text
stringlengths
3
39.1k
resource_name
stringclasses
8 values
verses_keys
stringlengths
3
77
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخري فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم "كصيب" والصيب المطر قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخرساني والسدي والربيع بن أنس. وقال الضحاك: هو السحاب والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى "يحسبون كل صيحة عليهم" وقال "ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون" " والبرق" هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ولهذا قال "يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين" أي ولا يجدى عنهم حذرهم شيئا لأن الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال "هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط" بهم.
ابن كثير
2:19
أو تُشْبه حالُ فريق آخر من المنافقين يظهر لهم الحق تارة، ويشكون فيه تارة أخرى، حالَ جماعة يمشون في العراء، فينصب عليهم مطر شديد، تصاحبه ظلمات بعضها فوق بعض، مع قصف الرعد، ولمعان البرق، والصواعق المحرقة، التي تجعلهم من شدة الهول يضعون أصابعهم في آذانهم؛ خوفًا من الهلاك. والله تعالى محيط بالكافرين لا يفوتونه ولا يعجزونه.
المیسر
2:19
عطف على التمثيل السابق وهو قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين ، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه .وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرىء القيس في معلقته :أصاححِ ترى برقاً أُريك وميضَه ... كلمععِ اليدين في حَبِيَ مُكَلَّليُضيءُ سَناه أو مصابيححِ راهب ... أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّلوقوللِ لَبيد في معلقته يصف راحلته :فلها هِبَاب في الزمام كأنها ... صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامهاأو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه ... طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُهاوكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :أَفتلك أم وحْشية مسبوعة ... خذلت وهادية الصِّوار قِوامهاوقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث :وثْبَ المُسَحَّججِ من عَانَاتتِ مَعْقُلَةٍ ... كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِبُثم قال :أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُه ... مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَبُثم قال :أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه ... أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلبوربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } [ الزمر : 29 ] الآية ثم قال : { وضرب الله مَثَلاً رجلين } [ النحل : 76 ] الآية . وقوله : { ما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } [ فاطر : 19 21 ] الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى : { حتى جعلناهم حصيداً خامدين } [ الأنبياء : 15 ] وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفرداً تعز استطاعةُ تكريره .و ( أو ) عطفت لفظ ( صيب ) على { الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب . وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف .والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة ، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى : { مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بنوع إطلاق وتقييد .فقوله : { أَو كصيب } تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله : { كمثل الذي استوقد } دل على تقدير قوم قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } وقولُه :{ يخطف أبصارهم } [ البقرة : 20 ] . الآية ، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يَجيء فيه ما جازَ في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] الخ . فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانِّين في مساكنهم كما عُلم ذلك من قوله : { كلَّما أضاءَ لهم مشَوْا فيه } [ البقرة : 20 ] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مِمَّا اتصل به من الرعد والصواعف ضُر ولم ينفع المارين بها وأضرَّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغَيث وارد . وفي الحديث الصحيح : " مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى كمثل الغيث أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ " الخ . وفي القرآن : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [ الحديد : 20 ] . ولا تَجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :فتى كالسحاب الجَوْن يُرجَى ويُتَّقَى ... يُرَجَّى الحَيَا منه وتُخْشى الصواعقوالظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل .والصيب فيعل من صاب يصوب صوباً إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل .والظاهر أن قوله : { من السماء } ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرىء القيس :كجلمود صخرٍ حَطَّه السيل من عَللٍ ... إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } [ الأنعام : 71 ] وقال تعالى : { فأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] .والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى : { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ إبراهيم : 24 ] وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء " الخ ، ولما كان تكوُّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن .ويمكن أن يكون قوله : { من السماء } تقييداً للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في «الكشاف» على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله : { من السماء } قيداً للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عالياً كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع .وضمير ( فيه ) عائد إلى ( صيب ) والظرفية مجازية بمعنى معه ، والظلمات مضى القول فيه آنفاً .والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطراً وبرقاً وتسمى سارية . والرعد أصوات تنشأ في السحاب . والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعدُ والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤُها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق .وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواماً وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم .
Arabic Tanweer Tafseer
2:19
ثم ساق - سبحانه - المثل الثاني فقال : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) ." أو " للتسوية بين الشيئين وهي مفيدة أن التمثيل بأيهما أو بمجموعهما يؤدى إلى المقصود ، فهي مانعة خلو مجوزة للجمع بينهما .و ( الصيب ) - كسيد - المطر ، من الصوب وهو النزول . يقال : صاب صوباً ، إذا نزل أو انحدر ، سمى به المطر لنزوله ، وفي الجملة الكريمة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة .والتقدير : أو كمثل ذوي صيب . والمعنى أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذي استوقد ناراً ، أو بقصة ذوي صيب .والسماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والمراد بها السحاب .والرعد : الصوت الذي يسمع بسبب اصطدام سحابتين محملتين بشحنتين كهربيتين أحداهما موجبة والأخرى سالبة .والبرق : هو الضوء الذي يحدث بسبب الاصطدام ذاته .وإيراد هذه الألفاز بصفة التنكير للتهويل ، ويكون المعنى : أو أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء تصحبه ظلمات كأنها سواد الليل ، ورعد بصم الآذان ، وبرق يخطف الأبصار؛ وصواعق تحرق ما تصيبه .ثم قال - تعالى - : ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ) .ِالصواعق : جمع صاعقة من الصعق وهو شدة الصوت الذي يصحبه - غالباً - قطعة من نار لا تأتي على شيء إلا أهلكته .( ومن ) في قوله - تعالى - : ( مِّنَ الصواعق ) للعليل . وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدهم آذانهم بأصابعهم ، من جهة أنها قد تفضى بصوتها لهائل إلى الموت ، وجاء هذا مصرحا به في قوله - تعالى - ( حَذَرَ الموت ) يدل على أنهم لم يموتوا من تلك المفزعات وهذه المروعات . إمدادا في عذابهم . ومطاولة في نكالهم .وقوله - تعالى - : ( والله مُحِيطٌ بالكافرين ) جملة معترضة في أثناء ضرب المثل بذوي الصيب .وإحاطته - سبحانه - بالكافرين على معنى أنهم لا مهرب لهم منه ، فهو محيط بهم إحاطة تامة وهو قادر على النكال بهم متى شاء وكيف شاء .ولم يقل محيط بهم مع تقدم مرجع الضمير وهو أصحاب الصيب ، إيذاناً بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم .
Arabic Waseet Tafseer
2:19
أو كصيب من السماءالقول في تأيل قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } قال أبو جعفر : والصيب الفعيل , من قولك : صاب المطر يصوب صوبا : إذا انحدر ونزل , كما قال الشاعر : لست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب وكما قال علقمة بن عبدة : كأنهم صاب عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقيت روايا المزن حين تصوب يعني : حين تنحدر . وهو في الأصل : صيوب , ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة , كما قيل : سيد من ساد يسود , وجيد من جاد يجود . وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرهما جميعا ياء مشددة . وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل . 342 - حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي , قال : حدثنا محمد بن عبيد , قال : حدثنا هارون بن عنترة , عن أبيه عن ابن عباس في قوله : { أو كصيب من السماء } قال : القطر . 343 - وحدثني عباس بن محمد , قال : حدثنا حجاج , قال : قال ابن جريج , قال لي عطاء : الصيب : المطر . 344 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا أبو صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي عن ابن عباس , قال : الصيب : المطر . 345 - وحدثني موسى , قال : حدثنا عمرو , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيب : المطر . * وحدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي سعد , قال : حدثني عمي الحسين , عن أبيه , عن جده , عن ابن عباس مثله . 346 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد , عن سعيد , عن قتادة : { أو كصيب } قال : المطر . * وحدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أنبأنا معمر , عن قتادة مثله . 347 - وحدثني محمد بن عمرو الباهلي , وعمرو بن علي , قالا : حدثنا أبو عاصم , قال : حدثنا عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : الصيب : المطر . * وحدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : الصيب : المطر . 348 - حدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق عن ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس : الصيب : المطر . * وحدثت عن المنجاب , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس قال : الصيب : المطر . 349 - وحدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال عبد الرحمن بن زيد : { أو كصيب من السماء } قال : أو كغيث من السماء . 350 - وحدثنا سوار بن عبد الله العنبري , قال : قال سفيان : الصيب : الذي فيه المطر . * حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا معاوية , قال : حدثنا ابن جريج , عن عطاء في قوله : { أو كصيب من السماء } قال : المطر . قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر , مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره على ما وصف جل ثناؤه من صفته , أو كمثل مطر مظلم ودقه تحدر من السماء تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة , وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه . فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثلين , أهما مثلان للمنافقين أو أحدهما ؟ فإن يكونا مثلين للمنافقين فكيف قيل : { أو كصيب } و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام , ولم يقل : وكصيب , بالواو التي تلحق المثل الثاني بالمثل الأول ؟ أو يكون مثل القوم أحدهما , فما وجه ذكر الآخر ب " أو " , وقد علمت أن " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشك من المخبر فيما أخبر عنه , كقول القائل : لقيني أخوك أو أبوك , وإنما لقيه أحدهما , ولكنه جهل عين الذي لقيه منهما , مع علمه أن أحدهما قد لقيه ; وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يضاف إليه الشك في شيء أو عزوب علم شيء عنه فيما أخبر أو ترك الخبر عنه . قيل له : إن الأمر في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه , و " أو " وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشك , فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدل عليه الواو إما بسابق من الكلام قبلها , وإما بما يأتي بعدها كقول توبة بن الحمير : وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها ومعلوم أن ذلك من توبة على غير وجه الشك فيما قال , ولكن لما كانت " أو " في هذا الموضع دالة على مثل الذي كانت تدل عليه الواو لو كانت مكانها , وضعها موضعها . وكذلك قول جرير : ش جاء الخلافة أو كانت له قدرا /و كما أتى ربه موسى على قدر وكما قال الآخر : فلو كان البكاء يرد شيئا /و بكيت على جبير أو عناق على المرأين إذ مضيا جميعا /و لشأنهما بحزن واشتياق فقد دل بقوله : " على المرأين إذ مضيا جميعا " أن بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يرد أن يقصد به أحدهما دون الآخر , بل أراد أن يبكيهما جميعا . فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه : { أو كصيب من السماء } لما كان معلوما أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه الواو , ولو كانت مكانها كان سواء نطق فيه ب " أو " أو بالواو . وكذلك وجه حذف المثل من قوله : { أو كصيب } لما كان قوله : { كمثل الذي استوقد نارا } دالا على أن معناه : كمثل صيب , حذف المثل واكتفى بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : { كمثل الذي استوقد نارا } على أن معناه : أو كمثل صيب , من إعادة ذكر المثل طلب الإيجاز والاختصار .فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموتالقول في تأويل قوله تعالى : { فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } قال أبو جعفر : فأما الظلمات فجمع , وأحدها ظلمة ; وأما الرعد فإن أهل العلم أختلفوا فيه ; فقال بعضهم : هو ملك يزجر السحاب . ذكر من قال ذلك : 351 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : حدثنا محمد بن جعفر , قال : حدثنا شعبة عن الحكم , عن مجاهد , قال : الرعد ملك يزجر السحاب بصوته . * وحدثنا محمد بن المثنى , قال : حدثنا ابن أبي عدي , عن شعبة عن الحكم عن مجاهد مثله . * وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي , قال : حدثنا فضيل بن عياض , عن ليث , عن مجاهد مثله . 352 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : حدثنا هشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم عن أبي صالح , قالا : الرعد ملك من الملائكة يسبح . 353 - وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي , قال : حدثنا محمد بن يعلى , عن أبي الخطاب البصري , عن شهر بن حوشب قال : الرعد : ملك موكل بالسحاب , يسوقه كما يسوق الحادي الإبل , يسبح كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها , فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه فهي الصواعق التي رأيتم . 354 - وحدثت عن المنجاب بن الحارث , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : الرعد : ملك من الملائكة اسمه الرعد , وهو الذي تسمعون صوته . 355 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد , قال : حدثنا عبد الملك بن حسين عن السدي عن أبي مالك , عن ابن عباس , قال : الرعد : ملك يزجر السحاب بالتسبيح والتكبير . 356 - وحدثنا الحسن بن محمد , قال : حدثنا علي بن عاصم , عن ابن جريج , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال : الرعد : اسم ملك , وصوته هذا تسبيحه , فإذا اشتد زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتخرج الصواعق من بينه . 357 - حدثنا الحسن , قال : حدثنا عفان , قال : حدثنا أبو عوانة , عن موسى البزار , عن شهر بن حوشب عن ابن عباس , قال : الرعد : ملك يسوق السحاب بالتسبيح , كما يسوق الحادي الإبل بحدائه . * حدثنا الحسن بن محمد , قال : حدثنا يحيى بن عباد وشبابة قالا : ثنا شعبة , عن الحكم , عن مجاهد , قال : الرعد : ملك يزجر السحاب . 358 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا عتاب بن زياد , عن عكرمة , قال : الرعد : ملك في السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل . 359 - وحدثنا بشر , قال : حدثنا يزيد , قال : حدثنا سعيد , عن قتادة , قال : الرعد : خلق من خلق الله جل وعز سامع مطيع لله جل وعز 360 - حدثنا القاسم بن الحسن , قال : حدثنا الحسين بن داود , قال : حدثني حجاج عن ابن جريج , عن عكرمة , قال : إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه , فذلك الصوت تسبيحه . 361 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريح , عن مجاهد , قال : الرعد : ملك . 362 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا الحجاج بن المنهال , قال : حدثنا حماد بن سلم ة , عن المغيرة بن سالم , عن أبيه أو غيره , أن علي بن أبي طالب قال : الرعد : ملك . 363 - حدثنا المثنى , قال : حدثنا حجاج , قال : حدثنا حماد , قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم مولى ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد ؟ فقال : الرعد : ملك . 364 - حدثنا المثنى , قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم , قال : حدثنا عمر بن الوليد السني , عن عكرمة , قال : الرعد : ملك يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل . 365 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : حدثنا حفص بن عمر , قال : حدثنا الحكم بن أبان , عن عكرمة , قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد , قال : سبحان الذي سبحت له , قال : وكان يقول : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه . وقال آخرون : إن الرعد : ريح تختنق تحت السحاب , فتصاعد فيكون منه ذلك الصوت . ذكر من قال ذلك : 366 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا بشر بن إسماعيل , عن أبي كثير , قال : كنت عند أبي الجلد , إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه , فكتب إليه : كتبت تسألني عن الرعد , فالرعد : الريح . 367 - حدثني إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا عمران بن ميسرة , قال : حدثنا ابن إدريس عن الحسن بن الفرات , عن أبيه , قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن الرعد , فقال : الرعد : ريح . قال أبو جعفر : فإن كان الرعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد , فمعنى الآية : أو كصيب من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ; لأن الرعد إن كان ملكا يسوق السحاب , فغير كائن في الصيب ; لأن الصيب إنما هو ما تحدر من صوب السحاب ; والرعد : إنما هو في جو السماء يسوق السحاب , على أنه لو كان فيه يمر لم يكن له صوت مسموع , فلم يكن هنالك رعب يرعب به أحد ; لأنه قد قيل : إن مع كل قطرة من قطر المطر ملكا , فلا يعدو الملك الذي اسمه الرعد لو كان مع الصيب إذا لم يكن مسموعا صوته أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض في أن لا رعب على أحد بكونه فيه . فقد علم إذ كان الأمر على ما وصفنا من قولة ابن عباس أن معنى الآية : أو كمثل غيث تحدر من السماء فيه ظلمات وصوت رعد ; إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس , وإنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام من ذكر صوته . وإن كان الرعد ما قاله أبو الجلد فلا شيء في قوله : " فيه ظلمات ورعد " متروك لأن معنى الكلام حينئذ : فيه ظلمات ورعد الذي هو وما وصفنا صفته . وأما البرق , فإن أهل العلم اختلفوا فيه ; فقال بعضهم بما : 368 - حدثنا مطر بن محمد الضبي , قال : حدثنا أبو عاصم ح وحدثني محمد بن بشار قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ح وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قالوا جميعا : حدثنا سفيان الثوري , عن سلمة بن كهيل , عن سعيد بن أشوع , عن ربيعة بن الأبيض , عن علي قال : البرق : مخاريق الملائكة . 369 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين , عن السدي عن أبي مالك , عن ابن عباس : البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السحاب . * حدثني المثنى , قال : حدثنا الحجاج , قال : حدثنا حماد , عن عميرة بن سالم , عن أبيه أو غيره أن علي بن أبي طالب قال : الرعد : الملك , والبرق : ضربه السحاب بمخراق من حديد . وقال آخرون : هو سوط من نور يزج به الملك السحاب . 370 - حدثت عن المنجاب بن الحارث , قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس بذلك . وقال آخرون : هو ماء . ذكر من قال ذلك 371 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا بشر بن إسماعيل , عن أبي كثير , قال : كنت عند أبي الجلد إذ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه , فكتب إليه : تسألني عن البرق , فالبرق : الماء . 372 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله , قال : حدثنا عمران بن ميسرة , قال : حدثنا ابن إدريس , عن الحسن بن الفرات , عن أبيه , قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن البرق , فقال : البرق ماء . * حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا جرير , عن عطاء , عن رجل من أهل البصرة من قرائهم , قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد رجل من أهل هجر يسأله عن البرق , فكتب إليه : كتبت إليه تسألني عن البرق : وإنه من الماء . وقال آخرون : هو مصع ملك 373 - حدثنا محمد بن بشار , قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , قال : حدثنا سفيان عن عثمان بن الأسود , عن مجاهد , قال : البرق : مصع ملك . 374 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق , قال : حدثنا هشام , عن محمد بن مسلم الطائفي , قال : بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه : وجه إنسان , ووجه ثور , ووجه نسر , ووجه أسد , فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق . 375 - حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن وهب بن سليمان , عن شعيب الجبائي , قال : في كتاب الله الملائكة حملة العرش , لكل ملك منهم وجه إنسان , وثور , وأسد , فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق . وقال أمية بن أبي الصلت : رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد 376 - حدثنا الحسين بن محمد , قال : حدثنا علي بن عاصم , عن ابن جريج , عن مجاهد , عن ابن عباس : البرق : ملك . 377 - وقد حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج قال : الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق يصيب منه من يشاء . قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد ; وذلك أن تكون المخاريق التي ذكر علي رضي الله عنه أنها هي البرق هي السياط التي هي من نور التي يزجي بها الملك السحاب , كما قال ابن عباس . ويكون إزجاء الملك السحاب : مصعه إياه بها , وذاك أن المصاع عند العرب أصله المجالدة بالسيوف , ثم تستعمله في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب , كما قال أعشى بني ثعلبة وهو يصف جواري يلعبن بحليهن ويجالدن به : إذا هن نازلن أقرانهن وكان المصاع بما في الجون يقال منه : ماصعه مصاعا . وكأن مجاهدا إنما قال : " مصع ملك " , إذ كان السحاب لا يماصع الملك , وإنما الرعد هو المماصع له , فجعله مصدرا من مصعه يمصعه مصعا , وقد ذكرنا ما في معنى الصاعقة ما قال شهر بن حوشب فيما مضى . وأما تأويل الآية , فإن أهل التأويل مختلفون فيه . فروي عن ابن عباس في ذلك أقوال ; أحدها ما : 378 - حدثنا به محمد بن حميد , قال : حدثنا سلمة , قال : حدثنا محمد بن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت , عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف , والتخويف منكم - على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب , فحمل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي لشدة ضوء الحق , { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } أي يعرفون الحق ويتكلمون به , فهم من قولهم به على استقامة , فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين . والآخر ما : 379 - حدثني به موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } إلى : { إن الله على كل شيء قدير } : أما الصيب والمطر كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين , فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق , فجعلا كلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما , وإذ لمع البرق مشيا في ضوئه , وإذا لم يلمع لم يبصرا وقاما مكانهما لا يمشيان , فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ! فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما . فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة . وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم , جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا , كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما , وإذا أضاء لهم مشوا فيه . فإذا كثرت أموالهم وولد لهم الغلمان وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه , وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق فاستقاموا عليه , كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه , وإذا أظلم عليهم قاموا . فكانوا إذا هلكت أموالهم , وولد لهم الجواري , وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد , فارتدوا كفارا كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما والثالث ما : 380 - حدثني به محمد بن سعد ; قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , عن أبيه , عن جده , عن ابن عباس : { أو كصيب من السماء } كمطر { فيه ظلمات ورعد وبرق } إلى آخر الآية , هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل , مراءاة للناس , فإذا خلا وحده عمل بغيره . فهو في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات فالضلالة , وأما البرق فالإيمان , وهم أهل الكتاب . وإذا أظلم عليهم , فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه . والرابع ما : 381 - حدثني به المثنى , قال : حدثنا عبد الله بن صالح , قال : حدثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس { أو كصيب من السماء } وهو المطر , ضرب مثله في القرآن يقول : " فيه ظلمات " , يقول ابتلاء . " ورعد " يقول : فيه تخويف , وبرق { يكاد البرق يخطف أبصارهم } يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين , { كلما أضاء لهم مشوا فيه } يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزا اطمأنوا , وإن أصابوا الإسلام نكبة , قالوا : ارجعوا إلى الكفر يقول : { وإذا أظلم عليهم قاموا } كقوله : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة } 22 11 إلى آخر الآية . ثم اختلف سائر أهل التأويل بعد ذلك في نظير ما روي عن ابن عباس من الاختلاف . 382 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي , قال : حدثنا أبو عاصم , عن عيسى بن ميمون , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : إضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل . * وحدثني المثنى , قال : حدثنا أبو حذيفة , قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد مثله . * حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا أبو عاصم , قال : حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله . 383 - وحدثنا بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة في قول الله : { فيه ظلمات ورعد وبرق } إلى قوله : { وإذا أظلم عليهم قاموا } , فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاء أو طمأنينة أوسلوة من عيش , قال : أنا معكم وأنا منكم ; وإذا أصابته شدة حقحق والله عندها فانقطع به فلم يصبر على بلائها , ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها . 384 - وحدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة : { فيه ظلمات ورعد وبرق } يقول : أخبر عن قوم لا يسمعون شيئا إلا ظنوا أنهم هالكون فيه حذرا من الموت , والله محيط بالكافرين . ثم ضرب لهم مثلا آخر فقال : { يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه } يقول : هذا المنافق , إذا كثر ماله وكثرت ماشيته وأصابته عافية قال : لم يصبني منذ دخلت في ديني هذا إلا خير , { وإذا أظلم عليهم قاموا } يقول : إذا ذهبت أموالهم وهلكت مواشيهم وأصابهم البلاء قاموا متحيرين . 385 - وحدثني المثنى , قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج , عن عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس : { فيه ظلمات ورعد وبرق } قال : مثلهم كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ولها مطر ورعد وبرق على جادة , فلما أبرقت أبصروا الجادة فمضوا فيها , وإذا ذهب البرق تحيروا . وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له , فإذا شك تحير ووقع في الظلمة , فكذلك قوله : { كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا } ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } قال أبو جعفر : 386 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثنا أبو تميلة , عن عبيد بن سليمان الباهلي , عن الضحاك بن مزاحم : { فيه ظلمات } قال : أما الظلمات فالضلالة , والبرق : الإيمان . 387 - وحدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : { فيه ظلمات ورعد وبرق } فقرأ حتى بلغ : { إن الله على كل شيء قدير } قال : هذا أيضا مثل ضربه الله للمنافقين , كانوا قد استناروا بالإسلام كما استنار هذا بنور هذا البرق . 388 - وحدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , قال : قال ابن جريج : ليس شيء في الأرض سمعه المنافق إلا ظن أنه يراد به وأنه الموت كراهية له , والمنافق أكره خلق الله للموت , كما إذا كانوا بالبراز في المطر فروا من الصواعق . 389 - حدثنا عمرو بن علي , قال : حدثنا أبو معاوية , قال : حدثنا ابن جريج , عن عطاء في قوله : { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق } قال : مثل ضرب للكفار . وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه , فإنها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني لأنها جميعا تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلا , ومثل ما فيه من ظلمات بضلالته , وما فيه من ضياء برق بنور إيمانه , واتقائه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه بضعف جنانه ونخب فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته , ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه , وقيامه في الظلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه فتأويل الآية إذا إذا كان الأمر على ما وصفنا : أو مثل ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به , حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين , وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم , وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر , مكذبون , ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون , على عمى منهم وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أي الأمرين اللذين قد شرع لهم [ فيه ] الهداية في الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم ما أرسله به إليهم , أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وجلون , وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا . كمثل غيث سرى ليلا في مزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعد ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه كثير خطرانه , يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار , ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها تارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق . فالصيب مثل لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق , والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب . وأما الرعد والصواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه , إما في العاجل وإما في الآجل , أي يحل بهم مع شكهم في ذلك : هل هو كائن , أم غير كائن , وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل ؟ مثل . فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات وذلك تأويل قوله جل ثناؤه : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } يعني بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار , كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أسابعه فيها حذرا على نفسه منها . وقد ذكرنا الخبر الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء , أو يذكروا بشيء فيقتلوا . فإن كان ذلك صريحا , ولست أعلمه صحيحا , إذ كنت بإسناده مرتابا ; فإن القول الذي روي عنهما هو القول وإن يكن غير صحيح , فأولى بتأويل الآية ما قلنا ; لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم , وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم . فكذلك ذلك في هذه الآية . وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه . وذلك من المثل نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق , وكذلك قوله : { حذر الموت } جعله جل ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلك الذي توعده بساحتهم , كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أتزهق من شدتها . إنما نصب قوله : { حذر الموت } على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : زرتك تكرمة لك , تريد بذلك : من أجل تكرمتك , وكما قال جل ثناؤه : { ويدعوننا رغبا ورهبا } 21 90 على التفسير للفعل . وقد روي عن قتادة أنه كان يتأول قوله : { حذر الموت } : حذرا من الموت . 390 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى , قال : حدثنا عبد الرزاق , قال : أنبأنا معمر عنه . وذلك مذهب من التأويل ضعيف لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حذرا من الموت فيكون معناه ما قال إنه مراد به حذرا من الموت , وإنما جعلوها من حذار الموت في آذانهم . وكان قتادة وابن جريج يتأولان قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } أن ذلك من الله جل ثناؤه صفة للمنافقين بالهلع , وضعف القلوب , وكراهة الموت , يتأولان في ذلك قوله : { يحسبون كل صيحة عليهم } 63 4 وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا , وذلك أنه قد كان فيهم من لا تنكر شجاعته ولا تدفع بسالته كقزمان الذي لم يقم مقامه أحد من المؤمنين بأحد أو دونه . وإنما كانت كراهتهم شهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته على أعدائه ; لأنهم لم يكونوا أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين , فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين , إلا بالتخذيل عنه . ولكن ذلك وصف من الله جل ثنائهم لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم , إما عاجلا , وإما آجلا .والله محيط بالكافرينثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به أي كتابه , غير منجيهم ذلك من نزوله بعقوتهم وحلوله بساحتهم , إما عاجلا في الدنيا , وإما آجلا في الآخرة , للذي في قلوبهم من مرضها والشك في اعتقادها , فقال : { والله محيط بالكافرين } بمعنى جامعهم فمحل بهم عقوبته . وكان مجاهد يتأول ذلك كما : 391 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي , قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى بن ميمون , عن عبد الله بن أبي نجيح , عن مجاهد في قول الله : { والله محيط بالكافرين } قال : جامعهم في جهنم . وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما : 392 - حدثني به ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة , أو عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس : { والله محيط بالكافرين } يقول : الله منزل ذلك بهم من النقمة * حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثنا حجاج عن ابن جريج , عن مجاهد في قوله : { والله محيط بالكافرين } قال : جامعهم .
الطبري
2:19
قوله تعالى : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت[ ص: 208 ] قوله تعالى : أو كصيب من السماء قال الطبري : " أو " بمعنى الواو ، وقاله الفراء . وأنشد :وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورهاوقال آخر :نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدرأي : وكانت . وقيل : " أو " للتخيير أي مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار على أحد الأمرين ، والمعنى أو كأصحاب صيب . والصيب : المطر . واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل ، قال علقمة :فلا تعدلي بيني وبين مغمر سقتك روايا المزن حيث تصوبوأصله : صيوب ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين . وقال بعض الكوفيين : أصله صويب على مثال فعيل . قال النحاس : " لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه ، كما لا يجوز إدغام طويل . وجمع صيب صيايب . والتقدير في العربية : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب .قوله تعالى : من السماء السماء تذكر وتؤنث ، وتجمع على أسمية وسماوات وسمي ، على فعول ، قال العجاج :تلفه الرياح والسميوالسماء : كل ما علاك فأظلك ، ومنه قيل لسقف البيت : سماء . والسماء : المطر ، سمي به لنزوله من السماء . قال حسان بن ثابت :ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والسماءوقال آخر معاوية بن مالك :إذا سقط السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا[ ص: 209 ] ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء ، يقال : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم . يريدون الكلأ والطين . ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه ، قال طفيل الغنوي :وأحمر كالديباج أما سماؤه فريا وأما أرضه فمحولوالسماء : ما علا . والأرض : ما سفل ، على ما تقدم .قوله تعالى : فيه ظلمات ابتداء وخبر ورعد وبرق معطوف عليه . وقال : ظلمات ؛ بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن ، وهو الغيم ، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت . وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة ، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى . واختلف العلماء في الرعد ، ففي الترمذي عن ابن عباس قال : سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو ؟ قال : ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله . فقالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع ؟ قال : زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله قالوا : صدقت . الحديث بطوله . وعلى هذا التفسير أكثر العلماء . فالرعد : اسم الصوت المسموع ، وقاله علي رضي الله عنه ، وهو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته :فجعني الرعد والصواعق بال فارس يوم الكريهة النجدوروي عن ابن عباس أنه قال : الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت . واختلفوا في البرق ، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم : البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب . قلت : وهو الظاهر من حديث الترمذي . وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب . وعنه أيضا البرق ملك يتراءى . وقالت الفلاسفة : الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب . والبرق ما ينقدح من اصطكاكها . وهذا مردود لا يصح به نقل ، والله أعلم . ويقال : أصل الرعد من الحركة ، ومنه الرعديد للجبان . وارتعد : اضطرب ، ومنه الحديث : ( فجيء بهما ترعد فرائصهما ) [ ص: 210 ] الحديث . أخرجه أبو داود . والبرق أصله من البريق والضوء ، ومنه البراق : دابة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وركبها الأنبياء عليهم السلام قبله . ورعدت السماء من الرعد ، وبرقت من البرق . ورعدت المرأة وبرقت : تحسنت وتزينت . ورعد الرجل وبرق : تهدد وأوعد ، قال ابن أحمر :يا جل ما بعدت عليك بلادنا وطلابنا فابرق بأرضك وارعدوأرعد القوم وأبرقوا : أصابهم رعد وبرق . وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو : أرعدت السماء وأبرقت ، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد ، وأنكره الأصمعي . واحتج عليه بقول الكميت :أبرق وأرعد يا يزي د فما وعيدك لي بضائرفقال : ليس الكميت بحجة . فائدة : روى ابن عباس قال : كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار ، قال : فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد ، وفرق الناس . قال فقال لي كعب : إنه من قال حين يسمع الرعد : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق . قال : فقلتها أنا وكعب ، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر : يا أمير المؤمنين ، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس قال : وما ذاك ؟ قال : فحدثته حديث كعب . قال : سبحان الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم في رواية : فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به . وستأتي هذه الرواية في سورة " الرعد " إن شاء الله . ذكر الروايتين أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك .قوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام ، وذلك عندهم كفر والكفر موت . وفي واحد الأصابع خمس لغات : إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء ، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء ، ويقال بفتحهما جميعا ، وضمهما جميعا ، وبكسرهما جميعا ، وهي مؤنثة . وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر ، فيقال : أذينة . ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت : أذين ، فلم تؤنث لزوال التأنيث [ ص: 211 ] عنه بالنقل إلى المذكر فأما قولهم : أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا ، والجمع آذان . وتقول : أذنته إذا ضربت أذنه . ورجل أذن : إذا كان يسمع كلام كل أحد ، يستوي فيه الواحد والجمع . وأذاني : عظيم الأذنين . ونعجة أذناء ، وكبش آذن . وأذنت النعل وغيرها تأذينا : إذا جعلت لها أذنا . وأذنت الصبي : عركت أذنه .قوله تعالى : من الصواعق أي من أجل الصواعق . والصواعق جمع صاعقة . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق . وكذا قال الخليل ، قال : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه . وقال أبو زيد : الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد . وحكى الخليل عن قوم : الساعقة ( بالسين ) . وقال أبو بكر النقاش : يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد . وقرأ الحسن : " من الصواقع " ( بتقديم القاف ) ، ومنه قول أبي النجم :يحكون بالمصقولة القواطع تشقق البرق عن الصواقعقال النحاس : وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة . ويقال : صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم الصاعقة . والصاعقة أيضا صيحة العذاب ، قال الله عز وجل : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ويقال : صعق الرجل صعقة وتصعاقا ، أي غشي عليه ، ومنه قوله تعالى : وخر موسى صعقا فأصعقه غيره . قال ابن مقبل :ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهلهوقوله تعالى : فصعق من في السماوات ومن في الأرض أي مات . وشبه الله تعالى في هذه الآية أحوال المنافقين بما في الصيب من الظلمات والرعد والبرق والصواعق . فالظلمات مثل لما يعتقدونه من الكفر ، والرعد والبرق مثل لما يخوفون به . وقيل : مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم ، والعمى هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أحيانا أن تبهرهم هو البرق . والصواعق مثل لما في القرآن من الدعاء إلى القتال في العاجل والوعيد في الآجل . وقيل : الصواعق تكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة وغيرهما .قوله : حذر الموت حذر وحذار بمعنى ، وقرئ بهما . قال سيبويه : هو منصوب ، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله ، وحقيقته أنه مصدر ، وأنشد سيبويه لحاتم الطائي :وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرماوقال الفراء : هو منصوب على التمييز ، والموت : ضد الحياة . وقد مات يموت ، ويمات أيضا ، قال الراجز :بنيتي سيدة البنات عيشي ولا يؤمن أن تماتيفهو ميت وميت ، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون . والموات ( بالضم ) : الموت . والموات ( بالفتح ) : ما لا روح فيه . والموات أيضا : الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد . والموتان ( بالتحريك ) : خلاف الحيوان ، يقال : اشتر الموتان ، ولا تشتر الحيوان ، أي اشتر الأرضين والدور ، ولا تشتر الرقيق والدواب . والموتان ( بالضم ) : موت يقع في الماشية ، يقال : وقع في المال موتان . وأماته الله وموته ، شدد للمبالغة . وقال :فعروة مات موتا مستريحا فهأنذا أموت كل يوموأماتت الناقة إذا مات ولدها ، فهي مميت ومميتة . قال أبو عبيد : وكذلك المرأة ، وجمعها مماويت . قال ابن السكيت : أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون . والمتماوت من صفة الناسك المرائي وموت مائت ، كقولك : ليل لائل ، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به . والمستميت للأمر : المسترسل له ، قال رؤبة :وزبد البحر له كتيت والليل فوق الماء مستميتالمستميت أيضا : المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت ، وفي الحديث : ( أرى القوم مستميتين ) وهم الذين يقاتلون على الموت . والموتة ( بالضم ) : جنس من الجنون والصرع يعتري الإنسان ، فإذا أفاق عاد إليه كمال عقله كالنائم والسكران . ومؤتة ( بضم الميم وهمز الواو ) : اسم أرض قتل بها جعفر بن أبي طالب عليه السلام .قوله تعالى : والله محيط بالكافرين ابتداء وخبر ، أي لا يفوتونه . يقال : أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة ، قال الشاعر :أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم[ ص: 213 ] ومنه قوله تعالى : وأحيط بثمره . وأصله محيط ، نقلت حركة الياء إلى الحاء فسكنت . فالله سبحانه محيط بجميع المخلوقات ، أي هي في قبضته وتحت قهره ، كما قال : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة . وقيل : محيط بالكافرين أي عالم بهم . دليله : وأن الله قد أحاط بكل شيء علما . وقيل : مهلكهم وجامعهم . دليله قوله تعالى : إلا أن يحاط بكم أي إلا أن تهلكوا جميعا . وخص الكافرين بالذكر لتقدم ذكرهم في الآية . والله أعلم .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:19
ثم قال تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } يعني: أو مثلهم كصيب، أي: كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب, أي: ينزل بكثرة، { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمات المطر، { وَرَعْدٌ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، { وَبَرْقٌ } وهو الضوء [اللامع] المشاهد مع السحاب.
Arabic Saddi Tafseer
2:19
{أو كصيب} أي كأصحاب صيب. وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى للمنافقين بمعنى آخر إن شئت مثلهم بالمستوقد وإن شئت بأهل الصيب، وقيل: "أو" بمعنى الواو؛ يريد وكصيب كقوله تعالى: {أو يزيدون} بمعنى ويزيدون.والصيب المطر وكل ما نزل من الأعلى إلى الأسفل فهو صيب فعل من صاب يصوب أي نزل.{من السماء}: أي من السحاب.قيل: هي السماء بعينها، والسماء كل ما علاك فأظلك، وهي من أسماء الأجناس يكون واحداً وجمعاً.{فيه}: أي في الصيب، وقيل: في السماء أي من السحاب ولذلك ذكره. وقيل: السماء يُذَكَّر ويؤنث، قال الله تعالى: {السماء منفطر به} [18-المزمل]، وقال: {إذا السماء انفطرت} [1-الانفطار].{ظلمات} جمع ظلمة.{ورعد} هو الصوت الذي يسمع من السحاب.{وبرق} وهو النار التي تخرج منه.قال علي وابن عباس وأكثر المفسرين رضي الله عنهم: "الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نور يزجر به الملك السحاب".وقيل: الصوت زجر السحاب.وقيل: تسبيح الملك. وقيل: الرعد نطق الملك والبرق ضحكه. وقال مجاهد: "الرعد اسم الملك" ويقال لصوته أيضاً رعد، والبرق مصع ملك يسوق السحاب.وقال شهر بن حوشب: "الرعد ملك يزجي السحاب فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النار فهي الصواعق"، وقيل: الرعد صوت انحراف الريح بين السحاب والأول أصح.{يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق} جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه.ويقال لكل عذاب مهلك صاعقة، وقيل: الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء. روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك".قوله: {حذر الموت}: أي مخافة الهلاك.{والله محيط بالكافرين}: أي عالم بهم، وقيل: جامعهم.وقال مجاهد: "يجمعهم فيعذبهم". وقيل: مهلكهم، دليله قوله تعالى: {إلا أن يحاط بكم} [66-يوسف] أي تهلكوا جميعاً.ويميل أبو عمرو و الكسائي الكافرين في محل النصب والخفض ولا يميلان: [أول كافر به] [41-البقرة].
Arabic Baghawy Tafseer
2:19
ثم قال "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "يكاد البرق يخطف أبصارهم" أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به" وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس "كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا" أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطي الناس النور بحسب إيمانهم فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" وقال في حق المؤمنين "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية وقال تعالى " يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير" "ذكر الحديث الوارد في ذلك" قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات" الآية ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول "من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين بصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه" رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داود القطان عن قتادة بنحوه وهذا كما قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبدالله بن مسعود قال يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة وهكذا رواه ابن جرير عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبدالله بن مسعود "نورهم يسعى بين أيديهم" قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عقبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين فهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا وقال الضحاك ابن مزاحم يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورا فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون شفقوا فقالوا ربنا أتمم لنا نورنا. فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم الموصوفون بالآيتين بعدها ومنافقون وهم قسمان خلص وهم المضروب لهم المثل الناري ومنافقون يترددون تارة يظهر لهم لمع الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالا من الذين قبلهم. وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين يعتقدون أنهم على شيء وليسوا على شيء وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا" الآية ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط وهم الذين قال تعالى فيهم "أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين داعية ومقلد كما ذكرهما في أول سورة الحج "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد" وقال "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي آخرها وفي سورة الإنسان إلى قسمين سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار. فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان مقربون وأبرار وأن الكافرين صنفان دعاة ومقلدون وأن المنافقين أيضا صنفان منافق خالص ومنافق فيه شعبة من نفاق كما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم "ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان" استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان وشعبة من نفاق إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الآية كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه" وهذا إسناد جيد حسن. وقوله تعالى "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير" قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى "ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم" قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته "إن الله على كل شيء قدير" قال ابن عباس أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير. ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون أو في قوله تعالى "أو كصيب من السماء" بمعنى الواو كقوله تعالى "ولا تطع منهم آثما أو كفورا" أو تكون للتخبير أي اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا قال القرطبي: أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم "قلت" وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم والله أعلم كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى "والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة" إلى أن قال "أو كظلمات في بحر لجي" الآية فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب والثانى لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين والله أعلم بالصواب.
ابن كثير
2:20
يقارب البرق -من شدة لمعانه- أن يسلب أبصارهم، ومع ذلك فكلَّما أضاء لهم مشَوْا في ضوئه، وإذا ذهب أظلم الطريق عليهم فيقفون في أماكنهم. ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم، وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ، إنه على كل شيء قدير.
المیسر
2:20
الأظهر أن تكون جملة : { يجعلون } حالاً اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة ، وأما جملة : { يكاد البرق } فيجوز كونها حالاً من ضمير { يجعلون } ، لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافاً لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد . وجملة : { كلما أضاء لهم مشوا فيه } حال من ( البرق ) أو من ضمير ( أبصارهم ) لا غير ، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه . وقوله : { كلما أضاء لهم } تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق . وقوله : { والله محيط بالكافرين } اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل . وقوله : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة { ولو شاء الله } راجعة إلى أصل الكلام ، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق . فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار ، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلاً عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع ، يقال فلان يرعد ويبرق ، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولاً ، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق ، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل ، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله : { والله محيط بالكافرين } وقوله : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيهاً على وجه الشبه وتقريراً لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز .وجعل في «الكشاف» الجمل الثلاث مستأنفاً بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافاً عن جملة : { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] والثانية وهي : { يكاد البرق } مستأنفة عن جملة : { يجعلون } لأن الصواعق تستلزم البرق ، والثالثة وهي : { كلما أضاء لهم مشوا } مستأنفة عن قوله : { يكاد البرق } والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفاً .والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط ، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب «الكشاف» بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله :{ فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] { فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] ومنه قولك مسحت بالمنديل ، ودخلت البلد ، وقيل ذلك مجاز في الأصابع ، وقيل مجاز في الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازاً في الظرفية فتكون تبعية لكلمة ( في ) .و ( من ) في قوله : { من الصواعق } للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه ، ونظير هذا قولهم سقاه من العيمة ( بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن ) لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا .والصواعق جمع صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفاً . وقوله : { حذر الموت } مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معاً .ومن بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبيء وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم ، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه . وقوله : { والله محيط بالكافرين } اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى { ذهب الله بنورهم وتركهم } [ البقرة : 17 ] الخ كما تقدم إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض .والإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم .والخطف الأخذ بسرعة .و ( كلما ) كلمة تفيد عموم مدخولها ، و ( ما ) كافة لكل عن الإضافة أوهي مصدرية ظرفية أو نكرة موصوفة فالعموم فيها مستفاد من كلمة ( كل ) . وذكر ( كلما ) في جانب الإضاءة و ( إذا ) في جانب الإظلام لدلالة ( كلما ) على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة فلا يفيتون زمناً من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة .و { أضاء فعل يستعمل ومتعدياً باختلاف المعنى كما تقدم في قوله :{ فلما أضاءت ما حوله } [ البقرة : 17 ] وأظلم يستعمل قاصراً كثيراً ويستعمل متعدياً قليلاً . والظاهر أم ( أضاء ) هنا متعد فمفعول ( أضاء ) محذوف لدلالة ( مشوا ) عليه وتقديره الممشى أو الطريق أي أضاء لهم البرق الطريق وكذلك ( أظلم ) أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام . ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف في الموضع .وقوله تعالى : { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } مفعول ( شاء ) محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلاً بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطاً للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله } [ الأعلى : 6 ، 7 ] قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» : إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفاً وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر ( هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثي أبا الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة ) .ولو شئتُ أن أبكي دماً لبَكيته ... عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسعوسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دماً فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع الخ كلامه وتبعه صاحب «الكشاف» وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب الخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذٍ يكون كثيراً . وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو الغالب في كلام العرب ، قال طرفة : وإن شئتَ لم ترقل وإن شئت أرقلت ، وتارة يبيّن بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى : { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه } [ الأنبياء : 17 ] ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفاً إما من الأول أو من الثاني . وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى : { قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } [ فصلت : 14 ] فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري .وإن شئتَ فازعُم أَنَّ مَن فوقَ ظهرها ... عبيدُكَ واستشهِد إلهك يَشْهَدِفإن زعم ذلك زعم غريب .والضمير في قوله : { بسمعهم وأبصارهم } ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله : { يكاد البرق يخطف أبصارهم } وقوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداماً تاماً من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجاً لهم وإملاء ليزدادوا إثماً أو تلوماً لهم وإعذاراً لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبيء صلى الله عليه وسلم{ فقُل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] . فليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه ( لو ) من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارَهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالاً لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازاً مرسلاً في مجرد التعليق إظهاراً لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أُبي بن سُلْمى بن ربيعة من شعراء «الحماسة» يصف فرسه :ولو طَار ذو حافر قبلَها ... لطارتْ ولكنه لم يطِرْأي توفر فيها سبب الطيران ، فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة ، ويكون لقوله : { إن الله على كل شيء قدير } موقع عجيب .وقوله : { إن الله على كل شيء قدير } تذييل ، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغاً لهم وقطعاً لمعذرتهم في الدنيا والآخرة .
Arabic Tanweer Tafseer
2:20
ثم قال - تعالى - : ( يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ) .يكاد من الأفعال التي تدخل على اسم يسند إليه فعل بعده نحو ( البرق يَخْطَفُ ) . فتدل على أن المسند إليه وهو البرق قد قارب أن يقع منه الفعل وهو خطف الأبصار .والخطف : الأخذ بسرعة . والأبصار : جمع بصر ، وهو قوة مودعة في العين يدرك بها الألوان والأشكال .والمعنى : أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارها ، وهو تصوير بليغ الشدة ذلك البرق ، وترك بيان شدة الرعد اكتفاء بما ذكره في جانب البرق ، ولم يذكر توقيهم للأعين بوضع شيء عليها اكتفاء بما ذكره في توقي الآذان أو لأنهم شغلوا بالآذان عن الأعين .وقوله - تعالى - : ( كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ) وصف رائع لما يصنعه أهل الصيب في حالتي ظهور البرق واختفائه .وكل ظرف ، وما مصدرية ولا تصالها بكل أفادت الشرط والعامل فيها هو جوابها وهو ( مَّشَوْاْ ) و ( أَضَآءَ ) و ( أَظْلَمَ ) من الإِظلام وهو اختفاء النور . ( قَامُواْ ) أي وقفوا وثبتوا في مكانهم . من قام الماء إذا جمد . ويقال : قامت الدابة إذا وقفت .والمعنى : أنهم إذا صادفوا من البرق وميضاً انتهزوا ذلك الوميض فرصة ، فخطوا خطوات يسيرة ، وإذا خفى لمعانه وقفوا في مكانهم ، فالجملة الكريمة تدل على فرط حرصهم على النجاة من شدة ما هم فيه من أهوال .ثم قال - تعالى - : ( وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) .لو : أداة شرط ، وشاء بمعنى أراد . أي : لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي ضوء البرق فاعماهم . أو يقال : إن قصف الرعد ولمعان البرق المذكورين في المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوي الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك .فيكون قوله تعالى ( وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ ) ، إشعاراً بأن تأثير الأسباب في مسبباتها إنما هو بإرادته - تعالى - .وخص السمع والبصر بالذهاب مع أنها من جملة مشاعرهم ، لأهميتها . ولأنها هي التي سبق ذكرها ، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان قادراً على إذهاب ما حافظوا عليه ، كان قادراً على غيره من باب أولى .ثم ختم الآية بقوله - تعالى - ( إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .الشيء في أصل اللغة كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، ويحمل في هذه الآية على الممكن خاصة موجوداً كأن أو معدوماً ، لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل .والقدير : الفعال لما يريد ، يقال : قدره على الشيء أقدره قدرة وقدراً .وهذه الجملة الكريمة بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الجملة السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيب وأبصارهم متى شاء .وتطبيق هذا المثل على المنافقين يقال فيه : إن أصحاب الصيب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهاثل ، ولا يستطيعون فتح أعينهم في البرق اللامع ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم فزعاً من قصف الرعد ، وخوفاً من صواعق تجلجل فوق رءوسهم فتدعهم حصيداً خامدين ، وكذلك حال هؤلاء المنافقين فإنهم لضعف بصائرهم ، وانطماس عقولهم ، تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه ، فتشمئز قلوبهم ويصرفون عنه أسماعهم خشية أن تتلى عليهم آيات تقع على أسماعهم وقع الصواعق المهلكة .قال ابن كثير : " وذهب ابن جرير ومن تبعه من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين ، وتكون " أو " في قوله تعالى ( أَوْ كَصَيِّبٍ ) بمعنى الواو ، كقوله تعالى ( وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) أو تكون للتخيير ، أي ، اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا ، أو للتساوى مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين . قلت : وهذا يكون باعتبار أجناس المنافقين ، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة بقوله : ( وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي ) ( وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ) ( وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ) الخ . فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم ."هذا ، ويرى فضيلة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز . أن المثلين لطائفتي الكافرين والمنافقين ، فالمثل الأول وهو قوله تعالى ( مثلهم كمثل الذين استوقد ناراً ) ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التي ذكرها الله للكافرين وأن الذي ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثاني وحده وهو قوله تعالى ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ . . . ) فقد ضرب الله لكلتا الطائفتين مثلا يناسبها .قال فضيلته : فضرب مثلا للمصرّين المختوم على قلوبهم بقوم كانوا يسيرون في ظلام الليل فيهم رجل استوقد لهم ناراً يهتدون بضوئها ، فلما أضاءت ما حوله لم يفتح بعض القوم أعينهم لهذا الضوء الباهر ، بل لأمر ما سلبوا نور أبصارهم ، وتعطلت سائر حواسهم عند هذه المفاجأة ، فذلك مثل النور الذي طلع به محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الأمة على فترة من الرسل ، فتفتحت له البصائر المستنيرة هنا وهناك ، لكنه لم يوافق أهواء المستكبرين الذين ألفوا العيش في ظلام الجاهلية ، فلم يرفعوا له رأسا بل نكسوا على رؤسهم ، ولم يفتحو له عيناً بل خروا عليه صما وعمياناً .وضرب مثلا للمترددين المخادعين بقوم جامتهم السماء بغيث منهمر في ليلة ذات رعد وبرق ، فأما الغيث فلم يلقوا له بالا ولم ينالوا منه نيلا ، فلا شربوا منه قطرة ، ولا استنبتوا به ثمرة . . وأما تلك التقلبات الجوية من الظلمات والرعد والبرق فكانت هي مثار اهتمامهم ، ومناط تفكيرهم ، ولذلك جعلوا يترصدونها ، ويدبرون أمورهم على وفقها ، لابسين لكل حال لبوسهها : سيراً تارة ، ووقوفاً تارة ، واختفاء تارة أخرى .فكانوا إذا رأوا عرضاً قريباً وسفراً قاصداً وبرقت لهم ( بروق ) الأمل في الغنيمة ساروا مع المؤمنين جنباً إلى جنب ، وإذا دارت رحا الحرب وانقضت صواعقها منذرة بالموت والهزيمة أخذوا حذرهم وفروا من وجه العدو قائلين " إن بيوتنا عورة " حتى إذا كانت الثالثة فلم يلمحوا من الآمال بارقة ولم يتوقعوا من الآلام صاعقة ، بل اشتبهت عليهم الأمور فهناك يقفون متربصين لا يتقدمون ولا يتأخرون ، ولكن يلزمون شقة الحياد ريثما تنقشع سحابة الشك ( فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين ) ذلك دأب المنافقين في كل أمرهم ، إن توقعوا ربحاً عاجلاً التمسوه في أي صف وجدوه ، وإن توقعوا أذى كذلك تنكروا للفئة التي ينالهم في سبيلها شيء مكروه؛ وإذا أظلم عليهم الأمر قاموا بعيداً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ أما الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإن له قبله واحدة يولى وجهه شطرها ، هي قبلة الحق لا يخشى فيها لومة لائم :وليس يبالي حين يقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعههذا هو رأي فضيلة الدكتور دراز ، وهو رأي مستساغ يتمشى مع روح الآيات وأهداف السورة ، وأياما كان فالمثلان يصوران أحوال المبطلين بصورة حسية واضحة تتجلى فيها بلاغة القرآن الكريم في إبراز المعاني المعقولة في صورة محسة واضحة من شأنها أن تهدي الناس إلى طريق الحق والرشاد .
Arabic Waseet Tafseer
2:20
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم, والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم, وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم, فقال: " يكاد البرق "، يعني بالبرق، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته." يَخطفُ أبصَارهم "، يعني: يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .469- كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث, قال: حدثنا بشر بن عُمارة, عن أبي رَوْق، عن الضحاك, عن ابن عباس, في قوله: " يكاد البرقُ يخطف أبصارهم "، قال: يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل (97) .قال أبو جعفر: والخطف السلب, ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة، يعني بها النُّهبة (98) . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف، لاختطافه واستلابه ما عَلق به، ومنه قول نابغة بني ذُبيان:خَطَـاطِيفُ حُجْـنٌ فِـي حِبَـالٍ متينةٍتَمُــدُّ بهــا أَيــدٍ إِلَيْـكَ نَـوَازِعُ (99)فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره, مثلا.ثم قال تعالى ذكره: " كلما أضاء لهم "، يعني أن البرق كلما أضاء لهم, وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك: أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءتُه لهم: أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم، من النُّصرة على الأعداء, وإصابةِ الغنائم في المغازي, وكثرة الفتوح, ومنافعها, والثراء في الأموال, والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار، ابتغاءَ ذلك, ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم, وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [سورة الحج: 11].ويعني بقوله " مشوا فيه "، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه, كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه, إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها." وإذا أظلم "، يعني: ذهب ضوءُ البرق عنهم.ويعني بقوله " عليهم "، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك: أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء، من إخفاقهم في مَغزاهم، وإنالة عدوّهم منهم (100) ، أو إدبارٍ من &; 1-359 &; دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم (101) ، وَثبتوا على ضلالتهم، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره (102) إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق, فحارَ في طريقه، فلم يعرف مَنهجه.* * *القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ &; 1-360 &; لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْقال أبو جعفر: وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم (103) - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين, أعني قوله: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ ، وقوله: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم, وعيدًا من الله لهم, كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم, لإحلال سَخَطه بهم, وإنـزال نِقْمته عليهم, ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته, ومخوِّفَهم به عقوبته, ليتقوا بأسَه, ويُسارعوا إليه بالتوبة.470- كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة , أو عن سعيد بن حبير, عن ابن عباس: " ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم "، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته (104) .471- وحدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس, قال: ثم قال -يعني قال الله- في أسماعهم، يعني أسماعَ المنافقين، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس: " ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم " (105) .قال أبو جعفر: وإنما معنى قوله: " لذهب بسمعهم وأبصارهم "، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا: ذهبتُ ببصره, وإذا حذفوا الباء قالوا: أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه: آتِنَا غَدَاءَنَا [سورة الكهف: 62]، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل: ائتنا بغدَائنا (106) .قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: " لذهب بسمعهم " فوحَّد, وقال: " وأبصارهم " فجمع؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة (107) ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة؟ (108)قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك, فقال بعض نحويي الكوفة: وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق, وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم: أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد، فإنه بمعنى جماعة (109) . ويحتج في ذلك بقول الله: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [سورة إبراهيم: 43]، يريد: لا ترتد إليهم أطرافهم, وبقوله: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر: 45]، &; 1-361 &; يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع, فكان في دلالته على المراد منه, وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة، مُغنيًا عن جِمَاعه (110) . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع, أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار -من الجمع والتوحيد- كان فصيحًا صحيحًا، لما ذكرنا من العلة، كما قال الشاعر:كُلُــوا فِي بَعْـضِ بَطْنِكُـمُ تَعِفُّـوافَإِنَّ زَمَــانَنَا زَمَـــنٌ خَــمِيصُ (111)فوحّد البطن, والمرادُ منه البطون، لما وصفنا من العلة.* * *القول في تأويل قوله جل ثناؤه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)قال أبو جعفر: وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع, لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال: فاتقوني أيُّها المنافقون، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي، لا أحِلَّ بكم نقمتي، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى " قدير " قادر, كما معنى " عليم " عالم, على ما وصفتُ فيما &; 1-362 &; تَقدم من نظائره، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم (112) .-------------------------الهوامش :(97) الخبر 469- لم أجده . والتمع البصر أو غيره : اختلسه واختطفه وذهب به . ومنه الحديث : "إذا كان أحدكم في الصلاة ، فلا يرفع بصره إلى السماء يلتمع بصره" ، أي يختلس .(98) الذي ذكره ابن الأثير في النهاية أن الخطفة : ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية ، لأن كل ما أبين من حي فهو ميت ، وذلك أن النهي عن الخطفة كان لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، رأى الناس يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم ويأكلونها . قال : والخطفة المرة الواحدة من الخطف ، فسمى بها العضو المختطف ، وأما النهبة والنهبى ، فاسم لما ينهب ، وجاء بيانها في حديث سنن أبي داود 3 : 88"فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها ، فقام عبد الرحمن بن سمرة خطيبًا ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبى" . وفي الباب نفسه من سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال : "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد ، وأصابوا غنما فانتهبوها ، فإن قدورنا لتغلى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال : إن النهبة ليست بأحل من الميتة" .(99) ديوانه : 41 ، وقبله البيت المشهور :فَــإِنَّكَ كَـالليلِ الَّـذِي هُـوَ مُـدْرِكِيوَإِنْ خِـلْتُ أَنَّ الْمُنْتَـأَى عَنْـكَ وَاسِـعُخطاطيف : جمع خطاف . وحجن : جمع أحجن ، وهو المعوج الذي في رأسه عقافة . وقال"تمد بها" ولم يقل : تمدها ، لأنه لم يرد مد الحبال ذوات الخطاطيف ، وإنما أراد اليد التي تمتد بها وفيها الخطاطيف ، لأن اليد هي الذي تتبع الشيء حيث ذهب (انظر ما سيأتي من إدخال الباء على مثل هذا الفعل ص 360 س : 6 - 9) وقوله"إليك" متعلق بقوله"نوازع" . ونوازع جمع نازع ونازعة ، من قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها : جذبها وأخرجها . أي أن هذه الأيدي تجذب ما تشاء إليك ، وترده عليك . والبيت متصل بالذي قبله ، وبيان لقوله"فإنك كالليل الذي هو مدركى" ، أراد تهويل الليل وما يرى فيه ، تتبعه حيث ذهب خطاطيف حجن لا مهرب له منها .(100) في المطبوعة"وإنالة عدوهم" ، وهو خطأ . والإدالة : الغلبة ، وهي من الدولة في الحرب ، وهو أن يهزم الجيش مرة ، ويهزمه الجيش الآخر تارة أخرى . يقال : اللهم أدلنا من عدونا! أي اللهم اجعل لنا الدولة عليه وانصرنا .(101) في المطبوعة : "قاموا على نفاقهم" . وهذه أجود .(102) في المطبوعة والمخطوطة : "كما قام السائرون في الصيب" ، وهو خطأ ، صوابه من مخطوطة أخرى .(103) في المخطوطة : "دون سائر أجسامهم" .(104) الخبر 470- من تمام الخبر الذي ساقه في الدر المنثور 1 : 32 - 33 ، وقد مضى صدره آنفًا : 451 ، 467 .(105) الأثر 471- هو من الأثر السالف رقم : 460 .(106) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 19 . وانظر ما مضى ص 357 تعليق : 3(107) في المخطوطة : "أن الخبر بالسمع" ، وهذه أجود ، وأجودهن"الخبر عن السمع" كما سيأتي في الذي يلي .(108) في المطبوعة : "كما الخبر في الأبصار" ، والذي في المخطوطة أجود .(109) في المخطوطة : "لمعنى جماعة" ، وهي صواب جيد .(110) في المطبوعة : "فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأدى معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة ، مغنيًا عن جماعة" ، وهو كلام لا معنى له . وفي المخطوطة : " . . على المراد منه واوا معنى الواحد . . " ، وقد صححت قراءتها كما ترى . وقوله" مغنيًا عن جماعه" أي عن جمعه ، والطبري يكثر استعمال"جماع" مكان جمع ، كما مضى وكما سيأتي .(111) البيت من أبيات سيبويه التي لا يعلم قائلها ، سيبويه 1 : 108 ، والخزانة 3 : 379 - 381 ، وانظر أمالي ابن الشجري 1 : 311 ، 2 : 35 ، 38 ، 343 ، وروايته : "في نصف بطنكم" . وفي المخطوطة : "تعيشوا" ، مكان"تعفوا" ، وهي رواية ذكرها صاحب الخزانة . وروايتهم جميعًا "فإن زمانكم . . " .(112) انظر تفسير قوله تعالى : "الرحيم" ، فيما مضى : ص 126 .
الطبري
2:20
قوله تعالى : يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قديرقوله تعالى : يكاد البرق يخطف أبصارهم يكاد معناه يقارب ، يقال : كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل . ويجوز في غير القرآن : يكاد أن يفعل ، كما قال رؤبة :قد كاد من طول البلى أن يمصحامشتق من المصح وهو الدرس . والأجود أن تكون بغير " أن " ; لأنها لمقاربة الحال ، و " أن " تصرف الكلام إلى الاستقبال ، وهذا متناف ، قال الله عز وجل : يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار . ومن كلام العرب : كاد النعام يطير ، وكاد العروس يكون أميرا ، لقربهما من تلك الحال . وكاد فعل متصرف على فعل يفعل . وقد جاء خبره بالاسم وهو قليل ، قال تأبط شرا :فأبت إلى فهم وما كدت آئبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفرويجري مجرى كاد كرب وجعل وقارب وطفق ، في كون خبرها بغير " أن " ، قال الله عز وجل : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة لأنها كلها بمعنى الحال والمقاربة ، والحال لا يكون معها " أن " ، فاعلم .قوله تعالى : يخطف أبصارهم الخطف : الأخذ بسرعة ، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته . فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب [ ص: 214 ] أبصارهم . ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم . ويخطف ويخطف لغتان قرئ بهما . وقد خطفه ( بالكسر ) يخطفه خطفا ، وهي اللغة الجيدة ، واللغة الأخرى حكاها الأخفش : خطف يخطف .الجوهري : وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف . وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم وقال النحاس : في يخطف سبعة أوجه ، القراءة الفصيحة : يخطف . وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب : يخطف بكسر الطاء ، قال سعيد الأخفش : هي لغة . وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء . وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء . قال الفراء : وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء . قال الكسائي والأخفش والفراء : يجوز " يخطف " بكسر الياء والخاء والطاء . فهذه ستة أوجه موافقة للخط . والسابعة حكاها عبد الوارث قال : رأيت في مصحف أبي بن كعب " يتخطف " ، وزعم سيبويه والكسائي أن من قرأ " يخطف " بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده يختطف ، ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين . قال سيبويه : ومن فتح الخاء ألقى حركة التاء عليها . وقال الكسائي : ومن كسر الياء فلأن الألف في اختطف مكسورة . فأما ما حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز ، لأنه جمع بين ساكنين . قال النحاس وغيره . قلت : وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء " يخطف " . قال ابن مجاهد : وأظنه غلطا ، واستدل على ذلك بأن " خطف الخطفة " لم يقرأه أحد بالفتح . " أبصارهم " جمع بصر ، وهي حاسة الرؤية . والمعنى : تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم . ومن جعل البرق مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم .قوله تعالى : كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا كلما منصوب لأنه ظرف . وإذا كان كلما بمعنى " إذا " فهي موصولة والعامل فيه مشوا وهو جوابه ، ولا يعمل فيه أضاء ; لأنه في صلة ما . والمفعول في قول المبرد محذوف ، التقدير عنده : كلما أضاء لهم البرق الطريق . وقيل : يجوز أن يكون فعل وأفعل بمعنى ، كسكت وأسكت ، فيكون أضاء وضاء سواء فلا يحتاج إلى تقدير حذف مفعول . قال الفراء : يقال ضاء وأضاء ، وقد تقدم . والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه ، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه [ ص: 215 ] ويضلون به أو يكلفونه قاموا أي ثبتوا على نفاقهم ، عن ابن عباس . وقيل : المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا : دين محمد دين مبارك ، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم ، عن ابن مسعود وقتادة . قال النحاس : وهذا قول حسن ، ويدل على صحته : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه وقال علماء الصوفية : هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءا ، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوي إلى أحوال الأكابر ، كأن تضيء عليه أحوال الإرادة لو صححها بملازمة آدابها ، فلما مزجها بالدعاوي أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها . وروي عن ابن عباس أن المراد اليهود ، لما نصر النبي صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا : هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له راية ، فلما نكب بأحد ارتدوا وشكوا ، وهذا ضعيف . والآية في المنافقين ، وهذا أصح عن ابن عباس ، والمعنى يتناول الجميع .قوله تعالى : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم لو حرف تمن وفيه معنى الجزاء ، وجوابه اللام . والمعنى : ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم . وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا ، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان . وقرئ " بأسماعهم " على الجمع ، وقد تقدم الكلام في هذا .قوله تعالى : إن الله على كل شيء قدير عموم ، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه . وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير ، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر . والقدير أبلغ في الوصف من القادر ، قاله الزجاجي . وقال الهروي : والقدير والقادر بمعنى واحد ، يقال : قدرت على الشيء أقدر قدرا وقدرا ومقدرة ومقدورة وقدرانا ، أي قدرة . والاقتدار على الشيء : القدرة عليه . فالله جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم . فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر ، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره . ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة ، وأنه غير مستبد بقدرته . وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها ; لأنه تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة ، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك . والله أعلم .[ ص: 216 ] فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين ، أربع آيات في وصف المؤمنين ، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين ، وبقيتها في المنافقين . وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج ، وقاله مجاهد أيضا .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:20
{ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ } البرق في تلك الظلمات { مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أي: وقفوا. فهكذا حال المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده, جعلوا أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد, ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا تمكن له السلامة. وأما المنافقون فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء. ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي: الحسية, ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض. وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
Arabic Saddi Tafseer
2:20
{يكاد البرق} أي يقرب، يقال: كاد يفعل إذا قرب ولم يفعل.{يخطف أبصارهم} يختلسها، والخطف استلاب بسرعة.{يكاد البرق يخطف أبصارهم} أي القرآن يبهر قلوبهم.وقيل: هذا مثل ضربه الله للإسلام فالمطر الإسلام والظلمات ما فيه من البلاء والمحن، والرعد: ما فيه من الوعيد والمخاوف في الآخرة، والبرق: ما فيه من الوعد والوعيد.يكاد البرق يعنى دلائل الإسلام تزعجهم إلى النظر لولا ما سبق لهم من الشقاوة.{كلما} "كل" حرف جملة ضم إلى "ما" الجزاء فصار أداة للتكرار ومعناهما متى ما.{أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا} أي وقفوا متحيرين، فالله تعالى شبههم في كفرهم ونفاقهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة أصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها أن الساري (لا يمكنه) المشي فيها، ورعد من صفته أن يضم السامعون أصابعهم إلى آذانهم من هوله، وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويعميها من شدة توقده، فهذا مثل ضربه الله للقرآن وصنيع الكافرين والمنافقين معه، فالمطر القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان، والظلمات ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك، والرعد ما خوفوا به من الوعيد، وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى والبيان والوعد وذكر الجنة.والكافرون يسدون آذانهم عند قراءة القرآن مخافة ميل القلب إليه لأن الإيمان عندهم كفر والكفر موت.{كلما أضاء لهم مشوا فيه} يعني أن المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان آمنوا فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة.وقيل: معناه كلما نالواغنيمة وراحة في الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم.{وإذا أظلم عليهم قاموا} يعني رأوا شدة وبلاء تأخروا، وقاموا: أي وقفوا كما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [1-الحج].{ولو شاء الله لذهب بسمعهم} أي بأسماعهم.{وأبصارهم} الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة.وقيل: لذهب بما استفادوا من العز والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر.{إن الله على كل شيء قدير} قادر.قرأ عامر وحمزة "شاء" و"جاء" حيث كان بالإمالة.
Arabic Baghawy Tafseer
2:20
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة.
ابن كثير
2:21
نداء من الله للبشر جميعًا: أن اعبدوا الله الذي ربَّاكم بنعمه، وخافوه ولا تخالفوا دينه؛ فقد أوجدكم من العدم، وأوجد الذين من قبلكم؛ لتكونوا من المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
المیسر
2:21
استئناف ابتدائي ثني به العِنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله ، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه لما استوفى أحوالاً للمؤمنين وأضدادِهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشاداً لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفاً من سوء صنعهم حائلاً دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصاً على صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحاً وحباً لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم .وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحساناً وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظَّه منه . فالمقصود بالنداء من قوله : { يأيها الناس } الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيأيها الناس ، وقرينة ذلك هنا قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ البقرة : 22 ] وافتتح الخطاب بالنداء تنويهاً به .و ( يا ) حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالاً فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلاً كان مشتركاً لنداء القريب والبعيد كما في «القاموس» . قال الرضي في «شرح الكافية» : إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلافُ الأصل ، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في «الكشاف» : «ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة من بعد» وكذلك فعل في كتاب «المفصل» .و ( أيٌّ ) في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة ، نحو أيُّ رجل أو بطريق الإبدال نحو يأيها الرجل ، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذٍ نكرة مقصودة أو غير مقصودة ، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفاً باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفنناً فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذٍ مع اللام باسم إشارة إغراقاً في تعريفه ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذٍ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق .وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقوا ( هَا ) التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة ، فأصل يأيها الناس يأيهؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه :أيهذَاننِ كُلا زاديكما ... وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضاً بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فرداً من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيًّا كذلك نحو : { يأيها الذي نزل عليه الذكر } [ الحجر : 6 ] .و ( الناس ) تقدم الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى : { ومن الناس } [ البقرة : 8 ] وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بأل يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلى بأل .فإن نظرت إلى صورة الخطاب فهو إنما واجه به ناساً سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية ، ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين وذلك أمر قد تواتر نقلاً ومعنى فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس ، وإن نظرت إلى أن هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح للمخاطبة بذلك وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من نحو قولهم يا قوم ، ويا فتى ، وأنتَ ترى ، وبهذا تعلم ، ونحو ذلك فما ظنك بخطاب الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاماً لكل من يشمله اللفظ من غير استعانة بدليل آخر . وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا؟ والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجودين دون مَن بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال العضد إن إنكار ذلك مكابرة ، وبحث فيه التفتزاني ، فهم قالوا إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما تواتر من عموم البعثة وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه البيضاوي .قلت : الظاهر أن خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين ، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد ، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة ، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في تعلق الأمر في علم أصول الفقه فنفرض مثلَه في توجه الخطاب .والعبادة في الأصل التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له .فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده ، ومن الإيمان بالرسول ، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول ، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبى ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك : { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] على قوله : { اعبدوا ربكم } الآية . فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يُعنَى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول ، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة .وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } في سورة الفاتحة ( 2 ) . ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله ، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذاناً بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج .وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله ، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام ، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى : { فمن حج البيت أو اعتمر } [ البقرة : 158 ] في هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصُول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله : { اعبدوا ربكم } صريحاً في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله : { الذي خلقكم } زيادة بيان لموجب العبادة ، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة .وقوله : { والذين من قبلكم } يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا { نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] فكان قوله : { والذين من قبلكم } تذكيراً لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى . ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف ( من ) في قوله : { من قبلكم } الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على { قبلكم ، لأن ( من ) في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبْلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد .والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلَق الأديمَ إذا هيأه ليقطعه ويخرزه ، قال جبير في هرم بن سنان :ولأَنْتَ تفري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ض القوم يَخْلقُ ثم لا يفريوأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزوج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات ، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع ، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى : { أفمن يخلُق كمن لا يخلُق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] وقال : { هل من خالق غير الله } [ فاطر : 3 ] وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه .وقال الغزالي في «المقصد الأسنى» : لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغاً ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم ( أي الخالق ) عليه مجازاً ا ه . فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع بعض العباد مشروطاً بهذه الحالة النادرة ومع ذلك جعله مجازاً بعيداً فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه السلام : { إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائراً بإذن الله } [ آل عمران : 49 ] وقول الله تعالى : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني } [ المائدة : 110 ] فإن ذلك مراعىً فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى . ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك قال الله تعالى : { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] .وجملة : { لعلكم تتقون } تعليل للأمر باعبدوا فلذلك فصلت ، أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا .«ولعل» حرف يدل على الرجاء ، والرجاء هو الإخبار عن تهيىء وقوع أمر في المستقبل وقوعاً مؤكداً ، فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي حرفي . وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم فللشك جانب في معناها حتى قال الجوهري : «لعل كلمة شك» وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } [ الأعراف : 13 ] مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد .ولهم في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه :أحدها قال سيبويه : «لعل على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين ا ه . يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجواً ، واختاره الرضي قائلاً لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية .وأقول لا يعني سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجياً ومرجواً منه فحرف الرجاء على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي ، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام ، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز ، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو .ثانيها : أن لعل للإطماع تقول للقاصد لعلك تنال بغيتك ، قال الزمخشري : «وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن» . والإطماع أيضاً معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين .ثالثها : أنها للتعليل بمعنى كي قاله قطرب وأبو علي الفارسي وابن الأنباري؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء ، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله : { وما يدريك لعل الساعة قريب } [ الشورى : 17 ] لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب ولا يرد عليهم أيضاً أنه إثبات معنى في ( لعل ) لا يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولاً متفرعاً على قول من جعلها للإطماع فقال : «ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل» قال من قال : إن لعل بمعنى كي ، يعني فهو معنى مجازي ناشيء عن مجاز آخر ، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب .رابعها : ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» أنها استعارة فقال : «ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ومصداقه قوله تعالى :{ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [ هود : 7 ] وإنما يبلي ويختبر من تخفي عنه العواقب ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار فكلام «الكشاف» يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة .وعندي وجه آخر مستقل وهو : «أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره ، فإذا قلت افتقد فلاناً لعلك تنصحه كان إخباراً باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد يعلم انتفاؤه بالقرينة وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع ، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازاً أو استعارة لأن لعل إنما أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجأوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به . وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة .والتقوى هي الحذر مما يكره ، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها ، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين ، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] . ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثراً للأمر بالعبادة وتقدم عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين ، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضحُ الفائدة .
Arabic Tanweer Tafseer
2:21
وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة ، وعاقبة كل قسم منهم ، ساقت لهم نداء عاماً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى :( يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا . . . )في هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه ، وبيان البراهين الساطعة التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته .و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء .و " أي " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذي يأتي بعده .و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء .و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية .وقد كثر النداء في القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيراً ما يقتضيه المقام .وفي ذكره تعالى باسم الرب ، وإضافته إلى المخاطبين ، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته .فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكاً له ، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق ، وما يجود به عليه من إنعام ، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال .وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى ، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله .ثم بين - سبحانه - الموجبات التي من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال ( الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ ) .والخلق : أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية ، ويطلق في القرآن وفي عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة ، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر .والمعنى : اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده ، لأنه هو الذي أوجدكم في أحسن تقويم بعد أن كنتم في عدم ، كما أوجد الذين تقدموكم .وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم ، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره .وقوله تعالى : ( والذين مِن قَبْلِكُمْ ) فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .فكان قوله : ( والذين مِن قَبْلِكُمْ ) تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى .وجملة " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " تعليل للأمر بالعبادة ، ولذلك فصلت .و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجي ، وهو توقع حصول الشيء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه . والشيء المتوقع حصوله في الآية هو التقوى وسببه العبادة ، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درحة التقوى وهي الفوز بالهدى والفلاح ، والترجي قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب ، فيكون المترجي هو المخاطب لا المتكلم ، وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية ، لاستحالة توقع حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة ، لأن توقع الإِنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع ، وعليه فيكون المعنى : اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين ، الذين بلغوا الغاية في الهدى والفلاح .
Arabic Waseet Tafseer
2:21
القول في تأويل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْقال أبو جعفر: فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون (113) ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم (114) ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله: آمنّا بالله وباليوم الآخر, مع استبطانه خلافَ ذلك, ومرض قلبه, وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة، والخضوع له بالطاعة, وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم, وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره: فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ (115) .وكان ابن عباس: فيما رُوي لنا عنه، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه, غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى " اعبُدوا ربكم ": وحِّدوا ربكم. وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى العبادة: الخضوعُ لله بالطاعة، &; 1-363 &; والتذلل له بالاستكانة (116) . والذي أراد ابن عباس -إن شاء الله- بقوله في تأويل قوله: " اعبدوا ربكم " وحِّدوه، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه (117) .472- حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: قال الله: " يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم "، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين, أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم (118) .473- وحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, عن أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم " يقول: خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم (119) .قال أبو جعفر: وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم: أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا، بعبادته والتوبة من كفره, بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.القول في تأويل قوله : لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)قال أبو جعفر: وتأويل ذلك: لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم, وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه, وإفرادكُم له العبادة (120) لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم, وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله: " لعلكم تتقون ": تُطيعون.474- حدثنا ابن وكيع, قال: حدثني أبي، عن سفيان, عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قوله: " لعلكم تتقون "، قال: لعلكم تطيعون (121) .قال أبو جعفر: والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا: لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال جل ثناؤه: " لعلكم تتقون "؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه, حتى قال لهم: لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا, فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ؟قيل له: ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ, وإنما معنى ذلك: اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم, لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة (122) ، كما قال الشاعر:وَقُلْتُــمْ لَنَـا كُفُّـوا الْحُـرُوبَ, لَعَلَّنَـانَكُــفُّ! وَوَثَّقْتُـمْ لَنَـا كُـلَّ مَـوْثِقِ (123)فَلَمَّـا كَفَفْنَـا الْحَـرْبَ كَـانَتْ عُهُودُكُمْكَــلَمْحِ سَـرَابٍ فِـي الْفَـلا مُتَـأَلِّقِ (124)يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن " لعل " في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.------------------الهوامش :(113) في المخطوطة : "أأنذرتهم أم لم تنذرهم" ، وهما سواء في المعنى .(114) في المطبوعة : " . . وعلى سمعهم وأبصارهم" ، والصواب حذف"وأبصارهم" ، لأنها غير داخلة في معنى الطبع ، كما مضى في تفسير الآية .(115) في المخطوطة : "على ضرر ولا نفع" ، وهما سواء .(116) مضى في تفسير قوله تعالى"إياك نعبد" ص : 160 .(117) في المخطوطة"وحدوه له أفردوا . . " ، وليس لها معنى .(118) الخبر 472- في الدر المنثور 1 : 33 ، وابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 38 . وفي الدر والشوكاني : "من الكفار والمؤمنين" ، ووافق ابن كثير أصول الطبري .(119) الخبر 473- في الدر المنثور 1 : 33 ، ولم ينسب إخراجه لابن جرير . وفي المخطوطة : "خلقكم والذين . . " .(120) في المطبوعة : "له بالعبادة" وهو خطأ .(121) الأثر 474- في الدر المنثور 1 : 34 .(122) يريد الطبري أن العرب تستعمل"لعل" مجردة من الشك ، بمعنى لام كي ، كما قال ابن الشجري في أماليه 1 : 51 .(123) لم أعرف قائلهما ، ورواهما ابن الشجري نقلا عن الطبري ، فيما أرجح ، في أماليه 1 : 51 .(124) رواية ابن الشجري"في الملا" . والفلا جمع فلاة : وهي الأرض المستوية ليس فيها شيء والصحراء الواسعة . والملا : الصحراء والمتسع من الأرض - فهما سواء في المعنى .
الطبري
2:21
قوله تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون قوله سبحانه وتعالى : يا أيها الناس اعبدوا قال علقمة ومجاهد : كل آية أولها يا أيها الناس فإنما نزلت بمكة ، وكل آية أولها يا أيها الذين آمنوا فإنما نزلت بالمدينة . قلت : وهذا يرده أن هذه السورة والنساء مدنيتان وفيهما يا أيها الناس . وأما قولهما في يا أيها الذين آمنوا فصحيح . وقال عروة بن الزبير : ما كان من حد أو فريضة فإنه نزل بالمدينة ، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه نزل بمكة . وهذا واضح . و " يا " في قوله : يا أيها - حرف نداء . " أي " منادى مفرد مبني على الضم ; لأنه منادى في اللفظ ، و " ها " للتنبيه . " الناس " مرفوع صفة لأي عند جماعة النحويين ، ما عدا المازني فإنه أجاز النصب قياسا على جوازه في : يا هذا الرجل . وقيل : ضمت " أي " كما ضم المقصود المفرد ، وجاءوا ب " ها " عوضا عن ياء أخرى ، وإنما لم يأتوا بياء لئلا ينقطع الكلام فجاءوا ب " ها " حتى يبقى الكلام متصلا . قال سيبويه : كأنك كررت " يا " مرتين وصار الاسم بينهما ، كما قالوا : ها هو ذا . وقيل : لما تعذر عليهم الجمع بين حرفي تعريف أتوا في الصورة بمنادى مجرد عن حرف تعريف ، وأجروا عليه المعرف باللام المقصود بالنداء ، والتزموا رفعه ; لأنه المقصود بالنداء ، فجعلوا إعرابه بالحركة التي كان يستحقها لو باشرها النداء تنبيها على أنه المنادى ، فاعلمه .واختلف من المراد بالناس هنا على قولين : أحدهما : الكفار الذين لم يعبدوه ، يدل عليه قوله وإن كنتم في ريب الثاني : أنه عام في جميع الناس ، فيكون خطابه للمؤمنين باستدامة العبادة ، وللكافرين بابتدائها . وهذا حسن .قوله تعالى : " اعبدوا " أمر بالعبادة له . والعبادة هنا عبارة عن توحيده والتزام شرائع دينه . وأصل العبادة الخضوع والتذلل ، يقال : طريق معبدة إذا كانت موطوءة بالأقدام .[ ص: 217 ] قال طرفة :وظيفا وظيفا فوق مور معبدوالعبادة : الطاعة . والتعبد : التنسك . وعبدت فلانا : اتخذته عبدا .قوله تعالى الذي خلقكم خص تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها ، فذكر ذلك حجة عليهم وتقريعا لهم . وقيل : ليذكرهم بذلك نعمته عليهم . وفي أصل الخلق وجهان : أحدهما : التقدير ، يقال : خلقت الأديم للسقاء إذا قدرته قبل القطع ، قال الشاعر :ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفريوقال الحجاج : ما خلقت إلا فريت ، ولا وعدت إلا وفيت . الثاني : الإنشاء والاختراع والإبداع ، قال الله تعالى : وتخلقون إفكا .قوله تعالى : والذين من قبلكم فيقال إذا ثبت عندهم خلقهم ثبت عندهم خلق غيرهم ، فالجواب : أنه إنما يجري الكلام على التنبيه والتذكير ليكون أبلغ في العظة ، فذكرهم من قبلهم ليعلموا أن الذي أمات من قبلهم وهو خلقهم يميتهم ، وليفكروا فيمن مضى قبلهم كيف كانوا ، وعلى أي الأمور مضوا من إهلاك من أهلك ، وليعلموا أنهم يبتلون كما ابتلوا . والله أعلم .قوله تعالى : لعلكم تتقون " لعل " متصلة ب " اعبدوا " لا ب " خلقكم " ; لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي . وهذا وما كان مثله فيما ورد في كلام الله تعالى من قوله : لعلكم تعقلون ، لعلكم تشكرون ، لعلكم تذكرون ، لعلكم تهتدون فيه ثلاث تأويلات : الأول : أن " لعل " على بابها من الترجي والتوقع ، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر ، فكأنه قيل لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا . هذا قول سيبويه ورؤساء اللسان قال سيبويه في قوله عز وجل : " اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " قال معناه : اذهبا على طمعكما ورجائكما أن يتذكر أو يخشى . واختار هذا القول أبو المعالي .[ ص: 218 ] الثاني : أن العرب استعملت " لعل " مجردة من الشك بمعنى لام كي . فالمعنى لتعقلوا ولتذكروا ولتتقوا ، وعلى ذلك يدل قول الشاعر :وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكمكلمع سراب في الملا متألقالمعنى : كفوا الحروب لنكف ، ولو كانت " لعل " هنا شكا لم يوثقوا لهم كل موثق ، وهذا القول عن قطرب والطبري .الثالث : أن تكون " لعل " بمعنى التعرض للشيء ، كأنه قيل : افعلوا ذلك متعرضين لأن تعقلوا ، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا . والمعنى في قوله لعلكم تتقون أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار . وهذا من قول العرب : اتقاه بحقه إذا استقبله به ، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة ، ومنه قول علي رضي الله عنه : كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو . وقال عنترة :ولقد كررت المهر يدمى نحره حتى اتقتني الخيل بابني حذيم
Arabic Qurtubi Tafseer
2:21
هذا أمر عام لكل الناس, بأمر عام, وهو العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
Arabic Saddi Tafseer
2:21
قوله تعالى: {يا أيها الناس} قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يا أيها الناس خطاب أهل مكة، ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة وهو هاهنا عام إلا من حيث أنه لا يدخله الصغار والمجانين".{اعبدوا} وحدوا.قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد".{ربكم الذي خلقكم} الخلق: اختراع الشيء على غير مثال سبق.{والذين من قبلكم} أي وخلق الذين من قبلكم.{لعلكم تتقون} لكي تنجوا من العذاب، وقيل: معناه كونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله، وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء كما قال: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [44-طه] أي ادعواه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر، وحكم الله من ورائه يفعل ما يشاء،قال سيبويه: "(لعل) و(عسى) حرفا ترج وهما من الله واجب".
Arabic Baghawy Tafseer
2:21
وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشا أي مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات والسماء بناء وهو السقف كما قال في الآية الأخرى "وجعلنا السماء سقف محفوظا وهم عن آياتها معرضون" "وأنزل من السماء ماء" والمراد به السحاب هاهنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقا لهم ولأنعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى "الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين" ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ولهذا قال "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون" وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" الحديث وكذا حديث معاذ "أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" الحديث وفي الحديث الآخر "لا يقول أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان" وقال حماد بن سلمة حدثنا عبدالملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال "هل أخبرت بها أحدا؟ " قلت: نعم. فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال "أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده" هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر عن عبدالملك بن عمير به بنحوه وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبدالله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وما شئت فقال "أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده". رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم إن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل فلا تجعلوا لله أندادا وقال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سواء في ظلمة الليل وهوان يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيه فلان هذا كله به شرك. وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت قال "أجعلتني لله ندا" وفي الحديث الآخر "نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان". قال أبو العالية: فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد وقال مجاهد فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. "ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة" قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها فقال له عيسى عليه السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله أمرنى بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه. وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه وأمركم بذكر الله كثيرا وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله" قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم" قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى. فقال "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله "وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا" وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه كما قال بعض الأعراب وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير وإن أثر الأقدام لتدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟. وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع. فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثا وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: هاهنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيـون من لجين شاخصـــات بأحداق هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليـس له شـريك وقال ابن المعتز: فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحـد وفي كل شـــــيء له آية تــدل على أنه واحــد وقال آخرون من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ونظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى "ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء" وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.
ابن كثير
2:22
ربكم الذي جعل لكم الأرض بساطًا؛ لتسهل حياتكم عليها، والسماء محكمة البناء، وأنزل المطر من السحاب فأخرج لكم به من ألوان الثمرات وأنواع النبات رزقًا لكم، فلا تجعلوا لله نظراء في العبادة، وأنتم تعلمون تفرُّده بالخلق والرزق، واستحقاقِه العبودية.
المیسر
2:22
يتعين أن قوله : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله : { الذي خلقكم } [ البقرة : 21 ] ، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده ، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني ، وذلك ما أشير إليه بقوله : { والسماء بناء } وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو ، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة ، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار .والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع .ومعنى جعل الأرض فراشاً أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار . والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة .وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة ، فإن للكرة الهوائية دفعاً لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة ، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء ، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر ، ومنه قولهم : بنى على امرأته إذا تزوج لأن المتزوج يجعل بيتاً يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر اطلاق البناء على القبة من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها ، وهذا كقوله في سورة الأنبياء ( 32 ) : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً }فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية :{ والذين جاءوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم : أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله : { لكم } فهل نخص تعلقه بفعل { جعل } المصرح به دون تعلقه بالفعل المطوي تحت واو العطف ، أو بجعله متعلقاً بقوله : { فراشاً } فيكون قوله : { والسماء بناء } معطوفاً على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق .قلت : هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله : { لكم } تحكماً لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل { لكم } متعلقاً بفعل { جعل } ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال .وحذف ( لكم ) عند ذكر السماء إيجازاً لأن ذكره في قوله : { الذي جعل لكم الأرض } دليل عليه .و ( جعل ) إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض ( الجيولوجيا ) تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى : { أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما إلى قوله : { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون } [ الأنبياء : 30 32 ]وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة ، وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر . وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله : { وأنزل من السماء ماء } الخ . وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به .وقوله : { وأنزل من السماء ماء فأخرج به } الخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا .واعلم أن كون الماء نازلاً من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلىء دائماً بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغاً بعد أيام إذا ترك مكشوفاً للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع ، فيصير سحاباً ثم يمكث قليلاً أو كثيراً بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطراً وهو ما أشار له قوله تعالى : { وينشىء السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعاً وربما كان السحاب قليلاً فساقت إليه الريح سحاباً آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطراً ، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث : « إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غُدَيقة » ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعاً وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر .و ( من ) التي في قوله : { من الثمرات } ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسباً لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج ، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات .{ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } .أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة و ( لا ) ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوباً في جواب الأمر من قوله : { اعبدوا ربكم } والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن ضد العبادة عدم العبادة . ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساوياً لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم .والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب ، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئاً أي معادياً ، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند ، وليس بمتعين لجواز كونه اسماً جامداً وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفاً عند العرب ، فإن شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة .ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعاً ، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة ، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافىء في الشجاعة . ويقال جعل له نداً ، إذا سوى غيره به .والمعنى لاتثبتوا لله أنداداً تجعلونها جعلاً وهي ليست أنداداً وسماها أنداداً تعريضاً بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلاهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية : «لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله ، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول . وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال .وقوله : { وأنتم تعلمون } جملة حالية ومفعول { تعلمون } متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم ، والمعنى وأنتم ذو علم . والمراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحاً في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة فإنه أثبت لهم علماً ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخاً لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم . وهذا منزع تهذيبي عظيم ، أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه ، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال .وقد أومأ قوله : { وأنتم تعلمون } إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا : «إلا شريكاً هو لك» .
Arabic Tanweer Tafseer
2:22
ثم أضاف - سبحانه - أسباباً أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال : ( الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ) .الفراش : ما يفترشه الإِنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام . أي : اجعلوا عبادتكم لله الذي صير الأرض لأجلكم مهاداً كالبساط المفروش ، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة ، لكي يتهيأ لكم الاستقرار عليها . والتقلب في مناكبها ، والانتفاع بما أودع الله في باطنها من خيرات .وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها .( والسماء بِنَآءً ) يقال لسقف البيت بناء أي : جعل السماء كالسقف للأرض ، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال - تعالى - ( وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين ، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء .قال بعض الأدباء : " إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإِنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه ، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه " فهذه جملة واضحة داله على أن العالم مخلوق بتدبير كامل ، وتقدير شامل ، وحكمة بالغة ، وقدرة غير متناهية " .ثم قال - تعالى - ( وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ) :السماء : السحاب ، والثمرات : ما ينتجه الشجر . والرزق : ما يصلح لأن ينتفع به . والباء في . ( به ) للسببية .أي : أنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرة ، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب .وأورد ( مَآءً ) و ( رِزْقاً ) في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة ، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء ، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات . فمعنى الجملة الكريمة : أنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم .ثم قال - تعالى - ( فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .الأنداد : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه .وأصله من : ند البعير يند ندا ونداداً ونداً ، إذا تفرد وذهب على وجهه شارداً .والمعنى : فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة ، وتعتقدون فيها النفع والضر ، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده ، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً مساوية له تعالى ( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي : وأنتم من ذوي العلم والنظر ، فلو تأملتم أدنى تأمل لا نصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده .ولتركتم الإِشراك به .وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق ، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده .وسمي القرآن الشركاء المزعومين أنداداً تهكماً بالعابدين لها ، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة ، قادرة على مخالفته ومضادته ، وذلك معنى جعلها أنداداً الذي هو مصب النهي في الآية .وجملة ( وأنتم تعلمون ) ، حالية ، ومفعول تعلمون متروك ، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقد فنزل منزلة اللازم ، وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله ، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح ، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً ، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإِنكار . كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله ، فإن من كان من ذوي العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له ، وهذا لون جليل من ألوان التربية ، فإن من سمات المربى الناجح أن يجمع بين القسوة في النهي عن القبيح ، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس ، لأن الإِنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه خارت عزيمته ، وفترت همته .هذا ، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تدعو إلى توحيد الله ، وتنهى عن الإِشراك ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ " قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " " .قال الإِمام ابن كثير : وهذه الآية دالة على توحيده - تعالى - بالعبادة وحده لا شريك له ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانتها وطباعها ومنافعها ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الله - تعالى -؟ فقال : يا سبحانه الله!! إن البعير ليدل على البعير؛ وإن أثر القدم يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير .
Arabic Waseet Tafseer
2:22
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًاوقوله: " الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا " مردود على الَّذِي الأولى في قوله اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، وهما جميعًا من نَعت رَبَّكُمُ , فكأنّه قال: اعبدُوا ربكم الخالقكُم, والخالقَ الذين من قبلكم, الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً (125) وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره -بذلك من قِيله- عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم (126) ليذْكروا أياديَه عندهم، فينيبوا إلى طاعته -تعطُّفًا منه بذلك عليهم, ورأفةً منه بهم, ورحمةً لهم, من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم, ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.475- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة (127) ، عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " فهي فراشٌ يُمشى عليها, وهي المهاد والقرار (128) .476- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع, عن سعيد, عن قتادة: " الذي جَعل لكم الأرض فراشًا "، قال: مهادًا لكم.477- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, عن عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " ، أي مهادًا.القول في تأويل قوله : وَالسَّمَاءَ بِنَاءًقال أبو جعفر: وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه, وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت: سَمَاوةٌ (129) ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل: سَمَا فلان لفلان، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه, كما قال الفرزدق:سَــمَوْنَا لِنَجْــرَانَ الْيَمَـانِي وَأَهْلِـهِوَنَجْــرَانُ أَرْضٌ لَـمْ تُـدَيَّثْ مَقَاوِلُـهْ (130)وكما قال نابغة بني ذُبيانَ:سَــمَتْ لِـي نَظْـرَةٌ, فَـرَأيتُ مِنْهَـاتُحَــيْتَ الْخِــدْرِ وَاضِعَـةَ الْقِـرَامِ (131)يريد بذلك: أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت, فكذلك السماء سُميت للأرض: سماءً، لعلوها وإشرافها عليها.478- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " والسّماء بناء ", فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة, وهي سقف على الأرض. (132)479- حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة في قول الله: " والسماءَ بناءً"، قال: جعل السماء سَقفًا لكَ.وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم, لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم, وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم، هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ، دون الأصنام والأوثان، التي لا تضرُّ ولا تنفع.القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه: وَأَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْيعني تعالى ذكره بذلك أنه أنـزل من السماء مطرًا, فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات (133) - رزقًا لهم، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه, وذكَّرهم به آلاءَه لديهم, وأنه هو الذي خلقهم، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة. &; 1-368 &; ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم, وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل, ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.القول في تأويل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًاقال أبو جعفر: والأنداد جمع نِدّ, والنِّدّ: العِدْلُ والمِثل, كما قال حسان بن ثابت:أَتَهْجُـــوهُ وَلَسْــتَ لَــهُ بِنِــدٍّ?فَشَـــرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَـــا الْفِــدَاءُ (134)يعني بقوله: " ولستَ له بند "، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند (135) .480- كما حدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أي عُدَلاء (136) .481- حدثني المثنى, قال: حدثني أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبل, عن ابن أبي نَحيح, عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أي عُدَلاء (137) .482- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، قال: أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله (138) .483- حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (139) في قول الله: " فلا تَجعلوا لله أندادًا "، قال: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.484- حُدِّثت عن المنجاب, قال: حدثنا بِشر, عن أبي رَوْق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، قال: أشباهًا (140) .485- حدثني محمد بن سنان, قال: حدثنا أبو عاصم، عن شَبيب، عن عكرمة: " فلا تجعلوا لله أندادًا "، أن تقولوا: لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ, لولا كلبنا صَاح في الدار، ونحو ذلك (141) .فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا، وأن يعبدوا غيرَه, أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة, فقال: كما لا شريك لي في خلقكم، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم, ونعمي التي أنعمتها عليكم (142) - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة, &; 1-370 &; وأخلصُوا ليَ العبادة, ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي, فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي (143) .القول في تأويل قوله : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية:فقال بعضهم: عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.وقال بعضهم: عنى بذَلك أهلَ الكتابين، أهلَ التوراة والإنجيل (144) .ذكر من قال: عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين:486- حدثنا محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: نَـزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله: " فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون "، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ, وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره, وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه (145) .487- حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد، عن سعيد, عن قتادة في قوله: " وأنتمْ تعلمون " أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض, ثم تجعلون له أندادًا (146) .ذكر من قال: عني بذلك أهلَ الكتابين:488- حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون "، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.489- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا قَبيصة, قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد، مثله (147) .490- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " وأنتم تعلمون "، يقول: وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل (148) .قال أبو جعفر: وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل, وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها، بجحودها وحدانيةَ ربِّها, وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته, غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها, فقال جل ثناؤه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة الزخرف: 87]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [سورة يونس: 31].فالذي هو أولى بتأويل قوله: " وأنتم تعلمون " - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله, وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم, نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل &; 1-373 &; ثناؤه عني بقوله: " وأنتم تعلمون " أحدَ الحزبين, بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم, لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة, من أنه يعني بذلك كل مكلف، عالم بوحدانية الله (149) ، وأنه لا شريكَ له في خلقه، يُشرِك معه في عبادته غيرَه, كائنًا من كان من الناس, عربيًّا كان أو أعجميًّا, كاتبًا أو أميًّا, وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأهل النفاق منهم، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .--------------------الهوامش :(125) في المطبوعة : "مهادًا وموطئًا" ، وفي المخطوطة"مهادًا توتطا" ، وكأن الصواب ما أثبتناه . والموطأ : المهيأ الملين الممهد . وسيأتي أن الفراش هو المهاد .(126) في المطبوعة"زيادة نعمه عندهم ، وآلائه لديهم" ، والصواب ما في المخطوطة . وقوله"عباده" مفعول : "يذكر ربنا . . " .(127) قوله"وعن مرة" ، ساقطة من المطبوعة ، وهذا هو الصواب .(128) الخبر 475- في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 38 .(129) في المطبوعة"سماؤه" ، وكلتاهما صواب ، سماء البيت ، وسماوته : سقفه .(130) ديوانه : 735 ، والنقائض : 600 . ونجران : أرض في مخاليف اليمن من ناحية مكة . وذكر نجران ، على لفظه وأصل معناه ، والنجران في كلام العرب : الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب . وديث البعير : ذلـله بعض الذل حتى تذهب صعوبته . والمقاول : جمع مقول . والمقول والقيل : الملك من ملوك حمير . يقول : هي أرض عز عزيز ، لم يلق ملوكها ضيما يذلهم ويحني هاماتهم .(131) ديوانه : 86 ، وروايته : "صفحت بنظرة" . وقوله"صفحت" ، أي تصفحت الوجوه بنظرة ، أو رميت بنظرة متصفحًا . والقرام : ستر رقيق فيه رقم ونقوش . والخدر : خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب ، وهو الهودج . ووضع الشيء : ألقاه . وتحيت : تصغير"تحت" ، وصغر"تحت" ، لأنه أراد أن ستر الخدر بعد وضع القرام لا يبدى منها إلا قليلا ، وهذا البيت متعلق بما قبله وما بعده . وقبله :فَلَــوْ كَــانَتْ غَـدَاةَ الْبَيْـنِ مَنَّـتْوَقَـدْ رَفَعُـوا الْخُـدُورَ عَـلَى الْخِيَـامِصَفَحْـــــتُ بنظــــرةٍ . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .تَــرَائِبَ يســتضئُ الحــليُ فيهـاكَجــمْرِ النـارِ بُـذِّرَ فِـي الـظَّـلامِ(132) الخبر 478- في الدر المنثور 1 : 34 ، جمعه مع الخبر : 475 خبرًا واحدًا .(133) في المخطوطة : "زرعهم وغروسهم" ، وهما سواء .(134) ديوانه : 8 ، روايته"بكفء" ، وكذلك في رواية الطبري الآتية (18 : 69 - 70 بولاق) وقصيدة حسان هذه ، يهاجى بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، قبل إسلامه ، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .(135) في المطبوعة : "كان نظيرًا لشيء وشبيهًا" .(136) الأثر 481- في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .(137) الأثر- 481- في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .(138) الخبر 482- في الدر المنثور 1 : 34 - 35 ، والشوكاني 1 : 39 .(139) في المطبوعة : "ابن يزيد" ، وهو خطأ .(140) الخبر 484- في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .(141) الأثر 485- جاء مثله في خبر عن ابن عباس في ابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 39 . وفي المطبوعة : "أي تقولوا : لولا كلبنا . . " ، وليست بشيء . وفي المخطوطة"ونحو هذا" مكان"ونحو ذلك" . والخبر الذي في ابن كثير ، ساقه مطولا بالإسناد من تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك بن مخلد ، وهو أبو عاصم النبيل الذي في هذا الإسناد ، عن شبيب ، وهو ابن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ولعل الطبري قصر بهذا الإسناد ، لأنه يروي مثل هذه الروايات ، بهذا الإسناد إلى عكرمة ، عن ابن عباس ، كما مضى برقم : 157 . وعن ذلك إعراض ابن كثير عن نقل رواية الطبري ، واختياره رواية ابن أبي حاتم . وسياق رواية ابن أبي حاتم -عن ابن عباس- فيها فوائد جمة . ولفظها : "قال : الأنداد ، هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت . وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها"فلان" . هذا كله به شرك" . ثم قال ابن كثير : "وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت! قال : أجعلتني لله ندًّا؟!" . والحديث الذي يشير إليه ابن كثير ، رواه أحمد في المسند بأسانيد صحاح ، عن ابن عباس : 1839 ، 1964 ، 2561 ، 3247 . وكذلك رواه البخاري في الأدب المفرد ص : 116 ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح 11 : 470 للنسائي وابن ماجه .(142) في المطبوعة : "ونعمتي" بالإفراد .(143) في المطبوعة : " . . كل نعمة عليكم مني" . وهذه أجود .(144) في المطبوعة : "أهل الكتابين التوراة والإنجيل" .(145) الخبر 486- مضى صدره في رقم : 472 ، وتمامه في ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .(146) الأثر 487- في الدر المنثور 1 : 35 .(147) الإسناد 489- قبيصة ، بفتح القاف : هو ابن عقبة بن محمد السوائي الكوفي ، وهو ثقة معروف ، من شيوخ البخاري ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة ، تكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري ، بأنه يخطئ في بعض روايته ، بأنه سمع من الثوري صغيرًا ، ولكن لم يجرحه البخاري في الكبير 4/1/177 ، وقال ابن سعد في الطبقات 6 : 281 : "كان ثقة صدوقًا ، كثير الحديث عن سفيان الثوري" . وسأل ابن أبي حاتم (الجرح 3/2/126) أباه عن قبيصة وأبي حذيفة ، فقال : "قبيصة أجل عندي ، وهو صدوق . لم أر أحدًا من المحدثين يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره ، سوى قبيصة بن عقبة ، وعلي بن الجعد ، وأبي نعيم - في الثوري" .(148) الأثر 490- ذكره ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 35 ، بنحوه .(149) في المخطوطة : "من أنه معنى بذلك . . " ، وهما سواء .
الطبري
2:22
قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا فيه ست مسائل :الأولى : قوله تعالى : الذي جعل معناه هنا صير لتعديه إلى مفعولين : ويأتي بمعنى خلق ، ومنه قوله تعالى : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة وقوله : وجعل الظلمات والنور ويأتي بمعنى سمى ، ومنه قوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا . وقوله : وجعلوا له من عباده جزءا . وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ ص: 219 ] أي سموهم . ويأتي بمعنى أخذ ، كما قال الشاعر :وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة لضغمهما ها يقرع العظم نابهاوقد تأتي زائدة ، كما قال الآخر :وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبروقد قيل في قوله تعالى وجعل الظلمات والنور : إنها زائدة . وجعل واجتعل بمعنى واحد ، قال الشاعر :ناط أمر الضعاف واجتعل اللي ل كحبل العادية الممدودفراشا أي وطاء يفترشونها ويستقرون عليها . وما ليس بفراش كالجبال والأوعار والبحار فهي من مصالح ما يفترش منها ; لأن الجبال كالأوتاد كما قال : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . والبحار تركب إلى سائر منافعها كما قال : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناسالثانية : قال أصحاب الشافعي : لو حلف رجل ألا يبيت على فراش أو لا يستسرج بسراج فبات على الأرض وجلس في الشمس لم يحنث ، لأن اللفظ لا يرجع إليهما عرفا . وأما المالكية فبنوه على أصلهم في الأيمان أنها محمولة على النية أو السبب أو البساط الذي جرت عليه اليمين ، فإن عدم ذلك فالعرف .الثالثة : قوله تعالى : والسماء بناء السماء للأرض كالسقف للبيت ، ولهذا قال وقوله الحق وجعلنا السماء سقفا محفوظا وكل ما علا فأظل قيل له سماء ، وقد تقدم القول فيه والوقف على ( بناء ) أحسن منه على تتقون ; لأن قوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا نعت للرب . ويقال : بنى فلان بيتا ، وبنى على أهله - بناء فيهما - أي زفها . والعامة تقول : بنى بأهله ، وهو خطأ ، وكأن الأصل فيه أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها ، فقيل لكل داخل بأهله : بان . وبنى " مقصورا " شدد للكثرة ، وابتنى دارا وبنى بمعنى ، ومنه بنيان الحائط ، وأصله وضع لبنة على أخرى حتى تثبت .وأصل الماء موه ، قلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقلت ماه ، فالتقى حرفان [ ص: 220 ] خفيان فأبدلت من الهاء همزة ; لأنها أجلد ، وهي بالألف أشبه ، فقلت : ماء ، الألف الأولى عين الفعل ، وبعدها الهمزة التي هي بدل من الهاء ، وبعد الهمزة ألف بدل من التنوين . قال أبو الحسن : لا يجوز أن يكتب إلا بألفين عند البصريين ، وإن شئت بثلاث ، فإذا جمعوا أو صغروا ردوا إلى الأصل فقالوا : مويه وأمواه ومياه ، مثل جمال وأجمال .الرابعة : قوله تعالى : فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الثمرات جمع ثمرة . ويقال : ثمر مثل شجر . ويقال ثمر مثل خشب . ويقال : ثمر مثل بدن . وثمار مثل إكام ، جمع ثمر . وسيأتي لهذا مزيد بيان في " الأنعام " إن شاء الله . وثمار السياط : عقد أطرافها .والمعنى في الآية أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات ، وأنواعا من النبات . رزقا طعاما لكم ، وعلفا لدوابكم ، وقد بين هذا قوله تعالى : إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم وقد مضى الكلام في الرزق مستوفى والحمد لله .فإن قيل : كيف أطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ؟ قيل له : لأنها معدة لأن تملك ويصح بها الانتفاع ، فهي رزق .الخامسة : قلت : ودلت هذه الآية على أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق ، ولهذا قال عليه السلام مشيرا إلى هذا المعنى : والله لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه . أخرجه مسلم . ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا فقد أخذ بطرف من جعل لله ندا . وقال علماء الصوفية : أعلم الله عز وجل في هذه الآية سبيل الفقر ، وهو أن تجعل الأرض وطاء والسماء غطاء ، والماء طيبا والكلأ طعاما ، ولا تعبد أحدا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا ، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لا بد لك منه ، من غير منة فيه لأحد عليك . وقال نوف البكالي : رأيت علي بن أبي طالب خرج فنظر إلى النجوم فقال : يا نوف ، أراقد أنت أم رامق ؟ قلت : بل رامق يا أمير المؤمنين ، قال : طوبى [ ص: 221 ] للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة ، أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن والدعاء دثارا وشعارا ، فرفضوا الدنيا على منهاج المسيح عليه السلام . . . وذكر باقي الخبر ، وسيأتي تمامه في هذه السورة عند قوله تعالى : أجيب دعوة الداع إن شاء الله تعالى .السادسة : قوله تعالى : فلا تجعلوا نهي . " لله أندادا " أي أكفاء وأمثالا ونظراء ، واحدها ند ، وكذلك قرأ محمد بن السميقع " ندا " ، قال الشاعر :نحمد الله ولا ند له عنده الخير وما شاء فعلوقال حسان :أتهجوه ولست له بند فشركما لخيركما الفداءويقال : ند ونديد ونديدة على المبالغة ، قال لبيد :لكيلا يكون السندري نديدتي وأجعل أقواما عموما عماعماوقال أبو عبيدة أندادا أضدادا . النحاس : أندادا مفعول أول ، و " لله " في موضع الثاني . الجوهري : والند ( بفتح النون ) : التل المرتفع في السماء . والند من الطيب ليس بعربي . وند البعير يند ندا وندادا وندودا : نفر وذهب على وجهه ، ومنه قرأ بعضهم " يوم التناد " . وندد به أي شهره وسمع به .السابعة : قوله تعالى : وأنتم تعلمون ابتداء وخبر ، والجملة في موضع الحال ، والخطاب للكافرين والمنافقين ، عن ابن عباس .فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك من الختم والطبع والصمم والعمى . فالجواب من وجهين : أحدهما - وأنتم تعلمون يريد العلم الخاص بأن الله تعالى خلق الخلق وأنزل الماء وأنبت الرزق ، فيعلمون أنه المنعم عليهم دون الأنداد . الثاني - أن يكون المعنى وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم ، والله أعلم . وفي هذا دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد . وقال ابن فورك : يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين ، فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:22
ثم استدل على وجوب عبادته وحده, بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم, كالشمس, والقمر, والنجوم. { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء: [هو] كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, [وزروع] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون, وتقوتون وتعيشون وتفكهون. { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي: نظراء وأشباها من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك, ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه. وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة من سواه, وهو [ذكر] توحيد الربوبية, المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن [الله] لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك. وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى, وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين، ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
Arabic Saddi Tafseer
2:22
{الذي جعل لكم الأرض فراشاً} أي بساطاً، وقيل: مناماً، وقيل: وطاء أي ذللها ولم يجعلها حزنة لايمكن القرار عليها.قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهوخلقك قلت: إن ذلك عظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك".و"الجعل" هاهنا بمعنى الخلق.{والسماء بناء} وسقفاً مرفوعاً.{وأنزل من السماء} أي من السحاب.{ماء} وهو المطر.{فأخرج به من الثمرات} من ألوان الثمرات وأنواع النبات.{رزقاً لكم} طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم.{فلا تجعلوا لله أنداداً} أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله.قال أبو عبيدة: "الند الضد وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد".{وأنتم تعلمون} أنه واحد خالق هذه الأشياء.
Arabic Baghawy Tafseer
2:22
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطبا للكافرين "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك قال ابن عباس شهداءكم أعوانكم وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوما آخرين يساعدونكم على ذلك أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم وقال مجاهد وادعوا شهداءكم قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين" وقال في سورة سبحان "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" وقال في سورة هود "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" وقال في سورة يونس "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعو من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" وكل هذه الآيات مكية ثم تحداهم بذلك أيضا في المدينة فقال في هذه الآية "وإن كنتم في ريب" أي شك "مما نزلنا على عبدنا" يعني محمدا صلى الله عليه وسلم "فأتوا بسورة من مثله" يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى "فأتوا بعشر سور مثله" وقوله لا يأتون بمثله. وقال بعضهم من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أمى مثله. والصحيح الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ومع هذا أعجزوا عن ذلك.
ابن كثير
2:23
وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزعمون أنه ليس من عند الله، فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن، واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم، إن كنتم صادقين في دعواكم.
المیسر
2:23
انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ . فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم ، } ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أنداداً جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضَلالهم كانوا يدَّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم ، فزادت بهذا مناسبةُ عطف قوله : { وإن كنتم في ريب } عقب قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] . وأتى بإنْ في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط ، لأن مدلول هذا الشرط قد حَفَّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلَع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضاً فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخاً على تحقق ذلك الشرط ، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع .ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم ، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر . وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم ، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم . ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم ، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان ، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلاً عن أن يكونوا منغمسين فيه .ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف . واستعارة ( في ) لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة .وأتى بفعل نَزَّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوماً . وقد تقدم في أول التفسير أن فعَّل يدل على التقضي شيئاً فشيئاً على أن صاحب «الكشاف» قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة .والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض .وجعلُ لفظ سورة اسماً جنسياً لأجزاء من القرآن اصطلاحٌ جاء به القرآن . وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة ، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام ، وصحة التقسيم ، ونكت الإجمال والتفصيل ، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض ، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع ، وفصل الجمل ووصلها ، والإيجاز والإطناب ، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نَظم الكلام ، وتلك لا تظهر مطابقتهاجلية إلا إذا تم الكلام واستَوفَى الغرضُ حقه ، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سَبكه إعجازٌ يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لِجُمله وتراكيبه وفصَاحةِ ألفاظه . فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يُحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها . قال الطيبي في «حاشية الكشاف» عند قوله تعالى : { فلم تقتلوهم } في سورة الأنفال ( 17 ) ، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد .والتنكير للإفراد أو النوعية ، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها ، وأقل السور عددَ آيات سورةُ الكوثر ، وقد كان المشركون بالمدينة تبعاً للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألْباً على النبيء يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه ، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء .وقد كان التحدي أولاً بالإتيان بكتاببٍ مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء ( 88 ) : { قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } فلما عجزوا استُنزلوا إلى الإتيان بعشْرِ سور مثله في سورة هود ، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس .والمِثْل أصله المَثيل والمُشابه تمامَ المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفاً ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافىء .والضمير في قوله : من مثله } يجوز أن يعود إلى ( مَا نَزّلنا ) أي من مِثل القرآن ، ويجوز أن يعود إلى { عبدنا } فإن أعيد إلى ( ما نزلنا ) أي من مثل القرآن فالأظهر أن ( من ) ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة ، ويحتمل أن تكون ( من ) تبعيضية أو بيانية أو زائدة ، وقد قيل بذلك كله ، وهي وجوه مرجوحة ، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة ، أي هي بعض مثل ما نزلنا ، ومِثل اسم حينئذٍ بمعنى المماثل ، أو سورة مثل ما نزلنا و ( مثل ) صفةٌ على احتمالي كون ( من ) بيانية أو زائدة ، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المِثل سواء كان صفة أو اسماً فهو مثل مقدَّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز .وإن أُعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل ( ائتوا ) وهي ابتدائية وحينئذٍ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر . ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية ، ولفظ مثل إذن اسْم .وقد تبين لك أن لفظ ( مثل ) في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] بناء على أن لفظ ( مِثل ) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن ، أو من محمد خلافاً لمن توهم ذلك من كلام «الكشاف» وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنَّى به عن نفس المضاففِ هُو إليه من حيث إن المِثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضاً فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور ، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتضضٍ وجود مثل للقرآن حتى يُراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني .وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله : { من مثله } كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال : القرآن كلامُ بشر ، ومنهم من قال : هو مكتتب من أساطير الأولين ، ومنهم من قال : إنما يعلمه بشر . وهاته الوجوه في معنى الآية تُفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير ، وإن كان يُعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه . وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها . فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلةِ القرآن في ألفاظه وتراكيبه ، ومماثلة الرسول المنزَّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة ، قال تعالى : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب } [ العنكبوت : 51 ] . فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خُطببِ أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به ، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به .فليس في جعل ( من ) ابتدائية إيهام إجْزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة .وقولُه تعالى : { وادعوا شهداءكم من دون الله } معطوف على { فأتوا بسورة } أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم . والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو ، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما ، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم :دَعَوْتُك للجفن القريح المسهد ... لديّ وللنوم الطريد المشردوالشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر ، وأصله الحاضر قال تعالى : { ولا يَأْبَ الشهداء إذا ما دُعُوا } [ البقرة : 282 ] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه الحضور مجازاً أو كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين . ولعله انجر إليه من تفسير «الكشاف» لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعياً فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله : { من دون الله } أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف . قال الحرث بن حلّزة :آذنتنا ببينها أسماءُ ... رب ثاوٍ يَمَلّ منه الثّواءُفإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه . وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم .ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزاً للعامة والخاصة ، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } [ الأنعام : 150 ] ويكون قوله : { من دون الله } على هذه الوجوه حالاً من الضمير في ( ادعوا ) أو من ( شهداءكم ) أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيراً عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون ( دون ) بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :تريك القَذى من دونها وهي دونهُ ... إذا ذاقَها من ذاقها يتمطِّقكما جوز أن يكون { من دون الله } بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهوداً فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءَة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور ، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديماً كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطاً أو جوراً . وقد قال السموأل :إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائللا نجعل الباطل حقاً ولا ... نلظ دون الحق بالباطلنخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمُل الدهر مع الخاملوعلى هذا التفسير يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعاً عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة .وقوله : { إن كنتم صادقين } اعتراض في آخر الكلام وتذييل . أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله .والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقاً ومماثلاً للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازاً عن الوجود الذهني ، والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج ، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية . هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور . وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذٍ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معاً وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معاً ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب ، وقريب منه قول الراغب ، ويشبه أن يكون الخلاف لفظياً ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة .والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر ، فحذف متعلق ( صادقين ) لدلالة ما تقدم عليه ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة : { وادعوا شهداءكم من دون الله } إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها : { فأتوا بسورة من مثله } وتكون الجملة المقدرة دليلاً على جواب الشرط فتصير جملة { إن كنتم صادقين } تكريراً للتحدي .وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة .
Arabic Tanweer Tafseer
2:23
وبعد أن ساق - سبحانه - في هاتين الآيتين البراهين الساطعة الدالة على وحدانية الله؛ ونفي عقيدة الشرك ، أورد بعد ذلك الدلائل الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن ليس من صنع بشر ، وإنما هو كلام واهب القوى والقدر فقال - تعالى - :( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . . )في هاتين الآيتين انتقال لإِثبات الجزء الثاني من جزأى الإِيمان ، وهو صدق النبي صلى الله عليه وسل - في رسالته ، بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك وهو وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته .والمعنى : إن رتبتم أيها المشركون في شأن هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد على مهل وتدريج ، فأتوا أنتم بسورة من مثله في سمو الرتبة ، وعلو الطبقة واستعينوا على ذلك بآلهتكم وبكل من تتوقعون منهم العون ، ليساعدوكم في مهمتكم ، أو ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بما يمائله ، إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن الكريم .والمقصود بقوله : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا . . . ) نفي الريب عن المنزل عليه - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - بنفيه عن المنزل وهو القرآن الكريم .والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب للإِيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم هو الارتياب في شأنه ، أو للتنبيه على أن كلامهم في شأن القرآن هو بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح الدلائل الدالة على أن القرآن من عند الله - تعالى- .وعبر بقوله : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) ولم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا ، للإِشارة إلى أن ذات القرآن لا يتطرق إليها ريب ، ولا يطير إلى أفقها شرارة من شك ، وأنه إن أثير حوله أي شك فمرجعه إلى انطماس بصيرتهم ، وضعف تفكيرهم ، واستيلاء الحقد والعناد على نفوسهم .وأني بإن المفيدة للشك مع أن كونهم في ريب مما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمر محقق ، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيهاً لساحة القرآن عن أن يتحقق الشك فيه من أي أحد ، وتوبيخاً لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها .ووجه الإِتيان بفي الدالة على الظرفية ، للإِشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف .وقال ( نَزَّلْنَا ) دون أنزلنا ، لأن المراد النزول على سبيل التدريج ، ومن المعروف أن القرآن قد نزل منجما في مدة تزيد على عشرين سنة .قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : لم قيل : ( مما نزلنا ) على لفظ التنزيل دون الإِنزال؟ قلت : لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وذلك أنهم كانوا يقولون : لو كان هذا القرآن من عند الله ، لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة ، وآيات عقب آيات ، على حسب النوازل ، وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من جود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً حسب ما يعن لهم من الأحوال المتجددة . . . فقيل لهم : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج ، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبة ، وهاتوا نجماً فردا من نجومه : سورة من أصغر السور ، أو آيات شتى مفترقات ، وهذا غاية التبكيت ومنتهى إزاحة العلل ) اه ملخصاً .والمراد بالعبد في قوله - تعالى - : ( على عَبْدِنَا ) محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي إضافته إلى الله - تعالى - تنبيه على شرف منزلته عنده ، واختصاصه به .وفي ذكره صلى الله عليه وسلم باسم العبودية ، تذكير لأمته بهذا المعنى ، حتى لا يغالوا في تعظيمه فيدعوا ألوهية كما غالت بعض الفرق في تعظيم أبنيائها أو زعمائهم فادعت ألوهيتهم .والسورة : الطائفة من القرآن المسماة باسم خاص ، والتي أقلها ثلاث آيات ، والضمير في قوله ( من مثله ) يعود على المنزل وهو القرآو .والمراد من مثل القرآن : ما يشابهه في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب وحكمة المعنى . وهذا الوجه من الإِعجاز يتحقق في كل سورة .وقيل : إن الضمير في قوله ( من مثله ) يعود على المنزل عليه القرآن ، وهو - النبي صلى الله عليه وسلم - ولكن الرأي الأول أرجح .قال الإِمام الرازي ما ملخصه : وعود الضمير إلى القرىن أرجح لوجوه :أحدها : أن ذلك مطابق لسائر الآيات الواردة في باب التحدي لا سيما ما ذكره في سورة يونس من قوله : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ . . . ) .وثانيها : أن البحث إنما وقع في المنزل وهو القرآن ، لأنه قال : ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا . . . ) فوجب صرف الضمير إليه ، ألا ترى أن المعنى ، وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم شيئاً مما يماثله ، وقضية الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمدا منزل عليه فهاتوا قرآنا مثله .وثالثها : أن الضمير للو كان عائدا إلى القرآن لاقتضى كونهم عاجزين عن الإِتيان بمثله سواء اجتمعوا أو انفردوا وسواء كانوا أميين أو عالمين ، أما لو كان عائداً إلى محمد صلى الله عليه وسلم فذلك لا يقتضي إلا كون آحادهم من الأميين عاجزين عنه ، لأنه لا يكون مثل محمد إلا الشخص الأمي ، فأما لو اجتمعوا وكانوا قارئين لم يكونوا مثل محمد ، لأن الجماعة لا تماثل الواحد . والقارئ لا يكون مثل الأمي ، ولا شك أن الإِعجاز على الوجه الأول أقوى .ورابعها : أننا لو صرفنا الضمير إلى محمد صلى الله عليه وسلم لكان ذلك يوهم أن صدور مثل القرآن مما لم يكن مثل محمد في كونه أميا ممكن ، ولو صرفناه إلى القرآن لدل ذلك على أن صدور مثله من الأمي ومن غير الأمي ممتنع فكان هذا أولى .وقوله - تعالى - : ( وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله ) معطوف على قوله : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ ) .وادعوا : من الدعاء ، والمراد به هنا : طلب حضور المدعو أي : نادوهم .وشهداءكم : أي : آلهتكم ، جمع شهيد وهو القائم بالشهادة ، فقد كانوا يزعمون أن آلهتهم تشهد لهم يوم القيامة بأنهم على حق .وقيل : الشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو الناصر أو الإِمام ، وكأنه سمى به لأنه يحضر المجالس وتبمر بمحضره الأمور .ودون : بمعنى غير : وتطلق في أصل اللغة على أدنى مكان من الشيء ، ومنه تدوين الكتب لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للتفاوت في الرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ، ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ، وتخطى أمر إلى أمر .قال الجمل : ( والمعنى ) : وادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . . ، أو ادعوا من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله ، فإن الاستشهاد به من عادة المبهوت العاجز عن إقامة الحجة ، أو شهداءكم الذين اتخذتموهم من دون الله آلأهة وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . . . .وفي أمرهم بدعوة أصنامهم وهي جماد ، وفي تسميتها شهداء مع إضافتها إليهم مع أنه لا تعقل ولا تنطق ، في كل ذلك أقوى ألوان التهكم ، لكي يثير في نفوسهم من الألم ما قد يكون سبباً لتنبيههم ، إلى جهلهم ، وانصرافهم عن ضلالهم .وقوله - تعالى - : ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) جملة معترضة في آخر الكلام وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق دلالة واضحة حتى صار ذكره في نظم الكلام مما ينزل به عن مرتبة البلاغة .والمعنى : إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم تقدرون على معارضة القرآن فأتوا بسورة من مثله . وادعوا آلهتكم وبلغاءكم وجميع البشر ليعينوكم أو ليشهدو لكم أنكم أتيتم بما يماثله في حكمة معانيه وحسن بيانه .وفي هذه الآية الكريمة إثارة لحماستهم ، إذ عرض بعدم صدقهم ، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي زعموا أنهم أهل لها .
Arabic Waseet Tafseer
2:23
القول في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِقال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات, وضُرباءَهم يَعني بها (150) ، قال الله جلّ ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين، في شكٍّ -وهو الريب- مما نـزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان: أنه من عندي, وأنّي الذي أنـزلته إليه, فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول, فأتوا بحجة تدفع حُجته، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة: أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه، وبُرْهانه على حقيقة نبوته (151) ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك -وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة (152) - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه، وحُجتهُ على نبوته من الآيات، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه, لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم, وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه, أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " فأتوا بسورَة من مثله ".491- فحدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فأتوا بسورة من مثله "، يعني: من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا، لا باطل فيه ولا كذب.492- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا &; 1-374 &; مَعمر، عن قتادة في قوله: " فأتوا بسورة من مثله "، يقول: بسورة مثلِ هذا القرآن (153) .493- حدثني محمد بن عمرو الباهلي, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن عبد الله بن أبي نَجيح, عن مجاهد: " فأتوا بسورة من مثله "، مثلِ القرآن.494- حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.495- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: " فأتوا بسورة مِنْ مثله "، قال: " مثله " مثلِ القرآن (154) .فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما (155) : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب, كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: " فأتُوا بسورة من مثله "، من مثل محمد من البشر , لأن محمدًا بشر مثلكم (156) .قال أبو جعفر: والتأويل الأول، الذي قاله مجاهد وقتادة، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس: 38]، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه, فيجوزُ أنْ يقال: فأتُوا بسورة مثل محمد.فإن قال قائل: إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله (157) " ، فأتوا بسورة من مثله "، &; 1-375 &; من مثل هذا القرآن, فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟قيل: إنه لم يعنِ به: ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه, وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان، لأنّ القرآن أنـزله الله بلسان عربيّ, فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين, فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن (158) ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان, إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم, وكلامًا نـزل بلسانهم, فقال لهم جلّ ثناؤه: وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنـزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي, فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية, إذْ كنتم عربًا, وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم, وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نـزل به القرآن, فيقدِرُوا أن يقولُوا: كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به, وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به, فليس لك علينا بهذا حجة (159) . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله (160) - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله, لأن مثله من الألسن ألسنكم (161) ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه, إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم - &; 1-376 &; أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم (162) ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه، فلن تعجزوا -وأنتم جميعٌ- عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ (163) ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه، وأنه من عند غيرِي.واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَـزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)فقال ابن عباس بما:496- حدثنا به محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: " وادعوا شُهداءكم من دون الله "، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه, إن كنتم صادقين.497- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " وادعوا شُهداءكم "، ناس يَشهدون.498- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، مثله.499- حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا وكيع، عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد, قال: قوم يشهدون لكم.&; 1-377 &;500- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد: " وادعوا شهداءكم "، قال: ناس يشهدون. قال ابن جُريج: " شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه، مثل القرآن (164) .وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله " فادعوا "، يعني: استنصروا واستغيثوا (165) ، كما قال الشاعر:فَلَمَّــا الْتَقَــتْ فُرْسَـانُنَا وَرِجَـالُهُمْدَعَـوْا: يَـا لَكَـعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَـا لِعَامِرِ (166)يعني بقوله: " دعوْا يالكعب "، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم (167) .وأما الشهداء، فإنها جمعُ شهيد, كما الشركاء جمع شريك (168) ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء، كما يقال: فلان جليسُ فلان -يعني به مُجالسَه, ونديمه - يعني به مُنادِمَه, وكذلك يقال: شهيده - يعني به مُشاهِدَه.فإذا كانت " الشهداء " محتملةً أن تكون جمعَ" الشهيد " الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ, فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس, وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء, لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من &; 1-378 &; مثله، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا؟وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة: أهل إيمان صحيح, وأهل كفر صحيح, وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين, فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به، لو أتوا باختلاق من الرسالة, ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (169) . فأما أهلُ النفاق والكفر، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (170) ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (171) ؟ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [سورة الإسراء: 88]، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى: " وإنْ كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين ". يعني بذلك: إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي, فأتوا بسورة &; 1-379 &; من مثله, وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من البشر أحدٌ, ويَصحَّ عندكم أنه تنـزيلي وَوحيي إلى عبدي.-------------------الهوامش :(150) في المطبوعة : "وأخبر بأهم نعوتها" ، وهي في المخطوطة"+وحرناهم تعنى بها" غير منقوطة ولا بينة ، فاختار المصححون لها قراءة لا تحمل معنى! والضرباء : جمع ضريب؛ فلان ضريب فلان : نظيره أو مثله .(151) في المطبوعة : "وبرهانه على نبوته" .(152) في المطبوعة : "والدارية" ، ولا معنى لها هنا ، وستأتي بعد أسطر على الصواب . والذرابة : الحدة في كل شيء ، وحدة اللسان وفصاحته ولدده . ذرب الرجل يذرب ذربًا وذرابة : فصح وصار حديد اللسان ، فهو ذرب اللسان (بفتح الذال وكسر الراء) .(153) الأثر 492- في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 .(154) الآثار 493 - 495 في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وابن كثير 1 : 108 .(155) في المطبوعة : "اللذين ذكرنا عنهما" .(156) يعني فأتوا بسورة من عند بشر مثل محمد .(157) في المطبوعة : "إنك ذكرت" ، بغير فاء .(158) في المطبوعة : "بما احتج له عليهم" ، أسقط"به" .(159) في المطبوعة : "حجة بهذا" على التأخير .(160) في المطبوعة : "لسنا بأهله" .(161) في المطبوعة : "ألسنتكم" .(162) يقول : "وأنتم . . . أقدر على اختلاقه . . " ، مبتدأ وخبر ، وما بينهما فصل . وفي المطبوعة مكان"ورصفه" ، "ووضعه" . والرصف : ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه وإحكامه حتى يستوي . ومنه : كلام رصيف : أي محكم لا اختلاف فيه .(163) في المطبوعة"وهو وحده" ، وهذه أجود .(164) الآثار 496 - 500 : في ابن كثير 1 : 108 بعضها ، والدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وفي المخطوطة في بعض المواضع : "أناس" مكان"ناس" ، وهما سواء .(165) في المطبوعة : "واستعينوا" ، وهما متقاربتان ، والأولى أجود ، وهي كذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 19 .(166) البيت للراعي النميري ، اللسان (عزا) . واعتزى : انتسب ، ودعا في الحرب بمثل قوله : يا لفلان ، أو يا للمهاجرين ، أو يا للأنصار ، والاسم العزاء والعزوة ، وهي دعوى المستغيث .(167) في المطبوعة : "واستعانوا" ، كما سلف في أختها قبل .(168) في المطبوعة : "كالشركاء" .(169) قوله"من المؤمنين" متعلق بقوله آنفًا "أن لهم شهداء . . " ، يعني شهداء من المؤمنين . ثم فصل ، لأن قوله"على حقيقة ما كانوا يأتون به . . " متعلق أيضًا ، بشهداء .(170) في المطبوعة : "لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم" . وتترع إلى الشيء : تسرع إليه ، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي . وما في المخطوطة"تتارعوا" صحيح في اشتقاق العربية ، وإن لم تذكره المعاجم ، وهو مثل تسرع وتسارع ، سواء .(171) في المطبوعة"فمن أي الفرق . . " ، وكلام الطبري استفهام واستنكار . لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل ، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق ، فكان محالا أن يكون معنى"الشهداء" هنا : الذين يشهدون لهم ، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى . وصار حتما أن يكون معنى"الشهداء" : الذين يظاهرونهم ويعاونونهم ، كما جاء في الآية التالية .
الطبري
2:23
قوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين[ ص: 222 ] قوله تعالى : وإن كنتم في ريب أي في شك " مما نزلنا " يعني القرآن ، والمراد المشركون الذين تحدوا ، فإنهم لما سمعوا القرآن قالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، وإنا لفي شك منه ، فنزلت الآية . ووجه اتصالها بما قبلها أن الله سبحانه لما ذكر في الآية الأولى الدلالة على وحدانيته وقدرته ذكر بعدها الدلالة على نبوة نبيه ، وأن ما جاء به ليس مفترى من عنده .قوله على عبدنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . والعبد مأخوذ من التعبد وهو التذلل ، فسمي المملوك - من جنس ما يفعله - عبدا لتذلله لمولاه ، قال طرفة :إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبدأي المذلل . قال بعضهم : لما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمي بها أشرف الخطط ، سمى نبيه عبدا ، وأنشدوا :يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائيلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائيفأتوا بسورة الفاء جواب الشرط ، ائتوا مقصور لأنه من باب المجيء ، قاله ابن كيسان . وهو أمر معناه التعجيز ; لأنه تعالى علم عجزهم عنه . والسورة واحدة السور . وقد تقدم الكلام فيها وفي إعجاز القرآن ، فلا معنى للإعادة . و " من " في قوله " من مثله " زائدة ، كما قال فأتوا بسورة مثله والضمير في مثله عائد على القرآن عند الجمهور من العلماء ، كقتادة ومجاهد وغيرهما . وقيل : يعود على التوراة والإنجيل . فالمعنى فأتوا بسورة من كتاب مثله فإنها تصدق ما فيه . وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلم . المعنى : من بشر أمي مثله لا يكتب ولا يقرأ . فمن على هذين التأويلين للتبعيض ، والوقف على مثله ليس بتام ; لأن وادعوا نسق عليه .قوله تعالى : وادعوا شهداءكم معناه أعوانكم ونصراءكم . الفراء : آلهتكم . وقال ابن كيسان : فإن قيل كيف ذكر الشهداء هاهنا ، وإنما يكون الشهداء ليشهدوا أمرا ، أو ليخبروا بأمر شهدوه ، وإنما قيل لهم : فأتوا بسورة من مثله ؟ فالجواب : أن المعنى استعينوا بمن وجدتموه من علمائكم ، وأحضروهم ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون الرد على الجميع أوكد في الحجة عليهم .[ ص: 223 ] قلت : هذا هو معنى قول مجاهد . قال مجاهد : معنى : وادعوا شهداءكم أي ادعوا ناسا يشهدون لكم ، أي يشهدون أنكم عارضتموه . النحاس : " شهداءكم " نصب بالفعل ، جمع شهيد ، يقال : شاهد وشهيد ، مثل قادر وقدير .وقوله من دون الله أي من غيره ، ودون نقيض فوق ، وهو تقصير عن الغاية ، ويكون ظرفا . والدون : الحقير الخسيس ، قال :إذا ما علا المرء رام العلاء ويقنع بالدون من كان دوناولا يشتق منه فعل ، وبعضهم يقول منه : دان يدون دونا . ويقال : هذا دون ذاك ، أي أقرب منه . ويقال في الإغراء بالشيء : دونكه . قالت تميم للحجاج : أقبرنا صالحا - وكان قد صلبه - فقال : دونكموه .قوله تعالى : إن كنتم صادقين فيما قلتم من أنكم تقدرون على المعارضة ، لقولهم في آية أخرى : لو نشاء لقلنا مثل هذا والصدق : خلاف الكذب ، وقد صدق في الحديث . والصدق : الصلب من الرماح . ويقال : صدقوهم القتال . والصديق : الملازم للصدق . ويقال : رجل صدق ، كما يقال : نعم الرجل . والصداقة مشتقة من الصدق في النصح والود .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:23
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال، فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وفي قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها
Arabic Saddi Tafseer
2:23
{وإن كنتم في ريب} أي (وإن) كنتم في شك، لأن الله تعالى علم أنهم شاكون.{مما نزلنا} يعني القرآن.{على عبدنا} محمد.{فأتوا} أمر تعجيز.{بسورة} والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر من أسأرت أي أفضلت، حذفت الهمزة، وقيل: السورة اسم للمنزلة الرفيعة، ومنه سور البناء لارتفاعه؛ سميت سورة لأن القارئ ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكماله سور القرآن.{من مثله} أي مثل القرآن (( ومن )) صلة، كقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} [30-النور]وقيل: الهاء في مثله راجعة لمحمد صلى الله عليه وسلم يعني: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم أمي لا يحسن الخط والكتابة [ قال محمود هاهنا من مثله دون سائر السور، لأن مِن للتبعيض وهذه السورة أول القرآن بعد الفاتحة فأدخل (مِن) ليعلم أن التحدي واقع على جميع سور القرآن، ولو أدخل (مِن) في سائر السور كان التحدي واقعاً على جميع سور القرآن، ولو أدخل خفي سائر السور كان التحدي واقعاً على بعض السور ].{وادعوا شهداءكم} أي واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها.{من دون الله} قال مجاهد: "ناساً يشهدون لكم".{إن كنتم صادقين} أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقوله من تلقاء نفسه فلما تحداهم عجزوا.فقال:
Arabic Baghawy Tafseer
2:23
ولهذا قال تعالى "فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا" لن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا وهذه أيضا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن وأني يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحادي ولا يداني فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا" أي صدقا في الإخبار وعدلا في الأحكام فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ثم تجد له فيه بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد وسائرها هذر لا طائل تحته وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة وسواء تكررت أم لا وكلما تكررت حلا وعلا لا يخلق عن كثرة الرد ولا يمل منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك بالقلوب الفاهمات وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ومشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" وقال "فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون" وقال في الترهيب "أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر" و "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير" وقال في الزجر: "فكلا أخذنا بذنبه" وقال في الوعظ "أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون" إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء كما قال ابن مسعود وغيره من السلف إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يا أيها الذين أمنوا فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه ولهذا قال تعالى "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الآية وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخير واجتناب المنكرات وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى وثبتت على الطريقة المثلى وهدت إلى صراط الله المستقيم وشرعه القويم ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم. ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي كان أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" لفظ مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم "وإنما كان الذي أوتيته وحيا" أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم وله عليه الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة. وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة. فقال إن كان هذا القرآن معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضته فقد حصل المدعى وهو المطلوب وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلا على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر. وقوله تعالى "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين" أما الوقود بفتح الواو فهو ما يلقى في النار لاضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى "وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا" وقال تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون" والمراد بالحجارة هي ههنا حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت أجارنا الله منها. وقال عبدالملك بن ميسرة الزراد عن عبدالرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى "وقودها الناس والحجارة" قال هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وقال مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت. وقال ابن جريج حجارة من كبريت أسود في النار. وقال لي عمرو بن دينار أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الآية حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول: قال لأن أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من إنها حجارة من كبريت معدة لذلك ثم إن أخذ النار بهذه الحجارة أيضا مشاهد وهذا الجص يكون أحجارا فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها قال تعالى "كلما خبت زدناهم سعيرا" وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها. قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل مؤذ في النار" وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا معروف. ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين أحدهما أن كل من آذى النار دخل النار والآخر أن كل ما يؤذي في النار يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك. وقوله تعالى "أعدت للكافرين" الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ويحتمل عوده على الحجارة كما قال ابن مسعود ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أعدت للكافرين أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى "أعدت" أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها "تحاجت الجنة والنار" ومنها "استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف" وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها" وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس. "تنبيه ينبغي الوقوف عليه" قوله تعالى "فأتوا بسورة من مثله" وقوله في سورة يونس "بسورة مثله" يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كـما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه. فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها وهذا لا أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا. وقد قال الرازي في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى "فأتوا بسورة من مثله" يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وقل يا أيها الكافرون ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن فإن قلتم إن الأتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار البشر كان مكابرة والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين "قلنا" فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا فعلى التقديرين يحصل المعجز هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة قال الشافعي رحمه الله لو تدبر الناس هذه السور لكفتهم "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم بمكة في هذا الحين فقال له عمرو لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال "والعصر إن الإنسان لفي خسر" ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حقر فقر ثم قال كيف ترى يا عمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني لأعلم أنك تكذب.
ابن كثير
2:24
فإن عجَزتم الآن -وستعجزون مستقبلا لا محالة- فاتقوا النار بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. هذه النار التي حَطَبُها الناس والحجارة، أُعِدَّتْ للكافرين بالله ورسله.
المیسر
2:24
تفريع على الشرط وجوابه ، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم .ومفعول { تفعلوا } محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته } في سورة المائدة ( 67 ) .وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتَقي معه في درجات الجدل؛ ولذلك جاء بعده ولن تفعلوا } كأن المتحدي يتدبر في شأنهم ، ويزن أمرهم فيقول أولاً ائتوا بسورة ، ثم يقول : قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصاً منها ثم يقول : ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله ، مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير .ولذلك حسن موقع ( لن ) الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا ، ولهذا قال سيبويه لا لنفي يفعل ، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالباً لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازاً وهو التأكيد ، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد . وكلام الخليل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة إنها لا تفيد تأكيداً ولا تأبيداً فقد كابر .وقوله : { ولن تفعلوا } من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين : الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين ، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل { إن كنتم صادقين } [ البقرة : 23 ] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام مَن قدرتهُ فوق طوق البشر . 5 الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلَفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها ، ودواعي المعارضة موجودة فيهم ، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم .وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون ، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام ، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة . فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى ، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحاً وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته ، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية .و { تفعلوا } الأول مجزوم بلم لا محالة لأن ( إن ) الشرطية دخلت على الفعل بعد اعتباره منفياً فيكون معنى الشرط متسلطاً على ( لم ) وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في { تفعلوا } لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولاً واحداً كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في «التصريح على التوضيح» على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في «المسائل الدمشقيات» ومن كتاب «التذكرة» له أنه جعل قول الراجز :حتى تراها وكأنَّ وكأنْ ... أعناقُها مُشَرَّفَات في قَرَنمن قبيل التنازع بين كأنَّ المشددة وكأنْ المخففة .وقوله : { فاتقوا النار } أثر لجواب الشرط في قوله : { فإن لم تفعلوا } دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [ البقرة : 23 ] ، فتقدير جواب قوله { فإن لم تفعلوا } أنه : فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار ، فوقع قوله : { فاتقوا النار } موقع الجواب لدلالته عليه وإيذانه به وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء .وإنما عُبّر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى : { ائتوني بأخ لكم من أبيكم } إلى قوله : { فإن لم تأتوني به } [ يوسف : 59 ، 60 ] الخ لأن في لفظ { تفعلوا } هنا من الإيجاز ما ليس مثلُه في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدَّى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتيِّ به مثلَ هذا القرآن ومشهوداً عليه ومستعاناً عليه بشهدائهم فكان في لفظ { تفعلوا } من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف .والوَقود بفتح الواو اسم لما يوقد به ، وبالضم مصدر وقيل بالعكس ، وقال ابن عطية حُكي الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر . وقياس فَعول بفتح الفاء أنه اسم لما يُفعل به كالوَضوء والحَنوط والسَّعوط والوَجور إلاَّ سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الوَلوع والقَبول والوَضوء والطَّهور والوَزوع واللَّغوب والوَقود . والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرىء بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدراً أو على حذف مضاف أي ذَوُو وَقودِها الناسُ .والناس أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة .والحجارة جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجراً عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبويه كما ألحقوها بالبُعولة والفُحولة . وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فِعال أو فُعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفاً إذا وقفوا عليه ، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع ، ومن ذلك عِظامة ونِفارة وفِحالة وحِبالة وذِكارة وفُحولة وحُمولة ( جموعاً ) وبِكارة جمع بَكرٍ ( بفتح الباء ) ومِهارة جمع مُهر .ومعنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكانَ الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقاً وأبطأَ انطفاءً ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] .وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وَقود النار وقرينة التعريض قوله : { فاتقوا } وقوله : { والحجارة } لأنهم لما أمروا باتقائها أَمْرَ تحذير علموا أنهم هم الناس ، ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم ، فلزم أن يكون الناس هم عُبَّاد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين .وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادةُ إظهارِ خطإ عَبَدَتِها فيما عَبَدوا ، وتكررٌ لحسرتهم على إهانتها ، وحسرتِهم أيضاً على أنْ كان ما أعدوه سبباً لعزهم وفخرهم سبباً لعذابهم ، وما أعدوه لنجاتهم سبباً لعذابهم ، قال تعالى : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } الآية .وتعريف ( النار ) للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم ، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبلُ من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم ( 6 ) :{ يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظراً ، أو لأنه قد عُلم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب .وفي جعل الناس والحجارة وقوداً دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زَجِّ الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث الموطأ } : « إن شدة الحر من فيح جهنم » فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت ، وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرِّب ذلك للناس اليوم . وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نَموذَجُها البراكين الملتهبة .وقوله : { أعدت للكافرين } استئناف لم يُعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعلة خبراً أهول وأفخم وأدخل للروع في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم .وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتاً متواتراً امتاز به القرآن عن بقية المعجزات ، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس ، وأدركها عامة غيرهم بالنقل ، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه .أما إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبيء صلى الله عليه وسلم وناوؤُه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه ، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها ، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل ، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين : إما أن يكون عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به ، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم ، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه ، ثم لو لحق بهم لاحق ، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه ، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم ، فأعرضوا عن معارضته علماً بأنهم لا قبل لهم بمثله ، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية ، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حداً لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقاً للعادة ودليلاً على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلاً على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور أهل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري .وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمراً خارقاً للعادة أيضاً وهو دليل المعجزة ، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في «إعجاز القرآن» ولم يعين له قائلاً وقد نسبه التفتزاني في كتاب «المقاصد» إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في «المقاصد» وهو مع كونه كافياً في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف . وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلاً في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير .فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزاً لا عجزاً؟ وبعد فمن آمننا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به؟ قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزاً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلاً يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة .لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصاراً لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهراً بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش .ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتاباً منزلاً نجوماً ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب ، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضاً بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلاً بعد جيل .وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان ، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم ، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظماً ونثراً وبما اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلاً ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة ، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم .وأياً ما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر .ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عناداً أو مكابرة وحرصاً على السيادة ونفوراً من الاعتراف بالخطأ ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم ، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطىء وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أدياناً تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعاً نابذاً دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لولا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه إلا صاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة .ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله : { ولن تفعلوا } فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وماصدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم .فإن قلت : ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم؟ قلت إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم .وبعد فإن من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح .قال الشيخ عبد القاهر في مقدمة «دلائل الإعجاز» فإن قال قائل إن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت ( أي من توقفه على علم البيان ) وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجاً بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحاً معرضاً لكل من أراد العلم به والعلم به ممكناً لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزاً قائم فيه أبداً ا ه .وقال السكاكي في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله : «متوسلاً بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلاً مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل» وقد بينت في المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة ، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها .
Arabic Tanweer Tafseer
2:24
ثم قال - تعالى - : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة ) .المعنى : فإن لم تفعلوا أي : تعارضوا القرآن ، وتبين لكم أن أحداً لا يستطيع معارضته ، فخافوا العذاب الذي أعده الله للجاحدين وهو النار التي وقودها الناس والحجارة " .والوقود : ما يلقى في النار لإِضرامها كالحطب ونحوه ، والحجارة : الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله كما قال - تعالى - : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) واقتران المشركين بما كانوا يعبدون في النار مبالغة في إيلامهم وتحسيرهم والاقتصار على ذكر الناس والحجارة لا يؤخذ منه أن ليس في النار غيرهما بدليل ما ذكر في مواضع أخرى من القرآن أن الجن والشياطين يدخلونها .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : انتفاء إتيانهم بالسورة واجب فهلا جيء ب " إذا " الذي للوجوب دون " إن " الذي للشك؟ قلت : فيه وجهان :أحدهما : أن يساق القول معهم على حسب حسبانهم وطمعهم ، وأن العجز عن المعارضة كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لا تكالهم على فصاحتهم واقتدارهم على الكلام .والثاني : أن يتهكم بهم كما يقول الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة على من يعاديه : إن غلبتك لم أبق عليك وهو يعلم أنه غالبه ويتيقنه تهكماً به .وقال : فإن لم تفعلوا ، ولم يقل فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، لأن قوله ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ) جار مجرى الكناية التي تعطي اختصاراً ووجازة تغني عن طول المكنى عنه ، ولأن الإِتيان ما هو إلا فعل من الأفعال ، تقول : أتيت فلانا . فيقال لك : نعم ما فعلت .وجملة ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) جملة معترضة بين الشرط والجزاء ، جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته . فإن في نفيها في المستقبل بإطلاق تأكيدا لنفيها في الحال .قال الإِمام الرازي : ( فإن قيل : فما معنى اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ فالجواب أنه إذا ظهر عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار ، فاتقاء النار يوجب ترك العناد ، فأقيم المؤثر مقام الأثر ، وجعل قوله : ( فاتقوا النار ) قائماً مقام قوله فاتركوا العناد ، وهذا هو الإِيجاز الذي هو أحد أبواب البلاغة ، وفيه تهويل لشأن العناد ، لإِنابه اتقاء النار منابه متبعاً ذلك بتهويل صفة النار ) .ومعنى ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) هيئت لهم ، لأنهم الذين يخلدون فيها ، أو أنهم خصوا بها وإن كانت معدة للفاسقين - أيضاً لأنه يريد بذلك ناراً مخصوصة لا يدخلها غيرهم كما قال - تعالى - ( إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار ) وفي هذه الآية الكريمة معجزة من نوع الإِخبار بالغيب ، إذ لم تقع المعارضة من أحد في أيام النبوة وفيما بعدها إلى هذا العصر .قال صاحب الكشاف : ( فإن قلت : من أين لك أنه إخبار بالغيب على ما هو عليه حتى يكون معجزة؟ قلت : لأنهم لو عارضوه بشيء لم يمتنع أن يتواصفه الناس ويتناقلوه ، إذ خفاء مثله فيما عليه مبنى العادة محال ، لا سيما والطاعنون فيه أكثف عدداً من الذابين عنه ، فحين لم ينقل علم أنه إخبار بالغيب على ما هو به ، فكان معجزة ) .وقال بعض العلماء : ( هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدى الكافرين بالتزيل الكريم ) . وقد تحداهم الله في غير موضع منه فقال في سورة القصص :( قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وقال في سورة الإِسراء : ( قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً )وقال في سورة يونس : ( أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وكل هذه الآيات مكية .ثم تحداهم أيضا في المدينة بهذه الآية ( وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) . . إلخ . فعجزوا عن آخرهم ، وهم فرسان الكلام ، وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، جعل الله لهم ذلك طبعاً وخلقه وفيهم غريزة وقوة . يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر الحلال . . . ومع هذا فلم يتصد لمعارضة القرآن منهم أحد ، ولم ينهض - لمقدار سورة منه - ناهض من بلغائهم ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإِفراط في المضارة والمضادة . وقد جرد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة أولا ، والسيف آخراً فلم يعارضوا إلا السيف وحده ، وما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أنهم أعجز من المعارضة ، وبذلك يظهر أن في قوله - تعالى - ( وَلَن تَفْعَلُواْ ) معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا . . .وحيث عجزت عرب ذلك العصر فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . . فدل على أن القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو كلام خالق القوى والقدر أنزله تصديقاً لرسوله ، وتحقيقاً لمقوله . . .وبعد أن ذكر القرآن الكفار ومآلهم ، عطف على ذلك ذكر المؤمنين وما يفوزون به من نعيم في حياتهم الباقية ، كما هي سنة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد فقال - تعالى - :( وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:24
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُواقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فإن لم تفعلوا "، إن لم تأتوا بسورة من مثله, فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم (172) ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه, وعلمتم أنه من عندي, ثم أقمتم على التكذيب به.وقوله: " ولن تفعلوا "، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.501- كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا "، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه (173) .502- حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا "، فقد بَين لكم الحق (174) .القول في تأويل قوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُقال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله " فاتقوا النار "، يقول: فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنـزيلي, بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي, وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي, بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها, وأن الحجارة وَقُودها, فقال: " التي وَقودها الناس والحجارة "، يعني بقوله: " وَقُودُها " حَطبها, والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم، إذا فتحت الواو، بمنـزلة الحطب.فإذا ضَمت الواو من " الوقود " كان مصدرًا من قول القائل: وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا, يراد بذلك أنها التهبتْ.فإن قال قائل: وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا؟&; 1-381 &;قيل: إنها حجارةُ الكبريت, وهي أشد الحجارة -فيما بلغنا- حرًّا إذا أحميت.503- كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا أبو معاوية, عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد, عن عبد الرحمن بن سَابط, عن عمرو بن ميمون, عن عبد الله بن مسعود، في قوله: " وقُودها الناس والحجارة "، قال: هي حجارة من كبريت، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا، يُعدّها للكافرين.504- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا ابن عُيينة, عن مِسعر، عن عبد الملك الزرَّاد، عن عمرو بن ميمون, عن ابن مسعود في قوله: " وقودها الناسُ والحجارة "، قال: حجارة الكبريت، جعلها الله كما شاء (175) .505- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة "، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار (176) .506- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج في قوله: " وقودها الناس والحجارة "، قال: حجارة من كبريت أسودَ في النار، قال: وقال لي عمرو بن دينار: حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم (177) .507- حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا أبي، عن مسعر, عن عبد الملك بن مَيسرة, عن عبد الرحمن بن سابط, عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود, قال: حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء (178) .* * *القول في تأويل قوله: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا، على أن " الكافر " في كلام العرب، هو الساتر شيئًا بغطاء (179) ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا، لجحوده آلاءه عنده, وتغطيته نَعماءَه قِبَله.فمعنى قوله إذًا: " أعدت للكافرين "، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم, الذي جَعل لهم الأرض فراشًا, والسماء بناءً, وأنـزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة (180) ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق (181) .508- كما حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس: " أعدت للكافرين "، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (182) .---------------الهوامش :(172) في المطبوعة : "وقد تظاهرتم" ، وما في المخطوطة أجود ، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك .(173) الأثر 501- ذكره السيوطي 1 : 35 بنحوه ، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير . وكتب فيه خطأ مطبعيًّا"ابن جريج" .(174) الأثران 501 ، 502- في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 . ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها ، وما استدل به من الأثر الأخير ، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف ، لأنه معلوم قد دل عليه السياق؛ وجواب الشرط"فقد بين لكم الحق ، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي" ، ثم قال مستأنفًا : "فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي ، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي ، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي" .ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري ، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه"الكشاف" ما نصه : "فإن قلت : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار ، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله؟ قلت : إنهم إذا لم يأتوا بها ، وتبين عجزهم عن المعارضة ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا صح عندهم صدقه ، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا ، استوجبوا العقاب بالنار . فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد . فوضع"فاتقوا النار" موضعه ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، من حيث إنه من نتائجه . لأن من اتقى النار ترك المعاندة . ونظيره أن يقول الملك لحشمه : "إن أردتم الكرامة عندي ، فاحذروا سخطي" . يريد : فأطيعوني واتبعوا أمري ، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط . وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة . وفائدته : الإيجاز ، الذي هو حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد ، بإنابة اتقاء النار منابه ، وإبرازه في صورته ، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها" .فقد تبين بهذا مراد الطبري ، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط ، ولا هو من جوابه ، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام : قصر اتقائهم النار ، على عجزهم عن الإتيان بمثله . وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة . وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري .(175) الخبر 503 ، 504- مسعر ، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين : هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال ، وهو ثقة معروف ، أحد الأعلام . عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد ، نسبة إلى عمل الزرود : ثقة كثير الحديث ، من صغار التابعين . عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي : تابعي ثقة . عمرو بن ميمون الأودي : من كبار التابعين المخضرمين ، كان مسلمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يره .وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي : 507 . وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون ، وفي الثاني : 504"عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون" مباشرة ، بحذف"عبد الرحمن بن سابط" . ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال ، لوجود المعاصرة ، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة 74 ، وعمرو بن ميمون مات سنة 74 أو 75 . ولكن هذين الإسنادين : 503 ، 504 دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون .والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 261 ، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود . فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد . وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه" . ووافقه الذهبي . وذكره ابن كثير 1 : 1101 - 111 من رواية الطبري ، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم ، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه . وذكره السيوطي 1 : 36 وزاد نسبته إلى : عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وهناد بن السري في كتاب الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير ، والبيهقي في الشعب .(176) الخبر 505- ذكره ابن كثير 1 : 111 دون أن ينسبه ، والسيوطي 1 : 36 ، ونسبه لابن جرير وحده .(177) الأثر 506- في ابن كثير 1 : 111 دون نسبة .(178) الخبر 507- سبق تفصيل إخراجه مع 503 ، 504 .(179) انظر ما مضى : 255 .(180) قوله"المشركين" من صفة قوله آنفًا : "للجاحدين" .(181) في المخطوطة : "بالأشياء" ، وهو خطأ .(182) الخبر 508- في ابن كثير 1 : 111 ، والدر المنثور 1 : 36 ، والشوكاني 1 : 41 .
الطبري
2:24
قوله تعالى : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرينقوله تعالى : فإن لم تفعلوا يعني فيما مضى ولن تفعلوا أي تطيقوا ذلك فيما يأتي . والوقف على هذا على صادقين تام . وقال جماعة من المفسرين : معنى الآية وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا ، فإن لم تفعلوا فاتقوا النار ، فعلى هذا التفسير لا يتم الوقف على صادقين .فإن قيل : كيف دخلت إن على لم ولا يدخل عامل على عامل ؟ فالجواب أن إن هاهنا غير عاملة في اللفظ ، فدخلت على لم كما تدخل على الماضي ; لأنها لا تعمل في لم كما لا تعمل في الماضي ، فمعنى إن لم تفعلوا إن تركتم الفعل .قوله تعالى ولن تفعلوا نصب ب " لن " ، ومن العرب من يجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة :فلن أعرض أبيت اللعن بالصفدوفي حديث ابن عمر حين ذهب به إلى النار في منامه : فقيل لي " لن ترع " . هذا على تلك اللغة . وفي قوله : " ولن تفعلوا " إثارة لهممهم ، وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها وقال ابن كيسان : ولن تفعلوا توقيفا لهم على أنه الحق ، وأنهم ليسوا صادقين فيما زعموا من أنه كذب ، وأنه مفترى وأنه سحر وأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين ، وهم يدعون العلم ولا يأتون بسورة من مثله .وقوله : فاتقوا النار جواب ( فإن لم تفعلوا ) أي اتقوا النار بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى . وقد تقدم معنى التقوى فلا معنى لإعادتها . ويقال : إن لغة تميم وأسد " فتقوا النار " . وحكى سيبويه : تقى يتقي ، مثل قضى يقضي . " النار " مفعولة . ( التي ) من نعتها . وفيها ثلاث لغات : التي واللت ( بكسر التاء ) واللت ( بإسكانها ) . وهي اسم مبهم للمؤنث وهي معرفة ، ولا يجوز نزع الألف واللام منها للتنكير ، ولا تتم إلا بصلة ، وفي تثنيتها ثلاث لغات أيضا : اللتان واللتا ( بحذف النون ) واللتان ( بتشديد النون ) وفي جمعها خمس لغات : اللاتي ، وهي لغة القرآن . واللات ( بكسر التاء بلا ياء ) . واللواتي . واللوات ( بلا ياء ) ، وأنشد أبو عبيدة :من اللواتي واللتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لداتيواللوا ( بإسقاط التاء ) ، هذا ما حكاه الجوهري وزاد ابن الشجري : اللائي ( بالهمز وإثبات الياء ) . واللاء ( بكسر الهمزة وحذف الياء ) . واللا ( بحذف الهمزة ) فإن جمعت الجمع قلت في اللاتي : اللواتي وفي اللائي : اللوائي . قال الجوهري : وتصغير التي اللتيا ( بالفتح والتشديد ) ، قال الراجز العجاج :بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها أنفس تردتوبعض الشعراء أدخل على " التي " حرف النداء ، وحروف النداء لا تدخل على ما فيه الألف واللام إلا في قولنا : يا الله ، وحده . فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف واللام غير مفارقتين لها ، وقال :من أجلك يا التي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني[ ص: 225 ] ويقال : وقع فلان في اللتيا والتي ، وهما اسمان من أسماء الداهية . والوقود ( بالفتح ) : الحطب . وبالضم : التوقد . والناس عموم ، ومعناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها ، أجارنا الله منها . والحجارة هي حجارة الكبريت الأسود - عن ابن مسعود والفراء - وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، نتن الرائحة ، كثرة الدخان ، شدة الالتصاق بالأبدان ، قوة حرها إذا حميت . وليس في قوله تعالى : وقودها الناس والحجارة دليل على أن ليس فيها غير الناس والحجارة ، بدليل ما ذكره في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها . وقيل : المراد بالحجارة الأصنام ، لقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أي حطب جهنم . وعليه فتكون الحجارة والناس وقودا للنار وذكر ذلك تعظيما للنار أنها تحرق الحجارة مع إحراقها للناس . وعلى التأويل الأول يكونون معذبين بالنار والحجارة . وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل مؤذ في النار . وفي تأويله وجهان : أحدهما - أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار . الثاني - أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع والهوام وغيرها في النار معد لعقوبة أهل النار . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة . والله أعلم . روى مسلم عن العباس بن عبد المطلب قال قلت : يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : ( نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح - في رواية - ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) . وقودها مبتدأ . الناس خبره . والحجارة عطف عليهم . وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف : " وقودها " ( بضم الواو ) . وقرأ عبيد بن عمير : " وقيدها الناس " . قال الكسائي والأخفش : الوقود ( بفتح الواو ) : الحطب ، و ( بالضم ) : الفعل ، يقال : وقدت النار تقد وقودا ( بالضم ) ووقدا وقدة ووقيدا ووقدا ووقدانا ، أي توقدت . وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضا . والاتقاد مثل التوقد ، والموضع موقد ، مثل مجلس ، والنار موقدة . والوقدة : شدة الحر ، وهي عشرة أيام أو نصف شهر . قال النحاس : يجب على هذا ألا يقرأ إلا " وقودها " بفتح الواو ; لأن المعنى [ ص: 226 ] حطبها ، إلا أن الأخفش قال : وحكي أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود بمعنى الحطب والمصدر . قال النحاس : وذهب إلى أن الأول أكثر ، قال : كما أن الوضوء الماء ، والوضوء المصدر .قوله تعالى : أعدت للكافرين ظاهره أن غير الكافرين لا يدخلها وليس كذلك ، بدليل ما ذكره في غير موضع من الوعيد للمذنبين وبالأحاديث الثابتة في الشفاعة ، على ما يأتي . وفيه دليل على ما يقوله أهل الحق من أن النار موجودة مخلوقة ، خلافا للمبتدعة في قولهم إنها لم تخلق حتى الآن . وهو القول الذي سقط فيه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي . روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تدرون ما هذا قال قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها . وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احتجت النار والجنة فقالت هذه : يدخلني الجبارون والمتكبرون وقالت هذه : يدخلني الضعفاء والمساكين فقال الله عز وجل لهذه : أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها . وأخرجه مسلم بمعناه . يقال : احتجت بمعنى تحتج ، للحديث المتقدم حديث ابن مسعود ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أريهما في صلاة الكسوف ، ورآهما أيضا في إسرائه ودخل الجنة ، فلا معنى لما خالف ذلك . وبالله التوفيق . وأعدت يجوز أن يكون حالا للنار على معنى معدة ، وأضمرت معه قد ، كما قال : أو جاءوكم حصرت صدورهم فمعناه قد حصرت صدورهم ، فمع ( حصرت ) قد مضمرة لأن الماضي لا يكون حالا إلا مع قد ، فعلى هذا لا [ ص: 227 ] يتم الوقف على الحجارة . ويجوز أن يكون كلاما منقطعا عما قبله ، كما قال : " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " . وقال السجستاني : " أعدت للكافرين " من صلة " التي " كما قال في آل عمران : واتقوا النار التي أعدت للكافرين . ابن الأنباري : وهذا غلط ; لأن التي في سورة البقرة قد وصلت بقوله : وقودها الناس فلا يجوز أن توصل بصلة ثانية ، وفي آل عمران ليس لها صلة غير ( أعدت ) .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:24
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به، فقال: { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه في شك واشتباه, مما نزلنا على عبدنا, هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم, ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله, وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة, والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز, ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى, ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة], أن كانت وقودها الناس والحجارة, ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله. وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي, وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له الكمال المطلق, والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام, إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء, ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق. وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما تبين له, لم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه. وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق, بل هو معرض غير مجتهد في طلبه, فهذا في الغالب أنه لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال، فقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وفي قوله: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة, أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا, أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار, لأنه قال: { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [عصاة الموحدين] يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة. وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على اختلافها
Arabic Saddi Tafseer
2:24
{فإن لم تفعلوا} فيما مضى.{ولن تفعلوا} أبداً فيما بقي.وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله.{فاتقوا النار} أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار.{التي وقودها الناس والحجارة} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً، وقيل: جميع الحجارة وهودليل على عظمة تلك النار، وقيل: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [98-الأنبياء].{أعدت} هُيِّئَت {للكافرين}.
Arabic Baghawy Tafseer
2:24
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه وحاصله ذكر الشيء ومقابله. وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله فلهذا قال تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ولا منافاة بينهما فطينها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ علي الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبدالله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك" وقال أيضا حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق قال: قال عبدالله أنهار الجنة تفجر من جبل مسك. وقوله تعالى "كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل. قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وهكذا قال قتادة وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ونصره ابن جرير وقال عكرمة "قالوا هذا الذي رزقنا من قبل" قال معناه مثل الذي كان بالأمس وكذا قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد يقولون ما أشبهه به قال ابن جرير وقال آخرون بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من قبل ثمار الجنة من قبل هذا لشدة مشابهة بعضه بعض لقوله تعالى "وأتوا به متشابها" قال سنيد بن داود حدثنا شيخ من أهل المصيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أوتينا به من قبل فتقول الملائكة كلا فاللون واحد والطعم مختلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة هذا الذي أتيتمونا آنفا به فتقول لهم الولدان كلوا فاللون واحد والطعم مختلف وهو قول الله تعالى "وأتوا به متشابها" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "وأتوا به متشابها" قال يشبه بعضه بعضا ويختلف في الطعم قال ابن أبي حاتم ورُوي عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى "وأتوا به متشابها" يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة "وأتوا به متشابها" قال: يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء وفي رواية ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ورواه ابن جرير من رواية الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى "وأتوا به متشابها" قال يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان قالوا في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابها يعرفونه وليس هو مثله في الطعم. وقوله تعالى "ولهم فيها أزواج مطهرة" قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس مطهرة من القذر والأذى. وقال مجاهد من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه لا حيض ولا كلف. وروى عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني يونس بن عبدالأعلى أنبأنا ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال المطهرة التي لا تحيض قال: وكذلك خلقت حواء عليها السلام فلما عصت قال الله تعالى إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة - وهذا غريب - وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد الخواري قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي حدثنا عبدالرزاق بن عمر البزيعي حدثنا عبدالله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "ولهم فيها أزواج مطهرة" قال من الحيض والغائط والنخامة والبزاق". هذا حديث غريب - وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن محمد بن عبيد به. وقال صحيح على شرط الشيخين وهذا الذي ادعاه فيه نظر فإن عبدالرزاق بن عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان العبسي لا يجوز الاحتجاج به "قلت" والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما تقدم والله أعلم. وقوله تعالى "وهم فيها خالدون" هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام والله المسئول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم بر رحيم.
ابن كثير
2:25
وأخبر -أيها الرسول- أهل الإيمان والعمل الصالح خبرًا يملؤهم سرورًا، بأن لهم في الآخرة حدائق عجيبة، تجري الأنهار تحت قصورها العالية وأشجارها الظليلة. كلَّما رزقهم الله فيها نوعًا من الفاكهة اللذيذة قالوا: قد رَزَقَنا الله هذا النوع من قبل، فإذا ذاقوه وجدوه شيئًا جديدًا في طعمه ولذته، وإن تشابه مع سابقه في اللون والمنظر والاسم. ولهم في الجنَّات زوجات مطهَّرات من كل ألوان الدنس الحسيِّ كالبول والحيض، والمعنوي كالكذب وسوء الخُلُق. وهم في الجنة ونعيمها دائمون، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
المیسر
2:25
في «الكشاف» من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف والتثبيط عن اقتراف ما يتلف فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة ا ه .وجعل جملة : { وبشر } معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب } [ البقرة : 23 ] إلى قوله : { أُعدت للكافرين } [ البقرة : 24 ] فعَطف مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين والمناسبة واضحة مسوغة لعطف المجموع على المجموع ، وليس هو عطفاً لجملة معينة على جملة معينة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية ، ونظّره بقولك : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق .وجعل السيد الجرجاني لهذا النوع من العطف لقَبَ عطف القصة على القصة لأن المعطوف ليس جملة على جملة بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى ، ونظيره في المفردات ما قيل إن الواو الأولى والواو الثالثة في قوله تعالى : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن } [ الحديد : 3 ] ليستا مثل الواو الثانية لأن كل واحدة منهما لإفادة الجمع بين الصفتين المتقابلتين وأما الثانية فلعطف مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين بعدها على مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين قبلها ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن هناك تناسب ، هذا حاصله ، وهو يريد أن الواو عاطفة جملة ذات مبتدأ محذوف وخبرين على جملة ذات مبتدأ ملفوظ به وخبرين ، فالتقدير وهو الظاهر والباطن وليس المراد أن المبتدأ فيها مقدر لإغناء حرف العطف عنه بل هو محذوف للقرينة أو المناسبة في عطف جملة ( الظاهر والباطن ) على جملة ( الأول والآخر ) . أنهما صفتان متقابلتان ثبتتا لموصوف واحد هو الذي ثبتت له صفتان متقابلتان أخريان .قال السيد ولم يذكر صاحب «المفتاح» عطف القصة على القصة فتحير الجامدون على كلامه في هذا المقام وتوهموا أن مراد صاحب «الكشاف» هنا عطف الجملة على الجملة وأن الخبر المتقدم مضمن معنى الطلب أو بالعكس لتتناسب الجملتان مع أن عبارة «الكشاف» صريحة في غير ذلك وقصد السيد من ذلك إبطال فهم فهمه سعد الدين من كلام «الكشاف» وأودعه في شرحه «المطول» على «التخليص» .وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله : { وبشر } معطوفاً على قوله : { فاتقوا } [ البقرة : 24 ] الذي هو جواب الشرط فيكون له حكم الجواب أيضاً وذلك لأن الشرط وهو { فإن لم تفعلوا } [ البقرة : 24 ] سبب لهما لأنهم إذا عجزوا عن المعارضة فقد ظهر صدق النبيء فحق اتقاء النار وهو الإنذار لمن دام على كفره وحقت البشارة للذين آمنوا .وإنما كان المعطوف على الجواب مخالفاً له لأن الآية سيقت مساق خطاب للكافرين على لسان النبيء فلما أريد ترتب الإنذار لهم والبشارة للمؤمنين جعل الجواب خطاباً لهم مباشرة لأنهم المبتدأ بخطابهم وخطاباً للنبيء ليخاطب المؤمنين إذ ليس للمؤمنين ذكر في هذا الخطاب فلم يكن طريق لخطابهم إلا الإرسال إليهم .وقد استضعف هذا الوجه بأن علماء النحو قرروا امتناع عطف أمر مخاطب على أمر مخاطب إلا إذا اقترن بالنداء نحو قم يا زيدُ واكتب يا عمرو ، وهذا لا نداء فيه .وجوز صاحب «المفتاح» أن { بشر } معطوف على قُلْ مقدَّراً قبل { يأيها الناس اعبدوا } [ البقرة : 21 ] وقال القزويني في «الإيضاح» إنه معطوف على مقدر بعد قوله : { أُعدت للكافرين } [ البقرة : 24 ] أي فأنذر الذين كفروا وكل ذلك تكلف لا داعي إليه إلا الوقوف عند ظاهر كلام النحاة مع أن صاحب «الكشاف» لم يعبأ به قال عبد الحكيم لأن منع النحاة إذا انتفت قرينة تدل على تغاير المخاطبين والنداء ضرب من القرينة نحو : { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك } [ يوسف : 29 ] ا ه . يريد أن كل ما يدل على المراد بالخطاب فهو كاف وإنما خص النحاة النداء لأنه أظهر قرينة واختلاف الأمرين هنا بعلامة الجمع والإفراد دال على المراد ، وأيًّا ما كان فقد روعي في الجمل المعطوفة ما يقابل ما في الجمل المعطوف عليها فقوبل الإنذار الذي في قوله : { فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] بالتبشير وقوبل { الناس } [ البقرة : 21 ] المراد به المشركون بالذين آمنوا وقوبل ( النار ) بالجنة فحصل ثلاثة طباقات .والتبشير الإخبار بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر . وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر ( بالفتح ) غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر ( بالكسر ) عِلْم المخبر ( بالفتح ) فإن المخبر ( بالكسر ) لا يلزمه البحث عن علم المخاطب فإذا تحقق المخبر علم المخاطب لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه .والصالحات جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة ولا يقدرون موصوفاً محذوفاً قال الحطيئة :كيفَ الهجاءُ وما تنفَكُّ صَالحةٌ ... من آل لأْممٍ بظهر الغيببِ تأتيناوكأنَّ ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية .والتعريف هنا للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم .فإن قلت : إذا لم يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشْمَلُ من استغراق المجموع ، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب «الكشاف» في هذا الموضع من تفسيره إذ قال : «إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحاً لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه ا ه .فاعتمدها صاحب «المفتاح» وتناقلها العلماء ولم يفصِّلوا بيانها .ولعل سائلاً يسأل عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنياً غناءها فأقول : إن أل المُعَرِّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مراداً به الماهية وللجنس مراداً به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو : { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا } [ العصر : 2 ، 3 ] { وتؤمنون بالكتاب كله } [ آل عمران : 119 ] { والمَلَكُ على أرجائها } [ الحاقة : 17 ] اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأحَفُّ وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد . ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالباً تعين أن تعريفها للاستغراق نحو : { واللَّهُ يحب المحسنين } [ آل عمران : 134 ] لئلا يتوهم أن الحديث على مُحسن خاص نحو قولها : { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } [ يوسف : 52 ] لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق .وانتصب الصالحات على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب السادس من «مغني اللبيب» أن مفعول الفعل إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولاً مطلقاً لا مفعولاً به فنحو : { عملوا الصالحات } مفعول مطلق ونحو : { خلق الله السماوات } [ العنكبوت : 44 ] كذلك ، واعتضد لذلك بأنّ ابن الحاجب في «شرح المفصل» زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله ، وقد رده ابن هشام نفسه . والصواب أن المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه .والجنات جمع جنة ، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى : { وجنات ألفافاً } [ النبأ : 16 ] .والجري حقيقته سرعة شديدة في المشي ، ويطلق مجازاً على سَيْل الماء سَيْلاً متكرراً متعاقباً وأحسن الماء ما كان جارياً غير قار لأنه يكون بذلك جديداً كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل .والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأُخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نَهَر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيراً وصغيراً . وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظراً بديعاً وشيئاً لذيذاً .وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكناً من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور ، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال ، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها .والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى : { وأتوا به متشابهاً } .ومعنى { من تحتها } من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات ، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير :شُجَّت بذِي شبَممٍ من ماء مَحنية ... صاففٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمولُالبيتين .وقد أورد صاحب «الكشاف» توجيهاً لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير ( جنات ) إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام ، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بأل العهدية عهداً تقديرياً واختير الثاني تفادياً من كلفة الإضافة وتنبيهاً على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعاً للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى : { فإن الجحيم هي المأوى } [ النازعات : 39 ] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحاً في كل موضع على أني أرى مذهب الكوفيين مقبولاً وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي .وعندي أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعاً بسورة التعريف .وقوله : { من تحتها } يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام ، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه :من حس أطلس تسعى تحته شرع ... كأن أحناكها السفلى مآشيروالتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى ، ولكل مكان علوٌّ وسفلٌ ولا يقتضي ذلك ارتفاعَ ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزحرف : 51 ] فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات .{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ متشابها وَلَهُمْ فِيهَآ أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون } .جملة : { كلما رزقوا } يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات ، ويجوز أن تكون خبراً عن مبتدأ محذوف وهو ضمير { الذين آمنوا } فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شؤون الذين آمنوا ، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة { أن لهم جنات } فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة .و ( كلما ) ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقاً على الأزمان المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما . والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طرياناً غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها .وإذ كانت كلما نصاً في عموم الأزمان تعين أن قوله { من قبل } المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة . وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم . ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري . ويحتمل أن في ذلك تعجيباً لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر . وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق . ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة ، ومعنى ( من قبل ) في المرة الأولى من دخول الجنة . ومن المفسرين من حمل قوله { من قبل } على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، ووجهه في «الكشاف» : «بأن الإنسان بالمألوف آنس» وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مراداً به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب ، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه .وقوله : { وأتوا به متشابهاً } ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا . ثم مَنّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة .والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفرداً زوجاً وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري : «إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة» يعني عائشة وقال الفرزدق :وإنّ الذي يَسعى ليفسد زَوجتي ... كساععٍ إلى أُسد الشَّرى يستمليهاوقوله : { وهم فيها خالدون } احتراس مِن تَوَهُّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب :أشدُّ الغم عندي في سرور ... تحقَّقَ عنه صاحبُه انتقالاوقوله : { مطهرة } هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرىء بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيراً لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك ، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد .
Arabic Tanweer Tafseer
2:25
البشارة : الخبر السار فهو أخص من الخبر ، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهي ظاهر جلد الإِنسان ، والمأمور بالتبشير هو النبي صلى الله عليه وسلم أو كل من يتأتى منه تفخيماً لأمره ، وتعظيماً لشأنه .والصلاحات : جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل .والصالحات : جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة ، وهي من الصفات التي جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل .والجنات : جمع جنة ، وهي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظل ما تحته ويستره ، من الجن وهو ستر الشيء عن الحاسة ، ثم صارت الجنة اسماً شرعياً لدار النعيم في الآخرة ، وهي سبع درجات :جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعليون . . . وتتفاوت منازل المؤمنين في كل درجة بتفاوت الأعمال الصالحة .والأنهار جمع نهر - بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح - وهو الأخدود الذي يجري فيه الماء على الأرض ، وهو مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ، ويكون كبيراً أو صغيراً .وأسند إليه الجرى في الآية مع أن الذي يجري في الحقيقة هو الماء ، أخذاً بفن معروف بين البلغاء ، وهو إسناد الفعل إلى مكانه ، توسعاً في أساليب البيان .وقوله : " من تحتها " وارد على طريقة الإِيجاز بحذف كلمة " أشجار " اعتماداً على تبادرها إلى الذهن ، والمعنى : تجري من تحت أشجارها الأنهار . ثم بين - سبحانه - أحوال هؤلاء المؤمنين الصالحين فقال :( كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ )أي : إن سكان الجنة كلما رزقوا في الجنة ثمرة من ثمراتها ، وجدوها مثل الذي رزقوه فيها من قبل ، في بلوغه الغاية من حسن المنظر ولذة الطعم .وفي هذا إِشارة إلى أن ثمار الجنة متماثلة في حسن منظرها ، ولذة طعمها بحيث لا تفضل ثمرة في ذلك على أخرى ، فجميع ثمرها يسر له القلب ، ويستحليه الذوق ، وإن اختلفت المناظر والطعوم .ثم قال - تعالى ( وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) أي : يشبه بعضه بعضاً في الصورة والرائحة ، ويختلف في اللذة والطعم ، أو في المزية والحسن ، وعن ابن عباس : " ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي "؛ وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها في معنى أن كل ثمر يشابه ما قبله في حسن المنظر ولذة الطعم مشابهة لا يفضل فيها ثمر الدنيا ، فإنه يتفاوت في مناظره حسناً ، وفي طعومه لذة .ويرى بعض العلماء حمل قوله - تعالى - : ( قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ) على تقدير : من قبل دخول الجنة ، أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، وإلى هذا الرأي مال صاحب الكشاف فقد قال : " فإن قلت : كيف قيل ." هذا الذي رزقنا من قبل؟ وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت : معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل وشبهه ، بدليل قوله : ( وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ) فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : ( وَأُتُواْ بِهِ ) ؟ قلت : إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً ، لأن قوله : ( هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ) انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين . فإن قلت : لأي غرض يتشابه ثمر الدنيا وثمر الجنة؟ قلت : لأن الإِنسان بالمألوف آنس؛ وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عن طبعه ، وعافته نفسه "ثم قال - تعالى - : ( وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .الأزواج : جمع زوج وهي المرأة يختص بها الرجل ، والضمير في " فيها " يعود إلى الجنات .والمعنى : أن لهؤلاء المؤمنين نساء مختصات بهم ، مطهرات غاية التطهير من كل دنس وقذر ، حسى ومعنى ، لا كنساء الدنيا ، وهم في هذه الجنات باقون على الدوام ، لأن النعيم إنما يتم باطمئنان صاحبه على أنه دائم ، أما إذا كان محتملا للزوال فإن صاحبه يبقى منغص البال ، إذ سيذكر أنه سيفقده في يوم من الأيام ، فجملة ( وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) جيء بها على سبيل الاحتراس من وهم الانقطاع .وبعد هذا البيان الجامع عن أحوال المهتدين بهديه أو الناكبين عن صراطه ، وما تخلل ذلك من المواعظ النافعة ، والتمثيلات الرائعة ، والبشارات الطيبة لمن آمن وعمل صالحاً ، بعد كل ذلك بين - سبحانه - أنه لا يعبأ أن يضرب مثلا بشء حقير أو غير حقير ، فقال - تعالى - :( إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الذين آمَنُواْ . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:25
القول في تأويل قوله : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُقال أبو جعفر: أما قوله تعالى: " وبشِّر "، فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ, إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه, وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة, فقال له: يا محمد، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي, وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار، خاصةً, دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك (1) ، ودون من أظهر تصديقك (2) ، وأقرّ أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة، مُعدةً عندي. والجنات: جمع جنة, والجنة: البستان.وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة: ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره (3) " : تجري من تحتها الأنهار ". لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها, لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض, فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة، أنها جارية في غير أخاديد.509- كما حدثنا أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عمرو بن مُرَّة, عن أبي عُبيدة, عن مسروق, قال: نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها, وثمرها أمثالُ القِلال, كلما نُـزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى, وماؤها يَجري في غير أخدود (4) .510- حدثنا مجاهد [بن موسى]، (5) قال: حدثنا يزيد, قال: أخبرنا مِسعر بن كدام, عن عمرو بن مرة, عن أبي عُبيدة، بنحوه.511- وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عبيدة -فذكر مثله- قال: فقلت لأبي عُبيدة: من حدّثك؟ فغضب، وقال: مسروق.&; 1-385 &;فإذا كان الأمر كذلك، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد, فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات: أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها, إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها, على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده, كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه, والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته (6) .القول في تأويل قوله جل ثناؤه: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًاقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " كلما رُزقوا منها ": من الجنات, والهاء راجعةٌ على الجنات، وإنما المعنيّ أشجارها، فكأنه قال: كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل.ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله: " هذا الذي رُزقنا من قَبل ".فقال بعضهم: تأويل ذلك: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.* ذكر من قال ذلك:512- حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا &; 1-386 &; أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: " هذا الذي رُزقنا من قبل "، قال: إنهم أتوا بالثمرة في الجنة, فلما نظروا (7) إليها قالوا: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.513- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: " قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل "، أي في الدنيا.514- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد: " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل "، يقولون: ما أشبهه به.515- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، عن مجاهد، مثله.516- حدثني يونس بن عبد الأعلى, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: " قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل "، في الدنيا, قال: " وأتوا به مُتشابهًا "، يعرفونه (8) .قال أبو جعفر: وقال آخرون: بل تأويلُ ذلك: هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا, لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول: أن ثمار الجنة كلما نـزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.517- كما حدثنا ابن بشار, قال: حدثنا ابن مهدي, قال: حدثنا سفيان, قال: سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث، عن أبي عُبيدة, قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها, وثمرُها مثل القلال, كلما نُـزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى (9) .قالوا: فإنما اشتبهت عند أهل الجنة, لأن التي عادت، نظيرةُ التي نُـزعت فأكِلت، في كل معانيها. قالوا: ولذلك قال الله جل ثناؤه: " وأتوا به متشابهًا "، لاشتباه جميعه في كل معانيه.وقال بعضهم: بل قالوا: " هذا الذي رزقنا من قبل "، لمشابهته الذي قبله في اللون، وإن خالفه في الطعم.* ذكر من قال ذلك:518- حدثنا القاسم بن الحسين, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثنا شيخ من المِصِّيصة، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير, قال: يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها, ثم يؤتى بأخرى فيقول: هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك: كُلْ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف (10) .وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته، قول القائلين: إن معنى ذلك: هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال: " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا "، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا، أن يقولوا: هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها, فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها, الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله, كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه (11) - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار &; 1-388 &; الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره: هذا هو الذي رُزقناه من قبل؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه (12) ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها, فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله: " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا "، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية: كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا (13) .فإن سألنا سائل، فقال: وكيف قال القوم: هذا الذي رُزقنا من قبل، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له؟قيل: إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه: هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر: قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك: هذا طعامي في منـزلي. يعني بذلك: أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه, لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله: " قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل "، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك: هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل, ومن جنسه في السِّمَات والألوان (14) - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا (15) .القول في تأويل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًاقال أبو جعفر: والهاء في قوله: " وأتُوا به مُتشابهًا " عائدة على الرزق, فتأويله: وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل " المتشابه " في ذلك:فقال بعضهم: تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.* ذكر من قال ذلك:519- حدثنا خلاد بن أسلم, قال: أخبرنا النضر بن شُميل, قال: أخبرنا أبو عامر، عن الحسن في قوله: " متشابهًا " قال: خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.520- حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن عُلَيَّة, عن أبي رَجاء: قرأ الحسنُ آيات من البقرة, فأتى على هذه الآية: " وأتُوا به مُتشابهًا " قال: ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.521- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا مَعمر, قال: قال الحسن: " وأتوا به متشابهًا " قال: يشبه بعضه بعضًا، ليس فيه من رَذْل (16) .522- حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وأتوا به &; 1-390 &; متشابهًا "، أي خيارًا لا رَذلَ فيه, وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها, وثمار الجنة خيارٌ كله، لا يُرْذَل منه شيء.523- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج. قال: ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل، ومنه نَقاوَةٌ, وثمرُ الجنة نقاوة كله، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب، ليس منه مرذول (17) .وقال بعضهم: تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.* ذكر من قال ذلك:524- حدثني موسى, قال حدثنا عمرو, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك، وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وأتوا به متشابهًا " في اللَّوْن والمرْأى, وليس يُشبه الطعمَ.525- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " وأتوا به متشابهًا " مِثلَ الخيار.526- حدثنا المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه , مثلَ الخيار من القثّاء.527- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " وأتوا به متشابهًا "، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.528- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: حدثنا عبد الرزّاق, قال: أنبأنا الثوري , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: " متشابهًا "، قال: مشتبهًا في اللون، ومختلفًا في الطعم.&; 1-391 &;529- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج, عن مجاهد: " وأتوا به متشابهًا "، مثل الخيار (18) .وقال بعضهم: تشابُهه في اللون والطعم.* ذكر من قال ذلك:530- حدثنا ابن وكيع. قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، قوله: " متشابهًا " قال: اللونُ والطعمُ.531- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا عبد الرزّاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، ويحيى بن سعيد: " متشابهًا " قالا في اللون والطعم.وقال بعضهم: تشابهه، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون، وإن اختلف طعومهما.* ذكر من قال ذلك:532- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: " وأتوا به متشابهًا " قال: يشبه ثمر الدنيا، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.533- حدثنا المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: قال حفص بن عمر, قال: حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله: " وأتوا به متشابهًا "، قال: يشبه ثمر الدنيا, غير أن ثمر الجنة أطيبُ.وقال بعضهم: لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء.* ذكر من قال ذلك:534- حدثني أبو كريب, قال: حدثنا الأشجعيّ -ح- وحدثنا محمد &; 1-392 &; بن بشار, قال، حدثنا مؤمَّل, قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن الأعمش, عن أبي ظَبْيَان, عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي -: لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل، قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.535- حدثنا عباس بن محمد, قال: حدثنا محمد بن عُبيد، عن الأعمش, عن أبي ظبيان، عن ابن عباس, قال: ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.536- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: " وأتوا به متشابهًا "، قال: يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا, التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان, قالوا في الجنة: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا," وأتوا به متشابهًا " يعرفونه, وليس هو مثله في الطعم (19) .قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية, تأويلُ من قال: وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر, والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون, مختلفًا في الطعم والذوق، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وأن معناه: كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا: هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا: فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا, يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا، في اللون والمرأى والمنظر، وإن اختلفا في الطعم والذوق، فتباينا, فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.وقد دللنا على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله: قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض (20) . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله: " وأتوا به متشابهًا "، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم: هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ بقوله: " وأتوا به متشابهًا ".ويُسأل من أنكر ذلك (21) ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه, فيقال له: أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها؟فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله, لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.وإن قال: ذلك جائز, بل هو كذلك.قيل: فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه (22) ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر, فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر، خلافُ الذي لما في الدنيا منه، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك, فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما:537- حدثني به ابن بشار, قال: حدثنا ابن أبي عديّ، وعبد الوهاب, ومحمد بن جعفر, عن عوف، عن قَسَامةَ، عن الأشعري, قال: إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة, وعلّمه صَنعةَ كل شيء, فثمارُكم هذه من ثمار الجنة, غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ (23) .(24) وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله: " وأتوا به متشابهًا "، أنه متشابهٌ في الفضل، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه، مثلُ الذي للآخر في نحوه.قال أبو جعفر: وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.القول في تأويل قوله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌقال أبو جعفر: والهاء والميم اللتان في" لهم " عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات, والهاء والألف اللتان في" فيها " عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك: وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.والأزواج جمع زَوْج, وهي امرأة الرجل. يقال: فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.وأما قوله: " مطهَّرة " فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ, مما يكون في نساء أهل الدنيا، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ, وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.538- كما حدثنا به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أما أزواجٌ مطهرة، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.539- حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس، قوله: " أزْواج مطهرة ". يقول: مطهرة من القذَر والأذى.540- حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا يحيى القطان (25) ، عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة " قال: لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.541- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, قال: حدثنا أبو أحمد الزُّبيري, قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوه - إلا أنه زَاد فيه: ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.542- حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره: " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال: مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.543- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا سويد بن نصر, قال: حدثنا ابنُ المبارك, عن ابن جُريج, عن مجاهد، مثله.544- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قال: لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.545- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، نحوَ حديث محمد بن عمرو, عن أبي عاصم.546- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة: " ولهم فيها أزواج مطهرة "، إي والله من الإثم والأذى.547- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة "، قال: طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر, ومن كل مأثم.548- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن قتادة، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.549- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه, عن ليث, عن مجاهد, قال: المطهرة من الحيض والحبَل.550- حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, عن عبد الرحمن بن زيد: " ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة " قال: المطهَّرة التي لا تحيض. قال: وأزواج الدنيا ليست بمطهرة, ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ؟ قال ابن زيد: وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ, فلما عصَتْ قال الله: إني خلقتك مطهَّرة &; 1-397 &; وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (26) .551- حُدثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع، عن الحسن في قوله: " ولهم فيها أزواج مطهرة "، قال يقول: مطهَّرة من الحيض.552- حدثنا عمرو بن علي, قال: حدثنا خالد بن يزيد, قال: حدثنا أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن الحسن في قوله: " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة "، قال: من الحيض.553- حدثنا عمرو, قال: حدثنا أبو معاوية, قال: حدثنا ابن جُريج, عن عطاء قوله: " ولهم فيها أزواج مطهرة "، قال: من الولد والحيض والغائط والبول, وذكر أشياءَ من هذا النحو (27) .القول في تأويل قوله: وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله " وهم "، عائدة على الذين آمنوا وعملوا &; 1-398 &; الصالحات. والهاء والألف في" فيها " على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم (28) .--------------الهوامش :(1) في المطبوعة : "ما جئت به من الهدى" .(2) في المخطوطة : "دون من أظهر . . " بحذف الواو ، وهو قريب في المعنى .(3) في المطبوعة : "فلذلك قال . . " ، وما في المخطوطة أجود .(4) الأثر 509- في الدر المنثور 1 : 38 . وقال ابن كثير في تفسيره 1 : 113 : "وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود" ، ولم يبين ، وانظر ما سيأتي رقم : 517 .(5) الإسناد 510- الزيادة بين القوسين من المخطوطة ، وهو مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي ، أبو علي الختلي (بضم ففتح) ، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما . مترجم في التهذيب ، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/413 ، والصغير : 245 ، والخطيب في تاريخ بغداد 13 : 265 - 266 وابن الأثير في اللباب 1 : 345 . مات مجاهد هذا في رمضان سنة 244 . وشيخه يزيد : هو يزيد بن هارون .(6) في المخطوطة : "والتفريق لعقوبته" ، ولا معنى لها .(7) في الدر المنثور : "فينظروا" ، وفي الشوكاني : "فنظروا" ، وكذلك في المخطوطة .(8) الآثار 512 - 516 : في تفسير ابن كثير 1 : 113 - 114 ، والدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .(9) انظر الآثار السالفة رقم : 509 - 511 . وفي المخطوطة : "أمثال القلال" كما مر آنفًا .(10) الأثر 518- في ابن كثير 1 : 114 ، والدر المنثور 1 : 38 .(11) في المطبوعة : "في وسطه" .(12) في المطبوعة مكان قوله : "ذو غية" ، "ذو غرة" ، وفي المخطوطة : "ذو عته" . والعته : نقص العقل ، أو الجنون ، وأجودهن ما أثبته عن كتاب حادي الأرواح لابن قيم الجوزية 1 : 268 ، حيث نقل نص الطبري .(13) هذا التفصيل الذي ذكره الطبري من جيد النظر في معاني الكلام .(14) في المطبوعة : "في التسميات والألوان" ، وهو خطأ .(15) يعني بذلك الذي تقدم ، معنى قوله : "وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه ، دون المجهول من معانيه" ، وقد مضى ذكر ذلك في ص 388 .هذا ، وقد وقع في المطبوعة خطأ بين ، فقد وضع في هذا المكان ما نقلناه إلى حق موضعه في ص 394 من أول قوله : "وقد زعم بعض أهل العربية . . " إلى قوله : "بخروجه عن قول جميع أهل العلم ، دلالة على خطئه" .(16) في المطبوعة : "ليس فيه مرذول" .(17) الآثار : 519 - 523 بعضها في الدر المنثور 1 : 38 ، وبعضها في الشوكاني 1 : 42 .(18) الآثار : 524 - 529 بعضها في ابن كثير 1 : 114 - 115 ، والدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .(19) الآثار : 530 - 536 بعضها في الدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .(20) انظر ما مضى ص 387 وما بعدها .(21) في المطبوعة : "وسأل من أنكر . . " ، وهو خطأ بين .(22) في المطبوعة : "نظائر ألوان" .(23) الحديث 537- هذا إسناد صحيح . وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا ، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس . والأشعري : هو أبو موسى ، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة . عوف : هو ابن أبي جميلة الأعرابي ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . قسامة - بفتح القاف وتخفيف السين المهملة : هو ابن زهير المازني التميمي البصري ، وهو ثقة تابعي قديم ، بل ذكره بعضهم في الصحابة فأخطأ . وله ترجمة في الإصابة 5 : 276 وابن سعد 7/1/110 ، وقال : "كان ثقة إن شاء الله ، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق" ، وابن أبي حاتم 3/2/147 ، وروى توثيقه عن ابن معين .والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 1 : 80 ، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عوف ، بهذا الإسناد . وذكره ابن القيم في حادي الأرواح 1 : 273 (ص 125 من الطبعة الثانية ، طبعة محمود ربيع سنة 1357) من رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن عقبة بن مكرم العمى الحافظ ، عن ربعى بن إبراهيم بن علية عن عوف ، بهذا الإسناد ، مرفوعًا صراحة : "قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" . وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 197 - 198"عن أبي موسى رفعه" ، وقال : "رواه البزار ، والطبراني ، ورجاله ثقات" . وذكره ابن القيم في حادي الأرواح قبل ذلك (ص 30 - 31) ، من رواية"هوذة بن خليفة عن عوف" بهذا الإسناد ، موقوفًا لفظًا . ورواية هوذة بن خليفة : رواها الحاكم في المستدرك 2 : 543 ، ولكن إسنادها عندي أنه مغلوط ، والظاهر أنه غلط من الناسخين . لأن الذي فيه : "هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، قال : إن الله لما أخرج آدم" إلخ . ثم قال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، ووافقه الذهبي! ولا يمكن -فيما أعرف وأعتقد- أن يصحح الحاكم هذا الإسناد ، ثم يوافقه الذهبي ، إن كان على هذا الوجه ، لأن أبا بكر بن أبي موسى الأشعري تابعي ثقة ، فلو كان الإسناد هكذا كان الحديث مرسلا لا حجة فيه ، سواء أرفعه أم قاله من قبل نفسه ، فالظاهر أن الناسخين القدماء للمستدرك أخطئوا في زيادة"أبي بكر بن" ، وأن صوابه : "عن أبي موسى الأشعري" ، كما تبين من نقل ابن القيم رواية هوذة ، وكما تبين من الروايات الأخر التي سقناها . والحمد لله على التوفيق .(24) هذه الفقرة كلها من أول قوله : "وقد زعم بعض أهل العربية . . " كانت في المطبوعة في الموضع الذي أشرنا إليه آنفًا ص 389 .(25) في المخطوطة : "يحيى العطار" ، وهو خطأ .(26) في المخطوطة : "كما دميت" بتشديد الميم ، وهما سواء ، ويعني بذلك دم الحيض . وهذا الأثر نقله ابن كثير 1 : 115 عن هذا الموضع ، وفيه"أدميت" ، كما في المطبوعة هنا . وقال ابن كثير بعد سياقه : "وهذا غريب" .(27) الآثار 538 - 553 : بعضها في ابن كثير 1 : 115 ، والدر المنثور 1 : 39 ، والشوكاني 1 : 42 وكرهنا الإطالة بتفصيل مراجعها واحدًا واحدًا . ونقل ابن كثير 1 : 115 - 116 حديثًا مرفوعًا بهذا المعنى : يعني مطهرة"من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق" ، من تفسير ابن مردويه بإسناده - من طريق محمد بن عبيد الكندي عن عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد ، مرفوعًا . وقال : "هذا حديث غريب" . ثم نقل عن الحاكم أنه رواه في المستدرك ، من هذا الوجه ، وأنه صححه على شرط الشيخين . ثم قال : "وهذا الذي ادعاه فيه نظر ، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا - قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي : لا يجوز الاحتجاج به . قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم" . وهو كما قال ابن كثير . انظر الميزان 2 : 126 .(28) في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 42 ، أن ابن جرير أخرج عن ابن عباس في قوله"وهم فيها خالدون" -"أي خالدون أبدًا ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له" .وهذا الخبر سيأتي عند تفسير الآية : 82 من هذه السورة (1 : 307 بولاق) . فنقله السيوطي إلى هذا الموضع ، وتبعه الشوكاني .
الطبري
2:25
قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون قوله تعالى : وبشر الذين آمنوا فيه ثلاث مسائل :الأولى : لما ذكر الله عز وجل جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أيضا . والتبشير الإخبار بما يظهر أثره على البشرة - وهي ظاهر الجلد - لتغيرها بأول خبر يرد عليك ، ثم الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخير المبشر به ، وغير مقيد أيضا . ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيدا منصوصا على الشر المبشر به ، قال الله تعالى فبشرهم بعذاب أليم ويقال : بشرته وبشرته - مخفف ومشدد - بشارة ( بكسر الباء ) فأبشر واستبشر . وبشر يبشر إذا فرح . ووجه بشير إذا كان حسنا بين البشارة ( بفتح الباء ) . والبشرى : ما يعطاه المبشر . وتباشير الشيء : أوله .الثانية : أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال : من بشرني من عبيدي بكذا فهو حر ، فبشره واحد من عبيده فأكثر فإن أولهم يكون حرا دون الثاني . واختلفوا إذا قال : من أخبرني من عبيدي بكذا فهو حر فهل يكون الثاني مثل الأول ، فقال أصحاب الشافعي : نعم ; لأن كل واحد منهم مخبر . وقال علماؤنا : لا ; لأن المكلف إنما قصد خبرا يكون بشارة ، وذلك يختص بالأول ، وهذا معلوم عرفا فوجب صرف القول إليه . وفرق محمد بن الحسن بين قوله : أخبرني ، أو حدثني ، فقال : إذا قال الرجل أي غلام لي أخبرني بكذا ، أو أعلمني بكذا وكذا [ ص: 228 ] فهو حر - ولا نية له - فأخبره غلام له بذلك بكتاب أو كلام أو رسول فإن الغلام يعتق ; لأن هذا خبر . وإن أخبره بعد ذلك غلام له عتق ; لأنه قال : أي غلام أخبرني فهو حر . ولو أخبروه كلهم عتقوا ، وإن كان عنى - حين حلف - بالخبر كلام مشافهة لم يعتق واحد منهم إلا أن يخبره بكلام مشافهة بذلك الخبر . قال : وإذا قال أي غلام لي حدثني ، فهذا على المشافهة لا يعتق واحد منهم .الثالثة : قوله تعالى : وعملوا الصالحات رد على من يقول : إن الإيمان بمجرده يقتضي الطاعات ; لأنه لو كان ذلك ما أعادها فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح . وقيل : الجنة تنال بالإيمان ، والدرجات تستحق بالأعمال الصالحات . والله أعلم ." أن لهم " في موضع نصب ب " بشر " والمعنى وبشر الذين آمنوا بأن لهم ، أو لأن لهم ، فلما سقط الخافض عمل الفعل . وقال الكسائي وجماعة من البصريين : " أن " في موضع خفض بإضمار الباء ." جنات " في موضع نصب اسم أن ، " وأن وما عملت فيه في موضع المفعول الثاني . والجنات : البساتين ، وإنما سميت جنات لأنها تجن من فيها أي تستره بشجرها ، ومنه : المجن والجنين والجنة ." تجري " في موضع النعت لجنات وهو مرفوع ; لأنه فعل مستقبل فحذفت الضمة من الياء لثقلها معها .من تحتها : أي من تحت أشجارها ، ولم يجر لها ذكر ; لأن الجنات دالة عليها .الأنهار أي ماء الأنهار ، فنسب الجري إلى الأنهار توسعا ، وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا ، كما قال تعالى : واسأل القرية أي أهلها . وقال الشاعر :نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلسأراد : أهل المجلس ، فحذف . والنهر : مأخوذ من أنهرت ، أي وسعت ، ومنه قول قيس بن الخطيم :ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءهاأي وسعتها ، يصف طعنة . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه [ ص: 229 ] فكلوه . معناه : ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر . وجمع النهر : نهر وأنهار . ونهر نهر : كثير الماء ، قال أبو ذؤيب :أقامت به فابتنت خيمة على قصب وفرات نهروروي : أن أنهار الجنة ليست في أخاديد ، إنما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها . والوقف على الأنهار حسن وليس بتام لأن قوله : كلما رزقوا منها من ثمرة من وصف الجنات ." رزقا " مصدره ، وقد تقدم القول في الرزق .ومعنى : من قبل يعني في الدنيا ، وفيه وجهان : أحدهما : أنهم قالوا هذا الذي وعدنا به في الدنيا . والثاني : هذا الذي رزقنا في الدنيا ; لأن لونها يشبه لون ثمار الدنيا ، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير ذلك وقيل : من قبل يعني في الجنة لأنهم يرزقون ثم يرزقون ، فإذا أتوا بطعام وثمار في أول النهار فأكلوا منها ، ثم أتوا منها في آخر النهار قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، يعني أطعمنا في أول النهار ; لأن لونه يشبه ذلك ، فإذا أكلوا منها وجدوا لها طعما غير طعم الأول .وأتوا فعلوا من أتيت . وقرأه الجماعة بضم الهمزة والتاء . وقرأ هارون الأعور " وأتوا " بفتح الهمزة والتاء . فالضمير في القراءة الأولى لأهل الجنة ، وفي الثانية للخدام ." به متشابها " حال من الضمير في به ، أي يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في الطعم . قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم . وقال عكرمة : يشبه ثمر الدنيا ويباينه في جل الصفات . ابن عباس : هذا على وجه التعجب ، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة سوى الأسماء ، فكأنهم تعجبوا لما رأوه من حسن الثمرة وعظم خلقها . وقال قتادة : خيارا لا رذل فيه ، كقوله تعالى : كتابا متشابها وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه ; لأن فيها خيارا وغير خيار .ولهم فيها أزواج ابتداء وخبر . وأزواج : جمع زوج . والمرأة : زوج الرجل . والرجل زوج المرأة . قال الأصمعي : ولا تكاد العرب تقول زوجة . وحكى الفراء أنه يقال : زوجة ، وأنشد الفرزدق :[ ص: 230 ]وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلهاوقال عمار بن ياسر في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم . ذكره البخاري ، واختاره الكسائي .مطهرة نعت للأزواج ومطهرة في اللغة أجمع من طاهرة وأبلغ ، ومعنى هذه الطهارة من الحيض والبصاق وسائر أقذار الآدميات . ذكر عبد الرزاق قال : أخبرني الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : " مطهرة " قال : لا يبلن ولا يتغوطن ولا يلدن ولا يحضن ولا يمنين ولا يبصقن . وقد أتينا على هذا كله في وصف أهل الجنة وصفة الجنة ونعيمها من كتاب التذكرة . والحمد لله .وهم فيها خالدون : " هم " مبتدأ . " خالدون " خبره ، والظرف ملغى . ويجوز في غير القرآن نصب خالدين على الحال . والخلود : البقاء ومنه جنة الخلد . وقد تستعمل مجازا فيما يطول ، ومنه قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه أي طوله . قال زهير :ألا لا أرى على الحوادث باقيا ولا خالدا إلا الجبال الرواسياوأما الذي في الآية فهو أبدي حقيقة .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:25
لما ذكر جزاء الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: { وَبَشِّرِ } أي: [يا أيها الرسول ومن قام مقامه] { الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة. ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه, وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين, الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته. فبشرهم { أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, [والأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها, وينعم فيها ساكنها. { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } أي: أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر، يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا, وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار. { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه, كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها. وقوله: { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا } قيل: متشابها في الاسم, مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا الصحيح ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال: { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } فلم يقل \" مطهرة من العيب الفلاني \" ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار، فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق, والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات حسان, مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشِّر والمبشَّر, والمبشَّرُ به, والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب. وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها [وثمراتها], فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم
Arabic Saddi Tafseer
2:25
قوله تعالى : ( وبشر الذين آمنوا ) أي أخبر والبشارة كل خبر صدق تتغير به بشرة الوجه ويستعمل في الخير والشر وفي الخير أغلب ( وعملوا الصالحات ) أي الفعلات الصالحات يعني المؤمنين الذين هم من أهل الطاعات قال عثمان بن عفان رضي الله عنه ( وعملوا الصالحات ) أي أخلصوا الأعمال كما قال " فليعمل عملا صالحا " ( 110 - الكهف ) أي خاليا من الرياء . قال معاذ : العمل الصالح الذي فيه أربعة أشياء . العلم والنية والصبر والإخلاص . ( أن لهم جنات ) جمع الجنة والجنة البستان الذي فيه أشجار مثمرة سميت بها لاجتنانها وتسترها بالأشجار . وقال الفراء : الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم( تجري من تحتها ) أي من تحت أشجارها ومساكنها ( الأنهار ) أي المياه في الأنهار لأن النهر لا يجري وقيل ( من تحتها ) أي بأمرهم لقوله تعالى حكاية عن فرعون " وهذه الأنهار تجري من تحتي " ( 51 - الزخرف ) أي بأمري والأنهار جمع نهر سمي به لسعته وضيائه . ومنه النهار . وفي الحديث " أنهار الجنة تجري في غير أخدود . . . " ]
Arabic Baghawy Tafseer
2:25
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" وقوله "أو كصيب من السماء" الآيات الثلاث قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى "هم الخاسرون" وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" وقال سعيد عن قتادة أي إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليس كذلك وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة: وقال ابن أبي حاتم: رُوي عن الحسن وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" هكذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله أعلم فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي لأنه أمس بالسورة وهو مناسب ومعني الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحي أي لا يستنكف وقيل لا يخشي أن يضرب مثلا ما أي مثل كان بأي شيء كان صغيرا كان أو كبيرا وما هاهنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضربا ما فيصدق بأدنى شيء أو تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها قال: وذلك سائغ في كلام العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت: يكفي بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار وتقدير الكلام إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلي ما فوقها وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع قال ابن جني وتكون صلة لما وحذف العائد كما في قوله "تماما على الذي أحسن" أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي قائل لك شيئا. أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى "فما فوقها" فيه قولان أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة كما إذا وصف لك رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث "لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء" والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة ابن دعامة واختيار ابن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" وقال "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" وقال تعالى "ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء" وقال تعالى "ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء" الآية ثم قال "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل" الآية كما قال "ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم" الآية. وقال "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون" الآية. وقال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وفي القرآن أمثال كثيرة. قال بعض السلف إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال مجاهد في قوله تعالى "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها" الأمثال صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله ورُوي عن مجاهد والحسن والربيع بن أنس نحو ذلك وقال أبو العالية "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" يعني هذا المثل "وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" كما قال في سورة المدثر "وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو" وكذلك قال هاهنا "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين" قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيرا يعني به المنافقين ويهدي به كثيرا يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به ويهدي به يعني المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق لما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم المنافقون وقال أبو العالية "وما يضل به إلا الفاسقين" قال هم أهل النفاق. وكذا قال ربيع بن أنس وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس "وما يضل به إلا الفاسقين" قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة "وما يضل به إلا الفاسقين" فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد "يضل به كثيرا" يعني الخوارج.
ابن كثير
2:26
إن الله تعالى لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا ما، قلَّ أو كثر، ولو كان تمثيلا بأصغر شيء، كالبعوضة والذباب ونحو ذلك، مما ضربه الله مثلا لِعَجْز كل ما يُعْبَد من دون الله. فأما المؤمنون فيعلمون حكمة الله في التمثيل بالصغير والكبير من خلقه، وأما الكفار فَيَسْخرون ويقولون: ما مراد الله مِن ضَرْب المثل بهذه الحشرات الحقيرة؟ ويجيبهم الله بأن المراد هو الاختبار، وتمييز المؤمن من الكافر؛ لذلك يصرف الله بهذا المثل ناسًا كثيرين عن الحق لسخريتهم منه، ويوفق به غيرهم إلى مزيد من الإيمان والهداية. والله تعالى لا يظلم أحدًا؛ لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا الخارجين عن طاعته.
المیسر
2:26
قد يبدو في بادىء النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين .روى الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } [ الحج : 73 ] وقوله : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله : { إن الله لا يستحي } الآية .والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صوراً من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد ناراً وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاف خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين .فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلاً . وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله } وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم{ رَاعنا } [ البقرة : 104 ] ، قال تعالى : { فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم } [ البقرة : 59 ] كما ورد تفسيره في «الصحيح» ولم يكن ذلك من شأن العرب .وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثلِه في كلام بلغائهم كقولهم أَجرأُ من ذُبابة ، وأسْمَع من قُرادٍ ، وأطْيَشُ من فَراشة ، وأضعف من بَعُوضَة . وهذا الاحتمال أدَلُّ ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غُلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابرُ يقول ما لا يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب «الكشاف» وهو أوفق بالسياق . والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يُلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين . وقد دل على هذا المعنى قوله بعده : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا } إلى قوله : { ويهدي به كثيراً } .فإن قيل : لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زماناً .قلنا : الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيآت ، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبناً فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه . فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] الآيات وقوله : { صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون .والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقاً لا خصوص المركب من هيئة ، بخلاف قوله فيما سبق { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } لأن المعنىَّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله : { لن يخلقوا ذباباً } [ الحج : 73 ] وقوله : { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] .وموقع ( إنّ ) هنا بيِّن .وأما الإتيان بالمسند إليه علماً دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضاً إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل .ولهذا أيضاً اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه ، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت .فإن قلت : إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالُنا نرى كثيراً من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق :من عِزّهم حجرَتْ كليبٌ بيتها ... زَرباً كأنهمُ لديهِ القُمَّلوقول أبي الطيب :أماتكمُ من قبل موتِكم الجهلُ ... وجركمُ من خفة بكمُ النملوقول الطرمّاح :ولو أن بُرغوثاً على ظهر قملة ... يكرُّ على ضَبْعَيْ تميم لولَّتقلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام ، ومن جانب صور المعاني ، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب ، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولاً عند قوم غير مقبول عند آخرين ، ومقبولاً في عصر مرفوضاً في غيره ، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان ::فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي ... وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عنك واسعفإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعُدَّ من الجفاء أو العجرفة ، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع :عَذير الحي من عَدوَا ... نَ كانُوا حَيَّةَ الأرضوقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني :ماذا رُزِئْنا به من حيَّةٍ ذَكَرٍ ... نَضْنَاضَةٍ بالرزايا صِلّ أَصلاَلِوقد زعم بعض أهل الأدب أن عليًّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله :أنت كالكلب في وفائك بالعه ... د وكالتيْس في قراع الخطوبوأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله :عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أَدري ولا أدريوقد انتقد بشارٌ على كُثيِّر قوله :ألا إنما ليلى عصا خيزُرانة ... إذا لمسوها بالأكُف تلينُفقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا ، على أن بشاراً هو القائل :إذا قامت لجارتها تثنت ... كأن عظامها من خيزرانوشبَّه بشار عبدة بالحيَّة في قوله :وكأنها لما مشت ... أَيْمٌ تأود في كثيبْوالاستحياء والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب ، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله ، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل .والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم .والضرب في قوله : { أن يضرب مثلاً } مستعمل مجازاً في الوضع والجعل من قولهم ضربَ خيمة وضرب بيتاً قال عبدة بن الطبيب :إنَّ التي ضربتْ بيتاً مُهاجِرَةً ... بكوفةِ الجُندِ غالت ودَّها غُولُوقول الفرزدق :ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتابُ المُنْزَلُأي جعل شيئاً مثلاً أي شبهاً ، قال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] أي لا تجعلوا له مماثلاً من خلقه فانتصاب { مثلاً } على المفعول به . وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقاً من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب { مثلاً } على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلاً مرادف مصدر فعله على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبِّه بشيء ما .والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر وتنكير { مثلاً } للتنويع بقرينة بيانه بقوله { بعوضة فما فوقها } .وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو لأمر ما وأعطاه شيئاً ما . والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد . وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة .و { بعوضة } بدل أو بيان من قوله : { مثلاً } . والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلاً لشدة الضعف والحقارة .وقوله : { فما فوقها } عطف على { بعوضة } ، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازماً للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً ويستعمل مجازاً في المتجاوز غيره في صفة تجاوزاً ظاهراً تشبيهاً بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول : أعطى فلان فوق حقه أي زائداً على حقه . وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجماً . ونظيره قول النبيء صلى الله عليه وسلم « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » رواه مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نَخْبة النملة كما جاءَ في حديث آخر ، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلاً موقع من بليغ الإيجاز .والفاء عاطفة ( ما فوقها ) على ( بعوضة ) أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل { أن يضرب } ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائداً عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه : «رحم الله المحلقين فالمقصرين» .والمعنى أن يضرب البعوضة مثلاً فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار .{ فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله : { لا يستحي } لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم . وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال .و ( أما ) حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر . ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيث وكيت ، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاماً بعد كلامه الأول . وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيداً وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله : { فأما الذين آمنوا فيعلمون } الخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء .وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك .والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالباً ، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية .وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسداً وعناداً .وضمير ( أنه ) عائد إلى المثل .و ( الحق ) ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته . و ( من ربهم ) حال من ( الحق ) و ( من ) ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ .وأصل ( ماذا ) كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسممِ الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيراً إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا . غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركباً من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد ، نحو ماذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله } [ النساء : 39 ] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب . وقد يتوسعون فيها توسعاً أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسؤول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يُجرون عليه جملة أو نحوَها هي صلة ويجعلون ذا موصولاً نحو : { ماذا أنزل ربكم } [ النحل : 24 ] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولاً مقدماً إذا وقع بعده فِعل . والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ، ومثله لا يجاب بشيء غالباً لأنه غير مقصود به الاستعلام . وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى : { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] .والإشارة بقوله : { بهذا } مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله : { أَهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] .وانتصب قوله : { مثلاً } على التمييز من ( هذا ) لأنه مبهم فحقَّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم «رُبَّهُ رَجُلاً» .{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين * الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الارض أولاائك هُمُ الخاسرون } .بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأَما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالاً فإنَّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هُدى ، وقولَ الكافرين { ماذا أراد الله } الخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً للاستفهام في قول الذين كفروا { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأن ذلك ليس استفهاماً حقيقياً كما تقدم .ويجوز أن يجعل جواباً عن استفهامهم تخريجاً للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً لهم وردا عليهم وبياناً لحال المؤمنين ، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفاً من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي . وكونُ كلا الفريقين من المضلَّل والمهدى كثيراً في نفسه ، لا ينافي نحو قوله : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصُّ في الاهتداء .والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفِسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة :صِغار النوى مكنوزة ليس قِشْرُها ... إذا طار قِشْر التمر عنها بطائرقالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤبة يصف إبلاً :فواسَقاً عن قَصْدهَا جوائراً ... يَهوين في نجد وغورٍ غائراًوالفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر . وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غيرُ الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين .وإسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده . وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجِبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] . فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خَلق أسبابه القريبة والبعيدةِ وإلا فإنَّ الله أمَر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام .وقوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيراً في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب ، حتى يصير لها دربة .وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي ، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني ، وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل ، وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف .والقول في مذاهب علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود من الآية .فإن كان محمل الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله : { وما يضل به } الخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدى ، وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقياً ادعائياً أي يضل به كثيراً وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالاً هم الفاسقون ، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم ، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه .
Arabic Tanweer Tafseer
2:26
روى الواحدى في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - ( إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ) وقوله - تعالى - : ( مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً ) لما نزل قال المشركون : أرأيتم أي شيء يصنع بهذا؟! فأنزل الله ( إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا . . . ) .وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا : ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله! فأنزل الله هذه الآية ( إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى ) . إلخ .وقال السدى : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً . . . ) وقوله تعالى : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء ) قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال! فأنزل الله هذه الآية :ويبدوا أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات .والاستحياء والحياد واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو في أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمة ، وهو ترك ضرب الأمثال بها .والمعنى : إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً .ومذهب السلف : إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات .أي : ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة في نظركم؛ كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق .والمثل فى اللغة : الشبيه . وهو فى عرف القرآن : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله في حال المنافقين؛ أو وصف غريب نحو قوله تعالى : ( ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ) وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيرادة بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير في نفس السامع .و ( ما ) فى قوله ( مَثَلاً مَّا ) هي ما الإِبهامية ، تجيء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك : أعطني كتاباً ما ، أي كتاب كان .والبعوضة واحدة البعوض وهى حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهى بدل أو بيان من قوله ( مَثَلاً ) .وقوله : ( فَمَا فَوْقَهَا ) عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها فى الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها في المعنى الذي وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة .قال صاحب الكشاف : سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه ملا فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد . . وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شيء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذي لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده . . وقوله : ( فَمَا فَوْقَهَا ) فيه معنيان :أحدهما : فما تجاوزهما وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول : فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة .والثاني : فيما زاد عليها في الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة .ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال :( فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ ) .أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء في جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت : زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت : أما زيد فذاهب .والضمير فى قوله ( أَنَّهُ ) يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله : ( أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ) .والحق : خلاف الباطن ، وهو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره .ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها .ووجه تفصيل الناس في هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر .والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكلهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك .وعبر فى جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز .وقال : ( أَنَّهُ الحق ) معرفاً بأل ، ولم يقل : أنه حق للمبالغة في حقية المثل .ومن المعروف في علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ في الوصف الذي أخبر به عنه مرتبة الكمال .وقوله : ( مِن رَّبِّهِمْ ) حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أي : إنه هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذي لا يقع منه الخطأ .ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال :( وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ) .كلمة ( مَاذَآ ) مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو : ماذا التواني؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى : ( وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر ) وقد يتوسعون فيها توسعاً أٌوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو ( مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ) ونحو ( مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ) أي : ما الذي أراده الله بهذا المثل .والإِرادة فى أصل اللغة : نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهي المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع .وقوله : ( مَثَلاً ) واقع في موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً؟والاستفهام الذي حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس .والمعنى : فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر في الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار .ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) .فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً في ظلمات جهلهم .ووصف كلا من فريقي المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهتديين وصفوا بالقلة كثيرا كما في قوله : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور ) وذلك لأن أهل الهدى كثيرون في أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير في الحقيقة ، وإن قلوا في الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة .وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت في أعضادهم .ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين ) .الفاسقون : جمع فاسق ، من الفسق ، وهو في أصل اللغة : الخروج .يقال : فسقت الرطبة من قشرها . أي : خرجت منه ، وشرعاً ، الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص فى العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق فى كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية .وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذي أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا .
Arabic Waseet Tafseer
2:26
القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَاقال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنـزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.فقال بعضهم بما:554- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ، الآيات الثلاث - قال المنافقون: الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال، فأنـزل الله: " إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً" إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .وقال آخرون بما:555- حدثني به أحمد بن إبراهيم, قال: حدثنا قُرَاد، عن أبي جعفر الرازي, عن الرّبيع بن أنس, في قوله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها ". قال: هذا مثل ضربه الله للدنيا, إن البعوضة تحيا ما جاعتْ, فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن: إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال: ثم تلا فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44] (29) .556- حدثني المثنى بن إبراهيم, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال: فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (30) ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت، وتموت إذا رَويت، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام: 44].وقال آخرون بما:557- حدثنا به بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد عن سعيد, عن قتادة، قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر (31) . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة: ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ".558- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة, قال: لما ذكر الله العنكبوت والذباب, قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنـزل الله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " (32) .وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية، وفي المعنى الذي نـزلت فيه، مذهبًا؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة، ضربها للمنافقين، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.فإن قال قائل: إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه: أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة، فيجوزَ أنْ يقال: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا (33) .فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به, إضلالا منه به لقوم، وهدايةً منه به لآخرين.559- كما حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: " مثلا ما بعوضة "، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها, يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.560- حدثني المثنى, قال: حدثنا أبو حُذيفة, قال: حدثنا شِبْل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد بمثله.561- حدثني القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج عن مجاهد، مثله (34) .قال أبو جعفر:- لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها, ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -562- كما حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة, قال: البعوضة أضعفُ ما خلق الله.563- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج، بنحوه (35) .- (36) خصها الله بالذكر في القِلة, فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.فإن قال لنا قائل: وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ، الذي هذا الخبر جوابه, فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت؟قيل: الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره (37) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما (38) ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء (39) ، على ما وصف من ذلك قبل قوله: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك, وقبّح لهم ما نطقوا به، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه, وأنه ضلال وفسوق, وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.وأما تأويل قوله: " إن الله لا يستحيي"، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي": إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [سورة الأحزاب: 37]، ويزعم أن معنى ذلك: وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول: الاستحياء بمعنى الخشية, والخشية بمعنى الاستحياء (40) .وأما معنى قوله: " أن يضرب مثلا "، فهو أن يبيِّن ويصف, كما قال جل ثناؤه: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [سورة الروم: 28]، بمعنى وصف لكم, وكما قال الكُمَيْت:وَذَلِــكَ ضَــرْبُ أَخْمَـاسٍ أُرِيـدَتْلأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــا (41)بمعنى: وصف أخماس.والمثَل: الشبه, يقال: هذا مَثَل هذا ومِثْله, كما يقال: شبَهُه وشِبْهه, ومنه قول كعب بن زهير:كَـانَتْ مَوَاعِيـدُ عُرْقُـوبٍ لَهَـا مَثَلاوَمَـــا مَوَاعِيدُهَــا إِلا الأَبَــاطِيلُ (42)يعني شَبَهًا، فمعنى قوله إذًا: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " : إن الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به (43) .وأما " ما " التي مع " مثل "، فإنها بمعنى " الذي", لأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.فإن قال لنا قائل: فإن كان القول في ذلك ما قلت (44) ، فما وجه نصب البعوضة, وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت (45) : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع؟ فأنى أتاها النصب؟قيل: أتاها النصب من وجهين: أحدُهما، أن " ما " لما كانت في محل نصْب بقوله " يضرب "، وكانت البعوضة لها صلة، عُرِّبت بتعريبها (46) فألزمت إعرابها، كما قال حسان بن ثابت:وَكَـفَى بِنَـا فَضْـلا عَـلَى مَنْ غَيْرِنَاحُـــبُّ النَّبِــيِّ مُحَــمَّدٍ إِيَّانَــا (47)فعُرِّبت " غيرُ" بإعراب " من ". والعرب تفعل ذلك خاصة في" من " و " ما " (48) ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا، ونكرة أحيانًا.وأما الوجه الآخر, فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها, ثم حذف ذكر " بين " و " إلى ", إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في" ما " الثانية، دلالة عليهما, كما قالت العرب: " مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة " و " له عشرون ما ناقة فجملا "، و " هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا "، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها (49) . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول: " ما بين كذا إلى كذا ", ينصبون الأول والثاني، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (50) . فكذلك ذلك في قوله: " ما بعوضة فما فوقها " (51) .وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ " ما " التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (52) وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل، يجب أن تكون " بعوضةً" منصوبةً بـ " يضرب ", وأن تكون " ما " الثانية التي في" فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما ".وأما تأويل قوله " فما فوقها ": فما هو أعظم منها (53) -عندي- لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج: أن البعوضة أضعف خلق الله, فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى &; 1-406 &; -على ما قالاه- فما فوقها في العظم والكبر, إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.وقيل في تأويل قوله " فما فوقها "، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ, فيقول السامع: " نعم, وفوقَ ذاك ", يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (54) ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.فقد تبين إذًا، بما وصفنا، أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة، فغير جائز في" ما "، إلا ما قلنا من أن تكون اسما، لا صلة بمعنى التطول (55) .القول في تأويل قوله : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " فأما الذين آمنوا "، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله: " فيعلمون أنه الحق من ربهم ". يعني: فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله، لِما ضرَبه له، مثَل.564- كما حدثني به المثنى, قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم، وأنه كلامُ الله ومن عنده (56) .565- وكما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, عن قتادة, قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم "، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن، وأنه الحق من الله (57) ." وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا ".قال أبو جعفر: وقوله " وأما الذين كفرُوا "، يعني الذين جحدوا آيات الله، وأنكرُوا ما عرفوا، وستروا ما علموا أنه حق، وذلك صفةُ المنافقين, وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية, فيقولون: ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي:-566- حدثنا به محمد عن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: " فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم " الآية, قال: يؤمن بها المؤمنون, ويعلمون أنها الحق من ربهم, ويهديهم الله بها، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول: يعرفه المؤمنون فيؤمنون به, ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (58) .وتأويل قوله: " ماذا أراد الله بهذا مثلا "، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا." فذا "، الذي مع " ما "، في معنى " الذي"، وأراد صلته, وهذا إشارةٌ إلى المثل (59) .القول في تأويل قوله جل ثناؤه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًاقال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز: " يضلّ به كثيرًا "، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في" به " من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ, ومعنى الكلام: أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر:-567- كما حدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السدّي، في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " يضلّ به كثيرًا " يعني المنافقين," ويهدي به كثيرًا "، يعني المؤمنين (60) .- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و " يهدي به "، يعني بالمثل، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق, فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين, كأنهم قالوا: ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله، فقال الله: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ . وفيما في سورة المدثر - من قول الله: وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك، مبتدأٌ - أعني قوله: " يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا ".القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26)وتأويل ذلك ما:-568- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره, عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وما يُضلّ به إلا الفاسقين "، هم المنافقون (61) .569- وحدثنا بشر بن مُعاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " وما يُضِلّ به إلا الفاسقين "، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (62) .570- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " وما يضل به إلا الفاسقين "، هم أهل النفاق (63) .قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة, لخروجها عن جُحرها (64) ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس: إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف: 50]، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.571- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة, قال: حدثني ابن إسحاق، عن داود بن الحُصين, عن عكرمة مولى ابن عباس, عن ابن عباس في قوله: بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [سورة البقرة: 59]، أي بما بعُدوا عن أمري (65) . فمعنى قوله: " وما يُضلّ به إلا الفاسقين "، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق، إلا الخارجين عن طاعته، والتاركين اتباعَ أمره، من أهل الكفر به من أهل الكتاب، وأهل الضّلال من أهل النفاق.--------------------الهوامش :(29) الأثر 555-"قراد" بضم القاف وفتح الراء مخففة : لقب له ، واسمه"عبد الرحمن بن غزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ، الخزاعي" ، وهو ثقة ، وقال أحمد : "كان عاقلا من الرجال" . وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2/274 .(30) في المطبوعة : "خلى آجالهم" ، وفي المخطوطة"خلا" ، والصواب ما أثبته . وخلا العمر يخلو خلوا : مضى وانقضى .(31) في المخطوطة : "شيئًا قل منه أو كثر" بحذف"ما" ، وفي ابن كثير"مما قل أو كثر" وكلها متقاربة .(32) الآثار : 554 - 558 أكثرها في ابن كثير 1 : 117 ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 45 .(33) في المطبوعة : "أن يضرب مثلا ما" ، وليست بشيء .(34) الآثار : 559 - 561 ، وهي واحد كلها ، في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وسيأتي برقم : 566 .(35) الأثر : 562 في الدر المنثور 1 : 41 .(36) قوله : "خصها . . " جواب قوله آنفًا : " . . لما كانت أضعف الخلق" .(37) في المطبوعة : "الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله" .(38) قوله : "فيهما" متعلق بقوله"مثل" ، أي : اللتين مثل فيهما -ما عليه المنافقون مقيمون- بموقد النار . .(39) في المطبوعة : "وبالصيب من السماء" .(40) لم أعرف قائل هذا القول من المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب ، ولكني رأيت أبا حيان يقول في تفسيره 1 : 121 ، يزعم أن هذا المعنى هو الذي رجحه الطبري ، ومن البين أنه أخطأ فيما توهمه ، فإن لفظ الطبري دال على أنه لم يحقق معناه ، ولم يرضه ، ولم ينصره . هذا على أني أظن أن مجاز اللفظ يجيز مثل هذا الذي قاله المنسوب إلى المعرفة بلغة العرب ، وإن كنت أكره أن أحمل هذه الآية على هذا المعنى .(41) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا ، على أنه مثل اجتلبه . وأصله : أن شيخًا كان في إبله ، ومعه أولاده رحالا يرعونها ، قد طالت غربتهم عن أهلهم . فقال لهم ذات يوم : "ارعوا إبلكم ربعا" (بكسر فسكون : وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا ، وترد في اليوم الرابع) ، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم . فقالوا : لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون : أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم . فقالوا : لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس) . ففطن الشيخ لما يريدون ، فقال : ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس ، ما همتكم رعيها ، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول :وَذَلِـــكَ ضَــرْبُ أَخْمَــاسٍ أُرَاهُ,لأَسْــدَاسٍ, عَسَــى أَنْ لا تَكُونَــافصار قولهم : "ضرب أخماس لأسداس" مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره .وحقيقة قوله"ضرب : بمعنى وصف" ، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد ، يسوقها إليه لتسلكه . فقولهم : ضرب له مثلا ، أي ساقه إليه ، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق . وهذا بين .(42) ديوانه : 8 ، وفي المخطوطة : "وما مواعيده" ، وعرقوب -فيما يزعمون- : هو عرقوب ابن نصر ، رجل من العمالقة ، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام . وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة ، كما هو معروف في قصته .(43) هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال إن الاستحياء بمعنى الخشية ، لا ما أخذ به الطبري ، وتفسير الطبري صريح بين في آخر تفسير الآية .(44) في المطبوعة : "كما قلت" .(45) في المطبوعة : "على ما تأولت" ، وليست بجيدة .(46) في المطبوعة"أعربت بتعريبها" . وقوله"عربت" : أي أجريت مجراها في الإعراب ، وهذا هو معنى"التعريب" في اصطلاح قدماء النحاة ، وستمر بك كثيرًا فاحفظها ، وهي أوجز مما اصطلح عليه المحدثون منهم .(47) ليس في ديوانه ، ويأتي في الطبري 4 : 99 غير منسوب ، وفي الخزانة : 2 : 545 - 546 أنه لكعب بن مالك ، ونسب إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في شعره . ونسب لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، ونسب أيضًا لعبد الله بن رواحة . وذكره السيوطي في شرح شواهد المغني : 116 ، 252 ، وأثبت بيتا قبله :نَصَــرُوا نَبِيَّهُــمُ بِنَصْــرِ وَلِيِّـهِفاللــه, عَــزَّ, بِنَصْــرِهِ سَــمَّانَاقال : يعني أن الله عز وجل سماهم"الأنصار" ، لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه . والباء في"بنصر وليه" ، بمعنى"مع" .(48) في المطبوعة : "فالعرب تفعل . . . " .(49) في المخطوطة : "يعنون بذلك من قرنها . . " .(50) في المخطوطة : "ليدل النصب في الأسماء على المحذوف . . . " ، وهما سواء(51) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 21 - 22 ، وذكر الوجهين السالفين جميعًا ، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين .(52) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر : 18 ، 224 وما يأتي ص : 406 ، 154 من بولاق) ، وهو الزيادة في الكلام . وهذا الذي قال عنه : "زعم بعض أهل العربية" ، هو الفراء نفسه ، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن 1 : 21 ، وقال : "أولها : أن توقع الضرب على البعوضة ، وتجعل ما صلة ، كقوله : "عما قليل ليصبحن نادمين" ، يريد : عن قليل . المعنى -والله أعلم- : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا" .والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو"تطولا" ، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو"صلة" ، وهي الزيادة في الكلام .(53) في المخطوطة : "فهو ما قد عظم منها" ، وهو خطأ بلا معنى .(54) في المطبوعة : "فوق الذي وصف" . وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن 1 : 20 - 21 وأبان عنه ، وقال : "ولو جعلت في مثله من الكلام"فما فوقها" ، تريد أصغر منها ، لجاز ذلك . ولست أستحبه" ، يعني : أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله .(55) قد شرحنا معنى"صلة" و"تطول" فيما مضى ص : 405 .(56) الأثر : 564- هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، كما مر كثيرًا ، وكذلك جاء في الدر المنثور 1 : 43 .(57) الأثر 565- في ابن كثير 1 : 118 .(58) الأثر 566- قد مضى برقم : 559 .(59) في المطبوعة : "فذا مع ما في معنى . . "(60) الخبر : 567- في ابن كثير 1 : 119 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وهو فيها تام متصل ، وتمامه الأثر الذي يليه : 568 . ولكن ابن كثير أخطأ ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه ، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود ، وهو خطأ محض . فقول الطبري بعد"فيزيد هؤلاء ضلالا . . " هو من تمام قوله قبل هذا"أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر" .(61) الخبر 568- تمام الأثر السالف ، وقد ذكرنا موضعه .(62) الأثر : 569- في ابن كثير 1 : 119 ، وفي الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وفيهما مكان"على فسقهم" ، "بفسقهم" .(63) الأثر : 570- في ابن كثير 1 : 119 .(64) انظر الطبري 15 : 170 (بولاق) . وقوله : "يحكى عن العرب سماعًا : فسقت الرطبة من قشرها ، إذا خرجت . وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها" ، وسائر ما قال هناك .(65) الخبر : 571- لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة ، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف . ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره . وفي المخطوطة : "من أمري" .
الطبري
2:26
قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا قال ابن عباس في رواية أبي صالح : لما ضرب الله سبحانه هذين المثلين للمنافقين : يعني مثلهم كمثل الذي استوقد نارا وقوله : أو كصيب من السماء قالوا : الله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال ، فأنزل الله هذه الآية . وفي رواية عطاء عن ابن عباس قال : لما ذكر الله آلهة المشركين فقال : وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت ، قالوا : أرأيت حيث [ ص: 231 ] ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد ، أي شيء يصنع ؟ فأنزل الله الآية . وقال الحسن وقتادة : لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل ، ضحكت اليهود وقالوا : ما يشبه هذا كلام الله ، فأنزل الله الآية .و " يستحيي " أصله يستحيي ، عينه ولامه حرفا علة ، أعلت اللام منه بأن استثقلت الضمة على الياء فسكنت . واسم الفاعل على هذا : مستحي ، والجمع مستحيون ومستحيين . وقرأ ابن محيصن " يستحي " بكسر الحاء وياء واحدة ساكنة ، وروي عن ابن كثير ، وهي لغة تميم وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما للالتقاء ، واسم الفاعل مستح ، والجمع مستحون ومستحين . قاله الجوهري . واختلف المتأولون في معنى يستحيي في هذه الآية فقيل : لا يخشى ، ورجحه الطبري ، وفي التنزيل : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه بمعنى تستحي . وقال غيره : لا يترك . وقيل : لا يمتنع . وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله تعالى . وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق . المعنى لا يأمر بالحياء فيه ، ولا يمتنع من ذكره .قوله تعالى : أن يضرب مثلا ما يضرب معناه يبين ، وأن مع الفعل في موضع نصب بتقدير حذف من . ( مثلا ) منصوب ب " يضرب " . ( بعوضة ) في نصبها أربعة أوجه : الأول : تكون ( ما ) زائدة ، و ( بعوضة ) بدلا من مثلا . الثاني : تكون ( ما ) نكرة في موضع نصب على البدل من قوله : ( مثلا ) و ( بعوضة ) نعت لما ، فوصفت ما بالجنس المنكر لإبهامها لأنها بمعنى قليل ، قاله الفراء والزجاج وثعلب . الثالث : نصبت على تقدير إسقاط الجار ، المعنى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة ، [ ص: 232 ] فحذفت " بين " وأعربت بعوضة بإعرابها ، والفاء بمعنى إلى ، أي إلى ما فوقها . وهذا قول الكسائي والفراء أيضا ، وأنشد أبو العباس :يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصلأراد ما بين قرن ، فلما أسقط " بين " نصب .الرابع : أن يكون يضرب بمعنى يجعل ، فتكون بعوضة المفعول الثاني . وقرأ الضحاك وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤبة بن العجاج " بعوضة " بالرفع ، وهي لغة تميم . قال أبو الفتح : ووجه ذلك أن ما اسم بمنزلة الذي ، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ ، التقدير : لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلا ، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ . ومثله قراءة بعضهم : تماما على الذي أحسن ، أي على الذي هو أحسن . وحكى سيبويه : ما أنا بالذي قائل لك شيئا ، أي هو قائل . قال النحاس : والحذف في " ما " أقبح منه في الذي ; لأن الذي إنما له وجه واحد والاسم معه أطول . ويقال : إن معنى ضربت له مثلا ، مثلت له مثلا . وهذه الأبنية على ضرب واحد ، وعلى مثال واحد ونوع واحد والضرب النوع . والبعوضة : فعولة من بعض إذا قطع اللحم ، يقال : بضع وبعض بمعنى ، وقد بعضته تبعيضا ، أي جزأته فتبعض . والبعوض : البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها . قاله الجوهري وغيره .قوله تعالى : فما فوقها قد تقدم أن الفاء بمعنى إلى ، ومن جعل ما الأولى صلة زائدة ف ( ما ) الثانية عطف عليها . وقال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما : معنى فما فوقها - والله أعلم - ما دونها ، أي إنها فوقها في الصغر . قال الكسائي : وهذا كقولك في الكلام : أتراه قصيرا ؟ فيقول القائل : أو فوق ذلك ، أي هو أقصر مما ترى . وقال قتادة وابن جريج : المعنى في الكبر .والضمير في " أنه " عائد على المثل أي إن المثل حق . والحق خلاف الباطل . والحق : واحد الحقوق . والحقة ( بفتح الحاء ) أخص منه ، يقال : هذه حقتي ، أي حقي .قوله تعالى : وأما الذين كفروا لغة بني تميم وبني عامر في : ( أما ) أيما ، يبدلون من إحدى الميمين ياء كراهية التضعيف ، وعلى هذا ينشد بيت عمر بن أبي ربيعة :رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأيما بالعشي فيخصرقوله تعالى : فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا اختلف النحويون في ماذا ، فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله ، فيكون في موضع نصب ب " أراد " . قال ابن كيسان : وهو الجيد . وقيل : " ما " اسم تام في موضع رفع بالابتداء ، و " ذا " بمعنى الذي وهو خبر الابتداء ، ويكون التقدير : ما الذي أراده الله بهذا مثلا ، ومعنى كلامهم هذا : الإنكار بلفظ الاستفهام . و " مثلا " منصوب على القطع ، التقدير : أراد مثلا ، قاله ثعلب . وقال ابن كيسان : هو منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال .قوله تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا قيل : هو من قول الكافرين ، أي ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرق به الناس إلى ضلالة وإلى هدى . وقيل : بل هو خبر من الله عز وجل ، وهو أشبه ; لأنهم يقرون بالهدى أنه من عنده ، فالمعنى : قل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا ، أي يوفق ويخذل ، وعليه فيكون فيه رد على من تقدم ذكرهم من المعتزلة وغيرهم في قولهم : إن الله لا يخلق الضلال ولا الهدى . قالوا : ومعنى يضل به كثيرا - التسمية هنا ، أي يسميه ضالا ، كما يقال : فسقت فلانا ، يعني سميته فاسقا ، لأن الله تعالى لا يضل أحدا . هذا طريقهم في الإضلال ، وهو خلاف أقاويل المفسرين ، وهو غير محتمل في اللغة ; لأنه يقال : ضلله إذا سماه ضالا ، ولا يقال : أضله إذا سماه ضالا ، ولكن معناه ما ذكره المفسرون أهل التأويل من الحق أنه يخذل به كثيرا من الناس مجازاة لكفرهم .ولا خلاف أن قوله : وما يضل به إلا الفاسقين أنه من قول الله تعالى . والفاسقين نصب بوقوع الفعل عليهم ، والتقدير : وما يضل به أحدا إلا الفاسقين الذين سبق في علمه أنه لا يهديهم . ولا يجوز أن تنصبهم على الاستثناء ; لأن الاستثناء لا يكون إلا بعد تمام الكلام . وقال نوف البكالي : قال عزير فيما يناجي ربه عز وجل : إلهي تخلق خلقا فتضل من تشاء وتهدي من تشاء . قال فقيل : يا عزير أعرض عن هذا لتعرضن عن هذا أو لأمحونك من النبوة ، إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون . والضلال أصله الهلاك ، يقال منه : ضل الماء في اللبن إذا استهلك ، ومنه قوله تعالى : أئذا ضللنا في الأرض وقد تقدم في الفاتحة . والفسق أصله في كلام العرب الخروج عن الشيء ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ، والفأرة من جحرها . والفويسقة : الفأرة ، وفي الحديث : خمس فواسق يقتلن في الحل [ ص: 234 ] والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا . روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخرجه مسلم . وفي رواية ( العقرب ) مكان ( الحية ) . فأطلق صلى الله عليه وسلم عليها اسم الفسق لأذيتها ، على ما يأتي بيانه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى . وفسق الرجل يفسق ويفسق أيضا - فسقا وفسوقا ، أي فجر . فأما قوله تعالى : ففسق عن أمر ربه فمعناه خرج . وزعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ، ولا في شعرهم فاسق . قال : وهذا عجب ، وهو كلام عربي حكاه عنه ابن فارس والجوهري .قلت : قد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب " الزاهر " له لما تكلم على معنى الفسق قول الشاعر :يذهبن في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائراوالفسيق : الدائم الفسق ويقال في النداء : يا فسق ويا خبث ، يريد : يا أيها الفاسق ، ويا أيها الخبيث . والفسق في عرف الاستعمال الشرعي : الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر وعلى من خرج بعصيان .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:26
يقول تعالى { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا } أي: أيَّ مثل كان { بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } لاشتمال الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك. فليس في ذلك محل اعتراض. بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم. فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر. ولهذا قال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } فيتفهمونها، ويتفكرون فيها. فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة. { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال: { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية. قال تعالى: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة [وضلالة] وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة [ورحمة] وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال. ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال: { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة. والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الآية].
Arabic Saddi Tafseer
2:26
قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} سبب نزول هذه الآية أن الله تعالى لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت فقال: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} [73-الحج]، وقال: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} [41-العنكبوت]، قالت اليهود: "ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟" وقيل: قال المشركون: "إنا لا نعبد إلهاً يذكر مثل هذه الأشياء"، فأنزل الله تعالى: {إن الله لا يستحيي} أي لا يترك ولا يمنعه الحياء {أن يضرب مثلاً} يذكر شبهاً، {ما بعوضة} ما: صلة، أي مثلاً بالبعوضة، وبعوضة نصب بدل عن المثل.والبعوض صغار البق سميت بعوضة كأنها بعض البق.{فما فوقها} يعنى الذباب والعنكبوت، وقال أبو عبيدة: "أي فما دونها كما يقال وفوق ذلك أي وأجهل".{فأما الذين آمنوا} بمحمد والقرآن.{فيعلمون أنه} يعني: المثل هو{الحق} الصدق.{من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} أي بهذا المثل فلما حذف الألف واللام نصبه على الحال والقطع.ثم أجابهم فقال: {يضل به} أي بهذا المثل.{كثيراً} من الكفار وذلك أنهم يكذبونه فيزدادون ضلالاً.والإضلال: هو الصرف عن الحق إلى الباطل.وقيل: هو الهلاك يقال ضل الماء في اللبن إذا هلك.{ويهدي به} أي بهذا المثل>{كثيراً} من المؤمنين فيصدقونه.{وما يضل به إلا الفاسقين} الكافرين، وأصل الفسق الخروج؛ يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها.قال الله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} [50-الكهف] أي خرج.ثم وصفهم فقال:
Arabic Baghawy Tafseer
2:26
وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي فقلت قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" إلى آخر الآية فقال: هم الحرورية وهذا الإسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الإمام والقيام بشرائع الإسلام والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضا. وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها ولهذا يقال للفأرة فويسقة لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ولكن فسق الكافر أشد وأفحش والمراد من الآية الفاسق الكافر والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون" وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب" الآيات إلى أن قال "والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان. وقال آخرون بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم قالوا ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. ورُوي عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري فإنه قال فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله تعالى "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" إذا أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله "وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم" وقال آخرون العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله "وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" الآيتين. ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا ُروي عن مقاتل بن حيان أيضا حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه - إلى قوله - أولئك هم الخاسرون" قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضا وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى "الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" قال هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه. وقوله "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم" ورجحه ابن جرير وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى "أولئك هم الخاسرون" قال في الآخرة وهذا كما قال تعالى "أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار" وقال الضحاك عن ابن عباس كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في قوله تعالى "أولئك هم الخاسرون" الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته يقال منه خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا كما قال جرير بن عطية: إن سليطا في الخسار أنه أولاد قوم خلقوا أقنه
ابن كثير
2:27
الذين ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم بالتوحيد والطاعة، وقد أكَّده بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ويخالفون دين الله كقطع الأرحام ونشر الفساد في الأرض، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
المیسر
2:27
وجملة { الذين ينقضون } إلى آخره صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى . وجوز أن تكون مقطوعة مستأنفة على أن ( الذين ) مبتدأ وقوله : { أولئك هم الخاسرون } خبر وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى توصيف الفاسقين بتلك الخلال إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعاً منتوفاً فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعيناً إذ لا داعي إلى اعتبار القطع .ومجيء الموصول هنا للتعريف بالمراد من الفاسقين أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن وهم قد عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك فناسب أن يجعل النقض صلة لاشتهارهم بها ، ووجه تخصيصهم بذلك أن الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة الطعن في الإسلام فازدادوا بذلك ضلالاً على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم بعيسى ، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة ، على أن سورة البقرة نزلت بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب .والنقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب ، وإنما زدت قولي بفعل الخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه ، ونقض الغزل ونقض البناء . وقد استعمل النقض هنا مجازاً في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى ( عهد الله ) وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم ، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبيء صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة : «يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك» ( يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج ) . وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضاً في كلامهم . قال امرؤ القيس :وإن كنتتِ قد أزمعتتِ صرمي فأجملي ... وقال لبيد :أوَ لم تكن تدري نوارِ بأنَّني ... وَصَّالُ عَقد حبائل جَذّامهاوقال :بل ما تَذكّر من نَوار وقد نَأَتْ ... وتقطَّعَتْ أَسبابُها ورِمَامُهاوقال :فاقْطع لُبانة من تعرَّض وصلُه ... فلَشَرُّ واصِل خُلَّةٍ صَرَّامُهاووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طَيَّات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويداً رويداً وفي أزمنة متكررة ومعالجة . والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفساداً لهيأة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة .وفي النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه الأخيرة تمثيلية وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملاً في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح مثل إثباتتِ الأظفار للمنية في قولهم أظفارُ المنية وإثباتتِ المخالببِ والناب للكُماة في قول أبي فِراس الحمداني :فلما اشتدت الهيجاءُ كنَّا ... أَشَدَّ مخالِباً وأَحَدَّ ناباوإثباتتِ اليد للشمال في قول لَبيد :وغداة ريححٍ قد كشفتُ وقِرَّةٍ ... إذْ أصبحت بِيَد الشَّمال زِمامُهاوقد يكون مستعملاً في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو { ينقضون عهد الله } ، وقد زدنا أنها تمثيلية أيضاً والبليغ لا يفلت هاته الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة المكنية إلا جوازاً في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال .وهذا الذي هو من روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها قد يقطع عن الربط بالمكنية فيكون استعارة مستقلة ( وذلك حيث لا تذكر معه لفظاً يراد تشبيهه بمشبه به مضمر ) نحو أن تقول فلان ينقض ما أبرم .وقد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد . وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله : «إن بيننا وبين القوم حبالاً نحن قاطعوها» وحينئذٍ يكون ترشيحاً للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لامتضادة إذ قد يصح في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ أول النظر .واعلم أن رديف المشبه به في المكنية إذا اعتبر استعارة في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي كونه رمزاً للمشبه به المضمر كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف الحبل ، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقاً عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلاً ورمزاً على المشبه به المضمر فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهمَ الاستعارة في ذلك اللفظ ، وأجاب عبد الحكيم بأن كونه رادفاً بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفاً ادعائياً وفيه تكلف .و ( عهد الله ) هو ما عهد به أي ما أوصى برعيه وحفاظه ، ومعاني العهد في كلام العرب كثيرة وتصريفه عرفي . قال الزجاج : «قال بعضهم ما أدري ما العهد» ومرجع معانيه إلى المعاودة والمحافظة والمراجعة والافتقاد ولا أدري أي معانيه أصل لبقيتها وغالب ظني أنها متفرع بعضها عن بعض والأقرب أن أصلها هو العهد مصدر عهده عهداً إذا تذكره وراجع إليه نفسه يقولون عهدتك كذا أي أتذكر فيك كذا وعهدي بك كذا ، وفي حديث أم زرع «ولا يسأل عما عهد أي عما عهد وترك في البيت ومنه قولهم في عهد فلان أي زمانه لأنه يقال للزمان الذي فيه خير وشر لا ينساه الناس ، وتعهد المكان أو فلاناً وتعاهده إذا افتقده وأحدث الرجوع إليه بعد ترك العهد والوصية ومنه ولي العهد . والعهد اليمين والعهد الالتزام بشيء ، يقال عهد إليه وتعهد إليه لأنها أمور لا يزال صاحبها يتذكرها ويراعيها في مواقع الاحتراز عن خفرها . وسمي الموضع الذي يتراجعه الناس بعد البعد عنه معهداً .والعهد في الآية الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ] الآية ، فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } الآية في سورة الرعد . ( 25 ) وفسر بالعهد الذي أخذه الله على الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه }[ آل عمران : 81 ] الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم . وفسر بالعهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب ليبننه للناس : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس } [ آل عمران : 187 ] الآية في تفاسير أخرى بعيدة .والصحيح عندي أن المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله ، وقد ذكرهم القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] . { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً إلى قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم } [ المائدة : 12 13 ] الخ وقوله : { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً } [ المائدة : 70 ] إلى قوله : { فعموا وصموا } [ المائدة : 70 ، 71 ] . { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 80 84 ] إلى قوله : { وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] بل إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذاراً بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك ، بل قد صار لفظ العهد عندهم لقباً للشريعة التي جاء بها موسى . ولما كان قوله : { الذين ينقضون عهد الله } الآية وصفاً للفاسقين وكان المراد من الفاسقين اليهود كما علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم ، وتسجيلاً على اليهود بأنهم قد حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي } [ البقرة : 40 ] .والميثاق مفعال وهو يكون للآلة كثيراً كمرقاة ومرآة ومحراث ، قال الخفاجي كأنه إشباع للمِفْعَل ، وللمصدر أيضاً نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا . والضمير للعهد أي من بعد توكيد العهد وتوثيقه . ولما كان المراد بالعهد عهداً غير معيّننٍ ، بل كل ما عاهدوا عليه كان توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده } [ النحل : 91 ] فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكداً لعهد سبقه أو لحقه .وقوله : { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } قيل ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام يعني وحيث ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيراً منهم من ديارهم ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض . وقيل الإعراض عن قطع ما أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين . وقيل اقتران القول بالعمل . وقيل التفرقة بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض .وقال البغوي يعني بما أمر الله به أن يوصل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل .وأقول تكميلاً لهذا إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها وحفظ نظام عالمهم وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل ، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهييء البشر لتلقي مراد الله تعالى ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين } [ الشورى : 13 ] الآية . وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافاً مراعى فيه مبلغ طاقة البشر لطفاً من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهلَ ، وعملُهم به أدوم ، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهَقَ فيه البشرُ مَبلغَ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان ديناً عاماً لجميع البشر ، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيداً له لتهييء البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس ولذا قال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] . فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وِصلة للعُروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي عروة الإسلام فمتى بلغها الناس فقد فَصوا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد ، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله ، فاليهود لما زعموا أنهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوارة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ففرقوا مجتمعه .والفساد في الأرض تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] ومن الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه ، وما نسخ ديناً إلا لتمام وقت صلوحيته للعمل به فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر فيصير ذلك فساداً في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاماً دائماً لأنه صالح للكل .وقوله : { أولئك هم الخاسرون } قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية تمثيلية تقدمت في قوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] . وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في { ينقضون عهد الله } فهذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند قوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود ، وإن كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين : المشركين واليهود ، كما تقدم ، وكان القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد ( 25 ) وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله :{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } فالمراد بهم المشركون لا محالة فذلك كله لا يُناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس يلزم المفسر حمله آي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة .واعلم أن الله قد وصف المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى : { إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } الآية في سورة الرعد ( 25 ) .واعلم أن نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب وهو أيضاً موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب .
Arabic Tanweer Tafseer
2:27
ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء الفاسقين بثلاث خصال ذميمة فقال : في بيان الخصلة الأولى : ( الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) .والنقض : فى اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب مثل نقض الحبل المفتول وقد استعمل هنا مجازاً في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله .وعبر عن إبطال العهد بالنقض ، لأنه أبلغ في الدلالة على الإِبطال من القطع والصرم ونحوهما ، لأن فى النقض إفساداً لهيئة الحبل .والعهد : اسم للموثق الذي يلزم مراعاته وحفظه ، يقال : عهد إليه في كذا ، إذا أوصاه به ووثقه عليه .وعهد الله : تارة يكون بما ركز في العقول من الحجة على التوحيد ، وتارة يكون بما أوجبه الله على الناس على لسان رسله - صلوات الله عليهم - وتارة بما يلتزمه المؤمن . وليس بلازم له في أصل الشرع مما ليس بمعصية كالنذور وما يجري مجراها .والميثاق : التوثقة ، وهي التقوية والتثبيت ، والمراد به : ما قوى الله به عهده .وقوله : ( مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) متعلق بينقضون ، ومن لابتداء الغاية ، وميثاقه الضمير فيه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله - فهو على الأولى مصدر مضاف إلى المفعول ، وعلى الثاني مضاف للفاعل .أما الصفة الثانية التي وصفهم الله بها فهى قوله : ( وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ) وهو عام في كل قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الرحم ، والإِعراض عن موالاة المؤمنين ، وترك الجماعات المفروضة ، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر .وأما الصفة الثانية التي وصفهم بها فهي قوله - تعالى - :( وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ) .والفساد في الأرض يقع بعبادة غير الله ، وبالدعاية إلى الكفر به ، وبالاستهزاء بالحق ، وبالاعتداء على حقوق الغير ، وبغير ذلك من الأمور التي حرمها الله - تعالى - .وعبر بقوله ( فِي الأرض ) للإِشعار بأن فسادهم لا يقتصر عليهم ، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم .ثم بين - سبحانه - بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة - عاقبة أمرهم فقال : ( أولئك هُمُ الخاسرون ) .الخاسرون : جمع خاسر مأخوذ من الخسر والخسران وهو النقص ، ومن نقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله بوصله ، وأفسد في الأرض ، لا شك أنه قد نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، وكانت عاقبته الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة .قال ابن جرير : " والخاسرون جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم من رحمة الله بسسبب معصيتهم له ، كما يخسر الرجل فى تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك المنافق والكافر قد خسرا بحرمان الله لهما من رحمته التي خلقها لعباده . . . "وبعد أن عدد القرآن مساوئ أولئك الضالين ، وبين سوء مصيرهم ، ومآلهم ، وجه إليهم الإِنكار والتوبيخ فخاطبهم بقوله :( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:27
القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِقال أبو جعفر: وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم, فقال: وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه:-فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه, وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته, ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك، تركُهم العمل به.وقال آخرون: إنما نـزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم, وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله: إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم ، وبقوله: ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر . فكل ما في هذه الآيات، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا: فعهدُ الله الذي &; 1-411 &; نقضوه بعدَ ميثاقه، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها, واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث, والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته, وإنكارهم ذلك, وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ (66) ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.وقال بعضهم: إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده: ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه: ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا: ونقضهم ذلك، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة, وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب, مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.وقال آخرون: العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره, هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم, الذي وصفه في قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [سورة الأعراف: 172-173]. ونقضُهم ذلك, تركهم الوفاء به.وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال: إن هذه الآيات نـزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم, &; 1-412 &; وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل, ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه: إنّ الذين كفروا سواء عليهم ، وقوله: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، فيهم أنـزِلت, وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي، وإن كانت فيهم نـزلتْ, فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً، جميعُ المنافقين (67) ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم, ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم, أعني: فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله, وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتبيين نبوته للناس، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك, كما قال الله جل ذكره: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [سورة آل عمران: 187]، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه, وتركُهم العمل به.وإنما قلت: إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها, لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة (68) - فيهم نـزلتْ، إلى تمام قصصهم. وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله (69) . يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة: 40]. وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر (70) - ما يدل على أن قوله: " الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه " مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم, ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.فمعنى الآية إذًا: وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله, الخارجين عن اتباع أمره ونهيه، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم، في الكتب التي أنـزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس, وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه، وترك كتمان ذلك لهم (71) . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه, هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ . [سورة الأعراف: 169] .وأما قوله: " من بعد ميثاقه "، فإنه يعني: من بعد توَثُّق الله فيه (72) ، بأخذ عهوده بالوفاء له، بما عهد إليهم في ذلك (73) . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك: توثقت من فلان تَوَثُّقًا, والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.572- كما حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: " الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه "، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق, فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة, وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله (74) .573- حدثني المثنى, قال: حدثنا إسحاق, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه، عن الربيع، في قوله: " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون "، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق، إذا كانت لهم الظَّهَرَة، (75) أظهرُوا هذه الخلال الست &; 1-415 &; جميعًا: إذا حدّثوا كذبوا, وإذا وَعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا, ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه, وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل, وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا, وإذا وعدوا أخلفوا, وإذا اؤتمنوا خانوا (76) .القول في تأويل قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَقال أبو جعفر: والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية: الرحم. وقد بين ذلك في كتابه، فقال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد: 22]. وإنما عَنى بالرّحم، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك: ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها: أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها, والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها." وأن " التي مع " يوصل " في محل خفض، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في" به ": فكان معنى الكلام (77) : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في" به "، هي كناية عن ذكر " أن يوصل ". وبما قلنا في تأويل قوله: " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل "، وأنه الرّحم، كان قتادة يقول:574- حدثنا بشر بن معاذ, قال حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة: " ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل "، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة (78) .وقد تأول بعضهم ذلك: أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية, وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض (79) .قال أبو جعفر: وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب, ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه, فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك, غير أنها -وإن كانت كذلك- فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.القول في تأويل قوله جل ثناؤه: وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِقال أبو جعفر: وفسادُهم في الأرض: هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم، وكفرهم به, وتكذيبهم رسوله, وجحدهم نبوته, وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.القول في تأويل قوله جل ثناؤه: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)قال أبو جعفر: والخاسرون جمع خاسر (80) ، والخاسرون: الناقصُون أنفسَهم حظوظَها -بمعصيتهم الله- من رحمته, كما يخسرُ الرجل في تجارته، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه (81) . فكذلك الكافر والمنافق، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه: خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا, كما قال جرير بن عطية:إِنَّ سَــلِيطًا فِــي الْخَسَــارِ إِنَّـهُأَوْلادُ قَــــوْمٍ خُـــلِقُوا أَقِنَّـــهْ (82)يعني بقوله: " في الخسار "، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل: إن معنى " أولئك هم الخاسرون ": أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها, فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.وقال بعضهم في ذلك بما:575- حُدِّثت به عن المنجاب, قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس, قال: كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل " خاسر ", فإنما يعني به الكفر, وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب.--------------الهوامش :(66) في المطبوعة : "عن الناس" ، و"الناس" منصوب ، مفعول ثان ، للمصدر"كتمانهم" . والفعل"كتم" يتعدى إلى مفعول ومفعولين ، تقول : كتمت فلانًا سرى ، وكتمت عن فلان سرى ، وهما سواء .(67) سياق العبارة : "ومعنى جميع المنافقين ، بما وافق منها صفة المنافقين" وعبارة الطبري أعرب .(68) في المطبوعة : "من ابتداء الآيات" ، وكأنه تغيير من المصححين .(69) في المطبوعة"عن خلق آدم وأبنائه في قوله" ، وهو خطأ محض . وقوله"وبيانه" ، مجرور معطوف على قوله : "وفي الآية التي بعد الخبر . . " أي ، "وفي بيانه في قوله : . . " .(70) قوله : "وخطابه" مجرور معطوف على قوله : "وفي الآية . . " و"وبيانه . . " كما أسلفنا في التعليق قبله . وفي المطبوعة : "في ذلك خاصة" . ولست بشيء .(71) هكذا في الأصول ، ولعل الأجود أن يقول : وترك كتمان ذلك عنهم .(72) في المطبوعة : "منه" مكان"فيه" .(73) في المطبوعة والمخطوطة"بما عهد إليه" ، وهو خطأ بين .(74) الأثر : 572- في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . وقوله"من ثمرة قلبه" ، أي خالص قلبه ، مأخوذ من ثمرة الشجرة ، لأنها خلاصتها وأطيب ما فيها . وفي حديث المبايعة : "فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه" ، أي خالص عهده وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، في المسند : 6501 ، 6503 ، 6793 . ويقال : خصني فلان بثمرة قلبه : أي خالص مودته .(75) الظهرة (بثلاث فتحات) : الكثرة ، وأراد بها ظهور الأمر والغلبة . ولو أسكنت الهاء ، كان صوابًا ، من قولهم : ظهرت على فلان : إذا علوته وغلبته .(76) الأثر : 573- في ابن كثير 1 : 120 - 121 عن أبي العالية ، ثم قال : "وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا" . هذا ، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ، والشوكاني خبرًا خرجوه عن ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال : "الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، قال : إياكم ونقض هذا الميثاق . وكان يسميهم : الفاسقين" الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . أما ابن كثير فقد رواه في تفسيره 1 : 119 نقلا عن ابن أبي حاتم؛ بإسناده ، ولم ينسبه إلى الطبري . وأخشى أن يكون وهمًا من السيوطي والشوكاني .(77) في المطبوعة : "وكان معنى الكلام" بالواو .(78) الأثر : 574- في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 مختصرًا ، ونصه هناك : "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، قال : الرحم والقرابة" .(79) في المخطوطة : "واستشهد على ذلك عموم ظاهر الآية ، ولا دلالة . . " .(80) في المطبوعة : "جمع الخاسر" ، وليست بشيء .(81) وضع في البيع يوضع (مبني للمجهول) وضيعة : إذا خسر خسارة من رأس المال .(82) ديوانه : 598 ، والنقائض : 4 ، واللسان (قنن) ، وروايته : "أبناء قوم" . وسليط : بطن من بني يربوع قوم جرير ، واسم سليط : كعب بن الحارث بن يربوع . وكان غسان ابن ذهيل السليطي هجا بني الخطفي ، فهجاه جرير بهذا الرجز . وأقنة جمع قن (بكسر القاف) ، والقن : العبد الذي ملك هو وأبواه . والأنثى ، قن أيضًا بغير هاء .
الطبري
2:27
قوله تعالى : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرونفيه سبع مسائل :الأولى : قوله تعالى : الذين في موضع نصب على النعت للفاسقين ، وإن شئت جعلته في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف ، أي هم الذين . وقد تقدم .الثانية : قوله تعالى : ينقضون النقض : إفساد ما أبرمته من بناء أو حبل أو عهد . والنقاضة ما نقض من حبل الشعر . والمناقضة في القول : أن تتكلم بما تناقض معناه . والنقيضة في الشعر : ما ينقض به . والنقض : المنقوض . واختلف الناس في تعيين هذا العهد ، فقيل : هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره . وقيل : هو وصية الله تعالى [ ص: 235 ] إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسنة رسله ، ونقضهم ذلك ترك العمل به . وقيل : بل نصب الأدلة على وحدانيته بالسماوات والأرض وسائر الصنعة - هو بمنزلة العهد ، ونقضهم ترك النظر في ذلك . وقيل : هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتموا أمره . فالآية على هذا في أهل الكتاب . قال أبو إسحاق الزجاج : عهده جل وعز ما أخذه على النبيين ومن اتبعهم ألا يكفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم . ودليل ذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله تعالى : وأخذتم على ذلكم إصري أي عهدي . قلت : وظاهر ما قبل وما بعد يدل على أنها في الكفار . فهذه خمسة أقوال ، والقول الثاني يجمعها .الثالثة : قوله تعالى : من بعد ميثاقه الميثاق : العهد المؤكد باليمين ، مفعال من الوثاقة والمعاهدة ، وهي الشدة في العقد والربط ونحوه . والجمع المواثيق على الأصل ; لأن أصل ميثاق موثاق ، صارت الواو ياء لانكسار ما قبلها - والمياثق والمياثيق أيضا ، وأنشد ابن الأعرابي :حمى لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عهد المياثقوالموثق : الميثاق . والمواثقة : المعاهدة ، ومنه قوله تعالى : وميثاقه الذي واثقكم به .الرابعة : قوله تعالى : ويقطعون القطع معروف ، والمصدر - في الرحم - القطيعة ، يقال : قطع رحمه قطيعة فهو رجل قطع وقطعة ، مثال همزة . وقطعت الحبل قطعا . وقطعت النهر قطوعا . وقطعت الطير قطوعا وقطاعا وقطاعا إذا خرجت من بلد إلى بلد . وأصاب الناس قطعة : إذا قلت مياههم . ورجل به قطع : أي انبهار .الخامسة : قوله تعالى : ما أمر الله به أن يوصل ما في موضع نصب ب " يقطعون " . و " أن " إن شئت كانت بدلا من " ما " ، وإن شئت من الهاء في " به " وهو أحسن .ويجوز أن يكون لئلا يوصل ، أي كراهة أن يوصل . واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله ؟ فقيل : صلة الأرحام . وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، فقطعوا بينهما بأن قالوا ولم يعملوا . وقيل : [ ص: 236 ] أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم وتكذيب بعضهم . وقيل : الإشارة إلى دين الله وعبادته في الأرض ، وإقامة شرائعه وحفظ حدوده . فهي عامة في كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل . هذا قول الجمهور ، والرحم جزء من هذا .السادسة : قوله تعالى : ويفسدون في الأرض أي يعبدون غير الله تعالى ويجورون في الأفعال ; إذ هي بحسب شهواتهم ، وهذا غاية الفساد .أولئك هم الخاسرون ابتداء وخبر . وهم زائدة ، ويجوز أن تكون هم ابتداء ثان ، الخاسرون خبره ، والثاني وخبره خبر الأول كما تقدم . والخاسر : الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز . والخسران : النقصان ، كان في ميزان أو غيره ، قال جرير :إن سليطا في الخسار إنه أولاد قوم خلقوا أقنهيعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم . قال الجوهري : وخسرت الشيء ( بالفتح ) وأخسرته نقصته . والخسار والخسارة والخيسرى : الضلال والهلاك . فقيل للهالك : خاسر ; لأنه خسر نفسه وأهله يوم القيامة ومنع منزله من الجنة .السابعة : في هذه الآية دليل على أن الوفاء بالعهد والتزامه وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه فلا يحل له نقضه سواء أكان بين مسلم أم غيره ، لذم الله تعالى من نقض عهده . وقد قال : أوفوا بالعقود وقد قال لنبيه عليه السلام : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فنهاه عن الغدر وذلك لا يكون إلا بنقض العهد على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:27
ثم وصف الفاسقين فقال: { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ } وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق. { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها. فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض. فـ { فَأُولَئِكَ } أي: من هذه صفته { هُمُ الْخَاسِرُونَ } في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له لا عمل له; وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي [كان] العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.
Arabic Saddi Tafseer
2:27
{الذين ينقضون} يخالفون ويتركون، وأصل النقض الكسر.{عهد الله} أمر الله الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله: {ألست بربكم قالوا بلى} [ 173-الأعراف].وقيل: أراد به العهد الذي أخذه على النبيين وسائر الأمم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} [81-آل عمران] الآية.وقيل: أراد به العهد الذي عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويبينوا نعته.{من بعد ميثاقه} توكيده.والميثاق: العهد المؤكد.{ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} يعنى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل عليهم السلام لأنهم قالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، وقال المؤمنون: {لا نفرق بين أحد من رسله..} [285-البقرة] وقيل: أراد به الأرحام.{ويفسدون في الأرض} بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.{أولئك هم الخاسرون} المغبونون.ثم قال لمشركي العرب على وجه التعجب:
Arabic Baghawy Tafseer
2:27
يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده كيف تكفرون بالله أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره "وكنتم أمواتا فأحياكم" أي وقد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون" وقال تعالى "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" والآيات في هذا كثيرة وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا" قال هي التي في البقرة "وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: كنتم أمواتا فأحياكم أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم قال وهي مثل قوله تعالى "أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين": وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى "ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور. فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى - فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم" وهكذا رُوي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك وعطاء الخراساني نحو ذلك وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون" قال يحييكم في القبر ثم يميتكم وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقوله تعالى "قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" وهذا غريب والذي قبله. والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى "قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه"الآية كما قال تعالى في الأصنام "أموات غير أحياء وما يشعرون" الآية وقال "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون".
ابن كثير
2:28
كيف تنكرون -أيُّها المشركون- وحدانية الله تعالى، وتشركون به غيره في العبادة مع البرهان القاطع عليها في أنفسكم؟ فلقد كنتم أمواتًا فأوجدكم ونفخ فيكم الحياة، ثم يميتكم بعد انقضاء آجالكم التي حددها لكم، ثم يعيدكم أحياء يوم البعث، ثم إليه ترجعون للحساب والجزاء.
المیسر
2:28
ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفاً : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] ، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري } [ البقرة : 25 ] إلى قوله : { الخاسرون } [ البقرة : 27 ] .وليس في قوله : { كيف تكفرون بالله } تناسب مع قوله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } [ البقرة : 26 ] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } [ البقرة : 26 ] حتى يكون الأنتقالُ إلى الخطاب في قوله : { تكفرون } التفاتاً ، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض ، بعد استيفاء ما تخلل واعترض .ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله : { يأيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا : { كيف تكفرون بالله } فقال فيما تقدم : { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } [ البقرة : 21 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } [ البقرة : 22 ] الآية وقال هنا : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } [ البقرة : 29 ] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره .فالخطاب في قوله : { تكفرون } متعين رجوعه إلى ( الناس ) وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني .و ( كيف ) اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محلِّ إعراب ، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال . ويستفهم بكيف عن الحال العامة . والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله : { وكنتم أمواتاً } الخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد .والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم ، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها .وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشُّكر وقالوا أيضاً كفران على وزن شُكران ، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجَّهَ بالشكر لغير المنعِم وتركَ المنعِم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك ، فكان أكثرُ إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يَرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله . وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله : { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } [ البقرة : 105 ] وقولِه : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] يريد اليهود .وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك .وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقاً على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله . وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى .ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين ، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً «أنا الغريق فما خوفي من البلل» .ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيراً من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالاً لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى ، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث .والإيمان ذكر معناه عند قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] .وقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه ( كيف ) بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم .ولقد دل قوله تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفاً بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثاننٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة ، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى ، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده ، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلاً على انفراده تعالى بالإلهية .وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفاً بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفاً بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقاً شائعاً والمقصود به التمهيد لقوله : { فأحياكم } ثم التمهيد والتقريب لقوله : { ثم يميتكم ثم يحييكم } .وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر ، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة . واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف .والحياة ضد الموت ، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم . وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد ، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية ، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني ، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب ، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني .وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الروح » فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً حتى انبعثت فيه الحياة ، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة ، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد ، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد ، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج ، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت . فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى : { الذي خلق الموت والحياة } في سورة الملك ( 2 ) .وليس المقصود من قوله : وكنتم أمواتاً فأحياكم } الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئاً يعده الناس نعمة وشيئاً لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله : { أمواتاً } وقوله : { ثم يميتكم } في سياق الآية .وأما قوله : { ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال ، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجْرُون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليُضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم .وقوله : { ثم إليه ترجعون } أي يكون رجوعكم إليه ، شُبِّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صَدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعَهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء .وتقديم المتعلِّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطَبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم .و { تُرجَعون } بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور ، وقرأهُ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر .
Arabic Tanweer Tafseer
2:28
( كَيْفَ ) اسم استفهام للسؤال عن الأحوال ، وليس المراد به هنا استعلام المخاطبين عن حال كفرهم ، وإنما المراد منه معنى تكثر تأديته في صورة الاستفهام وهو الإِنكار والتوبيخ ، كما تقول لشخص : كيف تؤذى أباك وقد رباك؟ لا تقصد إلا أن تنكر عليه أذيته لأبيه وتوبيخه عليها .وفي الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لزيادة تقريعهم والتعجب من أحوالهم الغريبة ، لأنهم معهم ما يدعو إلى الإيمان ومع ذلك فهم منصرفون إلى الكفر .وقوله : ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ) جار مجرى التنبيه على أن كفرهم ناشئ عن جهل وعدم تأمل في أدلة الإِيمان القائمة أمام أعينهم .والأموات : جمع ميت بمعنى المعدوم . والإِحياء : بمعنى الخلق .والمعنى : كيف تكفرون بالله وحالكم أنكم كنتم معدومين فخلقكم ، وأخرجكم إلى الوجود كما قال - تعالى - :( هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ) ويصح أن يفسر الأموات بمعنى فاقدي الحياة . والإِحياء بنفخ الروح فيهم فيكون المعنى : وكنتم أمواتاً يوم استقراركم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، فنفخ فيكم الأرواح؛ وأصبحتم في طور إإحساس وحركة وتفكير وبيان .وبعد أن وبخهم على كفرهم بمن أخرجهم من الموت إلى الحياة ، أورد جملا لاستيفاء الأطوار التي ينتقل فيها الإِنسان من مبدأ الحياة إلى مقره الخالد في دار نعيم أو عذاب فقال : ( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم ( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) يبعثكم بعد الموت ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .أي تصيرون إليه دون سواه ، فيجمعكم في المحشر؛ ويتولى حسابكم ، والحكم في أمركم بمقتضى عدله ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) أما الإِماتة فهم يشاهدونها بأعينهم بين الحين والحين ، وأما البعث فقد أخبر الله عنه بما يدل على صحته وينفي استبعاد ، بأدلة عقلية ونقلية كثيرة ، أما الأدلة العقلية ، فمنها : أن الذي قدر على إحيائهم من العدم ، قادر على إحيائهم وإعادتهم بعد موتهم فإن الإِعادة أهون من البدء دائما ، وأما الأدلة النقلية ، فمنها قوله - تعالى - :( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ ) وفي قوله - تعالى - ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ترهيب لمن ينزع إلى الشر ، ويرتكب المعاصي من غير مبالاة ، وترغيب لمن يقبل على فعل الخير ، ويقدم على الطاعات .قال الجمل : " والفاء في قوله ( فَأَحْيَاكُمْ ) على بابها من التعقيب ، وثم على بابها من التراخي ، لأن المراد بالموت الأول ، العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثاني الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعيب والتراخي ، على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال ، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن البعث " .
Arabic Waseet Tafseer
2:28
القول في تأويل قول الله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًااختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:فقال بعضهم بما:576- حدثني به موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط, عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "، يقول: لم تكونوا شيئًا فخلقكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم يومَ القيامة.577- حدثنا محمد بن بشار, قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [سورة غافر: 11]، قال: هي كالتي في البقرة: " كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ".578- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس, قال: حدثنا عَبْثَر, قال: حدثنا حُصين، عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: خلقتنا ولم نكن شيئًا, ثم أمَتَّنَا, ثم أَحْيَيْتَنَا.579- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هُشيم, عن حُصين, عن أبي مالك، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كانوا أمواتًا فأحياهم الله, ثم أماتهم, ثم أحياهم (83) .580- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين بن داود, قال: حدثني حجاج, عن ابن جُريج, عن مجاهد في قوله: " كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم "، قال: لم تكونوا شيئًا حين خلقكم, ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ, ثم يحييكم. وقوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، مثلها.581- حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: حدثني عطاء الخراساني, عن ابن عباس، قال: هو قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ .582- حُدثت عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, قال: حدثني أبو العالية، في قول الله: " كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا "، يقول: حين لم يكونوا شيئًا, ثم أحياهم حين خلقهم, ثم أماتهم, ثم أحياهم يوم القيامة, ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.583- حُدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس، في قوله: أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، قال: كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة, ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان, فهو قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون ".وقال آخرون بما:584- حدثنا به أبو كريب, قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن السُّدّيّ, عن أبي صالح: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون "، قال: يحييكم في القبر, ثم يميتكم.وقال آخرون بما:585- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زُريع, عن سعيد, &; 1-420 &; عن قتادة، قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (84) ، فأحياهم الله وخلقهم, ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها, ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان (85) .وقال بعضهم بما:586- حدثني به يونس, قال: أنبأنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد، في قول الله تعالى: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ . قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، حتى بلغ: أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [سورة الأعراف: 172-173]. قال: فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال: وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (86) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال: وذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا [سورة النساء: 1]، قال: وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (87) ، وقرأ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [سورة الزمر: 6]، قال: خلقا بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام, ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة, فذلك قول الله: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ، &; 1-421 &; وقرأ قول الله: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [سورة الأحزاب: 7]. قال: يومئذ. قال: وقرأ قول الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (88) [سورة المائدة: 7].قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه، وجه ومذهبٌ من التأويل.* * *فأما وجه تأويل من تأول قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم "، أي لم تكونوا شيئًا, فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ, وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ, وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ:فَـأَحْيَيْتَ لِـي ذكْري, وَمَا كُنْتُ خَامِلاوَلَكِـنَّ بَعْـضَ الذِّكْـرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (89)يريد بقوله: " فأحييتَ لي ذكري"، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: " وكنتم أمواتًا " لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم, وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون, ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم, وتعفِّي آثاركم, وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها، &; 1-422 &; وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (90) .* * *وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد, فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله " وكنتم أمواتًا "، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد, لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (91) . وقوله جل ذكره: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا "، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه, وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة، ومن الضلالة إلى الإنابة, ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.* * *وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك: أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها, فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره، نفخُه الأرواح فيها، وإماتتُه إياهم بعد ذلك، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور، ويبْعثُ الخلق للموعود.* * *وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك, وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم, وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم, وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (92) ، والمصير في البرزخ إلى اليوم &; 1-423 &; البعث, وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه -عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات, وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته, وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف -فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين- أعني قوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية, وقوله: رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث, فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.* * *وقال بعضُهم: الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة, فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور، فيردّ في جسده روحه (93) ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول، لأنهم قالوا: موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ &; 1-424 &; ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه, والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (94) ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ, كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا: فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح, فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً, نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.* * *وأولى ما ذكرنا -من الأقوال التي بيَّنَّا- بتأويل قول الله جل ذكره: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " الآية, القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله: " وكنتم أمواتًا " أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم, ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون, ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة, ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك, كما قال: " ثم إليه تُرجعون "، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم, ثم يحشرهم لموقف الحساب, كما قال جل ذكره: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج: 43] وقال: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [سورة يس: 51]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل, ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين، فعذَلهم الله بقوله: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم "، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال: كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم، [لبعث القيامة، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن &; 1-425 &; بالإحسان، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم، فأنشأكم خلقًا سويًّا، وجعلكم أحياءً، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته، غير مُعجزِه -بالقدرة التي فعل ذلك بكم- إحياؤكم بعد إماتتكم] (95) وإعادتكم بعد إفنائكم، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - (96) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها، بما ركبوا من الآثام، واجترموا من الأجْرام، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية, محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم, ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم, ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه, وتعجيل التوبة، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (97) .فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه, وما سلف منه من كرامته إليه، وآلائه لديه, وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما, ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل, وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة, منبهًا لهم على حكمه &; 1-426 &; في المنيبين إليه بالتوبة, وقضائه في المستكبرين عن الإنابة, إعذارًا من الله بذلك إليهم، وإنذارًا لهم , ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان -بالاحتجاج عليهم- دون غيرهم من سائر أصناف الأمم، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (98) ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك, أنه لله رسولٌ مبعوث, وأن ما جاءهم به فمن عنده, إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص، من مكنون علومهم, ومصون ما في كتبهم, وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.* * *وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا، ولا لأسفارهم تاليًا, ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا, فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم, فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه، مع كفرهم به, وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته-: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة: 29]. فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا, لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين، فدليلٌ على وحدانية ربهم, وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.فلذلك قال جل ذكره: " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ".&; 1-427 &;وقوله: " هو " مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله: " كيف تكفرون بالله ". ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه، إنشاؤه عينه, وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و " ما " بمعنى " الذي".فمعنى الكلام إذًا: كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً, ثم يميتكم, ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب, وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ، لا بمعنى الاستفهام , كأنه قال: ويْحَكم كيف تكفرون بالله, كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير: 26]. وحل قوله: " وكنتم أمواتًا فأحياكم " محلّ الحال. وفيه ضميرُ" قد " (99) ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن " فعل " إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية " قد ", كما قال ثناؤه: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [سورة النساء: 90]، بمعنى: قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل: أصبحتَ كثرت ماشيتك, تريد: قد كثرت ماشيتك.-------------الهوامش :(83) الأثر : 579-"حصين" . بضم الحاء المهملة : هو ابن عبد الرحمن السلمي . و"أبو مالك" : هو الغفاري الكوفي ، واسمه"غزوان" . سبقت ترجمته في : 168 .(84) في المخطوطة : "في أصلبة" ، والصواب"صلبة" (بكسر الصاد وفتح اللام) أو"أصلب" (بسكون الصاد وضم اللام) . وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب .(85) الآثار : 575 - 585 : بعضها في ابن كثير 1 : 122 مجملة ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 ، وكرهنا الإطالة بتفصيلها .(86) القصيري ، بالتصغير : هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع ، وهي أقصرهن .(87) في المطبوعة : "وبث فيهما بعد ذلك . . " ، وهو خطأ .(88) الأثر : 586- في ابن كثير 1 : 122 ، والشوكاني 1 : 47 ، مختصرًا جدًا .(89) الأغاني 18 : 140 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 193 ، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته ، كما قال أبو الفرج ، ويقال اسمه : يعمر بن حزن بن زائدة ، من بني سعد بن زيد مناة ، وكان الأغلب عليه الرجز ، وله قصيد قليل ، وكان عاقًّا بأبيه ، فنفاه أبوه عن نفسه . والبيت من أبيات ، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك .(90) في المطبوعة : "لتعارفوا" ، وهي قريبة في المعنى .(91) الاستعتاب : الاستقالة من الذنب ، والرجوع إلى ما يجلب الرضا ، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه ، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه . واستعتبه : طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى . والاسترجاع : طلب الرجوع . واسترجعه : رده الله إلى الطاعة .(92) في المخطوطة : "للعودة إلى التراب" ، وهي قريب .(93) في المخطوطة : "فيرد في جسمه" ، وهي قريب .(94) في المطبوعة : "وأبينت" ، وهذه أجود .(95) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة .(96) قوله"نعمه" مفعول قوله"ثم عدد ربنا . . " ، وما بينهما فصل .(97) في المطبوعة"يحذرهم بذلك . . . ويخوفهم . . . أحل بأوائلهم ، ويعرفهم" ، وانظر ما سيأتي في ص : 154 بولاق . وفي المخطوطة والمطبوعة : "من الخلاص . . " بغير واو ، هو لا يستقيم ، فلذلك زدناها . وقوله : "حلول مثلاته" جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال .(98) سياق هذه العبارة : "وخاصًّا أهل الكتاب . . بالاحتجاج عليهم . . لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم" . وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها ، فصل متتابع ، كعادة الطبري في كتابته .(99) في المطبوعة"وفيه إضمار قد" ، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون ، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 23 - 25 .(100) الأثر : 587- في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 ، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري ، وهي : " . . ما في الأرض جميعًا ، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا ، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل" .هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد ، هذا هو : "في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ، قال : سخّر لكم ما في الأرض جميعًا" . وإسناد هذا الأثر ، هو الذي يأتي برقم : 591 ، لأنه من تمامه ، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني . ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب ، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص ، ومثل هذه الزيادة
الطبري
2:28
قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم كيف سؤال عن الحال ، وهي اسم في موضع نصب ب " تكفرون " ، وهي مبنية على الفتح وكان سبيلها أن تكون ساكنة ; لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب فأشبهت الحروف ، واختير لها الفتح لخفته ، أي هؤلاء ممن يجب أن يتعجب منهم حين كفروا وقد ثبتت عليهم الحجة .[ ص: 237 ] فإن قيل : كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا بالله ؟ فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه السلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا ; لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله . ومن زعم أن القرآن كلام البشر فقد أشرك بالله وصار ناقضا للعهد . وقيل : كيف لفظه لفظ الاستفهام وليس به ، بل هو تقرير وتوبيخ ، أي كيف تكفرون نعمه عليكم وقدرته هذه . قال الواسطي : وبخهم بهذا غاية التوبيخ ; لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شيء ، وإنما المنازعة من الهياكل الروحانية .قوله تعالى : وكنتم أمواتا هذه الواو واو الحال ، وقد مضمرة . قال الزجاج : التقدير وقد كنتم ، ثم حذفت قد . وقال الفراء : أمواتا خبر كنتم .فأحياكم ثم يميتكم هذا وقف التمام ، كذا قال أبو حاتم . ثم قال : ثم يحييكم واختلف أهل التأويل في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين ، وكم من موتة وحياة للإنسان ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود : أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا فأحياكم - أي خلقكم - ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة . قال ابن عطية : وهذا القول هو المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ، ثم للإحياء في الدنيا ، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها . قال غيره : والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا . وقيل : لم يعتد بها كما لم يعتد بموت من أماته في الدنيا ثم أحياه في الدنيا . وقيل : كنتم أمواتا في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذر ، ثم يميتكم موت الدنيا ثم يبعثكم . وقيل : كنتم أمواتا - أي نطفا - في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم ، ثم يميتكم بعد هذه الحياة ، ثم يحييكم في القبر للمسألة ، ثم يميتكم في القبر ، ثم يحييكم حياة النشر إلى الحشر ، وهي الحياة التي ليس بعدها موت .قلت : فعلى هذا التأويل هي ثلاث موتات ، وثلاث إحياءات . وكونهم موتى في ظهر آدم ، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم - غير كونهم نطفا في أصلاب الرجال وأرحام النساء . فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات . وقد قيل : إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم عليه السلام كالهباء ثم أماتهم ، فيكون على هذا خمس موتات ، وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا النار ، لحديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أهل النار الذي هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في [ ص: 238 ] الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل . فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يرعى بالبادية . أخرجه مسلم .قلت : فقوله ( فأماتهم الله ) حقيقة في الموت ، لأنه أكده بالمصدر ، وذلك تكريما لهم . وقيل : يجوز أن يكون ( أماتهم ) عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم ، ولا يكون ذلك موتا على الحقيقة ، والأول أصح . وقد أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، وإنما هو على الحقيقة ، ومثله : وكلم الله موسى تكليما على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . وقيل : المعنى وكنتم أمواتا بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم ، ثم يميتكم فيموت ذكركم ، ثم يحييكم للبعث .قوله تعالى : ثم إليه ترجعون أي إلى عذابه مرجعكم لكفركم . وقيل : إلى الحياة وإلى المسألة ، كما قال تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده فإعادتهم كابتدائهم ، فهو رجوع . وترجعون قراءة الجماعة . ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ومجاهد وابن محيصن وسلام بن يعقوب يفتحون حرف المضارعة ويكسرون الجيم حيث وقعت .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:28
هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة ؟ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.
Arabic Saddi Tafseer
2:28
{كيف تكفرون بالله} بعد نصب الدلائل ووضوح البراهين ثم ذكر الدلائل فقال:{وكنتم أمواتاً} نطفاً في أصلاب آبائكم.{فأحياكم} في الأرحام والدنيا.{ثم يميتكم} عند انقضاء آجالكم.{ثم يحييكم} للبعث.{ثم إليه ترجعون} أي تردون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.قرأ يعقوب (ترجعون) في كل القرآن بفتح الياء والتاء على تسمية الفاعل.
Arabic Baghawy Tafseer
2:28
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض فقال "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات" أي قصد إلى السماء والاستواء هاهنا مضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى فسواهن أي فخلق السماء سبعا والسماء هاهنا اسم جنس فلهذا قال "فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم" أي وعلمه محيط بجميع ما خلق كما قال "ألا يعلم من خلق" وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعا وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم" فقد قيل أن ثم هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده وقيل إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم" قال إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والاثنين فخلق الأرض على حوت والحوت هو الذي ذكره في القرآن "ن والقلم" والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأُرسي عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض فذلك قوله تعالى "وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم" وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها" يقول أنبت شجرها "وقدر فيها أقواتها لأهلها في أربعة أيام سواء للسائلين" يقول من سأل فهكذا الأمر "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقهـا فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض "وأوحى في كل سماء أمرها" قال خلق الله في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد ومما لا يعلم ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حين يقول "خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" ويقول" كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي" وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عبدالله بن صالح حدثني أبو معشر سعيد بن أبي سعيد عن عبدالله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الأحد والإثنين وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء وخلق السماوات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة. وقال مجاهد في قوله تعالى "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول "ثم استوى إلى السماء" وهي دخان "فسواهن سبع سموات" قال بعضهم فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في آية السجدة "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظ ذلك تقدير العزيز العليم" فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى "أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها" قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض. وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا وقد حررنا ذلك في سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها" ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت سورة المخلوقات الأرضية ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيره هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير أيضا من رواية ابن جريج قال أخبرني إسمعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال "خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل" وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم وقد تكلم عليه علي بن المدينى والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا وقد حرر ذلك البيهقي.
ابن كثير
2:29
اللهُ وحده الذي خَلَق لأجلكم كل ما في الأرض من النِّعم التي تنتفعون بها، ثم قصد إلى خلق السموات، فسوَّاهنَّ سبع سموات، وهو بكل شيء عليم. فعِلْمُه -سبحانه- محيط بجميع ما خلق.
المیسر
2:29
هذا ، إما استدلال ثاننٍ على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضي منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات ، وفصْل الجملةِ السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالاً لإيجادهم المشار إليه بقوله : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده . ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بُعد وفي الثاني مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعاً على أنه توهم لا يضير . وإما أن يكون قوله : { هو الذي خلق } امتناناً عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالاً بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله : { لكم } فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفاً ، ولم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل .والخلق تقدم تفسيره عند قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } [ البقرة : 21 ] . والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر الذي يعمره الإنسان والحيوان والنبات والمعادن وهي المواليد الثلاثة وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات ، وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة ، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه وفي ذلك إتلاف المظروف ، والمشاهدةُ تنفي ذلك ، وإما تقدم الظرف وذلك عبث . فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى فمن البعيد أن يجَوِّز صاحب «الكشاف» أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية ، وبعده من وجهين أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازاً كما في قول شاعر أنشده صاحب «المفتاح» في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه :الناس أرض بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماءبخلاف السماء أطلقت على كل ما علا فأظل ، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئاً مرتفعاً .الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة .وجملة : { هو الذي خلق لكم } صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نُزلوا منزلةَ الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات . ونظير هذا قوله : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } [ النحل : 17 ] { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [ الحج : 73 ] فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء والمقصود من الكلام فيما أراه موافقاً للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأُوجز الكلامُ إيجازاً بديعاً بإقحام قوله : { لكم } فأَغْنَى عن جملة كاملة فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى ، وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم .وفي هذه الآية فائدتان :الأولى : أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدتهِ فتثار عنه مسألةُ تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافاً يشبه أن يكون لفظياً فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حِكَم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات ، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللاً غائية أم لا؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالاً بما ورد من نحو قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] ، ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في «التفسير» مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيداً من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أَوْلَى بالقياس إليه من عدمه ، فيكون مستفيداً من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سبباً في فعله أن يكون هو ناقصاً في فاعليته محتاجاً إلى حصول السبب .وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل ، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فَلا ، فردَّه الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة .وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبداً بل إنما تستلزم تعلق الإرادة ، وإنما تلزم الاستفادةُ لو ادعينا التعين والوجوب .والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملاً به وهذا سفسطة شُبِّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه . الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سبباً يقتضي عجز الفاعل وهذا شُبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب .ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللاً وأغراضاً مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً لأنها تكون داعياً للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته . ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها .ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة ، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أَورد عليهم المعتزلة أو قدَّرُوا هُم في أنفسهم أن يُورَد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئاً إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبىء عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة .وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعلُ الله بالنسبة إليه منفعةً .هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في «الموافقات» عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد ، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في «تفسيره» فقال : «هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة» .الفائدة الثانية : أخذوا من قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقاً لأجلنا وامتن بذلك علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب «الكشاف» ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي . وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلاً قال ابن العربي في «أحكامه» : «إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم» الخ .والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة ، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب الله بها قوماً كافرين منكراً عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعاً ، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة .وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي . قال الحموي في «شرح كتاب الأشباه» لابن نجيم نقلاً عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب .وعندي أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم ، وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل وهذا الذي اختاره الإمام في «المحصول» فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام .{ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس ، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضاً قد يُغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله ، وذلك خلق السماوات ، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطراداً لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة .وعَطَفَتْ ( ثُمَّ ) جملةَ ( استوى ) على جملة { خَلَقَ لكم } . ولدلالة ( ثُمَّ ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثُم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنَّ العَقْل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق ، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة ، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار ( بكسر الهمزة ) كقوله تعالى : { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فَكُّ رقبةٍ }[ البلد : 11 13 ] إلى أن قال : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] فإن قوله : { فَكُّ رقبة } خبرُ مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يُغفل السامع عن أمر آخر عظيم نُبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم ، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته :جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت ... لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّدفإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جَعفر بن عُلبة الحارثي :لا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّة ... يَرَى غَمَرَاتتِ المَوْتتِ ثم يزورهاإن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } ا ه . وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدماً في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مراداً منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البَوْن المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى : { همَّاز مَشَّاءٍ بنَميم منَّاععٍ للخير مُعْتَد أثيم عُتُلّ بعدَ ذلك زنيم } [ القلم : 11 13 ] فإن كونه عُتُلا وزنيماً أسبق في الوجود من كونه همَّازاً مشَاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم ، وكذلك قوله تعالى : { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحُ المؤمنين والملائكةُ بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] . فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي : «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يَحتمل حينئذٍ التراخي الزمني . ولكن يظهر جَواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخراً في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن عُلبة . قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية ، فإن ألقت ( ثم ) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردوداً .واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخباراً عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن ( ثم ) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ، 85 ] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين .فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخراً خلقها عن خلق الأرض فثُم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقاً فثُم للترتيب الرتبي لا غير .والظاهر هو الثاني . وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا : { ثم استوى إلى السماء } وقوله في سورة حم السجدة ( 9 11 ) : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان . وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى : بناها رَفع سمكها فسواها إلى قوله : { والأرضَ بعد ذلك دحاها } [ النازعات : 27 30 ] . وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء ثم دُحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحْو الأرض ، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه .وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ { بعد ذلك } أظهر في إفادة التأخر من قوله : { ثم استوى إلى السماء } ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي . وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض . وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين .والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها ، وإن أريد بها الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله : { فسوتهن سبع سموات } فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقاً وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظاً في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر .والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو ، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواء ، ويطلق مجازاً على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستوياً لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون ( إلى ) قرينة المجاز وهو تمثيل ، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقاً يشبه الاستواء في التهيىء للعمل العظيم المتقن .ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله .و ( سواهن ) أي خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم .وبين استوى وسواهن الجناس المحرف .والسماء مشتقة من السمو وهو العلو واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله : { فسواهن سبع سماوات } إذ جعلها سبعاً ، والضمير في قوله : { فسواهن } عائد إلى ( السماء ) باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو ، وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتزاني .وقد عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعاً وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور :أحدها : أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات .ثانيها : أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها .ثالثها : أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع .رابعها : أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض ، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض . وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء ، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج .هذا وقد ذكر الله تعالى السماوات سبعاً هنا وفي غير آية ، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض : نِبْتون ، أُورَانوس ، زُحَل ، المشتري ، المريخ ، الشمس ، الزهرة ، عطارد ، بلكان .والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار ، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعُد عوضاً عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده معها عوض عن عد الأرض تقريباً لأفهام السامعين .وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض وفي ذلك شكوك . ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا .وقوله : { وهو بكل شيء عليم } نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم فلذلك قال المتكلمون ، إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة ، والإرادةَ على وفق العلم . وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به .وهذه الآية دليل على عموم العلم وقد قال بذلك جميع الملِّيِّين كما نقله المحقق السلكوتي في «الرسالة الخَاقَانِيَّة» وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات وزعموا أن تعلق العلم بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي وهو توهم لا داعي إليه .وقرأ الجمهور هاء «وهو» بالضم على الأصل ، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه ، والسكون أكثر من الضم في كلامهم وذلك مع الواو والفاء ولاممِ الابتداء ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء ، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء مِن ( هو ) إذا دخل عليه حرف ، أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دَعوى أنه ضرورة . [
Arabic Tanweer Tafseer
2:29
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى :( هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ) .أي : أنه خلق جميع ما في الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها في دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته .وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التي فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها .ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السموات فقال :( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) .استوى إلى السماء : أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه : تعديل خلقها وتقويمه .والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث في قوله : ( فَسَوَّاهُنَّ ) ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع .فمعنى ( ثُمَّ استوى إِلَى السمآء ) علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة المسلابسة والمباشرة .وجملة ( ثُمَّ استوى ) معطوفة على جملة ( خَلَقَ لَكُمْ ) ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض .وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن في استقامة ، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - :( مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ) وجملة ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شيء علماً وضع كل جزء في موضعه اللائق به .وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى :( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ . . . )
Arabic Waseet Tafseer
2:29
وبنحو الذي قلنا في قوله: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا "، كان قتادة يقول:587- حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة، قوله: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا "، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (100) .القول في تأويل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍقال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: " ثم استوى إلى السَّماء ".فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء, أقبل عليها, كما تقول: كان فلان مقبلا على فلان، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى: أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر:أَقُــولُ وَقَـدْ قَطَعْـنَ بِنَـا شَـرَوْرَىسَــوَامِدَ, وَاسْـتَوَيْنَ مِـنَ الضَّجُـوعِ (101)فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع, وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ, وإنما معنى قوله: " واستوين من الضجوع "، استوين على الطريق من الضجوع خارجات, بمعنى استقمن عليه.وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل, ولكنه بمعنى فعله, كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: &; 1-429 &; تحوّل فِعله. [وقال بعضهم: قوله: " ثم استوى إلى السماء " يعني به: استوت] (102) . كما قال الشاعر:أَقُـولُ لَـهُ لَمَّـا اسْـتَوَى فِـي تُرَابِهِعَـلَى أَيِّ دِيـنٍ قَتَّـلَ النَّـاسَ مُصْعَبُ (103)وقال بعضهم: " ثم استوى إلى السماء "، عمدَ لها (104) . وقال: بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه.وقال بعضهم: الاستواء هو العلو, والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.588- حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن, قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: " ثم استوى إلى السماء ". يقول: ارتفع إلى السماء (105) .ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم: الذي استوى إلى السماء وعلا عليها، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم: بل العالي عليها: الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (106) .قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته, فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب, يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم:طَــالَ عَــلَى رَسْـمِ مَهْـدَدٍ أبَـدُهْوَعَفَـــا وَاسْــتَوَى بِــهِ بَلَــدُه (107)يعني: استقام به. ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (108) ، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع, كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه: " ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن "، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات.والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله: " ثم استوى إلى السماء "، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه -إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك- أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له: زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبلَ, أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير, قيل له: فكذلك فقُلْ: علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.قال أبو جعفر: وإن قال لنا قائل (109) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء, كان قبل خلق السماء أم بعده؟قيل: بعده, وقبل أن يسويهن سبعَ سموات, كما قال جل ثناؤه: &; 1-431 &; ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [سورة فصلت: 11]. والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا, وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.وقال بعضهم: إنما قال: " استوى إلى السّماء "، ولا سماء, كقول الرجل لآخر: " اعمل هذا الثوب "، وإنما معه غزلٌ.وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب، التقويم والإصلاح والتوطئة, كما يقال: سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته: تقويمه إياهن على مشيئته, وتدبيره لهنّ على إرادته, وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (110) .589- كما: حُدِّثت عن عمار, قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس: " فسوَّاهن سبع سموات " يقول: سوّى خلقهن، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (111) .وقال جل ذكره: " فسواهن "، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (112) ، وقد قال قبلُ: " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع، لأن السماء جمع واحدها سماوة, فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل: هذه سماءٌ, وذُكِّرت أخرى (113) فقيل: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [سورة المزمل: 18]، &; 1-432 &; كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها, فيقال: هذا بقر وهذه بقر, وهذا نخل وهذه نخل, وما أشبه ذلك.وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة, غير أنها تدلّ على السموات, فقيل: " فسواهن "، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (114) . قال: وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة, فيقال: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ، كما يذكر المؤنث (115) ، وكما قال الشاعر:فَـــلا مُزْنَــةٌ وَدَقَــتْ وَدْقَهَــاوَلا أَرْضَ أَبْقَـــــل إِبْقَالَهَــــا (116)وكما قال أعشى بني ثعلبة:فَإِمَّـــا تَـــرَيْ لِمَّتِــي بُــدِّلَتْفَـــإِنَّ الْحَـــوَادِثَ أَزْرَى بِهَــا (117)وقال بعضهم: السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض, فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت, ثم تكون تلك الواحدة جماعًا, كما يقال: ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ, وبُرْمة أعشار، للمتكسرة, وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق، أي أنّ نواحيه أخلاق (118) .فإن قال لنا قائل: فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات, ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها, فكيف زعمت أنها جِماع؟قيل: إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات, فلذلك قال جل ذكره: فسوَّاهن سبعًا. كما:-590- حدثني محمد بن حميد, قال: حدثنا سلمة بن الفضل, قال: قال محمد بن إسحاق: كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ, ثم ميَّز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا, وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا, ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال، والله أعلم، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (119) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها، وأخرج ضُحاها, فجرى فيها الليل والنهار, وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال, وقدر فيها الأقوات, وبث فيها ما أراد من الخلق, ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان -كما قال- فحبكهن, وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها, وأوحى في كل سماء أمرها, فأكمل &; 1-434 &; خلقهن في يومين، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته, ثم قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما, فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا, قالتا: أتينا طائعين (120) .فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (121) وما فيها - وهن سبع من دخان, فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (122) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (123) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها: " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع (124) ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه: " فسوَّاهن "، إذ كانت السماء بمعنى الجميع، على ما بينا.قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله " فسواهن "، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض؟ ألأنها خلقت قبلها, أم بمعنى غير ذلك (125) ؟قيل: قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق, ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (126) .&; 1-435 &;591- فحدثني موسى بن هارون, قال: حدثنا عمرو بن حماد, قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك, وعن أبي صالح, عن ابن عباس - وعن مُرَّة, عن ابن مسعود, وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ". قال: إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء, ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق، أخرج من الماء دخانًا, فارتفع فوق الماء فسما عليه, فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة, ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين, فخلق الأرض على حوت, والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن: ن وَالْقَلَمِ ، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة, والصفاةُ على ظهر ملَك, والملك على صخرة, والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض: فتحرك الحوت فاضطرب, فتزلزت الأرض, فأرسى عليها الجبال فقرّت, فالجبال تخر على الأرض, فذلك قوله: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ (127) [سورة النحل: 15]. وخلق الجبالَ فيها، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء, وذلك حين يقول: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا يقول: أنبت شجرها وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يقول: أقواتها لأهلها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ يقول: قل لمن يسألك: هكذا الأمر (128) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [سورة فصلت: 9-11]، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس, فجعلها &; 1-436 &; سماء واحدة, ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة, وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا قال: خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها, من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب, فجعلها زينةً وحِفظًا، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [سورة الأعراف: 54]. ويقول: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (129) [سورة الأنبياء: 30].592- وحدثني الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، في قوله: " هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء ". قال: خلق الأرض قبل السماء, فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان, فذلك حين يقول: " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ". قال: بعضُهن فوق بعض, وسبعَ أرضين، بعضُهن تحت بعض (130) .&; 1-437 &;593- حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أنبأنا عبد الرزّاق, قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: " فسواهنّ سبعَ سموات " قال: بعضُهن فوق بعض, بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.594- حدثنا المثنى بن إبراهيم قال: حدثنا أبو صالح, قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله:- حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء, ثم ذكر السماء قبل الأرض, وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء -" ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات ", ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [سورة النازعات: 30].595- حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال حدثني أبو معشر, عن سعيد بن أبي سعيد, عن عبد الله بن سلام أنه قال: إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد, فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين, وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء, وخلق السموات في الخميس والجمعة, وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة, فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هو الذي أنعم عليكم, فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم, ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم, ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان, فسوَّاهنَّ وحبَكهن, وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه, وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (131) .القول في تأويل قوله : وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)يعني بقوله جل جلاله: " وهو " نفسَه، وبقوله: " بكل شيء عليم " أن الذي خلقكم، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا, وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء، وأتقن صُنعهنّ, لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (132) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم, وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم -ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته- المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (133) ، إني بكل شيء عليم.وقوله: " عليم " بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول: هو الذي قد كمَل في علمه.596- حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: حدثنا معاوية بن صالح, قال: حدثني علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العالم الذي قد كمَل في علمه (134) .------------------الهوامش :(101) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم : 795 ، 857) ، وروايته"ثواني" مكان"سوامد" . وشرورى : جبل بين بني أسد وبني عامر ، في طريق مكة إلى الكوفة . والضجوع -بفتح الضاد المعجمة- : موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم . وقوله : "سوامد" جمع سامد . سمدت الإبل في سيرها : جدت وسارت سيرًا دائمًا ، ولم تعرف الإعياء . وسوامد : دوائب لا يلحقهن كلال . والنون في"قطعن" للإبل .(102) هذه الجملة بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، وكأنها مقحمة .(103) لم أجد هذا البيت . وفي المطبوعة : "قبل الرأس مصعب" ، وهو خطأ لا شك فيه . وفي المخطوطة : "في ثراته" ، ولا معنى لها ، ولعلها"في تراثه" . وأنا في شك من كل ذلك . بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر ، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير .(104) في المطبوعة : "عمد إليها" .(105) الأثر : 588- في الدر المنثور 1 : 43 ، والأثر التالي : 589 ، من تمامه .(106) في المطبوعة : "العالى إليها" .(107) ديوانه : 110 ، واللسان (سوى) قال : "وهذا البيت مختلف الوزن ، فالمصراع الأول من المنسرح ، والثاني من الخفيف" . والرسم : آثار الديار اللاصقة بالأرض . ومهدد اسم امرأة . والأبد : الدهر الطويل ، والهاء في"أبده" راجع إلى الرسم . وعفا : درس وذهب أثره . والبلد : الأثر يقول : انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر .(108) في المخطوطة : "الاستيلاء والاحتواء" .(109) في المطبوعة : "وإن قال . . . " .(110) في المطبوعة : "بعد إرتاقهن" وليست بشيء ، وفي المخطوطة : "بعد أن تتاقهن" ، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه . وارتتق الشيء : التأم والتحم حتى ليس به صدع . وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء : 30 من قول الله سبحانه : {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والفتق : الشق .(111) الأثر : 589- في الدر المنثور 1 : 43 ، وهو من تمام الأثر السالف : 588 .(112) المكني : هو الضمير ، فيما اصطلح عليه النحويون ، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره . وفي المطبوعة : "الجمع" مكان"الجميع" حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة .(113) في المطبوعة : "أنث السماء . . . وذكر" بطرح التاء .(114) "بعض أهل العربية" هو الفراء ، وإن لم يكن اللفظ لفظه ، في كتابه معاني القرآن 1 : 25 ، ولكنه ذهب هذا المذهب ، في كتابه أيضًا ص : 126 - 131 .(115) هكذا في الأصول"كما يذكر المؤنث" ، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة : "كما تذكر الأرض ، كما قال الشاعر : . . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال : " . . فإن السماء في معنى جمع فقال : (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات . وكذلك الأرض يقع عليها -وهي واحدة- الجمع . ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان ، قال الله عز وجل : (رب السموات والأرض) ثم قال : (وما بينهما) ، ولم يقل : بينهن . فهذا دليل على ما قلت لك" . معاني القرآن . 1 : 25 ، وانظر أيضًا ص : 126 - 131 .(116) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي ، في سيبويه 1 : 240 ، ومعاني القرآن 1 : 127 والخزانة 1 : 21 - 26 ، وشرح شواهد المغني : 319 ، والكامل 1 : 406 ، 2 : 68 ، وقبله ، يصف جيشًا :وَجَارِيَــةٍ مِــنْ بَنَــاتِ الْمُلُــوكِ قَعْقَعْـــتُ بِــالْخَيْلِ خَلْخَالَهَــاكَكِــرْ فِئَــةِ الْغَيْـثِ ذَاتِ الصَّبِـيرِتَــرْمِي السَّــحَابَ وَيَــرْمِي لَهَـاتَوَاعَدْتُهَــا بَعْــدَ مَــرِّ النُّجُـومِ,كَلْفَــــاءَ تُكْـــثِرُ تَهْطَالَهَـــافـــلا مزنـــة . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .(117) أعشى بني ثعلبة ، وأعشى بني قيس ، والأعشى ، كلها واحد ، ديوانه 1 : 120 ، وفي سيبويه 1 : 239 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 128 ، والخزانة 4 : 578 ، ورواية الديوان :فَـــإِنْ تَعْهَــدِينِي وَلِــي لِمَّــةٌفَـــإِنَّ الْحَــوَادِثَ أَلْــوَى بِهَــاورواية سيبويه كما في الطبري ، إلا أنه روى"أودى بها" . وألوى به : ذهب به وأهلكه . وأودى به : أهلكه ، أيضًا . وأما"أزرى بها" : أي حقرها وأنزل بها الهوان ، من الزرارية وهي التحقير . وكلها جيد .(118) أخلاق ، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي . وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي . وبرمة أجبار ، ضد قولهم برمة أكسار ، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا ، كما لم يقولوا برمة كسر ، مفردًا . وأصله من جبر العظم ، وهو لأمه بعد كسره .(119) في المخطوطة : "ولم يحبكن" .(120) الأثر : 590- هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت . ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24 : 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني- في هذا الموضع ، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت . وهو من كلام ابن إسحاق ، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه . وقد صرح الطبري -بعد- أنه إنما ذكره استشهادًا ، لا استدلالا ، إذ وجده أوضح بيانا ، وأحسن شرحًا .(121) في المطبوعة : "بعد خلقه الأرض" .(122) في المطبوعة : "عن خبر السموات" .(123) في المطبوعة : "بتسويتها" ، وسياق كلامه : "أوضح بيانًا . . . من غيره" ، وما بينهما فصل .(124) في المطبوعة"بمعنى الجمع" ، وفي التي تليها ، وقد مضى مثل ذلك آنفًا .(125) في المطبوعة : "أم بمعنى" ، وهذه أجود .(126) في المطبوعة : "ونزيد ذلك توكيدًا" .(127) في الأصول : "وجعل لها رواسي أن تميد بكم" ، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح ، والآية كما ذكرتها في سورة النحل ، ومثلها في سورة لقمان : 10(128) في المخطوطة : "يقول : من سأل ، فهكذا الأمر" .(129) الخبر : 591- في ابن كثير 1 : 123 ، والدر المنثور 1 : 42 - 43 ، والشوكاني 1 : 48 . وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر : 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري ، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم : 465 ص : 353 : "فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . " . وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده ، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به ، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده . فلئن سألت : فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده؟ وجواب ذلك : أنه لم يسقه ليحتج بما فيه ، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد ، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان ، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فحبكهن سبعًا ، وأوحى في كل سماء أمرها . وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر ، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه . وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل ، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه ، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه . وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا ، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال .(130) الأثر : 592- في ابن كثير 1 : 124 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 .(131) الآثار : 593 - 595 ، لم نجدها في شيء من تلك المراجع .(132) في المخطوطة : "وأهل الكتاب" عطفًا .(133) في المطبوعة : "بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم . . " .(134) الخبر : 596- ليس في مراجعنا .
الطبري
2:29
قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليمقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعافيه عشر مسائل : الأولى : " خلق " معناه اخترع وأوجد بعد العدم . وقد يقال في الإنسان : " خلق " عند إنشائه شيئا ، ومنه قول الشاعر :من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلهوقد تقدم هذا المعنى . وقال ابن كيسان : " خلق لكم " أي من أجلكم . وقيل : المعنى أن جميع ما في الأرض منعم به عليكم فهو لكم . وقيل : إنه دليل على التوحيد والاعتبار .[ ص: 239 ] قلت : وهذا هو الصحيح على ما نبينه . ويجوز أن يكون عني به ما هم إليه محتاجون من جميع الأشياء .الثانية : استدل من قال إن أصل الأشياء التي ينتفع بها الإباحة بهذه الآية وما كان مثلها - كقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية - حتى يقوم الدليل على الحظر . وعضدوا هذا بأن قالوا : إن المآكل الشهية خلقت مع إمكان ألا تخلق فلم تخلق عبثا ، فلا بد لها من منفعة . وتلك المنفعة لا يصح رجوعها إلى الله تعالى لاستغنائه بذاته ، فهي راجعة إلينا . ومنفعتنا إما في نيل لذتها ، أو في اجتنابها لنختبر بذلك ، أو في اعتبارنا بها . ولا يحصل شيء من تلك الأمور إلا بذوقها ، فلزم أن تكون مباحة . وهذا فاسد ; لأنا لا نسلم لزوم العبث من خلقها إلا لمنفعة ، بل خلقها كذلك لأنه لا يجب عليه أصل المنفعة ، بل هو الموجب . ولا نسلم حصر المنفعة فيما ذكروه ، ولا حصول بعض تلك المنافع إلا بالذوق ، بل قد يستدل على الطعوم بأمور أخر كما هو معروف عند الطبائعيين . ثم هو معارض بما يخاف أن تكون سموما مهلكة ، ومعارضون بشبهات أصحاب الحظر . وتوقف آخرون وقالوا : ما من فعل لا ندرك منه حسنا ولا قبحا إلا ويمكن أن يكون حسنا في نفسه ، ولا معين قبل ورود الشرع ، فتعين الوقف إلى ورود الشرع . وهذه الأقاويل الثلاثة للمعتزلة .وقد أطلق الشيخ أبو الحسن وأصحابه وأكثر المالكية والصيرفي في هذه المسألة القول بالوقف . ومعناه عندهم أن لا حكم فيها في تلك الحال ، وأن للشرع إذا جاء أن يحكم بما شاء ، وأن العقل لا يحكم بوجوب ولا غيره وإنما حظه تعرف الأمور على ما هي عليه . قال ابن عطية : وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال : لم يخل العقل قط من السمع ، ولا نازلة إلا وفيها سمع ، أو لها تعلق به ، أو لها حال تستصحب . قال : فينبغي أن يعتمد على هذا ، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف .الثالثة : الصحيح في معنى قوله تعالى : خلق لكم ما في الأرض الاعتبار . يدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر : الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتها ، أي الذي قدر على إحيائكم وخلقكم وخلق السماوات والأرض ، لا تبعد منه القدرة على الإعادة .فإن قيل : إن معنى لكم الانتفاع ، أي لتنتفعوا بجميع ذلك ، قلنا المراد بالانتفاع الاعتبار لما ذكرنا . فإن قيل : وأي اعتبار في العقارب والحيات ، قلنا : قد يتذكر الإنسان ببعض ما يرى من المؤذيات ما أعد الله للكفار في النار من العقوبات فيكون سببا للإيمان وترك [ ص: 240 ] المعاصي ، وذلك أعظم الاعتبار . قال ابن العربي : وليس في الإخبار بهذه القدرة عن هذه الجملة ما يقتضي حظرا ولا إباحة ولا وقفا ، وإنما جاء ذكر هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه ليستدل بها على وحدانيته .وقال أرباب المعاني في قوله : خلق لكم ما في الأرض جميعا لتتقووا به على طاعته ، لا لتصرفوه في وجوه معصيته . وقال أبو عثمان : وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده ، وتسكن إلى ما ضمن لك من جزيل عطائه في المعاد ، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك ، فقد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وهو التوحيد .الرابعة : روى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ، ولكن ابتع علي فإذا جاء شيء قضينا فقال له عمر : هذا أعطيت إذا كان عندك فما كلفك الله ما لا تقدر . فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله :أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالافتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرف السرور في وجهه لقول الأنصاري . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بذلك أمرت ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فخوف الإقلال من سوء الظن بالله ; لأن الله تعالى خلق الأرض بما فيها لولد آدم ، وقال في تنزيله : خلق لكم ما في الأرض جميعا وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه . فهذه الأشياء كلها مسخرة للآدمي قطعا لعذره وحجة عليه ، ليكون له عبدا كما خلقه عبدا ، فإذا كان العبد حسن الظن بالله لم يخف الإقلال لأنه يخلف عليه ، كما قال تعالى : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقال : فإن ربي غني كريم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : سبقت رحمتي غضبي ، يا ابن آدم أنفق أنفق عليك ، يمين الله ملأى سحا لا يغيضها شيء الليل والنهار . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا . ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا .[ ص: 241 ] وكذا في المساء عند الغروب يناديان أيضا ، وهذا كله صحيح رواه الأئمة والحمد لله . فمن استنار صدره ، وعلم غنى ربه وكرمه أنفق ولم يخف الإقلال ، وكذلك من ماتت شهواته عن الدنيا واجتزأ باليسير من القوت المقيم لمهجته ، وانقطعت مشيئته لنفسه ، فهذا يعطي من يسره وعسره ولا يخاف إقلالا . وإنما يخاف الإقلال من له مشيئة في الأشياء ، فإذا أعطى اليوم وله غدا مشيئة في شيء خاف ألا يصيب غدا ، فيضيق عليه الأمر في نفقة اليوم لمخافة إقلاله . روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي عليك . وروى النسائي عن عائشة قالت : دخل علي سائل مرة وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرت له بشيء ثم دعوت به فنظرت إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما تريدين ألا يدخل بيتك شيء ولا يخرج إلا بعلمك ؟ قلت : نعم ، قال : مهلا يا عائشة ، لا تحصي فيحصي الله عز وجل عليك .الخامسة : قوله تعالى : ثم استوى ثم لترتيب الإخبار لا لترتيب الأمر في نفسه . والاستواء في اللغة : الارتفاع والعلو على الشيء ، قال الله تعالى : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ، وقال لتستووا على ظهوره ، وقال الشاعر :فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوىأي ارتفع وعلا ، واستوت الشمس على رأسي واستوت الطير على قمة رأسي ، بمعنى علا . وهذه الآية من المشكلات ، والناس فيها وفيما شاكلها على ثلاثة أوجه قال بعضهم : نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها ، وذهب إليه كثير من الأئمة ، وهذا كما روي عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى قال مالك : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رجل سوء أخرجوه .وقال بعضهم : نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة . وهذا قول المشبهة .وقال بعضهم : نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها .وقال الفراء في قوله عز وجل ثم استوى إلى السماء فسواهن قال : الاستواء في كلام العرب على وجهين ، أحدهما : أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ، أو يستوي عن اعوجاج . فهذان وجهان . ووجه ثالث أن [ ص: 242 ] تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوى علي وإلي يشاتمني . على معنى أقبل إلي وعلي . فهذا معنى قوله : ثم استوى إلى السماء والله أعلم . قال وقد قال ابن عباس : ثم استوى إلى السماء صعد . وهذا كقولك : كان قاعدا فاستوى قائما ، وكان قائما فاستوى قاعدا ، وكل ذلك في كلام العرب جائز .وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين : قوله استوى بمعنى أقبل - صحيح ، لأن الإقبال هو القصد إلى خلق السماء ، والقصد هو الإرادة ، وذلك جائز في صفات الله تعالى . ولفظة " ثم " تتعلق بالخلق لا بالإرادة . وأما ما حكي عن ابن عباس فإنما أخذه عن تفسير الكلبي ، والكلبي ضعيف . وقال سفيان بن عيينة وابن كيسان في قوله ثم استوى إلى السماء : قصد إليها ، أي بخلقه واختراعه ، فهذا قول . وقيل : على دون تكييف ولا تحديد ، واختاره الطبري . ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال : استوى بمعنى أنه ارتفع . قال البيهقي : ومراده من ذلك - والله أعلم - ارتفاع أمره ، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء . وقيل : إن المستوي الدخان . وقال ابن عطية : وهذا يأباه وصف الكلام . وقيل : المعنى استولى ، كما قال الشاعر :[ ص: 243 ]قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراققال ابن عطية : وهذا إنما يجيء في قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى . قلت : قد تقدم في قول الفراء علي وإلي بمعنى . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة " الأعراف " إن شاء الله تعالى . والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة .السادسة : يظهر من هذه الآية أنه سبحانه خلق الأرض قبل السماء ، وكذلك في " حم السجدة " . وقال في النازعات : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها فوصف خلقها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها . فكأن السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وقال تعالى الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وهذا قول قتادة : إن السماء خلقت أولا ، حكاه عنه الطبري . وقال مجاهد وغيره من المفسرين : إنه تعالى أيبس الماء الذي كان عرشه عليه فجعله أرضا وثار منه دخان فارتفع ، فجعله سماء فصار خلق الأرض قبل خلق السماء ، ثم قصد أمره إلى السماء فسواهن سبع سماوات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وكانت إذ خلقها غير مدحوة .قلت : وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى ، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك .ومما يدل على أن الدخان خلق أولا قبل الأرض ما رواه السدي عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء ، فسما عليه ، فسماه سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين ، في الأحد والاثنين . فجعل الأرض على حوت - والحوت هو النون الذي ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن بقوله : ن والقلم - والحوت في الماء والماء على صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على الصخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان : ليست في السماء ولا في الأرض - فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسل عليها [ ص: 244 ] الجبال فقرت ، فالجبال تفخر على الأرض ، وذلك قوله تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين يقول : من سأل فهكذا الأمر ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين ، في الخميس والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة ; لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض ، وأوحى في كل سماء أمرها قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين . فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش ، قال فذلك حين يقول : خلق السماوات والأرض في ستة أيام ويقول : كانتا رتقا ففتقناهما وذكر القصة في خلق آدم عليه السلام ، على ما يأتي بيانه في هذه السورة إن شاء الله تعالى .وروى وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : ( إن أول ما خلق الله عز وجل من شيء " القلم " فقال له : اكتب . فقال : يا رب ، وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر . فجرى بما هو كائن من ذلك اليوم إلى قيام الساعة . قال : ثم خلق النون فدحا الأرض عليها ، فارتفع بخار الماء ففتق منه السماوات ، واضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال تفخر على الأرض إلى يوم القيامة . ) ففي هذه الرواية خلق الأرض قبل ارتفاع بخار الماء الذي هو الدخان ، خلاف الرواية الأولى . والرواية الأولى عنه وعن غيره أولى ، لقوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها والله أعلم بما فعل ، فقد اختلفت فيه الأقاويل ، وليس للاجتهاد فيه مدخل .وذكر أبو نعيم عن كعب الأحبار أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها ، فألقى في قلبه ، فقال : هل تدري ما على ظهرك يا لوثيا من الأمم والشجر والدواب [ ص: 245 ] والناس والجبال ؟ لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع . قال : فهم لوثيا بفعل ذلك ، فبعث الله دابة فدخلت في منخره ، فعج إلى الله فخرجت . قال كعب : والذي نفسي بيده ، إنه لينظر إليها بين يديه وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت حيث كانت .السابعة : أصل خلق الأشياء كلها من الماء لما رواه ابن ماجه في سننه ، وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة قال قلت : يا رسول الله ، إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، أنبئني عن كل شيء . قال : كل شيء خلق من الماء فقلت : أخبرني عن شيء إذا عملت به دخلت الجنة . قال : أطعم الطعام وأفش السلام ، وصل الأرحام ، وقم الليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام . قال أبو حاتم : قول أبي هريرة : " أنبئني عن كل شيء " أراد به عن كل شيء خلق من الماء . والدليل على صحة هذا - جواب المصطفى عليه السلام إياه حيث قال : كل شيء خلق من الماء وإن لم يكن مخلوقا . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون ويروى ذلك أيضا عن عبادة بن الصامت مرفوعا . قال البيهقي : وإنما أراد والله أعلم : أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش " القلم " . وذلك بين في حديث عمران بن حصين ، ثم خلق السماوات والأرض . وذكر عبد الرزاق بن عمر بن حبيب المكي [ ص: 246 ] عن حميد بن قيس الأعرج عن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ قال : لا أدري . قال : ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو . قال : فأتى الرجل عبد الله بن عباس فسأله ، فقال : مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء والنور والظلمة والريح والتراب . قال الرجل : فمم خلق هؤلاء ؟ فتلا عبد الله بن عباس : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم . قال البيهقي : أراد أن مصدر الجميع منه ، أي من خلقه وإبداعه واختراعه . خلق الماء أولا ، أو الماء وما شاء من خلقه لا عن أصل ولا على مثال سبق ، ثم جعله أصلا لما خلق بعد ، فهو المبدع ، وهو البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه ، سبحانه جل وعز .الثامنة : قوله تعالى : فسواهن سبع سماوات ذكر تعالى أن السماوات سبع . ولم يأت للأرض في التنزيل عدد صريح لا يحتمل التأويل إلا قوله تعالى : ومن الأرض مثلهن وقد اختلف فيه ، فقيل : ومن الأرض مثلهن أي في العدد ; لأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة والأخبار ، فتعين العدد . وقيل : ومن الأرض مثلهن أي في غلظهن وما بينهن . وقيل : هي سبع إلا أنه لم يفتق بعضها من بعض ، قال الداودي : والصحيح الأول ، وأنها سبع كالسماوات سبع . روى مسلم عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه إلى سبع أرضين . وعن عائشة رضي الله عنها مثله ، إلا أن فيه " من " بدل " إلى " . ومن حديث أبي هريرة : لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال موسى عليه السلام يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به قال يا موسى قل لا إله إلا الله قال موسى يا رب كل عبادك يقول هذا قال قل لا إله إلا الله قال لا إله إلا أنت إنما أريد شيئا تخصني به قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن [ ص: 247 ] غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله . وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما هذا فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقه الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - قال - هل تدرون ما فوقكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : بينكم وبينها مسيرة خمسمائة عام - ثم قال : - هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك سماءين بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض . ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين - ثم قال : - هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها الأرض - ثم قال : - هل تدرون ما تحت ذلك قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن تحتها الأرض الأخرى ، بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم . قال أبو عيسى : قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد : لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، في كل مكان وهو على عرشه كما وصف نفسه في كتابه . قال : هذا حديث غريب ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة والآثار بأن الأرضين سبع كثيرة ، وفيما ذكرنا كفاية . وقد روى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس أنه قال : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى . قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح ، وهو شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه دليلا ، والله أعلم .التاسعة : قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض ابتداء وخبر . " ما " في موضع نصب جميعا عند سيبويه نصب على الحال ثم استوى أهل نجد يميلون [ ص: 248 ] ليدلوا على أنه من ذوات الياء ، وأهل الحجاز يفخمون . " سبع " منصوب على البدل من الهاء والنون ، أي فسوى سبع سماوات . ويجوز أن يكون مفعولا على تقدير يسوي بينهن سبع سماوات ، كما قال الله جل وعز : واختار موسى قومه سبعين رجلا أي من قومه ، قاله النحاس . وقال الأخفش : انتصب على الحال . وهو بكل شيء عليم ابتداء وخبر والأصل في " هو " تحريك الهاء ، والإسكان استخفاف . والسماء تكون واحدة مؤنثة ، مثل عنان ، وتذكيرها شاذ ، وتكون جمعا لسماوة في قول الأخفش ، وسماءة في قول الزجاج ، وجمع الجمع سماوات وسماءات . فجاء سواهن إما على أن السماء جمع وإما على أنها مفرد اسم جنس . ومعنى سواهن سوى سطوحهن بالإملاس . وقيل : جعلهن سواء .العاشرة : قوله تعالى : وهو بكل شيء عليم أي بما خلق وهو خالق كل شيء ، فوجب أن يكون عالما بكل شيء ، وقد قال : ألا يعلم من خلق فهو العالم والعليم بجميع المعلومات بعلم قديم أزلي واحد قائم بذاته ، ووافقنا المعتزلة على العالمية دون العلمية . وقالت الجهمية : عالم بعلم قائم لا في محل ، تعالى الله عن قول أهل الزيغ والضلالات ، والرد على هؤلاء في كتب الديانات . وقد وصف نفسه سبحانه بالعلم فقال : أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وقال : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وقال : فلنقصن عليهم بعلم ، وقال : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، وقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية . وسندل على ثبوت علمه وسائر صفاته في هذه السورة عند قوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر إن شاء الله تعالى . وقرأ الكسائي وقالون عن نافع بإسكان الهاء من : هو وهي ، إذا كان قبلها فاء أو واو أو لام أو ثم ، وكذلك فعل أبو عمرو إلا مع ثم . وزاد أبو عون عن الحلواني عن قالون إسكان الهاء من " أن يمل هو " والباقون بالتحريك .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:29
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أي: خلق لكم, برا بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة, لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث, فإن [تحريمها أيضا] يؤخذ من فحوى الآية, ومعرفة المقصود منها, وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا. وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { اسْتَوَى } ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف، فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } وتارة تكون بمعنى \" علا \" و \" ارتفع \" وذلك إذا عديت بـ \" على \" كما في قوله تعالى: { ثم استوى على العرش } { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وتارة تكون بمعنى \" قصد \" كما إذا عديت بـ \" إلى \" كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات { فسواهن سبع سماوات } فخلقها وأحكمها, وأتقنها, { وهو بكل شيء عليم } فـ { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها } و { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } يعلم السر وأخفى. وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } لأن خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.
Arabic Saddi Tafseer
2:29
قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} لكي تعتبروا وتستدلوا وقيل: لكي تنتفعوا.{ثم استوى إلى السماء} قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: "أي ارتفع إلى السماء".وقال ابن كيسان والفراء وجماعة من النحويين: "أي أقبل على خلق السماء". وقيل: قصد لأنه خلق الأرض أولاً ثم عمد إلى خلق السماء.{فسواهن سبع سماوات} خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدع.{وهو بكل شيء عليم} قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون و(هو) و(هي) بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام، زاد الكسائي وقالون: (ثم هو)، وقالون {أن يمل هو} [282-البقرة].
Arabic Baghawy Tafseer
2:29
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم فقال تعالى "وإذ قال ربك للملائكة" أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ هاهنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك ورده ابن جرير قال القرطبي وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة "إني جاعل في الأرض خليفة" أي قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل كما قال تعالى "هو الذي جعلكم خلائف الأرض" وقال "ويجعلكم خلفاء الأرض" وقال "ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون" وقال "فخلف من بعدهم خلف" وقرئ في الشاذ "إني جاعل في الأرض خليفة" حكاها الزمخشري وغيره ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير حكاه الرازي في تفسيره وغيره والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء" فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم قاله القرطبي أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وههنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا قال قتادة وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شيء من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال "إني أعلم ما لا تعلمون" أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام "يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" فقولهم أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" وقيل معنى قوله جوابا لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها وقيل إنه جواب "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فقال "إني أعلم ما لا تعلمون" أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل تضمن قولهم "أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم فقال الله تعالى لهم "إني أعلم ما لا تعلمون" من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة والله أعلم. "ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه" قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل هذا ومعناه أنه أخبرهم بذلك وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم رواه ابن أبي حاتم وقال وروي عن قتادة نحوه وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم في الأرض قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن عطاء بن السائب عن عبدالرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "دحيت الأرض من مكة وأول من طاف بالبيت الملائكة فقال الله إني جاعل في الأرض خليفة يعني مكة" وهذا مرسل وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة والله أعلم فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك خليفة قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير: وإنما معنى الخلافة التي ذكرها إنما هي خلافة قرن منهم قرنا. قال: والخليفة الفعلية من قولك خلف فلان فلانا في هذا الأثر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفا قال: وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة" يقول ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها خلفا ليس منكم: قال ابن حرير: وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا قال فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها فلذلك قال "إني جاعل في الأرض خليفة" وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: قال الله للملائكة إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس للّه عز وجل خلق إلا الملائكة والأرض وليس فيها خلق. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك وتقدم آنفا ما رواه الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا على بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور فقال الله للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة - إلى قوله - أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فكفر قوم من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم وكان الفساد في الأرض فمن ثم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة أخبرنا الحسن قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه. فقالوا بالعلم الذي علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون قال الحسن إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله "أتجعل فيها من يفسد فيها" كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خليفة أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك وكان هاروت وماروت من أعوانه وكان له كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه فلما قال تعالى "إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قالا ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب وفيه نكارة توجب رده والله أعلم ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضا بحيث قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبدالله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول إن الملائكة الذين قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" كانوا عشرة الآف فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله والله أعلم. قال ابن جريج إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. قال ابن جرير: وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم فأجابهم ربهم "إني أعلم ما لا تعلمون" يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا. قال: وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب خبرنا- مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" قال استشار الملائكة في خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء - وقد علمت الملائكة أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال إني أعلم ما لا تعلمون. فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى "ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" وقوله تعالى "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال: يقولون نصلي لك. وقال مجاهد: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: نعظمك ونكبرك. فقال الضحاك: التقديس التطهير. وقال محمد بن إسحق: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير: التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له: وكذلك للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا "ونحن نسبح بحمدك" ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك "ونقدس لك" ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال "ما اصطكى الله لملائكته سبحان الله وبحمده" وروى البيهقي عن عبدالرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا "سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى" "قال إني أعلم ما لا تعلمون" قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى قال "إني أعلم ما لا تعلمون" وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟ فيه خلاف فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد وهو عبدالرحمن بن عوف ومعقود له وهو عثمان واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين في هذا نظر والله أعلم. ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" وهل له أن يعزل نفسه فيه خلاف وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك: فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام "من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان" وهذا قول الجمهور وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم إمام الحرمين. وقالت الكرامية: يجوز اثنين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة. قالوا: وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف. وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما وتردد إمام الحرمين في ذلك قلت وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطمين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
ابن كثير
2:30
واذكر -أيها الرسول- للناس حين قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها. قالت: يا ربَّنا علِّمْنا وأَرْشِدْنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أنَّ من شأنهم الإفساد في الأرض واراقة الدماء ظلما وعدوانًا ونحن طوع أمرك، ننزِّهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ونمجِّدك بكل صفات الكمال والجلال؟ قال الله لهم: إني أعلم ما لا تعلمون من الحكمة البالغة في خلقهم.
المیسر
2:30
عَطَفَتْ الواو قصة خلق أول البشر على قصة خلق السماوات والأرض انتقالاً بهم في الاستدلال على أن الله واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصاً من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها ، ليُجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف حوادث تكوين العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما عَلِمَه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يُباهون به العربَ وهو ما في سفر التكوين من التوراة .واعلم أن موقع الدليل بخلق آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل إنسان إذا لَفَتَ ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة الأبناء عن الآباء فيوقن أن لهذا النوع أصلاً أولَ ينتهي إليه نشوءه ، وإذ قد كانت العبرة بخلق ما في الأرض جميعاً أُدْمِجت فيها منة وهي قوله : { لكم } [ البقرة : 29 ] المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تَهَيَّأتْ أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس الذين خُلقت الأرض لأجلهم ليُحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومِنَّة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض ، فكان خَلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا ، فكانت المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكر خبره العجيب ، فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها .و ( إذ ) من أسماء الزمان المبهمَة تدل على زمان نسبة ماضية وقعتْ فيه نسبةٌ أخرى ماضية قارنتها ، ف ( إذْ ) تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف ، وجملة تبين الظرف ما هو ، لأن ( إذ ) لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة ، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبداً ، والأكثر في الكلام أن تكون إذ في محل ظرف لزَمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه ، وقد تخرج ( إذ ) عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» وهو مختار ابن هشام خلافاً لظاهركلام الجمهور ، فهي تصير ظرفاً مبهماً متصرفاً ، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذٍ وساعتئذٍ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافةِ هي إليها ، وذلك أن ( إذ ) ملازمة للإضافة فإذا حذفت جملتها عَلِم السامع أن هنالك حذفاً ، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير ( إذ ) خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذْ قرينة على إضافةٍ وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف .وهي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفاً وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله : { قالوا } وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قولَ الملائكة وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله : { كيف تكفرون } [ البقرة : 28 ] الآيات ، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } [ البقرة : 34 ] إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقاً بمدخولها ، ولأن الأظهر أن قوله : { قالوا } حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه . فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] أي خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لِما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونِه لأجلنا يهيىء السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خُلق لأجلنا من سماء وأرض ، وتكون ( إذ ) على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وأنشد قول الأسود بن يعفر :فإذْ وذلك لامهاهَ لذكره ... والدهرُ يُعقِب صالحاً بفساد( هكذا رواه فإذْ على أن يكون في البيت زحاف الطي ، وفي رواية فإذا فلا زحاف ، والمهاه بهاءين الحُسْن ولا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف ) ، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى ، ألا ترى أنها ذكرت أيضاً في قوله تعالى : { وإذْ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ولم تذكر فيما بينهما وتكون ( إذْ ) اسم زمان مفعولاً به بتقدير اذكر ، ونظيره كثير في القرآن ، والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال . وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها .وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو المعبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة ، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم " اشتكت النار إلى ربها " وقوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وقول أبي النجم : «إذ قالت الآطال للبطن الحق» ، ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين .والملائكة جمع ملك وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة ، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضاً قال تعالى :{ ويجعلون لله البنات سبحانه } [ النحل : 57 ] فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل ، ومما يدل عليه أيضاً قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره :ولَسْت لإِنْسِيَ ولكِنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يُصَوِّبثم قالوا ملك تخفيفاً .وقد اختلفوا في اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل ومنه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكني إليه أي كن رسولي إليه وأصل ألكني ألإكني وإن لم يعرف له فعل . وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في الحديث : «ثم يرسل إليه ( أي للجنين في بطن أمه ) الملك فينفخ فيه الروح» ، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول ، وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل وأصله مأْلك من الألوك والأَلوكة وهي الرسالة ويقال مأْلَكُ ومأْلَُكة ( بفتح اللام وضمها ) فقلبوا فيه قلباً مكانياً فقالوا ملأَك فهو صفة مشبهة . وقال ابن كيسان هو مشتق من الملك ( بفتح الميم وسكون اللام ) والملك بمعنى القوة قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } [ التحريم : 6 ] والهمزة مزيدة فوزنه فعْأَل بسكون العين وفتح الهمزة كشَمْأَل ، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة ، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل ، فرجح مذهب أبي عبيدة ، ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للمَلَك عند العرب يريد أنهم عَرَّبوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت المَلَك مَلاَكاً بالتخفيف ، وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى .والملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضىء إذا اتصلت بالعالم الأرضي وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضُهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة . وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين ، فالخواطر الخيرية من توجهات الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر .والخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلاً عنه في عمل يعمله ، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعَلاَّمة . والمراد من الخليفة هنا إما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملاً يريده المستخلِف مثل الوكيل والوصي ، أي جاعل في الأرض مدبراً يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حَالاً في الأرض ولا عاملاً فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض ، ولأن الله تعالى لم يترك عملاً كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل لله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلافَ غيره من الحيوان ، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبلُ بطائفة من المخلوقات يسمَّون الحِن والبِن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول ، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني وقيل اسمهم الطَّم والرَّم بفتح أولهما ، وأحسبه من المزاعم ، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس : هيَّان بن بَيَّان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف .ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطَّم والرَّم كان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التِيتَان وأن زفس وهو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم . وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جَعْلَ الخليفة دليل على أن جعْل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوف مستقِراً في المكان من قبل ، فالخليفة آدم وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي ، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسَن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم ، فكانت الآية من هذا الوجه إيماءً إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك ، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والمُلْك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [ النساء : 64 ] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، من جُفاة الأعراب ودُعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سُدًى .وللخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه والكلام ، وستجيء مناسبتها في آيات آتية .والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر ، فيكون المراد بالمخبَر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتاباً بحضرة جليس إني مرسل كتاباً إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان ، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم ، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله : { جاعل } للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتاً لآدم ساعتئذٍ .وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما عَلِم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس ، وليكون كالاستشارة لهم تكريماً لهم فيكونُ تعليماً في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليَسُنَّ الاستشارة في الأمور ، ولتنبيه الملائكة على ما دقَّ وخفي من حكمة خلق آدم كذا ذكر المفسرون .وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكونَ حقيقةً مقارنةً في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموساً أُشْرِبَتْه نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء مَّا ، تؤثر تآلُفاً بين ذلك الكائن وبين المقارن . ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعاً لذوات مَقامَ أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئاً أي إنشاءَ ذاتتٍ أن يقول له كن فيكون ، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات ، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قَبول العلم من خصائص الإنسان علَّم آدم الأسماء عندما خلقه .وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضاً للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل ، ولهذا أيضاً طَلبت منا الشريعة تخيُّر أكمل الحالات وأفضللِ الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب ، وتقدم هذا في الكلام على البسملة ، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } في سورة آل عمران ( 159 ) .وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبىء عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض ، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) ، ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبيء محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطَبة .{ قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } .هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم : { إني جاعل في الأرض خليفة } فالتقدير فقالوا على وزان قوله :{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } [ البقرة : 34 ] وفُصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جرياً به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير :قيل لهم ألا اركبوا ألاتا ... قالوا جميعاً كلهم آلافاأي فاركبوا ولم يقل فقالوا . وقال رؤبة بن العجاج :قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيراً مُعدماً قالت وإنوإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل ، وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي .ومما عطف بالفاء قوله تعالى : { فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } فقال الملأ في سورة المؤمنين ( 23 ، 24 ) وقد يعطف بالواو أيضاً كما في قوله : { فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون وقال الملأ من قومه } الخ في سورة المؤمنون ( 32 ، 33 ) وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية ممّا جرى في أوقات متفرّقة أو أمكنة متفرّقة . ويظهر ذلك لك في قوله تعالى : { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } [ غافر : 25 ] إلى قوله : { وقال فرعون ذروني أقتل موسى } ( 26 ) ثم قال تعالى : { وقال موسى إني عذت بربي وربكم } ( 27 ) ثم قال : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون } ( 28 ) الآية في سورة غافر ، وليس قوله : قالوا أتجعل } جواباً لإذ عاملاً فيها لما قدمناه آنفاً من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم : { أتجعل فيها } هو المقصود من القصة وأن تصير جملة ( إذ ) تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف .والاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم واستبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافاً لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب ، والذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحاً وفي الحديث : « المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم » يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصحية .وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره .وعُطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به . وتكرير ضمير ( الأرض ) للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار .والإفساد تقدم في قوله تعالى : { ألا إنهم هم المفسدون } [ البقرة : 12 ] .والسفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء . وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده ، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب وعن الامتثال إلى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة ، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار خلاف الواقع وترويج الباطل ، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضاً صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فيحصل فعل مختلط من صالح وسيء ، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة ، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات ، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات ، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة ، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة؟وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله ، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت ، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة . وبه أيضاً تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر ، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة ، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد ، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان .وأوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله : { من يفسد } { ويسفك } لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر .وقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد ، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى : { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله } [ محمد : 22 ، 23 ] وقال : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنَّسْل واللَّهُ لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] .ولا يَرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مَشُورة ونحوها كالخِطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشارِ في شأنه من النقائص ، ورجحاننِ تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحدٍ بما يَكْره ، ولأن الموصوف بذلك غيرُ معين إذ الحكم على النوع ، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة .و { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .الواو متعينة للحالية إذ لا موقع للعطف هنا وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكياً عنهم لكن الواو من المَحْكِي وليست من الحكاية لأن قولهم { ونحن نسبح بحمدك } يحتْمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى واتهامَ عِلمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسَدُّ منه رأياً وأرجح عقلاً فيشير ثم يفوّض كما قال أهل مشورة بِلْقِيس إذ قالت : { أَفْتُوني في أمري ما كنتُ قاطعة أمراً حتى تشهدون قالوا نحن أُولُوا قوة وأُولُوا بأسسٍ شديد أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله { وأُتُوني مسلمين } [ النمل : 31 ] والأمرُ إليك { فانظري ماذا تَأْمُرين } [ النمل : 32 ، 33 ] ، وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مَبْلغ علمه ، وأن القول الفصل للأستاذ ، أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفى عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم ، وبراءةٌ من شائبة الاعتراض ، والله تعالى وإن كان يعلم براءَتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير ، أو لأنَّ في نفس هذا التصريح تبركاً وعبادة ، أو إعْلاَن لأهل الملإ الأعلى بذلك .فإذا كان كذلك كان العطف غير جائز لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى :{ وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] على أحد الوجوه في عطف جملة { نعم الوَكيل } عند من لا يَرَوْن صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حُسن الكلام ، فلذلك لم يكن حظ للعطف ، ألا ترى أنهم إذا حَكَوا حادثاً مُلِمًّا أو مُصاباً جَمًّا أعقبوه بنحو حسبنا الله ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك ولا يعطفون مثل ذلك فكانت الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم : { أتجعل فيها من يفسد } وليس شيئاً خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب .الاحتمال الثاني : أن يكون الغرض من قولهم { ونحن نسبح بحمدك } التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة { من يفسد فيها } دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالاً مقررة لمدلول جملة { أتجعل فيها من يفسد } تكملة للاستغراب ، وعاملها هو { تجعل } وهذا الذي أشار إليه تمثيل «الكشاف» . والعامل في الحال هو الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضاً إذ تقدير { أتجعل فيها } الخ نتعجب من جعله خليفة .والتسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه ولذلك سمى ذكر الله تسبيحاً ، والصلاة سبحة ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه إذ أطلق مجازاً على مر النجوم في السماء قال تعالى : { وكل في فلك يسبحون } [ يس : 40 ] وعلى جري الفرس قالوا فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى ، وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نَسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففاً غير مضاعف بمعنى نزه ، ذكره في «القاموس» .وعندي أن كون التسبيح مأخوذاً من السبح على وجه المجاز بعيد والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان ولهذا التزموا في هذا أن يكون لوزن فعّل المضاعف فلم يسمع مخففاً .وإذا كان التسبيح كما قلنا هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله { بحمدك } به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه فالباء للملابسة أي نسبح تسبيحاً مصحوباً بالحمد لك وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا .والتقديس التنزيه والتطهير وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرىء القيس يصف تعلق الكلاب بالثور الوحشي :فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدسوإما بالاعتقاد كما في الحديث : « لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها » أي لا نزهها الله تعالى وطهرها من الأرجاس الشيطانية .وفعل قدس يتعدى بنفسه فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك ونصحت لك وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلباً يلهث من العطش « فأخذ خفه فأدلاه في الركية فسقاه فشكر الله له » أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من أنه عن عمل حسنة مع دابة فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام وهذا من أفصح الكلام ، فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله : { لك } متعلقاً بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول { نسبح } أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك فذلك عدول عن فصيح الكلام ، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله تعالى : { واشكروا لي ولا تكفرون } [ البقرة : 152 ] .فمعنى { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } نحن نعظمك وننزهك والأول بالقول والعمل والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية ، فلا يتوهم التكرار بين ( نسبح ) و ( نقدس ) .وأوثرت الجملة الاسمية في قوله : { ونحن نسبح } لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم ، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل .{ قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .جواب لكلامهم فهو جار على أسلوب المقاولة في المحاورات كما تقدم ، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد .واعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب واطلاعاً على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك . كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن . وهذا إجمال في التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالاً أن لذلك حكمة ومن المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد { ما لا تعلمون } لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم . وقد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالاً للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة ، وتأكيد الجملة بأن لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين .
Arabic Tanweer Tafseer
2:30
في هذه الآيات الكريمة عطف - سبحانه - قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .وإذ وإذا ظرفان للزمان ، الأول للماضي والثاني للمستقبل ، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد الماضي كقوله :( وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ . . . ) وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله : ( إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح ) وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام .والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحاً به في آيات أخرى كما قال تعالى :( واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) والملائكة جمع ملك . والتاء لتأنيث الجمع ، وأصله ملأك ، من ملك ، نحو شمال من شمل ، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك ، وقيل : إن ملاك من لأك إذا أرسل ، ومنه الألوكة ، أي : الرسالة .والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم ( يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ ) وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ( وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة . قال تعالى :( جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً ) وقال تعالى : ( الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس ) وقال - تعالى - ( يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ) و ( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض ، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل .وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة .ثم حكى - سبحانه - إجابة الملائكة فقال :( قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) .الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .والسفك : الصب والإِهراق ، يقال : سفكت الدم والدمع سفكاً - من باب ضرب - صببته . والفاعل سافك وسفاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .والتقديس : التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال .فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية .والمعنى : أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .وقولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ ) إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا .والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه .قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله - تعالى - ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء ) أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟وقد رد الله - تعالى - على الملائكة بقوله : ( قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) .أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله .فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق - عز وجل - وتنبيه إلى أنه - تعالى - عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء ،وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلو على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .
Arabic Waseet Tafseer
2:30
وإذ قال ربكالقول في تأويل قوله تعالى : { وإذ قال ربك } قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة أن تأويل قوله : { وإذ قال ربك } وقال ربك , وأن " إذ " من الحروف الزوائد , وأن معناها الحذف . واعتل لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر : فإذا وذلك لامهاه لذكره والدهر يعقب صالحا بفساد ثم قال : ومعناها : وذلك لامهاه لذكره . وببيت عبد مناف بن ربع الهذلي : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا وقال : معناه : حتى أسلكوهم . قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال ; وذلك أن " إذ " حرف يأتي بمعنى الجزاء , ويدل على مجهول من الوقت , وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام . إذ سواء قيل قائل هو بمعنى التطول , وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم . وقيل آخر في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به وهو بمعنى التطول . وليس لمدعي الذي وصفنا قوله في بيت الأسود بن يعفر , أن " إذا " بمعنى التطول وجه مفهوم ; بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله : فإذا وذلك لامهاه لذكره وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه , وما مضى من عيشنا . وأشار بقوله ذلك إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه لامهاه لذكره , يعني لا طعم له ولا فضل , لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد . وكذلك معنى قول عبد مناف بن ربع : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا . . ................ لو أسقط منه " إذا " بطل معنى الكلام ; لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا . فدل قوله : " وأسلكوهم شلا " على معنى المحذوف , فاستغني عن ذكره بدلالة " إذا " عليه , فحذف . كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك , وكما قال النمر بن تولب : فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما وهو يريد : أينما ذهب . وكما تقول العرب : أتيتك من قبل ومن بعد ; تريد : من قبل ذلك ومن بعد ذلك . فكذلك ذلك في " إذا " كما يقول القائل : إذا أكرمك أخوك فأكرمه وإذا لا فلا ; يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه . ومن ذلك قول الآخر : فإذا وذلك لا يضرك ضره في يوم أسأل نائلا أو أنكد نظير ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر . وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : { وإذ قال ربك للملائكة } لو أبطلت " إذ " وحذفت من الكلام , لاستحال عن معناه الذي هو به وفيه " إذ " . فإن قال قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب ل " إذ " , إذ لم يكن في الكلام قبله ما يعطف به عليه ؟ قيل له : قد ذكرنا فيما مضى أن الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } بهذه الآيات والتي بعدها موبخهم مقبحا إليهم سوء فعالهم ومقامهم على ضلالهم مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم , ومذكرهم بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم بأسه أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصية الله , فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته ; ومعرفهم ما كان منه من تعطفه على التائب منهم استعتابا منه لهم . فكان مما عدد من نعمه عليهم , أنه خلق لهم ما في الأرض جميعا , وسخر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع , فكان في قوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم , إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئا , وخلقت لكم ما في الأرض جميعا , وسويت لكم ما في السماء . ثم عطف بقوله : { وإذ قال ربك للملائكة } على المعنى المقتضى بقوله : { كيف تكفرون بالله } إذ كان مقتضيا ما وصفت من قوله : اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلت , واذكروا فعلي بأبيكم آدم , إذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم , أكثر من أن يحصى , من ذلك قول الشاعر : أجدك لن ترى بثعيلبات ولا بيدان ناجية ذمولا ولا متدارك والشمس طفل ببعض نواشغ الوادي حمولا فقال : ولا متدارك , ولم يتقدمه فعل بلفظ يعطف عليه , ولا حرف معرب إعرابه فيرد " متدارك " عليه في إعرابه . ولكنه لما تقدمه فعل مجحود ب " لن " يدل على المعنى المطلوب في الكلام وعلى المحذوف , استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حذف , وعامل الكلام في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرا . لأن قوله : أجدك لن ترى بثعيلبات بمعنى : أجدك لست براء , فرد " متداركا " على موضع " ترى " كأن " لست " والباء موجودتان في الكلام , فكذلك قوله : { وإذ قال ربك } لما سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قبلهم وقبل آبائهم من أياديه وآلائه , وكان قوله : { وإذ قال ربك للملائكة } مع ما بعده من النعم التي عددها عليهم ونبههم على مواقعها , رد " إذ " على موضع : { وكنتم أمواتا فأحياكم } لأن معنى ذلك : اذكروا هذه من نعمي , وهذه التي قلت فيها للملائكة . فلما كانت الأولى مقتضية " إذ " عطف ب " إذ " على موضعها في الأولى كما وصفنا من قول الشاعر في " ولا متدارك " .للملائكةالقول في تأويل قوله تعالى : { للملائكة } قال أبو جعفر : والملائكة جمع ملك , غير أن واحدهم بغير الهمز أكثر وأشهر في كلام العرب منه بالهمز , وذلك أنهم يقولون في واحدهم ملك من الملائكة , فيحذفون الهمز منه , ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو همز الاسم . وإنما يحركونها بالفتح , لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها , فإذا جمعوا واحدهم ردوا الجمع إلى الأصل وهمزوا , فقالوا : ملائكة . وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها , فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة فيجري كلامهم بترك همزها في حال , وبهمزها في أخرى , كقولهم : رأيت فلانا , فجرى كلامهم بهمز رأيت , ثم قالوا : نرى وترى ويرى , فجرى كلامهم في يفعل ونظائرها بترك الهمز , حتى صار الهمز معها شاذا مع كون الهمز فيها أصلا . فكذلك ذلك في ملك وملائكة , جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم , وبالهمز في جميعهم . وربما جاء الواحد مهموزا كما قال الشاعر : فلست لإنسي ولكن لملأك تحدر من جو السماء يصوب وقد يقال في واحدهم : مألك , فيكون ذلك مثل قولهم : جبذ وجذب , وشأمل وشمأل , وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة . غير أن الذي يجب إذا سمي واحدهم مألك , أن يجمع إذ جمع على ذلك : مالك , ولست أحفظ جمعهم كذلك سماعا , ولكنهم قد يجمعون ملائك وملائكة , كما يجمع أشعث : أشاعث وأشاعثة , ومسمع : مسامع ومسامعة . قال أمية بن أبي الصلت في جمعهم كذلك : وفيها من عباد الله قوم ملائك ذللوا وهم صعاب وأصل الملأك : الرسالة , كما قال عدي بن زيد العبادي أبلغ النعمان عني ملأكا أنه قد طال حبسي وانتظاري وقد ينشد " مألكا " على اللغة الأخرى , فمن قال : ملأكا , فهو مفعل من لأك إليه يلأك : إذا أرسل إليه رسالة ملأكة . ومن قال : مألكا , فهو مفعل من ألكت إليه آلك : إذا أرسلت إليه مألكة وألوكا , كما قال لبيد بن ربيعة : وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل فهذا من ألكت . ومنه قول نابغة بني ذبيان : ألكني يا عيين إليك قولا ستهديه الرواة إليك عني وقال عبد بني الحسحاس : ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا يعني بذلك : أبلغها رسالتي . فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة , لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده .إني جاعل في الأرضالقول في تأويل قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض } اختلف أهل التأويل في قوله : { إني جاعل } , فقال بعضهم : إني فاعل . ذكر من قال ذلك : 500 - حدثنا القاسم بن الحسن , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن جرير بن حازم , ومبارك عن الحسن , وأبي بكر , يعني الهذلي عن الحسن وقتادة , قالوا : قال الله للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } قال لهم : إني فاعل . وقال آخرون : إني خالق . ذكر من قال ذلك : 501 - حدثت عن المنجاب بن الحارث قال : حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق , قال : كل شيء في القرآن " جعل " فهو خلق . قال أبو جعفر : والصواب في تأويل قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } أي مستخلف في الأرض خليفة ومصير فيها خلفا , وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة . وقيل إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي مكة . ذكر من قال ذلك : 502 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا جرير , عن عطاء , عن ابن سابط أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دحيت الأرض من مكة . وكانت الملائكة تطوف بالبيت , فهي أول من طاف به , وهي الأرض التي قال الله : { إني جاعل في الأرض خليفة } , وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتى هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا , فإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام "خليفةالقول في تأويل قوله تعالى : { خليفة } والخليفة الفعيلة , من قولك : خلف فلان فلانا في هذا الأمر إذا قام مقامه فيه بعده , كما قال جل ثناؤه : { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } 10 14 يعني بذلك : أنه أبدلكم في الأرض منهم فجعلكم خلفاء بعدهم ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة , لأنه خلف الذي كان قبله , فقام بالأمر مقامه , فكان منه خلفا , يقال منه : خلف الخليفة يخلف خلافة وخليفا , وكان ابن إسحاق يقول بما : 503 - حدثنا به ابن حميد , قال : حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق : { إني جاعل في الأرض خليفة } يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم . وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها , وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يسكنها , ولكن معناها ما وصفت قبل . فإن قال لنا قائل : فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرا فكان بنو آدم بدلا منه وفيها منه خلفا ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك . 504 - فحدثنا أبو كريب , قال : حدثنا عثمان بن سعيد , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : أول من سكن الأرض الجن , فأفسدوا فيها , وسفكوا فيها الدماء , وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة , فقتلهم إبليس ومن معه , حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ; ثم خلق آدم فأسكنه إياها , فلذلك قال : { إني جاعل في الأرض خليفة } . فعلى هذا القول إني جاعل في الأرض خليفة من الجن يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها . 505 - وحدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق , قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع بن أنس في قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } الآية , قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء , وخلق الجن يوم الخميس , وخلق آدم يوم الجمعة , فكفر قوم من الجن , فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم , فكانت الدماء وكان الفساد في الأرض . وقال آخرون في تأويل قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } أي خلفا يخلف بعضهم بعضا , وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم , ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله . وهذا قول حكي عن الحسن البصري , ونظير له ما : 506 - حدثني به محمد بن بشار , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب , عن ابن سابط في قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } قال : يعنون به بني آدم . 507 - وحدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا , وأجعل فيها خليفة , وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة والأرض ليس فيها خلق . وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن , ويحتمل أن يكون أراد ابن زيد أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة له , يحكم فيها بين خلقه بحكمه , نظير ما : 508 - حدثني به موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله جل ثناؤه قال للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي , وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه . وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه , ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله ; لأنهما أخبرا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته إذ سألوه : ما ذاك الخليفة : إنه خليفة يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذرية خليفته دونه وأخرج منه خليفته . وهذا التأويل وإن كان مخالفا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه , فموافق له من وجه . فأما موافقته إياه فصرف متأوليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة . وأما مخالفته إياها فإضافتهما الخلافة إلى آدم بمعنى استخلاف الله إياه فيها , وإضافة الحسن الخلافة إلى ولده بمعنى خلافة بعضهم بعضا , وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم , وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة . والذي دعا المتأولين قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } في التأويل الذي ذكر عن الحسن إلى ما قالوا في ذلك أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها إذ قال لهم ربهم : { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } إخبارا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا غيره ; لأن المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنه جرت . قالوا : فإذا كان ذلك كذلك , وكان الله قد برأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء وطهره من ذلك , علم أن الذي عنى به غيره من ذريته , فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غير آدم , وأنهم ولده الذين فعلوا ذلك , وأن معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا غيرهم لما وصفنا . وأغفل قائلو هذه المقالة ومتأولو الآية هذا التأويل سبيل التأويل , وذلك أن الملائكة إذ قال لها ربها : { إني جاعل في الأرض خليفة } لم تضف الإفساد وسفك الدماء في جوابها ربها إلى خليفته في أرضه , بل قالت : { أتجعل فيها من يفسد فيها } , وغير منكر أن يكون ربها أعلمها أنه يكون لخليفته ذلك ذرية يكون منهم الإفساد وسفك الدماء , فقالت : يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ كما قال ابن مسعود وابن عباس , ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل .قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماءالقول في تأويل قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ولم يكن آدم بعد مخلوقا ولا ذريته , فيعلموا ما يفعلون عيانا ؟ أعلمت الغيب فقالت ذلك , أم قالت ما قالت من ذلك ظنا , فذلك شهادة منها بالظن وقول بما لا تعلم , وذلك ليس من صفتها , فما وجه قيلها ذلك لربها ؟ قيل : قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا ; ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك , ثم مخبرون بأصحها برهانا وأوضحها حجة . فروي عن ابن عباس في ذلك ما : 509 - حدثنا به أبو كريب , قال : حدثنا عثمان بن سعيد , قال : حدثنا بشر بن عمارة , عن أبي روق , عن الضحاك , عن ابن عباس , قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة , يقال لهم " الحن " خلقوا من نار السموم من بين الملائكة , قال : وكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزان الجنة . قال : وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي . قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار , وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذ ألهبت . قال : وخلق الإنسان من طين , فأول من سكن الأرض الجن , فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء , وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة , وهم هذا الحي الذين يقال لهم " الحن " فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه , وقال : قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد . قال : فاطلع الله على ذلك من قلبه , ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه ; فقال الله للملائكة الذين معه : { إني جاعل في الأرض خليفة } فقالت الملائكة مجيبين له : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما أفسدت الجن وسفكت الدماء ؟ وإنما بعثنا عليهم لذلك . فقال : { إني أعلم ما لا تعلمون } يقول : إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره , قال : ثم أمر بتربة آدم فرفعت , فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب : اللزج الصلب من حمأ مسنون - منتن . قال : وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب . قال : فخلق منه آدم بيده . قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى , فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل - أي فيصوت - قال : فهو قول الله : { من صلصال كالفخار } 55 14 يقول : كالشيء المنفوخ الذي ليس بمصمت , قال : ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره , ويدخل من دبره ويخرج من فيه , ثم يقول : لست شيئا ! للصلصلة , ولشيء ما خلقت ! لئن سلطت عليك لأهلكنك , ولئن سلطت علي لأعصينك . قال : فلما نفخ الله فيه من روحه , أتت النفخة من قبل رأسه , فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحما ودما . فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده , فأعجبه ما رأى من حسنه , فذهب لينهض فلم يقدر , فهو قول الله : { وكان الإنسان عجولا } 17 11 قال : ضجرا لا صبر له على سراء ولا ضراء . قال : فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال : الحمد لله رب العالمين , بإلهام من الله تعالى . فقال الله له : يرحمك الله يا آدم . قال : ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات : اسجدوا لآدم ! فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث به نفسه من كبره واغتراره , فقال : لا أسجد له وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا , خلقتني من نار وخلقته من طين . يقول : إن النار أقوى من الطين . قال : فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله , وآيسه من الخير كله , وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته , ثم علم آدم الأسماء كلها , وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار , وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة , يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم , وقال لهم : { أنبئوني بأسماء هؤلاء } يقول : أخبروني بأسماء هؤلاء { إن كنتم صادقين } إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة . قال : فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم , قالوا : سبحانك ! تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره , تبنا إليك لا علم لنا إلا ما علمتنا ! تبريا منهم من علم الغيب , إلا ما علمتنا كما علمت آدم . فقال : { يا آدم أنبئهم بأسمائهم } يقول : أخبرهم بأسمائهم { فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم } أيها الملائكة خاصة { إني أعلم غيب السموات والأرض } ولا يعلمه غيري { وأعلم ما تبدون } يقول : ما تظهرون { وما كنتم تكتمون } يقول : أعلم السر كما أعلم العلانية , يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار . وهذه الرواية عن ابن عباس تنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرص خليفة } خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع , وأن الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصة , الذين قاتلوا معه جن الأرض قبل خلق آدم . وأن الله إنما خصهم بقيل ذلك امتحانا منه لهم وابتلاء ليعرفهم قصور علمهم وفضل كثير ممن هو أضعف خلقا منهم من خلقه عليهم , وأن كرامته لا تنال بقوى الأبدان وشدة الأجسام كما ظنه إبليس عدو الله . ويصرح بأن قيلهم لربهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كانت هفوة منهم ورجما بالغيب , وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك , ووقفهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رجم الغيب بالظنون , وتبرءوا إليه أن يعلم الغيب غيره , وأظهر لهم من إبليس ما كان منطويا عليه من الكبر الذي قد كان عنهم مستخفيا . وقد روي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية , وهو ما : 510 - حدثني به موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس , وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما فرغ الله من خلق ما أحب , استوى على العرش فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا , وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن ; وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة . وكان إبليس مع ملكه خازنا , فوقع في صدره كبر وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي - هكذا قال موسى بن هارون , وقد حدثني به غيره وقال : لمزية لي على الملائكة - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه , اطلع الله على ذلك منه فقال الله للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا { قالوا } ربنا { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } يعني من شأن إبليس . فبعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها , فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني ! فرجع ولم يأخذ وقال : رب إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث الله ميكائيل , فعاذت منه فأعاذها , فرجع فقال كما قال جبريل . فبعث ملك الموت , فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره . فأخذ من وجه الأرض وخلط , فلم يأخذ من مكان واحد , وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء ; فلذلك خرج بنو آدم مختلفين , فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا - واللازب : هو الذي يلتزق بعضه ببعض - ثم ترك حتى أنتن وتغير , وذلك حين يقول : { من حمأ مسنون } 15 28 قال : منتن , ثم قال للملائكة { إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } 38 71 : 72 فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عليه ليقول له : تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه ؟ فخلقه بشرا , فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة . فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه , وكان أشدهم منه فزعا إبليس , فكان يمر فيضربه , فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة , فذلك حين يقول : { من صلصال كالفخار } 55 14 ويقول لأمر ما خلقت ! ودخل فيه فخرج من دبره , فقال للملائكة : لا ترهبوا من هذا , فإن ربكم صمد وهذا أجوف , لئن سلطت عليه لأهلكنه ! فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح , قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ! فلما نفخ فيه الروح , فدخل الروح في رأسه عطس , فقالت له الملائكة : قل الحمد لله ! فقال : الحمد لله , فقال له الله : رحمك ربك ! فلما دخل الروح في عينيه , نظر إلى ثمار الجنة , فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام , فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة , فذلك حين يقول : { خلق الإنسان من عجل } 21 37 فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين - أي استكبر وكان من الكافرين - قال الله له : { ما منعك أن تسجد } إذ أمرتك { لما خلقت بيدي قال أنا خير منه } لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين , قال الله له : { اخرج منها فما يكون لك } يعني ما ينبغي لك { أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين } والصغار هو الذل . قال : وعلم آدم الأسماء كلها , ثم عرض الخلق على الملائكة فقال : { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء , فقالوا له : { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } الله : { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } قال : قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } فهذا الذي أبدوا , وأعلم ما كنتم تكتمون , يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر . قال أبو جعفر : فهذا الخبر أوله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل , وموافق معنى آخره معناها ; وذلك أنه ذكر في أوله أن الملائكة سألت ربها : ما ذاك الخليفة ؟ حين قال لها : { إني جاعل في الأرض خليفة } فأجابها أنه تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . فقالت الملائكة حينئذ : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ؟ فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربها بعد إعلام الله إياها أن ذلك كائن من ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض , فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه . وأما موافقته إياه في آخره , فهو قولهم في تأويل قوله : { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء . وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك , تبريا من علم الغيب : { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } . وهذا إذا تدبره ذو الفهم , علم أن أوله يفسد آخره , وأن آخره يبطل معنى أوله ; وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء , فقالت الملائكة لربها : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء بمثل الذي أخبرها عنهم ربها , فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور , فأخبرتم به , فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه , كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه . بل ذلك خلف من التأويل , ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة . وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة , وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العلم بخبري إياكم أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء , حتى استجرتم أن تقولوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فيكون التوبيخ حينئذ واقعا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم : إنه يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء , لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن . وذلك أن الله جل ثناؤه وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرية خليفته في الأرض ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء , فقد كان طوى عنهم الخبر عما يكون من كثير منهم ما يكون من طاعتهم ربهم وإصلاحهم في أرضه وحقن الدماء ورفعه منزلتهم وكرامتهم عليه , فلم يخبرهم بذلك , فقالت الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } على ظن منها على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرت , وظاهرهما أن جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء . فقال الله لهم إذ علم آدم الأسماء كلها : { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } أنكم تعلمون أن جميع بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء على ما ظننتم في أنفسكم , إنكارا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم , وهو من صفة خاص ذرية الخليفة منهم . وهذا الذي ذكرناه هو صفة منا لتأويل الخبر لا القول الذي نختاره في تأويل الآية . ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم , ما : 511 - حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري , قال : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب , عن عبد الرحمن بن سابط , قوله : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } قال : يعنون الناس . وقال آخرون في ذلك بما : 512 - حدثنا به بشر بن معاذ , قال : حدثنا يزيد بن زريع , عن سعيد , عن قتادة قوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فاستخار الملائكة في خلق آدم , فقالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ; { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل , وقوم صالحون , وساكنو الجنة . قال : وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ! فابتلوا بخلق آدم , وكل خلق مبتلى , كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله : { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } 41 11 وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن ; ولكن على الرأي منها والظن , وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها ورد عليها ما رأت بقوله : { إني أعلم ما لا تعلمون } من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسل والمجتهد في طاعة الله . وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل , وهو ما : 513 - حدثنا به الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { أتجعل فيها من يفسد فيها } قال : كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء , فذلك قوله : { أتجعل فيها من يفسد فيها } . وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل , منهم الحسن البصري . 514 - حدثنا القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن جرير بن حازم , ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن الحسن , وقتادة قالا : قال الله لملائكته : { إني جاعل في الأرض خليفة } قال لهم إني فاعل . فعرضوا برأيهم , فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه لا يعلمونه . فقالوا بالعلم الذي علمهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } - وقد كانت الملائكة علمت من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء - { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون } . فلما أخذ في خلق آدم , همست الملائكة فيما بينها , فقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق , فلن يخلق خلقا إلا كنا أعلم منه , وأكرم عليه منه . فلما خلقه ونفخ فيه من روحه , أمرهم أن يسجدوا له لما قالوا , ففضله عليهم , فعلموا أنهم ليسوا بخير منه , فقالوا : إن لم نكن خيرا منه فنحن أعلم منه , لأنا كنا قبله , وخلقت الأمم قبله , فلما أعجبوا بعلمهم ابتلوا { فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } إني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه , فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ! قال : ففزع القوم إلى التوبة - وإليها يفزع كل مؤمن - فقالوا : { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } لقولهم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا . قال : علمه اسم كل شيء , هذه الجبال وهذه البغال , والإبل , والجن , والوحش , وجعل يسمي كل شيء باسمه , وعرضت عليه كل أمة ف { قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } . قال : أما ما أبدوا فقولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } . وأما ما كتموا فقول بعضهم لبعض : نحن خير منه وأعلم . 515 - حدثني المثنى بن إبراهيم , قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج , قال : حدثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه عن الربيع بن أنس في قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } الآية . قال : إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس , وخلق آدم يوم الجمعة . قال : فكفر قوم من الجن , فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم , فكانت الدماء , وكان الفساد في الأرض . فمن ثم قالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } . . . الآية . 516 - وحدثت عن عمار بن الحسن , قال : أخبرنا عبد الله بن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع , بمثله . { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } إلى قوله : { إنك أنت العليم الحكيم } قال : وذلك حين قالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } قال : فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم ! فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدم , وعلم آدم الأسماء كلها , فقال للملائكة : { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } إلى قوله : { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } وكان الذي أبدوا حين { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وكان الذي كتموا بينهم قولهم : لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم . فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم . وقال ابن زيد بما : 517 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : لما خلق الله النار ذعرت منها الملائكة ذعرا شديدا , وقالوا : ربنا لم خلقت هذه النار , ولأي شيء خلقتها ؟ قال : لمن عصاني من خلقي . قال : ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة والأرض , ليس فيها خلق , إنما خلق آدم بعد ذلك . وقرأ قول الله : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } 76 1 قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ليت ذلك الحين . ثم قال : قالت الملائكة : يا رب أو يأتي علينا دهر نعصيك فيه ! لا يرون له خلقا غيرهم . قال : لا , إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليقة يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض . فقالت الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وقد اخترتنا ؟ فاجعلنا نحن فيها فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك ! وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه . فقال : إني أعلم ما لا تعلمون , يا آدم أنبئهم بأسمائهم ! فقال : فلان , وفلان . قال : فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم , أقروا لآدم بالفضل عليهم , وأبى الخبيث إبليس أن يقر له , قال : { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها } . وقال ابن إسحاق بما : 518 - حدثنا به ابن حميد , قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق , قال : لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به , لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه - وكان أول بلاء ابتليت به الملائكة مما لها فيه ما تحب وما تكره للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا وأحاط به علم الله منهم - جمع الملائكة من سكان السموات والأرض , ثم قال : { إني جاعل في الأرض خليفة } يقول : عامر أو ساكن يسكنها ويعمرها خلقا ليس منكم . ثم أخبرهم بعلمه فيهم , فقال : يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي , فقالوا جميعا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } لا نعصي ولا نأتي شيئا كرهته ؟ قال : { إني أعلم ما لا تعلمون } - قال : إني أعلم فيكم ومنكم , ولم يبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم , مما يكون في الأرض , مما ذكرت في بني آدم . قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين } إلى قوله : { فقعوا له ساجدين } 38 69 : 71 فذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم الذي كان من ذكره آدم حين أراد خلقه ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه . فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة : { إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون } 15 28 بيدي تكرمة له , وتعظيما لأمره , وتشريفا له ; حفظت الملائكة عهده , ووعوا قوله , وأجمعوا الطاعة , إلا ما كان من عدو الله إبليس , فإنه صمت على ما كان في نفسه من الحسد والبغي والتكبر والمعصية . وخلق الله آدم من أدمة الأرض , من طين لازب من حمأ مسنون , بيديه تكرمة له وتعظيما لأمره وتشريفا له على سائر خلقه . قال ابن إسحاق : فيقال والله أعلم : خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عاما قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار , ولم تمسه نار . قال : فيقال والله أعلم : إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عطس , فقال : الحمد لله ! فقال له ربه : يرحمك ربك ! ووقع الملائكة حين استوى سجودا له حفظا لعهد الله الذي عهد إليهم , وطاعة لأمره الذي أمرهم به . وقام عدو الله إبليس من بينهم , فلم يسجد مكابرا متعظما بغيا وحسدا , فقال له : { يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } إلى : { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } 38 75 : 85 قال : فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته وأبى إلى المعصية , أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة . ثم أقبل على آدم , وقد علمه الأسماء كلها , فقال : { يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم } أي إنما أجبناك فيما علمتنا , فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به . فكان ما سمى آدم من شيء كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة . وقال ابن جريج بما : 519 - حدثنا به القاسم , قال : حدثنا الحسين , قال : حدثني حجاج عن ابن جريج , قال : إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم , فقالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } . وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم , فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ! فأجابهم ربهم : { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم , ومن بعض من ترونه لي طائعا . يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه وقال بعض أهل العربية : قول الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها } على غير وجه الإنكار منهم على ربهم , وإنما سألوه ليعلموا , وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون . وقال : قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يعصى الله , لأن الجن قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت . وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك , فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ; مسألة استخبار منهم لله لا على وجه مسألة التوبيخ . قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه مخبرا عن ملائكته قيلها له : { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } تأويل من قال : إن ذلك منها استخبار لربها ; بمعنى : أعلمنا يا ربنا , أجاعل أنت في الأرض من هذه صفته وتارك أن تجعل خلفاءك منا , ونحن نسبح بحمدك , ونقدس لك ؟ لا إنكار منها لما أعلمها ربها أنه فاعل , وإن كانت قد استعظمت لما أخبرت بذلك أن يكون لله خلق يعصيه . وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلك فسألته على وجه التعجب , فدعوى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل ولا خبر بها من الحجة يقطع العذر , وغير حائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة . وأما وصف الملائكة من وصفت في استخبارها ربها عنه بالفساد في الأرض وسفك الدماء , فغير مستحيل فيه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السدي ووافقهما عليه قتادة من التأويل . وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا , فقالوا : { أتجعل فيها من يفسد فيها } على ما وصفت من الاستخبار . فإن قال لنا قائل : وما وجه استخبارها والأمر على ما وصفت من أنها قد أخبرت أن ذلك كائن ؟ قيل : وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك , وهل ذلك منهم ؟ ومسألتهم ربهم أن يجعلهم الخلفاء في الأرض حتى لا يعصوه . وغير فاسد أيضا ما رواه الضحاك عن ابن عباس وتابعه عليه الربيع بن أنس من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض قبل آدم من الجن , فقالت لربها : أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون ؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم , لا على وجه الإيجاب أن ذلك كائن كذلك , فيكون ذلك منها إخبارا عما لم تطلع عليه من علم الغيب . وغير خطأ أيضا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيل الملائكة ما قالت من ذلك على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلق يعصي خالقه . وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع بن أنس وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك ; لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطع مجيئه العذر ويلزم سامعه به الحجة . والخبر عما مضى وما قد سلف , لا يدرك علم صحته إلا بمجيئه مجيئا يمتنع منه التشاغب والتواطؤ , ويستحيل منه الكذب والخطأ والسهو . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع , ولا فيما قاله ابن زيد . فأولى التأويلات إذ كان الأمر كذلك بالآية , ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالة مما يصح مخرجه في المفهوم . فإن قال قائل : فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرت من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء , فمن أجل ذلك قالت الملائكة : { أتجعل فيها من يفسد فيها } فأين ذكر إخبار الله إياهم في كتابه بذلك ؟ قيل له : اكتفي بدلالة ما قد ظهر من الكلام عليه عنه , كما قال الشاعر : فلا تدفنوني إن دفني محرم عليكم ولكن خامري أم عامر فحذف قوله دعوني للتي يقال لها عند صيدها خامري أم عامر , إذ كان فيما أظهر من كلامه دلالة على معنى مراده . فكذلك ذلك في قوله : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض اكتفى بدلالته وحذف , فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى . فلما ذكرنا من ذلك اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } .ونحن نسبح بحمدك ونقدس لكالقول في تأويل قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } قال أبو جعفر : أما قوله : { ونحن نسبح بحمدك } فإنه يعني : إنا نعظمك بالحمد لك والشكر , كما قال جل ثناؤه : { فسبح بحمد ربك } 110 3 وكما قال : { والملائكة يسبحون بحمد ربهم } 42 5 وكل ذكر لله عند العرب فتسبيح وصلاة , يقول الرجل منهم : قضيت سبحتي من الذكر والصلاة . وقد قيل إن التسبيح صلاة الملائكة . 520 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة , عن سعيد بن جبير قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي , فمر رجل من المسلمين على رجل من المنافقين , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : وأنت جالس ! فقال له : امض إلى عملك إن كان لك عمل , فقال : ما أظن إلا سيمر عليك من ينكر عليك فمر عليه عمر بن الخطاب , فقال له : يا فلان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس ! فقال له مثلها فقال : هذا من عملي . فوثب عليه فضربه حتى انتهى . ثم دخل المسجد فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما انفتل النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه عمر , فقال : يا نبي الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلي , فقلت له : النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنت جالس ! فقال : سر إلى عملك إن كان لك عمل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فهلا ضربت عنقه " فقام . ... عمر مسرعا . فقال : " يا عمر ارجع فإن غضبك عز ورضاك حكم , إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون له غنى عن صلاة فلان " . فقال عمر : يا نبي الله وما صلاتهم ؟ فلم يرد عليه شيئا . فأتاه جبريل , فقال : يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السماء ؟ قال : " نعم " , فقال : اقرأ على عمر السلام , وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت , وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت , وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لا يموت صلى الله عليه وسلم . قال أبو جعفر : 521 - وحدثني يعقوب بن إبراهيم , وسهل بن موسى الرازي , قالا : حدثنا ابن علية , قال : أخبرنا الجريري , عن أبي عبد الله الجسري , عن عبد الله بن الصامت , عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده - أو أن أبا ذر عاد النبي صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله بأبي أنت , أي الكلام أحب إلى الله ؟ فقال : " ما اصطفى الله لملائكته : سبحان ربي وبحمده , سبحان ربي وبحمده " صلى الله عليه وسلم في أشكال لما ذكرنا من الأخبار كرهنا إطالة الكتاب باستقصائها . وأصل التسبيح لله عند العرب التنزيه له من إضافة ما ليس من صفاته إليه والتبرئة له من ذلك , كما قال أعشى بني ثعلبة : أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر يريد : سبحان الله من فخر علقمة ! أي تنزيها لله مما أتى علقمة من الافتخار على وجه النكير منه لذلك . وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع . فقال بعضهم : قولهم : نسبح بحمدك : نصلي لك . ذكر من قال ذلك : 522 - حدثني موسى بن هارون , قال : حدثنا عمرو بن حماد , قال حدثنا أسباط , عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك , وعن أبي صالح , عن ابن عباس وعن مرة , عن ابن مسعود , وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } قال : يقولون : نصلي لك . وقال آخرون : { نسبح بحمدك } التسبيح المعلوم . ذكر من قال ذلك : 523 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : حدثنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : { ونحن نسبح بحمدك } قال التسبيح التسبيح . القول في تأويل قوله تعالى : { ونقدس لك } . قال أبو جعفر : والتقديس هو التطهير والتعظيم ; ومنه قولهم : سبوح قدوس , يعني بقولهم سبوح : تنزيها لله ; وبقولهم قدوس : طهارة له وتعظيما ; ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة , يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إ
الطبري
2:30
قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمونقوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةفيه سبع عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إذ وإذا حرفا توقيت ، فإذ للماضي ، وإذا للمستقبل ، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى . وقال المبرد : إذا جاء إذ مع مستقبل كان معناه ماضيا ، نحو قوله : وإذ يمكر بك وإذ تقول للذي أنعم الله عليه معناه مكروا ، وإذ قلت . وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلا ، كقوله تعالى : فإذا جاءت الطامة فإذا جاءت الصاخة و إذا جاء نصر الله أي يجيء . وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة : " إذ " زائدة ، والتقدير : وقال ربك ، واستشهد بقول الأسود بن يعفر :فإذ وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحا بفسادوأنكر هذا القول الزجاج والنحاس وجميع المفسرين . قال النحاس : وهذا خطأ ; لأن " إذ " اسم وهي ظرف زمان ليس مما تزاد . وقال الزجاج : هذا اجترام من أبي عبيدة ، ذكر الله عز وجل خلق الناس وغيرهم ، فالتقدير وابتدأ خلقكم إذ قال ، فكان هذا من المحذوف الذي دل عليه الكلام ، كما قال :فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينمايريد أينما ذهب . ويحتمل أن تكون متعلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال . وقيل : هو مردود إلى قوله تعالى : اعبدوا ربكم الذي خلقكم فالمعنى الذي خلقكم إذ قال ربك للملائكة . وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل بشرط وجودهم وفهمهم .[ ص: 250 ] وهكذا الباب كله في أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته . وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ، وهو الذي ارتضاه أبو المعالي . وقد أتينا عليه في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفات الله العلا .والرب : المالك والسيد والمصلح والجابر ، وقد تقدم بيانه .الثانية : قوله تعالى : " للملائكة " الملائكة واحدها ملك . قال ابن كيسان وغيره : وزن ملك فعل من الملك . وقال أبو عبيدة ، هو مفعل من لأك إذا أرسل . والألوكة والمألكة والمألكة : الرسالة ، قال لبيد :وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سألوقال آخر :أبلغ النعمان عني مألكا إنني قد طال حبسي وانتظاريويقال : ألكني أي أرسلني ، فأصله على هذا مألك ، الهمزة فاء الفعل فإنهم قلبوها إلى عينه فقالوا : ملأك ، ثم سهلوه فقالوا ملك . وقيل أصله ملأك من ملك يملك ، نحو شمأل من شمل ، فالهمزة زائدة عن ابن كيسان أيضا ، وقد تأتي في الشعر على الأصل ، قال الشاعر :فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوبوقال النضر بن شميل . لا اشتقاق للملك عند العرب . والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ، ومثله الصلادمة . والصلادم : الخيل الشداد ، واحدها صلدم . وقيل : هي للمبالغة ، كعلامة ونسابة . وقال أرباب المعاني : خاطب الله الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس ، ثم ردهم إلى قيمتهم ، فقال عز وجل : اسجدوا لآدم .الثالثة : قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة جاعل هنا بمعنى خالق ، ذكره الطبري عن أبي روق ، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد ، وقد تقدم . والأرض قيل إنها مكة . روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ولذلك سميت أم [ ص: 251 ] القرى ، قال : وقبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام . وخليفة يكون بمعنى فاعل ، أي يخلف من كان قبله من الملائكة في الأرض ، أو من كان قبله من غير الملائكة على ما روي . ويجوز أن يكون " خليفة " بمعنى مفعول أي مخلف ، كما يقال : ذبيحة بمعنى مفعولة . والخلف ( بالتحريك ) من الصالحين ، وبتسكينها من الطالحين ، هذا هو المعروف ، وسيأتي له مزيد بيان في " الأعراف " إن شاء الله . و " خليفة " بالفاء قراءة الجماعة ، إلا ما روي عن زيد بن علي فإنه قرأ " خليقة " بالقاف . والمعني بالخليفة هنا - في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل - آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ; لأنه أول رسول إلى الأرض ، كما في حديث أبي ذر ، قال قلت : يا رسول الله أنبيا كان مرسلا ؟ قال : ( نعم ) الحديث ويقال : لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد ؟ فيقال : كان رسولا إلى ولده ، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، كما قال الله تعالى : خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء . وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير . وعاش تسعمائة وثلاثين سنة ، هكذا ذكر أهل التوراة وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة ، والله أعلم .الرابعة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة . ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه ، قال : إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك ، وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحق من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك . ودليلنا قول الله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة ، وقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، وقال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض أي يجعل منهم خلفاء ، إلى غير ذلك من الآي .وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا [ ص: 252 ] لهم الخبر في ذلك ، فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ، ولقال قائل : إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم ، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك ، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين ، والحمد لله رب العالمين .وقالت الرافضة : يجب نصبه عقلا ، وإن السمع إنما ورد على جهة التأكيد لقضية العقل ، فأما معرفة الإمام فإن ذلك مدرك من جهة السمع دون العقل . وهذا فاسد ; لأن العقل لا يوجب ولا يحظر ولا يقبح ولا يحسن ، وإذا كان كذلك ثبت أنها واجبة من جهة الشرع لا من جهة العقل ، وهذا واضح .فإن قيل وهي :الخامسة : إذا سلم أن طريق وجوب الإمامة السمع ، فخبرونا هل يجب من جهة السمع بالنص على الإمام من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أم من جهة اختيار أهل الحل والعقد له ، أم بكمال خصال الأئمة فيه ، ودعاؤه مع ذلك إلى نفسه كاف فيه ؟فالجواب أن يقال : اختلف الناس في هذا الباب ، فذهبت الإمامية وغيرها إلى أن الطريق الذي يعرف به الإمام هو النص من الرسول عليه السلام ولا مدخل للاختيار فيه . وعندنا : النظر طريق إلى معرفة الإمام ، وإجماع أهل الاجتهاد طريق أيضا إليه ، وهؤلاء الذين قالوا لا طريق إليه إلا النص بنوه على أصلهم أن القياس والرأي والاجتهاد باطل لا يعرف به شيء أصلا ، وأبطلوا القياس أصلا وفرعا . ثم اختلفوا على ثلاث فرق : فرقة تدعي النص على أبي بكر ، وفرقة تدعي النص على العباس ، وفرقة تدعي النص على علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . والدليل على فقد النص وعدمه على إمام بعينه هو أنه صلى الله عليه وسلم لو فرض على الأمة طاعة إمام بعينه بحيث لا يجوز العدول عنه إلى غيره لعلم ذلك ، لاستحالة تكليف الأمة بأسرها طاعة الله في غير معين ، ولا سبيل لهم إلى العلم بذلك التكليف ، وإذا وجب العلم به لم يخل ذلك العلم من أن يكون طريقه أدلة العقول أو الخبر ، وليس في العقل ما يدل على ثبوت الإمامة لشخص معين ، وكذلك ليس في الخبر ما يوجب العلم بثبوت إمام معين ; لأن ذلك الخبر إما أن يكون تواترا أوجب العلم ضرورة أو استدلالا ، أو يكون من أخبار الآحاد ، ولا يجوز أن يكون طريقه التواتر الموجب للعلم ضرورة أو دلالة ، إذ لو كان كذلك لكان كل مكلف يجد من نفسه [ ص: 253 ] العلم بوجوب الطاعة لذلك المعين وأن ذلك من دين الله عليه ، كما أن كل مكلف علم أن من دين الله الواجب عليه خمس صلوات ، وصوم رمضان ، وحج البيت ونحوها ، ولا أحد يعلم ذلك من نفسه ضرورة ، فبطلت هذه الدعوى ، وبطل أن يكون معلوما بأخبار الآحاد لاستحالة وقوع العلم به . وأيضا فإنه لو وجب المصير إلى نقل النص على الإمام بأي وجه كان ، وجب إثبات إمامة أبي بكر والعباس ; لأن لكل واحد منهما قوما ينقلون النص صريحا في إمامته ، وإذا بطل إثبات الثلاثة بالنص في وقت واحد - على ما يأتي بيانه - كذلك الواحد ; إذ ليس أحد الفرق أولى بالنص من الآخر . وإذا بطل ثبوت النص لعدم الطريق الموصل إليه ثبت الاختيار والاجتهاد . فإن تعسف متعسف وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص فينبغي أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر وبأخبار في ذلك كثيرة تقوم أيضا في جملتها مقام النص ، ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص ، وهم الخلق الكثير والجم الغفير . والعلم الضروري لا يجتمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية ، ولو جاز رد الضروري في ذلك لجاز أن ينكر طائفة بغداد والصين الأقصى وغيرهما .السادسة : في رد الأحاديث التي احتج بها الإمامية في النص على علي رضي الله عنه ، وأن الأمة كفرت بهذا النص وارتدت ، وخالفت أمر الرسول عنادا ، منها قوله عليه السلام : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالوا : والمولى في اللغة بمعنى أولى ، فلما قال : فعلي مولاه بفاء التعقيب علم أن المراد بقوله " مولى " أنه أحق وأولى . فوجب أن يكون أراد بذلك الإمامة وأنه مفترض الطاعة ، وقوله عليه السلام لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . قالوا : ومنزلة هارون معروفة ، وهو أنه كان مشاركا له في النبوة ولم يكن ذلك لعلي ، وكان أخا له ولم يكن ذلك لعلي ، وكان خليفة ، فعلم أن المراد به الخلافة ، إلى غير ذلك مما احتجوا به على ما يأتي ذكره في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .والجواب عن الحديث الأول : أنه ليس بمتواتر ، وقد اختلف في صحته ، وقد طعن فيه [ ص: 254 ] أبو داود السجستاني وأبو حاتم الرازي ، واستدلا على بطلانه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مزينة وجهينة وغفار وأسلم موالي دون الناس كلهم ليس لهم مولى دون الله ورسوله . قالوا : فلو كان قد قال : من كنت مولاه فعلي مولاه لكان أحد الخبرين كذبا .جواب ثان : وهو أن الخبر وإن كان صحيحا رواه ثقة عن ثقة فليس فيه ما يدل على إمامته ، وإنما يدل على فضيلته ، وذلك أن المولى بمعنى الولي ، فيكون معنى الخبر : من كنت وليه فعلي وليه ، قال الله تعالى : فإن الله هو مولاه أي وليه . وكان المقصود من الخبر أن يعلم الناس أن ظاهر علي كباطنه ، وذلك فضيلة عظيمة لعلي .جواب ثالث : وهو أن هذا الخبر ورد على سبب ، وذلك أن أسامة وعليا اختصما ، فقال علي لأسامة : أنت مولاي . فقال : لست مولاك ، بل أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .جواب رابع : وهو أن عليا عليه السلام لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك في عائشة رضي الله عنها : النساء سواها كثير . شق ذلك عليها ، فوجد أهل النفاق مجالا فطعنوا عليه وأظهروا البراءة منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا المقال ردا لقولهم ، وتكذيبا لهم فيما قدموا عليه من البراءة منه والطعن فيه ، ولهذا ما روي عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ببغضهم لعلي عليه السلام . وأما الحديث الثاني فلا خلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بمنزلة هارون من موسى الخلافة بعده ، ولا خلاف أن هارون مات قبل موسى عليهما السلام - على ما يأتي من بيان وفاتيهما في سورة " المائدة " - وما كان خليفة بعده وإنما كان الخليفة يوشع بن نون ، فلو أراد بقوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى - الخلافة لقال : أنت مني بمنزلة يوشع من موسى ، فلما لم يقل هذا دل على أنه لم يرد هذا ، وإنما أراد أني استخلفتك على أهلي في حياتي وغيبوبتي عن أهلي ، كما كان هارون خليفة موسى على قومه لما خرج إلى مناجاة ربه . وقد قيل : إن هذا الحديث خرج على سبب ، وهو [ ص: 255 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا عليه السلام في المدينة على أهله وقومه ، فأرجف به أهل النفاق وقالوا : إنما خلفه بغضا وقلى له ، فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال له : إن المنافقين قالوا كذا وكذا فقال : كذبوا بل خلفتك كما خلف موسى هارون . وقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى . وإذا ثبت أنه أراد الاستخلاف على زعمهم فقد شارك عليا في هذه الفضيلة غيره ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في كل غزاة غزاها رجلا من أصحابه ، منهم : ابن أم مكتوم ، ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أصحابه ، على أن مدار هذا الخبر على سعد بن أبي وقاص وهو خبر واحد . وروي في مقابلته لأبي بكر وعمر ما هو أولى منه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنفذ معاذ بن جبل إلى اليمن قيل له : ألا تنفذ أبا بكر وعمر ؟ فقال : إنهما لا غنى بي عنهما إن منزلتهما مني بمنزلة السمع والبصر من الرأس . وقال : هما وزيراي في أهل الأرض . وروي عنه عليه السلام أنه قال : أبو بكر وعمر بمنزلة هارون من موسى . وهذا الخبر ورد ابتداء ، وخبر علي ورد على سبب ، فوجب أن يكون أبو بكر أولى منه بالإمامة ، والله أعلم .السابعة : واختلف فيما يكون به الإمام إماما وذلك في ثلاث طرق ، أحدها : النص ، وقد تقدم الخلاف فيه ، وقال به أيضا الحنابلة وجماعة من أصحاب الحديث والحسن البصري وبكر ابن أخت عبد الواحد وأصحابه وطائفة من الخوارج . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بالإشارة ، وأبو بكر على عمر . فإذا نص المستخلف على واحد معين كما فعل [ ص: 256 ] الصديق ، أو على جماعة كما فعل عمر ، وهو الطريق الثاني ، ويكون التخيير إليهم في تعيين واحد منهم كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في تعيينعثمان بن عفان رضي الله عنه .الطريق الثالث : إجماع أهل الحل والعقد ، وذلك أن الجماعة في مصر من أمصار المسلمين إذا مات إمامهم ولم يكن لهم إمام ولا استخلف فأقام أهل ذلك المصر الذي هو حضرة الإمام وموضعه إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه فإن كل من خلفهم وأمامهم من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام ، إذا لم يكن الإمام معلنا بالفسق والفساد ; لأنها دعوة محيطة بهم تجب إجابتها ولا يسع أحد التخلف عنها لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن : إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة ومناصحة ولاة الأمر فإن دعوة المسلمين من ورائهم محيطة .الثامنة : فإن عقدها واحد من أهل الحل والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله ، خلافا لبعض الناس حيث قال : لا تنعقد إلا بجماعة من أهل الحل والعقد ، ودليلنا أن عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك ، ولأنه عقد فوجب ألا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود . قال الإمام أبو المعالي : من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر ، قال : وهذا مجمع عليه .التاسعة : فإن تغلب من له أهلية الإمامة وأخذها بالقهر والغلبة فقد قيل إن ذلك يكون طريقا رابعا ، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري : ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام ؟ قال : تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك من حقه ، ولا تنكر فعاله ولا تفر منه وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لم تفشه . وقال ابن خويز منداد : ولو وثب على الأمر من يصلح له من غير مشورة ولا اختيار وبايع له الناس تمت له البيعة ، والله أعلم .العاشرة : واختلف في الشهادة على عقد الإمامة ، فقال بعض أصحابنا : إنه لا يفتقر إلى الشهود ; لأن الشهادة لا تثبت إلا بسمع قاطع ، وليس هاهنا سمع قاطع يدل على إثبات الشهادة . ومنهم من قال : يفتقر إلى شهود ، فمن قال بهذا احتج بأن قال : لو لم تعقد فيه [ ص: 257 ] الشهادة أدى إلى أن يدعي كل مدع أنه عقد له سرا ، وتؤدي إلى الهرج والفتنة ، فوجب أن تكون الشهادة معتبرة ويكفي فيها شاهدان ، خلافا للجبائي حيث قال باعتبار أربعة شهود وعاقد ومعقود له ; لأن عمر حيث جعلها شورى في ستة دل على ذلك . ودليلنا أنه لا خلاف بيننا وبينه أن شهادة الاثنين معتبرة ، وما زاد مختلف فيه ولم يدل عليه الدليل فيجب ألا يعتبر .الحادية عشرة : في شرائط الإمام ، وهي أحد عشر :الأول : أن يكون من صميم قريش ، لقوله صلى الله عليه وسلم : الأئمة من قريش . وقد اختلف في هذا .الثاني : أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث ، وهذا متفق عليه .الثالث : أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة وردع الأمة والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم .الرابع : أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود ولا فزع من ضرب الرقاب ولا قطع الأبشار والدليل على هذا كله إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، لأنه لا خلاف بينهم أنه لا بد من أن يكون ذلك كله مجتمعا فيه ، ولأنه هو الذي يولي القضاة والحكام ، وله أن يباشر الفصل والحكم ، ويتفحص أمور خلفائه وقضاته ، ولن يصلح لذلك كله إلا من كان عالما بذلك كله قيما به . والله أعلم .الخامس : أن يكون حرا ، ولا خفاء باشتراط حرية الإمام ، وإسلامه وهو السادس .السابع : أن يكون ذكرا ، سليم الأعضاء وهو الثامن . وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه .التاسع والعاشر : أن يكون بالغا عاقلا ، ولا خلاف في ذلك .الحادي عشر : أن يكون عدلا ; لأنه لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز أن تعقد الإمامة لفاسق ، ويجب أن يكون من أفضلهم في العلم ، لقوله عليه السلام : أئمتكم شفعاؤكم [ ص: 258 ] فانظروا بمن تستشفعون . وفي التنزيل في وصف طالوت : إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم فبدأ بالعلم ثم ذكر ما يدل على القوة وسلامة الأعضاء . وقوله : اصطفاه معناه اختاره ، وهذا يدل على شرط النسب . وليس من شرطه أن يكون معصوما من الزلل والخطأ ، ولا عالما بالغيب ، ولا أفرس الأمة ولا أشجعهم ، ولا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قريش ، فإن الإجماع قد انعقد على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وليسوا من بني هاشم .الثانية عشرة : يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة ، وذلك أن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل واستخراج الحقوق وإقامة الحدود وجباية الأموال لبيت المال وقسمتها على أهلها . فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن الفاضل إلى المفضول ، ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر الأمة وقت الشورى بأن الستة فيهم فاضل ومفضول ، وقد أجاز العقد لكل واحد منهم إذا أدى المصلحة إلى ذلك واجتمعت كلمتهم عليه من غير إنكار أحد عليهم ، والله أعلم .الثالثة عشرة : الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور : إنه تنفسخ إمامته ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم ، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك مما تقدم ذكره ، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها . فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله ، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له ، وكذلك هذا مثله . وقال آخرون : لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو الترك إلى دعائها أو شيء من الشريعة ، لقوله عليه السلام في حديث عبادة : وألا ننازع الأمر أهله قال : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان . وفي حديث عوف بن مالك : لا ما أقاموا [ ص: 259 ] فيكم الصلاة الحديث . أخرجهما مسلم . وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع - قالوا : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : - لا ما صلوا . أي من كره بقلبه وأنكر بقلبه . أخرجه أيضا مسلم .الرابعة عشرة : ويجب عليه أن يخلع نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة . فأما إذا لم يجد نقصا فهل له أن يعزل نفسه ويعقد لغيره ؟ اختلف الناس فيه ، فمنهم من قال : ليس له أن يفعل ذلك وإن فعل لم تنخلع إمامته . ومنهم من قال : له أن يفعل ذلك . والدليل على أن الإمام إذا عزل نفسه انعزل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أقيلوني أقيلوني . وقول الصحابة : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فلا نرضاك فلو لم يكن له أن يفعل ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه ولقالت له : ليس لك أن تقول هذا ، وليس لك أن تفعله . فلما أقرته الصحابة على ذلك علم أن للإمام أن يفعل ذلك ، ولأن الإمام ناظر للغيب فيجب أن يكون حكمه حكم الحاكم ، والوكيل إذا عزل نفسه . فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها ، ولما اتفق على أن الوكيل والحاكم وجميع من ناب عن غيره في شيء له أن يعزل نفسه ، وكذلك الإمام يجب أن يكون مثله . والله أعلم .الخامسة عشرة : إذا انعقدت الإمامة باتفاق أهل الحل والعقد أو بواحد على ما تقدم وجب على الناس كافة مبايعته على السمع والطاعة ، وإقامة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر ، ومن تأبى لغير عذر جبر وقهر ، لئلا تفترق كلمة المسلمين . وإذا بويع لخليفتين فالخليفة الأول وقتل الآخر ، واختلف في قتله هل هو محسوس أو معنى فيكون عزله قتله وموته . والأول أظهر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما . رواه أبو سعيد الخدري أخرجه مسلم . وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول : ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر . رواه [ ص: 260 ] مسلم أيضا ، ومن حديث عرفجة : فاضربوه بالسيف كائنا من كان . وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين ، ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم ، لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .السادسة عشرة : لو خرج خارجي على إمام معروف العدالة وجب على الناس جهاده ، فإن كان الإمام فاسقا ، والخارجي مظهر للعدل لم ينبغ للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل ، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول ، وذلك أن كل من طلب مثل هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح حتى إذا تمكن رجع إلى عادته من خلاف ما أظهر .السابعة عشرة : فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعا لما ذكرنا . قال الإمام أبو المعالي : ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم ، ثم قالوا : لو اتفق عقد الإمامة لشخصين نزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة واحدة من زوجين من غير أن يشعر أحدهما بعقد الآخر . قال : والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف - غير جائز وقد حصل الإجماع عليه . فأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال وهو خارج عن القواطع . وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم . وذهبت الكرامية إلى جواز نصب إمامين من غير تفصيل ، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد ، وصاروا إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين . قالوا : وإذا كانا اثنين في بلدين أو ناحيتين كان كل واحد منهما أقوم بما في يديه وأضبط لما يليه ، ولأنه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى ، ولا يؤدي ذلك إلى إبطال الإمامة . والجواب أن ذلك جائز لولا منع الشرع منه ، لقوله : فاقتلوا الآخر منهما ولأن الأمة عليه . وأما معاوية فلم يدع الإمامة لنفسه وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة . ومما يدل على هذا إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما ، ولا قال أحدهما إني إمام ومخالفي إمام . فإن قالوا : العقل لا يحيل ذلك وليس في السمع ما يمنع منه . قلنا : أقوى السمع الإجماع ، وقد وجد على المنع .قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها قد علمنا قطعا أن الملائكة لا تعلم إلا ما أعلمت ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ; لأن قوله : لا يسبقونه بالقول خرج على جهة المدح لهم ، فكيف قالوا : " أتجعل فيها من يفسد فيها " ؟ فقيل : المعنى أنهم لما سمعوا لفظ خليفة فهموا أن في بني آدم من يفسد ; إذ الخليفة المقصود منه الإصلاح وترك الفساد ، لكن عمموا الحكم على الجميع بالمعصية ، فبين الرب تعالى أن فيهم من يفسد ومن لا يفسد فقال تطييبا لقلوبهم : إني أعلم وحقق ذلك بأن علم آدم الأسماء ، وكشف لهم عن مكنون علمه . وقيل : إن الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء . وذلك لأن الأرض كان فيها الجن قبل خلق آدم فأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم وألحقهم بالبحار ورءوس الجبال ، فمن حينئذ دخلته العزة . فجاء قولهم : أتجعل فيها على جهة الاستفهام المحض : هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟ قال أحمد بن يحيى ثعلب . وقال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة ، إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا : الاستخلاف والعصيان . وقال قتادة : كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خلقا أفسدوا وسفكوا الدماء ، فسألوا حين قال تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة أهو الذي أعلمهم أم غيره .وهذا قول حسن ، رواه عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله أتجعل فيها من يفسد فيها قال : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فلذلك قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها . وفي الكلام حذف على مذهبه ، والمعنى أني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا ويفعل كذا ، فقالوا : أتجعل فيها الذي أعلمتناه أم غيره ؟ والقول الأول أيضا حسن جدا ; لأن فيه استخراج العلم واستنباطه من مقتضى الألفاظ وذلك لا يكون إلا من العلماء ، وما بين القولين حسن ، فتأمله . وقد قيل : إن سؤاله تعالى للملائكة بقوله : ( كيف تركتم عبادي ) - على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره - إنما هو على جهة التوبيخ لمن قال : أتجعل فيها ، وإظهار لما سبق في معلومه إذ قال لهم : إني أعلم ما لا تعلمون .قوله : من يفسد فيها " من " في موضع نصب على المفعول ب " تجعل " والمفعول الثاني [ ص: 262 ] يقوم مقامه فيها . يفسد على اللفظ ، ويجوز في غير القرآن يفسدون على المعنى . وفي التنزيل : ومنهم من يستمع إليك على اللفظ ، ومنهم من يستمعون على المعنى .ويسفك عطف عليه ، ويجوز فيه الوجهان . وروى أسيد عن الأعرج أنه قرأ : " ويسفك الدماء " بالنصب ، يجعله جواب الاستفهام بالواو كما قال الحطيئة :ألم أك جاركم وتكون بيني وبينكم المودة والإخاءوالسفك : الصب . سفكت الدم أسفكه سفكا : صببته ، وكذلك الدمع ، حكاه ابن فارس والجوهري . والسفاك : السفاح ، وهو القادر على الكلام . قال المهدوي : ولا يستعمل السفك إلا في الدم ، وقد يستعمل في نثر الكلام يقال سفك الكلام إذا نثره . وواحد الدماء دم ، محذوف اللام . وقيل : أصله دمي . وقيل دمي ، ولا يكون اسم على حرفين إلا وقد حذف منه ، والمحذوف منه ياء وقد نطق به على الأصل ، قال الشاعر :فلو أنا على حجر ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقينقوله تعالى : ونحن نسبح بحمدك أي ننزهك عما لا يليق بصفاتك . والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على وجه التعظيم ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخرأي براءة من علقمة . وروى طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال : ( هو تنزيه الله عز وجل عن كل سوء ) . وهو مشتق من السبح وهو الجري والذهاب ، قال الله تعالى : إن لك في النهار سبحا طويلا فالمسبح جار في تنزيه الله تعالى وتبرئته من السوء . وقد تقدم الكلام في " نحن " ، ولا يجوز إدغام النون في النون لئلا يلتقي ساكنان .مسألة : واختلف أهل التأويل في تسبيح الملائكة ، فقال ابن مسعود وابن عباس : تسبيحهم صلاتهم ، ومنه قول الله تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين أي المصلين . وقيل : تسبيحهم رفع الصوت بالذكر ، قاله المفضل ، واستشهد بقول جرير :قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا إهلالاوقال قتادة : تسبيحهم : سبحان الله ، على عرفه في اللغة ، وهو الصحيح لما رواه أبو [ ص: 263 ] ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده . أخرجه مسلم . وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا : سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى . ذكره البيهقي .قوله تعالى بحمدك أي وبحمدك نخلط التسبيح بالحمد ونصله به . والحمد : الثناء ، وقد تقدم . ويحتمل أن يكون قولهم : " بحمدك " اعتراضا بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضوا على جهة التسليم ، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك . والله أعلم .قوله تعالى : ونقدس لك أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون ، قال مجاهد وأبو صالح وغيرهما . وقال الضحاك وغيره : المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك وقال قوم منهم قتادة : نقدس لك معناه نصلي . والتقديس : الصلاة . قال ابن عطية : وهذا ضعيف .قلت : بل معناه صحيح ، فإن الصلاة تشتمل على التعظيم والتقديس والتسبيح ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده : سبوح قدوس رب الملائكة والروح . روته عائشة أخرجه مسلم . وبناء " قدس " كيفما تصرف فإن معناه التطهير ، ومنه قوله تعالى : ادخلوا الأرض المقدسة أي المطهرة . وقال : الملك القدوس يعني الطاهر ، ومثله : بالواد المقدس طوى وبيت المقدس سمي به لأنه المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب أي يتطهر ، ومنه قيل للسطل : قدس ; لأنه يتوضأ فيه ويتطهر ، ومنه القادوس . وفي الحديث : لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها . يريد لا طهرها الله ، أخرجه ابن ماجه في سننه . فالقدس : الطهر من غير خلاف ، وقال الشاعر : [ ص: 264 ]فأدركنه يأخذن بالساق والنسا كما شبرق الولدان ثوب المقدسأي المطهر . فالصلاة طهرة للعبد من الذنوب ، والمصلي يدخلها على أكمل الأحوال لكونها أفضل الأعمال ، والله أعلم .قوله تعالى : قال إني أعلم ما لا تعلمون " أعلم " فيه تأويلان ، قيل : إنه فعل مستقبل . وقيل : إنه اسم بمعنى فاعل ، كما يقال : الله أكبر ، بمعنى كبير ، وكما قال :لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أولفعلى أنه فعل تكون ما في موضع نصب ب " أعلم " ، ويجوز إدغام الميم في الميم . وإن جعلته اسما بمعنى عالم تكون ما في موضع خفض بالإضافة . قال ابن عطية : ولا يصح فيه الصرف بإجماع من النحاة ، وإنما الخلاف في " أفعل " إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه . قال المهدوي : يجوز أن تقدر التنوين في " أعلم " إذا قدرته بمعنى عالم ، وتنصب " ما " به ، فيكون مثل حواج بيت الله . قالالجوهري : ونسوة حواج بيت الله ، بالإضافة إذا كن قد حججن ، وإن لم يكن حججن قلت : حواج بيت الله ، فتنصب البيت ، لأنك تريد التنوين في حواج .قوله تعالى ما لا تعلمون اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى : ما لا تعلمون . فقال ابن عباس : كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه ، فاعتقد أن ذلك لمزية له ، فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام . وقالت الملائكة : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك ، فقال الله تعالى لهم : إني أعلم ما لا تعلمون وقال قتادة : لما قالت الملائكة أتجعل فيها وقد علم الله أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم إني أعلم ما لا تعلمون .قلت : ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن ، فهو عام .
Arabic Qurtubi Tafseer
2:30
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض. فقالت الملائكة عليهم السلام: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [و]هذا تخصيص بعد تعميم, لبيان [شدة] مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك, وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، { وَنُقَدِّسُ لَكَ } يحتمل أن معناها: ونقدسك, فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة, كمحبة الله وخشيته وتعظيمه, ونطهرها من الأخلاق الرذيلة. قال الله تعالى للملائكة: { إِنِّي أَعْلَمُ } من هذا الخليفة { مَا لَا تَعْلَمُونَ } ؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواهر والسرائر, وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة, أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك, إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين, والشهداء والصالحين, ولتظهر آياته للخلق, ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة, كالجهاد وغيره, وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان, وليتبين عدوه من وليه, وحزبه من حربه, وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه, واتصف به, فهذه حكم عظيمة, يكفي بعضها في ذلك.
Arabic Saddi Tafseer
2:30
قوله تعالى ( وإذ قال ربك ) أي وقال ربك وإذ زائدة وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وإذ وإذا حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد : إذا جاء ( إذ ) مع المستقبل كان معناه ماضيا كقوله تعالى " وإذ يمكر بك الذين " ( 30 - الأنفال ) يريد وإذ مكروا وإذا جاء ( إذا ) مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله‌‌‌ : فإذا جاءت الطامة " ( 34 - النازعات ) " إذا جاء نصر الله " ( 1 - النصر ) أي يجيء ( للملائكة ) جمع ملك وأصله مألك من المألكة والألوكة والألوك وهي الرسالة فقلبت فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلبا للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك . وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فغبروا فعبدوا دهرا طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجنة رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال ( وبطون الأودية ) وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة فأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده : ( إني جاعل ) خالق . ( في الأرض خليفة ) أي بدلا منكم ورافعكم إلي فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادةوالمراد بالخليفة هاهنا آدم سماه خليفة لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم وقيل لأنه يخلفه غيره والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ) بالمعاصي . ( ويسفك الدماء ) بغير حق أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب ( ونحن نسبح بحمدك ) قال الحسن : نقول سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما ( سوى الآدميين وعليها يرزقون .أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا زهير بن حرب أنا حبان بن هلال أنا وهيب أنا سعيد الجريري عن أبي عبد الله الجسري عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده وقيل ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة ( ونقدس لك ) أي نثني عليك بالقدس والطهارة وقيل ونطهر أنفسنا لطاعتك وقيل وننزهك . واللام صلة وقيل لم يكن هذا من الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل بل على سبيل التعجب وطلب وجه الحكمة فيه ( قال ) الله ( إني أعلم ما لا تعلمون ) المصلحة فيه ، وقيل إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والعلماء وقيل إني أعلم أن فيكم من يعصيني وهو إبليس وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم . قرأ أهل الحجاز والبصرة إني أعلم بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض المواضع عند الألف المضمومة والمكسورة ( وعند غير الألف ) وبين القراء في تفصيله اختلاف
Arabic Baghawy Tafseer
2:30
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم فقال تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها" قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب فقيل هذا الحمار هذا الجمل هذا الفرس وقال الضحاك عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلهـا" قال هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودواب وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم بن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه اسم الصحفة والقدر قال نعم حتى الفسوة والفسية وقال مجاهد "وعلم آدم الأسماء كلها" قال علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء وكذلك رُوي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء وقال الربيع في رواية عنه أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي أسماء النجوم. وقال عبدالرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته كلهم. واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأنه قال "ثم عرضهم" عبارة عما يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل للتغليب كما قال تعالى "والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير" وقد قرأ عبدالله بن مسعود ثم عرضهن. وقرأ أبي بن كعب ثم عرضها أي السماوات. الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذراتها وصفاتها وأفعالها كـما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية يعني ذوات الأسماء والأفعال المكبر والمصغر ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال لي خليفة. حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن فيأتونه فيقول لست هناكم. فيقول ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول ائتوا عيسى عبدالله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول لست هناكم. ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود هكذا ساق البخاري هذا الحديث ههنا وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن أبي عبدالله الدستوائي عن قتادة به وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة. ووجه إيراده هاهنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام. فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال "ثم عرضهم على الملائكة" يعني المسميات كما قال عبدالرزاق عن معمر عن قتادة قال ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة "فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين" وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة "وعلم آدم الأسماء كلها" ثم عرض الخلق على الملائكة. وقال ابن جريج عن مجاهد ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا: علمه اسم كل شيء وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى "إن كنتم صادقين" إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. وقال الضحاك عن ابن عباس "إن كنتم صادقين" إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ومعني ذلك فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ من غيرنا أم منا. فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك - إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم والتقديس فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين.
ابن كثير
2:31
وبيانًا لفضل آدم عليه السلام علَّمه الله أسماء الأشياء كلها، ثم عرض مسمياتها على الملائكة قائلا لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء الموجودات، إن كنتم صادقين في أنكم أَوْلى بالاستخلاف في الأرض منهم.
المیسر
2:31
معطوف على قوله : { قال إني أعلم م لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] عطف حكاية الدليل التفصيلي على حكاية الاستدلال الإجمالي الذي اقتضاه قوله : { إني أعلم ما لا تعلموت } فإن تعليم آدم الأسماء وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم دون الملائكة جعله الله حجة على قوله لهم { إني أعلم ما لا تعلمون أي ما لا تعلمون } من جدارة هذا المخلوق بالخلافة في الأرض ، وعطف ذكر آدم بعد ذكر مقالة الله للملائكة وذكر محاورتهم يدل على أن هذا الخليفة هو آدم وأن آدم اسم لذلك الخليفة وهذا الأسلوب من بديع الإجمالي والتفصيل والإيجاز كما قال النابغة :فقلت لهم لا أعرفن عقائلا ... رعابيب من جنبي أريك وعاقلالأبيات . ثم قال بعدها :وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقلمخافة عمرو أن تكون جياده ... يقدن إلينا بين حاففٍ وناعلفدل على أن ما ذكره سالفاً من العقائل التي بين أريك وعاقل ومن الأنعام المغتنمة هو ما يتوقع من عزو عمرو بن الحرث الغساني ديار بني عوف من قومه .وآدم اسم الإنسان الأول أبي البشر في لغة العرب وقيل منقول من العبرانية لأن أداماً بالعبرانية بمعنى الأرض وهو قريب لأن التوراة تكلمت على خلق آدم وأطالت في أحواله فلا يبعد أن يكون اسم أبي البشر قد اشتهر عند العرب من اليهود وسماع حكاياتهم ، ويجوز أن يكون هذا الاسم عرف عند العرب والعبرانيين معاً من أصل اللغات السامية فاتفقت عليه فروعها . وقد سمي في سفر التكوين من التوراة بهذا الاسم آدم ووقع في «دائرة المعارف العربية» أن آدم سمى نفسه إيش ( أي ذا مقتني ) وترجمته إنسان أو قرء . قلت ولعله تحريف ( إيث ) كما ستعلمه عند قوله تعالى : { اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] .وللإنسان الأول أسماء أُخر في لغات الأمم وقد سماه الفرس القدماء «كيومرتْ» بفتح الكاف في أوله وبتاء مثناة فوقية في آخره ، ويسمى أيضاً «كيامَرِتن» بألف عوق الواو وبكسر الراء وبنون بعد المثناة الفوقية ، قالوا إنه مكث في الجنة ثلاثة آلاف سنة ثم هبط إلى الأرض فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة أخرى ، واسمه في العبرانية ( آدم ) كما سمي في التوراة وانتقل هذا الاسم إلى اللغات الأفرنجية من كتب الديانة المسيحية فسموه ( آدام ) بإشباع الدال ، فهو اسم على وزن فَاعَل صيغ كذلك اعتباطاً وقد جمع على أوادم بوزن فَواعل كما جمع خَاتَم وهذا الذي يشير إليه صاحب «الكشاف» وجعل محاولة اشتقاقه كمحاولة اشتقاق يعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس ونحو ذلك أي هي محاولة ضئيلة وهو الحق .وقال الجوهري أصله أَأْدم بهمزتين على وزن أفْعَل من الأدمة وهي لون السمرة فقلبت ثانية الهمزتين مَدة ويبعده الجمع وإن أمكن تأويله بأن أصله أَأَادم فقلبت الهمزة الثانية في الجمع واواً لأنها ليس لها أصل كما أجاب به الجوهري .ولعل اشتقاق اسم لَون الأدمة من اسم آدم أقرب من العكس .والأسماء جمع اسم وهو في اللغة لفظ يدل على معنى يفهمه ذهن السامع فيختص بالألفاظ سواء كان مدلولها ذاتاً وهو الأصل الأول ، أو صفة أو فعلاً فيما طرأ على البشر الاحتياج إليه في استعانة بعضهم ببعض فحصل من ذلك ألفاظ مفردة أو مركبة وذلك هو معنى الاسم عرفا إذ لم يقع نقل . فما قيل إن الاسم يطلق على ما يدل على الشيء سواء كان لفظه أو صفتَه أو فعلَه توهم في اللغة . ولعلهم تطوحوا به إلى أن اشتقاقه من السمة وهي العلامة ، وذلك على تسليمه لا يقتضي أن يبقى مساوياً لأصل اشتقاقه . وقد قيل هو مشتق من السمو لأنه لما دل على الذات فقد أبرزها . وقيل مشتق من الوَسم لأنه سمة على المدلول . والأظهر أنه مشتق من السُّمُو وأن وزنه سِمْو بكسر السين وسكون الميم لأنهم جمعوه على أسماء ولولا أن أصله سِمْو لما كان وجه لزيادة الهمزة في آخره فإنها مبدلة عن الواو في الطرف إثر ألف زائدة ولكانوا جمعوه على أوْسام .والظاهر أن الأسماء التي عُلمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها ، أو استحضارها ، أو إفادة حصول بعضها مع بعض ، وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار أو التوصيف فيظهر أن المراد بالأسماء ابتداءً أسماءُ الذوات من الموجودات مثل الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس من الحيوان والنبات والحجر والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جَنة ، وملك ، وآدم ، وحواء ، وإبليس ، وشجرة وثمرة ، ونجد ذلك بحسب اللغة البشرية الأولى ولذلك نرجح أن لا يكون فيما عُلمه آدم ابتداء شيء من أسماء المعاني والأحداث ثم طرأت بعد ذلك فكان إذا أراد أن يخبر عن حصول حدَث أو أمر معنوي لذات ، قَرَن بين اسم الذات واسم الحدث نحو ماءْ بَرْدْ أي ماء بارد ثم طرأ وضع الأفعال والأوصاف بعد ذلك فقال الماءْ باردْ أو بَرَد الماء ، وهذا يرجح أن أصل الاشتقاق هو المصادر لا الأفعال لأن المصادر صنف دقيق من نوع الأسماء وقد دلنا على هذا قوله تعالى : { ثم عرضهم } كما سيأتي .والتعريف في ( الأسماء ) تعريف الجنس أريد منه الاستغراق للدلالة على أنه عَلَّمه جميع أسماء الأشياء المعروفة يومئذٍ في ذلك العالم فهو استغراق عرفي مثل جمَمَع الأمير الصاغَةَ أي صاغة أَرضه ، وهو الظاهر لأنه المقدار الذي تظهر به الفضيلة فما زاد عليه لا يليق تعليمُه بالحكمة وقدرةُ الله صالحة لذلك .وتعريف الأسماء يفيد أن الله علم آدم كل اسم ما هُو مسماه ومدلوله ، والإتيان بالجمع هنا متعين إذ لا يستقيم أن يقول وعلم آدم الاسم ، وما شاع من أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع في المعرف باللام كلامٌ غير محرر ، وأصله مأخوذ من كلام السكاكي وسنحققه عند قوله تعالى : { ولكنَّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتابِ } [ البقرة : 177 ] في هذ السورة .و { كلَّها } تأكيد لمعنى الاستغراق لئِلا يتوهم منه العهد فلم تزد كلمة كل العمومَ شمولاً ولكنها دفعت عنه الاحتمال . ( وكُل ) اسم دال على الشمول والإحاطة فيما أضيف هو إليه وأكثر ما يَجىء مضافاً إلى ضمير ما قبله فيُعرب توكيداً تابعاً لما قبله ويكون أيضاً مسْتقلاً بالإعراب إذا لم يقصد التوكيد بل قُصدت الإحاطة وهو ملازم للإضافة لفظاً أو تقديراً فإذا لم يذكر المضاف إليه عُوض عنه التنوين ولكونه ملازماً للإضافة يعتبر معرفة بالإضافة فلا تدخل عليه لام التعريف .وتعليم الله تعالى آدمَ الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه فإذا أراه لُقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري ، أو يكون التعليم بإلقاء علم ضروري في نفس آدم بحيث يخطر في ذهنه اسم شيء عند ما يعرض عليه فيضع له اسماً بأنْ ألهمه وضع الأسماء للأشياء ليمكنه أن يفيدها غيره وذلك بأن خلق قوةَ النطق فيه وجعله قادراً على وضع اللغة كما قال تعالى : { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 2 ، 3 ] وجميع ذلك تعليم إذ التعليم مصدر علَّمه إذا جعله ذَا علم مثل أدَّبه فلا ينحصر في التلقين وإِنْ تبادَر فيه عرفاً . وأيَّاً ما كانت كيفية التعليم فقد كان سبباً لتفضيل الإنسان على بقية أنواع جنسه بقوة النطق وإحداث الموضوعات اللغوية للتعبير عما في الضمير . وكان ذلك أيضاً سبباً لتفاضل أفراد الإنسان بعضهم على بعض بما ينشأ عن النطق من استفادة المجهول من المعلوم وهو مبدأ العلوم ، فالإنسان لما خُلق ناطقاً معبراً عما في ضميره فقد خُلق مدركاً أي عالماً وقد خلق معلماً ، وهذا أصل نشأة العلوم والقوانين وتفاريعها لأنك إذا نظرت إلى المعارف كلها وجدتها وضع أسماء لمسميات وتعريفَ معاني تلك الأسماء وتحديدها لتسهيل إيصال ما يحصل في الذهن إلى ذهن الغير . وكلا الأمرين قد حُرِمه بقية أنواع الحيوان ، فلذلك لم تتفاضل أفراده إلا تفاضلاً ضعيفاً بحسن الصورة أو قوة المنفعة أو قلة العجمة بلْهَ بقية الأجناس كالنبات والمعدن . وبهذا تعلم أن العبرة في تعليم الله تعالى آدم الأسماء حاصلة سواء كان الذي علَّمه إياه أسماءَ الموجودات يومئذٍ أو أسماء كل ما سيوجد ، وسواء كان ذلك بلغة واحدة هي التي ابتدأَ بها نطق البشر منذ ذلك التعليم أم كان بجميع اللغات التي ستنطق بها ذرياته من الأمم ، وسواء كانت الأسماء أسماء الذوات فقط أو أسماء المعاني والصفات ، وسواء كان المراد من الأسماء الألفاظَ الدالة على المعاني أو كل دال على شيء لفظاً كان أو غيره من خصائص الأشياء وصفاتها وأفعالها كما تقدم إذ محاولة تحقيق ذلك لا طائل تحته في تفسير القرآن .ولعل كثيراً من المفسرين قد هان عندهم أن يكون تفضيل آدم بتعليم الله متعلقاً بمعرفة عدد من الألفاظ الدالة على المعاني الموجودة فراموا تعظيم هذا التعليم بتوسيعه وغفلوا عن موقع العبرة ومِلاككِ الفضيلة وهو إيجاد هاته القوة العظيمة التي كان أولها تعليم تلك الأسماء ، ولذلك كان إظهار عجز الملائكة عن لحاق هذا الشأو بعدم تعليمهم لشيء من الأسماء ، ولو كانت المزية والتفاضل في تعليم آدم جميع ما سيكون من الأسماء في اللغات لكفى في إظهار عجز الملائكة عدم تعليمهم لجمهرة الأسماء وإنما علم آدم أسماء الموجودات يومئذٍ كلها ليكون إنباؤه الملائكة بها أبهر لهم في فضيلته .وليس في هذه الآية دليل على أن اللغات توقيفية أي لَقَّنَها الله تعالى البشر على لسان آدم ولا على عدمه لأن طريقة التعليم في قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء } مجملة محتملة لكيفيات كما قدمناه . والناس متفقون على أن القدرة عليها إلهام من الله وذلك تعليم منه سواء لقن آدم لغة واحدة أو جميع لغات البشر وأسماء كل شيء أو ألهمه ذلك أو خلق له القوة الناطقة ، والمسألة مفروضة في علم الله وفي أصول الفقه وفيها أقوال ولا أثر لهذا الاختلاف لا في الفقه ولا في غيره قال المازري «إلا في جواز قلب اللغة والحق أن قلب الألفاظ الشرعية حرام وغيره جائز» ولقد أصاب المازري وأخطأ كل من رام أن يجعل لهذا الخلاف ثمرة غير ما ذكر ، وفي استقراء ذلك ورده طول ، وأمره لا يخفى عن سالمي العقول .{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صادقين } .قيل عطفه بثم لأن بين ابتداء التعليم وبين العرض مهلة وهي مدة تلقين الأسماء لآدم أو مدة إلهامه وضع الأسماء للمسميات . والأظهر أن ( ثم ) هنا للتراخي الرتبي كشأنها في عطفها الجمل لأن رتبة هذا العرض وظهور عدم علم الملائكة وظهور علم آدم وظهور أثر علم الله وحكمته كل ذلك أرفع رتبة في إظهار مزية آدم واستحقاقه الخلافة ، من رتبة مجرد تعلمه الأسماء لو بقي غير متصل به ما حدث من الحادثة كلها . ولما كان مفهوم لفظ ( اسم ) من المفهومات الإضافية التي يتوقف تعقلها على تعقل غيرها إذ الاسم لا يكون إلا لمسمى كان ذكر الأسماء مشعراً لا محالة بالمسميات فجاز للبليغ أن يعتمد على ذلك ويحذف لفظ المسميات إيجازاً .وضمير { عرضهم } للمسميات لأنها التي تعرض بقرينة قوله : { أنيئوني بأسماء هؤلاء } وبقرينة قوله : { وعلم آدم الأسماء كلها } ، فإن الاسم يقتضي مسمى وهذا من إيجاز الحذف وأما الأسماء فلا تعرض لأن العرض إظهار الذات بعد خفائها ومنه عرض الشيء للبيع ويوم العرض والألفاظ لا تظهر فتعين أن المعروض مدلولات الأسماء إما بأن تعرض صور من الذوات فقط ويسأل عن معرفة أسمائها أي معرفة الألفاظ الدالة عليها ، أو عن بيان مواهيها وخصائصها وإما بأن تعرض الذوات والمعاني بخلق أشكال دالة على المعاني كعرض الشجاعة في صورة فعل صاحبها والعلم في صورة إفاضة العالم في درسه أو تحريره كما نرى في الصور المنحوتة أو المدهونة للمعاني المعقولة عند اليونان والرومان والفرس والصور الذهنية عند الإفرنج ، بحيث يجد الملائكة عند مشاهدة تلك الهيئة أن المعروض معنى شجاعة أو معنى علم ويقرب ذلك ما يحصل في المرائي الحلمية .والحاصل أن الحال المذكورة في الآية حالة عالم أوسع من عالم المحسوسات والمادة .وإعادة ضمير المذكر العاقل على المسميات في قوله : { عرضهم } للتغليب لأن أشرف المعروضات ذوات العقلاء وصفاتهم على أن ورود مثله بالألفاظ التي أصلها للعقلاء طريقة عربية نحو قوله تعالى : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً } [ الإسراء : 36 ] . والداعي إلى هذا أن يعلم ابتداء أن المعروض غير الأسماء حتى لا يضل فهم السامع قبل سماع قرينة { أنبئوني بأسماء هؤلاء } .وقوله تعالى : { فقال أنبئوني } تفريع على العرض وقرن بالفاء لذلك . والأمر في قوله : { أنبئوني } أمر نعجيز بقرينة كون المأمور يعلم أن الآمر عالم بذلك فليس هذا من التكليف بالمحال كما ظنه بعض المفسرين . واستعمال صيغة الأمر في التعجيز مجاز ، ثم إن ذلك المعنى المجازي يستلزم علم الآمر بعجز المأمور وذلك يستلزم علم الآمر بالمأمور به .والإنباء الإخبار بالنبأ وهو الخبر ذو الفائدة العظيمة والأهمية بحيث يحرص السامعون على اكتسابه ، ولذلك تضمن الإنباء معنى الإعلام لأن المخبر به يعد مما يعلم ويعتقد بوجه أخص من اعتقاد مطلق الخبر فهو أخص من الخبر .وقوله : { إن كنتم صادقين } إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم : { ونحن نسبح } الخ تعريضاً بأنهم أحقاء بذلك ، أو أراد إن كنتم صادقين في عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم : { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] كان قولهم : { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه .ووجه الملازمة بين الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط الجزاء بالشرط أن العلم بالأسماء عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها ، أو عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها ، أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني ، وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة ، وصاحب هذا الوصف هو الجدير بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدى ووضع الأشياء مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات ، وكل ذلك محتاج إلى القوة الناطقة أو فروعها ، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب ، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير ، وبذلك ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط وقد تحير فيه كثير .وإذا انتفى الإنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة آدم ، فإن كان محل الصدق هو دعواهم أنهم أجدر فقد ثبت عدمها ، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء آدم بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقباً من الذي طعنوا في جدارته ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى لهم : { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] .
Arabic Tanweer Tafseer
2:31
ثم أخذ - سبحانه - في بيان جانب من حكمة خلق آدم ، وجعله خليفة في الأرض ، بعد أن أجاب الملائكة على سؤالهم بالجواب المناسب الحكيم ، فقال - تعالى - : ( وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .علم : من التعليم وهو التعريف بالشيء . وآدم : اسم لأبي البشر ، قيل إنه عبراني مشتق من أدمه ، وهي لغة عبرانية معناها التراب ، كما أن " حواء " كلمة عبرانية معناها " حي " وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء .و ( الأسمآء ) جمع اسم ، والاسم ما يكون علامة على الشيء ، وتأكيد الأسماء بلفظ " كلها " في أنه علمه أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة ، وطير ، وغير ذلك .ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها ، فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق .وقوله : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة ) عرض الشيء : إظهاره وإبانته والضمير في ( عَرَضَهُمْ ) يعود على المسميات ، وهي مفهومة من قوله : ( الأسمآء كُلَّهَا ) إذ الأسماء لابد لها من مسميات ، فإذا أجرى حديث عن الأسماء حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها ، أعني المسميات .ودل على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء فقال : ( عَرَضَهُمْ ) ولم يقل عرضها ، لأن في جملة هذه المسميات أنواعاً من العقلاء : كالملائكة ، والإِنس ، ومن الأساليب المعروفة بين فصحاء العرب تغليب الكامل على الناقص ، فإذا اشتركا في نحو الجمع أو التثنية أتى بالجمع أو التثنية على ما يطلق حال الكامل منهما .والأمر في قوله : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء ) ، ليس من قبيل الأوامر التي يقصد بها التكليف ، أي : طلب الإِِتيان بالمأمور به ، وإنما هو وارد على جهة إفحام المخاطب بالحجة .والمعنى : أن الله - تعالى - ألهم آدم ومعرفة ذوات الأشياء التي خلقها في الجنة ، ومعرفة أسمائها ومنافعها ، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة . فقال لهم على سبيل التعجيز : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقاً إلا وأنتم أعلم منه وأفضل .قال ابن جرير : " وفي هذه الآيات العبرة لمن اعتبر والذكرى لمن ذكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله في هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن ، وذلك أن الله - تعالى - احتج فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل ، بإطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن - تعالى - أطلع عليها من خلقه إلا خاصا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإِنباء والإِخبار ليقرر عندهم صدق نبوته ، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عند الله " .
Arabic Waseet Tafseer
2:31