطل, وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم, تمييز الحق, وإظهار الحق, ليهتدي بذلك المهتدون, ويرجع الضالون, وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته, ليميز الحق من الباطل, ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم, فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم. ومن لبس الحق بالباطل, فلم يميز هذا من هذا, مع علمه بذلك, وكتم الحق الذي يعلمه, وأمر بإظهاره, فهو من دعاة جهنم, لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم, فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.
Arabic Saddi Tafseer
2:42
{ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي لا تخلطوا، يقال: لبس الثوب يلبس لبساً، ولبس عليه الأمر يلبس لبساً أي خلط.يقول: لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم.والأكثرون على أنه أراد: لا تلبسوا الإسلام باليهودية والنصرانية.وقال مقاتل: "إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضاً ليصدقوا في ذلك فقال: ولا تلبسوا الحق الذي تقرون به بالباطل يعني بما تكتمونه".. فالحق: بيانهم، والباطل: كتمانهم.وتكتموا الحق أي لا تكتموه، يعني: نعت محمد صلى الله عليه وسلم.{وأنتم تعلمون} أنه نبي مرسل.
Arabic Baghawy Tafseer
2:42
قال مقاتل قوله تعالى لأهل الكتاب "وأقيموا الصلاة" أمرهم أن يصلوا مع النبي "وآتوا الزكاة" أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم "واركعوا مع الراكعين" أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول كونوا معهم ومنهم وقال علي بن طلحة عن ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله والإخلاص وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله "وآتوا الزكاة" قال: ما يجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعدا وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى "وآتوا الزكاة" قال صدقة الفطر وقوله تعالى "واركعوا مع الراكعين" أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة. وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة وأبسط لك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.
ابن كثير
2:43
وادخلوا في دين الإسلام: بأن تقيموا الصلاة على الوجه الصحيح، كما جاء بها نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتؤدوا الزكاة المفروضة على الوجه المشروع، وتكونوا مع الراكعين من أمته صلى الله عليه وسلم.
المیسر
2:43
أمرٌ بالتلبس بشعار الإسلام عقب الأمر باعتقاد عقيدة الإسلام فقولُه : { وآمنوا بما أنزلت } [ البقرة : 41 ] الآية راجع إلى الإيمان بالنبيء صلى الله عليه وسلم وما هو وسيلة ذلك وما هو غايته ، فالوسيلة { اذْكروا نعمتي إلى فارهبون } [ البقرة : 40 ] والمقصدُ { وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم } ، والغاية { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . وقد تخلل ذلك نهي عن مفاسد تصدهم عن المأمورات مناسباتتٍ للأوامر . فقوله : { وأقيموا الصلاة } إلخ أمر بأعظم القواعد الإسلامية بعد الإيمان والنطق بكلمة الإسلام ، وفيه تعريض بحسن الظن بإجابتهم وامتثالهم للأوامر السالفة وأنهم كملت لهم الأمور المطلوبة . وفي هذا الأمر تعريض بالمنافقين ، ذلك أن الإيمان عقد قلبي لا يدل عليه إلا النطق ، والنطقُ اللساني أمر سهل قد يقتحمه من لم يعتقد إذا لم يكن ذا غلو في دينه فلا يتحرج أن ينطق بكلام يخالف الدين إذا كان غير معتقد مدلوله كما قال تعالى : { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } [ البقرة : 14 ] الآية ، فلذلك أمروا بالصلاة والزكاة لأن الأولى عمل يدل على تعظيم الخالق والسجود إليه وخلع الآلهة ، ومثل هذا الفعل لا يفعله المشرك لأنه يغيظ آلهته بالفعل وبقول الله أكبر ولا يفعله الكتابي لأنه يخالف عبادته ، ولأن الزكاة إنفاق المال وهو عزيز على النفس فلا يبذله المرء في غير ما ينفعه إلا عن اعتقاد نفع أخروي لا سيما إذا كان ذلك المال ينفق على العدو في الدين ، فلذلك عقب الأمر بالإيمان بالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنهما لا يتجشمهما إلا مؤمن صادق . ولذلك جاء في المنافقين { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 142 ] وقوله : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 4 ، 5 ] وفي «الصحيح» أن صلاة العشاء أثقل صلاة على المنافقين .وفي هذه الآية دليل لمالك على قتل من يمتنع من أداء الصلاة مع تحقق أنه لم يؤدها من أول وقت صلاة من الصلوات إلى خروجه إذا كان وقتاً متفقاً بين علماء الإسلام ، لأنه جَعل ذلك الامتناع مع عدم العذر دليلاً على انتفاء إيمانه ، لكنه لما كان مصرحاً بالإيمان قال مالك : إنه يقتل حداً جمعاً بين الأدلة ومنعها لذريعة خرم الملة . ويوشك أن يكون هذا دليلاً لمن قالوا بأن تارك الصلاة كافر لولا الأدلة المعارضة .وفيها دليل لما فعل أبو بكر رضي الله عنه من قتال مانعي الزكاة وإطلاق اسم المرتدين عليهم؛ لأن الله جعل الصلاة والزكاة أمارة صدق الإيمان إذ قال لبني إسرائيل { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ولهذا قال أبو بكر لما راجعه عمر في عزمه على قتال أهل الردة حين منعوا إعطاء الزكاة وقال له : كيف تقاتلهم وقد قالوا : لا إله إلا الله وقد قال رسول الله :« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها » فقال أبو بكر : لآقاتلن من فَرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ، فحصل من عبارته على إيجازها جواب عن دليل عمر .وقوله : { واركعوا مع الراكعين } تأكيد لمعنى الصلاة لأن لليهود صلاة لا ركوع فيها فلكي لا يقولوا إننا نقيم صلاتنا دفع هذا التوهم بقوله : { واركعوا مع الراكعين } .والركوع طأْطأَة وانحناء الظهر لقصد التعظيم أو التبجيل ، وقد كانت العرب تفعله لبعض كبرائهم ، قال الأعشى :إذا مَا أتانا أبو مالك ... رَكَعْنَا له وخَلَعْنا العِمَامه( وروي سجدنا له وخلعنا العمارا ، والعمار هو العمامة ) .وقوله : { مع الراكعين } إيماء إلى وجوب ممثالة المسلمين في أداء شعائر الإسلام المفروضة فالمراد بالراكعين المسلمون وفيه إشارة إلى الإتيان بالصلاة بأركانها وشرائطها .
Arabic Tanweer Tafseer
2:43
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بأصل الدين الذي هو الإِيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية ، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق ، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده ، فقال تعالى : ( وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين ) والمراد بإقامة الصلاة ، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها . والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كالمة غير منقوصة .والمعنى : عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة ، التي هي أعظم العبادات البدنية ، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية ، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله - تعالى - لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيراً لقلوبكم ، وتأليفاً لنفوسكم ، وتزكية لمشاعركم ، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله - تعالى - فسيلحقكم الخزي في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .هذا ، ونرى من المناسب أن نختم تفسير هذه الآيات الكريمة ، وبيان ما اشتملت عليه من توجيه سليم ، وتركيب بليغ ، بما قاله أبو حيان في تفسيره ، فقال قال - رحمه الله - :" وفي هذه الجمل - وإن كانتة معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيباً - ترتيبٌ عيجب من الفصاحة ، وبناء الكلام بعضه على بعض ، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم ، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب طاعته : ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإِيفاء بالعهد ، ثم أمرهم بالخوف من نقمة إن لم يوفوا ، فاكتنف الأمر بالإِيفاء أمر بذكر النعمة والإِحسان ، وأمر بالخوف من العصيان .ثم أعقب ذلك بالأمر بإِيمان خاص وهو ما أنزل من القرآن ، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم ، فليس أمراً مخالفاً لما في أيديهم ، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس ، ثم أمرهم - تعالى - باتقائه ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتم الحق ، فكان الأمر بالإِيمان أمراً بترك الضلال ، والنهي عن لبس الحق بالباطل ، وكتمان الحق تركاً للإِضلال .ولما كان الضلال ناشئاً عن أمرين :إما تمويه الباطل حقاً ، إن كانت الدلائل قد بلغت المستمع ، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه ، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا ، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم ، ثم أمرهم بعد تحصيل الإِيمان ، وإظهار الحق بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، لأن الصلاة آكد العبادات البدنية ، والزكاة آكد العبادات المالية ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له - تعالى - مع جملة الخاضعين الطائعين .فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم ، وما بينهما من تكاليف اعتقادية ، وأفعال بدنية ومالية ، وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإِرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله - تعالى - على سائر الكلام ، وهذه الأوامر والنواهي ، وإن كانت خاصة ببنى إسرائيل في الصورة ، إلا أنها عامة في المعنى ، فيجب على كل مكلف في كل زمان ومكان أن يعمل به " .وبعد كل هذه الأوامر والنواهي ، وبخهم الله - تعالى - وقرعهم على ارتكابهم لأمور لا تصدر عن عاقل . وهي أنهم يأمرون الناس بالخير ولا يفعلونه ، فقال تعالى :( أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:43
القول في تأويل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)قال أبو جعفر: ذُكِر أن أحبارَ اليهود والمنافقين كانوا يأمرون الناس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولا يفعلونه، فأمرهم الله بإقام الصلاة مع المسلمين المصدِّقين بمحمد وبما جاء به، وإيتاء زكاة أموالهم معهم، وأن يخضعوا لله ولرسوله كما خضعوا.839 - كما حُدِّثت عن عمار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله: " وأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة "، قال: فريضتان واجبتان، فأدُّوهما إلى الله (86) .وقد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته (87) .أما إيتاءُ الزكاة، فهو أداء الصدقة المفروضة. وأصل الزَّكاة، نماءُ المال وتثميرُه وزيادتُه. ومن ذلك قيل: زكا الزرع، إذا كثر ما أخرج الله منه. وزَكتِ النَّفقة، إذا كثرتْ. وقيل زكا الفَرْدُ، إذا صارَ زَوْجًا بزيادة الزائد عليه حتى صار به شفْعًا، كما قال الشاعر:كَـانُوا خَسـًا أو زَكـًا مِنْ دُونِ أَرْبَعَةٍلَـمْ يُخْـلَقُوا, وَجُـدُودُ النَّـاسِ تَعْتَلـجُ (88)وقال آخر:فَــلا خَســًا عَدِيــدُهُ وَلا زَكــاكَمَـا شِـرَارُ الْبَقْـلِ أَطْـرَافُ السَّـفَا (89)قال أبو جعفر: السفا شوك البُهْمَى، والبُهْمى الذي يكون مُدَوَّرًا في السُّلاء (90) .يعني بقوله: " ولا زكا "، لم يُصَيِّرْهم شَفعًا من وَترٍ، بحدوثه فيهم (91) .وإنما قيل للزكاة زكاة، وهي مالٌ يخرجُ من مال، لتثمير الله - بإخراجها مما أخرجت منه - ما بقي عند ربِّ المال من ماله. وقد يحتمل أن تكون سُمِّيت زكاة، لأنها تطهيرٌ لما بقي من مال الرجل، وتخليص له من أن تكون فيه مَظْلمة لأهل السُّهْمان (92) ، كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن نبيه موسى صلوات الله عليه: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً [سورة الكهف: 74]، يعني بريئة من الذنوب طاهرة. وكما يقال للرجل: هو عدل زَكِيٌّ - لذلك المعنى (93) . وهذا الوجه أعجب إليّ - في تأويل زكاة المال - من الوجه الأوّل، وإن كان الأوّل مقبولا في تأويلها.وإيتاؤها: إعطاؤُها أهلها.وأما تأويل الرُّكوع، فهو الخضوع لله بالطاعة. يقال منه: ركع فلانٌ لكذا وكذا، إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:بِيعَـتْ بِكَسْـرٍ لَئِـيمٍ وَاسْـتَغَاثَ بِهَـامِـنَ الْهُـزَالِ أَبُوهَـا بَعْـدَ مَـا رَكَعَا (94) &; 1-575 &;يعني: بعد مَا خضَع من شِدَّة الجهْد والحاجة.قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه - لمن ذكر من أحبار بني إسرائيل ومنافقيها - بالإنابة والتوبة إليه، وبإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والدخولِ مع المسلمين في الإسلام، والخضوع له بالطاعة؛ ونهيٌ منه لهم عن كتمان ما قد علموه من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد تظاهر حججه عليهم، بما قد وصفنا قبل فيما مضى من كتابنا هذا، وبعد الإعذار إليهم والإنذارِ، وبعد تذكيرهم نعمه إليهم وإلى أسلافهم تعطُّفًا منه بذلك عليهم، وإبلاغًا في المعذرة (95) .--------------الهوامش :(86) الأثر : 839- لم أجده في مكان .(87) انظر ما مضى ص : 241-242 .(88) اللسان (خسا) ، وفيه : "الفراء : العرب تقول للزوج زكا ، وللفرد خسا . . . قال ، وأنشدتني الدبيرية . . . " وأنشد البيت . وتعتلج : تصطرع ويمارس بعضها بعضا .(89) لرجل من بني سعد ، ثم أحد بني الحارث في عمرو بن كعب بن سعد . وهذا الرجز في خبر للأغلب العجلي ، (طبقات فحول الشعراء : 572 / ومعجم الشعراء : 490 / والأغاني 18 : 164) ورواية الطبقات والأغاني : "كما شرار الرعى" . والرعى (بكسر فسكون) : الكلأ نفسه ، والمرعى أيضًا . والسفا : شوط البهمي والسنبل وكل شيء له شوك . يقول : أنت في قومك كالسفا في البهمي ، هو شرها وأخبثها . والبيت الأول زيادة ليست في المراجع المذكورة .(90) البهمي : من أحرار البقول ، (وهي ما رق منها ورطب وأكل غير مطبوخ) ، تنبت كما ينبت الحب ، ثم يبلغ بها النبت إلى أن تصير مثل الحب ، ترتفع قدر الشبر ، ونباتها ألطف من نبات البر ، وطعمها طعم الشعير ، ويخرج لها إذا يبست شوك مثل شوك السنبل ، (وهو السفا) ، وإذا وقع في أنوف الإبل أنفت منه ، حتى ينزعه الناس من أفواهها وأنوفها . وفي المطبوعة : "في السلى" بتشديد الياء ، وفي المخطوطة"في السلى" بضم السين وتشديد اللام . والصواب ما أثبته ، والسلاء جمع سلاءة ، وهي شوكة النخلة ، وأراد بها سفا البهمي أي شوكها .(91) قوله : "بحدوثه فيهم" ، أي بوجوده في هؤلاء القوم . والعديد (في الرجز) ، من قولهم فلان عديد بني فلان : أي يعد فيهم وليس منهم : يريد أنه إذا دخل في قوم لم يعد فيهم شيئًا ، فإذا كانوا شفعًا ، لم يصيرهم دخوله وترًا ، وإذا كانوا وترًا لم يصيرهم شفعًا ، فهو كلا شيء في العدد . يهجوه ويستسقطه .(92) السهمان جمع سهم ، كالسهام : وهو النصيب والحظ .(93) في المطبوعة : "بذلك المعنى" وليست بشيء .(94) هذا البيت من أبيات لعصام بن عبيد الزماني (من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل) رواها أبو تمام في الوحشيات رقم 130 (مخطوطة عندي) ، ورواها الجاحظ في الحيوان 4 : 281 ، وجاء فيه : "قال الزيادي" وهو تحريف وتصحيف كما ترى . وهذه الأبيات من مناقضة كانت بين الزماني ويحيى بن أبي حفصة . وذلك أن يحيى تزوج بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقري فهاجاه عصام الزماني وقال :أَرَى حَجْـــرًا تغــيَّر واقشــعرَّاوبُــدِّل بعــد حُــلْو العيش مُـرًّافأجابه يحيى بأبيات منها :ألا مَــنْ مُبلــغٌ عنِّــى عِصَامًـابــأَنِّي سَــوْفَ أَنْقُـضُ مَـا أَمـرَّاهكذا روى المرزباني في معجم الشعراء : 270 ، وروى أبو الفرج في أغانيه 10 : 75 أن يحيى خطب إلى مقاتل بن طلبة المنقري ابنته وأختيه ، فأنعم له بذلك . فبعث يحيى إلى بنيه سليمان وعمر وجميل ، فأتوه فزوجهن بنيه الثلاثة ، ودخلوا بهن ثم حملوهن إلى حجر ، (وهو مكان) .وأبيات عصام الزماني ، ونقيضتها التي ناقضه بها يحيى ، من جيد الشعر ، فاقرأها في الوحشيات ، والحيوان ، والشعر والشعراء : 740 ، ورواية الحيوان والوحشيات"بِيعَتْ بـوَكْسٍ قَليـلٍ واسْـتَقَلَّ بِهَـا"الوكس : اتضاع الثمن في البيع . وفي المخطوطة والمطبوعة"بكسر لئيم" ، وهو تحريف لا معنى له ، وأظن الصواب ما أثبت اجتهادًا . والكسر : أخس القليل . وقوله : "بيعت" الضمير لابنة مقاتل بن طلبة المنقري التي تزوجها يحيى أو أحد بنيه . يقول : باعها أبوها بثمن بخس دنئ خسيس ، فزوجها مستغيثًا ببيعها مما نزل به من الجهد والفاقة ، فزوجها هذا الغنى اللئيم الدنيء ، ليستعين بمهرها .(95) في المطبوعة : "وإبلاغا إليهم . . . " بالزيادة .
الطبري
2:43
قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعينفيه أربع وثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : وأقيموا الصلاة أمر معناه الوجوب ولا خلاف فيه ، وقد تقدم القول في معنى إقامة الصلاة واشتقاقها وفي جملة من أحكامها ، والحمد لله .الثانية : قوله تعالى : وآتوا الزكاة أمر أيضا يقتضي الوجوب والإيتاء الإعطاء آتيته أعطيته قال الله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن وأتيته بالقصر من غير مد جئته فإذا كان المجيء بمعنى الاستقبال مد ومنه الحديث ( ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه ) وسيأتي .الثالثة : الزكاة مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد يقال زكا الزرع والمال يزكو إذا كثر وزاد ورجل زكي أي زائد الخير وسمي الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي ويقال زرع زاك بين الزكاء وزكأت الناقة [ ص: 322 ] بولدها تزكأ به إذا رمت به من بين رجليها وزكا الفرد إذا صار زوجا بزيادة الزائد عليه حتى صار شفعا قال الشاعركانوا خسا أو زكا من دون أربعة لم يخلقوا وجدود الناس تعتلججمع جد وهو الحظ والبخت تعتلج أي ترتفع اعتلجت الأرض طال نباتها فخسا الفرد ، وزكا الزوج .وقيل : أصلها الثناء الجميل ومنه زكى القاضي الشاهد فكأن من يخرج الزكاة يحصل لنفسه الثناء الجميل ، وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير كما يقال : زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة والإغفال ' فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما يخرج من الزكاة أوساخ الناس ، وقد قال تعالى خذ من أموالهم صدقه تطهرهم وتزكيهم بها .الرابعة : واختلف في المراد بالزكاة هنا فقيل الزكاة المفروضة ؛ لمقارنتها بالصلاة ، وقيل صدقة الفطر قاله مالك في سماع ابن القاسم .قلت : فعلى الأول وهو قول أكثر العلماء - فالزكاة في الكتاب مجملة بينها النبي صلى الله عليه وسلم فروى الأئمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق ولا فيما دون خمس ذود صدقة ولا فيما دون خمس أواق صدقة وقال البخاري ( خمس أواق من الورق ) وروى البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر وسيأتي بيان هذا الباب في " الأنعام " إن شاء الله تعالى ويأتي في " براءة " زكاة العين والماشية وبيان المال الذي لا يؤخذ منه زكاة عند قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وأما زكاة الفطر فليس لها في الكتاب نص عليها إلا ما تأوله مالك هنا ، وقوله تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى والمفسرون يذكرون الكلام عليها في سورة " الأعلى " ، ورأيت الكلام عليها [ ص: 323 ] في هذه السورة عند كلامنا على آي الصيام ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر في رمضان ، الحديث . وسيأتي فأضافها إلى رمضان .الخامسة : قوله تعالى : واركعوا الركوع في اللغة الانحناء بالشخص وكل منحن راكع . قال لبيد :أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكعوقال ابن دريد : الركعة الهوة في الأرض لغة يمانية وقيل الانحناء يعم الركوع والسجود ويستعار أيضا في الانحطاط في المنزلة . قالولا تعاد الضعيف علك أن تركع يوما والدهر قد رفعهالسادسة : واختلف الناس في تخصيص الركوع بالذكر فقال قوم جعل الركوع ؛ لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة .قلت : وهذا ليس مختصا بالركوع وحده ، فقد جعل الشرع القراءة عبارة عن الصلاة والسجود عبارة عن الركعة بكمالها فقال وقرآن الفجر أي صلاة الفجر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة . وأهل الحجاز يطلقون على الركعة سجدة وقيل إنما خص الركوع بالذكر ؛ لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع وقيل : لأنه كان أثقل على القوم في الجاهلية حتى لقد قال بعض من أسلم - أظنه عمران بن حصين - للنبي صلى الله عليه وسلم : على ألا أخر إلا قائما . فمن تأويله على ألا أركع ، فلما تمكن الإسلام من قلبه اطمأنت بذلك نفسه وامتثل ما أمر به من الركوع .السابعة : الركوع الشرعي هو أن يحني الرجل صلبه ويمد ظهره وعنقه ويفتح أصابع يديه ويقبض على ركبتيه ثم يطمئن راكعا يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا وذلك أدناه . روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب " الحمد لله رب [ ص: 324 ] العالمين " وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك . وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره الحديث .الثامنة : الركوع فرض ، قرآنا وسنة ، وكذلك السجود لقوله تعالى في آخر الحج اركعوا واسجدوا . وزادت السنة الطمأنينة فيهما والفصل بينهما وقد تقدم القول في ذلك وبينا صفة الركوع آنفا وأما السجود فقد جاء مبينا من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض ونحى يديه عن جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه . خرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . وروى مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب . وعن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك . وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى بيديه - يعني جنح حتى يرى وضح إبطيه من ورائه - وإذا قعد اطمأن على فخذه اليسرى .التاسعة : واختلف العلماء فيمن وضع جبهته في السجود دون أنفه أو أنفه دون جبهته ، فقال مالك : يسجد على جبهته وأنفه ، وبه قال الثوري وأحمد ، وهو قول النخعي . قال أحمد : لا يجزئه السجود على أحدهما دون الآخر ، وبه قال أبو خيثمة وابن أبي شيبة . قال إسحاق : إن [ ص: 325 ] سجد على أحدهما دون الآخر فصلاته فاسدة . وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، كلهم أمر بالسجود على الأنف . وقالت طائفة : يجزئ أن يسجد على جبهته دون أنفه ، هذا قول عطاء وطاوس وعكرمة وابن سيرين والحسن البصري ، وبه قال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد . قال ابن المنذر : وقال قائل : إن وضع جبهته ولم يضع أنفه أو وضع أنفه ولم يضع جبهته فقد أساء ، وصلاته تامة ، هذا قولالنعمان . قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا سبقه إلى هذا القول ولا تابعه عليه .قلت : الصحيح في السجود وضع الجبهة والأنف ، لحديث أبي حميد ، وقد تقدم . وروى البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر . وهذا كله بيان لمجمل الصلاة فتعين القول به والله أعلم وروي عن مالك أنه يجزيه أن يسجد على جبهته دون أنفه ، كقول عطاء والشافعي والمختار عندنا قوله الأول ولا يجزئ عند مالك إذا لم يسجد على جبهته .العاشرة : ويكره السجود على كور العمامة ، وإن كان طاقة أو طاقتين مثل الثياب التي تستر الركب والقدمين فلا بأس ، والأفضل مباشرة الأرض أو ما يسجد عليه فإن كان هناك ما يؤذيه أزاله قبل دخوله في الصلاة ، فإن لم يفعل فليمسحه مسحة واحدة . وروى مسلم عن معيقيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال ( إن كنت فاعلا فواحدة ) وروي عن أنس بن مالك قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه .الحادية عشرة : لما قال تعالى : اركعوا واسجدوا قال بعض علمائنا وغيرهم يكفي منها ما يسمى ركوعا وسجودا ، وكذلك من القيام ولم يشترطوا الطمأنينة في ذلك فأخذوا بأقل الاسم في ذلك وكأنهم لم يسمعوا الأحاديث الثابتة في إلغاء الصلاة قال ابن عبد البر : ولا يجزي ركوع ولا سجود ولا وقوف بعد الركوع ولا جلوس بين السجدتين حتى يعتدل [ ص: 326 ] راكعا وواقفا وساجدا وجالسا . وهو الصحيح في الأثر وعليه جمهور العلماء وأهل النظر وهي رواية ابن وهب وأبي مصعب عن مالك . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم وغيره بوجوب الفصل وسقوط الطمأنينة وهو وهم عظيم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها وعلمها . فإن كان لابن القاسم عذر أن كان لم يطلع عليها فما لكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم روى النسائي والدارقطني وعلي بن عبد العزيز عن رفاعة بن رافع قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد فصلى ، فلما قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجع فصل فإنك لم تصل وجعل يصلي وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها فلما جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وعليك ارجع فصل فإنك لم تصل قال همام فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الرجل ما ألوت فلا أدري ما عبت علي من صلاتي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم إنه لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله تعالى ويثني عليه ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه وتيسر ثم يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ويستوي قائما حتى يقيم صلبه ويأخذ كل عظم مأخوذه ثم يكبر فيسجد فيمكن وجهه قال همام وربما قال جبهته من الأرض حتى تطمئن مفاصله ويسترخي ثم يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك . ومثله حديث أبي هريرة خرجه مسلم وقد تقدم .قلت : فهذا بيان الصلاة المجملة في الكتاب بتعليم النبي عليه السلام وتبليغه إياها جميع الأنام فمن لم يقف عند هذا البيان وأخل بما فرض عليه الرحمن ولم يمتثل ما بلغه عن نبيه عليه السلام كان من جملة من دخل في قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى روى البخاري عن زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع ولا السجود فقال ما صليت ولو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم .الثانية عشرة : قوله تعالى : مع الراكعين مع تقتضي المعية والجمعية ولهذا قال [ ص: 327 ] جماعة من أهل التأويل بالقرآن إن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود الجماعة فأمرهم بقوله مع شهود الجماعة وقد اختلف العلماء في شهود الجماعة على قولين فالذي عليه الجمهور أن ذلك من السنن المؤكدة ويجب على من أدمن التخلف عنها من غير عذر العقوبة وقد أوجبها بعض أهل العلم فرضا على الكفاية قال ابن عبد البر وهذا قول صحيح لإجماعهم على أنه لا يجوز أن يجتمع على تعطيل المساجد كلها من الجماعات فإذا قامت الجماعة في المسجد فصلاة المنفرد في بيته جائزة لقوله عليه السلام صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة أخرجه مسلم من حديث ابن عمر وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءا . وقال داود الصلاة في الجماعة فرض على كل أحد في خاصته كالجمعة واحتج بقوله عليه السلام : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبد الحق ، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنبل وأبي ثور وغيرهم . وقال الشافعي : لا أرخص لمن قدر على الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر حكاه ابن المنذر وروى مسلم عن أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم قال فأجب وقال أبو داود في هذا الحديث لا أجد لك رخصة . خرجه من حديث ابن أم مكتوم وذكر أنه كان هو السائل وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال [ ص: 328 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع النداء فلم يمنعه من إتيانه عذر قالوا وما العذر قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلىقال أبو محمد عبد الحق : هذا يرويه مغراء العبدي والصحيح موقوف على ابن عباس من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له على أن قاسم بن أصبغ ذكره في كتابه فقال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر وحسبك بهذا الإسناد صحة . ومغراء العبدي روى عنه أبو إسحاق وقال ابن مسعود ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق وقال عليه السلام بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما قال ابن المنذر ولقد روينا عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له منهم ابن مسعود وأبو موسى الأشعري وروى أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا حزما من حطب ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست لهم علة فأحرقها عليهم هذا ما احتج به من أوجب الصلاة في الجماعة فرضا وهي ظاهرة في الوجوب وحملها الجمهور على تأكيد أمر شهود الصلوات في الجماعة بدليل حديث ابن عمر وأبي هريرة وحملوا قول الصحابة وما جاء في الحديث من أنه ( لا صلاة له ) على الكمال والفضل وكذلك [ ص: 329 ] قوله عليه السلام لابن أم مكتوم ( فأجب ) على الندب . وقوله عليه السلام ( لقد هممت ) لا يدل على الوجوب الحتم ؛ لأنه هم ولم يفعل وإنما مخرجه مخرج التهديد والوعيد للمنافقين الذين كانوا يتخلفون عن الجماعة والجمعة يبين هذا المعنى ما رواه مسلم عن عبد الله قال ( من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف ) . فبين رضي الله عنه في حديثه أن الاجتماع سنة من سنن الهدى وتركه ضلال ، ولهذا قال القاضي أبو الفضل عياض : اختلف في التمالؤ على ترك ظاهر السنن ، هل يقاتل عليها أو لا ، والصحيح قتالهم ; لأن في التمالؤ عليها إماتتها .قلت : فعلى هذا إذا أقيمت السنة وظهرت جازت صلاة المنفرد وصحت روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه . قيل لأبي هريرة : ما يحدث ؟ قال : يفسو أو يضرط .الثالثة عشرة : واختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة هل لأجل الجماعة فقط حيث كانت أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد لما يلازم ذلك من أفعال تختص بالمساجد كما جاء في الحديث ، قولان والأول أظهر ؛ لأن الجماعة هو [ ص: 330 ] الوصف الذي علق عليه الحكم والله أعلم وما كان من إكثار الخطى إلى المساجد وقصد الإتيان إليها والمكث فيها فذلك زيادة ثواب خارج عن فضل الجماعة والله أعلم .الرابعة عشرة : واختلفوا أيضا هل تفضل جماعة جماعة بالكثرة وفضيلة الإمام فقال مالك : لا وقال ابن حبيب : نعم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلى الله رواه أبي بن كعب وأخرجه أبو داود وفي إسناده لين .الخامسة عشرة : واختلفوا أيضا فيمن صلى في جماعة هل يعيد صلاته تلك في جماعة أخرى فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إنما يعيد الصلاة في جماعة مع الإمام من صلى وحده في بيته وأهله أو في غير بيته وأما من صلى في جماعة وإن قلت فإنه لا يعيد في جماعة أكثر منها ولا أقل وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي جائز لمن صلى في جماعة ووجد أخرى في تلك الصلاة أن يعيدها معهم إن شاء ؛ لأنها نافلة وسنة وروي ذلك عن حذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وصلة بن زفر والشعبي والنخعي وبه قال حماد بن زيد وسليمان بن حرب .احتج مالك بقوله صلى الله عليه وسلم لا تصلى صلاة في يوم مرتين ومنهم من يقول لا تصلوا رواه سليمان بن يسار عن ابن عمر واتفق أحمد وإسحاق على أن معنى هذا الحديث أن يصلي الإنسان الفريضة ثم يقوم فيصليها ثانية ينوي بها الفرض مرة أخرى فأما إذا صلاها مع الإمام على أنها سنة أو تطوع فليس بإعادة الصلاة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذين أمرهم بإعادة الصلاة في جماعة ( إنها لكم نافلة ) من حديث أبي ذر وغيره .السادسة عشرة : روى مسلم عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة [ ص: 331 ] فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه وفي رواية ( سنا ) مكان ( سلما ) وأخرجه أبو داود وقال قال شعبة فقلت لإسماعيل ما تكرمته قال فراشه وأخرجه الترمذي وقال حديث أبي مسعود حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم .قالوا : أحق الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة وقالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة وقال بعضهم إذا أذن صاحب المنزل لغيره فلا بأس أن يصلي به وكرهه بعضهم ، وقالوا السنة أن يصلي صاحب البيت قال ابن المنذر روينا عن الأشعث بن قيس أنه قدم غلاما وقال إنما أقدم القرآن وممن قال يؤم القوم أقرؤهم ابن سيرين والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : بهذا نقول ؛ لأنه موافق للسنة وقال مالك يتقدم القوم أعلمهم إذا كانت حاله حسنة وإن للسن حقا ، وقال الأوزاعي يؤمهم أفقههم وكذلك قال الشافعي وأبو ثور إذا كان يقرأ القرآن وذلك ؛ لأن الفقيه أعرف بما ينوبه من الحوادث في الصلاة وتأولوا الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان الأفقه ؛ لأنهم كانوا يتفقهون في القرآن ، وقد كان من عرفهم الغالب تسميتهم الفقهاء بالقراء واستدلوا بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أبا بكر لفضله وعلمه وقال إسحاق إنما قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ليدل على أنه خليفته بعده ذكره أبو عمر في التمهيد وروى أبو بكر البزار بإسناد حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافرتم فليؤمكم أقرؤكم وإن كان أصغركم وإذا أمكم فهو أميركم قال لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية أبي هريرة بهذا الإسناد .قلت : إمامة الصغير جائزة إذا كان قارئا ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن [ ص: 332 ] سلمة قال كنا بماء ممر الناس وكان يمر بنا الركبان فنسألهم ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون يزعم أن الله أرسله أوحى إليه كذا أوحى إليه كذا فكنت أحفظ ذلك الكلام فكأنما يقر في صدري وكانت العرب تلوم بإسلامها فيقولون اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال جئتكم والله من عند نبي الله حقا ، قال : صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا . فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين وكانت علي بردة إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي ألا تغطون عنا است قارئكم فاشتروا فقطعوا لي قميصا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص وممن أجاز إمامة الصبي غير البالغ الحسن البصري وإسحاق بن راهويه واختاره ابن المنذر إذا عقل الصلاة وقام بها لدخوله في جملة قوله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم ولم يستثن ولحديث عمرو بن سلمة وقال الشافعي في أحد قوليه يؤم في سائر الصلوات ولا يؤم في الجمعة وقد كان قبل يقول ومن أجزأت إمامته في المكتوبة أجزأت إمامته في الأعياد غير أني أكره فيها إمامة غير الوالي وقال الأوزاعي : لا يؤم الغلام في الصلاة المكتوبة حتى يحتلم إلا أن يكون قوم ليس معهم من القرآن شيء فإنه يؤمهم الغلام المراهق وقال الزهري إن اضطروا إليه أمهم ومنع ذلك جملة مالك والثوري وأصحاب الرأي .السابعة عشرة : الائتمام بكل إمام بالغ مسلم حر على استقامة جائز من غير خلاف إذا كان يعلم حدود الصلاة ولم يكن يلحن في أم القرآن لحنا يخل بالمعنى مثل أن يكسر الكاف من إياك نعبد ويضم التاء في أنعمت ومنهم من راعى تفريق الطاء من الضاد وإن لم يفرق بينهما لا تصح إمامته ؛ لأن معناهما يختلف ومنهم من رخص في ذلك كله إذا كان جاهلا بالقراءة وأم مثله ولا يجوز الائتمام بامرأة ولا خنثى مشكل ولا كافر ولا مجنون ولا أمي ولا يكون واحد من هؤلاء إماما بحال من الأحوال عند أكثر العلماء على ما يأتي ذكره إلا الأمي لمثله قال علماؤنا : لا تصح إمامة الأمي الذي لا يحسن القراءة مع حضور القارئ له ولا لغيره ، وكذلك قال الشافعي فإن أم أميا مثله صحت صلاتهم عندنا وعند الشافعي وقال أبو حنيفة إذا صلى الأمي بقوم يقرءون وبقوم أميين فصلاتهم كلهم فاسدة . وخالفه أبو [ ص: 333 ] يوسف فقال صلاة الإمام ومن لا يقرأ تامة وقالت فرقة صلاتهم كلهم جائزة ؛ لأن كلا مؤد فرضه وذلك مثل المتيمم يصلي بالمتطهرين بالماء والمصلي قاعدا يصلي بقوم قيام صلاتهم مجزئة في قول من خالفنا ؛ لأن كلا مؤد فرض نفسه .قلت : وقد يحتج لهذا القول بقوله عليه السلام ألا ينظر المصلي [ إذا صلى ] كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه أخرجه مسلم وإن صلاة المأموم ليست مرتبطة بصلاة الإمام والله أعلم وكان عطاء بن أبي رباح يقول إذا كانت امرأته تقرأ كبر هو وتقرأ هي فإذا فرغت من القراءة كبر وركع وسجد وهي خلفه تصلي وروي هذا المعنى عن قتادة .الثامنة عشرة : ولا بأس بإمامة الأعمى والأعرج والأشل والأقطع والخصي والعبد إذا كان كل واحد منهم عالما بالصلاة وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل ؛ لأنه منتقص عن درجة الكمال وكرهت إمامته لأجل النقص وخالفه جمهور أصحابه وهو الصحيح ؛ لأنه عضو لا يمنع فقده فرضا من فروض الصلاة فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعين وقد روى أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى ، ) وكذا الأعرج والأقطع والأشل والخصي قياسا ونظرا والله أعلم وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال في الأعمى : ( وما حاجتهم إليه ؟ ! وكان ابن عباس وعتبان بن مالك يؤمان وكلاهما أعمى ، ) وعليه عامة العلماء .التاسعة عشرة : واختلفوا في إمامة ولد الزنى فقال مالك أكره أن يكون إماما راتبا وكره ذلك عمر بن عبد العزيز وكان عطاء بن أبي رباح يقول له أن يؤم إذا كان مرضيا ، وهو قول الحسن البصري والزهري والنخعي وسفيان الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وتجزئ الصلاة خلفه عند أصحاب الرأي ، وغيره أحب إليهم وقال الشافعي : أكره أن ينصب إماما راتبا من لا يعرف أبوه ومن صلى خلفه أجزأه وقال عيسى بن دينار لا أقول بقول مالك في إمامة ولد الزنى وليس عليه من ذنب أبويه شيء ونحوه قال ابن عبد الحكم إذا كان في نفسه أهلا للإمامة قال ابن المنذر يؤم لدخوله في جملة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم وقال أبو عمر ليس في شيء من الآثار الواردة في شرط الإمامة ما يدل على مراعاة نسب وإنما فيها الدلالة على الفقه والقراءة والصلاح في الدين .الموفية عشرين : وأما العبد فروى البخاري عن ابن عمر قال : ( لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضع بقباء قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنا . ) وعنه قال : ( كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر وزيد وعامر بن ربيعة وكانت عائشة يؤمها عبدها ذكوان من المصحف . ) قال ابن المنذر وأم أبو سعيد مولى أبي أسيد ، وهو عبد نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حذيفة وأبو مسعود .ورخص في إمامة العبد النخعي والشعبي والحسن البصري والحكم والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي وكره ذلك أبو مجلز وقال مالك لا يؤمهم إلا أن يكون العبد قارئا ومن معه من الأحرار لا يقرءون إلا أن يكون في عيد أو جمعة فإن العبد لا يؤمهم فيها ويجزئ عند الأوزاعي إن صلوا وراءه قال ابن المنذر العبد داخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم يؤم القوم أقرؤهم .الحادية والعشرون : وأما المرأة فروى البخاري عن أبي بكرة قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة وذكر أبو داود عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت عبد الله قال : ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها في بيتها قال وجعل لها مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها ) قال عبد الرحمن ( فأنا رأيت مؤذنها شيخا كبيرا ) قال ابن المنذر : والشافعي يوجب الإعادة على من صلى من الرجال خلف المرأة وقال أبو ثور لا إعادة عليهم وهذا قياس قول المزني .قلت : وقال علماؤنا : لا تصح إمامتها للرجال ولا للنساء وروى ابن أيمن جواز إمامتها [ ص: 335 ] للنساء . وأما الخنثى المشكل فقال الشافعي : لا يؤم الرجال ويؤم النساء . وقال مالك : لا يكون إماما بحال ، وهو قول أكثر الفقهاء .الثانية والعشرون : الكافر المخالف للشرع كاليهودي والنصراني يؤم المسلمين وهم لا يعلمون بكفره . وكان الشافعي وأحمد يقولان : لا يجزئهم ويعيدون وقاله مالك وأصحابه ؛ لأنه ليس من أهل القربة . وقال الأوزاعي : يعاقب . وقال أبو ثور والمزني لا إعادة على من صلى خلفه ولا يكون بصلاته مسلما عند الشافعي وأبي ثور . وقال أحمد : يجبر على الإسلام .الثالثة والعشرون : وأما أهل البدع من أهل الأهواء كالمعتزلة والجهمية وغيرهما فذكر البخاري عن الحسن : صل وعليه بدعته . وقال أحمد : لا يصلى خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعية إلى هواه وقال مالك : ويصلى خلف أئمة الجور ، ولا يصلى خلف أهل البدع من القدرية وغيرهم . وقال ابن المنذر : كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة ولا يجوز تقديم من هذه صفته .الرابعة والعشرون : وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر ونحو ذلك فاختلف المذهب فيه فقال ابن حبيب من صلى وراء من شرب الخمر فإنه يعيد أبدا إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذ سكران قاله من لقيت من أصحاب مالك ، وروي من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا ولا يؤمن فاجر برا إلا أن يكون ذلك ذا سلطان قال أبو محمد عبد الحق : هذا يرويه علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب والأكثر يضعف علي بن زيد وروى الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن سركم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم في إسناده أبو الوليد خالد بن إسماعيل المخزومي وهو ضعيف قاله الدارقطني وقال فيه أبو أحمد بن عدي كان يضع الحديث على ثقات المسلمين وحديثه هذا يرويه عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وذكر الدارقطني عن سلام بن سليمان عن عمر عن محمد بن واسع عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفد فيما بينكم وبين الله قال الدارقطني عمر هذا هو عندي عمر بن يزيد قاضي المدائن وسلام بن سليمان أيضا مدائني ليس بالقوي قاله عبد الحق .الخامسة والعشرون : روى الأئمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون .وقد اختلف العلماء فيمن ركع أو خفض قبل الإمام عامدا على قولين : أحدهما : أن صلاته فاسدة إن فعل ذلك فيها كلها أو في أكثرها وهو قول أهل الظاهر وروي عن ابن عمر . ذكر سنيد قال : حدثنا ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الورد الأنصاري قال صليت إلى جنب ابن عمر فجعلت أرفع قبل الإمام وأضع قبله فلما سلم الإمام أخذ ابن عمر بيدي فلواني وجذبني فقلت ما لك ؟ ! قال من أنت ؟ قلت : فلان بن فلان قال أنت من أهل بيت صدق فما يمنعك أن تصلي قلت : أوما رأيتني إلى جنبك قال قد رأيتك ترفع قبل الإمام وتضع قبله وإنه ( لا صلاة لمن خالف الإمام ) . وقال الحسن بن حي فيمن ركع أو سجد قبل الإمام ثم رفع من ركوعه أو سجوده قبل أن يركع الإمام أو يسجد لم يعتد بذلك ولم يجزه ، وقال أكثر الفقهاء من فعل ذلك فقد أساء ، ولم تفسد صلاته ؛ لأن الأصل في صلاة الجماعة والائتمام فيها بالأئمة سنة حسنة فمن خالفها بعد أن أدى فرض صلاته بطهارتها وركوعها وسجودها وفرائضها فليس عليه إعادتها وإن أسقط بعض سننها ؛ لأنه لو شاء أن ينفرد فصلى قبل إمامه تلك الصلاة أجزأت عنه وبئس ما فعل في تركه الجماعة قالوا ومن دخل في صلاة الإمام فركع بركوعه وسجد بسجوده ولم يكن في ركعة وإمامه في أخرى فقد اقتدى وإن كان يرفع قبله ويخفض قبله ؛ لأنه بركوعه يركع وبسجوده يسجد ويرفع ، وهو في ذلك تبع له إلا أنه مسيء في فعله ذلك لخلافه سنة المأموم المجتمع عليها .قلت : ما حكاه ابن عبد البر عن الجمهور ينبئ على أن صلاة المأموم عندهم غير مرتبطة بصلاة الإمام ؛ لأن الاتباع الحسي والشرعي مفقود وليس الأمر هكذا عند أكثرهم والصحيح في الأثر والنظر القول الأول فإن الإمام إنما جعل ليؤتم به ويقتدى به بأفعاله ومنه قوله تعالى إني جاعلك للناس إماما أي يأتمون بك على ما يأتي بيانه .هذا حقيقة الإمام لغة وشرعا فمن خالف إمامه لم يتبعه ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين فقال ( إذا كبر فكبروا ) الحديث فأتى بالفاء التي توجب التعقيب وهو المبين عن الله مراده ثم [ ص: 337 ] أوعد من رفع أو ركع قبل وعيدا شديدا فقال أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو صورته صورة حمار أخرجه الموطأ والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم ، وقال أبو هريرة إنما ناصيته بيد شيطان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد يعني مردودا فمن تعمد خلاف إمامه عالما بأنه مأمور باتباعه منهي عن مخالفته فقد استخف بصلاته وخالف ما أمر به فواجب ألا تجزئ عنه صلاته تلك والله أعلم .السادسة والعشرون : فإن رفع رأسه ساهيا قبل الإمام فقال مالك رحمه الله : السنة فيمن سها ففعل ذلك في ركوع أو في سجود أن يرجع راكعا أو ساجدا وينتظر الإمام وذلك خطأ ممن فعله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه قال ابن عبد البر ظاهر قول مالك هذا لا يوجب الإعادة على فعله عامدا لقوله " وذلك خطأ ممن فعله " ؛ لأن الساهي الإثم عنه موضوع .السابعة والعشرون : وهذا الخلاف إنما هو فيما عدا تكبيرة الإحرام والسلام أما السلام فقد تقدم القول فيه وأما تكبيرة الإحرام فالجمهور على أن تكبير المأموم لا يكون إلا بعد تكبير الإمام إلا ما روي عن الشافعي في أحد قوليه أنه إن كبر قبل إمامه تكبيرة الإحرام أجزأت عنه لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة فلما كبر انصرف وأومأ إليهم أي كما أنتم ثم خرج ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم فلما انصرف قال : إني كنت جنبا فنسيت أن أغتسل ومن حديث أنس ( فكبر وكبرنا معه ) وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : ولا جنبا في " النساء " إن شاء الله تعالى .الثامنة والعشرون : وروى مسلم عن أبي مسعود قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال أبو مسعود ( فأنتم اليوم أشد اختلافا ) . زاد من حديث عبد الله وإياكم وهيشات الأسواق . وقوله ( استووا ) أمر بتسوية الصفوف وخاصة الصف الأول وهو الذي يلي الإمام على ما يأتي بيانه في سورة " الحجر " إن شاء الله تعالى وهناك يأتي الكلام على معنى هذا الحديث بحول الله تعالى .التاسعة والعشرون : واختلف العلماء في كيفية الجلوس في الصلاة لاختلاف الآثار في ذلك فقال مالك وأصحابه : يفضي المصلي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى ، لما رواه في موطئه عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد ( أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ) ، ثم قال : أراني هذا عبد الله بن عمر وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك .قلت : وهذا المعنى قد جاء في صحيح مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب " ( " الحمد لله رب العالمين ) ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك ، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما ، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا ، وكان يقول في كل ركعتين التحية ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ، وكان ينهى عن عقبة الشيطان ، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع ، وكان يختم الصلاة بالتسليم .[ ص: 339 ] قلت : ولهذا الحديث - والله أعلم - قال ابن عمر : إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح بن حي ( ينصب اليمنى ويعقد على اليسرى ) ، لحديث وائل بن حجر ، وكذلك قال الشافعي وأحمد وإسحاق في الجلسة الوسطى . وقالوا في الآخرة من الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء كقول مالك لحديث أبي حميد الساعدي رواه البخاري قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب الأخرى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته . قال الطبري إن فعل هذا فحسن كل ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .الموفية الثلاثين : مالك عن مسلم بن أبي مريم عن علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال : رآني عبد الله بن عمر وأنا أعبث بالحصباء في الصلاة ، فلما انصرف نهاني فقال اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع قلت وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قال : كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعه كلها وأشار بأصبعه التي تلي الإبهامووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى وقال : هكذا كان يفعل . قال ابن عبد البر : ( وما وصفه ابن عمر من وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده تلك كلها إلا السبابة منها فإنه يشير بها ، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى مفتوحة مفروجة الأصابع ، كل ذلك سنة في الجلوس في الصلاة مجمع عليه ولا خلاف علمته بين العلماء فيها وحسبك بهذا . إلا أنهم اختلفوا في تحريك أصبعه السبابة فمنهم من رأى تحريكها ومنهم من لم يره وكل ذلك مروي في الآثار الصحاح المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجميعه مباح والحمد لله وروى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن مسلم بن أبي مريم بمعنى ما رواه مالك وزاد فيه : قال [ ص: 340 ] سفيان : وكان يحيى بن سعيد حدثناه عن مسلم ثم لقيته فسمعته منه وزادني فيه قال هي مذبة الشيطان لا يسهو أحدكم ما دام يشير بإصبعه ويقول هكذا .قلت : روى أبو داود في حديث ابن الزبير أنه عليه السلام ( كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها ) وإلى هذا ذهب بعض العراقيين فمنع من تحريكها ، وبعض علمائنا رأوا أن مدها إشارة إلى دوام التوحيد وذهب أكثر العلماء من أصحاب مالك وغيرهم إلى تحريكها إلا أنهم اختلفوا في الموالاة بالتحريك على قولين ، تأول من والاه بأن قال : إن ذلك يذكر بموالاة الحضور في الصلاة ، وبأنها مقمعة ومدفعة للشيطان على ما روى سفيان ، ومن لم يوال رأى تحريكها عند التلفظ بكلمتي الشهادة وتأول في الحركة كأنها نطق بتلك الجارحة بالتوحيد والله أعلم .الحادية والثلاثون : واختلفوا في جلوس المرأة في الصلاة فقال مالك هي كالرجل ولا تخالفه فيما بعد الإحرام إلا في اللباس والجهر وقال الثوري تسدل المرأة جلبابها من جانب واحد ورواه عن إبراهيم النخعي وقال أبو حنيفة وأصحابه تجلس المرأة كأيسر ما يكون لها وهو قول الشعبي تقعد كيف تيسر لها وقال الشافعي تجلس بأستر ما يكون لها .الثانية والثلاثون : روى مسلم عن طاوس قال قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين ، فقال : ( هي السنة فقلنا له إنا لنراه جفاء بالرجل فقال ابن عباس بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ) وقد اختلف العلماء في صفة الإقعاء فقال أبو عبيد : ( الإقعاء جلوس [ ص: 341 ] الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ) قال ابن عبد البر وهذا إقعاء مجتمع عليه لا يختلف العلماء فيه وهذا تفسير أهل اللغة وطائفة من أهل الفقه وقال أبو عبيد ، وأما أهل الحديث فإنهم يجعلون الإقعاء أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين قال القاضي عياض والأشبه عندي في تأويل الإقعاء الذي قال فيه ابن عباس إنه من السنة الذي فسر به الفقهاء من وضع الأليتين على العقبين بين السجدتين وكذا جاء مفسرا عن ابن عباس من السنة أن تمس عقبك أليتك رواه إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عنه ذكره أبو عمر قال القاضي وقد روي عن جماعة من السلف والصحابة أنهم كانوا يفعلونه ، ولم يقل بذلك عامة فقهاء الأمصار وسموه إقعاء . ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أنه رأى ابن عمر وابن عباس وابن الزبير يقعون بين السجدتين .الثالثة والثلاثون : لم يختلف من قال من العلماء بوجوب التسليم وبعدم وجوبه أن التسليمة الثانية ليست بفرض ، إلا ما روي عن الحسن بن حي أنه أوجب التسليمتين معا . قال أبو جعفر الطحاوي : لم نجد عن أحد من أهل العلم الذين ذهبوا إلى التسليمتين أن الثانية من فرائضها غيره . قال ابن عبد البر : من حجة الحسن بن صالح في إيجابه التسليمتين جميعا - وقوله : إن من أحدث بعد الأولى ، وقبل الثانية فسدت صلاته - قوله صلى الله عليه وسلم : ( تحليلها التسليم ) . ثم بين كيف التسليم فكان يسلم عن يمينه وعن يساره . ومن حجة من أوجب التسليمة الواحدة دون الثانية قوله صلى الله عليه وسلم : ( تحليلها التسليم ) قالوا : والتسليمة الواحدة يقع عليها اسم تسليم .قلت : هذه المسألة مبنية على الأخذ بأقل الاسم أو بآخره ، ولما كان الدخول في الصلاة بتكبيرة واحدة بإجماع فكذلك الخروج منها بتسليمة واحدة ، إلا أنه تواردت السنن الثابتة من حديث ابن مسعود - وهو أكثرها تواترا - ومن حديث وائل بن حجر الحضرمي وحديث عمار وحديث البراء بن عازب وحديث ابن عمر وحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين . روى ابن جريج وسليمان بن بلال وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كلهم عن عمرو بن يحيى المازني عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : قلت [ ص: 342 ] لابن عمر : حدثني عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كانت ؟ فذكر التكبير كلما رفع رأسه وكلما خفضه ، وذكر " السلام عليكم ورحمة الله " عن يمينه ، " السلام عليكم ورحمة الله " عن يساره . قال ابن عبد البر : وهذا إسناد مدني صحيح ، والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة ، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرا عن كابر ، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد ; لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارا . وكذلك العمل بالكوفة وغيرها مستفيض عندهم بالتسليمتين ومتوارث عنهم أيضا . وكل ما جرى هذا المجرى فهو اختلاف في المباح كالأذان ، وكذلك لا يروى عن عالم بالحجاز ولا بالعراق ولا بالشام ولا بمصر إنكار التسليمة الواحدة ولا إنكار التسليمتين بل ذلك عندهم معروف ، وحديث التسليمة الواحدة رواه سعد بن أبي وقاص وعائشة وأنس ، إلا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث .الرابعة والثلاثون : روى الدارقطني عن ابن مسعود أنه قال : من السنة أن يخفي التشهد . واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو : التحيات لله الزكيات لله الطيبات الصلوات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . واختار الشافعي وأصحابه والليث بن سعد تشهد ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ، فكان يقول : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله واختار الثوري والكوفيون وأكثر أهل الحديث تشهد ابن مسعود الذي رواه مسلم أيضا قال كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام على الله السلام على فلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله [ ص: 343 ] وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم يتخير من المسألة ما شاء وبه قال أحمد وإسحاق وداود وكان أحمد بن خالد بالأندلس يختاره ويميل إليه وروي عن أبي موسى الأشعري مرفوعا وموقوفا نحو تشهد ابن مسعود ، وهذا كله اختلاف في مباح ليس شيء منه على الوجوب ، والحمد لله وحده فهذه جملة من أحكام الإمام والمأموم تضمنها قوله جل وعز واركعوا مع الراكعين وسيأتي القول في القيام في الصلاة عند قوله تعالى وقوموا لله قانتين . ويأتي هناك حكم الإمام المريض وغيره من أحكام الصلاة ويأتي في " آل عمران " حكم صلاة المريض غير الإمام ويأتي في " النساء " في صلاة الخوف حكم المفترض خلف المتنفل ويأتي في سورة " مريم " حكم الإمام يصلي أرفع من المأموم إلى غير ذلك من الأوقات والأذان والمساجد ، وهذا كله بيان لقوله تعالى وأقيموا الصلاة وقد تقدم في أول السورة جملة من أحكامها ، والحمد لله على ذلك .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:43
ثم قال: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } أي: ظاهرا وباطنا { وَآتُوا الزَّكَاةَ } مستحقيها، { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي: صلوا مع المصلين، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله, فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة, وبين الإخلاص للمعبود, والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية البدنية والمالية. وقوله: { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي: صلوا مع المصلين, ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.
Arabic Saddi Tafseer
2:43
{وأقيموا الصلاة} يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها.{وآتوا الزكاة} أدوا زكاة أموالكم المفروضة.والزكاة مأخوذة من زكا الزرع إذا نما وكثر، وقيل: من تزكى أي تطهر، وكلا المعنيين موجود في الزكاة، لأن فيها تطهيراً وتنمية للمال.{واركعوا مع الراكعين} أي صلوا مع المصلين: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر بلفظ الركوع لأنه ركن من أركان الصلاة، ولأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع، فكأنه قال: صلوا صلاة ذات ركوع.قيل: إعادته بعد قوله {وأقيموا الصلاة} لهذا، أي صلوا مع الذين في صلاتهم ركوع، فالأول مطلق في حق الكل، وهذا في حق أقوام مخصوصين.وقيل: هذا حث على إقامة الصلاة جماعة كأنه قال لهم: صلوا مع المصلين الذين سبقوكم بالإيمان.
Arabic Baghawy Tafseer
2:43