text
stringlengths
1
1.34k
والواقع أن النموذجين الأول والثاني أكثر عُرضة للخطر من النموذج الثالث ولكن لا ينبغي لنا أن نشغل بالنا بهما كثيرا وذلك لأنهما معيبان وغير قابلان للاستدامة على الإطلاق بل ينبغي أن نركز اهتمامنا على المحنة المحتملة التي قد تعيشها بلدان المجموعة الأخيرة وسوف يكون لزاما على هذه البلدان أن تُدخِل تغييرات رئيسية على سياساتها سعيا إلى التكيف مع الحقائق الجديدة التي يعيشها العالم اليوم
ينتهي النموذجان الأولان إلى نتيجة سيئة دوما فالاقتراض من الخارج قد يمكن المستهلكين والحكومات من تبني أسلوب حياة يتجاوز إمكانياتهم لبعض الوقت غير أن الاعتماد على رأس المال الأجنبي ليس بالاستراتيجية الحكيمة على الإطلاق والمشكلة هنا ليست أن تدفقات رأس المال الأجنبي قد تعكس اتجاهها بسهولة فحسب بل وقد تساهم أيضا في إنتاج الشكل الخطأ من أشكال النمو والذي يعتمد على المبالغة في تقدير قيمة العملات والاستثمارات في السلع والخدمات غير المتداولة مثل الإسكان ومشاريع البناء والتشييد
والنمو الذي يعتمد على ارتفاع أسعار السلع الأساسية عُرضة أيضا للانهيار ولأسباب مماثلة إن أسعار السلع الأساسية تميل إلى التحرك في دورات وحين ترتفع فإنها تميل إلى مزاحمة الاستثمارات في السلع المصنعة والسلع المتداولة غير التقليدية فضلا عن ذلك فإن موجات رواج السلع الأساسية كثيرا ما تؤدي إلى إنتاج سياسات رديئة في البلدان ذات المؤسسات الضعيفة الأمر الذي لابد وأن يؤدي إلى صراعات مكلفة على حقوق الانتفاع بهذه الموارد والتي نادرا ما تستثمر بحكمة
ليس من المستغرب إذن أن تكون البلدان التي حققت نموا ثابتا طويل الأمد أثناء العقود الستة الأخيرة هي تلك البلدان التي اعتمدت على استراتيجية مختلفة تشجيع التنوع في السلع المصنعة وغيرها من السلع &الحديثة& فعن طريق الاستيلاء على حصة متنامية في الأسواق العالمية حيث تطرح سلعها المصنعة وغير ذلك من منتجاتها غير الأولية تمكنت هذه البلدان من زيادة فرص العمل المحلية في أنشطة عالية الإنتاجية كما تمكنت حكومات هذه البلدان من تبني الأساسيات الاقتصادية السليمة (استقرار الاقتصاد الكلي والتوجه نحو الخارج) بل وتمكنت أيضا من انتهاج ما نستطيع أن نطلق عليه السياسات الداعمة للإنتاج السياسات الصناعية والضوابط المالية وتخفيض قيمة العملات
وتُعَد الصين مثالا نموذجيا لهذا التوجه فقد تغذى نموها على تحولات بنيوية سريعة إلى حد غير عادي نحو مجموعة من السلع الصناعية المتزايدة التطور وفي الأعوام الأخيرة تمكنت الصين أيضا من تكديس فائض تجاري ضخم في مقابل الولايات المتحدة وهذا هو الوجه المقابل لعملتها المخفضة القيمة
غير أن هذا لا يصدق على الصين فقط ذلك أن البلدان التي سجلت نموا سريعا أثناء الفترة التي سبقت انهيار عام كانت تحتفظ بفوائض تجارية (أو كان عجزها التجاري ضئيلا للغاية) ولم تكن هذه البلدان راغبة في تلقي تدفقات رأس المال وذلك لأنها أدركت أن هذا من شأنه أن يتناقض تماما مع احتياجها إلى الاحتفاظ بعملات قادرة على التنافس
لقد بات من الشائع الآن أن يقال إن التوازنات الخارجية الضخمة كمثل الحال بين الولايات المتحدة والصين لعبت دورا رئيسيا في الإفضاء إلى الانهيار الحالي إن استقرار الاقتصاد الكلي العالمي يتطلب الحرص على تجنب مثل هذا الخلل الهائل في توازن الحساب الجاري في المستقبل ولكن العودة إلى معدلات النمو المرتفعة في البلدان النامية يتطلب استئناف هذه البلدان لتوغلها في السلع والخدمات المتداولة في الماضي كان مثل هذا التوغل يأتي مصحوبا باستعداد الولايات المتحدة وعدد قليل من البلدان المتقدمة لتحمل عجز تجاري ضخم بيد أن هذا لم يعد يشكل استراتيجية ممكنة الآن بالنسبة للبلدان النامية ذات الدخول الضخمة أو المتوسطة
هل تتضارب إذن متطلبات استقرار الاقتصاد الكلي العالمي ومتطلبات نمو البلدان النامية وهل يتصادم حتما احتياج البلدان النامية إلى توليد زيادات ضخمة في المعروض من المنتجات الصناعية مع عدم تسامح العالم مع الخلل في التوازن التجاري
سوف يتبين لنا أن الأمر لا يشتمل على صراع حتمي ما دمنا ندرك أن ما يهم بالنسبة لنمو في البلدان النامية ليس حجم فوائضها التجارية وليس حتى حجم صادراتها فالمهم هنا هو حجم إنتاجها من السلع (والخدمات) الصناعية الحديثة والذي من الممكن أن يتوسع بلا حدود ما دام الطلب المحلي يشهد توسعا متزامنا من مزايا الاحتفاظ بعملة مخفضة القيمة أن هذا في حد ذاته يعمل على دعم إنتاج مثل هذه السلع ولكن الأمر يشتمل أيضا على جانب سيئ ألا وهو أن ذلك يعني فرض الضرائب على الاستهلاك المحلي الأمر الذي يؤدي بالتالي إلى تولد الفوائض التجارية ولكن قد يكون في الإمكان الفوز بالجانب الإيجابي دون التعرض للجانب السلبي وذلك من خلال تشجيع الإنتاج الصناعي بشكل مباشر
هناك العديد من السبل التي يمكن بها تحقيق هذه الغاية بما في ذلك خفض تكاليف المدخلات والخدمات المحلية من خلال الاستثمارات المستهدفة في البينة الأساسية وقد تعمل السياسات الصناعية الواضحة كأداة أكثر قوة وتأثيرا والنقطة الرئيسية هنا تتلخص في أن البلدان النامية المهتمة بقدرة قطاعاتها الحديثة على المنافسة من الممكن أن تسمح لعملاتها بالارتفاع (بالقيمة الحقيقية) ما دام بوسعها أن تتبني سياسات بديلة قادرة على تشجيع الأنشطة الصناعية على نحو أكثر مباشرة
النبأ السار هنا إذن هو أن البلدان النامية سوف تتمكن من استئناف نموها السريع حتى ولو تباطأت التجارة العالمية وتضاءلت الرغبة في استئناف تدفقات رأس المال والاستعداد لتحمل الخلل في التوازن التجاري ولن تتأثر إمكانيات النمو التي تتمتع بها هذه البلدان بشدة ما دامت العواقب الضمنية المترتبة على هذا العالم الجديد مفهومة بالنسبة لصناع القرار السياسي على الصعيدين المحلي والدولي
من بين هذه العواقب أن البلدان النامية سوف تضطر إلى الاستعاضة عن السياسات التي تعمل من خلال أسعار الصرف بسياسات صناعية حقيقية وهناك عاقبة أخرى تتلخص في أن الجهات الفاعلة فيما يتصل بالقرار الخارجي (على سبيل المثال منظمة التجارة العالمية) لابد وأن تكون أكثر تسامحا مع هذه السياسات ما دام من الممكن معادلة التأثيرات المترتبة على التوازنات التجارية الجديدة من خلال إدخال التعديلات المناسبة على سعر الصرف الحقيقي ولا شك أن ثمن الحد من الخلل في توازن الاقتصاد الكلي سوف يشتمل على الاضطرار إلى المزيد من الاعتماد على السياسات الصناعية
ضوء خافت على الانحباس الحراري العالمي
كوبنهاجن في وسط موجة متزايدة القوة من المخاوف بشأن تغير المناخ بدأت العديد من البلدان بما في ذلك البرازيل وأستراليا والولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين في تمرير قوانين تجرم أو تقيد بشدة استخدام مصابيح الإضاءة المتوهجة وكانت القصد من وراء تلك القوانين مفهوما فإذا استعاض كل شخص في العالم عن أغلب المصابيح الضوئية بمصابيح الفلوريسنت المدمجة الموفرة للطاقة فسوف يكون بوسعنا أن نوفر من الطاقة الكهربائية أو من الانبعاثات التي نطلقها من غاز ثاني أكسيد الكربون
وكانت المحاولة التي يبذلها الجمهوريين في الكونجرس الأميركي حاليا لمقاومة الجهود الرامية إلى حظر المصابيح المتوهجة في الولايات المتحدة سببا في إحياء هذه المناقشة والواقع أن العديد من الناس يزعمون أن هذه الأجندة يدفعها المنكرون لتغير المناخ ولكن الأمر يستحق إلقاء نظرة فاحصة على الفرضية القائلة بأن حظر الأشياء يُعَد الوسيلة الأكثر ذكاء للتعامل مع ظاهرة الانحباس الحراري العالمي
ولنكن واضحين نحن في احتياج حقا للتصدي لتغير المناخ ولكن هذا لا يعني أننا ينبغي علينا أن نخفض كل الانبعاثات وانتهى الأمر إن حرق الوقود الأحفوري يعود علينا أيضا بمنافع كبيرة ويتعين علينا أن نزن هذه المنافع في مقابل التكاليف
وينبغي لضريبة الكربون أن تكون معادلة للضرر الذي تحدثه وأفضل تقدير لهذا يبلغ نحو دولارات عن كل طن من ثاني أكسيد الكربون أو من الدولار عن كل جالون من البنزين ( يورو عن كل لتر) والواقع أن أغلب البلدان المتقدمة تفرض بالفعل ضرائب بهذا الحجم (أو أضخم كثيرا في أغلب الأحيان) على استهلاك الكهرباء والوقود الأحفوري رغم أن هذا يشتمل أيضا على التكاليف المترتبة على تلوث الهواء وانعدام أمن التوريد
ورغم أن شراء المصابيح الموفرة للطاقة أكثر تكلفة فإنها أرخص كثيرا على مدى حياتها وذلك لأنها تستخدم قدرا أقل من الطاقة (بل وأكثر من هذا فيما يتصل بتكاليف ثاني أكسيد الكربون الداخلة في الضرائب المفروضة على الكهرباء) وبالتالي فعلى أساس التكاليف والفوائد المباشرة يبدو من المنطقي أن يتحول أغلب الناس عن استخدام المصابيح المتوهجة إلى استخدام التكنولوجيا الجديدة الأكثر رحمة بالبيئة
وهذا هو الأمر العظيم في الحلول التكنولوجية لتغير المناخ فإذا توفر خيار بديل أرخص فمن المؤكد أن الناس سوف تبدأ في استخدامه والواقع أن منزلي يستخدم المصابيح الموفرة للطاقة وأنا أستمتع بعلمي بأنني أعمل على الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وفي الوقت نفسه أنفق قدرا أقل من المال
لماذا إذن يصبح من الضروري أن نجرم استخدام المصابيح القديمة السبب هو أن التكلفة النقدية تشكل عاملا واحدا فأغلب الناس يرون أنه من المزعج في المصابيح الموفرة أنها تستغرق وقتا قبل أن تصل إلى مرحلة الإحماء أو يعتقدون أن ضوءها مضحك أو يخشون أن تتسبب هذه المصابيح في نشر الزئبق السام إذا انكسرت وبالنسبة لبعض الناس فإن المصابيح الموفرة للطاقة قد تتسبب في إحداث نوبات من الصرع والصداع النصفي
وتشكل التكاليف الأولية المباشرة عاملا آخر أيضا وخاصة بالنسبة لهؤلاء من ذوي الميزانيات المنخفضة وفي أماكن حيث لا تستخدم الأضواء كثيرا فإن المصابيح المتوهجة الأقل سعرا قد تكون أقل تكلفة في الإجمال مقارنة بالبديل الموفر للطاقة
قد يتصور البعض أن الناس بوسعهم اختيار مصباح الإضاءة المناسب بأنفسهم ولكن المؤيدين للتخلص التدريجي من المصابيح المتوهجة يزعمون أنهم يعرفون أكثر فهما واطلاعا من بقية الناس وعلى حد تعبير وزير الطاقة الأميركي ستيفن تشو مؤخرا نحن نطرح اختيارا يستمر في حمل الناس على إهدار أموالهم
إذا نحينا اعتراضات أخرى محتملة على وجهة النظر هذه فهناك مشكلة تتلخص في أنها تفترض أن جميع المصابيح المتوهجة تتكلف أقل من دولارات عن كل طن من ثاني أكسيد الكربون ومن الواضح أن هذا ليس صحيحا بالنسبة لمن يعانون من الصداع النصفي أو نوبات الصرع بسبب المصابيح الجديدة أو بالنسبة لهؤلاء الذين يخشون حقا مخاطر الزئبق أو بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم من الأسباب الأخرى ما يجعلهم يفضلون المصابيح المتوهجة
لابد وأن يكون الحل في التركيز على تحسين التكنولوجيا بمعنى جعل مصابيح الإضاءة أكثر أمانا وأكثر سطوعا وأسرع إضاءة وأكثر توفيرا للطاقة حتى يصبح بوسع المزيد من الناس إحلال عدد أكبر من مصابيح الإضاءة
ولكن صناع القرار السياسي لم يحاولوا حظر مصابيح الإضاءة فحسب فقد صوت أعضاء البرلمان الأوروبي بأغلبية ساحقة لصالح تجريم مواقد التدفئة الخارجية التي اعتبرها أحد أعضاء البرلمان الأوروبي ترفا لا يستطيع كوكب الأرض أن يتحمله
ولكن من الذي يقرر متى يصبح شيئا ما ترفا وأين ينتهي ذلك هل يتعين علينا أن نجرم مكيفات الهواء أو أجهزة التلفاز أو مستقبلات الأقمار الصناعية لأن بعض الناس يعتبرونها ترفا وهل ينبغي لنا أن نحظر السيارات الخاصة حيثما كانت وسائل النقل العامة متاحة لنقلنا من مكان إلى آخر وبقدر أقل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون
من المنطقي أن نعكس تكلفة ثاني أكسيد الكربون (بين العديد من العوامل الأخر) في الثمن الذي ندفعه في مقابل قيادة سياراتنا الخاصة أو تدفئة باحاتنا ولكن عندما تتقدم مرحلة التخلص التدريجي بسرعة أبطأ مما يتمنى بعض المشرعين فإن الحظر ليس الحل الصحيح
إن الخفض الحقيقي للانبعاثات الكربونية لن يتسنى إلا عندما يصبح من المجدي بالنسبة للأفراد والشركات من خلال التكنولوجيا الأفضل أن يغيروا سلوكياتهم ولا شك أن اختراعات مثل المصابيح الموفرة للطاقة وغيرها من الممكن أن تحملنا إلى مسافة ما على الطرق ولكن هناك عقبات تكنولوجية هائلة يتعين علينا أن نتغلب عليها أولا قبل أن يصبح الوقود الأحفوري عموما أقل جاذبية من البدائل الخضراء
وهنا بالتحديد يخطئ العديد من صناع القرار السياسي فهم الأمر برمته فالحكومات تتحدث أكثر مما ينبغي عن فرض ضريبة عالية نسبيا على الانبعاثات الكربونية في حين لا تركز بقدر يُذكَر على ضمان حدوث زيادة ملموسة في البحث والتطوير من أجل تحقيق الاختراقات العلمية والتكنولوجية اللازمة
إن الحد من قدرة الناس على الوصول إلى مصباح الإضاءة أو مدفئات الباحات الخطأ ليس بالتصرف أو المسار السليم ولن يتسنى لنا أن نحل مشكلة الانحباس الحراري العالمي إلا عندما نضمن أن التكنولوجيا البديلة أفضل من الخيارات المتاحة أمام الناس حاليا فآنئذ فقط سوف يختار الناس في مختلف أنحاء العالم استخدامها عن طيب خاطر
منشق في الصين
طوكيو كان عام عاما طيبا بالنسبة للصين فقد ظل الاقتصاد الصيني يتقدم إلى الأمام هادرا في خضم الركود العالمي ولقد زار الرئيس الأميركي باراك أوباما الصين بروح المتضرع إلى بلاط إمبراطوري وليس بروح زعيم أضخم قوة عظمى في العالم حتى أن قمة كوبنهاجن بشأن تغير المناخ انتهت إلى النتيجة التي أرادتها الصين الفشل في محاولة إلزام الصين أو أي دولة صناعية أخرى بتنفيذ تخفيضات كبيرة في الانبعاثات الكربونية فضلا عن توجيه اللوم إلى الولايات المتحدة في نفس الوقت
إن الحكومة الصينية تحت حكم الحزب الشيوعي لديها كل الأسباب التي تجعلها تشعر بالثقة ما الذي دعاها إذن إلى إصدار الحكم على أستاذ الأدب السابق المعتدل الدمث ليو شياو بو بالسجن لمدة أحد عشر عاما لمجرد أنه دافع علنا عن حرية التعبير وإنهاء حكم الحزب الواحد
كان ليو قد شارك في عام في كتابة عريضة التماس تحت عنوان &ميثاق & التي وقع عليها الآلاف من الصينيين والتي دعت إلى احترام الحقوق الأساسية إن ليو ليس متمردا عنيفا والواقع أن آراءه في المقالات المنشورة على الإنترنت سلمية تماما ورغم ذلك فقد سُجِن بتهمة &التحريض على تقويض سلطة الدولة&
إن مجرد تصور قدرة ليو على تقويض سلطة الحزب الشيوعي الصيني الهائلة هو محض سخف ورغم ذلك فمن الواضح أن السلطات تعتقد أنها لابد وأن تجعل منه عبرة لمنع الآخرين من التعبير عن وجهات نظر مماثلة
ولكن ما الذي قد يدفع مثل هذا النظام الذي يبدو راسخا إلى النظر إلى مجرد الآراء أو حتى الالتماسات السلمية باعتبارها أمرا خطيرا إلى هذا الحد لعل السبب وراء ذلك هو أن النظام لا يشعر بالأمان كما يبدو
من دون شرعية لا تستطيع أي حكومة أن تحكم بأي قدر من الشعور بالثقة وهناك العديد من السبل التي تلجأ الحكومات إليها لإضفاء الشرعية على الترتيبات السياسية إن الديمقراطية الليبرالية مجرد اختراع حديث وفي الماضي كانت الأنظمة الملكية الوراثية المدعومة بسلطة مقدسة ناجحة إلى حد كبير كما استمدت بعض الأنظمة الاستبدادية الحديثة مثل نظام روبرت موجابي الدعم من مكانة زعمائها بوصفهم مناضلين من أجل الحرية الوطنية
لقد تغيرت الصين كثيرا في القرن الماضي ولكنها ظلت بلا تغيير فيما يتصل بجانب واحد فهي ما زالت خاضعة لحكم مفهوم ديني للسياسة والشرعية هنا لا تستند إلى الأخذ والعطاء والتنازلات الضرورية والتبادلات التجارية والسياسية التي تشكل القاعدة للمفهوم الاقتصادي للسياسة مثل ذلك الذي تأسست عليه الديمقراطية الليبرالية فبدلا من كل ذلك يتلخص الأساس الذي تقوم عليه السياسة الدينية في اعتقاد مشترك مفروض من الأعلى في المعتقد الإيديولوجي
وفي الصين الإمبراطورية كان هذا يعني العقيدة الكونفوشيوسية والمثل الأعلى للدولة الكونفوشيوسية هو &الانسجام& فإذا ما اتفق كل الناس على مجموعة معينة من المعتقدات بما في ذلك القواعد الأخلاقية للسلوك فسوف تختفي الصراعات والمحكومون في ظل هذا النظام المثالي لابد وأن يطيعوا حكامهم تماما كما يطيع الأبناء آباءهم
وبعد الثورات العديدة التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين حل في محل الكونفوشيوسية نسخة صينية من الشيوعية ولقد وجدت الماركسية قبولا لدى المثقفين والمفكرين الصينيين لأنها قدمت عقيدة أخلاقية حديثة تستند مثل الكونفوشيوسية إلى الوعد بالانسجام التام وفي نهاية المطاف كان من المفترض أن يذوب تضارب المصالح ويختفي في ظل اليوتوبيا الشيوعية ولقد جمع حكم الرئيس ماو بين عناصر من النظام الإمبراطوري الصيني وبين الشمولية الشيوعية
ولكن هذه العقيدة أيضا كان مصيرها الزوال ذلك أن قِلة من الصينيين حتى في المراتب العليا للحزب الشيوعي ظلوا من الماركسيين المخلصين عن اقتناع ولقد أدى هذا إلى الفراغ الإيديولوجي الذي سرعان ما شغله الجشع والاستخفاف والفساد في الثمانينيات وأسفرت هذه الأزمة عن المظاهرات التي عمت مختلف أرجاء الصين والتي أطلق عليها في مجموعها &أحدث ميدان السلام السماوي& وكان ليو شياو بو في عام متحدثا نشطا باسم الاحتجاجات الطلابية ضد الفساد الرسمي ولصالح المزيد من الحرية
وبعد القمع الدموي الذي شهده ميدان السلام السماوي بوقت قصير حلت عقيدة جديدة محل الماركسية الصينية وهي القومية الصينية وكان حكم الحزب الواحد فقط هو القادر على ضمان استمرار صعود الصين ووضع حد لقرون من المهانة الوطنية أي أن الحزب الشيوعي كان يمثل مصير الصين كقوة عظمى وكان التشكيك في هذا لا يشكل خطأ فحسب بل وكان أيضا غير وطني ومناهضا للصين
ومن هذا المنظور فإن آراء ليو شياو بو الحاسمة كانت تخريبية حقا فقد ألقت بظلال من الشك على العقيدة الرسمية وبالتالي على شرعية الدولة وأن نتساءل كما تساءل العديد من الناس عن الأسباب التي دفعت النظام الصيني إلى رفض التفاوض مع الطلاب في عام فإن هذا يعني أننا لم نفهم طبيعة السياسة الدينية ذلك أن التفاوض والتسوية والتوفيق من السمات التي تميز السياسة الاقتصادية حيث لكل صفقة ثمن وفي المقابل فإن هؤلاء الذين يحكمون وفقا لمعتقد مشترك عاجزون عن تحمل تبعات التفاوض لأن التفاوض من شأنه أن يقوض المعتقد ذاته
لا أعني بهذا أن المفهوم الاقتصادي للسياسة غريب تماما عن الصينيين أو أن المفهوم الديني للسياسة غير معروف في الغرب الديمقراطي ولكن الإصرار على العقيدة لا يزال قويا في الصين بالقدر الافي لكي يظل يشكل الوسيلة الدفاعية الأساسية ضد المنتقدين السياسيين
ولكن مثل هذه الأمور قد تتغير فقد تحولت مجتمعات كونفوشيوسية أخرى مثل كوريا الجنوبية وتايوان واليابان إلى أنظمة ديمقراطية ليبرالية مزدهرة وليس هناك من الأسباب ما قد يدعونا إلى الاعتقاد بأن مثل هذا التحول مستحيل في الصين
ولكن الضغوط الخارجية من غير المحتمل أن تجلب هذا التحول لقد وقَع العديد من غير الصينيين وأنا منهم على خطاب احتجاج ضد سجن ليو شياو بو وإننا لنرجو أن يكون في هذا بعض العزاء له وأن يعمل كدافع أخلاقي للصينيين الذين يشاركونه آراءه ولكن من غير المرجح أن يؤثر هذا على هؤلاء الذين يؤمنون بالعقيدة القومية الصينية الحالية وإلى أن تتحرر الصين من قبضة السياسة الدينية فمن غير المحتمل أن تنجح المثل التي عبر عنها ليو في ترسيخ أقدامها والواقع أن هذا لا يبشر بالخير بالنسبة للصين أو بقية العالم
حرب جامدة ضد المخدرات
لاهاي إن الحرب في أفغانستان والتي تقترب الآن من عامها العاشر قد تبدو في نظر العديد من الناس وكأنها حرب بلا نهاية في الأفق ولكن أميركا اللاتينية تخوض معركة أطول معركة اكتسبت صبغة أكثر دموية مؤخرا إنها الحرب ضد تجارة المخدرات لقد أصبحت هذه الحرب روتينية وعنيفة إلى الحد الذي يجعل العديد من الناس في أميركا اللاتينية الآن يتعجبون أي الجانبين أصبح أكثر إدمانا على الحرب
إن الاستراتيجية الجديدة التي تروج لها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لوقف نزيف الدم وجرائم القتل المتصاعدة المرتبطة بتجارة المخدرات والتي تجاوز عدد ضحاياها ألف قتيل طبقا لتقارير تسربت من دوائر الحكومة المكسيكية تتلخص في بناء مجتمعات أكثر قوة وقدرة على المقاومة ولابد أن مدينة سيوداد خواريز الحدودية المترامية الأطراف والتي أصبحت الآن عاصمة القتل في العالم تحتل مرتبة عالية على القائمة
فهناك أربعة جسور وعدد لا يحصى من الأنفاق وقنوات الصرف التي تربط سيوداد خواريز بمدينة إلباسو في ولاية تكساس الأميركية والعصابات التي تتنافس لفرض سيطرتها على السوق وهو الاسم الذي يطلق على أي من مسارات التجارة يذبح أفرادها بعضهم البعض فضلا عن أفراد قوات الأمن ومن الواضح أنه لا يوجد نقص في أعداد الشباب العاطلين الراغبين في الانضمام إلى هذه المذبحة
والواقع أن معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور التي تعاني منها مدينة مثل سيوداد خواريز أمر أصعب كثيرا من إغراق شوارعها بنحو ثمانية آلاف جندي يحملون بنادق هجومية وفي هذا السياق ظل الرئيس المكسيكي فيليبي كالديرون ملتزما بالنص المدون في المسارح التي شهدت حروب المخدرات سابقا سواء في بوليفيا أو كولومبيا أو بيرو حيث استخدمت الحكومات القوة العسكرية وتسليم المجرمين بهدف استرضاء الولايات المتحدة ومعاقبة هؤلاء الأقل صوتا ونفوذا
بيد أن اللغة التي تستخدمها إدارة أوباما في وصف العنف وفساد الدولة الذي يزحف من الأنديز إلى حدود الولايات المتحدة بدأت في أسر فكر جديد في التعامل مع المخدرات وكان ثلاثة من الرؤساء السابقين في أميركا اللاتينية وثاني أغنى رجل في المكسيك ريكاردو ساليناس والمحكمة العليا في الأرجنتين من بين آخرين ينتقدون الحرب ضد المخدرات باعتبارها فشلا واضحا حيث لم تسفر إلا عن خفض أسعار المخدرات في الشوارع وتغذية عملية الإنتاج وتقويض الدول الضعيفة
والأمر الأكثر إثارة للانتباه هنا هو أن كلا من بوليفيا والإكوادور يحكمها رئيس عانى بشكل مباشر من الويلات الجانبية للحرب ضد المخدرات فقد برز رئيس بوليفيا إيفو موراليس كزعيم لمزارعي الكوكا في البلاد أثناء الحملة الوحشية التي شُنَت للقضاء على زراعاتهم والتي أطلق عليها خطة الكرامة أما والد رئيس الإكوادور رافييل كوريا فقد سُجِن بعد إدانته بتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة حين كان زعيم المستقبل في الخامسة من عمره
والواقع أن المشاعر المتضاربة التي يحملها هؤلاء الزعماء في سعيهم إلى تحقيق هدف تحرير العالم من المخدرات غير المشروعة يشاركهم فيها زعماء الاتحاد الأوروبي حيث تراخت القيود المفروضة على استهلاك المخدرات على مدى العقد الماضي فضلا عن ذلك فقد اعترف آخر ثلاثة رؤساء للولايات المتحدة باستهلاك مواد غير مشروعة مؤثرة على العقل بدرجات متفاوتة في حين تؤكد البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة أن سبعة ملايين أميركي يتعاطون الكوكايين بانتظام
ولكن الجمود الذي تتسم به البنية الفوقية البيروقراطية في مكافحة المخدرات (والتي تبلغ قيمتها نحو أربعين مليار دولار في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) والذي يدعمه خوف عميق من التهديد الذي تفرضه المخدرات والعصابات يبدو وكأنه يدفع السياسة على نحو متكرر نحو الخيار المعتاد المتمثل في القمع بلا تمييز
على سبيل المثال يبدو دعم الولايات المتحدة للحملة التي تشنها المكسيك ضد عصابات المخدرات وكأنه قُد من صخر حيث أبدى الكونجرس استعداده لتوفير مليون دولار لتغطية تكاليف عام آخر من التصعيد العسكري والأمني وفي كولومبيا يجري التخطيط لإقامة سبع منشآت عسكرية مشتركة جديدة ومن المفترض ألا ينقطع الدعم المقدم لمقاولي القطاع الخاص الأميركيين الذين حاصروا سوق تدخين المحاصيل
ولكن رغم ذلك ومع اشتداد وضوح النقائص التي تعيب صرح مكافحة المخدرات الذي ظل قائما طيلة أربعة عقود من الزمان فقد بات من الصعب على نحو متزايد أن ننظر إلى المخاطر المرتبطة باستخدام المخدرات باعتبارها أعظم من الضرر الناجم عن القمع
إن الحظر يعمل على رفع أسعار البيع بنسب هائلة قد تبلغ في حالة الكوكايين المتوجه إلى أوروبا من وحدات المعالجة في الأنديز ورغم أن الحرب ضد المخدرات تركز على إسقاط العصابات وزعمائها الرئيسيين فإنها في واقع الأمر تعمل على تعزيز صحة أسواقهم التي تختبئ داخل تدفقات التجارة المشروعة وتستجيب للحوافز السعرية
في المقابلة التي أجرتها المجلة المكسيكية بروسيسو هذا العام مع الرجل الثاني في عصابة سينالوا العملاقة إسماعيل زامبادا أشار بوضوح إن مشكلة المخدرات تشتمل على الملايين من البشر فكيف لنا أن نسيطر عليها قد يكون من السهل سجن الزعماء أو قتلهم أو تسليمهم إلى حكومات أخرى ولكن بدلاءهم متواجدون بالفعل وجاهزون للعمل
ولا يجوز لنا أن نعزو ظهور مافيا المخدرات القوية في أميركا اللاتينية إلى الشر المطلق الذي يتسم به بعض الأفراد فقد نشأ هؤلاء الناس في ظل ظروف تشكلت في مجتمعات تعاني من التفاوت الهائل بين الناس نتيجة لحرب بيروقراطية وغير متساوقة وسيئة التطبيق
والواقع أن الغضب الشديد بين أفراد جماعة الزيتا في المكسيك يرجع في الأصل إلى التدريب على مكافحة التمرد في تسعينيات القرن العشرين بهدف اختيار مجموعة من جنود القوات الخاصة الذين فروا من اجندية في وقت لاحق وكان أشهر الذين نجحت جماعة الزيتا في تجنيدهم في الأعوام الأخيرة قادمين من القوات العسكرية الخاصة في جواتيمالا والتي اشتهر أفرادها بمهارات تشتمل القدرة على قضم رأس دجاجة وفي الوقت عينه في جامايكا وعبر المواقع الأمامية في المناطق الريفية من أميركا الوسطى تحول أباطرة المخدرات إلى أبطال وأهل خير في نظر الفقراء
لقد حان الوقت لإعادة النظر بجدية في وضع المخدرات غير المشروعة والقيود التنظيمية المفروضة عليها مع الإشارة إلى إمكانية إضفاء الشرعية بشكل انتقائي على بعض المنتجات فضلا عن إعادة تصنيف السوق باعتبارها مصدرا للانزعاج والقلق فيما يتصل بالصحة العامة بعيدا عن الشق الجنائي أما الآن فإن صناع القرار السياسي في مختلف أنحاء الأمريكيتين يسيرون ببطء نحو نتيجة واضحة
الأزمة المالية الأخرى
نيوبورت بيتش هناك شكلان مختلفان للأزمة المالية لا يزالا يعيثان فسادا في الاقتصادات الغربية فيغذيان البطالة والفقر الشكل الذي نقرأ عنه في الصحف عادة والذي تشترك فيه الحكومات في مختلف أنحاء العالم وشكل آخر أقل وضوحا على مستوى الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم والأسر وإلى أن تتم معالجة الشكلين على النحو اللائق فإن الغرب سوف يظل مثقلا بالعبء المتمثل في تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة بشكل مستمر والتفاوت المفرط في الدخول والثروات
الواقع أن أزمة الديون السيادية معروفة جيدا وف محاولة لتجنب الكساد المحتمل بادرت الحكومات في مختلف أنحاء العالم إلى ضخ الحوافز المالية والنقدية في خضم الأزمة المالية العالمية ونجحت في التعويض عن الاختلالات الاقتصادية السيئة الناجمة عن تقليص القطاع الخاص لمديونياته ولكن على حساب إرهاق موازناتها المالية والميزانيات العامة لبنوكها المركزية
ورغم تدهور جودة الائتمان السيادي بالنسبة للجميع تقريبا واستمرار هذه الحال في أغلب الظن فإن العواقب سوف تتفاوت من دولة إلى أخرى فبعض الدول الغربية مثل اليونان كانت تعاني من هشاشة الحسابات الحكومية منذ البداية فمالت سريعا إلى اتخاذ وضع الأزمة المزمنة وتظل هذه الدول عاجزة عن إضاءة نهاية النفق المظلم الذي كان طويلا على مواطنيها بالفعل
وكانت بعض الدول الأخرى تتحلى بالمسؤولية المالية ولكنها أغرِقَت بالتزامات تولتها عن دول أخرى (على سبيل المثال تسببت بنوك أيرلندا غير المسؤولة في إغراق موازناتها) وهناك دول أخرى بما في ذلك الولايات المتحدة لم تواجه تهديدا مباشرا ولكنها فشلت في إحراز أي تقدم فيما يتصل بالقضايا الأبعد أمدا ونجحت قِلة من الدول مثل ألمانيا في بناء المرونة الاقتصادية والمالية العميقة عبر سنوات من الانضباط المالي والإصلاحات البنيوية
ليس من المستغرب أن تتفاوت التوجهات في التعامل مع السياسات أيضا والواقع أن كل هذه التوجهات كانت تشترك في مظهر واحد غير أنه مظهر حاسم (ومخيب للآمال) العجز عن الاعتماد على النمو السريع باعتباره الوسيلة الأكثر أمانا لتقليص مديونية أي اقتصاد مثقل بالديون
فقد عجزت اليونان في الأساس عن الوفاء ببعض التزاماتها واختارت أيرلندا التقشف والإصلاحات كما فعلت المملكة المتحدة وتعمل الولايات المتحدة تدريجيا على نقل الموارد من الدائنين إلى المدينين من خلال القمع المالي وببطء تخضع ألمانيا لتوسع نسبي حصيف في الطلب المحلي
هذه هي إذن أبعاد أزمة الديون السيادية التي حظيت بتغطية جيدة بشكل خاص نظرا لتأثيراتها الوطنية والإقليمية والعالمية فالدول ذات السيادة يطلق عليها هذا الوصف على أية حال لأنها تمتلك سلطة فرض الضرائب والتنظيمات وفي بعض الحالات المتطرفة المصادرة
ولكن هناك أزمة ائتمانية أخرى لا تقل عواقبها عن الأولى أهمية ولكنها تحظى بقدر أقل كثيرا من الاهتمام حتى برغم أنها تعمل على تآكل سلامة المجتمعات والقدرات الإنتاجية فضلا عن القدرة على الحفاظ على مستويات المعيشة (وخاصة بالنسبة للأقل حظا) وأنا لا أعرف إلا قِلة قليلة من الدول الغربية حيث لم تشهد الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم فضلا عن الأسر المتوسطة الدخل والأسر الأقل موارد انحدارا كبيرا في القدرة على الوصول إلى الائتمان ليس فقط التمويل الجديد بل وأيضا القدرة على تجديد خطوط الائتمان والديون القديمة
والأسباب المباشرة وراء هذا معروفة حق المعرفة فهي تتراوح بين الإقراض المصرفي المكبوح إلى النفور من المجازفة بدرجة غير عادية ومن الأدوات الائتمانية التي فقدت مصداقيتها إلى انسحاب بعض المؤسسات من الوساطة الائتمانية بالكامل
وتشكل هذه القيود الائتمانية أحد الأسباب التي تجعل معدلات البطالة تستمر في الارتفاع في العديد من الدول غالبا بسبب مستويات مثيرة للقلق بالفعل مثل في اليونان وأسبانيا (حيث معدل البطالة بين الشباب أعلى من ) والتي تعمل على الإبقاء على معدلات البطالة مرتفعة إلى حد غير عادي كما هي الحال في الولايات المتحدة (ولو عند مستويات أدنى كثيرا) وهذه ليست مسألة قدرات مهدرة وارتفاع مستويات الفقر فحسب بل إن البطالة المرتفعة بشكل مستمر تؤدي أيضا إلى اضطرابات اجتماعية وتآكل الثقة في الزعماء السياسيين والمؤسسات السياسية وتزايد خطر ضياع جيل كامل
الواقع أن البيانات الخاصة بالبطالة في العديد من الدول المتقدمة تهيمن عليها البطالة الطويلة الأجل (ستة أشهر أو أكثر عادة) ويتحول تآكل المهارات إلى مشكلة بالنسبة لهؤلاء الذين يتمتعون بخبرات سابقة في العمل في حين يجازف الملتحقين غير الناجحين بقوة العمل لأول مرة ليس فقط بالتحول إلى عاطلين بل والتحول أيضا إلى أشخاص غير قابلين للتوظيف والعمل
وتبذل الحكومات أقل قدر ممكن من الجهد في معالجة كارثة الائتمان الخاص إذ يتعين عليها وفقا لبعض المزاعم أن تعمل أولا على تدبر الجانب السيادي من الأزمة ولكن من غير الواضح ما إذا كان أغلب المسؤولين يعملون وفقا لخطة شاملة
ويمثل عدم اتساق السياسات المشكلة الأكثر جسامة بالنسبة للدول الأشد تأثرا بأزمة الديون السيادية وهنا كان القطاع الخاص متروكا في الأساس ليتدبر أمره بنفسه كما تكافح أغلب الأسر والشركات الأمر الذي يعمل على تغذية الانهيار الاقتصادي المستمر
ويبدو أن دولا أخرى تبنت نهج حقل الأحلام والذي يعرفه البعض أيضا بعبارة عليك أنت بالبناء وسوف يأتون إليك في التعامل مع أسواق الائتمان الخاصة ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال من المفترض أن تعمل أسعار الفائدة على قروض الإسكان والمنخفضة بشكل مصطنع على إعطاء دفعة قوية للتمويل الحصيف كما يتخذ البنك المركزي الأوروبي الآن نهجا غير مباشر على نحو مماثل
وفي الحالتين تبدو الكيانات الأخرى القادرة على اتخاذ القرار بالاستعانة بأدوات أفضل كثيرا تحت تصرفها إما غير راغبة أو غير قادرة على الاضطلاع بدورها وعلى هذا فإن التحرك من جانب البنوك المركزية سوف يفشل مرارا وتكرارا في اكتساب الثِقَل الكافي
الواقع أن المملكة المتحدة هي الدولة الوحيدة التي اختارت بوضوح طريقا أفضل تنسيقا وأكثر مباشرة في مواجهة القصور المستمر الناجم عن الجزء الخاص من الأزمة الائتمانية وهنا فإن تمويل خطة الإقراض وهو البرنامج الذي اشترك في تصميمه بنك إنجلترا ووزارة الخزانة يسعى إلى تعزيز الحافز لدى البنوك وجمعيات البناء لتقديم القروض للأسر والشركات غير المالية في المملكة المتحدة في حين يحملها المسؤولية عن السلوك اللائق
لا شك أن مثال المملكة المتحدة مهم ولكن نظرا لحجم ونطاق التحديات فإن الاقتراح يُعَد متواضعا نسبيا فقد يعمل البرنامج على تحفيز بعض الوساطة الائتمانية المنتجة ولكنه لن يخلف تأثيرا يُذكَر على ما سيظل يشكل واحدة من العقبات الرئيسية أمام التعافي الاقتصادي القوي
إن الوصول اللائق إلى الائتمان لتمويل قطاعات إنتاجية يشكل جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد القادر على أداء وظيفته بشكل جيد وفي غيابه يتعثر النمو ويصبح خلق الوظائف غير كاف وتعمل فجوة التفاوت المتسعة في الدخل والثروة على تقويض النسيج الاجتماعي ولهذا السب فإن أي نهج شامل يرمي إلى إعادة الحيوية إلى النشاط الاقتصادي والمالي في الدول المتقدمة لابد أن يستهدف إنعاش تدفقات الائتمان الخاص بالشكل اللائق السليم
محطة استراحة لأوروبا
برينستون في الأسبوع الماضي وفي خطاب مرتقب حذر الرئيس الألماني يواخيم جاوك من السعي الأعمى نحو اتحاد أوروبي متزايد التقارب واعترف بأن التفاوت المتنامي بين الدول الأعضاء يعمل على توليد شعور بعدم الارتياح بل وحتى الغضب الواضح وزيادة خطر المذلة الوطنية كما أشار إلى أنه بجانب الأزمة الاقتصادية هناك أزمة ثقة في أوروبا كمشروع سياسي
وفي حين أوضح جاوك أنه لا يزال باقيا على تأييد أوروبا فقط سلط الضوء على الحاجة إلى التفكير المتأني في مستقبل أوروبا وبشكل خاص مستقبل منطقة اليورو ورغم اقترابهم من تحقيق قدر أعظم من التكامل فإن الأوروبيين مترددون لا يدرون ما إذا كان عليهم حقا أن يقطعوا خطوات أخرى إلى الأمام على الطريق وأضاف جاوك أن معالجة هذا التردد سوف تتطلب فهما دقيقا للمغزى الحقيقي من المزيد من أوروبا
ولعل جاوك لم يذهب بعيدا بالقدر الكافي فعند هذه النقطة قد يكون الاتحاد المتزايد التقارب مجرد سراب سياسي وأي تقدم ملموس نحو تثبيت استقرار منطقة اليورو سوف يتطلب التزاما ماليا وربما مفتوحا والاتحاد الأوروبي ليس مستعدا بعد على المستوى السياسي لعبور هذه العتبة ومن المؤكد أن التظاهر المتكرر بالمضي قدما ثم التراجع عند النقطة الحرجة يؤدي إلى تفاقم حالة عدم اليقين السياسي والضعف الاقتصادي
وبدلا من السعي المتردد المرتبك نحو المزيد من الوحدة فإن اللحظة الحالية قد تكون مناسبة لاستعادة السيادة الفعلية على السلطات الوطنية في بلدان منطقة اليورو ومثل هذا التحرك من شأنه أن يخفف من التوتر في الأمد القريب وبالتالي يمنح الأوروبيين الفرصة لإعادة تنظيم الصفوف استعدادا لخطوات أخرى في المستقبل نحو أوروبا الأكثر تكاملا واليورو الأكثر مرونة
ولتحقيق هذه الغاية فيتعين على زعماء منطقة اليورو أن يتخذوا ثلاث خطوات أساسية فلابد أولا من تفكيك نظام الإدارة المالية المختل في أوروبا ولابد من إعادة المسؤولية المالية إلى الدول الأعضاء ومن أجل الحد من مخاطر الإقراض المفرط في المستقبل فلابد من إلزام المقرضين من القطاع الخاص بتحمل الخسائر المترتبة على الديون السيادية غير المستدامة
إن الحجة ضد الإدارة المالية الأوروبية واضحة ومباشرة فقبل الأزمة أدى التأكيد الجازم على تقليص عجز الموازنة الوطنية إلى أقل من من الناتج المحلي الإجمالي إلى تلاعب واسع النطاق فاستهزأ البعض بهذا الهدف علنا كما حدث في اقتصادات رائدة مثل ألمانيا وفرنسا أو تلاعب البعض بالبيانات من أجل حجب المشكلة (وهي الممارسة التي شاعت في مختلف بلدان منطقة اليورو وليس اليونان فحسب) كما أدى الاعتقاد في النمو الاقتصادي باعتباره علاجا ماليا شافيا من كل داء إلى توقعات مفرطة التفاؤل في ما يتصل بنمو الناتج المحلي الإجمالي
وعندما اندلعت الأزمة تحول هدف العجز الأقل من إلى بؤرة تركيز للتقشف الصارم وهو شكل من أشكال ما أطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز وصف الارتداد الذي يحدث عندما تؤدي عملية ما إلى تكثيف الاستجابة للضغوط الخارجية أو الداخلية بدلا من تغييرها وبعبارة أخرى بدأ زعماء الاتحاد الأوروبي في تعقيد الإدارة المالية فخلقوا في نهاية المطاف متاهة لا مفر منها من التنظيمات والقيود البيروقراطية ومع تزايد تعقيد المقاييس المالية فإن تقويض جهود المراقبة سوف يصبح أكثر سهولة من أي وقت مضى
وتتسم الحجة الداعمة لإعادة المسؤولية المالية إلى السلطات الوطنية بالقوة أيضا وليس فقط لأن السلطة المالية المركزية أثبتت عدم كفاءتها فمع تحمل مواطني الدول المتعثرة للأعباء المالية التي تفرضها الأزمة أصبح الافتراض الدائم بأنهم لن يتصرفوا بمسؤولية مهينا في أفضل تقدير والواقع أن الاستراتيجية الحالية القائمة على تبادل الحلوى في مقابل السلوك الطيب تشجع على ممارسة اللعبة ويخفف من المسؤولية وفي حين تظل المخاوف من استسلام الحكومات للإغراءات المالية باقية فإن المعاناة التي يعيشها المواطنون حاليا من المرجح أن تعمل على ردع التجاوزات في المستقبل
إن السيادة المالية الوطنية من شأنها أن تيسر اتخاذ الخطوة الحاسمة الأخيرة بناء علاقة أكثر نضجا مع المقرضين من القطاع الخاص لقد تأسست منطقة اليورو على مبدأ عدم الإنقاذ فإذا لم تتمكن الدول الأعضاء من سداد ديونها فإن المقرضين يتحملون الخسائر ولكن المقرضين اختاروا وكان اختيارهم صحيحا كما تبين لاحقا تجاهل ذلك التهديد فبدلا من فرض مبدأ عدم الإنقاذ بما يشكل سابقة استخدمت الدول المدينة القروض الرسمية للسداد للدائنين من القطاع الخاص
ونتيجة لهذا فإن هذه البلدان حكمت على نفسها بالتقشف المستمر وتدني معدلات النمو وارتفاع مستويات الدين في حين تضاءل أي حافز قد يدفع المقرضين من القطاع الخاص في المستقبل إلى فرض الانضباط المالي على المقترضين السياديين ولن تتمكن الدول المدينة من الإفلات من هذا المستنقع إلا من خلال إعادة عبء المسؤولية إلى المقرضين من القطاع الخاص
في الولايات المتحدة كل ولاية مسؤولة عن إدارتها المالية من دون إرغامها على الالتزام بقالب واحد شامل ولا يتم تنظيم الولايات بواسطة الحكومة الفيدرالية بل يعمل إدراكها لحقيقة مفادها أن لا أحد سوف يسدد عنها ديونها على إرغامها على الانضباط ماليا ويبدو أن هذا النظام ناجح فعندما دخلت الولايات الأميركية الأزمة كانت نسب العجز والديون لديها أقل كثيرا من مثيلاتها لدى الدول الأعضاء الضعيفة في منطقة اليورو
وحتى الآن كانت عملية التكامل الأوروبية أشبه بالسقوط إلى الأمام حيث تشكل كل عثرة درسا ينشأ عنه اتحاد أكثر قوة ولكن في حين قد يكون ها التوجه غير المؤكد كافيا كأساس للإعلان عن حسن النوايا فإنه لا يبث القدر اللازم من الثقة لحمل الدول على تقديم الالتزام المالي العميق المطلوب الآن
ينبغي للأوروبيين أن يحصلوا على الفرصة لاستعادة مواطئ أقدامهم وإعادة المسؤولية المالية إلى السلطات المالية لن يعني فحسب نهاية الجهود الهدامة الرامية إلى إدارة الشؤون المالية مركزيا بل إنه يعني أيضا الحد من الشعور بالإحباط والافتقار إلى القدرة على السيطرة الذي يغذي التشكك في أوروبا
وباختصار فإن اتخاذ خطوة إلى الوراء من شأنه أن يوفر الفرصة لإعادة الضبط والتأمل والتخطيط لأفضل مسار باتجاه أوروبا الأكثر استقرارا وتكاملا ولكي يؤدي الاتحاد المالي وظيفته بنجاح ولو أن هذه النتيجة قد تكون غير مرجحة فإن الأمر يتطلب إرساء أسس راسخة وكما شرح جاوك فإن الأوروبيين يتوقفون لتجهيز أنفسهم فكريا وعاطفيا للخطوة التالية وهو ما يستلزم الدخول إلى مناطق غير مأهولة
إن إعطاء الأوروبيين الوقت والمساحة اللازمة لاختيار المزيد من التكامل الأوروبي من شأنه أن يعزز القيم الأساسية التي استند إليها التكامل لأكثر من ستة عقود من الزمان ولكن الاستمرار في التعثر إلى الأمام سوف يؤدي حتما إلى سقطة منهكة إن لم تكن قاتلة
انفتاح أوروبي على العالم العربي
برلين لقد أثبت الشعبان العربيان في تونس ومصر أن الديمقراطية في البلدان العربية لا تأتي على أسنة الرماح الغربية ولكن على الرغم من أن الدافع إلى التغيير الديمقراطي كان محليا وأصيلا فليس هناك ما يضمن التحول السياسي الناجح فالحكومات المنتخبة ديمقراطيا سوف يكون لزاما عليها أن تعالج نفس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي أسهمت في سقوط الأنظمة القديمة وعلى رأس هذه المشكلات تأتي الحاجة إلى خلق الوظائف وتوفير الفرص للشباب
بيد أن هذا سوف يكون مستحيلا من دون دعم خارجي ونظرا للروابط العديدة بين بلدان الاتحاد الأوروبي وبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط فيتعين على أوروبا ألا تفوت هذه الفرصة